شرح بلوغ المرام لعطية سالم

عطية سالم

الطهارة

كتاب الطهارة [المقدمة] هذه المقدمة هي فاتحة كتاب المؤلف رحمه الله، ذكر فيها منهجه واصطلاحاته في تأليف الكتاب لأجل الاختصار وعدم التطويل في ذكر الرواة، وتكرارهم نهاية كل حديث.

مقدمة الإمام ابن حجر لبلوغ المرام

مقدمة الإمام ابن حجر لبلوغ المرام بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف الحافظ ابن حجر رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديماً وحديثاً، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم -والعلماء ورثة الأنبياء- أكرم بهم وارثاً وموروثاً. أما بعد: فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، حررته تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً، ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي، وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة] . الشرح: تقدم طرف من الكلام على أوائل هذه المقدمة، وبيان أن المؤلف رحمه الله تعالى جمع هذا المختصر، وسيبين من أين اختصره، وقد حرره تحريراً بالغاً، وتحرى فيه الأحاديث التي تبنى عليها الأحكام، فليس في هذا الكتاب المبارك حديث موضوع ولا متهم راوية بكذب، وأقل درجات أحاديثه في الجملة أن يكون حسناً لغيره، أي: فيه بعض الضعف ولكنه يجبر بغيره، وقد يسوقه مع ضعفه؛ لأنه أراد أن يبين أدلة الأحكام في المسائل الفقهية من عبادات ومعاملات فيما ذهب إليه العلماء رحمهم الله. قال: (ليصبر من يحفظه بين أقرانه نابغاً) حفظ هذا الكتاب في الواقع يورث علماً جماً، ويعطي ملكة في الحديث والفقه، وقل أن يأتي من حفظه إلى باب من أبواب الفقه في أي كتاب من كتب الحديث إلا وكان له سبيل فيها. وهذا الكتاب بمثابة التمهيد -كما قال- للمبتدئ، ولا يستغني عنه المنتهي، أي: الذي درس مجاميع السنة مثل: كتب المسانيد والصحاح والسنن، فمهما كان قد قرأها فإنه لا يستغني عن هذا الكتاب؛ لأنه ملخص ومحرر، بخلاف المسانيد تحتاج إلى تحر في أسانيدها على ما ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله عند بيان ممن اختصر هذا الكتاب.

اصطلاحات ابن حجر في بلوغ المرام

اصطلاحات ابن حجر في بلوغ المرام وقد جعل له اصطلاحاً خاصاً من باب الاختصار، فبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم، يقول: متفق عليه، وبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم وأحمد يقول: رواه الثلاثة رواه الأربعة رواه الخمسة رواه الستة رواه السبعة ويكتفي بالعدد، وقد بين لنا معنى هذا كله وما هي هذه الأعداد التي يقصدها. فبين هذا المنهج كله في المقدمة ليسهل عليك، ويختصر لك الكلام في تسمية العلماء وأصحاب السنن عند كل حديث، وإذا ذكر زيادة عن كتب السنن فإنه يذكر عمن أخذها، فمثلاً: البيهقي لم يكن كتابه من كتب السنن التي اعتمد عليها، فإذا ذكر حديثاً عن البيهقي قال: رواه البيهقي، وسماه باسمهِ، وكذلك غيره من علماء الحديث، وسنمضي معه رحمه الله لنرى من هم العلماء وأصحاب السنن الذين اختصر هذا الكتاب وحرره عنهم تحريراً بليغاً. قال رحمه الله: [وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة] . بين لك -أيها الطالب- عقب كل حديث من أخرجه، حتى تقف على درجة الحديث من قوة الصحة أو ضعفها، وحتى يخفف عليك المئونة أن تذهب وتبحث عن هذا الحديث، ومن الذي أخرجه؟ وعن سنده ورجاله، فقد بين لك عند آخر كل حديث من الذي خرجه، وقد يشير إلى تحسين أو تضعيف. قال رحمه الله: [فالمراد بالسبعة أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة] . هذا مما لا بد منه لمن يقرأ هذا الكتاب أن يحفظ هؤلاء السبعة، فالمراد بالسبعة أحمد، وهو أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. وهنا بدأ بمسند أحمد، وهناك مسانيد أخرى كمسند أبي داود الطيالسي وأبي عوانة، وسنن الدارمي، وابن خزيمة، وموطأ مالك، فلماذا اقتصر في المسانيد على أحمد ولم يذكر هؤلاء؟ المسند: هو أن يأتي العالم ويجمع كل ما وقف عليه من مرويات الصحابي تحت باب واحد، فيجمع مثلاً ما روي عن أبي هريرة تحت عنوان: مسند أبي هريرة، فمرة نجده يروي عن أبي هريرة في الطهارة، ويليه مباشرة حديث في الجهاد، وآخر في الصيام، فليس هناك ترتيب لمرويات الصحابي حسب أبواب الفقه، ومهمة (المسنِد) بالكسر، أن يسند وأن يجمع ما أسنده هذا الصحابي إلى رسول الله، فلم تصنف المسانيد حسب الأبواب والمسائل الفقهية، فقالوا: أصحاب المسانيد كانت غايتهم جمع الأحاديث حتى لا تضيع، ومن هنا فعنايتهم بالصحة والتدقيق في سند الحديث ليست كعناية أصحاب السنن، إلا أن مسند أحمد تميز عن بقية المسانيد بأنه لا يمكن أن يثبت فيه حديثاً اتفق الناس على تركه، ولهذا فإنه يؤخذ عنه، أما بقية الكتب الأخرى من السنن فيقولون: عندهم تساهل في الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، وليس هناك التحري والدقة التي نجدها عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، فهؤلاء تحروا الصحة والدقة أكثر من غيرهم من أصحاب السنن. وأين موطأ مالك الذي يقول فيه الشافعي وينقلها عنه الذهبي: (موطأ مالك أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله) ؟ قالوا: لم يذكره ابن حجر ولا أهل السنن لأن مالكاً في طبقة من نقل الحديث ورواه عن التابعين عن الصحابة، وليس ممن جمعوا مع أنه جمع الحديث. وبعضهم يقول: الموطأ لم يختص بالأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فيه مسند لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه موقوف على الصحابة، وفيه مقطوع عن التابعي، وفيه آراء العلماء، وفيه آراء مالك بنفسه. فقالوا: هذا كتاب على نمط مستقل خاص بالإمام مالك، وليس معنى ذلك أنه أضعف؛ من الكتب السابقة بل إنه أعلى مرتبة من كل من سماهم؛ لأن مالكاً من الذين روى عنهم البخاري، أي أنه يروي الحديث بسنده حتى يصل إلى مالك، فيكون مالك من رجال الحديث عند البخاري. وقد اختار المؤلف مسند أحمد على غيره من المسانيد لأن أصحاب المسانيد كانت مهمتهم جمع الحديث، وبعد أن جمعت المسانيد كان أحمد متقدماً على البخاري ومسلم؛ لأن البخاري ومسلماً رحمهما الله لما رأوا أن عمل أصحاب المسانيد الجمع، والجمع قد يأتي فيه خلل، نهضوا إلى جمع ما صح من الأحاديث على شرطهما، فـ البخاري يشترط اللقيا، أي: أن يكون كل راوٍ قد لقي من روى عنه حتى لا تكون واسطة مجهولة، ومسلم نزل قليلاً وقال: إذا روى إنسان عمن يعاصره اكتفيت بذلك، والآخرون نزلوا أيضاً قليلاً، ولهذا يقول العلماء: أصح الروايات ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم تنزل الدرجة إلى أبي داود، ثم يليه الترمذي، ثم يليه النسائي، ثم يليه ابن ماجة. وهكذا.

تسمية ابن حجر للكتاب

تسمية ابن حجر للكتاب قال: [وسميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام] . بلوغ الشيء: الوصول إليه، ومنه البلغة أي: الشيء الذي يوصلك إلى الغاية التي أنت مسافرٌ إليها، ومنه: البلاغة؛ لأن بلاغة البليغ هي: القدرة على أن ينقل لك ما في صدره أو في قلبه أو في علمه ويبلغه إليك، فإن كان فصيحاً ومتكلماً استطاع أن يعبر لك عما في نفسه، ويوصله إلى ذهنك، وإن لم يكن بليغاً فلن تستطيع أن تفهم منه شيئاً، ولن يستطيع أن يفهمك. والمرام: هو الذي يرومه الإنسان ويسعى إليه برغبةٍ عنده. وقوله: (من أدلة الأحكام) : لأن المرامات كثيرة، فهناك من يروم الدنيا، وهناك من يروم الآخرة، وهناك من يروم علم الميكانيك، وهناك من يروم علم الزراعة وهكذا، ولكنه بين القصد فقال: (سميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام) ، إذاً: لا تطلب فيه عقيدة ولا موضوع السيرة أو الغزوات؛ لأنه ليس موضوعها، ولا تطلب فيه مواضيع الزراعة أو الحث على أمور دنيوية، إنما موضوعه يدور في فلك الأحكام، والأحكام: إما عبادات حقٌ لله تعالى على العباد، وإما معاملات، ولم يتعرض للبعث والجزاء والجنة والنار وما فيها، والحوض وغير ذلك، فليس هذا من شأنه ولا من مقصده في هذا الكتاب، إنما مقصده هو أدلة الأحكام.

المراد بقوله: متفق عليه

المراد بقوله: متفق عليه قال: [وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم] . فبدلاً من أن يذكر الاثنين - البخاري ومسلماً - يقول: متفق عليه. قال: [وقد لا أذكر معهما غيرهما] . أي: إذا قال: متفق عليه، أي: رواه: البخاري ومسلم، اكتفى بذلك، ولم يذكر معهما غيرهما ممن روى ذلك الحديث. قال: [وما عدا ذلك فهو مبين] . أي: ما عدا هذه الاصطلاحات وهي: السبعة والستة والخمسة والأربعة والثلاثة والاثنان، فهو مذكور عقب كل حديث، فإذا خرج عن هذا النظام فإنه يبين ذلك في موضعه.

المراد بقوله: أخرجه الثلاثة

المراد بقوله: أخرجه الثلاثة قال: [وبالثلاثة من عداهم وعدا الأخير] . أي: من عدا الثلاثة الأول وهم: أحمد، والبخاري، ومسلم، والأخير وهو ابن ماجة، فيخرج: أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجة، ويبقى: أبو داود، والترمذي، والنسائي.

المراد بقوله: أخرجه الأربعة

المراد بقوله: أخرجه الأربعة قال: [وبالأربعة من عدا الثلاثة الأول] . أي: ما عدا البخاري ومسلماً وأحمد؛ لأنه قال: ما عدا الثلاثة الأول، على الترتيب الذي ذكره، فإذا قال: (رواه الأربعة) خرج ثلاثة من السبعة وهم الثلاثة الأوائل: أحمد، والبخاري، ومسلم، ويبقى: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، فهؤلاء هم الأربعة.

المراد بقوله: أخرجه الستة

المراد بقوله: أخرجه الستة قال رحمه الله: [وبالستة من عدا أحمد] . وإذا قال: رواه الستة من دون الإمام أحمد، وهم:: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.

المراد بقوله: أخرجه الخمسة

المراد بقوله: أخرجه الخمسة قال: [وبالخمسة من عدا البخاري ومسلماً] . وإذا قال: رواه الخمسة، أخرج البخاري ومسلماً، ويبقى أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. قال: [وقد أقول: الأربعة وأحمد] . فحينما يقول: رواه الخمسة، إنما يريد كلهم ما عدا البخاري ومسلماً، وقد يعبر عن الخمسة بالأربعة وأحمد.

ختم ابن حجر المقدمة بدعاء الله العمل بالعلم

ختم ابن حجر المقدمة بدعاء الله العمل بالعلم قال: [والله أسال أن لا يجعل ما علمنا علينا وبالاً] . هذا دعاء خير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن لا يجعل ما علمنا وبالاً علينا، وهذا عياذاً بالله من علم ولم يعمل، أو عمل بنقيض ما يعلم. والله سبحانه وتعالى قد بين أقسام الناس تجاه العلم والعمل في أعظم سورة في كتاب الله، وعند أعظم مسألة يسألها العبد ربه، وفي أعظم موقف يقفه الإنسان وهو في الصلاة بين يدي الله حينما يقرأ الفاتحة، ويقدم المقدمة العظيمة ويعلن فيها الحمد لله سبحانه، ويقر لله بربوبيته للعالمين، ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: (الرحمن الرحيم) ثم يقر بالبعث والجزاء، وأن الملك في ذلك اليوم لله وحده، ثم يقر ويعترف ويذعن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بأنه لا يعبد غيره، ولا يستعين بسواه، وبعد هذا الثناء الجميل كله يسأل الله تعالى ويقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، فهي أعظم مسألة في أعظم موقف بعد أعظم مقدمة. ولهذا جاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) . (إياك نعبد) هذه لله سبحانه، (وإياك نستعين) هذه للعبد، (ولعبدي ما سأل) وهو قوله: (اهدنا) ، وقد بين سبحانه هذا الصراط بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، والاستقامة ليست مجرد الاعتدال على خط معتدل كالسهم، فكل من سار على منهج معين لتحقيق غاية فهو المستقيم. ويقول علماء الأدب والاجتماع: الاستقامة وسطٌ بين طرفين، وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، فقالوا مثلاً: الشجاعة وسطٌ بين التهور وإلقاء النفس إلى التهلكة وبين الجبن وعدم الإقدام، فإذا كان يلقى من هو أقوى منه أو أكثر منه ولا يجد طريقاً للعودة، فهذا متهور وليس بشجاع، فلم ينظر إلى العواقب؛ لأن الحرب كر وفر، والذي لا يقدم ولا يقاتل هذا جبان، والشجاعة أن يقدم وقت الإقدام، ويحجم وقت الإحجام. وقالوا مثلاً: الكرم وسطٌ بين التبذير وإلقاء المال على غير وجهه، وبين التقتير وألا ينفق ولا درهماً، فإذا ما أنفق المال قليلاً كان أو كثيراً في أوجه الإنفاق كان كريماً. ولهذا يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فلا إفراط ولا تفريط، والإفراط والتفريط هو الذي وقعت فيه الأمتان السابقتان: اليهود والنصارى، قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فهاتان الأمتان مفرطتان، والأمة وسطٌ بينهما، فاليهود فرطوا في كتاب الله، علموا ولم يعملوا: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] ، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:174] ، ويحتالون على ما حرم الله، فلما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ألقوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الأحد وفيها الحيتان، وقالوا: ما عملنا يوم السبت شيئاً، ولما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوها ثم أذابوها وباعوها، وأخذوا الثمن وأكلوا به ما يريدون، فهذا يسمى تفريط في حق الله وفي أوامره. والإفراط الذي وقع فيه النصارى أنهم عملوا عن جهالة، ولهذا يقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم ففيه شبه من اليهود، وكل من عمل على غير علم ففيه شبه من النصارى، أما هذه الأمة فإنها جاءت وسطاً، وقضية تحريم الصيد معلومة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، فحينما خرجوا في صلح الحديبية كان يأتي الصيد ويقع على ساق الفرس، وعلى سن الرمح، وتأتي الضباع وتتخلل بين أرجل الإبل، فما امتدت يد واحد إلى صيد شيء منها، أما اليهود فحينما قيل لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، وتأتي هذه الأمة لا يساوون مع العدو أكثر من الثلث، قوم خرجوا إلى عير في بدر، وجاءهم النفير بكامل العَدد والعُدد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. فقالوا: والله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، نقول: بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك. إذاً: كانت هذه الأمة وسطاً بين تلك الأمتين اللتين وقعت إحداهما في الإفراط والأخرى وقعت في التفريط، ولهذا لم تكن أمة من تلك الأمتين صالحة لدوام الرسالة فيها، فنقل الله الرسالة من بني إسرائيل من الشام إلى الحجاز، وجاء بإسماعيل عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام، وكان من دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] الآية، وكانت نشأة الدين من جديد في الجزيرة العربية. إذاً: في هذا الكتاب المبارك يدعو المؤلف في النهاية أن يجعل الله سبحانه وتعالى ما علمناه حجة لنا، لا أن يكون حجة علينا. قال: [وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى] . آمين. والله أسأل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح المتقبل، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الطهارة - باب المياه [1]

كتاب الطهارة - باب المياه [1] الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه، وهذا من أحكام المياه التي بينها الفقهاء بأدلتها من الكتاب والسنة، وهي أحكام تدل على كمال الشريعة، وشمولها، وحكمتها.

شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)

شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي، ورواه مالك والشافعي وأحمد] . قال المؤلف: أخرجه الأربعة، والأربعة هم من عدا أحمد والبخاري ومسلماً، وهم: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. قال: وابن أبي شيبة. ابن أبي شيبة ليس من السبعة، لكنه قد يذكر من غير السبعة، فـ ابن أبي شيبة أخرجه في مصنفه. وقوله: واللفظ لـ ابن أبي شيبة، كأنه رآه أجمع من غيره، مع أن رواية الموطأ واسعة ووافية في هذا. وقوله: وصححه ابن خزيمة، ليس هو من السبعة، ولكن حتى لا يقول أحد: اصطلح على ذكر السبعة والآن ذكر لنا تسعة! لكن اختصاراً للأسماء اصطلح على السبعة، وإذا لزم الأمر أن يذكر غيرهم سماه، فسمى هنا ابن أبي شيبة، وقال: صححه ابن خزيمة، مع أنه لم يروه من السبعة غير المذكورين، وكذا صححه الترمذي. ورواه مالك، ومالك لم يذكر في السبعة، ولكنه وجده في الموطأ فأراد أن يدعّم الحديث بمن صححه من علماء الحديث، وذكر من رواه سوى الأربعة، ويكفي أنه موجود في موطأ مالك. ورواه كذلك الشافعي، وهل له كتاب في الحديث وهو المسند، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله له مسند، ولكنها مسانيد مختصرة صغيرة. ورواه أحمد، وقد ذكره لأن الأربعة هم من عدا الثلاثة، فأخرج أحمد من السبعة ثم ذكره. إذاً: عرفنا تخريج الحديث من اصطلاح المؤلف في الأربعة، وكذا من ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم. وهذا الحديث يقول عنه الشافعي رحمه الله: هو أصل أصيل في كتاب الطهارة.

حكم ميتة البرمائيات

حكم ميتة البرمائيات الحيوان الذي يعيش في الماء، وتارة في البر، ما حكم ميتته؟ فيه ثلاثة أقوال: قيل: يعتبر بحرياً، وقيل: يعتبر برياً، وقيل: العبرة بمكان موته، فإن وجدناه في البحر فهو ميتة بحر، وإن وجدناه في البر فهو ميتة بر.

الحكمة من التفريق بين ميتة البحر والبر

الحكمة من التفريق بين ميتة البحر والبر جاء في الحديث الآخر: (أحلت لنا مييتان: السمك والجراد) ، يقول بعض العلماء: لماذا كانت ميتة السمك حلال، ولا تحتاج إلى تذكية؛ بينما الشاة والغزال والأرنب تحتاج إلى تذكية؟ ليعلم أن جميع الحيوانات تعيش على الأكسجين الذي في الهواء، وتخرج ثاني أكسيد الكربون عند التنفس، فإذا ما خنقت أو ماتت حتف أنفها واحتبس الدم فيها؛ فنصف الدم مسمم بثاني أكسيد الكربون، والتذكية تخلص اللحم من هذا السم الذي في الدم، أما السمك فيتنفس الأكسجين من الماء، وليس هناك ثاني أكسيد الكربون، ولهذا إذا أخذت السمكة وهي حية وقطعت فسينزل منها دم أحمر، وإذا جف دم السمك صار أبيض، وأما دم الحيوان البري فإنه إذا جف صار أسود، فالسواد في دم حيوان البر هو بسبب ما فيه من ثاني أكسيد الكربون، وهو سام، والبياض الموجود في دم السمك لخلوه من هذا، ولهذا لو مات السمك ولم يخرج دمه، فدمه لا مضرة فيه على الإنسان، اللهم إلا ما طفا على وجه الماء فيرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يؤكل، حفاظاً على الإنسان، حتى لا تلحقه المضرة من هذا الذي طفا على الماء، والله تعالى أعلم.

حكم ميتة البحر

حكم ميتة البحر ولما رأى صلى الله عليه وسلم التباس الأمر عليهم في طهورية ماء البحر، أدرك أنه من باب أولى سيلتبس الأمر عليهم في ميتة البحر، وهم المخالطون للبحر ولميتته ولمائه، فأضاف إلى الجواب ما يرفع اللبس الذي أدركه في حقهم، فأضاف قوله: (الحل ميتته) يقول بعض العلماء: كل ميتة البحر حلال، والبعض يقول: ما عدا السمك الطافي، كما هو مذهب الأحناف، ولهم أدلة على ذلك، فمذهبهم المشهور عنهم عدم جواز أكل السمك الطافي على وجه الماء، وليس هذا لمعارضة الحديث، ولا لعدم العمل به؛ ولكن لأن السمك إذا مات، وأُخذ في أول موته؛ لم يكن فيه مضرة؛ لأن جسمه لم يتغير ولم يتعفن، ولكن إذا طال الوقت تعفن، ودخلت فيه البكتيرياء، ودخله الهواء، وصار جسمه خفيفاً فيطفو على وجه الماء، فإذا أكله الإنسان كان مضنة المضرة لمكثه مدة بعد موته، فقالوا: يكره أكل السمك الطافي على وجه الماء، وخالف الجمهور الأحناف في استثنائهم السمك الطافي، وهذا فيما يظهر ليس متفقاً عليه عندهم؛ لأنه جاء في كتاب (فتح القدير) أنهم لا يحلون للمحرم من صيد البحر إلا السمك، ولكن الله أباح للمحرم كل صيد البحر، واستدل الجمهور على ذلك بحديث العنبر، في قصة سرية أبي عبيدة بن الجراح، حينما نفد زادهم، وكان جراباً من تمر، حتى كانوا يتقوتون على تمرة تمرة، وهم ستمائة رجل! قال الراوي: فرأينا كثيباً عظيماً على الساحل، فلما دنونا منه إذا به حوت عظيم يقال له: العنبر، فمكثنا عليه شهراً وأخذوا يأكلون من لحمه، ويصيبون من ودكه، قال الراوي: ولقد رأيت ثلاثة عشر رجلاً يجلسون في عينه! ولقد أخذنا ضلعين من أضلاعه ونصبناهما، ثم نظرنا إلى أطول رجل فركب أطول بعير، ومر تحت الضلعين! فذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هذا رزق ساقه الله إليكم) ، والأحناف يقولون: إنما أكلوا منه للضرورة؛ لأن أبا عبيدة قال: إنه ميتة، ثم قال: نحن في سبيل الله، وأنتم مضطرون إليه، فكان على سبيل الاضطرار، ولكن قال الجمهور: في القصة أنهم لما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هل بقي معكم منه شيء؟) ، فالضرورة وهم على ساحل البحر لنفاد زادهم، لكن ليس في المدينة ضرورة، فالراجح والصحيح هو قول الجمهور؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) . لكنهم يستثنون بعض الأشياء، فقد استثنى مالك خنزير البحر، فعندما سئُل عنه قال: أنتم تسمونه الخنزير، والله قد حرم الخنزير، واستثنى كذلك كلب البحر، والبعض يحرم التمساح، أما الضفدع فقد جاء النهي عنه؛ لأن طبيباً استأذن رسول الله أن يجعله في الدواء فنهاه عن قتله، وعلى هذا نقول: نبقى على عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) ، وبعض العلماء يستثني الحيوانات التي يظن أنها ضارة كالسرطان ونحوه. وعلى هذا أضاف قوله: (الحل ميتته) إلى قوله: (الطهور ماؤه) ؛ لأن راكب البحر قد يحتاج إلى السمك الميت، فقد ينفد طعامه ويحتاج إليه، والبعض يقول: ذكر ذلك ليعلم راكب البحر أن الميتة فيه لا تنجسه، وهذا أمر بعيد؛ فإنه لو رميت نجاسة الدنيا كلها في البحر فلن تؤثر فيه، والأرض بكاملها الربع منها يابس، وثلاثة أرباعها ماء، فما الذي ينجسه؟ إذاً: العلة في ذلك ليرفع اللبس عن ركاب البحر، ويعلمهم بأن الميتة في البحر حلال، وقد جاء عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما مات في البحر فقد ذكاه الله لكم) ، أي: ذبحه لكم، فلا داعي إلى التحرز عنه فهو حلال.

سبب حديث: (هو الطهور ماؤه.

سبب حديث: (هو الطهور ماؤه ... ) وهذا الحديث قد ذكره المؤلف مختصراً، وهذا من الإيجاز الذي عناه المؤلف بالتحرير، وأصل الحديث هو ما ذكره مالك في الموطأ: أن رجلاً يدعى عبد الله بن المدلجي كان يصيد في البحر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .

من فوائد حديث: (هو الطهور ماؤه)

من فوائد حديث: (هو الطهور ماؤه) تكلم ابن عبد البر رحمه الله وغيره في شرح هذا الحديث ومدلولاته، وابن عبد البر تتبع رواياته التي أشار إليها المؤلف، ثم ذكر فوائد الحديث، وقد أشرنا إلى بعضها، ومن فوائده: أن قوله: (إنا نركب البحر) فيه إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركوب البحر، وفي هذا رد على من يقول: لا يجوز ركوب البحر إلا للضرورة، وهو مروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وابن عمر يقول ذلك مخافةً من الهلاك؛ لأن البحر غول كما يقول الناس، ولهذا لا ينبغي لإنسان أن يركب البحر عند الهيجان في شدة المد والجزر، ومعلوم أن شركات التأمين التجاري لا تسمح لباخرة تحمل بضاعة تحت تأمينها أن تبحر وقت هيجان البحر؛ لأنها إن غرقت السفينة ضمنتها شركة التأمين، فهي لا تسمح لسفينة تحت ضمانها أن تبحر إلا إذا أخبرتها هيئة الأرصاد الجوية أن البحر هادئ، ودائماً نسمعهم في النشرات الجوية يقولون: الموج ما بين مترين ومترين ونصف إلى ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار، إلى غير ذلك من أحوال البحر، فإذا كان البحر في وقت هيجانه فلا ينبغي للإنسان أن يركبه؛ لأن هذا قمة التهلكة، أما وهو هادئ فلا بأس، وقد يفاجأ أهل السفينة بأمواج عاتية؛ فحينئذ يكون الأمر بقضاء الله وقدره. وقوله: (إنا نركب البحر) ، أي: نركب السفن في البحر، وحذف ما يعلم جائز كما يقول ابن مالك. وقوله: (ونحمل معنا القليل من الماء) ، وفي بعض الروايات: (القربة من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فقال صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، يقول العلماء: من كان معه ماء في سفر أو في فلاة من الأرض، والماء على قدر حاجته؛ فلا يتوضأ به، بل يتيمم؛ لأن الرسول أرشدهم إلى ماء البحر مع وجود الماء العذب؛ لحاجتهم إليه في الشرب، وكذلك المسافر إذا احتاج إلى الماء في الشرب وفي صنع الطعام، قال العلماء: حتى ولو كان معه الدابة يركبها أو يسوقها، وهي في حاجة إلى هذا الماء لتشرب منه؛ فلا يجوز له أن يتوضأ، بل يوفر الماء للدابة كما يوفره لنفسه، ويتيمم؛ لأن الوضوء له بديل، وليس لماء الشرب بديل، فإذا قل الماء على مسافر أو على أحد في فلاة، واحتاج أن يوفر الماء لنفسه لشرابه أو طعامه، أو شراب ما معه من الحيوان المحترم الذي يصحبه معه؛ فليتيمم. قال: فإن توضأنا منه عطشنا؛ لأنه قليل، ولا يمكن أن نشرب من ماء البحر، فكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم من جانبين: الجانب الأول: أنه أفتاهم بزيادة عما سألوا، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وهم لم يسألوا عن ميتة البحر. الجانب الثاني: عدم الإجابة بنعم أو لا، ولما قال: (هو الطهور) كأنه ألغى صورة السؤال، وجعل الجواب مستقلاً، أي: سواء ركبتم ومعكم القليل من الماء، أو الكثير من الماء، أو لم تحملوا ماءً بالكلية، وسواء كنتم تحتاجون إلى ركوب البحر أو لا تحتاجون، فمن ركب البحر، واحتاج إلى الوضوء؛ فالبحر ماؤه طهور وميتته حلال، فلو قال: نعم؛ لكان الجواب محتملاً أن يكون مقصوراً على الذين يصطادون في البحر، أو حياتهم ترتبط بالبحر، ولا يشمل من ينزلون للنزهة، أو للسفر لأمر آخر، بل جاء بقضية مستقلة، بمبتدأ وخبره (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .

شرح حديث بئر بضاعة

شرح حديث بئر بضاعة قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد] . كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى له بالماء من بئر بضاعة ويتوضأ منه، وبئر بضاعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسامتة سقيفة بني ساعدة إلى الشمال، وكانت هذه البئر موجودة إلى عهد قريب، وأقيمت على مزرعتها مدرسة تحفيظ القرآن، وبعد ذلك كان النادي الأدبي، ثم أزيل الجميع. وبئر بضاعة معلم من معالم السنة، ودراسة جغرافيتها نستفيد منها فوائد، وقد سبق إلى ذلك أبو داود رحمه الله، فعندما جاء إلى المدينة ذهب إلى هذا البئر، وقاس مساحتها. فكان صلى الله عليه وسلم يستقى له من هذه البئر، ولم تكن كل آبار المدينة عذبة صالحة للشرب، وقصة بئر رومة معلومة، وهي التي تسمى الآن: بئر عثمان، كانت هذه البئر يستقي منها أهل المدينة، وكان رومة رجلاً يهودياً يبيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة) ، فذهب إليه عثمان وثامنه، فأغلى الثمن جداً، فتكاثر عثمان الثمن، فقال: أنت حريص على الماء، فبعني نصفه، فباعه نصف البئر، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: نقسم البئر، فقال: كيف نقسمه؟ قال: لك يوم، ولي يوم. وهذه قسمة عادلة. فأعلن عثمان رضي الله تعالى عنه لأهل المدينة أن الماء في يوم عثمان مجاناً في سبيل الله، وصار الذي يريد ماء يأخذ ليومين، فيأتي يوم رومة ولا يوجد أحد يشتري منه الماء؛ لأن الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، المهم أنه اشتراه منه، فكان الناس يستقون الماء من بئر عثمان في سوق كان هناك. وفي ذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا بكر وعمر فقال لهما: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع، هلموا إلى فلان) ، وذهبوا إليه في بستانه، فوجدوا زوجته فقالت: إنه ذهب يستعذب لنا الماء، ثم جاء الرجل، وأكرمهم بقنو من النخل فيه رطب وبسر وتمر، وذبح لهم. إلخ، والشاهد: أنه ذهب يستعذب ماء للشرب. وكانت بئر بضاعة من الآبار التي يستعذب ماؤها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، تنبيهاً على الواقع، ليعلم حقيقة الأمر، وهذا أيضاً من حقه عليهم، كما في قصة الضب، عندما قدم في المائدة، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأكل منه فقيل له: إنه ضب، فرفع يده، فقالوا: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) ، فاجتره خالد بن الوليد فأكله. فهم قد أخبروا رسول الله بماذا سيأكل، وهذا كذلك هنا للتنبيه، فقد أخبروه بما يستقى له من الماء فقالوا: أيستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن؟ وفي بعض الروايات: الحِيَض -أي: قطع الخرق التي تستعملها الحائض-، فكانت خرق الدم تلقى في هذه البئر، فكان الجواب بعد هذا البيان: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فانظر إلى هذا السؤال وهذا الجواب، فالماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأن الماء الذي استقي له، وجيء به إليه؛ ليس به شيء من هذه الأشياء الموجودة في البئر، فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعتبر مطلقاً بدون قيد، فالماء من حيث هو طهور؛ لكن المؤلف بين التقييد بالحديث الثاني: (الماء طهور، إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجاسة) ، وكلمة (بنجاسة) لها مفهوم، فلو تغير أحد أوصافه بطاهر فلا يضر. وهنا خلاف بين العلماء، فالجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا: نجمع بين الحديثين فنقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على أحد أوصافه الثلاثة، فنكون أعملنا القيد في المطلق، والقاعدة عند الأصوليين: حمل المطلق على المقيد، وبهذا يتم الجمع. وستأتينا أحاديث ليس فيها تغير الماء، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن استعمالها، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات) ، قالوا: الإناء صغير، واليد ليس عليها شيء، وليس فيها ما يغير الطعم، ولا اللون، لكن منع من ذلك، وهذا ماء قليل انغمست فيه اليد، وكذا حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله) ، وفي قضية بول الأعرابي الذي بال في المسجد فأتي بدلو كبير وأهريق على ذلك البول، فاختلط البول بالماء القليل وتطهر البول بهذا الماء.

أقسام المياه وأحكامها

أقسام المياه وأحكامها من مجموع الأحاديث نأتي إلى تقسيم الماء من حيث المجمع عليه والمختلف فيه، فنجد طرفين ووسطاً: الطرف الأول: الماء الكثير وهو: الطهور الذي لم يتغير بنجاسة، وهو طهور بالإجماع ولا نزاع فيه. الطرف الثاني: الماء القليل أو الكثير إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه، فهذا نجس لا يستعمل بالإجماع. إذاً: عندنا ماء كثير لم تتغير أوصافه وهو باق على طبيعته، ولم يتغير منه شيء مع الكثرة، فهو طاهر، وماء آخر كثير أو قليل تغير بالنجاسة فهو نجس. بقي الوسط وهو محل النزاع والخلاف عند الأئمة رحمهم الله، وهو الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره؛ لأنها إذا غيرته التحق بالقسم الثاني الذي هو نجس بالإجماع، لكنه قليل ولم تغيره النجاسة، بأن كانت قليلة نادرة، مثل إناء من ماء وقعت فيه خمس عشرة قطرة من البول، وهذه قطعاً نجاسة وقعت في هذا الماء ولم تغير أحد أوصافه، فما حكمه؟ هذا هو محل الإشكال عند العلماء، وكل ما سيمر بنا من خلاف في مباحث المياه فإنما هو في هذا القسم الوسط. إذاً: الماء على ثلاثة أقسام من حيث الطهورية والنجاسة: إن كان كثيراً -وسنذكر حد الكثرة من القلة- ولم تتغير أوصافه بنجاسة فهو طهور بالإجماع، (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وإن تغيّر بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو نجس، حتى لو كانت عندنا بحيرة طولها كيلو في كيلو، وعمقها كيلو، وتسلطت عليها مياه المجاري حتى غيّرت ماءها، فهو ماء كثير تغير فهو نجس. إذاً: القسم الأول: طهور؛ وهو الكثير الذي لم تؤثر فيه النجاسة بشيء. القسم الثاني: غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة، فمهما كانت كثرته ومهما كانت قلته؛ فهو نجس. والوسط وهو القسم الثالث: ماء قليل لاقته النجاسة ولم تغيره. إذا جئنا إلى الحديث الأول: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وحملناه على القليل لوجدنا منطوق هذا الحديث أنه ما لم تتغير أوصافه فهو طهور على هذا النص، إذاً: لم نحمله على الكثير؛ لأن النجاسة قليلة ولم تغيره، وهو تغلب عليها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: الماء إذا لم تتغير أحد أوصافه بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو طهور، وقال الأئمة الثلاثة: إذا كان الماء قليلاً ولم تغيره النجاسة؛ فإن النجاسة موجودة فيه، وقلته لا تحتمل النجاسة، لحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: فما دون القلتين يحمل الخبث. وقد مهدنا للأحاديث الآتية بهذا التقسيم الثلاثي حتى نطبق عليه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله تباعاً؛ لأنها كلها تشكل موضوعاً واحداً. نعيد مرة أخرى: الماء بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور بالإجماع، وهو الكثير الذي لم تتغير أحد أوصافه. ونجس بالإجماع، وهو المتغير أحد أوصافه بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً. والقسم الوسط وهو محل النظر والاجتهاد والخلاف، وهو الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّره، فمذهب مالك، ورواية عن أحمد وبعض آل البيت أن الأصل في الماء الطهورية، وإنما النجاسة تؤثر فيه إذا تغير أحد أوصافه؛ لحديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فأخذ مالك بالعموم، وعنده ما دام أن الماء لم تتغير أوصافه فهو طهور ولو كان قليلاً، لهذا الحديث. وقال الجمهور والأئمة الثلاثة: نحن نقيد المطلق بالقيد الذي جاء بعده: بنجاسة تحدث فيه. قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد. ] . نحن لا نناقش الطرفين المجمع عليهما، فالطرف المجمع على أنه طهور ليس لنا حاجة في نقاشه، والطرف المجمع على أنه نجس لا يوجد مجال للمناقشة، والمناقشة كلها في الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّر أحد أوصافه، فالأصل فيه أنه طهور لا ينجسه شيء، وبهذا أخذ مالك، والأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا، ولكن قيدوا هذا المطلق بالقيد الآتي بعده.

متى ينجس الماء؟

متى ينجس الماء؟ قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) أخرجه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم] . قوله: (ما غلب) أي: لو جاءته نجاسة قليلة، قطرة أو قطرتان، ولم تغير أحد أوصافه، فيبقى على طهوريته، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه، فهو طهور ما لم يتغير بما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة، وما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون نجساً أو طاهراً، فإن كان الغالب على أحد أوصافه نجساً فالماء نجس، وإن كان الغالب على أحد أوصافه طاهراً فماذا يكون حكمه؟

حكم إذا خالط الماء شيء طاهر فغيره

حكم إذا خالط الماء شيء طاهر فغيره جمهور الفقهاء على أن الماء على ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فالطهور: هو الذي يطهر غيره، كالماء الذي يتوضأ ويغتسل منه، وتغسل به النجاسة، والطاهر: هو الذي يجوز استعماله فيما طابت به النفس، ولكن لا يتطهر به محدث، ولا تطهر به نجاسة، وهو الماء الذي تغيّر أحد أوصافه بطاهر، مثل ماء الورد، وهو ماء خالطه عطر الورد، فهل هذا الماء طهور نتوضأ منه؟ لا. وهل هو نجس؟ لا. إذاً: هو طاهر، يجوز أن تستعمله في ثيابك، وأن تضعه في شرابك، أو في طعامك، لكن لا يدخل في العبادات؛ لأن الماء الطهور هو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها، فإذا تغير بمضاف إليه خرج عن الحد الذي خلقه الله عليه، ولهذا قالوا: كل ماء طهور تغيّر بأصل طاهر؛ سلبه الطهورية، ولكن لم يسلبه كونه طاهراً، فلك أن تستعمله في العادات لا في العبادات، فمثلاً: عندك طست من الماء، فسقطت فيه قطرة من الحبر، والحبر أزرق أو أسود فظهر لونه في الماء، فهل هذا الماء طهور تتوضأ منه؟ الجواب: لا، لكن يمكن أن تستعمله فيما يمكن أن تستعمله فيه، وفيما يصلح أن تضيفه إليه. إذاً: القيد -ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة- جاء بإطلاق، وجاء بنجاسة تحدث فيه، ولو تغير أحد أوصافه بطاهر فيسلبه الطهورية عن الوضوء وعن غسل الجنابة وغسل النجاسة، ويبقى حكم الطهارة فيه، فهو ماء طاهر، فإن شئت شربته، وإن شئت اغتسلت به لغير الجنابة، وإن شئت غسلت به إناءً ما لم يكن نجساً، إلى غير ذلك. وبعض العلماء يقول: إن تغير بنجس تنجس، وإن تغير بطاهر بقي على طهوريته؛ لأن هذا التغيير بطاهر فلا يسلبه طهوريته، ولكن هذا شاذ، وهذا القائل يستدل بحديث صفية رضي الله تعالى عنها قالت: (اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من جفنة فيها أثر العجين) ، فالجفنة كانوا يعجنون فيها، فجاءوا وصبوا الماء في الجفنة، واغتسلوا منها، ووجه الاستدلال: أن العجين اليابس في الجفنة إذا وقع عليه الماء فإنه يتحلل في الماء، وهذا سيغير لون الماء إلى بياض العجين، قالوا: فقد اغتسلوا من هذا الماء الذي تحلل فيه العجين، وأجاب غيرهم على هذا: بأنهم اغتسلوا بسرعة قبل أن يتحلل العجين. فمذهب الجمهور أن الماء الذي خالطه طاهر وغير أحد أوصافه فهو طاهر غير طهور، مثل إناء فيه ماء فصب فيه ماء الورد، فقد صار ماء ورد، أو سقط فيه زعفران، فيكون ماء زعفران، وهكذا لو سكبت فيه شيئاً من البر أو اللوبيا أو غيرهما، ونظرت فيه وقد تغير، فليس ماءً مطلقاً، ولهذا يقولون: الماء المطلق هو الطهور، فإذا ما أضيف إليه شيء وغير بعض أوصافه؛ خرج عن مسمى الماء المطلق، وأصبح ماء مقيداً، أما ماء ورد، أو ماء زعفران، أو ماء سكر، أو ماء ملح، إذا وضع الملح في الماء يجعله مالحاً، وإذا وضع السكر فيه فإنه يحليه، وكل هذا يسلب الماء الاسم المطلق، ويصير ماءً مضافاً إلى ما أضيف إليه، ماء مسكر، أو ماء مملح وهكذا، حتى ولو كان الذي خالطه طاهر، فإنه يسلبه اسم الماء الطلق، ولم يبق طهوراً، ومن هنا أخذ الجمهور أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأضافوا إليه القيد الثاني: إلا ما غير لونه، أو ريحه، أو طعمه، فإن تغير بطاهر فهناك من يقول: هو باق على طهوريته، وأما إن تغير بنجس فقد خرج عن الطهورية إلى النجاسة، لتغير أحد أوصافه، وهذا هو رأي الأئمة الثلاثة.

كتاب الطهارة - باب المياه [2]

كتاب الطهارة - باب المياه [2] الإسلام يدعو إلى النظافة، والبعد والتنزه عن النجاسة والقذارة، ومن ذلك أنه حكم بنجاسة الماء القليل إذا تغير بنجاسة حدثت فيه، ونهى عن البول في الماء الراكد والاغتسال فيه، وأمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب إذا ولغ فيه الكلب.

حكم الماء القليل إذا لاقته نجاسة وخلاف العلماء فيه

حكم الماء القليل إذا لاقته نجاسة وخلاف العلماء فيه قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي لفظ: (لم ينجس) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان] . تقدم حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه) ، وفي هذا الحديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي رواية: (لم ينجس) ، ومفهوم ذلك: إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس ولو لم يتغير، لكن المشكل: كم القلتان؟ وأي القلال؟ القلتان: تثنية قلة، وجاء في بعض الروايات: (كقلال هجر) ، وقلال هجر كانت معروفة عند الناس، والقلة تساوي قربتين، والقربتان تساوي خمسمائة رطل، ويقول الصنعاني في هذا المبحث: الجمهور على أن القليل لو خالطته نجاسة ولم تغيره فليس بطهور، ما عدا مالكاً، فيقال لهم: ما حد القليل الذي يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تغيره؟ وما هذا القليل الذي تعتبرونه نجساً ولو لم يتغير لأنه قليل؟ قالوا: إذا كان دون القلتين، وتقدير القليل والكثير بالقلتين هو مذهب الشافعي وأحمد، ومالك خارج عن هذا التحديد؛ لأنه اكتفى بتغير الأوصاف ولم يعتبر قلة ولا كثرة، وعند الأحناف تعريفان للقليل والكثير: فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان الماء محصوراً في بركة، أو في إناء، أو في غدير، فإن حركت أحد الجوانب الأربعة ولم يتحرك الجانب الآخر فهو كثير، فمثلاً: إذا جئت من جهة القبلة وغسلت يدك وحركت الماء، فطبيعة الماء أنه إذا حركت سطحه يحصل فيه تموج، والتموج يضطرب حتى يصل إلى الجهة المقابلة، فقال: حد الكثرة أنه إن حركت أحد الجوانب فلا يصل أثر الحركة إلى الجانب الثاني، وهذا مضبوط بحالة وصف لا بمقدار. وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: حد الكثرة عشرة أذرع من كل جهة، كبركة مساحتها عشرة في عشرة بمائة ذراع، والعمق عشرة أذرع، فهي مكعبة، والذراع متر إلا ربع، إذاً: سبعة أمتار ونصف مكعبة، فهذا حد الكثرة من القلة عندهم. إذاً: لو كان الماء بهذا الحد (سبعة أمتار ونصف مكعبة) ، وسقطت فيه قطرات بول ولم تغير فيه شيئاً، قالوا: فهو طاهر، ولو كان الماء خمسة أمتار مكعبة، وسقطت فيه نفس تلك الكمية ولم تغيره، قالوا: فهو نجس، فنهدر الخمسة أمتار مكعبة من أجل قطرات بول نزلت وليس لها أي أثر، ومن هنا يقول الصنعاني وغيره: حصل الاضطراب في تحديد الكثرة والقلة، وحديث القلتين متكلم في سنده، ولكن علماء الحديث والفقه تلقوه بالقبول؛ لشهرته وانتشاره واستفاضة القول به -وإن اختلفت القلال كبراً وصغراً- وأخذ به الشافعي وأحمد رحمهما الله. وإذا نظرنا لمجموع هذه الأحاديث نجد أن الضابط -كما قال مالك - هو التغير، وهذا لم يتغير، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن جئنا إلى التقييد بغير قيد التغير -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- وجدنا الخلاف في حد القلة والكثرة، ومن حد الكثرة بحد معين، ووصل الماء إلى هذا المقدار ولاقته نجاسة ولم تغيره، فهو عنده طهور، فمثلاً: عند الشافعي وأحمد إذا كان الماء قلتين -أي: قربتين كبيرتين- ولاقته نجاسة ولم تغيره فهو طهور؛ لأنه أصبح كثيراً لا ينجس أو لا يحمل الخبث، وإن كان دون ذلك تنجس بهذه النجاسة؛ لأنه ماء قليل، وكذلك عند الأحناف بذلك الحد الذي حددوه. هذه مذاهب الأئمة رحمهم الله، وبقي الترجيح. الإمام مالك يخالف الأئمة الثلاثة، فـ مالك اعتبر الوصف، ولم يعتبر قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة اعتبروا الأمرين: القلة والكثرة، والتغيير وعدم التغيير؛ إذاً: اشتركوا مع مالك في التغيير، ومالك يقول: إن تغير لونه قليلاً كان أو كثيراً فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر، والأئمة الثلاثة قالوا: إن لم لم يتغير وكان كثيراً فهو طهور، وإن تغير وهو قليل فليس بطهور، إذاً: اختلفوا مع مالك في القليل، وحد القليل على ما ذكروه، فالخلاف في هذه المسألة بين الأئمة رحمهم الله هو في الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره. فـ مالك يقول: هو طهور، ولا تقل: طاهر، والأئمة الثلاثة يقولون: ننظر في القلة والكثرة، فإن كان بحد الكثرة فنحن مع مالك ما لم يتغير، وإن كان دون حد الكثرة فنحن نخالف مالكاً ولو لم يتغير.

نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم

نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) أخرجه مسلم. وللبخاري: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـ مسلم: (منه) ، ولـ أبي داود: (ولا يغتسل فيه من الجنابة) ] . هذه أخبار تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالماء الدائم. وقسم يتعلق بالاغتسال من الجنابة في الماء الدائم. والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم جاء بالإطلاق، وجاء بقيد الجنابة، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم يصدق على البركة وعلى الغدير، وكل ماء كثير على حد الأئمة الثلاثة الذين اعتبروا القلة والكثرة، ولماذا لا يغتسل فيه؟ قال بعض العلماء: نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم لا لذات الجنابة، وقال بعضهم: بل لذات الجنابة؛ لأن الماء إذا رفعت به الجنابة تنجس، وهذا قول عند الأحناف كما في فتح القدير، وهو أن الماء الذي يرتفع به حدث أصغر أو أكبر لا يجوز استعماله، وهو نجس، ويقولون: إن الحدث وقع في الماء بعد أن أزال الحدث ورفعه، فلو توضأت في طست، وتجمع ماء الوضوء في نفس الطست، فهذا الماء عندهم متنجس؛ لأنه نقل الحدث من الأعضاء إلى الماء. والجمهور يقولون: إن الحدث أمر معنوي لا تلحقه الصفات الحكمية من نجاسة أو غيرها. وقال بعضهم: لأنه يتنجس بكثرة رفع الحدث ونزوله فيه بالوضوء والاغتسال. وقال قوم: طبيعة الإنسان -غالباً- أنه إذا نزل إلى الماء ليغتسل وانغمس فيه، فإنه يخرج منه البول ولا يستطيع رده، فبتعدد الاغتسال يكثر البول في هذا الماء فينجسه، فقيل لهم: هذا ماء كثير فكيف ينجسه البول؟ قالوا: بتنجس مع طول الزمن. وقال آخرون: لأنه يستقذر، فإذا بلت فيه، وجاء الثاني وبال فيه، فبعد هذا كيف تشرب منه؟! وكيف تتوضأ منه؟! فالنفس تشمئز من هذا، إذاً: هذا نهي كراهة وتنزيه، وليس نهي تحريم. وكذلك قوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) . فالماء الدائم منهي أن تبول فيه أو تغتسل فيه من الجنابة، وقوله: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) نهي عام يشمل كل ذي جنابة أن يغتسل منه، ولكن هنا قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ، فهذا نهي موجه للإنسان أن يجمع بين الأمرين: البول والاغتسال، فلو لم يرد أن يغتسل فهل يجوز له أن يبول؟ لا يجوز، فلو أن اثنين أحدهما بال في الماء، فيقال له: لا تغتسل؛ بسبب بولك فيه، والشخص الثاني الذي لم يبل له أن يغتسل ويتوضأ؛ لأنه لم يفعل سبب النهي، ويتعجب بعض العلماء من المغايرة بين الشخصين، ويقولون: إن كان النهي عن البول في الماء لنجاسة أو لاستقذار، فكما يجري هذا على الذي بال فينبغي أن يجري على الذي لم يبل، وقالوا: إن النهي للكراهة لا للتحريم، ليبقى الماء طاهراً مدة أطول، حتى لا يطول الزمان ويكثر البول فيفسد الماء. وهناك من يقول: النهي عن ذلك من ناحية طبية؛ لأن الماء الذي لا يجري، وهو ما يسمى المستنقعات، تنشأ فيها بعض الأشياء، فتحمل بعض الجراثيم التي تنتقل عند البول فيه أو عن طريق الأظفار في القدمين فتصيبه بالمرض، ويذكرون أن البلهارسيا والكلستوما وغيرهما تكثر في مستنقعات المياه، وكانت توجد في المنطقة الشرقية أكثر من غيرها قبل أن تنظم فيها قنوات الري. فقال بعض العلماء: هذا ماء كثير نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تخالطه النجاسة ولو لم تغير أوصافه؛ لأنه لا يجري بل هو دائم في مكانه، فإنه لو طال الزمن وكثرت هذه الحالة؛ فقد يفسد عليهم الماء ولو كان كثيراً. والجمهور على أن النهي للكراهة، وابن حزم ينكر عليهم قولهم أنه للكراهة، ويقول: هذا نهي صريح، ولا يوجد ما يصرفه إلى الكراهة، بل هو للتحريم، ومن بال لا يصح وضوءه من ذلك الماء. وجاء في رواية: (منه) وفي رواية: (فيه) ، والمعنى: أنه لو بال في هذا الماء فلا يتوضأ ولا يغتسل منه، أي: لا يأخذ ماء ويتوضأ أو يغتسل بعيداً من الماء الراكد، وكذلك إذا بال في هذا الماء فلا ينزل وينغمس فيه ويغتسل، ولا يتوضأ فيه. وقال بعضهم: هذا التوجيه هو للآداب والأخلاق والنزاهة، ونظيره الحديث الذي فيه: (لا يجلدن أحدكم زوجه جلد الأمة ثم هو يضاجعها) ، أي: أنه الآن يضربها وكأنها عدوة له، وكأنها ليست لها قيمة عنده، ثم بعد فترة يجد نفسه مضطراً إلى أن يضاجعها، ففي حالة المضاجعة أين ذهب الضرب؟ وفي حالة الضرب أين ذهبت المضاجعة؟ فعليه أن ينظر إلى العاقبة، فإذا أردت أن تضرب فلا تنسى حاجتك إليها في المضاجعة، فليكن الضرب برفق، وكذلك هنا لا يبل ثم هو يغتسل؛ لأن هذا مستنكر، فكيف تبول فيما تحتاج أن تشرب منه وتغتسل فيه؟! كما أنه كيف تضرب من تحتاج إلى مضاجعتها؟! فهذا نظير ذاك، فالنهي للكراهة وليس للتحريم، والله تعالى أعلم. إلى هنا نكون قد انتهينا من تقسيم العلماء للماء، واعتبار الكثرة والقلة، وذكرنا القسم الطهور المجمع عليه، والمتنجس المجمع عليه، وذكرنا القسم الوسط، وهو محل البحث، وهو القليل الذي خالطته النجاسة ولم يتغير بها. والخلاصة: أن الإمام مالكاً ينظر إلى الأوصاف، ولم ينظر إلى قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة رحمهم الله ينظرون إلى الأوصاف مع الكمية، قلة أو كثرة، فإن كان قليلاً ووقعت فيه نجاسة فهو نجس ولو لم يتغير، وإن كان كثيراً فهو طاهر ما لم يتغيّر، وبالله تعالى التوفيق.

حكم الاغتسال بفضل غسل الرجل أو المرأة

حكم الاغتسال بفضل غسل الرجل أو المرأة قال رحمه الله: [وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً) رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح] . هذا الحديث يتعلق بالماء القليل، وهو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول العلماء: هذا الرجل مجهول لم يسم، وجاء في بعض الروايات أن اسمه يحنس أو نحو هذا. والجمهور يقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر في صحة الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلهم عدول لا يفتش عنهم في رواية الحديث؛ وعلى هذا فهذا رجل مجهول الاسم، لكنه معروف بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الحديث، وقد قيل: إنه صحبه أربع سنوات، قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو تغتسل المرأة بفضل الرجل، وليغترفا جميعاً) ، النهي يقتضي التحريم والمنع، إلا إذا وجدنا قرينة تصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة، والأمر يقتضي الوجوب ما لم نجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب. وهنا نهي صريح: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) ، والفضل ما بقي بعد استعمال الماء، ويقول ابن حزم في المحلى: إذا كان الباقي بعد استعمال الماء أقل مما أخذ؛ فهو فضل داخل تحت النهي، أما إذا كان الباقي بعد الاستعمال مساوياً لما أُخذ أو زائداً عنه فليس بفضل، بل هو أكثر مما أخذ، فلو قدر أن الإناء فيه عشرة لترات، فاغتسل الرجل من هذا الماء بخمسة لترات، وأبقى خمسة لترات، فلا تكون الخمسة فضلةً للعشرة، أما إذا أخذ سبعة لترات فالباقي ثلاثة، وهي أقل مما أخذ فتكون الثلاثة فضلةً للعشرة، وهذا عرف معلوم عند الناس، فلو أن إنساناً أتي بكأس وشرب منه وبقي في الكأس شيء؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، إلا إذا كان الموجود في الكأس قليلاً، أما إذا تذوّقه أو أخذ قليلاً منه؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، بل الطعام باقٍ أكثره، وكذلك الشراب في الكأس باق أكثره، فالعرف يؤيد ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله. يقول بعض العلماء: النهي هنا للتحريم، ويقول الجمهور: النهي للتنزيه، ومذهب ابن حزم وداود الظاهري أن النهي للتحريم، ولكن نجد في الحديث الذي بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغتسل من جفنة اغتسلت منها ميمونة وهي جنب، فقالت له: هذا الماء باق بعد اغتسالي، فقال لها: (إن الماء لا يجنب) ، واغتسل بفضلها، وقد يقال: اغتسل بالباقي، لكن هل كان الباقي أكثر أو أقل؟ ليس هناك دليل، لكنها قرينة على أن النهي هنا للكراهة. وبعض العلماء يقول: لا بأس للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ولا يغتسل الرجل بفضل المرأة، ثم ذكروا أن علة النهي ما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النهي خاص بالمرأة التي اغتسلت من حيضتها، وخصص عموم المرأة بالخائض لأنها تخلو به -كما في بعض الروايات- أما إذا كان الرجل مع المرأة فليغترفا جميعاً، لكن إذا خلت به، واغتسلت وهو غائب عنها في مكان آخر، ثم جاء ليغتسل، فلا يغتسل بفضلها، قال ابن عمر: المرأة إذا خلت بالماء، واغتسلت لحيضها، فقد لا تعلم أحكام الحيض والغسل منه، وقد تلوث الماء وتفسده على الرجل، ولكن هذا يرد بأن المرأة الحائض تغتسل من حيضتها إذا انقطع الدم عنها، وذلك إذا رأت القصة البيضاء، كما سيأتي في باب الحيض أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كن النساء يبعثن إليها بالقطن فيه أثر الحيض، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. والقصة البيضاء ماء أبيض يعقب دم الحيض، ويدل على نقاء الرحم من الحيض، فحينئذ تغتسل. إذاً: الحائض ليس فيها ما يخشى منه على الماء، ولكنه تخصيص وارد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فبعض العلماء نهى الطرفين، وبعضهم نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، وأجاز للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل؛ لأن الرجل ليس مظنة لأن يفسد الماء، ولذا قيل: إذا اغتسلت أمامه وهو يراها، ولم تخلُ بالماء، فلا مانع أن يغتسل بفضلها؛ لأنه لو وقع منها أمر بجهالة فإنه سيرشدها، أو يكون عنده علم بحال الماء، والجمهور على أن النهي هنا للتنزيه والكراهة وليس للتحريم. والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا في معرض بحث الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه، فهذا ماء قليل في إناء، والمعروف أن المياه في البيوت لا تكون مستبحرة، ولا تكون قلتين، ولا تكون عشرة أذرع في عشرة -كما قيل- إنما هي في أوانٍ معروفة، فهي في حكم الماء القليل، وقد جاء النهي عن اغتسال أحد الزوجين بفضل الآخر، فهو منع لاستعمال الماء القليل الذي لم يتغير، فهذا من أدلة ترجيح من يقول: الماء القليل إذا لاقته النجاسة ولم تغيره فإنه ينجس، والآخرون يقولون: إن النهي هنا ليس للتحريم، إنما هو للكراهة؛ لما سيأتي بعد هذا الحديث إن شاء الله. إذاً: نُهي أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، فلو كان عندهما إناء واحد، فهل تتقدم هي أم يتقدم هو؟ قالوا: لا يسبق أحدهما الآخر، ولا ينفرد به؛ بل يغتسلان بعضهما مع بعض، ويغترفان جميعاً، فهي تغترف لنفسها وتغتسل، وهو يغترف لنفسه ويغتسل، ومن هنا يقول النووي رحمه الله: قوله: (وليغترفا جميعاً) فيه أن النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة أو العكس للتنزيه لا للتحريم؛ لأنهما لو اغتسلا معاً واغترفا جميعاً، فلابد أن أحدهما سيسبق الآخر بغرفة الماء، فإذا سبق الرجل واغترف من الماء، ثم هي بعده اغترفت، فقد اغتسلت بفضل الرجل، أو سبقت هي فاغترفت، ثم هو تبعها واغترف لنفسه، فقد اغتسل بفضل مائها، وهكذا من أول الغسل إلى آخره، فيقع اغتسال كلٌ منهما بفضل الآخر. ونظير هذا النهي عن الصلاة منفرداً خلف الصف، فهو للكراهة، ولا تبطل به الصلاة -كما يقول الحنابلة- فلو قدرنا أنها أقيمت الصلاة، ووقف الإمام، وخلفه ثلاثة أشخاص مؤتمون به، فلن يتلفظوا بتكبيرة الإحرام في لحظة واحدة، بل سيحصل بينهم تفاوت واختلاف، فهذا يكبر، وهذا يعتدل، وهذا ينظر، قال النووي رحمه الله: سيسبق أحدهم الآخرين بالتكبير؛ فيكون قد كبر وحده، وفي تلك اللحظة إلى أن يكبر شخص آخر معه سيكون منفرداً خلف الصف، ولم تبطل صلاته، فاستنتج من ذلك أن النهي عن الانفراد خلف الصف للكراهة، وكذلك هنا. وبعض من توسع في هذا الموضوع يقول: إنه حث على أن يغتسلا جميعاً؛ لأن المرأة في حاجة إلى تعلم أحكام المياه، وأحكام الغسل من الجنابة، فتتعلم ذلك إذا اغتسلت مع الزوج، والأصل أن الزوج يكون متعلماً لمخالطته ولسماعه، فذلك أدعى لتعليمها، وقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اغتسلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، حتى كانت أقول: دع لي دع لي) ، فاغتسلا في وقت واحد معاً، وعلى هذا يكون النهي للكراهة والتنزيه، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام من فضل ميمونة، واغتسل مع عائشة واغترفا جميعاً. وإذا اغتسلت المرأة من الدش، فهل الماء الباقي في الخزان يصدق عليه أنه فضل المرأة؟ لا؛ لأنه يوجد مواسير عازلة، وقد تقدم ما قاله ابن حزم عن حقيقة الفضلة، وهو أنه إذا كان الإناء موجوداً بينهما، وكان ما أبقته المرأة أو أبقاه الرجل أكثر مما أخذ فقد خرج عن النهي، فمن باب أولى أن الخزان فوق السطوح أو السخانة في الحمام لا يدخل الماء الباقي فيهما في هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب.

شرح حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) أخرجه مسلم، وفي لفظ له: (فليرقه) ، وللترمذي: (أخراهن أو أولاهن) ] . هذا الحديث من أوسع الأحاديث مسائلاً، وأكثرها اختلافاً، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نشرحه كلمة كلمة، لعل الله سبحانه أن ييسر إيضاح أمره، وبيان الراجح من الخلاف فيه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طُهور إناء أحدكم) هذه الكلمة (طهور) لم يروها البخاري، بل روى الحديث بلفظ: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) ، وفرق بين (شرب، وولغ) فبعض العلماء يقول: الشرب لغير الكلاب والسباع، وهو أن يعب الماء عباً، والولوغ: هو أن يتناول الماء بطرف لسانه، فإذا كان في الإناء شيء يابس كدقيق أو خبز فيقال: لعق، وإذا كان الإناء فارغاً فيقال: لحس. فالولوغ: هو تناول الكلب بطرف لسانه للسائل الذي في الإناء، وهذه طبيعته، والشرب أعم، فإن الشرب ولوغ وزيادة، إذاً: ولغ وشرب ليس بينهما تعارض. وقوله: (طهور إناء) ، أخذ الجمهور من كلمة: (طهور) نجاسة سؤر الكلب؛ لأن التطهير في الشريعة لا يكون إلا من حدث ناقض للوضوء أو موجب للغسل، أو لإزالة النجاسة، والإناء لا يطهر من الحدث؛ لأنه غير مكلف، بل هو جماد، إذاً: المراد طهوره من النجاسة، وهذا ما يسميه علماء الأصول بالسبر والتقسيم، فقالوا: مدلول الطهور يدور حول معنيين: الحدث والنجس، وبالسبر وجدنا أن الحدث ملغي؛ لأنه لا يرد على الإناء، فبقي من القسمين الطهور من النجس، فقال الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إن سؤر الكلب نجس، والغسل منه للنجاسة، وجعلها سبع مرات مع التتريب تأكيداً للطهارة، وعلى كل جزئية من هذه الجزئيات إيراد واعتراض، فـ مالك رحمه الله ناقشهم في عملية التقسيم أولاً، فالجمهور جعلوا القسمة على كلمة: (طهور) قسمين، ومالك قال: هناك قسم ثالث أغفلتموه، ويجب أن تأتوا به، ثم تسبروا المعنى على الأقسام الثلاثة، قالوا: وما هو القسم الثالث؟ قال: الطهور من القذر، وهو موجود شرعاً؛ لأنه جاء في الحديث: (السواك مطهرة للفم) ، وليست فيه نجاسة، وليس فيه حدث، وكذلك جاء في التيمم أنه طهور، ففي الحديث: (فعنده مسجده وطهوره) على القول بأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك إذا وجد قذر في الثوب فإنك تطهره، قال الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، فهل كان على ثيابه صلى الله عليه وسلم نجاسة؟ قالوا: لا، ولكن هذا كناية عن الأعمال، فطهرها من الشرك والصغائر، وبعضهم قال: المعنى أن يكون الثوب نظيفاً نقياًَ. فـ مالك رحمه الله يقول: الأقسام ثلاثة، وبسبرها نسقط الحدث كما أسقطتموه، ونسقط أيضاً النجاسة؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بتطهير الإناء بما تطهر به عامة النجاسات، ووافقه في ذلك أبو حنيفة رحمه الله في مسألة عدد الغسلات والتتريب. إذاً: كلمة: (طهور) أخذ منها الجمهور أن سؤر الكلب نجس، وإذا ولغ في الإناء نجّسه، ويجب تطهيره، بأن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب. ومالك يقول: الأمر بالغسل هنا تعبدي، وليس للنجاسة؛ لأننا وجدنا كلمة (طهور) تستعمل في غير النجاسة، كما أنها تستعمل في غير الحدث، وعلى هذا فـ مالك يقول: سؤر الكلب طاهر، والغسل فيه تعبدي، ولكن ما هي العلة إذن؟ سيأتي كلام المالكية عنها. إذاً: الجمهور يقولون: سؤر الكلب نجس، وينجس الإناء الذي ولغ فيه، وما الحكم عندهم إذا أكل من يابس؟ قالوا: يؤخذ ما أكل منه، والباقي طاهر، كما روي في حديث الفأرة: (إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد وماتت فخذوها وما حولها، وكلوا سمنكم؛ وإذا سقطت في السمن المائع وماتت فلا تقربوه) ؛ لأنه قد تنجس السمن كله، قالوا: وكذلك إذا لعق الكلب من دقيق أو طعام ليس سائلاً، بخلاف ما إذا ولغ من سائل: ماء، أو حليب، أو سمن، وهذا يسمى ولوغاً، ويجري عليه نفس حكم الفأرة. فالجمهور على نجاسة سؤر الكلب، وهل بقية بدنه نجس؟ كما لو أدخل الكلب يده في الإناء وأخرجها، فهل يكون الحكم كالسؤر فيغسل الإناء سبع مرات ويترّب؟ قال البعض: إن الحكم هنا متعلق بالسؤر فقط، والشافعية ومن وافقهم قالوا: إذا كان السؤر نجساً ويغسل سبع مرات مع أنه في الفم؛ فبقية البدن من باب أولى، وقالوا أيضاً: نجاسة سؤر الكلب إنما هو لتحلل لعاب اللسان في السائل، فإذا عرق الكلب فالعرق متحلل من داخل بدنه، فيأخذ نفس الحكم، لكن علماء الحيوان يقولون: الكلب لا يعرق، ولهذا قال الله: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] ، فالكلب يبرد جسمه بأن يخرج لسانه ويلهث، والكلب لا يعرق جلده أبداً، ولهذا فإنه يحتر، فإذا احتر ولم يجد ما يبرد جسمه، فإنه قد ينزل في الماء من أجل التبريد، فإذا لم يجد الماء أخرج لسانه ليبرد من شدة الحرارة، فلو أن الكلب نزل في الماء، وخرج وأصبح مبللاً، أو صببت عليه ماء؛ فلمس إنسان شعر الكلب المبلل، فهل يكون حكمه حكم السؤر أم لا؟ قال الشافعية وغيرهم: كل ما مسه جسم الكلب فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب. وقال البعض: الأمر جاء في السؤر فقط، وما سواه فلا يدخل في ذلك. وأنا أريد إيراد بعض التفريعات في هذا الحديث، وأكثر من مسائله؛ لأنه يصلح لتدريب طالب العلم ودارس الحديث على مناقشة الأحاديث التي ورد فيها خلاف، وأوسع من وجدت تكلم عليه هو ابن دقيق العيد في مخطوطة كتاب الإمام، ففيه أكثر من خمس عشرة صفحة بخط صغير جداً في هذا الموضوع.

كتاب الطهارة - باب المياه [3]

كتاب الطهارة - باب المياه [3] اختلف العلماء في نجاسة الكلب، ونجاسة سؤره، ومن ثم اختلفوا في حكم غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، وفي حكم تتريبه، وكل فريق استدل بأدلة صحيحه، ومعرفة خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلتهم فيها يدرب طالب العلم على استنباط الأحكام الشرعية، ويعلمه احترام رأي المخالفين، وتقدير وجهة نظرهم. أما سؤر الهرة فهو طاهر وليس بنجس؛ لأنها من الطوافين علينا، ويلحق بها كل ما كان يعيش في البيوت بجامع أنها كلها من الطوافين علينا.

خلاف العلماء في نجاسة سؤر الكلب وغسله

خلاف العلماء في نجاسة سؤر الكلب وغسله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فالجمهور على نجاسة الكلب، وعلى أنه يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب للنجاسة، ولكن هل يقاس عليه غيره؟ فبعض الشافعية يلحق الخنزير بالكلب في نجاسته وفي التطهير منه؛ لأن الخنزير أشد نجاسة من الكلب. وهناك من يحكي عن بعض المالكية أن الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب وارد في الكلب غير المأذون فيه، أما الكلب المأذون فيه، وهو ما كان للصيد أو للحراسة أو للماشية؛ فإنه مخالط لصاحبه؛ فليس داخلاً في هذا الأمر، وبقية المالكية على العموم، سواء كان الكلب مأذوناً فيه أو غير مأذون فيه. قال صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) فإذا كان الولوغ في غير الإناء، بأن جاء الكلب إلى بركة أو إلى حوض وشرب منه ولعق، فهل يدخل في هذا الباب؟ قالوا: لا يدخل. وقد جاء أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، فوردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: فإنا نرد على السباع وترد علينا. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة وتردها السباع والكلاب ونحوها، هل يتطهر منها؟ فقال: (لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر) أي: ما بقي. فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك المواطن لا يضرها ولوغ الكلاب فيها، فالذين قالوا بنجاسة سؤر الكلب، قالوا: هذا ماء كثير فوق القلتين، وسنرجع إلى موضوع نجاسة الماء القليل إذا لم تغيره النجاسة، ومن أدلتهم على هذا: أن ولوغ الكلب في الإناء لا يغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو ريح. إذاً: هذا ماء قليل خالطته النجاسة فتنجس ولو لم يتغير، فأمر بإراقته وغسل الإناء، وردوا على مالكاً بهذا؛ لكن مالك لم يسلم لهم بالنجاسة، إنما قال الغسل هنا تعبدي، وسؤر الكلب طاهر.

خلاف العلماء في حكم التسبيع والتتريب

خلاف العلماء في حكم التسبيع والتتريب نأتي إلى مسألة التسبيع، الأحناف رحمهم الله يقولون: لا حاجة إلى التسبيع، ويكفي ثلاث غسلات؛ لأن راوي الحديث أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سئل عن ذلك فقال: (يجزئ ثلاث غسلات) ، فراوي الحديث أدرى بحديثه، لكن لا ندري هل وجد له مخصصاً أو وجد له ناسخاً حتى نأخذ بفتواه دون روايته، والقاعدة عند المحدثين والأصوليين: أنه يأخذ برواية الصحابي لا بفتواه؛ لأن روايته نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتواه اجتهاد منه، ولا يحق له أن يخالف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاد منه، إذاً: التسبيع ثابت. وقال الأحناف أيضاً: لا حاجة إلى التتريب؛ لاضطراب رواية التتريب؛ فقد جاء: أولاهن، أخراهن، إحداهن، السابعة، الثامنة، قالوا: وهذا اضطراب في الرواية فيسقط التتريب. وأجاب الجمهور بأن تعدد الروايات لا يدل على نفي التتريب بالكلية، بل يؤكد وجوده؛ ولكن الخلاف في الأولى أو في الأخيرة هذا شيء آخر، ولكن تلك الروايات تثبت التتريب؛ فيتعين التتريب. إذاً: هذا عرض لهذا الحديث وجزئياته، ولن نستطيع أن نستوفي كل ما يمكن أن يقال في ذلك، ولكن هذا تمهيد وبيان وتدريب لطالب العلم على دراسة الحديث الذي تتفرع عنه المسائل العديدة، ومعرفة وجهات النظر، وكان الأحرى أن يسوقه المؤلف في باب إزالة النجاسة، ولكنه ساقه هنا تأييداً لرأي من يقول: إن الماء القليل -كالإناء الذي ولغ فيه الكلب- ينجس ولو لم يكن هناك تغير في لون أو رائحة أو طعم؛ لأنه أمر بإراقة الماء وغسل الإناء مع عدم ظهور التغير فيه.

الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية

الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية وبعض المالكية يقول: إن الأمر بإراقة الماء وغسل الإناء، وتسبيعه في التغسيل، وتتريبه بالتراب في إحداهن: أولاهن، أو أخراهن السابعة أو الثامنة -كما قال الحسن البصري - أمر تعبدي، وليس من باب تطهير النجاسات، وما هو الأمر التعبدي في ذلك؟ قالوا: سبب غسل الإناء من سؤر الكلب وإراقة الماء وتطهير الإناء بعد إراقته أمر طبي لصحة الإنسان؛ لأن الكلب يصاب بداء الكَلَب، وداء الكَلَب ينتقل من الكلب إلى الإنسان إذا عض الإنسان، أو تناول إنسان بعده من سؤره، فتنتقل جرثومة داء الكَلَب من الكلب إليه، ويصير مسعوراً مثل الكلب، قالوا: فأمر بإراقة الماء حتى لا يشربه أحد، وبتطهير الإناء حتى لا تبقى آثار الجرثومة في الإناء. ورد عليهم الجمهور بأن الكلب الكلِب لا يشرب الماء، وإذا شرب الماء وولغ فيه فليس مسعوراً، ورد عليهم المالكية وقالوا: إن الكلب قد يصاب بالداء ولا تظهر عليه آثاره إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعند ذلك تتكاثر فيه الجرثومة، وتظهر آثارها عليه، وحينئذ لا يقرب الماء، والشرع المطهر عمم الحكم فيما كان مصاباً ولم تظهر أثر الإصابة عليه ومالم يصب بشيء، سداً للباب. ثم نأتي إلى مسألة التتريب، نجد في بعض الأبحاث الطبية الحديثة أنه لا يمكن للمطهرات الكيميائية أن تقضي على داء الكلب، ولا يقضي عليه غير مادة موجودة في التراب تسمى: (فلورين) ، وهذه المادة متوافرة في التراب، فإذا أضيف التراب إلى الإناء مع الماء فإنها تقضي على هذه الجرثومة نهائياً، فوجدنا في الطب الحديث أن هذه المادة (الفلورين) تقضي على داء الكلب، وقد جاء الأمر بإراقة الماء الذي شرب منه الكلب وغسل الإناء سبعاً مع التتريب، ووجدنا أن الكلاب كانت تغدو وتروح في المسجد النبوي، ولم نجد الأمر بغسل آثار الكلب في الصيد، وهذه أدلة المالكية في قولهم بأن سؤر الكلب ليس نجساً؛ والغسل فيه تعبدي. وأضافوا إلى ذلك -من باب التدعيم القولي بكل صغيرة وكبيرة- أن عدد السبعة يأتي في الطب كثيراً، مثل حديث: (من تصبح بسبع تمرات) ، وحديث: (أريقوا عليه من سبع قرب من سبعة آبار) ، أي: في دواء الحمى، فقالوا: عدد السبعة داخل في الطب؛ ولهذا أمر بغسل الإناء سبع مرات وأضيف إليه التراب. وبعض من يقول بالنجاسة قالوا: لا حاجة إلى التراب مع الغسل سبع مرات، فلو غسل بالصابون والأشنان ونحو ذلك فإنه يجزئ، وهذا قول عند الحنابلة، لكن رد عليهم بأن الحديث نص على التراب، فقالوا: هذا نظيره في النظافة، والصابون والأشنان منظفان، قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: يجاب على هذا بأنه فاسد الاعتبار، وأي قياس يعارض النص فلا يعتبر؛ لأن النص في التراب، وقالوا: إن التراب أحد الطهورين، فيجمع للإناء بين طهور الماء وطهور التراب، وقال ابن دقيق العيد قاعدة: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال كان الفرع باطلاً، وذلك مثل قصة الخضر مع موسى عليهما السلام لما قتل الخضر الغلام: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] ، ثم قال الخضر: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80-81] ، فهذا الولد فرع، وهذان الأبوان الصالحان أصل، فحفاظاً على صلاح الأبوين أبقي على الأصل، وقدما على الفرع، وقتل الفرع حتى لا يفسد الأصل؛ وهكذا إذا كان الفرع يعود على الأصل بالبطلان كان الفرع باطلاً، ونحن نشاهد هذا حتى عند الفلاحين، فلو أن شجرة برتقال صغيرة أثمرت كثيراً، فيرى صاحب البستان أنه لو تركت ثمار البرتقال على هذه الشجرة الصغيرة لكسرت أغصانها ولم تحتملها الشجرة، ولذلك يخفف الثمار حتى لا تتحطم أغصان الشجرة، ويتلف بعض الفرع إبقاءً للأصل، وهكذا هنا، فلو جعلنا الأشنان فرعاً عن التراب لأبطلنا التراب، فيكون الفرع مقدم على الأصل، إذاً: هذا الفرع باطل، أما لو قيل: نضيف الأشنان مع التراب فلا بأس؛ لأننا حافظنا على الأصل، وأضفنا إليه غيره.

أدلة المالكية على طهارة سؤر الكلب

أدلة المالكية على طهارة سؤر الكلب وقد استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) ، والطهور يكون من نجس أو من حدث، لكن مالكاً ناقشهم بالسبر والتقسيم، وقال: هناك قسم ثالث، وهو الطهورية من القذر، ولكن هذا استنتاج، فما هو الدليل عندك -يا مالك - على أن سؤر الكلب طاهر؟ قال: إن الأصل في الحي الطهارة، فكل حي طاهر عند مالك، كما أن الأصل أن كل حيوان ميت فهو نجس، وهذه قاعدة في الحياة وفي الموت. واستدل مالك بالنص القرآني الكريم، فإن المولى سبحانه وتعالى لما سأل السائلون: ماذا أحل لهم؟ قال: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] ، قال مالك: فكلب الصيد يذهب ويمسك الصيد لصاحبه، ولم نجد الأمر بغسل موضع عض الكلب للصيد، وليس هو مجرد ولوغ، بل هو عض بفمه كله على الصيد، فلم يؤمر صاحب الكلب المعلم أن يغسل موضع عض الكلب للصيد، لكن قال الجمهور: هذا الموضع يقطع ويرمى، ولو لم يرمَ فسيشوى في النار، والنار تحيل النجاسة إلى طهارة، فقال مالك: النار أذهبت المعنى التعبدي الذي أمر بالغسل من أجله، قالوا: وما هو الأمر؟ قال: الأمر صحي، وسيأتي بيانه إن شاء الله. واستدل المالكية بصنيع البخاري في صحيحه، وهو وإن لم يصرح بمذهبه، فإنه يدل على ميوله إلى مذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه ساق أربعة أحاديث يفهم من مجموعها عدم نجاسة سؤر الكلب، منها حديث كلب الصيد، ومنها: (كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وما الفائدة من هذا الحديث الذي يسوقه البخاري في كتاب الطهارة؟ قال السيوطي: إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في صحيحه أكثر من دلالتها في غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه، وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده حديث في معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى تحت الباب ولا يسوق الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى ويأتي بحديث في الظاهر أنه بعيد جداً، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا البخاري بوب: كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في عام الوفود سنة تسع كان صلى الله عليه وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف في السنة التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم، ويروا تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا جميعاً، قال البخاري: كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة الأرض فإن لسانه يلهث أيضاً، فلا بد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي، ولا أمر بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب نجساً لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر به. وكذلك استدل المالكية بقضية كلب الصيد على أن سؤره ليس بنجس. إذاً: الخلاف على هذا النحو: مالك يرى طهارة سؤر الكلب، والجمهور يرون النجاسة، وكلٌ يستدل بما تقدم.

حكم سؤر الهرة

حكم سؤر الهرة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة] . من فقه المؤلف رحمه الله تعالى أنه ساق حديث اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، ثم ما يتعلق بسؤر الكلب، ثم هنا ما يتعلق بسؤر الهرة، وهذا يناسب باب إزالة النجاسات؛ ولكنه ساقه هنا في باب المياه تتمةً لمسألة قليل الماء إذا لاقته نجاسة ولم تغيره، فالإناء ماؤه قليل، وولوغ الكلب فيه -على نجاسة سؤره- لم يغير من أوصافه شيئاً، وقد أمرنا بإراقة الماء وغسل الإناء، فعلى القول بنجاسته يكون الماء القليل قد تنجس بالنجاسة وإن لم تغير أحد أوصافه. ثم لملابسة الهرة للناس في بيوتهم أتبع خبر الكلب بخبر الهرة؛ لجامع أن الكل يخالط الإنسان، ويستدعي الواقع بيان الحكمين، فكما بين سؤر الكلب يريد أن يبين سؤر الهرة، فذكر حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وسبب هذا الحديث: أن زوجة ولده وضعت له ماءً في إناء ليتوضأ، فجاءت هرة وأرادت أن تشرب من ذلك الماء، فأصغى أبو قتادة الإناء للهرة، أي: أماله حتى تستطيع أن تشرب منه، فلما رأت تلك المرأة فعل أبي قتادة تعجبت! وكأنها تستبعد أن يتساهل حتى يسمح للهرة أن تشرب من ماء يتوضأ منه، فلما رأى ذلك قال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم، أعجب من فعلك! وكأنه رأى في قسمات وجهها علامات التعجب، وهذا من الفراسة أو من الذكاء حينما تنظر لإنسان وتعرف أنه فرحان، أو غضبان، أو يتعجب، أو يستنكر، فقسمات الوجه تدل على نفسية الإنسان، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الهرة: (إنها ليست بنجس) ، يعني: وما دام أنها ليست بنجس وهي تريد أن تشرب فاسقها، (إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) . يقول العلماء في فقه هذا الحديث: سؤر الهرة ليس بنجس، وبعضهم يقول: نجَس ونجِس هما بمعنى واحد، وبعضهم يقول: نجَس -بالفتح- في النجس المعنوي، ونجِس -بكسر الجيم- في نجس العين كالعذرة ونحوها، والذي يهمنا أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه أخبر زوجة ولده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة: (إنها ليست بنجَس) . وهل هي ليست بنجَس بسبب أنها من الطوافين، أم أنها في الأصل نجسة ولكن لما كانت من الطوافين خفف عنا وعفي عن نجاستها لمخالطتها إيانا؟ هذه المسألة يبحثها العلماء. والطوّاف: هو الذي يطوف في الحي، وقيل: الذي يطوف على صاحب البيت بالخدمة، كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، وقيل: الطوّاف: الذي يقوم بخدمة من في البيت، وشبهت الهرة بالخدم الذين يطوفون على أهل البيت لأجل المخالطة، فلا يمكن أن تحترس من الهرة في البيت. قال بعض العلماء: إنها ليست بنجس في ذاتها، وزيادةً على ذلك فهي من الطوافين والطوافات. وقال بعضهم: أصلها نجسة، ولكن خفف عنا بسبب أنها طوافة علينا، ولا يمكن الاحتراز منها. ويفرعون على ذلك: لو أننا وجدنا الهرة أكلت فأراً، وبقايا لحم الفأر ودمه على فمها، وشربت من الإناء، فهل نقول: إنها ليست بنجس لأنها من الطوافين، أم نقول: إننا شاهدنا نجاسة خارجة من فم الهرة وقعت في الإناء؟ نقول: هي ليست بنجس، ولكن جاءت بنجاسة، والعبرة بما جاءت به.

الرفق بالحيوان

الرفق بالحيوان وفي الحديث موضوع اجتماعي أو جانب عاطفي، وهو ما يسمى بالرفق بالحيوان، وينبغي أن يعلن للعالم كله أن الإسلام سبق أهل العالم المحتضر! -وليس المتحضر بل المحتضر! - فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية، سواء حقوق الإنسان، أو الرفق بالحيوان، وقد جاء حديث آخر أصرح من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ويقابل هذا حديث: (كانت بغي من بني إسرائيل تسير في الطريق، فاشتد عليها العطش، فوجدت بئراً، فنزلت وشربت، فلما صعدت وجدت كلباً يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد لحقه من العطش مثل ما لحقني، فنزلت إلى البئر وأخذت خفها أو موقها وملأته بالماء، وخرجت به وأصغته إلى الكلب فشرب، فشكر الله لها فدخلت الجنة) ، (شكر اللهَ لها) أي: أن الكلب شكر الله لها أن سقته لوجه الله، أو (فشكر اللهُ) : لفظ الجلالة فاعل الشكر، أي: شكر الله لها صنيعها في الكلب والرفق به. إذاً: بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرفق بالحيوان حتى في الهرة، فالإنسان من باب أولى، فمن وجبت عليه مئونة إنسان ومنع عنه الطعام، أو قصر فيما يجب عليه مع اليسار، فيخشى عليه من عذاب النار، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإحسان إلى الخدم، وإذا أتاك خادمك بالطعام فإن لم تجلسه يأكل معك فأطعمه منه، فقد عالجه وتطلعت إليه نفسه، فانظر إلى النواحي النفسية؛ فالطاهي الذي صنع لك الطعام وأتاك به بكامله، لا تستأثر بالطعام وحدك، وتقول له: اذهب، وابحث لك عن شيء آخر لتأكله! بل إما أن تجلسه معك، وهو أخوك، فلا تستأنف من ذلك، ولا تخشى من تعويده، أو غير ذلك، بل أطعمه منه، وكما يقول العوام: اتق عينه، فهذا الطعام قد تعلقت نفسه به، فخف على نفسك من النظرة. إذاً: أبو قتادة رضي الله تعالى عنه أصغى الإناء للهرة، وهذا فعل من أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، ولم يرفع هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يقول: هذا موقوف وهو من فعل الصحابي؛ ولكن أبو قتادة رفع قوله: (إنها ليست بنجس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث في باب المياه ليبين أن الهرة إذا طافت بالبيت وشربت من الماء أو أكلت من الطعام فإنها ليست بنجس؛ لكن لو شاهدنا على فمها أثر نجاسة، فيكون الحكم للنجس الذي شاهدناه.

حكم اقتناء الكلب قياسا على الهرة

حكم اقتناء الكلب قياساً على الهرة توسع بعض العلماء في هذا الحديث، كـ ابن دقيق العيد في كتابه المخطوط الذي أشرنا إليه، وذكر هل يقاس الكلب على الهرة بعلة الطوافين والطوافات؟ يحكي بعضهم عن بعض المالكية أن كلب البادية بالنسبة إلى أهل البوادي من الطوافين والطوافات، فيقيس هذا الكلب على الهرة، ولكن النص جاء في عموم الكلاب، ولم يفرق بين كلب أعراب وكلب حضر، ولا كلب بوادي وكلب حواضر. وبعض المالكية يخصص الكلب المأذون في اقتنائه، وهو كلب الصيد والحراسة والماشية، ولكن الجمهور لم يلتفتوا إلى ذلك، وقالوا: نحتاج إلى معرفة تاريخ الترخيص في اقتناء الكلب، وتاريخ حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولا نجد دليلاً يبين المتقدم من المتأخر؛ حتى يكون التخصيص من المتأخر للمتقدم، إذاً: نأخذ بعموم اللفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) ، و (أل) هنا للاستغراق، وليست عهدية، وعلى هذا يكون حديث الهرة تابعاً لمباحث المياه؛ لأنه من الملابسات الموجودة. وهنا مسألة: وهي أن البيوت في الأرياف يوجد فيها حيوانات غير الهرة من الطوافين والطوافات، فحكمها حكم الهرة، ومأكول اللحم لا يدخل في هذا الباب، فإنه طاهر حتى بوله، مثل الأرانب والغنم والدجاج. فمن الحيوانات التي تلحق بالهرة: الفئران، وابن عرس، وبعض الناس يسمونه: (العرس) ، وهو حيوان أكبر من اليربوع ومن الفأر، وأصغر من الهرة، ويقولون: ليس فيه عظام، ولو ضربته بحديدة فإنه لا يموت، لكن لو ضربته بعرجون النخلة فإنه يموت، فهذه حيوانات تعيش في بعض الأرياف أو في البيوت العادية، فإذا شربت من ماء في البيت مكشوف، فهل سؤر تلك الحيوانات طاهر أو نجس؟ بعلة الطوافين والطوافات يكون الماء طاهراً، وهذا مما يلحق بالهرة بالقياس؛ بجامع علة الطواف، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب المياه [4]

كتاب الطهارة - باب المياه [4] من الأحاديث المتعلقة بباب المياه: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وقد ذكر في هذا الباب لبيان أن الماء القليل إذا صب على النجاسة فإنه يطهرها، ولا يتنجس الماء؛ لأن الماء الذي أريق على بول الأعرابي كان قليلاً، ومع ذلك تطهرت به النجاسة. ومن أحاديث باب المياه: حديث حل السمك والجراد والكبد والطحال، فلو سقطت هذه الأشياء في الماء فإنها لا تنجسه؛ لأنها لا تعد في حكم الميتة ولا في حكم الدم المسفوح النجس.

شرح حديث الأعرابي الذي بال في المسجد

شرح حديث الأعرابي الذي بال في المسجد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) متفق عليه] . حديث الأعرابي هذا يعطينا درساً عملياً في سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي معرفة طبيعة البشر، واختلاف العادات في البادية والحاضرة، ومراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسيات البشر، والمبادرة من الصحابة في إنكار المنكر، وأنه يجب أن يأمر الآمر بالمعروف بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر بغير المنكر، وسيأتي بيان ذلك في شرح هذا الحديث. جاء هذا الأعرابي، وكان المسجد مبنياً من الجريد وجذوع النخل، فأناخ ناقته على باب المسجد ودخل، ثم تنحى جانباً وبال فيه! لقد رأى عريشاً وجذوع نخل فظنه من ضمن الحضائر الموجودة في البادية للحيوانات، فلما حضره البول بال فيه. ومن هنا يستحب الفقهاء بناء الحمامات بجانب المساجد؛ لأن هذا الأعرابي حضره البول وضيق عليه، ولم يجد مكاناً ليبول فيه، فنظر إلى حالة المسجد، فترك الناس في جانب وذهب إلى جانب آخر، وجلس يبول، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم نظروا هذا المنكر فاستنكروه، ولو رأى الناس رجلاً متضايقاً خرج منه الريح في المسجد لاستنكروا ذلك منه استنكاراً شديداً، مع أنه ريح ذهب في الهواء وما حصل شيء، لكن الصحابة رأوا الرجل يبول في المسجد فبادروه بالإنكار بصورة منكرة حتى أفزعوه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تدارك الأمر، وقال: (لا تزرموه) أي: لا تحبسوا البول عليه؛ لأن هذا يضر بالمثانة والعضلات القابضة، وقد يحدث عنده سلس البول، فتركه حتى قضى بوله، وكما يقال: الخطأ قد وقع، وما هو الحل لتدارك هذا الخطأ؟ لو كان قبل أن يبول فسنقول: اذهب إلى مكان آخر، لكنه قد جلس وبدأ في البول، ونحن الآن بين أمرين: إما أن يكمل ما بدأ فيه من خطأ، ويستمر في خطئه، وإما أن نمنعه مما قد بدأ فيه، وهنا تتقابل مضرتان: مضرة استمراره على بوله، في المسجد، ومضرة ما يمكن أن يلحقه في صحته من مرض، وحينما يزجرونه ويطردونه وهو لم يقض بوله، إذا لم يستطع حبس البول فسيقوم وهو يبول، وسيقع البول على أماكن كثيرة، فبعد أن كان البول محصوراً في منطقة صغيرة سيصير في مكان كبير من المسجد، فالمصلحة أن نرتكب ما هو أخف ضرراً دفعاً لما هو أكبر ضرراً، فتركه على ما هو عليه؛ لأنه قد بدأ في خطئه، ودفعه يأتي بخطأ أكبر، ومن هنا يقول العلماء: بنبغي ارتكاب أخف الضررين، فكونه يكمل بوله فيه ضرر، وكوننا نمنعه فيه أيضاً ضرر، وأي الضررين أشد وأيهما أخف، فنرتكب أخف الضررين دفعاً لأشد الضررين، فمن الحكمة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوه لا تزرموه) ، فأكمل بوله على مهله. ولما انتهى من بوله جاءت الحكمة النبوية، فكيف نتدارك هذا الخطأ الذي وقع من شخص جاهل لا يعرف أحكام المساجد؟ فلابد أن نتدارك الأمر، فبوله نجّس المكان، وعلاج القضايا يكون من جذرها، إذاً: نطهر المكان؛ ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، والذنوب هو الدلو الكبير، ولا يكون الدلو ذنوباً إلا إذا كان مليئاً بالماء، فجيء به وأريق على مكان البول، وانتهت المشكلة، ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه المساجد لم تبن لهذا، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، وهذا الأعرابي رجل عاقل، وجد الفرق بين معاملة الصحابة له وبين معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام له، وحسن تعليمه، فلما رأى الفرق رفع يديه وقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً؛ لأنه ما رأى من الصحابة رحمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء، وليست لي ولك فقط. إن هذا رجل أعرابي يجهل أحكام المساجد، فعلى فطرته وجبلته رأى بناء المسجد ولم يهتم به، إذاً: علينا أن نهتم بالمساجد، وحضره البول ولم يجد مكاناً يبول فيه، إذاً: علينا أن نؤمّن دورات المياه عند المساجد، وسيأتينا -إن شاء الله- حديث: (أمر صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في البيوت وأن تطيب) ، وفي رواية: (وأن تبنى لها الميضآت أو المطاهر) ، ويستحب الفقهاء أن يكون بجانب المسجد الميضآت؛ لحاجة الإنسان للوضوء، فهذه الفوائد نأخذها من هذا الحديث، فدراسة الحديث فيها فوائد مستنبطة وليس كالفقه قواعد وقوانين منضبطة، لا تدخل في الاجتماعيات ولا في الأمور الأخرى، فالحديث يؤخذ منه الشيء الكثير.

عناية الإسلام بالمساجد

عناية الإسلام بالمساجد وقد اعتنى الإسلام -كما في كتب الحديث والفقه بل وفي القرآن الكريم- بالمساجد أيما عناية، فقال الله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125] ، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ} [النور:36] أي: ترفع حساً ومعنى، وقال صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وفي الحديث الآخر: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد فمرضت، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا ماتت فآذنوني، فماتت بالليل فقبروها ليلاً ولم يخبروا رسول الله بها لئلا يزعجوه، فقال: دلوني على قبرها) ، ولماذا قال: دلوني على قبرها؟ لخدمتها لمسجد رسول الله، والإسلام لا ينظر إلى الألوان، ولا إلى الأجناس، ولا إلى الصفات، فهي امرأة ولم تكن رجلاً، وكانت على هذا الوضع، ولكن كرمها الإسلام بخدمتها للمسجد. ولما رأى عليه الصلاة والسلام النخامة في جدار القبلة حكها برداءه. إذاً: العناية بالمساجد في الإسلام كبيرة جداً، وقد كثرت في ذلك النصوص. وأول ما بني مسجد رسول الله قال: (عريش كعريش أخي موسى) ، وكان من جذوع النخل وجريده، وما بني بالحجارة والطين إلا بعد عودته صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأنه كثر الناس وضاق المسجد على أهله، فوسع فيه للحاجة، وهكذا فعل عمر رضي الله تعالى عنه ومن بعده.

مناسبة حديث الأعرابي لباب المياه

مناسبة حديث الأعرابي لباب المياه لقد ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب المياه، وهو صالح أن يكون في باب إزالة النجاسة، وصالح أن يكون في باب المياه، فلماذا أتى به في باب المياه؟ أتى به ليبين أن هذا بول رجل، وهذا ذنوب من ماء، فلو قدرنا أن الذنوب من الماء قدره (12 لتراً) ، وقدرنا أن بول الأعرابي نصف لتر، فستكون نسبة البول إلى الماء واحد إلى أربعة وعشرين، وهذا الذنوب في حدود القلة؛ لأن الذين قالوا بالكثرة والقلة حددوا الكثرة بقلتين من قلال هجر، والقلة قربتان، والقربة خمسمائة رطل، فستكون القلة ألف رطل، والآخرون قالوا: عشرة أذرع في عشرة، إذاً: هو في حدود القليل بالنسبة لمن حدد الماء بالكثرة والقلة، فهذا الماء في حدود القلة، وقد أريق على بول الأعرابي لتطهير النجاسة التي أحدثها بول الأعرابي في أرض المسجد، وتطهرت الأرض بالذنوب. إذاً: هذا ماء في حدود القلة، وطهرت به الأرض من نجاستها، فيكون الماء القليل قد طهّر النجاسة وهو لم يتنجس، بمعنى: لو أن ماء الذنوب حينما لاقى البول على الأرض تنجس؛ فلن يطهرها؛ لأنه صار نجساً. وإذا كانت الأرض رخوة تشرب الماء، فهل نصب الماء تدريجياً بحيث تشرب الأرض الصبة الأولى فتخف نسبة البول في طبقة الأرض العليا، ثم نصب مرة ثانية فتذهب نسبة البول في التربة أكثر، ثم نصب مرة ثالثة فتذهب أثر البول بالكلية، ثم نصب بقية ماء الذنوب وقد طهرت التربة، ويكون الذنوب قد طهر التربة؟ أم نصب الماء مرة واحدة حتى ينتهي ماء الذنوب ويتلاقى الجميع على الطبقة الأولى من التربة؟ قالوا: الحديث ليس فيه تفصيل لسكب الماء صبة بعد صبة، وهل الأرض تتشرب أو لا تتشرب، فإذا صب الذنوب مرة واحدة على موضع البول وتشربته الأرض فقد طهرت، ولكن الأول أدعى لطهارتها أكثر. وإذا كانت الأرض صلبة ليست رخوة تتشرب الماء فماذا نفعل؟ هل نأتي بالذنوب ونسكبه عليها؟ فلو بال أحد في الرخام، وجيء بماء ربع لتر، وصب على البول الذي في الرخام، فسوف تتسع النجاسة، ولو ترك البول لكان في مساحة مترين أو ثلاثة، فلو صببنا الذنوب فإنه سوف يوسع الدائرة حتى تصل إلى عشرين متراً مثلاً، فالطريقة المثلى لتطهير البول عندما يحصل من الأطفال أو من بعض العجائز المرضى: أن يؤخذ حالاً بالأسفنج ويفرغ في إناء، ثم يصب الماء الطاهر من الإبريق على الرخام، وينشف بالأسفنج، ثم يغسل في الطست، وكأنه يغسل إناءً من النحاس أو غيره، ولا يصب الذنوب حتى يتسع الأمر. ومن هنا فرأي الجمهور أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة في التربة يطهرها، والأحناف يروى عنهم أنهم يقولون بنقل التربة، ويذكرون في ذلك حديثاً، ولكن الأئمة رحمهم الله وعلماء الحديث لا يثبتون سند هذا الحديث، وهو أن تحفر التربة وتنقل، ثم بعد ذلك يصب الذنوب، وأجاب الجمهور عن ذلك أنه إذا حفرنا التربة وأخذنا التراب المتنجس فليس هناك حاجة إلى صب الماء وقد نقلنا التراب المتنجس. والمالكية الذين قالوا بعدم تحديد الماء بقليل أو كثير وإنما العبرة بالأوصاف، قالوا: هذا ماء قليل طهر النجاسة ولم ينجس، والجمهور قالوا: ليس لكم دليل على هذا، وهناك فرق بين ملاقاة الماء للنجاسة، وملاقاة النجاسة للماء، فما الفرق بينهما؟ فمثلاً: إذا كان هناك طست فيه ماء، فوقعت النجاسة في الماء، فهذه ملاقاة النجاسة للماء، لكن إذا كان هناك ثوب متنجس، فجئت بالماء وصببته على محل النجاسة في الثوب، فهذه ملاقاة الماء للنجاسة، والفرق بينهما: أنه حينما تلاقي النجاسة الماء تتلاشى فيه أجزاؤها، ويبقى الماء حاملاً للنجاسة، لكن حينما يلاقي الماء النجاسة، فكلما جاء جزء من الماء على النجاسة تلاشت أمامه، ويستمر الصب على النجاسة من هذا الماء الذي خالط النجاسة في مكانها، فهو تنجس بها لكنه يزيلها ويخفف أثرها، إلى أن تأتي آخر دفعة من الماء على محل النجاسة وقد انتهت منه النجاسة وانمحت وذهبت مع الماء السابق. إذاً: أول الماء عند ملاقاته للنجاسة يكون مختلطاً بها، وحكمه حكم النجاسة، لكن آخر الماء -ولو كان لتراً واحداً- لا يأتي لمحل النجاسة إلا وقد زالت النجاسة، وقد يبقى في المكان آثار لا ترى بالعين ولا تشم بالأنف، فيكون آخر الماء قد أذهب آثار النجاسة في المحل، ولم تؤثر النجاسة في الماء. إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله دليلاً لمذهب من لا يرى التحديد بكثرة أو قلة، ولكن الذين يرون التحديد قالوا: فرق بين ملاقاة النجاسة للماء، وملاقاة الماء للنجاسة، وقالوا: نحن نعارض في ملاقاة النجاسة للماء، ولا نعارض في ملاقاة الماء للنجاسة.

الحكمة في إنكار المنكر

الحكمة في إنكار المنكر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رأوا منكراً فبادروا بالإنكار، فبعض العلماء يقول: كيف يبادرون بالإنكار والرسول موجود؟! لماذا لم يسألوا رسول الله؟! والرسول رآه كما رأوه هم، فهل هذا من باب: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ؟ وهل يجوز لهم أن يتقدموا بالإنكار على هذا المنكر بين يدي رسول الله وهم لم يستأذنوه؟ الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم وقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) ، وهذا الأعرابي فعل منكراً، فهم عندهم إذن بتغيير المنكر، ولكن لم يأتوا بالطريقة الحكيمة التي كان ينبغي أن ينصح بها هذا الأعرابي، ويراعى لجهالته. على كل داعية، وعلى كل مسلم إذا رأى منكراً أن ينظر إلى جوانب متعددة، ويتبع البصر بالبصيرة، فينظر ماذا يترتب على هذا المنكر لو أنكره: هل سينتهي أم سيأتي منكر أشد؟ فإن كان سينتهي فليغيره بيده أو بلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، فإن علم بخبرته أو ببصيرته أن الإنكار لهذا المنكر سيأتي بمنكر أكبر، فيكتفي بالأقل، ولا يزيد المنكر منكراً، وعلى هذا قالوا: إن مبادرة الصحابة بين يدي رسول الله ليست تقدماً على بين يدي رسول الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على إنكار المنكر، ولكنه أنكر عليهم الطريقة التي أنكروا بها، فقال: (لا تزرموه) يعني: علموه برفق؛ لأنه جاهل، ثم دعاه صلى الله عليه وسلم وأخبره برفق أن المساجد بنيت لذكر الله وما والاه.

شرح حديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان.

شرح حديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد) أخرجه أحمد وابن ماجة، وفيه ضعف] . ما علاقة هذا الحديث بباب المياه؟ ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث هنا ليبين حكم ما لو سقطت هذه الأشياء في الماء أو ماتت فيه، فهل تفسد الماء أم لا تفسده؟ كما أنه ساق حكم سؤر الهرة إذا شربت من الماء ليبين هل تفسده أم لا تفسده؟ وهنا ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت) ، وهذا فعل مبني للمجهول، والذي أحل هو الله سبحانه وتعالى. وقوله: (لنا) هل هو خاص بالأمة أم يشاركها غيرها؟ ظاهر النص أنه خاص بالأمة. وقد تقدم التنبيه على الحوت في حديث: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، لكن هنا التنصيص على: (الحوت والجراد) ، فلفظ الحوت استدل به الأحناف على أنه لا يحل من ميتة البحر إلا السمك لهذا الحديث: (أحلت لنا ميتتان) ، وذكر أن أحد الميتتين الحوت، وأجاب الجمهور عن هذا بحديث العنبر الذي انحسر عنه البحر، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يعطوه منه. ويهمنا في هذا الموطن أن الحوت إن وجد ميتاً فهو حلال عند الجمهور، وقد تقدم التفصيل في ذلك عند الأحناف رحمهم الله، فعندهم إن طال زمن موته حتى طفا على وجه الماء، فإنهم يكرهون أو يمنعون أكله، لا للتحريم ولا رداً للحديث، ولكن لطول زمن موته حتى طفا على وجه الماء، فإنه يكون فيه مضرة على الآكل، ونحن نهينا عن تناول ما يضر الإنسان. وميتة الجراد حلال، قال المالكية: إذا أخذته حياً فيجب أن تُعمل السبب الذي يميته حتى يحل لك، وما هو السبب؟ قالوا: مثلاً: تأخذه في كيس وهو حي، وتغمسه في الماء حتى يموت، فهذا سبب من عندك في إماتته، فيحل لك. وقوله: (وأما الدمان: فالكبد والطحال) بعض السلف كره الطحال، كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه، ولكن ليست كراهية من جانب الشرع، بل قد يكون من جانب الصحة؛ لأن لحم الطحال ليس كالكبد، فالكبد غذاء صالح لكل إنسان، ويستعمل رطباً ويستعمل جافاً، فالكبد قد يجفف للرحلات الطويلة حينما يقلّ الطعام، فيؤخذ ويشرّح ويترك في الظل حتى ييبس، ثم يسحق حتى يصير مثل الدقيق، ثم يحفظ، وعند الحاجة يؤخذ منه قليل يصب عليه الماء الحار، فإذا به غذاء طبيعي يشرب من هذا الخليط. أما الطحال فمهمته تصفية الدم، فهو يتشبع بفضلات الدم الفاسدة، ويحولها إلى الجسم بعد تصفيتها، فهو بمثابة المرشح للدم في الجسم، وبسبب اختزاله لفضلات الدم غير الصالحة في دورة الدم؛ فإن طبيعته غير خالصة في الغذاء كخلوص الكبد، لكن من طابت نفسه لأكله فليأكله وبعض الأطباء يقولون: كل عضو في الحيوان يصلح لنظيره في الإنسان، فمثلاً: لو أن إنساناً مريضاً بالكبد أكل من كبد الحيوان فإنه يكون أنفع له، ولو أن مريضاً بالطحال أكل طحال الحيوان لكان أنفع له، ولو أن مريضاً بالرئة أكل رئة الحيوان لكان أنفع له، إلى غير ذلك مما يذكرونه.

طهارة الكبد والطحال

طهارة الكبد والطحال والذي يهمنا هو طهارة الكبد والطحال مع تحريم الدم، يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، والدم المحرم هو الدم المسفوح الذي يسفح ويجري، والكبد دم منعقد وليس مسفوحاً كالدم الذي يخرج من العروق، وكذلك الطحال، فهذان الدمان أحلا لنا، وكذلك الحوت والجراد، فإذا جاء رِجْل من جراد -والرجل يطلق على المجموعة من الجراد التي تزحف- ونزلت على بركة ماء، ثم ماتت فيها وغيرت رائحتها أو لونها، فهل تنجس هذا الماء أم لا تنجسه؟ لا تنجسه؛ لأن الجراد طاهر.

حكم تغير الماء بالمجاورة

حكم تغير الماء بالمجاورة إذا تغير الماء بمجاور له غير مخالط فهو طهور على الأصل، فمثلاً: لو كان على حافة بركة أو غدير شجر يتساقط منها الورق في الماء، والماء راكد، فتحلل الورق وتعفن فيه حتى أثر في الماء برائحة، فهذا يسمى تغير بمجاور؛ لأنه لم يذب في الماء ذوبان الملح والدقيق، ومثله لو وجد على حافة الغدير حيوان ميت، وطلعت رائحته ومرت على الماء، والتقط الماء رائحة هذا الحيوان الميت، فالميتة نجسة، وهذا الريح ظهر في الماء، فهذا تغير بمجاور وليس بمخالط، فهو باقٍ على طهوريته، وهكذا لو أن ماءً طال الوقت عليه سنة أو أكثر أو أقل، ومن طول المكث نبت فيه الطحلب، وجرت فيه الضفادع، وتغير لونه، وصارت التربة طيناً آسناً، فتغيرت رائحته؛ فهو طهور؛ لأنه لم يتغير بشيء من الخارج، بل بطبيعته في مكانه. والمؤلف رحمه الله ساق حديث الميتتين والدمين لبيان حكم لو خالط شيء من هذه الأصناف الأربعة الماء، فإنه لا يسلبه الطهورية، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب المياه [5]

كتاب الطهارة - باب المياه [5] يعتبر حديث الذباب من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيه أنه إذا سقط الذباب في الإناء فليغمس، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وهذا هو ما أثبته العلم الحديث، وفي هذا الحديث بيان أنه إذا وقع الذباب في الماء أو الشراب ومات فيه فإنه لا ينجسه.

شرح حديث الذباب

شرح حديث الذباب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) ] . هذا الحديث مشهور عند العلماء بحديث الذباب، ويرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) ، وفي رواية: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) ، والمعنى العام لهذا الحديث: أن الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يرشدنا إلى حكم ما لو وقع الذباب في الشراب؛ لأن جبلة الإنسان تعافه؛ لقذارة الذباب، فإنه بطبيعة حياته يعيش على القاذورات ثم يأتي ويسقط في الشراب، كما قال القائل: إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا رأت الكلاب ولغن فيه فالنفس البشرية تعاف أن تتناول الشراب الذي وقع فيه الذباب، فإذا وقع الذباب في الشراب فما مصيره؟ وكيف نتعامل معه؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حصل هذا، وأردنا الحفاظ على الشراب، فلنغمس الذباب في الشراب، فهو قد سقط ولكنه لم ينغمس إلى الأسفل؛ لأنه خفيف، فنحن نغمسه حتى يغمره السائل ثم ننزعه، وفي بعض الروايات: (فليطرحه) يعني: لا يأكله؛ لأنه مستقذر، ثم بين صلى الله عليه وسلم العلة في غمسه، والنفس تعاف الشراب بمجرد سقوطه، فما الحكمة في هذا العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) .

الاهتمام بالإعجاز العلمي في السنة

الاهتمام بالإعجاز العلمي في السنة إنه حينما يكشف العلم هذا الأمر، ويفتخر الكفار بهذه الاكتشافات، ويعتبرونها من السبق العلمي، أليس جديراً بالمسلمين أن يسابقوا إلى إعلان ذلك؟ ولا أقول: أن يسابقوا إلى السبق العلمي، فهو واجب، ولكن إلى السبق الإعلامي، ويكون هذا من مهمة وزارات الإعلام، وكذا على عوام الناس وخواصهم؛ لتكون هذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعة عشر قرناً، وهذا ينفع عامة الناس وخواصهم، والمتعلمين منهم وغير المتعلمين، ويدفع المؤمن إلى التمسك بدينه، ويعطيه قوة يقين أكثر بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قالها وهو في الصحراء، وما دخل معملاً ولا مختبراً ولا أخذ أنبوبة اختبار، ولا شيئاً مما هو موجود في المعامل الآن. ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، لماذا ذكر التراب مع الغسل سبع مرات؟ يأتي العلم ويكتشف أن داء الكلب لا يعقمه إلا مادة الفلورين الموجودة في التراب! ومن ذلك أيضاً: تحريم لحم الخنزير، فيأتي الطب متأخراً ويكتشف أن فيه داء، ففيه الدودة الشريطية، والدودة الشريطية توجد في لحم البقر، وتوجد في لحم الخنزير، ولكن الدودة الشريطية التي في لحم الخنزير تتميز عن الدودة الشريطية التي في لحم البقر، فهي أخطر منها، فالدودة الشريطية التي تأتي من لحم البقر قد يبلغ طولها اثني عشر متراً في معدة الإنسان، وهي مكونة من فصوص، وكل فص قابل للنمو بذاته، مثل أعواد القصب، فإذا أخذت كل غصن وغرسته فإنه ينبت بنفسه، فإذا شرب المريض دواء فإنه يقطعها، وتنزل أوصالاً، أما دودة الخنزير فينبت لها قرنان في الرأس، فإذا شرب دواء ليقطعها غرزت قرنيها في جدار المعدة، فتتقطع أوصالها إلا الوصلة الأخيرة التي فيها القرنان فتنبت من جديد. وأيضاً ذكر لي طبيب في الجامعة الإسلامية أن في الخنزير دود العضل، وهو أخطر من دود المعدة الذي يؤخذ له دواء فينزل، وقد ذكر علماء الطب القديم أن بذر المشمش إذا أحرق حتى يصير فحماً، وأكل منه الإنسان كل خمس سنوات حبة، وكان عنده دود البطن، وهو غير الإسكارس الصغير، فإنه ينزلها ويقضي عليها، فمهما كان دود البطن فإنه ينزل بالدواء، ولكن دود العضل ليس في بطن، ولا في جوف، بل في عضلة اليد، أو الفخذ، أو الظهر، أو الكتف، فينبت فيه دود بسبب لحم الخنزير، ولا يخرج إلا بمشقة. وقال أبو حيان في تفسيره: إن من طبيعة الخنزير عدم الغيرة على أنثاه، ومن يكثر من أكله فإنه تنتقل إليه تلك الغريزة، ويقول: وقد شاهدنا في بلادنا -وهو أندلسي- أن من يكثر من أكل الخنزير فإنه يكون فاقد الغيرة على نسائه. وأي حياة لإنسان فاقد الغيرة؟! ونجد أن الإسلام حرم الخنزير، وهكذا حرم الحمر الأهلية، وأوجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وغير ذلك. إن العالم الإسلامي مطالب بإبراز تلك المعجزات المدخرة للأمة، وكل واحدة منها لا أقول: يشهد لها الأعداء؛ بل يقرون بها بسبب ما توسعوا فيه من العلم، وكذلك المستشرقون، والمستغربون من المشرق، فهم يؤمنون بالعلم وتجارب المعمل ولا يؤمنون بالوحي، ويقولون: هذا أمر نظري، وهذا أمر عملي يا سبحان الله! النظر إذا كان صادراً عن الوحي الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فهو حق، فكيف يطلبون عليه تجربة؟ لا والله! إننا نقيس عقولنا عليه، ولا نقيسه على عقولنا. وحديث الذباب مما ينبغي إبراز ما فيه من الإعجاز العلمي، فيخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الذباب يحمل شيئين متضادين، وعنده إدراك يميز به ما فيه من الداء فيقدمه، وما فيه من الدواء فيؤخره، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معه، وبالله تعالى التوفيق.

طعن العقلانيين والمستغربين في حديث الذباب

طعن العقلانيين والمستغربين في حديث الذباب وأذكر كلمة قالها الدكتور أحمد شاكر - غفر الله له- في تعليقه على هذا الحديث في مسند أحمد، فقد ذكر أنه ناقش بعض زملائه الدكاترة، وحصلت بينهم مكاتبات في هذا الحديث، وكان زميله يتكلم بناحية عقلانية، فقال له الشيخ أحمد شاكر: لسنا بهذا الحديث ندعو إلى التعامل مع الذباب، ولكن الإسلام دين نقاء ودين طهارة ونزاهة، وينبغي لنا أن نحترز من الذباب، ولكن الحديث علمنا الحكم فيما لو وقع الذباب، وليس معنى هذا أننا نستجلب الذباب لطعامنا، أو أننا نترك الأقذار على أبداننا، أو نترك الذباب يسقط على وجوهنا، فالإسلام أرقى الأديان نظافة، ففيه الوضوء خمس مرات، والغسل عند الجنابة، ويوم الجمعة، وغير ذلك. إذاً: ليس الدفاع عن هذا الحديث معناه أننا نتلاءم ونتعاون مع الذباب في حياتنا، إنما هو دفاع عن السنة النبوية؛ لأننا وجدنا في الوقت الحاضر أن بعض الأطباء ينكر هذا، وأحدهم نشر ثلاث منشورات -وهي موجودة عندنا- يتهكم فيها بهذا الأمر، ويستبعده جداً إلى حد بعيد، فإذا كان المثقف والمتعلم والطبيب يصل إلى هذا الحد، ويضل بعض قاصري العقول، ويشككهم في السنة، فهذا أمر مشكل. وكما يقول الشيخ أحمد شاكر: لقد تجرءوا على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فالحديث متفق عليه، ولم يجرءوا أن يطعنوا في البخاري ومسلم، ولكن قالوا: هذا الحديث لعل أبا هريرة قد أخطأ في هذا الحديث! ثم لو جئنا إلى هذا الحديث فإننا نجد أن أبا هريرة لم ينفرد به، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري، وعن أنس بن مالك، ورواه البيهقي، ورواه ابن خزيمة وغيرهم، فالحديث من حيث السند من أصح ما يكون، والذين خصوا أبا هريرة بالكلام عليه حسابهم على الله، وأبو هريرة أضبط الصحابة لحديث رسول الله، وفي ذلك معجزة لرسول الله، فإنه اشتكى إلى رسول الله أنه ينسى بعض ما يسمع منه، فقال صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (من أراد أن يحفظ فلا ينسى فليبسط رداءه، فبسط أبو هريرة رداءه أمامه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: ضم إليك رداءك، فضم إليه رداءه، فقال: والله ما سمعت حديثاً ونسيته بعد ذلك أبداً) ، إذاً: عنده تأمين على أحاديثه من رسول الله، ليس من شركات التأمين الأوروبية، بل تأمين من رسول الله، فهو إذا سمع الحديث حفظه فلا ينساه بضمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يأتي أشخاص متأخرون يتطاولون على صحابي جليل كـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؟! وهذا الحديث قد أخذ مني وقتاً طويلاً، وسيطر على فكري زمناً طويلاً، وكتبت عنه في مجلة راية الإسلام -التي كانت تصدر في الرياض- في عام (1374 أو 1375) هجرية مقالتين: الأولى: في سند الحديث، وصحة الرواية، والثانية: فيما توصلت إليه، وفيما جمعت من نقول طبية عن المجلة الطبية البريطانية، ومجلة الأزهر، ومجلات أخرى.

ظهور معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب

ظهور معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب والقسم الثاني: من المعجزات: ما ادخرها الله سبحانه وتعالى للأمة على مدى الزمن، فتكشفها الأيام تكشفها المعامل والمختبرات، وتظهر للناس معجزات جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وها هي إحدى تلك المعجزات تظهر في هذا القرن، فقد استنكر بعض الناس قديماً وحديثاً هذا الأمر، وقالوا: كيف يحصل للذبابة أن تحمل عنصرين متضادين داء ودواء؟! وكيف تميز الجناح الذي فيه الداء وتقدمه؟! فاستبعدت عقولهم إمكان وجود هذا، وعقولهم قاصرة، أما رأوا النحلة يخرج من فمها شفاء للناس، ومؤخرها فيه سم؟ فإن لدغة سبع نحلات كلدغة العقرب، وهي حشرة واحدة، فالله خلقها، وألهمها التناسل، وألهمها المبيت، وألهمها الطيران، وألهمها كل شيء، قال الله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ، قدر الأشياء، وهدى المخلوقات إلى ما قدره لها، فالله أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، وكل مخلوق أحسن خلقه ثم هداه لما خلقه إليه، والأمثلة كثيرة جداً: فمن الذي علم النحلة أن تبني بيتها السداسي بما يعجز عن مثله المهندسون؟ ومن علمها أن تستخلص من الزهور عسلاً؟ إنه الله الحكيم القدير. وقد رد بعض الناس قديماً حديث الذباب؛ لأنه لا يستوعب أن فيه داءً ودواءً، ثم استبعد عقلاً أن الذباب يميز بين الجناح الذي فيه الداء فيقدمه وبين الذي فيه الداء فيؤخره، ولما أدخلوا العقول غير العاقلة أفسدوا الحديث، ولو كانت عقولهم نيرة كاملة لما استبعدت ولما استنكرت، وقد كذب الكفار بالإسراء والمعراج وقالوا: كيف يروح ويجيء في ليلة ونحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل شهراً؟! فمقاييس العقل لا تدخل في المعجزات ولا في الآيات الكونية التي خلقها الله سبحانه وتعالى. والآن لما تقدمت الأبحاث ووسائلها، والاكتشافات وآلاتها، حصلت هناك دوافع لإجراء بحوثات حول هذا الذباب، لا عن طريق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا يعلمون به، ولكن على مناهجهم العلمية، وأقدم بحث عن الذباب اطلعت عليه في سنة (1871م) ، فقد بحث هذا الموضوع مجموعة من الأطباء، اثنان من إيطاليا، واثنان من ألمانيا، وواحد من بلجيكا، ونشرت بحثهم مجلات عديدة، منها: المجلة الطبية البريطانية، وغيرها، ونقلته مجلة الأزهر، ومجلة التمدن الإسلامي، ومجلة حضارة الإسلام السورية، ومجلات كثيرة جداً، وآخر ما وصل إلينا بحث طبي في جامعة الملك سعود بالرياض، فقد أجريت تحاليل على هذه الحشرة عملياً، واطلع عليها أخونا الشيخ عبد المجيد الزنداني، ورأى بعينيه ما فيه من داء، وما فيه من دواء، والصنعاني شارح هذا الكتاب يقول: إن سمّية الذباب يذهبها الدواء الذي فيه، ويقول العلماء: إن لسعة النحل والزنبور والعقرب إذا حكت بالذباب زال سمها، وهذا يدل على وجود الدواء في الذباب، فلو أنك حككت محل لدغة الزنبور أو العقرب بمجموعة من الذباب لكنت قد عالجته بالدواء الذي فيه، وذهبت آثارها، إذاً: هذه المسألة معروفة من قبل، وزاد من صحتها التجارب العملية. وأذكر أن طبيباً مفتشاً في أعمال كيميائية في وزارة الأوقاف بمصر جاء ليحج، وكنا معاً، وكنا نلتقي به مدة وجوده في المدينة، وكان متطلعاً إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قدمنا رابغ جلسنا نشرب الشاي، والذباب هناك كثير، فإذا بذبابتين تسقطان في الفنجان، فلما وقع نظره عليهما غمستهما ونزعتهما ورميتهما؛ فتساءل في دهشة: ما هذا؟! فذكرت له حديث رسول الله، فقال: وهنا قال رسول الله أيضاً؟! فقلت له: نعم، فضرب كفاً على كف، وقال: هذا الحديث صحيح! قلت: أنت دكتور معامل وكيميائيات، وما يدريك أنه حديث صحيح؟! فذكر لي ظروف دراسته أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكان مبتعثاً للدراسة في ألمانيا، ولما قامت الحرب توقفت وسائل الاتصال، ويذكر لي من عصاميته أنه انقطعت عنه المصاريف والمواصلات، فكان هو وثلاثة من زملائه يعملون في المساء في المطابخ، يغسلون الصحون، هو طبيب مبتعث يدرس كيمياء، فإذا به من أجل أن يكمل دراسته يعمل مساءً في مطبخ لينال أجراً يعيش به ويكمل دراسته! وما انتهت الحرب إلا وقد انتهى وأخذ شهادته. فيقول: لقد اطلع على بحث حول هذا الموضوع، وهو أن معركة العلمين كثر فيها المصابون، فكان المسئولون يبادرون بحمل الجرحى من الضباط إلى المستشفى، ويبقى الجرحى من الجنود بأرض المعركة، حتى إذا فرغوا من نقل الضباط أخذوا الجنود، واجتمع الجميع في المستشفيات، واتحد العلاج للجميع، فكانت جراح الأفراد أسرع شفاءً من جراح الضباط، فلفت هذا النظر، وقالوا: لعل التربة التي أصيبوا فيها وجاءهم من غبارها فيها مادة تساعد على سرعة برء جراحهم؛ لأنهم مكثوا على التربة مدة أطول من الضباط، فحللوا تلك التربة فلم يجدوا شيئاً، فقالوا: لعله الذباب الذي سقط عليهم مدة طويلة، فقالوا: الذباب يحمل الميكروبات، فكيف يؤثر عليهم؟! ومن باب البحث العلمي أخذوا الذباب وحللوه، فوجدوا فيه هذه المادة، ثم توالت الأبحاث. والآن يعرف طبياً في العالم -كما قال طبيب ألماني- أن الذبابة تحمل في ثلثها الأخير أنبوباً مستطيلاً يمتلئ بمادة (بكتريوج) أو (بكترياج) ، وترجمته: (مبيد البكتيريا) ، وهذا الأنبوب المستطيل مثل حلمة الثدي، يمتلئ من هذه المادة في جسم الذبابة، فإذا امتلأ وضغط عليها انفجرت فينتثر حولها، فيقيها من جراثيم الميكروبات التي في القمائم، والقاذورات التي تسقط عليها، ولا تضرها تلك الجراثيم، فلما بحثوا موضوع الغمس، قال الأطباء المسلمون عن الغمس: هي إذا امتلأت بطبيعتها تنفجر، لكن إذا سقطت وانغمس الأنبوب إلى نصفه لم يأت موجب لانفجارها، فإذا غمست في السائل فإن السائل يحدث ضغطاً عليها فيفجرها، كما تضغط على جلدة قلم الحبر فيخرج الحبر، فكذلك يضغط السائل على الأنبوب فينفجر، فيخرج ما فيها من الدواء ليقتل ذلك الداء. وقال لي الطبيب في ذلك المجلس: إذا وقع الذباب فيجب أن تغمسه، سواء أردت أن تشرب أو لم ترد أن تشرب، فقلت له: إذا كنت لا أريد أن أشرب فلماذا أغمسه؟ قال: لأنه عندما سقط قدم الجناح الذي فيه الداء، فأصبح السائل ملوثاً، فإذا أرقت السائل قبل غمسه بقي الكأس ملوثاً من أثر السائل، أما إذا غمسته فإن السائل يتطهر، فإذا أرقت السائل صار جرم الكأس معقماً، ثم لك أن تشرب في ذلك الكأس.

فقه الحديث ومناسبته لباب المياه

فقه الحديث ومناسبته لباب المياه وهذا الحديث قد أوقف العلماء والأطباء والباحثين مواقف عديدة، ونحن نريد أن نأخذ الفقه من الحديث، ثم نتناول موضوعه من حيث هو. فإذا وقع الذباب في أي شراب؛ سواء في الماء، أو في الشاي، أو في الحليب، أو في المرق؛ فإنك تغمسه، هذه هي السنة، وهذا الإرشاد بين لنا أمراً يتعلق بالصحة، وهو أن في أحد جناحي الذباب داء، وبين في الرواية الأخرى أن الذباب يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فهو يضع الداء في الشراب أولاً وقاية له، ومضرة لصاحبه، فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن هذا الداء الذي في أحد جناحي الذباب دواؤه في الجناح الثاني، فهو يحمل الداء والدواء معاً، ثم يقول العلماء والأطباء: بعد أن تغمسه أنت بالخيار: إن طابت نفسك أن تشرب الشراب فاشربه، فإنه أصبح مطهراً معقماً، عقم بعضه بعضاً، وإن لم ترد شرابه فإما أن تريقه أو تتركه، ولكن لا بد من الغمس ولو لم تشربه، وسنذكر سبب ذلك. وقد أورد المؤلف هذا الحديث هنا لنقطة بسيطة، وهي أن الذباب إذا سقط في الماء ومات فيه، فهل يسلبه الطهورية أم أنه ما زال الماء طاهراً مطهراً؟ نقول: لو مات الذباب في الماء فإن الماء يبقى على طهوريته، ونتوضأ منه، لكن الشرب شيء آخر، ومن أين أخذ هذا الاستدلال؟ قالوا: الذباب ضعيف، فإذا غمس في الشراب فمن المحتمل أن يكون الشراب حاراً، ومن المحتمل أن يغمس مدة فيموت في حال الغمس، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غمس الذباب في الماء سيقضي عليه، وسيموت في الماء، ومع ذلك أمر بنزع الذباب فقط، ويبقى السائل على طهوريته، ولم يغير ذلك في حكمه، ولو كان الموت يغير في حكم الماء لبينه لنا صلى الله عليه وسلم. هذا هو غرض المؤلف من إيراد هذا الحديث في باب المياه.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الله سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم المعجزات على قسمين: قسم مشاهد في حال حياته، وقسم مدخر لما بعد موته، يأتي على مدى تعاقب الأجيال والأزمان، وكلٌ يؤدي عمله، فالمعجزات التي كانت في حياته صلوات الله وسلامه عليه يشاهدها الصحابة بأعينهم فيزدادون إيماناً ويقيناً وتصديقاً برسول الله، كما جاء عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه لما أخذ أسيراً في بدر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (افد نفسك وابن أخيك، فقال: ما عندي شيء يا محمد! فقال: أين المال الذي أعطيته أم الفضل وقلت لها: إن سلمت في سفري فبها، وإلا فهذا لأولاد فلان؟) فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضرنا أحد، وما كنت إلا أنا وهي! فتلك النجوى جعلت العباس يشهد الشهادة، ويزداد إيماناً، فإنه قد كان مسلماً، وكان يريد أن يهاجر، فكتب إليه الرسول أن يبقى في مكة، وكان يراسله بأحوال المشركين في مكة، وقال له: (كما ختم الله بي النبوة، يختم بك الهجرة) ، فكان العباس من آخر المهاجرين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قافلين من بعض الغزوات، فعرسوا ليلاً، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يكلأ لنا الفجر؟) فقال بلال: أنا، يقول بلال: أنخت راحلتي، واستقبلت الشرق بوجهي، واستندت بظهري إلى الراحلة أنتظر الفجر حتى يطلع، فما زلت أنتظر الفجر حتى جاء الشيطان، وأخذ يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها، حتى نمت، فما استيقظوا إلا بحر الشمس، وجعل عمر يقول: الصلاة، ويصيح، والرسول نائم، وما كانوا يجرءون أن يوقظوه من نومه، مخافة أن يكون، فلما سمع الأصوات استيقظ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (كأني بـ بلال وقد أتاه الشيطان، وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام) ، فجاء بلال فقال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم، أنا واحد مثلكم، يا رسول الله! أنخت راحلتي، وأخذت أنتظر الفجر بوجهي، فما شعرت إلا والشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر الصديق: أشهد أنك رسول الله! وهو يشهد من قبل، وهو الصديق، لكن ظهور المعجزة تجدد اليقين. ولما كانوا في الخندق في شدةٍ وجوع وبرد وخوف، فرأى جابر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فذهب إلى أهله، فقال: والله لقد رأيت رسول الله وفي صوته ضعف، وهو عاصب على بطنه الحجر، قالت: والله ما عندي إلا صاع من شعير، وعندنا العناق، فقال: سأذبح العناق، وتطحنين الشعير، وتصنعين طعاماً لرسول الله، فذهب جابر وأسر في أذن رسول الله فقال: عندنا غُديٌّ -ولم يقل: غداء- لك يا رسول الله! فإذا بالرسول يأمر رجلاً أن يصرخ في الجيش: يا معشر المسلمين! جابر صنع لكم غداء، فخرج جابر واستحيا، ماذا يفعل؟! وبهت، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بيت جابر، فسبق إلى البيت وقال لامرأته: انفضحنا! قالت: ماذا حدث؟! قال: صرخ في الجيش كله، وجاءك بالناس كلهم! فقالت: الله ورسوله أعلم، لا عليك. وهذا من كمال عقلها، فهو الذي دعاهم وسيدبر أمرهم، فأوقفهم على الباب، وأمرهم أن يدخلوا عشرة عشرة، فشبع الجميع وبقت فضلة، فقال: (لم يبق إلا أنا وأنت، كل، وائمر امرأتك أن تأكل، وأن تقسم على جيرانها، فإن بالناس حاجة) . وهكذا قضية المزادة، ومعجزة حفنة التمر التي وضعها على الرداء فتكاثر حتى تساقط من الرداء، وأكل منه الجيش كله، وهذه المعجزات غالباً تكون في وقت الشدة، وفي عام الحديبية عندما نزلوا في أرض الحديبية وجدوا بئرها جافة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بسهم من كنانته وقال: (انزل واغرسه في قاع البئر) ، فجاش الماء حتى إن الرجل أدرك نفسه حتى لا يغرق، فظلوا ومدة مقامهم وهم يشربون ويتوضئون من هذه البئر، وفي تبوك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقربن أحد العين قبل أن أصل إليها) ، وكان من أمرها أن جرت بالماء. ففي حالات الشدة تأتي المعجزة لتجدد للصحابة رضي الله تعالى عنهم اليقين، فمثلاً: كان الصحابة في غزوة الخندق قد بلغت قلوبهم الحناجر من شدة الخوف، فحينما تأتيهم معجزة مثل هذه يطمئنوا، كأن يكثر التمر، أو يكثر الطعام، أو يكسر الكدية، وهي صخرة عظيمة عجزوا عنها، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ونضحها بماء وضوئه، وضربها ثلاث ضربات حتى تفتتت، فكانوا في خوف وفي شدة فتأتي المعجزة فتذهب أثر هذا الخوف، وتورث الطمأنينة.

شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)

شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) قال رحمه الله: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) أخرجه أبو داود والترمذي] . هذا الحديث ختام هذا الباب المبارك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) ، وفي بعض الروايات: (ما قطع من حي فهو ميت) ، وفي رواية: (ما قطع من حي فهو كميتته) ، وهذه أعم. قوله: (ما قطع) أي: فصل، كفصل اليد، أو الرجل، أو الأذن، أو أي عضو انفصل من بهيمة فحكمه حكم ميتته، فإن كانت ميتتها حراماً فهو حرام، وإن كانت حلالاً فهو حلال، فمثلاً: صياد السمك إذا أمسك طرف الحوت وقطع منه قطعة، ففلت، فهذا قطع من حي، لكنه حلال؛ لأن ميتة السمك حلال.

سبب هذا الحديث ومناسبته لباب المياه

سبب هذا الحديث ومناسبته لباب المياه يقول العلماء: إن الحديث الذي له سبب، فصورة السبب قطعية الدخول، ولكن العبرة بعموم اللفظ، وسبب ورود هذا الحديث: أنهم في الجاهلية في وقت الشدة، كان يأتي أحدهم إلى سنام البعير، فيقطع الجلد ويأخذ من تحت جلد السنام الشحم، أو يقطع إلية الضأن ويأخذ منها الشحم ويرد عليها الجلد، والسنام يبرأ ويرجع الشحم فيه على ما كان عليه، وكذلك شحم إلية الضأن، وكانوا يفصدون الدم من الحيوان ويشربونه، وقد يضعونه في مصارين الشاة ويشوونه، أو يصبونه على الرماد الحار فيجمد فيأكلونه، وفصد الدم باقٍ في أفريقيا إلى الآن عند الوثنيين. فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الأعمال التي فيها تعذيب للحيوان، وجعل هذا الذي أخذ من الحيوان وهو حي حكمه حكم الميتة، والميتة محرمة. ومناسبة هذا الحديث لباب المياه: أنه لو سقط ذلك المقطوع من الحيوان في الماء فكأنما سقط فيه نجس، سوا غيّره أو لم يغيره، وسنرجع إلى قاعدة الماء القليل سواء تغير أو لم يتغير.

الحكمة من تحريم ما قطع من البهيمة

الحكمة من تحريم ما قطع من البهيمة وهنا وقفة: البهيمة إذا ماتت حرمت، وسبب تحريم الميتة احتباس الدم فيها، وما فيه من ثاني أكسيد الكربون الذي لم يتخلص منه، فإذا قيل: فكيف يحرم هذا العضو؟ فنقول: كل علة في التشريع لها سببان: سبب لحق الله، وسبب لحق المخلوق، أي: سبب راجع لحق الله، وسبب راجع لمصلحتنا، فهذه الميتة حرمت علينا، وعلة والقضية العامة في حكمة التحريم تشمل جانبين: الجانب الأول: أن الله نهى عنها، فمن أكلها فقد تعدى النهي، وانتهك حرمة أوامر الله ونواهيه؛ لأن الواجب امتثال الأمر واجتناب النهي. الجانب الثاني: إذا وجدت الله ينهاك عن شيء فثق وتأكد -وأنت مغمض العينين- بأن وراءه حكمة تنفعك وتعود عليك في دينك وفي بدنك وفي أخلاقك، وفي أي جانب من الجوانب، سواء أدركت ذلك أو لم تدركه، وبالتتبع والاستقصاء وجدنا أنها كلها مدركة. فالله سبحانه وتعالى قد قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ، فنهى أن نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، فلو جاء رجل وثني بسيف حاد ونحر الناقة أمامك، وخرج دمها كله، لكنه قال: باسم العزى، أو باسم اللات، أو باسم الصنم، فإن ثاني أكسيد الكربون الموجود في الدم قد انتهى، لكن بقي حق الله؛ لأن الذي خلق هذه الدابة هو الله، وهو الذي أنزل إليها الماء وأنبت لها الأرض، وهو الذي كونها وجعلها تنمو من هذا النبات، وهو الذي سخرها لنا، فإن البعير قوته تعادل عشرين أو ثلاثين رجلاً، وإذا بطفل صغير يضربه بالعصا ويقوده، فمن الذي سخر لنا هذه الدابة؟ إنه الله. وبعد هذا كله، وبكل وقاحة، وبكل جرأة يقول: باسم اللات والعزى! فهل خلقه اللات أو العزى أو رزقه أو أحياه أو سخره له؟! ليس له أي علاقة، فهذا ظلم وتعدي. إذاً: علة التحريم هنا موجودة. فإذا قطع شيء من بهيمة فهو -أولاً- اعتداء على البهيمة. والعلة الثانية: احتباس الدم في ذلك العضو، فإنه لم يتخلص منه، وأنت تجد عند الذبح أن الدم يجري؛ لأن القلب يضخ الدم فيخرج من هذا المنفذ، أما الجزء الذي قطع فالدم قد جمد في عروقه؛ لأنه ليس هناك ما يحركه، فيبقى الدم محبوساً بقسميه الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، ويكونان في هذه القطعة التي قطعت، ففيها مضرة عليك، ولهذا جاءت القاعدة عامة: ما قطع من بهيمة فهو كميتته، أو ما قطع من حي فهو ميت.

حكم العظم والشعر والصوف المقطوع من البهيمة

حكم العظم والشعر والصوف المقطوع من البهيمة يذكر الأصوليون أن قوله: (ما قطع) من صيغ العموم، وقالوا: إن القرآن خصص عموم السنة، فالشعر والصوف والوبر قطع من حي، فهو ميت، ويجوز استعماله، إذاً: ما أبين من حي فهو ميت ما عدا الشعر والصوف والوبر، وهذا نص الله تعالى عليه في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فالقرآن خصص السنة. وهنا مبحث فقهي وأعتقد أنه من المضايق، وهو مسألة: الأعضاء التي لا تسري فيها الحياة، قالوا: إن الشعر والصوف والوبر لا تسري فيها الحياة؛ لأنك لو قصصته وقطعته فلا تتألم ولا تحس؛ لأن عصب الإحساس مفقود، لكنه في الجلد موجود، وطرف السن من أعلى لو وخزنة بالدبوس فلن تحس، لكن العصب داخل اللثة موجود، فما لم تسر فيه الحياة هل يدخل تحت هذا الحديث. قال الجمهور: إنه لا يأخذ حكم ما قطع؛ بدلالة أنه لم تسر فيه الحياة. لكن يرد عليهم أنه ينمو ويزيد، فكيف قالوا هذا؟ قالوا: النمو يكون من حويصلة الشعر داخل الجلد، وليس من طرف الشعر، فلو أخذت شعرة طولها (2سم) وعلّمت في وسطها بلون أبيض، فإذا صار طولها (4سم) ستجد أن العلامة قد ارتفعت إلى أعلى، وليس الجزء الأعلى هو الذي طال، فالنمو ليس من الطرف، بل النمو من أسفل. إذاً: الإحساس في حويصلات الشعر يكون من أسفل، ولهذا لو قلعتها فإنك تحس بالألم، أما إذا قصصتها أو حرقتها بالنار فلا تحس بشيء، وقاسوا على هذا كل عضو لا تسري فيه الحياة، وقالوا: يجوز الانتفاع به ولو أبين من الحي، وذلك مثل ناب الفيل (العاج) فإنه يتخذ منه أمشاط للنساء، ويتخذ منه أدوات زينة، ونحو ذلك، وكذلك أظلاف الحيوانات يتخذون منها مادة الغراء للخشب، وهكذا قرون الحيوانات يتخذون منها مقابض للسلاح أو للسكاكين أو غير ذلك، فهل هذه العظام داخلة في قوله: (ما أبين من حي فهو كميتته) أم أنها خارجة عنه؟ الجمهور على أنها خارجة عنه، وذهب الإمام ابن تيمية في المجموع إلى خطوة أوسع، فرجح أن العظام طاهرة حتى التي تكون في الميتة، ونجاسة الميتة لا تؤثر في عظم جاف جامد لا تسري فيه الحياة، فلا تتنجس العظام بالموت. ومسألة: سن الفيل -الذي هو العاج المستعمل الآن- يختلف فيه الناس، والتحقيق: أنه يجوز استعماله؛ لأنه لا تسري فيه الحياة، فهو بمثابة الظفر والشعر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب الآنية [1]

كتاب الطهارة - باب الآنية [1] لقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لا لعلة النجاسة، ولكن لما تبعث في النفس من العلو والفخر، وتغير من خلق التواضع إلى الكبر والاحتقار، ولأنها من عادات الكفار وأخلاقهم، ومن تنعم بها في الدنيا حرمها في الآخرة.

شرح حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة.

شرح حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: يقول المؤلف رحمه الله: [عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه] . لما قدم المؤلف رحمه الله تعالى ما قدمه من أخبار وآثار فيما يتعلق بالمياه تحت عنوان كتاب الطهارة، جاء وعقد هذا الباب (باب الآنية) ، والمياه باب من أبواب الطهارة، والآنية باب من أبواب الطهارة، وعلاقة باب الآنية بباب المياه أن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، ثم يستعمل هذا الماء من هذا الإناء، والترتيب الطبيعي أن يأتي بأحكام الأواني هنا. والآنية: جمع إناء، وقد يجمع على (أوانٍ) فالآنية: جمعٌ للإناء، والإناء هو ما يوضع فيه الشيء السائل، وما يوضع فيه الشيء الجاف يقال له: ظرف أو كيس أو نحو ذلك. جعل المؤلف رحمه الله تعالى باب الآنية عقب باب المياه، وقبل إزالة النجاسة، وقبل الوضوء والغسل وما والاهما، وبدأ هذا الباب بالحديث الأول: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه. (فإنها لهم) الضمير في (لهم) وإن لم يأتِ له مرجع فهو معروف بالمقابلة: (لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، والناس في الدنيا قسمان: مؤمن وكافر، إذاً: (لهم) قسيم (لكم) ، فيكون (لهم) هنا المراد بها الكفار، وموضوع آنية الذهب والفضة قسيم لموضوع الحرير، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الحرير والذهب وقال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، وحلال لإناثهم) ، فهذا العموم يحل ويبيح الحرير للنساء، وبالإجماع يجوز أن تستعمله المرأة لباسًا أو فراشًا وعلى أية حال من أحوال استعمال الثياب، ولا يجوز للرجل من الحرير إلا ما استثني، كما تقدم في جيوب القميص، أو عند الضرورة للحكة، أو في ميادين القتال، وهذه أمور اضطرارية أو تدعو إليها الحاجة، فيباح الحرير للرجال بقدرٍ معين للضرورة أو الحاجة. وعموم (الذهب حلال لإناث أمتي) هذا الحديث يخصصه؛ لأن للمرأة أن تستعمل الذهب حلياً كما تتحلى النساء، أما أن تستعمله آنية فهذا لا يجوز، فالنهي عن استعمال آنية الذهب والفضة عامٌ للرجال والنساء، وهو مخصصٌ لعموم إباحة الذهب للنساء. والمؤلف رحمه الله تعالى سيتكلم على أواني الذهب والفضة، والأواني من الجلود، وعموم أواني أهل الكتاب. فالحديث الأول: فيه النهي عن استعمال آنية الفضة لشراب وأكل، والعلماء رحمهم الله أخذوا نص الأكل والشرب، وألحقوا به بقية الاستعمالات، فلا يجوز للمرأة أن تتخذ لها أواني ذهب وفضة زينة كالمكحلة، أو فنجان، أو صحن، أو مرآة تغلفها بالذهب، وأي استعمال سوى حلي الزينة فهي ممنوعة منها. وهنا يرد سؤال: ما هي علة تحريم استعمال الذهب والفضة؟ سيأتي الحديث بعد ذلك يبين الأمر المترتب على استعماله، ومن العلماء من ناقش في تحريم بقية الاستعمالات سوى الأكل والشرب كالشارح رحمه الله، وكذا الشوكاني وغيرهما، ولكن الجمهور على عموم تحريم استعمال أواني وآلات الذهب والفضة على الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل أن يتخذ قلماً من ذهب أو فضة، أو حقيبة من ذهب أو فضة، أو أي شيء مما قد يتخذه الناس من الذهب والفضة. وابن دقيق العيد يقول: إن بعض العلماء قاسوا بقية الاستعمالات في بقية النواحي الأخرى على الأكل والشرب، ولكن المتأمل يقول: ليست المسألة قياسية، ولكنها نصٌ تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فإنها -أي: آنية الفضة وآنية الذهب- لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، فإذا كان استعمال الفضة لهم في الدنيا فإنه سيكون ممنوعاً على غيرهم في الدنيا -أي من المسلمين-؛ لأنها للمسلمين في الآخرة وليست للكفار. قوله: (لا تشربوا) هذا نص في الشرب في آنية الذهب والفضة، ثم جاء نص في الأكل فقال: (ولا تأكلوا في صحافهما) . وما الفرق بين الآنية والقدح والكأس والصحفة؟ الصحفة منبسطة مثل الصحن، ويقال: إن الصحفة يوضع فيها طعام يكفي لخمسة أشخاص، والجفنة: ما يوضع فيها طعام يكفي لعشرة أشخاص، وقد يكون هناك أوان أخرى تستعمل للماء الكثير أو للعجين. الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة بأية حالة كانت: ملعقة، كأس، (زِبْدية) ، قدر أي نوع من الأنواع لا ينبغي أن يشرب فيه إذا كان ذهباً أو فضة. (ولا تأكلوا) أياً كان نوع الطعام: إدامًا، أو مكسرات، أو نواشف، أو فاكهة، فلا ينبغي أن يكون في آنية الذهب والفضة. نص الحديث على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال الآخرون: يلحق بالأكل والشرب عموم الاستعمالات، وهذا ليس قياساً، ولكنه تنبيه بالأعم على الأخص؛ لأن أكثر استعمالات الناس للأواني لأجل الأكل والشرب، فإذا نهى عن استعمالها في الأكل والشرب وهو العام؛ فيكون ما سوى ذلك أقل منه، وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، يعني: (الأعلى) كثرة الاستعمال و (الأدنى) الذي هو قلة الاستعمال. (فإنها لهم في الدنيا) يقول بعض العلماء: ليس إلحاق بقية الاستعمالات قياساً على الأكل والشرب، ولكن بدلالة (فإنها) أي: الذهب والفضة، ما قال: (فإنهما) ، أو قال: فإنه، فلو جاء الضمير مذكراً لعاد على الذهب، ولو جاء مثنى لعاد على الذهب والفضة، ولكنه قال: (فإنها) ، فهل هذا الضمير المؤنث خاص بالفضة أو أنه عائد على الآنية من حيث هي؟ نجد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ثم قال: {وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] فالضمير رجع على أحد المذكورين وهو الفضة، ورجع على أدنى الصنفين بضمير المفرد المؤنث، وهو عائد على الفضة قطعاً، فيقول العلماء: لما كان النهي عن عدم إنفاق الجنسين، وكانت الفضة أقل الجنسين، جاء الضمير على الأدنى: (ولا ينفقونها) ثم قوله: (فبشرهم) يترتب على عدم إنفاق الفضة وهي الأدنى، فيكون عدم إنفاق الأعلى -وهو الذهب- داخلاً من باب أولى، وكذلك هنا (فإنها) أي: الفضة، (لهم) ، وبالتالي الذهب من باب أولى.

علة تحريم استعمال الذهب والفضة

علة تحريم استعمال الذهب والفضة هل النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لعين الذهب والفضة؟ وكما يقول الأصوليون: هل العلة ذاتية أو عرضية؟ بمعنى: هل العلة في النهي لعين الذهب والفضة أو لوصف زائد عن الذهب والفضة؟ من قال: النهي لعين الذهب والفضة قال: لناحية بعيدة جداً ولها أثر، وهي: لو أن العالم الآن يتعامل بالذهب والفضة نقداً كما كان في السابق، وصار كل من يسر الله عليه أخذ الذهب وسبك منه أواني، وتحوّل الذهب الذي هو النقد السيّال -قيمة المبيعات- إلى أوانيَ في البيوت، فهل يبقى في أيدي الناس من المال والسيولة ما يدير الاتصال بين الناس؟ لا، تتعطل أداة الثمن والتثمين، والبيع والشراء، وتحجز أواني في بيوت الناس! فبعض العلماء يقول: العلة في النهي ذاتية لئلا يحتكر الناس الذهب والفضة، ويحتجزوا عين الأثمان؛ فتتعطل المثمنات لعدم وجود النقد من الذهب الذي تحول إلى أواني في البيوت. وبعضهم يقول: لا، العلة عرضية. ونجد في بعض البلدان حلي النساء بالأطنان مكدساً، وقيل: إن غاندي عندما كان يفاوض بريطانيا في الاستقلال، ذهب إليهم بِعَنْزِه، يحلبها ويشرب لبنها وسط البرلمان، ويأتون له بطعام ويقول: لا؛ أنا طعامي معي، فلما قالوا له: نمنع عنك الإعانة والميزانية قال: إن بالهند من حلي النساء ما يكفي ميزانية الهند خمسين عاماً، وكانت الهند أكثر دول العالم اهتماماً بمصاغ النساء، ويخبرني بعض الإخوان أنه ربما كان عند المرأة الهندية ما يزيد عن العشرين كيلو ذهباً مصاغاً لها، وربما غطاها من شعرها إلى ظفرها. أليست هذه الأشياء كثيرة محتجزة؟! ونجد في كتاب الأموال لـ أبي عبيد: أن بعض السلف نهى أن تزيد المرأة عن أربعة دراهم من الحلي، وعن كذا أو كذا، والراجح أن هذا لا تحديد فيه؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] على الإطلاق دون ما تحديد لكثير ولا لقليل، ولكن لا ينبغي أن يصل إلى حد الإسراف والتبذير. والآخرون يقولون: لا إسراف ولا تبذير؛ هذا مال محفوظ، وليس بضائع. والذين يقولون: العلة عرضية، قالوا: الذهب والفضة هما المعدنان النفيسان اللذان يعرفهما الغني والفقير والصغير والكبير، فإذا رأى الفقير الغني يأكل ويشرب في صحاف الذهب والفضة، وهو لا يجد آنية الفخار يشرب فيها؛ ماذا تكون نفسيته؟ سيكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء بمظاهر استعمال الأغنياء. وهناك علة أخرى: يقال: لو رجعنا إلى أصل التحليل والتحريم: فالحرير والذهب حرام على الرجال حل للنساء، فإن كان كذلك فلماذا حرم الحرير على الرجال مع أنه ناعم ولطيف ومريح للبدن و؟ يقول العلماء: إن الليونة الزائدة في اللباس تضعف خشونة الرجولة، ويميل الرجل إلى الدعة؛ لأنه مترف منعم، فهذا يوسف بن تاشفين ذهب إلى الأندلس ناصراً لأحد ملوكها هناك، ولما انقضت المعركة وانتصروا طلب منه الملك أن ينتظر ويستريح بجنوده عدة أيام، فقال: لا، لا أستطيع أن أبقي الجند الذي عاش في الصحراء على شظف العيش والخشونة أن يعيش هنا، فإنه يترهل ويتنعم وتلين قناته، ولا يكون في القوة كما لو كان في مكانه هناك. إذاً: حرم الحرير على الرجال إبقاءً للرجولة، وإبقاءً للصلابة والقوة، وهو مناسب للنساء؛ لأن النساء كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول ما عليهن من المشقة شيء، فيمكن أن يقول قائل: استعمال آنية الذهب يجعل في قلب الإنسان نوعاً من التعالي أو البطر أو الطغيان أو الكبرياء أو أو أو إلخ، فإنها تجعل في النفس شيئاً من الأبهة أو الظهور أو الركون إلى الدنيا ومتعتها، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33-35] . وهنا يصرح صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة العلة بقوله: (فإنها لهم) ؛ لأنهم اشتروا الدنيا بالآخرة، واستمتعوا بها، فاستحقوا ألا يكون لهم خلاق ولا نصيب في الآخرة، والمسلم يترفع عن ذلك، ويزهد فيه؛ لما يكون له في الآخرة من حظٍ وافر. ويوجد أواني مرصعة بالأحجار الكريمة، كأن يكون إناء من الزجاج أو من الخزف (الصيني) أو من الفخار أو من الخشب ويرصع بأحجار كريمة، وقد يزيد ثمن الفص الواحد منها في الثمن عن كيلو من الذهب، مثل الزمرد أو الماس، فالجرام منه يساوي عشرات الجرامات من الذهب، فلو جاء إنسان ورصع القدح الذي يشرب فيه بشيءٍ من تلك الأحجار؛ فهل يدخل في النهي -من باب أولى- لارتفاع قيمته أو لا يدخل في ذلك؟ الجمهور على أنه لا يدخل في النهي، إنما يمنع من باب الترف والتبذير وإهدار الأموال؛ لأنه جعله في قدح، وكان من الممكن أن يجعله في بناء عمارة أو في مصالح عامة إلخ. وقالوا: 90% من الفقراء لا يفرقون بين الماس وزجاج الكرستال، ولا بين الأحجار الكريمة وغيرها، ولا بين المصنوع وبين المطبوع، ولا بين الشيء الطبيعي والصناعي، أكثر الناس لا يفرق بين هذه الأشياء، فلا يؤدي وجود هذه الأحجار الكريمة إلى كسر قلوب الفقراء؛ لأنها ليست عندهم كالذهب والفضة، فالذهب والفضة يعرفه الجميع، ويعرفون قيمته وتأثيره، لكن تلك الأحجار لا يعرفون عنها شيئاً، فلا تدخل الانكسار على قلوبهم، وليست من أثمان المبيعات حتى يقال: إنها معطلة. يوجد الآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تمثال لبوذا وزنه أكثر من عشرة إلى خمسة عشر كيلو من فصوص الفيروز، وجميعها قطعة واحدة لا نظير لها في العالم، لكنهم بوذيون لا دين لهم، ولا نقول: إنه معطل؛ لأنه يجلب لهم من السواح أكثر من قيمته. إذاً: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة، والنص على تحريم الأكل والشرب، والقرينة والإيماء والتنبيه تدل على عموم تحريم الاستعمال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) .

شرح حديث: (الذي يشرب في إناء الفضة.

شرح حديث: (الذي يشرب في إناء الفضة ... ) قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) متفق عليه] . بعد مجيء النهي: (لا تشربوا) ، (لا تأكلوا) وهذا النهي يقتضي التحريم، ولكن لما كان النهي أحياناً يحمل على الكراهة، أي: من باب الزهد في الدنيا، كما نجد بعض الناس ربما كره أن يشرب الماء في الزجاج النقي، ويقول: هذه رفاهية، وهذا تنعم أكثر من اللازم. في ذات يوم كنت في الدار البيضاء -في رحلة من الرحلات- وكان معنا بعض المشايخ جزاهم الله خيراً، فصنع شخص لنا الشاي، وقدمه في كأس طوله حوالى (9سم) ، وحافته -سمكه- حوالى (5سم) ، وسمك القاعدة حوالى (3سم) ، ترفعه كأنك ترفع الرصاص، فقلت: يا فلان! ما هذه (القزايز) ؟ فضحك، وقال: هل تدري كم قيمة هذا الكأس؟ قلت: لا، قال: قيمته ستمائة دولار أمريكياً! ولا يوجد هذا إلا في ألمانيا، وليس عندي منه إلا أربع حبات! قلت: يا أخي! حرام عليك، كأس بريال يغني عن هذا، قال: هذه عادات وتقاليد؛ فهذه النواحي من باب الترف والزيادة في المتعة، ومن باب الحفاوة بأشياء معينة، لكن لا تدخل في التحريم، فبعض الناس يكره الغلو في تلك الأواني المباحة. ولما كان النهي محتملاً للتحريم أو الكراهة؛ جاء المؤلف بالنهي المقتضي للتحريم، ليقضي على احتمال الكراهة، فجاء بالحديث الثاني الذي يدل على أمرين: على أن النهي للتحريم. وعلى جزاء وعقوبة من يرتكب هذا النهي. فأتى بحديث: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، هذا في الفضة والذهب من باب أولى. قوله: (إنما يجرجر) : يقولون: إن اللغة العربية فيها دلالات ذاتية في النطق، فمن تأملها يجد بعض الكلمات تدل على معناها بطريقة نطقها، فأنت إذا سمعت تسمية بعض المصادر، مثل: صلصلة الجرس، (صل، صل، صل) ، كأنك تحكي صوت الجرس، حينما تقول: زقزقة العصافير، لو قلتها مرتين كأن عصفوراً يزقزق هناك، خرير المياه، الغليان، الجريان، غليان: تدل على حركة الماء، جريان: تدل على حركة الذي يجري، فهذه يسمونها دلالة ذاتية. و (يجرجر) : تدل على أداء متتابع، وحركة متوالية، والجرجرة: هي صوت الماء في حلق الإنسان، وأصلها للبعير حينما يشرب، يسمع له صوت عند الشرب. وقوله في هذا الحديث: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نارَُ) ، جاء الحديث بروايتين: رواية بنصب (نارَ) ، ورواية برفع (نارُ) ، وعلى كلتا الحركتين يختلف المعنى، فيجرجر في بطنه نارَ، جعل الماء الذي يشربه ناراً، وفاعل الجرجرة الشارب، فكأنه عمد إلى نار مذابة وصبها في آنية الفضة وشربها، وعلى رواية الرفع: يكون فاعل الجرجرَة هو الشراب الذي يشربه، فبدلاً أن يكون سائغاًً كالماء البارد العذب أو غير ذلك؛ انقلب إلى نار. لكن: هو يشرب ماءً بارداً مثلجاً فأين النار؟ قالوا: يحتمل أنه من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، أو باعتبار ما سيكون، كما في الآية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] ، هو رأى أنه يعصر عنباً، ولكن سيئول إلى أن يكون خمراً، فهذا يجرجر في بطنه هذا الماء الذي سيكون ناراً، أو هو سبب لأن تجرجر النار في بطنه بعد ذلك، وعلى كلا الروايتين فإن في الحديث وعيداً شديداً لمن يشرب في آنية الذهب أو الفضة.

حكم الإناء المطلي أو المموه بالذهب

حكم الإناء المطلي أو المموه بالذهب مسألة المضبب والمطلي، تحت هذا العنوان يبحث الفقهاء -وبالأخص النووي في المجموع شرح المهذب- مسألة مهمة: إذا كان الإناء من فخار أو خشب، ولكن نرى فيه لون الذهب، فهل هذا الإناء الخشبي الذي فيه لون الذهب داخل في هذا النهي أو ليس داخلاً فيه؟ يبين النووي رحمه الله أن الأواني التي ليست ذهباً ولا فضة، ولكن فيها أثر الذهب تنقسم إلى قسمين: قسم يقال عنه: مموه. وقسم يقال عنه: مطليٌ. فإناء مطليٌ بذهب، وإناء مموه بذهب، ومموه: مفعل من الماء -يعني: جاء عليه ماء الذهب-، والمطلي: مثل الجدار عندما تبنيه ثم تطليه بجير أو غيره، ففرق بين المموه وبين المطلي، والفرق بينهما يظهر إذا أخذته وعرضته على النار؛ لأننا نعلم أن الذهب معدن يسيل، والنار تذيبه، وكذلك الفضة، فإذا عرضت الإناء الذي من زجاج، أو خزف (صيني) ، أو حديد، أو نحاس للنار؛ فإن أحدثت النار من هذا الذهب سائلاً، وأمكن أن تراه أو تأخذه بالعود فهذا مطليٌ؛ لأننا وجدنا جرم الذهب على جداره تذيبه النار، أو إذا أخذت سكيناً وحككت هذا الإناء، وخرج على حد السكين شيء من مادة الذهب أو الفضة فهذا مطلي، أما إذا عرضته للنار أو حككته بسكين ولم يخرج منه شيء فهذا مموه، وقال: إن المطلي بالذهب حكمه حكم إناء الذهب سواء؛ لأنك استعملت الذهب الذي طلي به هذا الإناء، أما المموه فليس فيه شيء، بل مجرد اللون. وجاء في أخبار المسجد النبوي الشريف أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الإمارة لبني أمية في المدينة؛ وجد في جدار المسجد كتابة بالذهب، وكان الخلفاء من بني أمية من ولي الخلافة يأتي بخطاب يسمى: خطاب الملك، أو العرش، أو سياسة الخليفة، فيكتبه على جدار المسجد النبوي؛ فوجد تلك الخطوط مكتوبة بالذهب، فأراد أن يمحوها فجمع العلماء فقالوا له: انظر أهو مطلي بذهبٍ أو مموه؟ إن كنت ستحصل على مقدار من الذهب من هذا الذي تمحوه فامحهُ، وإن كنت لن تحصل على شيء، ولا يوجد فيه معدن الذهب فاتركه؛ لأنك ستفسده بدون فائدة، وليس فيه معدن الذهب، فجرب فلم يجد شيئاً فتركه. ومن هنا قالوا: كل ما كان مطلياً بذهب فحكمه حكم الذهب، وما كان مموهاًً فلا، والآن كثيراً جداً من الأواني (الصيني) والفناجين والكاسات نجد على حافة فنجان الشاي منها خطاً أصفر يقال له ماء الذهب، فما كان منه مموهاً فليس داخلاً في هذا الباب، وما كان زيادة على ذلك كأن يكون مطلياً، ويوجد جرم من الذهب فيه، فهو داخل في هذا النهي والتحريم. وبقي عندنا مسألة المضبب، وستأتي قريباً عند حديث تضبيب قدح النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم استعمال الذهب في حالات الضرورة

حكم استعمال الذهب في حالات الضرورة يجوز استعمال الذهب في حالات الضرورة التي لا يجزئ فيها إلا الذهب، وقد ذكر الفقهاء أنه رخص للرجل وللمرأة من الذهب ما لا يمكن أن يستعيض عنه بغيره، وذكروا ذلك في السن، وفي أرنبة الأنف، وفي الأنملة، فهذه الأمور الثلاثة يتفق الجميع على جواز استعمال البديل من الذهب إذا لم يمكن غيره؛ لأن استعمال السن من النحاس أو من الحديد أو من غيره لا ينفع كما ينفع الذهب، فإن الذهب من طبيعته أنه لا يصدأ، ولهذا أنسب ما يكون في فم الإنسان سن الذهب، وكذلك أرنبة الأنف إذا جدعت، وقد جاء في الآثار أن رجلاً جدعت أنفه، واتخذ محلها فضة فأنتنت؛ فرخص له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الذهب، وكذلك أنملة الأصبع؛ لأنه من كمال زينة الإنسان أو من كمال الانتفاع بها، فرخص للإنسان في حالات الضرورة: السن، وأرنبة الأنف، والأنملة؛ إذا احتاج أن يركبها من الذهب. ومن العلماء من يقول في الفضة: إنه يجوز الشيء اليسير كالأزرار في الثوب ونحوه، ويروون في ذلك أثراً وهو: (ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً) ، ولكن هذا أثر لا يصح عند علماء الحديث، ويعارضه هذا النهي الصحيح المتفق عليه أنه نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن آنية الذهب والفضة. وكما قال ابن دقيق العيد: ألحقوا بالأكل والشرب بقية الاستعمالات. أما ما يتعلق بالأواني وتضبيبها فإنه لا يوجد الآن أحد يرقع الأواني، ولا أحد يضببها، بينما كان في زمن مضى أشخاص معينون يرقعون الأواني إذا انكسرت، أو الفنجان، أو الكأس، ويعملون لها ضبة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند ذكر حديث انكسار قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

شرح حديث: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)

شرح حديث: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة: (أيما إهاب دبغ) ] . انتهى المؤلف من إيراد ما يتعلق بآنية الذهب والفضة، وانتهينا من الشرح على سبيل الإجمال، وانتقل إلى أواني الجلد، وأواني الجلد المشهور أنها كانت في السابق تستعمل للماء -القربة والمزادة-، ولكن الآن أصبحت تستعمل فيما هو أعم من ذلك، وقد تختفي القربة، ولكن لا تختفي الأنواع الأخرى، فهناك من الأدوات الآن: الحقائب، وبعض الألبسة، والأحذية والكمرات وأشياء عديدة، كما يمكن أن تستعمل الجلود في الفراش والجلود على قسمين: جلود مذكاة. وجلود ميتة. فالجلود المذكاة طاهرة بذكاة أصلها، تدبغ وتستعمل بأية حالة من الحالات، وليس فيها بحث عند الفقهاء، وإنما البحث فيما هو ميتة، ومعنى الميتة: ما لم يذكَ كشاة تموت دون أن تذبح، أو البقرة أو الناقة أو أي حيوان، وهذا البحث يتناول جلد مأكول اللحم. ويلحق به جلد ما لا يؤكل لحمه، وفي هذا الباب يبحث العلماء حكم استعمال جلود الميتة بعد الدبغ، وهل هو جائز أم لا؟ وهل ينفع الدبغ أم لا؟! إذاً: بصفة عامة البحث في الجلود منحصر في الميتة. والشاة المذكاة وغيرها من الأنعام -أياً كانت- ليس في جلودها بحث؛ لأن جلدها تابع للحمها، وإن أردت أن تأكل الجلد فلك أن تأكله، وإن لم تأكله فلك أن تستعمله. فبقيت الميتة، وما لا يؤكل لحمه، كما لو جئت إلى أسد وذبحته، وأخذت جلده ودبغته، فهل يدخل معنا أم لا؟ الذي يهمنا ابتداءً أن نُخرج جلود المذكاة -مأكولة اللحم- عن البحث، ونبقى في دائرة جلود الميتة وما يلحقها من غير مأكول اللحم، وأريد بهذا التقسيم ألَّا نتشعب في الموضوع، وقد ذكر الشارح هنا وغيره سبعة مذاهب في هذه المسألة، ولكن لا يهمنا كثرة المذاهب، إنما الذي يهمنا دلالة النصوص التي جاء بها المؤلف، وموقف الأئمة الأربعة منها، والنهاية التي نتوصل إليها. نأخذ الحديث الأول وهو: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة (أيما إهاب دبغ) . لاحظوا ترتيب المؤلف الحكيم! (إذا دبغ الإهاب) (أل) هنا للاستغراق، ولم يستثن أي نوع من الإهاب، فدل على عموم الإهاب، وكلمة: (إهاب) كما يقول علماء اللغة: تطلق على الجلد قبل دبغه، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب. إذاً: (إذا دبغ الإهاب) أي: الذي قبل الدبغ يسمى إهاباً، فإذا دبغ فقد طهر، إذاً: هو قبل الدبغ يكون نجساً، فالكلام -إذاً- في الميتة؛ لأن المذكاة طاهرة بجلدها ولحمها، وقد أخرجناها من قبل. (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) و (أل) هنا -وإن كانت للعموم والاستغراق- خاصة بالميتة بقرينة: (طَهُرَ) ؛ لأنه كان نجساً قبل أن يدبغ. الرواية الثانية: (أيما إهاب) وهذه صيغة عموم لا تترك شيئاً، فشملت أيضاً: إهاب المذكاة، والميتة، والمأكول وغير المأكول، لكن بالقرينة إذا لم يدبغ فهو نجس. لصيغة العموم قال الظاهرية وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أيما -بدون استثناء- إهاب كان نجساً فدبغ فإنه قد طهر، و (أيما) هنا: تشمل الشاة الميتة، والبقرة الميتة، والبعير الميت، والكلب الميت، والخنزير الميت، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أخرج من هذا العموم الخنزير، وقال: أيما إهاب مأكول اللحم أو غير مأكول لعموم (أيما) ، ولماذا أخرج أبو حنيفة الخنزير؟! ولماذا أبو يوسف أدخله مع عموم (أيما) ؟ أبو حنيفة رحمه الله قال: هناك نص أقوى من هذا، وهو قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} [الأنعام:145] والرجس: النجس، فيقول: إذا كان الخنزير في حياته رجساًً فكيف إذا مات، أو إذا ذبحناه وأخذنا جلده؟! وكيف الدباغ يطهر الجلد وهو في حال حياته نجس؟! والحياة سبب الطهارة كما يقول مالك: الحياة سبب الطهارة، والموت سبب النجاسة. فـ أبو حنيفة يقول: الخنزير -وهو حيٌ على قوائمه- رجس، فكيف يقال: إن الدباغ يطهر جلده؟ جاء أبو يوسف ومن قال بالعموم فقالوا: الخنزير لا جلد له، ولكن التحقيق أنه ما من حيوان إلا وله جلد، لكن الكفار -عافانا الله وإياكم- إذا ذبحوه، أزالوا الشعر وأخذوا الجلد مع اللحم. والكلام في الجلد، وأنتم تعرفون لحم الرأس فيه شعر، ومن الناس من ينظف الشعر، ويأكل الجلد مع الرأس، إذاً: هل للخنزير جلدٌ أم لا؟ التحقيق أن له جلداً. إذاً: قوله في هذا النص: (أيما) ، أخذ بهذا العموم الظاهرية، ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والإمام بنفسه أخرج الخنزير بنص آخر لا بهذا النص، ويقول: هذا النص يشمله، ولكن القرآن يخرجه؛ لأنه وصفه حال الحياة بأنه رجس. قال رحمه الله: [وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) صححه ابن حبان] . قوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فيبقى الإهاب على عمومه، ويحمل ويقيد الحديث بقيد الميتة، وهذا الذي عنيناه في أول البحث، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب الآنية [2]

كتاب الطهارة - باب الآنية [2] الشريعة تدعو إلى التكافل الاجتماعي، والانتفاع بكل شيء وإن صغر في أعيننا كالانتفاع من الشاة الميتة بأخذ جلدها ودبغه، وإنما ميز هذه الأمة على سائر الأمم تمسكها بتعاليم دينها الربانية، ويقينها بأن ما شرعه الله هو خير لها، وأن ما عند غيرها هو شر لا ينبغي الإعجاب به، والحرص عليه.

شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض)

شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) أخرجه أبو داود والنسائي] . حديث شاة ميمونة فيه مباحث متعددة: وجاءت الروايات: (أن شاة لـ ميمونة) ، (شاة لبعض زوجاته) ، (شاةً ماتت) ، (مر بشاة يجرونها) إلخ، والظاهر أنها لـ ميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً. نشرح الحديث كلمة كلمة: قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم. (ماتت) : أي: لم تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال: (هلا) ، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا هلا قلت كذا وهو حض على الفعل. (هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب) خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب. (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، أخذ بعض العلماء -غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به) ، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك -الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات: (إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد) ، لكن تهمنا الرواية المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج، وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟ فقال: (يطهره الماء والقرظ) ، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب- مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها) ، لكنه هنا ذكر صنفاً من أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد. وقوله: (يطهره) أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة، وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم، ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط. ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما إهاب) ، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) . إذاً: وجدت صيغ العموم فشملت مأكول اللحم.

إرشاد الأمة إلى الانتفاع باليسير والحفاظ على المال

إرشاد الأمة إلى الانتفاع باليسير والحفاظ على المال نقف في هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: توجيه عام للأمة في أصل من أصول الاقتصاد. الجهة الثانية: توجيه خاص لمتأخري طلبة العلم في الوقت الحاضر. أما التوجيه العام فلو سألنا الحاضرين جميعاً: لو ماتت عندك شاة؛ أتطيب نفسك أن تذهب وتسلخها لتحصل على الجلد؟ يقول لك: لا، ما لي حاجة إليها، قد ماتت وعفنت، فأنت تترفع وتتقزز نفسك أن تسلخ جلد الميتة لتنتفع به، ولسان حالك: ماذا يساوي هذا؟! وماذا أصنع به؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ضرورة الحفاظ على المال، والانتفاع بأدنى وأتفه شيء يمكن؛ لأن في ذلك حفاظاً على اقتصاد الأمة، وفيه -أيضاً- ادخار، فإذا كان يحث على الانتفاع بجلد الميتة بعد موتها، ومعالجته بالدباغ لينتفع به، فهل ترونه يتساهل في الأمور الأخرى؟! لا، ونحن نترك الشاة المريضة أو نراها قد سقطت فانكسرت، فنقول: اتركها حتى تموت، وكان ينبغي أن ندرك ذكاتها -ما لم تكن مريضة مرضاً يضر بالإنسان-، ونجد الكثير من الأمم في العصر الحاضر تتلف العديد من سلعها، وتتساهل فيما يقال له: القديم، ونجد بعض الدول الأخرى تبحث عن المستهلكات لتجدد صناعتها، وهاهو الإسلام يقول لنا: عليك ألاَّ تهمل شيئاً قط يمكن أن تنتفع به. وقد كتب بعض الإخوان بحثاً منذ حوالى أكثر من (15) عاماً يقول فيه: إن العالم في حاجة إلى الحديد، فالإنسان يخرجه من معادنه، ويصهر التراب حتى يخرجه، ولدينا مئات الأطنان من الحديد ملقاة في الفلاة من تلك السيارات التي على جوانب الطرقات، فلو أخذت وصهرت وأعيد تصنيعها لوفرت على الدولة الشيء الكثير، فكيف نهمل الأشياء الأخرى؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على تمرة ملقاة على الأرض ويأخذها ويقول: (لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، ولا يرضى أن يترك تمرة ساقطة على الأرض، ثم لو جئنا لبعض الأمور الأخرى نجد بعض الأشخاص لديه السيارة الفارهة، ولديه المتاع الذي صفته كذا، فإذا ما جاءت سيارات جديدة أو ما يسمى بالموديل الجديد عاف هذه السيارة وذهب واشترى سيارة جديدة، لأي شيء؟ لأن الموديل هذا جديد، وكذلك أنواع الفراش، وأنواع الأثاث فيقول: هذه صارت قديمة، ولا ينتفع بها، مع أنه يمكن إصلاحها. وفي هذا الحديث توجيهٌ للأمة بضرورة الحفاظ على أتفه الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، وألاَّ تترك -ضياعاً- للشيطان. إذاً: هذه لفتة إلى الانتفاع بالقليل والكثير مما أعطانا الله سبحانه وتعالى، ولو كان جلد ميتة، ولو كانت تمرة في الأرض، فضلاً عن الأشياء العديدة ذات الأثمان الغالية والمرتفعة.

نجاسة الدم المسفوح

نجاسة الدم المسفوح الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟ قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛ فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره) . إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ... ) ، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقوله: (اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض. ونأتي إلى كتاب المحلى لـ ابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك الدم) ، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-، وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم - ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ (ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم. وأيضاً أتينا إلى المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى. إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.

خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ

خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ نرجع إلى موضوعنا في فقه باب الآنية، وتقدم أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة أخذ بالعموم، وأدخل جلد الكلب والخنزير، ووافقه الظاهري، أما، أبو حنيفة رحمه الله فأخرج من العموم جلد الخنزير، وادعى أنه ليس للخنزير جلد، والشافعي رحمه الله أخذ بالعموم وأخرج الخنزير، وقاس عليه الكلب؛ لأن الكلب عنده نجس كله، ومالك وأحمد أخذوا بعموم: (أيما إهاب) ولكن قالوا: يستعمل ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يكون الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك يقولون بطهارة جلود الميتة بعد دبغها على عموم: (أيما إهاب) ، ولم يستثنَ من ذلك إلا الخنزير والكلب عند الشافعي، وقال أحمد ومالك: يطهر ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يجوز استعماله في اليابسات دون المائعات، إلا أن المالكية يقولون: جلد الميتة يستعمل ظاهراً فقط في اليابسات فقط، ولا يستعمل في المائعات إلا في الماء؛ لأن الماء قوي يدفع النجاسة عن نفسه. بعد هذا نرجع إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟ أما الذين أخذوا بالعموم فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى التعميم على ما سيأتي إن شاء الله. بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه، تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد. والمناقشة في ذلك بأن نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة) . وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز، والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا) ، فما بقي إنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه عليك) ، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون، ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا. والذي يهمنا هنا، أن هذا الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك والوثني ميتة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ، يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم، فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛ ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً) ، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه، و (شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً، فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة ما دبغ ظاهراً وباطناً. بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟ الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور) ، والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر. وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا: إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في سفر ولا في حضر. إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟ وصناعة الجلود قد توسعوا فيها، فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما يتعلق بهذه الجلود. وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ) والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ: بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة، فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء،وبعضهم يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.

شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها)

شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها) قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم؟! قال: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها) متفق عليه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشرك) متفق عليه في حديث طويل] . ننتقل إلى حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم ... ) وأهل الكتاب: يصدق على اليهود وعلى النصارى، وكان اليهود يسكنون في الجزيرة، وكذلك النصارى خاصة في الجهة الشمالية في دولة الغساسنة، ونصارى بني تغلب كانوا موجودين في تلك المناطق، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها إلاَّ ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، وفي بعض الروايات: (وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر) يعني: في تلك الأواني، فهل نستعير تلك الأواني ونستعملها والحال أنهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمور أم لا؟ قال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً) يعني: اغسلوها بقوة، ثم بعد ذلك كلوا واشربوا فيها، وأخذ العلماء من هذه الحديث عدم جواز استعمال أواني أهل الكتاب إلا بعد غسلها، ويقول البعض: إذا لم نشاهد فيها شيئاً يستوجب الغسل فنأخذها ونستعملها، فلو جاءنا إناء فيه آثار إدام أو شراب فنغسله، لكن إذا هم قد غسلوها ووضعوها وهيئوها حتى استعمالها، فطلبناها منهم ولم نجد فيها شيئاً يستوجب الغسل استعملناها، فهي في ذاتها ليست نجسة، وإنما رحضها بالغسل لما عساه أن يطرأ عليها، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يأكلون من طعام أهل الكتاب عند أهل الكتاب، وفي أوانيهم، ولم يسألوهم: هل غسلتموها أم لا؟ فهم قد أكلوا في أواني أهل الكتاب حينما قدموا لهم الطعام في أوانيهم فأكلوا، ولا ننسى الشاة المسمومة التي قدمتها المرأة في خيبر، وورد: (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم له إهالة سنخة فأكل منها) ، وإهالة: عصيدة خفيفة مثل الشربة، فيها سمن متغير ريحه، فأكل منها في أوانيهم.

وجوب الحفاظ على عادات وتقاليد ولغة الأمة الإسلامية

وجوب الحفاظ على عادات وتقاليد ولغة الأمة الإسلامية النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال آنية أهل الكتاب في قوله: (إلا ألا تجدوا غيرها) ، يعني: عند الحاجة والضرورة فقط، وعند عدم الضرورة تترك ولو كانت طاهرة، نرجع إلى مبدأ آخر وهو: في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه أوصى بقوله: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) بمعنى: يجب على المسلمين أن يتميزوا، وألا يندمجوا مع أهل الكتاب؛ لأن تبادل الأواني، وتبادل الزيارات، وتقارب الجوار، والاحتكاك والاختلاط مدعاة إلى تبادل الأفكار والآراء والتقليد حتى في الأزياء والحياة، ومن هنا حرص صلى الله عليه وسلم على إبعاد المسلمين عن أهل الكتاب في التجاور والمخالطة، وفي التعاون والتبادل؛ ليبقى المسلم متميزاً بذاته ومنهجه وشعائره، وعلى هذا لا ينبغي مخالطتهم حتى بتبادل الأواني، ولذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ؛ فإن كل أمة خالطت أمة أخرى لابد وأن تدخل تلك الأمة بعاداتها وتقاليدها ولغاتها في الأمة الأخرى؛ فيحصل التجريح في اللغات، ويقع اللحن في اللهجات، والتقليد في العادات، ويؤخذ من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى هذه؛ فيقع الاشتراك في المناهج في الحياة، وإذا طال الزمن بهذا الاشتراك انماعت إحدى الأمتين في الأخرى، والذي يتتبع أخبار العالم الإسلامي مع العالم الغربي منذ عهد الاستعمار وما فعله في العالم الإسلامي، فإننا نجد حينما تدخل أمة مستعمرة بقوتها، فإنها تحارب أولاً اللغة والدين والتقاليد والعادات، وأول ما تدعو إليه: انصهار الأمة المستعمَرة صاحبة البلد الأساسي في بوتقة المستعمِرة الغاصبة؛ فتصبغ عليها زيها، وتفرض عليها لغتها، وجميع أنواع حياتها، ولقد وجدنا في الآونة الأخيرة أقطاراً ودولاً لغتها الأصلية العربية، ثم إذا بها تنسلخ عنها، بل وتكتب لغتها المحلية بالحروف اللاتينية ربطاً لها بلغة الدولة المستعمرِة؛ ليلغى من أذهانهم العربية بالكلية، وإذا انسلخت الأمة المسلمة من اللغة العربية فما الذي يربطها بكتاب الله الذي قال الله فيه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] ؟ ما الذي يربطها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولقد لقينا بعض الأشخاص من رؤساء بعض البعثات في عام (84) في رحلة إلى أفريقيا، وكان يدعو إلى مؤتمر إفريقي في فرنسا لدراسة اللغة المحلية التي يتعارف عليها الاتحاد الإفريقي، وقلنا له: يا فلان! اتق الله! إنكم إن اخترتم لغة غير العربية؛ فمعنى ذلك أنكم عزلتم أنفسكم عن العالم الإسلامي. وأقول لكم: إن اللغة العربية ليست كبقية اللغات، واللغات في أصلها ما لم يكن لها ضمان تتشعب بسبب اللهجات، وهذه اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية هي متفرعة من لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، فتشعبت إلى لهجات، ثم استقلت وصارت كل منها لغة مستقلة، والآن اللغة الإنجليزية في شمال بريطانيا تغاير ما في جنوبها، وكذلك اللغة الفرنسية في شمالها تغاير ما في جنوبها، واللغة العربية أوجد الله لها ضامناً من أن تتشعب مهما وجد فيها من لهجات عامة، فإنك الآن تأتي إلى الموسم في الحج فتجد البادي من الجزائر، والبادي من المغرب، والبادي من الصعيد، ونجد، وتجد البادي من أقطار العالم، وكلهم يتكلم اللغة العربية، وإذا تكلم بلهجته المحلية لا يفهم الآخر منه شيئاً؛ لأنها لهجة محلية، أما إذا قرأ الإمام في صلاته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فإن جميع هذه الأقطار تفهم ما يقول الإمام، لماذا؟ لأن القرآن الكريم أصبح قطب رحى اللغة العربية، تدور حوله مهما تشعبت لهجاتها، وتباعدت أقطارها؛ فإنها ترجع إلى المركز الأساسي ألا وهو: القرآن الكريم، وقلت له: أيها الأخ! مهما اخترتم من لغة محلية فإن طول الزمن سيجعلها تتشعب إلى لهجات، ويوجد في أفريقيا ما لا يقل عن مائتي لغة محلية، فستعود المسألة في حافرتها، وأين للأجيال المقبلة ما يربطهم بمعجمات اللغة وقواميسها، وموسوعات الفقه والحديث والتفسير؟ ولا تستطيعون أن تترجموا هذه الموسوعات إلى اللغة التي سوف تختارونها، وإذا تشعبت إلى لغات لن تستطيعوا متابعة الترجمة إلى كل ما يستجد من لهجة. إذاً: عودتكم إلى اللغة العربية عودة إلى الأصل، وفيها الغناء لكم، ويقول الشافعي رحمه الله: فرض عين على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يتعلق بعبادته لربه. أيها الإخوة! نحن استطردنا في هذا الموضوع؛ لأنها قضية اليوم، وهذا الحديث ليس الغرض فيه مجرد أحكام: طهارة، نجاسة، استعمال آنية كفار أو عدم استعمالها، ولكن الحديث أوسع أفقاً في الدلالة، وفيما ينتفع به المسلم، وهنا صلى الله عليه وسلم يوصي أنه لا ينبغي للمسلم أن يستعمل آنية أهل الكتاب إلا عند الحاجة، وكما أشرت ليست القضية قضية أوانٍ، إنما القضية قضية مبادئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون متميزاً بذاته لا يندمج مع غيره فينماع وتذوب شخصيته، ويبقى هو وغيره -من غير المسلمين- سواء، وبالله التوفيق.

شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه

شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر؛ فاتخذ مكان الشَّعْبِ سلسلة من فضة) ] . هذا الحديث تتمة لما تقدم، وله صلة بالنهي عن أواني الذهب والفضة، وله صلة أيضاً بما أشرنا إليه -أيضاً- في شاة ميمونة. وقدح النبي صلى الله عليه وسلم كان مربعاً -يعني: لم يكن مستطيلاًً، ولكنه قصير وواسع- وكان يشرب فيه، ويقول أنس: (سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء والنبيذ واللبن) . (انكسر) : ما ألقى به وجاء بغيره، مع أنه كان يستطيع -لو أراد- أن يتخذ قدحاً من زمرد، ولكن حفاظاً على ما يمكن أن يستفاد منه، جعل محل الشعب سلسلة من فضة، أي: أنه صار مضبباً، والتضبيب: أن يخرز الإناء من طرفيه، ويلمه ويملأ محل الخرم بالجبس، فيلتحم الإناء الذي كان مكسوراً، ثم يستعمل، وكانت الصحون الصينية النفيسة عندما تنكسر -وقد تنكسر إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة- لا يلقي بها أصحابها، ولكن يؤتى بها إلى من يمارس هذه الصنعة فيخرز محل الكسر، ويجعل له ضبة، فيلمها، ويصبح الصحن -نوعاً ما- كما كان قبل ذلك. إذاً: يجوز استعمال الفضة عند الحاجة؛ لأن غيرها لا يجزئ عنها، وإذا كانت الفضة تجزئ فلا حاجة إلى الذهب، ولكن يقول الفقهاء: عند الاستعمال لا ينبغي أن يعمد إلى موضع الفضة: ويشرب منه ملامساً له، إنما جعل التضبيب لحفظ الإناء حتى يمكن استعماله، فيشرب بعيداً عن مواطن الفضة؛ حتى لا يلامسها عند الاستعمال، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [1]

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [1] الخمر نجسة عيناً، وتحريمها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا عولجت صناعياً فلا تطهر، وإنما تطهر إذا تحولت تحولاً طبيعياً فصارت خلاً؛ وذلك لأن النجاسات إنما تطهر بتفسخها وتغييرها إلى مادة أخرى، كاللبن الخارج من بين الفرث والدم.

النجاسة وأحكامها

النجاسة وأحكامها

تصفية مياه المجاري

تصفية مياه المجاري البحث الذي كثر السؤال عنه هو مياه المجاري إذا صفيت، وإذا عولجت، فهل تلك التصفية وتلك المعالجة ستعيدها إلى أصلها؟ لقد بحثت هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بتصفية مياه المجاري وتخويلها إلى مياه صالحة لاستعمال. وأقول: إن هذا البحث على ما فيه من سعة، وما فيه من فقه، وما فيه من أبحاث كان ينبغي أن يذكر الفرق بين النجاسة الطارئة على الماء، وكيفية تطهيرها، وبين النجاسة الأساسية، كيف تطهر، وكلما ورد في هذا البحث إنما هو تطهير الماء إذا تنجس، والأمثلة فيه منها: ما لو سقطت ميتة في البئر، أو وقعت الفأرة في السمن، وكلها أمثلة على ماء موجود طرأت عليه نجاسة، فكيف نطهره؟ هل بالمكاثرة، أو بالتراب، أو بإخراج الميتة من البئر؟ ولكن المبحث هنا هو في الماء النجس العين، وهو ماء المجاري، فلم يتعرضوا له بشيء، وفي نهاية البحث -جزاهم الله خيراً- قالوا: وينبغي على المسلمين أن يتجنبوا هذا الماء ما دام الماء الآخر موجوداً متوفراً. ولكن قالوا: من عافت نفسه أن يشرب فلا يشرب، ومن لم يجد غيره وتوضأ فوضوؤه صحيح. ولعل في هذا إشارة إلى بعض ما يتعلق بهذه المسألة، وهي تحول الماء الطاهر -لا الماء النجس العين-، وهل تحوله يعيد إليه طهوريته أم لا. ومن أراد البحث بشكل أوسع فليرجع إلى مجلة البحوث العلمية، وهو في عدد ذي القعدة وذي الحجة لعام اثني عشر وأربعمائة وألف للهجرة، والبحث في أكثر من ثلاثين صفحة. وأحب أن أنبه أخيراً على أن القرآن اشتمل على منهج التدرج في تحريم الخمر؛ لأنها كانت متأصلة، أو كانت مستفيضة، واستمالت نفوس الناس، فتدرج الوحي الكريم بتخفيفها شيئاً فشيئاً، حتى فطمهم عنها مرة واحدة، وبالله تعالى التوفيق.

إراقة الخمر وإتلاف أوانيه

إراقة الخمر وإتلاف أوانيه جاءت في هذا الباب نصوص عديدة، منها أنه لما حرمت الخمر جاء رجل كان من عادته في أوائل أمره أن يأتي بخمر يهديها للنبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما شربها أبداً، ولكن كان يسمح بها لغيره، فجاء وقد حرمت الخمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله قد حرم الخمر؟ قال: ما علمت. ثم قال: يا رسول الله! أبيعها؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. قال: أهديها لليهود؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم مهاداتها على اليهود قال: ماذا أفعل بها؟ قال: سنها -أو: شنها- في التراب، ففتح فوهي المزادتين، فسالت الخمر في الطريق) . وبعد أن ثبت تحريم الخمر جاء أبو طلحة، وكانت عنده خمر لأيتام في أوانٍ، وكان أنس يسقي جماعة، وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم، وهي زوجة أبي طلحة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! هذا أنس يخدمك. وكان أبوه سافر إلى الحبشة وتوفي هناك. ثم جاء أبو طلحة وخطب أم سليم -وأم سليم كانت من فضليات النساء، فقالت: يا أبا طلحة! والله مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك، وأنا امرأة مسلمة. فقال: ماذا تريدين من حمراء وصفراء -يريد الذهب والفضة-، أو بيضاء وصفراء؟ قالت: لا أريد بيضاء ولا صفراء، أريد منك أن تسلم، فقال: أفكر في أمري، ثم جاء من غده فقال: وما هي الطريق؟ قالت: تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه. ويقولون: لما قدم عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أبو طلحة ونور الإسلام بين عينيه) فلما أسلم ورجع إليها تزوجته، وكانوا يقولون: ما وجدنا امرأة أسعد صداقاً من أم سليم، كان صداقها الإسلام، وهذه رواية في زواج أبي طلحة من أم سليم أم أنس. والرواية الأخرى فيها أن أبا طلحة أسلم قبل ذلك، وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد حضر بيعة العقبة، ومن المؤرخين من يقول: كان نقيباً على قومه، ومنهم من يقول: كان أحد أفراد السبعين فقط. فـ أنس ولد زوجة أبي طلحة - كان عنده جماعة يسقيهم الخمر، فسمعوا منادياً ينادي: إن الله ورسوله قد حرما الخمر، فقال أبو طلحة لـ أنس: ما هذا؟ أخرج وتبين الأمر، فرجع إليهم فقال: ينادي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الله حرم الخمر، فكفوا عن الشراب حالاً، ثم ذهب أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عندي خمر لأيتام -وكان يجوز استعمالها، وكان يجوز الإتجار فيها- أفنتخذها خلاً؟ قال: لا) ، وكلنا يعلم حرمة مال اليتيم على الوصي عليه. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الأواني، وأمر مناديه أن ينادي بذلك في أزقة المدينة، وأخذ مدية، فما مر بزق فيه خمر إلا نشقه، حتى قال الراوي: فسالت الخمر في أزقة المدينة. وهنا يرى العلماء عدم جواز تخليل الخمر بالصناعة، وأن نجاستها تنفذ في مسام الأواني الفخار، وقالوا: لو كانت الاستفادة ممكنة عن طريق تخليلها لسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليل خمر اليتامى، حتى لا تضيع أموالهم، ولكنه أمر بإراقتها، وزيادةً على ذلك أمر بتكسير الأواني التي كانت فيها. فالخمر نجسة ومحرمة فأريقت، لكن لماذا كُسرت الأواني مع أن الأواني أموال ولها قيمة؟ كما أنه يمكن أن تستعمل في حفظ الزيوت، ويمكن أن تستعمل في حفظ المياه، ويمكن أن تستعمل في حفظ الدقيق، ويمكن أن تستعمل في اليابسات ونحو ذلك! قالوا: لأن الخمر تتسرب في مسام الفخار، والفخار له مسام، بدليل أنك إذا جئت بالإناء من الفخار وملأته فإنه يقطر الماء، فكانوا يستعملونه كالفلتر المرشح للماء بأخذ الماء المتقطر من جوانبه؛ لأنه يكون أقل ملاحه مما لو شرب مباشرةً، فلما كانت للفخار مسام يدخل فيها الخمر ثم يمكن أن يطهر؛ لأنها لو غسلت سوف تطهر من الخارج، والغسل لا ينفذ إلى مسامها ويستخرج منها بقايا الخمر لتطهر فأمر بتكسيرها.

خلاف العلماء في حكم تخليل الخمر

خلاف العلماء في حكم تخليل الخمر ما سبق هو ما استدل به الجمهور على أن الخمر نجسة، وأن تحليلها أو تخللها بالصناعة لا يطهرها، وبعضهم يخالف في هذا، فمن الأحناف من يقول: إذا وضع فيها ما يسلبها العلة -وهي الإسكار والتخمير- عادت طاهرة، وجاز استعمال الخل. ولكن أبا يوسف رحمه الله -وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة - لا يوافق على هذا الرأي، ويقول: إن اتخاذها خلاً لا يطهرها، ولا يُجوِّز استعمالها. والمالكية يقولون: إذا عالجها بالملح أو بالماء، أو بأي طريقة أخرى، وتغيرت طبيعتها، وانتقلت إلى الخل فإنها طاهرة. ونحن نعلم مذهب مالك فيما يتعلق بنجاسة الماء، فلا يعتبر قلةً ولا كثرة، ولكن يعتبر الأوساط، فيقول: إذا خللت وتغيرت، أو استحالت، أو تحولت -على الأصح- ماهيتها من خمر إلى خل صارت عيناً جديدة، وصارت ماهية أخرى، فيجوز استعمالها، بينما أحمد والشافعي يقولان: لا تطهر بالتحويل. وعلى هذا تكون النتيجة أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن معالجة الخمر إلى خل يدل على أن المعالجة لا تطهرها، وهو قول أحمد والشافعي وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة، وعند مالك وبعض الأحناف أن ذلك يطهرها. وهذا الذي وقع فيه الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في قضية كيميائية، ألا وهي تغيير الماهية وتحول الخمر إلى خل، فهل هذا التغير عن طريق الصناعة يغير ماهية الخمر حقيقة فتصير خلاً حقيقة، أم أن الماهية الأساسية باقية، وإنما جاءها ما غلب عليها؟ فأجمع العلماء على أن الخمر إذا تركت وتحولت بذاتها إلى خل فقد طهرت، وصارت خلاً يجوز استعماله بلا كراهية؛ لأنها في حالة تركها للزمن أو للعوامل الجوية من هواء وشمس وغير ذلك تتحول بذاتها، قالوا: إن الله سبحانه الذي جعل فيها مادة السكر والتخمير هو الذي حولها بقدرته، وسلب عنها تلك الماهية، وخرجت عن كونها خمراً تخمر العقل وتسكره، وانتقلت إلى الخل الذي لا شائبة فيه بسكر ولا تخمير. أما إذا جاءتها الصناعة فيقولون: إن الصناعة من حيث هي لا تحيل المادة، ولا تسلب الخاصية التي كانت فيها من قبل، وإنما تجعل فيها ما يتغلب عليها، وتبقى الخمرية والسكر كامنان فيها، ولكن عطل عملها ما حولت به، وأضيفت إليه. وقد جاء عند ابن كثير في البداية والنهاية أنه جاء خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه من العراق إلى الشام ليساعد أبا عبيدة، ولما انتهى من فتح دمشق، قام خالد ودخل الحمام، والحمامات كانت في الحجاز قليلة، والحمام عبارة عن بيت للماء الحار، في داخله قبة يتصاعد منها بخار الماء الحار، فيمكث فيه الإنسان مدة فيدخل البخار في مسام الجسم، ويستعمل في حالات الاستشفاء، وخاصة فيما يتعلق بالأعصاب، أو بالركب، أو حالات النفاس. فدخل من بعد طول العناء في هذه الحروب والسفر، ولما دخل الحمام اطلى بالنورة، والاطّلاء بالنورة هو عبارة عما يوجد الآن في الصيدليات مما يسمى مزيل الشعر، وهي مادة كيماوية تحرق الشعر من جذوره ويزول، فكذلك النورة فيها حرارة وفيها تلك الخاصية، فإذا ادهن بها في جلده أحرقت الشعر، وسهلت إزالته بدلاً من الموسى، ولما استعمل النورة وهي حارة جاء بالعصفر وعجنه بالخمر؛ لأن العصفر نبات بارد، ثم أتبع محل النورة بهذا المعجون ليبرد الجلد من أثر النورة المحرقة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: بلغني يا خالد! أنك دخلت الحمام، وأنك استعملت الخمر، وقد حرمها الله. فكتب إليه خالد: يا أمير المؤمنين! لم نستعملها شراباً، ولكني استعملتها غسولاً، يعني: تغسل أثر النورة عن محلها، أي: استعملناها ظاهراً لا باطناً. فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: كتبتُ إليك بكذا، ورددتَ بكذا، وقد علمتَ أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً -وظاهراً: كأن تستخدم غسولاً كما فعل خالد، وباطناً: استعمالها شراباً- ولكني أراكم آل المغيرة فيكم جفوة، وأرجوا أن لا تموتوا على ذلك. فكتب إليه خالد رضي الله تعالى عنه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين. والذي يهمنا في استعمال الخمر ماهيتها؛ إذ يقول خالد: لم أشربها، إنما استعملتها غسولاً، يعني: حولتها من شراب مسكر إلى غسول، فرد عليه عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يعني: وإن كنت لم تستعملها فإن أثرها والعلة الأساسية موجودة فيها. فحينما نأخذ الخمر ونعالجها لتصير خلاً هل تزول علة الإسكار والتخمير التي كانت فيها قبل أن نعالجها بالكلية وتتحول الماهية كما تتفسخ المادة وتتحول إلى شيء آخر، كتحول الحليب من الدم؟ فالدم يجري في الجسم، ويتحول إلى حليب فيرضعه الطفل، ويتغذى عليه الكبار كما في حليب الحيوانات، قال تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا} [النحل:66] ، فهل تحول الخمرة بالصناعة هو تحول عن ماهيتها كما يتحول الفرث والدم إلى لبن خالص سائغ للشاربين، أم أن أصل المادة وأساسها ما زال موجوداً، ولكن غلب عليه ما أضفناه إليه، وحولناها به من باب الصناعة؟! فالقضية سترجع إلى تحقيق المناط في الخمر، فيقال: هل تحولت ماهيتها، أم ما زالت باقية كامنة فيها؟ ولنضرب بعض الأمثال: إذا جئت بإناء من الماء، فسقطت فيه قطعة من العذرة، فشممت رائحتها فعفتها، فقلت لإنسان: اذهب فأرق هذا الماء، وائتني بماء نظيف ليست منه هذه الرائحة فذهب من ورائك وأتى ببعض العطور، وأتى ببعض الأشياء التي تغطي تلك الرائحة، حتى إنك لو أخذتها وشممتها، أو تذوقتها، أو نظرت إليها، لا تجد لوناً، ولا رائحة، ولا طعماً لما شاهدته بعينك من قبل، فهل تحولت المادة التي نجست الماء وتقذر بسببها كتحولها تحت الشجرة إلى غذاءٍ وثمرة، أم أنها باقية في الماء وجاءها ما غطى على أوصافها؟ فإن قلت: تحولت فقد طهرت، وإن قلت: إنها باقية موجودة، ولكن الذي أضيف إلى الماء غطى عليها، فالنجس لا زال موجوداً.

نجاسة الخمر

نجاسة الخمر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا) أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح] . في هذا الباب بيان الأعيان النجسة، وبيان تطهيرها. وهذا الترتيب من حيث هو -في باب الفقه- ترتيب طبيعي، وهو موافق للترتيب العملي، فبدأ بكتاب الطهارة، ثم ذكر باب المياه، ثم بعد المياه الأواني التي نحفظ فيها الماء، وبيان ما يجوز استعماله وما لا يجوز، ثم هاهو يأتي بباب النجاسة؛ لأن النجاسة تحتاج إلى تطهير، ويجب اجتنابها، فهي من لوازم كتاب الطهارة، وإنما تكون الطهارة من النجاسة، أو كما قيل: من النجس أو الحدث. والحدث أمر معنوي، والنجاسة أمر حسي. والنجس منه ما هو نجس العين، ومنه ما هو نجس نجاسة طارئة عليه، أي: متنجس. فنجس العين لا يطهر إلا بإزالة العين، كالعذرة والدم وما أشبه ذلك، فلا تَطْهُر إلا بإزالة عينها نهائياً، فإذا خالط الثوب شيء من تلك الأنجاس العينية فلا بد من إزالة عينها وجرمها قدر الاستطاعة، وسيأتي في دم الحيض: (ولا يضركِ أثره) . أما التنجس فهو الشيء الطارئ الذي يطرأ على العين فينجسها، كالماء الطهور إذا وقعت فيه نجاسة، مع أنه كان في الأصل طاهراً، ولكنه تنجس بهذه النجاسة. فبدأ المؤلف رحمه الله تعالى ببيان نجاسة الخمر، وعلمنا نجاسة الخمر من خلال السياق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تتخذ خلاً فقال: لا. وطريقة الاستدلال على نجاستها أنها لو لم تكن نجسة لسمح صلى الله عليه وسلم بمعالجتها حتى تصير خلاً فتطهر بذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا) ، أي: إن معالجتها وتحويلها إلى الخل لا يطهرها. ونجاسة الخمر متفق عليها عند الأئمة الأربعة، فهي نجسة العين، أما إذا تخللت بذاتها، وتحولت العين من عين خمرية إلى عين الخل فتطهر، وكما يقولون: تغيرت الماهية فتغير الحكم؛ لأن نجاستها كانت معلولة بالتخمير، فما دامت مخمرة مسكرة فهي نجسة، فإذا ذهبت عنها صفة الخمرية والإسكار رجعت إلى الأصل، فصارت طاهرة. والبحث هنا في هذا السؤال، وهذا الجواب، فسُئل صلى الله عليه وسلم: (عن الخمر تتخذ خلاً، -وتتخذ معناها: تعالج-؟ قال: لا) .

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [2]

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [2] الحمر الأهلية من الحيوانات المعروفة، وقد كان المسلمون يأكلونها في أول الإسلام، ثم حرمت يوم خيبر، وهي مع حرمة أكلها طاهرة أثناء حياتها، فلعابها وعرقها طاهران، وأيضاً جلدها بعد موتها إذا دبغ، أما الحمر الوحشية فهي حلال، وقد اختلف العلماء في سبب التفريق بين الحمر الأهلية والوحشية، ومن أبرز ما قيل في ذلك أن الحمر الأهلية ذات طباع سيئة، فهي مثلٌ للغباوة والمذلة، فإذا أكثر الإنسان من أكلها اتصف بطباعها، ولو صح هذا التعليل فإن الأصل هو التسليم للحكم الشرعي.

أحكام الحمر

أحكام الحمر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس) ، متفق عليه] . انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى بيان نجاسة بعض الحيوانات -أي: لحومها- وتحريم أكلها. والتوقيت بذكر يوم خيبر يدل على أن ما قبله كان مغايراً لما بعده، وأن هذا الحكم الطارئ الجديد يبدأ العمل به من تاريخ يوم خيبر، ويوم خيبر كان في السنة السابعة من الهجرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينادي في الناس بتحريم لحوم الحمر الأهلية. وقد يتساءل إنسان: لماذا خص أبا طلحة، مع أن القاعدة في التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون المبلغ من ذويه ومن أهله؟ كما جاء في قصة سورة براءة، فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر سنة تسع يحج بالناس -ولم يحج صلى الله عليه وسلم لعوارض كانت موجودة-، فنزلت سورة براءة، فبعث علياً رضي الله تعالى عنه ليقرأ سورة براءة على المشركين، ويعلن انقطاع المعاهدات بين المسلمين والمشركين، وأرسله على ناقته القصوى، فقالوا: لا يبلغ عن الرسول إلا واحد من ذويه. وهنا في عام خيبر يبلغ أو يكلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة، مع وجود علي، ومع وجود من هو أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي طلحة، كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان. والجواب أنا إذا نظرنا في ترجمة أبي طلحة نجد منه ما يرشحه لهذا العمل، وهذا يعطينا أنه ينبغي أن نقدم الأشخاص ذوي الاختصاص فيما يختصون فيه، فقد كان أبو طلحة جهوري الصوت، حيث جاء في ترجمته: صوت أبي طلحة في الجيش كفئة، وقيل: صوت أبي طلحة في الجيش كألف رجل، فكان صوته جهورياً وقوياً، وكذلك كان العباس رضي الله تعالى عنه، فقد كان العباس إذا كان بالمدينة، وله غلمان في الغابة، وبينه وبينهم مسافة بعيدة يصعد على جبل وينادي غلمانه فيسمعونه ويجيبونه. فهناك أشخاص أوتوا بعض الخصائص في القوة سواءٌ البدنية أم الفكرية. فنادى في الناس: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) ، وكانوا قد ذبحوا منها في ذلك اليوم، ولحومها في القدر على النار، فلما نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفأوا القدور مباشرة، وامتنعوا عن الأكل منها.

طهارة الحمار

طهارة الحمار وبقيت مسألة في الحمر الأهلية، وهي: هل الحمار الأهلي -في حال حياته- نجس أم طاهر؟ والجواب أنه طاهر؛ لأنه مستأهل، وطواف علينا ومخالط لنا، ونستعمله، وأقوى ما استدل به من قال بطهارته في الحياة أنه قال: نحن نركب الحمير، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم حمار يسمى عفيراً، وكان يرسله إذا أراد بعض الأشخاص، فيذهب ويطرق الباب برأسه ثم يعود، أو يقول للرجل: اركبه وتوجه يدلك على الطريق. وأرشد الحيوانات كلها بالطريق الحمار؛ فإنه يعرف الطريق أكثر من الإنسان، فلو مشيت به في طريق ثم أردت أن تعود فإنك لو رجعت وحدك يمكن أن تنسى الطريق، لكن لو ركبته يدلك، فلذا يقولون: أذكى الحيوانات في معرفة الطرق الحمر. والناس يركبون الحمر، ومعروف أن الحمار يعرق، والعرق ينضح من داخل جسمه، خاصة في المناطق الحارة مثل الحجاز والمدينة، ولما كان أهلياً ويستعمل ويركبونه، ولم ينههم عنه صلى الله عليه وسلم عرفنا أنه طاهر، وعرقه إذا خالط الثياب لا ينجسها، بل إذا ركبه الإنسان وخالط جسمه وهو رطب أو مبلل فإنه لا يتنجس. فعرق الحمار ولعابه طاهران، وهذا بإجماع المسلمين، ولكن الذي حرم لحمه. وإذا مات الحمار فإنه إذا دبغ جلده طَهُرَ.

تأثير الغذاء في طبع الإنسان وخلقه

تأثير الغذاء في طبع الإنسان وخلقه إذا نظرنا إلى وجود الخصال في الحيوان وجدناها تؤثر على الإنسان إذا أكثر من أكل لحمها، ووجدنا للعلماء كلاماً كثيراً في ذلك، ومنهم أبو حيان رحمه الله، حيث ذكر الحكمة في تحريم لحم الخنزير، فقال: إن من طبيعة هذا الحيوان افتقاد الغيرة، فالذكر لا يغار على أنثاه، فمن أكثر من أكل لحمه أثر لحمه على غريزة الغيرة عنده، فتضعف حتى يصبح لا غيرة له على نسائه، فالمصيبة جاءته من لحم الخنزير. فإذا كان الأمر كذلك كان تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية لما كمن فيها من تلك الصفات الرذيلة التي لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يرضاها أحد من الناس لنفسه. ويناسب هنا ذكر الكلام على قضية الوضوء من لحم الإبل، وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ لأن الطريق واحد، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأُ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت. قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ، وأكل من الشاة في خيبر، ثم جيء له ببقيتها فأكل ولم يتوضأ. من هنا قالوا: ما الفرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل حتى يؤمر بالوضوء من هذا دون ذاك، والكل لحم؟ نجد في كتب الفقه أن بعض الفقهاء يقول: إن علة ذلك هي حرارة لحم الإبل. ونجد آخرين يردون ذلك ويقولون: لحم الغزال أشد حرارة، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولحم الحمام في الطيور أشد حرارة من الاثنين، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولكن لو ذهبنا إلى أبعد من هذا لوجدنا الفرق في عموم النصوص، أي: النصوص التي لها صلة بالإبل، كما فعل علي رضي الله تعالى عنه في استنباط أقل مدة الحمل من عموم آيتين مختلفتين، الأولى قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، والثانية قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، والحولان أربعة وعشرون شهراً، فاستنبط علي من مجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. فإذا جئنا من خارج موضوع الوضوء، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل، فقال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) ، مع أن هذه مرابض، وهذه معاطن، وهذه فيها أبوال وروث، وتلك فيها أبوال ورجيع، فما الفرق بينهما؟! والفرق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإن الإبل معها شيطان) قالوا: شيطانها أنها إذا جاءت ووجدت نائماً، أو مصلياً، أو جالساً في مكانها طردته وآذته؛ لأن معها شيطاناً، أما الغنم فمعها السكينة، فإذا جاءت ووجدت مصلياً، أو نائماً أو آكلاً في مكانها فإنها لا تؤذيه، ولا تنفره، وربما قعدت ونامت بجانبه. وفي الحديث الآخر: (مع أهل الإبل الكبر والخيلاء، ومع أهل الغنم السكينة والوداعة) ، فمن أين جاء الكبر لأهل الإبل؟ يجيء من جهة أنه يرى نفسه يرعى قطيعاً من الإبل، وقد قال الله تعالى عنها: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] ، فهو خلق عجيب، وصاحب الإبل يأخذ في يده عصا صغيرة، أو يناديها بالصفير فتجيء وتجتمع حواليه، أما الغنم فإنها معها الهدوء والسكينة، ولهذا ما من نبي إلا وقد رعى الغنم -وليس الإبل-؛ لأنها تكسبه الهدوء والسكينة والرفق، إذ لا يمكن أن يتجبّر على شاة صغيرة، أما الجمل فإنه إذا هاج إن لم تتجبر عليه قضى عليك. وننتقل إلى جانب آخر فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان قد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال: (إني لأعلم كلمات لو قالها لذهب عنه ذلك) ، وبين أصل الغضب بقوله: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء) . فإذا جمعنا كل هذه الأطراف وحدنا أن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والإبل معها شيطان، أو خلقت من شيطان، فهي شياطين، فإذا ما أكل الإنسان منها أفاضت عليه من آثر الشيطان، وهو الغضب، فحينما يأكل من لحم الإبل يأتيه من حركة ذاك الشيطان الغضبية ولو شيء قليل، فتؤثر على نفسيته، فحالاً نبادرها بالوضوء بالماء لنطفئ أثر ذلك. فبالتلمس وجدنا فرقاً بين ما ظنوه متماثلاً، وأن لحم الإبل يختلف عن لحم الغنم، فيما يتعلق بالوضوء، وموطن الإبل تختلف عن موطن الغنم فيما يتعلق بالصلاة، وإلا فإن الكل طاهر عند من يقول بذلك. وهنا الحمر الأهلية طبيعتها الذلة واللؤم والخسة، فلا يستبعد أن من أكثر من أكل لحمها تنتقل إليه غريزتها، ويتصف بشيء من تلك الصفات، وهذه ليست من صفات المؤمن. وهذا الذي قدمناه ليس من موضوعنا ولكن رداً على هؤلاء الذين يقيسون التشريع الإسلامي بالمعقولات غير السليمة، ويدّعون أن الشريعة تتناقض؛ لأنها تفرق بين متماثلين، والتفريق بين متماثلين مناقض للعقل السليم. فالحمار الأهلي ليس متساوياً مع الحمار الوحشي، والفرق بينهما موجود، ومن هنا كان النهي عن أكل الحمر الأهلية مع بقاء حلية الحمر الوحشية، والله تعالى أعلم.

توجيه كلام ابن عباس ومناقشته

توجيه كلام ابن عباس ومناقشته بقي هنا إشكال، فقد جاء عن ابن عباس أنه كان يرى أن النهي عن لحوم الحمر الأهلية، للكراهة، وليس للتحريم، ولما سُئل: قال: لا أدري أنهى عنها؛ لأنها ظهر الناس، أو لأنها من جوال القرية! فقوله: (لا أدري) لا يجوز أن نجعله حجة نرد بها حديثاً صحيحاً صريحاً. ثم إن كلام ابن عباس في علة التحريم، فهو يقول: لا أدري لماذا نهى عنها، هل إبقاءً على الظهر -أي أنهم لو أكثروا ذبح الحمر فعلى أي شيء سيحملون متاعهم حتى يعودوا إلى المدينة، أو أنها من جوال القرية، وجوال القرية هي التي تخرج في الطرقات وتلتقط كل ما واجهها، حتى العذرة، فإذا كانت حيواناً مأكول اللحم -واتصف بأنه من الجلالة- منع أكله حتى يحبس، ويطعم طعاماً طاهراً ثلاثة أيام على الأقل، سواءٌ أكان ذلك من الدجاج الدواجن، أم كان من غيرها، وأكثر ما يكون هذا داء في البقر. ويجاب عن هذا بأن جوال القرية هي الحمر المسيبة، أما هذه -أي: التي نزل فيها التحريم- فهي مع أناسٍ غزاة لا يتركونها في الخلاء، بل هي مستعملة عندهم ينتقلون عليها، ويحملون متاعهم عليها. أما قوله: (إبقاءً على الظهر) فإنه رخص لهم أن يأكلوا من لحوم الخيل، فإذا كانت القضية قضية ظهر فالخيل أولى أن يُبقى عليها؛ لأنها أجلَّ في هذا الباب، وأنفع من الحمر في الظهر للغزاة يقاتلون عليها، ويحملون عليها أكثر مما يحملون على الحمر، وهي أصبر على السفر من غيرها. ومن هنا قالوا: إن رأي ابن عباس مبني على اجتهاد شخصي خالف فيه غيره من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا إن صح. والآخرون يقولون: الحديث مرفوض من أوله.

حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية والوحشية حلا وحرمة

حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية والوحشية حلاً وحرمة بقي عندنا تحريم لحوم الحمر الأهلية مع بقاء حلية قسيمها، وهي الحمر الوحشية، فإن كان التحريم للجنس فالجنس في البر حلال، فما هي العلة في تحريم الحمر الأهلية مع إباحة الحمر الوحشية؟ إننا لو فتشنا من قريب فلن نجد شيئاً، والعلة هنا مستنبطة وليست منصوصة، ولكن قبل البحث عن علة التشريع يجب علينا نحن المسلمين إذا سمعنا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً التصديق والعمل امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حكيم عليم لا يشرع إلا لحكمة، ثم إن مقتضى قول المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلزمه إلزاماً أن يقبل ما جاء عن الله، فلا يعبد إلا الله، بدلالة (لا إله إلا الله) ؛ لأنه إذا عبد غير الله نقض قوله: (لا إله إلا الله) ، وكذلك إذا لم يقبل تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رفض شيئاً منها يكون نقض قوله: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم. وكنا نبسط المسألة ونقول: دلالة الالتزام في هاتين الشهادتين مثالها كما يوجد عند الناس الآن في السلك الدبلوماسي، حينما تقوم دولة، وتبرم معاهدة، أو صداقة، مع دولة أخرى تعترف بها، ثم تبعث إحدى الدولتين، سفيراً لها عند الدولة الأخرى، وهذا السفير يقدم أوراق اعتماده، ويعلن عنه سفيراً، في موكب رسمي، أو بمراسيم رسمية، فكل ما جاء به هذا السفير من دولته، إنما هو باسم من يمثلهم، وقبول ما جاء به مرتبط ببقاء الرابطة السياسية. فإذا ما رفضت تلك الدولة بعض تعاليمه، أو بعض طلباته، يكون ذلك إساءة في العلاقات الدبلوماسية، وقد يؤدي إلى انقطاعها، فكذلك المسلم فإنه أعلن أنه لا يتأله إلا لله، فلا يعبد إلا الله، ومعنى أنه لا يعبد إلا الله: أنه يأخذ كل ما جاءه عن الله، ولن يأتيه مباشرة، وإنما يأتيه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم أوراق اعتماده وهي تلك المعجزات، وخوارق العادات، وهذه المعجزة الكبرى، التي تساير الأيام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي كتاب الله تعالى. وهذا لأننا إذا تطلعنا إلى حكمة التشريع فإن وجدناها وأصبناها فبها ونعمت، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، وقال تعالى لإبراهيم: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، وإذا لم نجدها فعلى المبدأ، وهو التسليم والامتثال والتصديق، فنعمل ولو لم تظهر لنا العلة. وبعض الناس قد يعيب على من يحاول أن يتتبع حكمة التشريع، ويقول: ليس لكم دخل في هذا، فإذا أمر الله فعلى الرأس والعين. ونقول: نعم، ولكن بعض الناس يتخذ خفاء العلة في التشريع طريقاً لتشكيك العوام، على ما سيأتينا -إن شاء الله- في أمر بول الصبي، فإنه في الشريعة يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، فالوا: فرقت الشريعة بين متماثلين، وهذا تناقض! وكذلك كون المسلم يتوضأ من لحوم الإبل، ولا يتوضأ من لحوم الغنم، فإن هذا لحم وهذا لحم، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين. فحينما تظهر الحكمة، ويبين الفقهاء الفرق بين هذين الذين يظهران متماثلين، وأنهما على خلاف ذلك، وأن هناك مغايرة تستوجب المغايرة في الحكم، حينئذٍ تسد الباب على أولئك الذين يعمدون إلى التشكيك في التشريع من باب التفريق بين المتماثلين. وفي مسألتنا هذه عندنا حمار وحمار، وهذا أهلي وذاك وحشي، وهذا حرام وذاك حلال، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين من جنس واحد، فلماذا؟! وأقول: إذا جئنا إلى كتب الفقه قد لا نجد تصريحاً بذكر علة التفريق بين الطرفين، ولكن إذا رجعنا إلى بقية العلوم سنجد فرقاً، وقد كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلم يخدم بعضه بعضاً، أو كان يقول: العلوم أقران، أي: يقترن بعضها ببعض، يعني: هذا العلم يبين هذا العلم، وهذا العلم يستمد من ذاك العلم. وقد أشار علماء التغذية وعلماء الوراثة إلى وجود فرق بين الحمر الأهلية والحمر الوحشية. وجاء في القرآن الكريم ما يشير إلى بعض صفات الحمر الأهلية، عن طريق ضرب المثل لمن يحمل علماً ولا ينتفع به قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] أي: لا يستفيد منها شيئاً. وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول أي أنها لا تستفيد منه. ولكن الفرق بين الطرفين في هذا الجنس بالذات هو ما غلب على طبيعة الحمار الأهلي -بسبب تأهيله مع الناس- من غباوة وبلادة ولؤم وذلة، كما قيل: ولا يقيم على ذل يراد به الأذلان عير الحي والوتد فالعير يصبر على الذل، والوتد يثبت حتى تكسر رأسه وهو صابر، وقالوا: فيه غريزة اللؤم، والمزارعون يعرفون هذا، فالحمار إذا أتاه صبي صغير (استعصى) عليه، وإذا رأى كبيراً عرف الجد، فهذا لؤم. أما المذلة فلأنه نشأ مكفي المئونة، فلا يعمل على تحصيل قوته، فهو عالة على غيره، بخلاف الحمار الوحشي، فهو مكلف بأن يحمي نفسه أولاً من الوحوش الكاسرة، ومكلف بأن يسعى لتحصيل قوته، ولا ينتظر أن يأتيه غيره بقوته، فانتفت عنه صفات الذلة والمهانة واللؤم، الموجودة في الحمار الأهلي. ويذكر علماء الحيوان أن أنثى حمار الوحش حينما تلد ولدها -ويسمى (التولب) - تعض ساق رجله اليمنى الأمامية لتكسرها، ويبقى في كنّه إلى أن يجبر العظم في رجله، فيكون قد نمى وكبر، وتفعل هذا حماية له من الوحوش، قالوا: تكسير رجله ليبقى في كنّه ولا يخرج؛ لأنه كسير، فإذا ما برأ الكسر واستطاع الجري، يكون قد شب وكبر، فلو خرج وداهمه وحش يستطيع أن يفر منه، وهذه تربية عجيبة.

أقسام الحمر

أقسام الحمر الحمر: جمع حمار، وتنقسم إلى قسمين: قسم ورد في هذا الحديث بأنه الحمر الأهلية، أي: متأهلة مع الناس، ومفهوم ذلك أن هناك قسماً آخر ليس متأهلاً، بل وحشي، ولذا يقال: الحمار الوحشي، والحمار الأهلي.

تحريم لحوم الحمر الأهلية ليس منسوخا

تحريم لحوم الحمر الأهلية ليس منسوخاً قوله: (فإنها رجس) ، أي: لحومها بالنسبة إلى أكلها بعد الذبح، وبقي الكلام عن تحريمها بعد الذبح، وعن طهارتها وهي حية، فإنها أهلية تخالط الناس في حياتهم، باستعمالهم إياها. أما كونها حرم أكلها فالجمهور على ذلك، وقلل بعض العلماء: لقد نُسخ هذا التحريم مع أن التقييد بالتاريخ يدل على أنه لا نصوص قبلها تحرم أكل الحمر الأهلية، فهل جاءت نصوص بعد ذلك؟ والجواب أنهم ذكروا أن رجلاً جاء في عام شدة، وقال: (يا رسول الله! أخذتنا شدة، وليس عندي ما أطعم أهلي إلا سمين حمر، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك -أو من سمان حمرك-) ، قالوا: في هذا ترخيص لإطعام الرجل أهله من سمان حمره، ولكن الجمهور قالوا: هذا الحديث لا يثبت سنده لو لم يعارض بغيره، فكيف إذا عارضه ما هو أقوى منه من المتفق عليه، والناسخ يجب أن يكون من حيث السند في قوة المنسوخ، فقالوا: لا تصح دعوى النسخ.

طهارة لعاب الحيوان والخلاف فيه

طهارة لعاب الحيوان والخلاف فيه قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن خارجة رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي) ، أخرجه أحمد والترمذي وصححه] . انتقل المؤلف إلى موضوع آخر، وهو: لعاب ما يؤكل لحمه، خطب النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، ولعاب راحلته يسيل على كتفه. ففي هذا الحديث: أن لعاب راحلة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسيل على كتف الذي كان يمسك بزمامها، فالرجل كان يمسك زمام الراحلة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس عليها، فهل يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لعاب راحلته يسقط على كتف من يمسك زمامها، أم أنه رآه: وأطلع عليه؟ الغالب أنه رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الموقف يقتضي أنه رآه ولم ينهه عنه، ولم يأمره بغسله، فهذه سنة تقريرة، فلعاب الحيوان مأكول اللحم طاهر، بل وغيره كذلك. فقد ورد في باب المياه حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وورد فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر ببعض الحياض بين مكة والمدينة، فلما ورد حوضاً قال عمر: يا صاحب الحوض! أخبرنا: هل ترد السباع ماءك؟ فبادره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تخبرنا يا صاحب الحوض؛ إنا نرد على السباع، وترد السباع علينا، فلها ما أخذت في بطونها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً) ، فسؤر جميع الحيوانات طاهر، ما عدا الكلب، ونحن نستثني الكلب لما تقدم، وهل هو لنجاسته، أو هو لما فيه من داء الكلب؟ فيه تفصيل تقدم. أما بقية الحيوانات كالهرة فإن أبا قتادة قرَّب إليها الإناء، فكانت زوجة ولده تتعجب، فقال: يا ابنة أخي: أتعجبين؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم) .

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [3]

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [3] المني سائل معروف، وهو مما تعم به البلوى فيصيب الثياب، وجمهور العلماء على أن المني طاهر وإن أصاب الثياب فهو كالنخامة إذا أصابت الثوب، فإنها لا تنجسه ولكنها تزال؛ لأن بقاءها على الثوب يُعد قذراً، وكذلك المني، وطريقة إزالة المني تكون بالفرك إذا كان يابساً، وبالغسل إذا كان رطباً، وله أحكام غير ذلك ينبغي على المكلف معرفتها ومراعاتها.

حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل المني.

حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل المني ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل) ، متفق عليه. ولـ مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً فيصلي فيه) ، وفي لفظ له: لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه] . ذكر المصنف رحمه الله من ما يتعلق بالمني، وقد جاءت في المني عدة أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكره المصنف: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج للصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل) ، فهذا النص الأول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني، والغسل يكون للطهارة، ويكون للقذارة، فهل كان المني نجساً فغسله، أو كان مستقذراً في الثوب فغسله؟ وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه في عام المجاعة -في أواخرها- صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى بستانه جهة الغابة في الجرف، وبعد طلوع الشمس وجد المني في ثوبه، فقال: ما أُراني إلا صليت بالناس جنباً -فاحتلم ولم يدر-، وقال: لما أصبنا الودك، لانت العروق، وجرى المني، وهذا معروف، فقد يحتلم الإنسان، ولا يرى شيئاً في منامه، ولا يعلم بالاحتلام إلا إذا وجد المني في الثوب، فيفيض الماء، دون شعور الإنسان، أي: أن الشعور الداخلي عمل عمله، وهو لا يدري، فغسل ثوبه وأعاد صلاته. وهنا يأتي الخلاف في غسل المني، فقوم قالوا: غسل المني لنجاسته؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل المني من ثوبه، ومالك يروي أن عمر غسل ثوبه من المني، فالمني نجس، وهذا قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله، وقالوا: إنه فضلات تخرج من الجسم، كبقية الفضلات الخارجة من غير الفم والأنف؛ لأن الفضلات الخارجة من الفم والأنف ليست بنجسة، والفضلات التي تخرج من القبل والدبر كلها نجسة، وهذا تابع لها، هكذا قالوا. لكن إذا جئنا إلى النصوص الأخرى مثل حديث عائشة الذي تفرد به مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً فيصلي فيه) . قوله: ولـ مسلم أي: في رواية مسلم، عن عائشة، وفيها: أنها كانت تفرك المني من الثوب فركاً، ثم يصلي فيه، فهل -يا ترى- الفرك يطهر الثوب من النجاسة؟ فلو كانت في الثوب عذرة، أو دم، فهل الفرك يطهره؟! لا. إذاً: جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث -حديث الفرك- ليبين أن الغسل لم يكن عن نجاسة، وإنما كان للنظافة، إذ أن بقاء المني في الثوب مستقذر، وإنما كان يفرك من الثوب؛ حتى تضيع بعض معالمه، وهذا بخلاف النجاسة، وسيأتينا في باب الحيض لما سئل صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب؟ قال: (حتيه، واقرصيه بالماء، ثم انضحيه، ثم لا يضركِ أثره) ، اغسلي، وانضحي، وحتي، وإذا لم يذهب الأثر؟! قال: لا يضركِ بعد هذا؛ لأنكِ بذلتِ الجهد. إذاً: الفرك يقف في جانب من جانبي الغسل، فمثلاً إذا وقعت ملوخية على الثياب، فهل تتركها أم تغسلها؟! تغسلها، وهل هي نجسة؟ لا. لأنك تأكلها، ولكنها مستقذرة إذا وقعت في الثوب. إذاً: تغسيل الثياب -الوارد في المني- يحتمل أن يكون للنجاسة، ويحتمل أن يكون للنظافة، فلما جاء المؤلف بحديث الفرك عرفنا أن الغسل للنظافة لا للنجاسة. وفي لفظ له: (لقد كنت أحكه له يابساً بظفري من ثوبه) . لقد كنت أحكه يابساً بظفري؛ لأن الظفر أشد حدادة، فإن فركته لا يذهب، ولكن إذا حكيته بالظفر شيئاً فشيئاً فإنه يذهب كله. وجاء في بعض الروايات: إذا كان يابساً حككته بظفري، وإذا لم يكن يابساً أماطه بعود الإذخر، إذاً: لا يتعين غسله بالماء سواء كان رطباً أو يابساً، ومجموع تلك الصور: أن المني تارة يغسل، إن كان رطباً، وتارة يحك، إن كان يابساً، وهذا مذهب وسط؛ وأحمد والشافعي قالا بطهارته، وهناك من أراد أن يوفق بين الرأيين فقال: هو نجس ولكن يكتفى في تطهيره، إن كان رطباً فبالغسل، وإن كان يابساً فبالفرك، والحك بالظفر، ولكن التحقيق من عموم النصوص: أن المني طاهر.

حكم مني الحيوان

حكم مني الحيوان ما حكم مني الحيوان؟ قد يخالط بعض الرعاة مني بعض الحيوانات عند الإخصاب والتلقيح، فيقولون: هو بحسب لحمه، فمأكول اللحم منيه طاهر، وغير مأكول اللحم منيه غير طاهر، قياساً على بوله ورجيعه، وسيأتي البحث في أن بول مأكول اللحم طاهر إن شاء الله، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيفية تكون المني وتحوله

كيفية تكون المني وتحوله وطبيعة المني: تحول كامل، وأين تحدث عملية التحول؟ وأين المعمل الذي حوله؟ من الدم الخالص إلى هذه المادة المنوية؛ يقول علم التشريح: إن المسئول عن تحويل الدم إلى المني إحدى الخصيتين، ومن العجب أنهم يقولون: إن إحدى الخصيتين مسئولة عن إفراز المني، والأخرى مسئولة عن إنبات شعر اللحية، ولذا تجد العبد إذا خصي، لو كانت عنده لحية فصغيرة؛ لأن أصلها قد أزيل، ولو أزيل في الصغر لا تنبت له لحية، هكذا يقولون، والله أعلم. ويقولون: إن عملية التحويل تأتي عند الحاجة، بمعنى: لو جئت بمائة رجل وشرحتهم، فلن تحصل على جرام واحد من المني داخل الجسم؛ لأنه يطبخ ويحول فوراً، حينما تشتد الشهوة، وكما يقولون: حالة الإخراج، أو الإفراز، أو أو إلى آخره، تكون في تلك اللحظة التي تتم فيها عمليه الطبخ، ثم يفرز ضخاً ودفقاً كما يقولون، وقبل هذا لا وجود له. ولهذا إذا استعجل على الطبخة ولم ينضجها خرج مذياً، وهو أبيض ولكن لا ينعقد، فيخرج كخروج البول ما فيه دفع؛ لأن الطبخة ما نضجت. والودي إنما يأتي -كما يقولون- عقب الانعاض وقبل التبول، وقد يأتي أيضاً في حالات الإمساك الشديد؛ بسبب الضغط على ما يسمى البروستات في الداخل، فتعمل هذا الإعصار. إذاً: المني من حيث هو: مادة تطورت عن الدم، وتطور المادة -كما تقدم لنا في الخمر- وتحولها إذا كان بنفسه؛ صارت طاهرة، وكذلك هنا، فالدم تحول بنفسه، وصار من دم أحمر جار داخل العرق، إلى مادة المني التي فيها الحيوان، وفيها الإخصاب وو، مع أنه لا يوجد في الدم، أي عنصر من العناصر الموجودة في المني. ويقولون في ذلك: الدفقة الواحدة فيها ما يزيد عن ثمانية ملايين وحدة منوية، والذي يلقح البويضة واحد فقط. ويقول بعض علماء الجنس: لو جمعت الحيوانات المنوية للعالم من أول أولاد آدم إلى آخر الناس ما ملأت كستبان الخياط، وكستبان الخياط كالخاتم يوضع في الأنملة ليدفع الإبرة داخل القماشة، وحجمه 2سم. إذاً: الحيوان المنوي لا يرى بالعين العادية. إذاً: تحول الدم إلى مادة مغايرة كل المغايرة للدم، وهذا الحيوان الضئيل جداً يحمل كل خصائص الإنسان المولود بغرائزه، وشبهه بآبائه، أو بإخوانه، إلى غير ذلك من حكم الله سبحانه وتعالى. إذاً: تحول المني أشبه ما يكون بتحول عصارة الفرث والدم إلى لبن خالص، اللبن محول عن ماذا؟ {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} [النحل:66] ، سبحان الله! {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، فهذا دم محول، يقولون: إن عملية التحويل، والتطور، في الدم إلى مني، تشبه عملية التحويل، والتطوير، في الحليب في الحيوانات، وفي الإنسان. والله تعالى أعلم. وبعض الناس يستدل على كون المني طاهراً بقوله: إن المني أصل الإنسان، فهل نجعل أصل الإنسان نجساً؟ وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] . ولكن بعض العلماء يقول: هذه ناحية عاطفية، وما الذي يمنع أن يكون الإنسان من أصل نجس، ولكن تحول إلى طاهر، والإنسان أصله من تراب وماء، ثم تحول إلى دم ولحم، فلا نقول: إنه راجع إلى الترابية، ولا إلى المائية؛ لأنه تحول طوراً جديداً.

مرور المني في مجرى البول ليس دليلا على نجاسة المني

مرور المني في مجرى البول ليس دليلاً على نجاسة المني وقال بعضهم: المني في الأصل طاهر، ولكنه عند خروجه يمر بممر البول؛ وإذا مر بممر البول علق فيه من أصل البول، أو أثره، في الطريق فتنجس، ولكن أجيب على ذلك: بأن الممر الداخلي لسنا مسئولين عنه؛ لأنك كلما دخلت إلى الداخل، وجدت النجاسة، فالمثانة معبأة بالبول، ولم نقل: إنها نجسه ويجب تفريغها! فإن كل واحد يصلي ويتوضأ، وهو يحمل كيساً من البول! وكذلك الدم يجري داخل العروق، ولم نؤمر بإخراجه! والمياه الخارجة من الإنسان -غير البول- ثلاثة مياه: 1- المني. 2- والمذي، بالذال المعجمة. 3- والودي، بالواو والدال والياء، ودي.

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [4]

كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [4] إن للأطفال من المحبة ما يجعل المرء يتعلق بهم ويكثر من حملهم، فلا يخلو عند ذلك من أن تصيبه النجاسة من بولهم، وقد فرق الشرع بين بول الغلام الرضيع والجارية الرضيعة، فالغلام إنما يرش من بوله والجارية يغسل من بولها، مع أن البول نجس في كل حال.

بول الرضيع وحكمه

بول الرضيع وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) ، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم] . هذا موضوع جديد، وهو نجاسة البول بصفة عامة، وقد تقدم لنا ما يتعلق بنجاسة البول، وهو متعلق بهذا الباب، وكثير من المؤلفين يذكره في هذا الموضع. وتقدمت لنا قصة بول الأعرابي حينما بال في المسجد، وكانت طريقة تطهيره مكاثرته بالماء، كما قال الشافعي رحمه الله: يكاثر بالماء مقدار سبع مرات وهذه ناحية نسبية تعتبر بغلبة الظن. وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا النص عن أبي السمح، وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لا يُعلم له حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا، فنقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) فمن الجارية، ومن الغلام؟ الجارية لغة: تطلق على الصغيرة الرضيعة، وتطلق على من هي دون البلوغ، وتطلق على الأمة الكبيرة، كما تقول: جارية فلان والغلام يطلق على الطفل الصغير الرضيع، وعلى من دون الأربعين سنة، كما قيل في الحجاج: غلام إذا هز القناة سقاها وهو قائد الجيوش، ومع ذلك سمي غلاماً.

علة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية

علة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية قد يقال: هل يمكن أن نتطلع إلى سبب في التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، أم أنه لا يوجد هناك فرق؟ قال بعض المتقدمين -وهو المتولي من أئمة الشافعية-: نعم هناك فرق؛ فإن بول الغلام أبيض رقيق خفيف، وبول الجارية أصفر ثقيل كثيف، فالفقهاء نبهوا على أن هناك فرقاً في الماهية، فبول الغلام رقيق خفيف يكفي فيه الرش، وأما بول الجارية فأصفر كثيف ثقيل والنضح لا يكفيه، ويحتاج إلى الغسل. وبعض المتأخرين الذين يتكلمون عن التشريح أو عن الخواص يقولون: بول الجارية فيه من هرمون الأنوثة أكثر، فيحتاج إلى زيادة في الغسل، وهرمون الأنوثة -كما يقولون- أثقل من هرمون الذكورة، والله تعالى أعلم. وبعضهم يعلل ذلك بقوله: الغلام ذكر والجارية أنثى، وأصل الخلقة -خلقة الإنسان- هو أبونا آدم، وآدم خلق من تراب وماء، والماء والتراب طهوران، فأصل التكوين في خلقة الذكر من طاهرين، والأنثى جاءت من حواء، وحواء خلقت من ضلع آدم، وضلع آدم فيه دم ولحم، والدم نجس، فالغلام يرجع إلى أصله، والجارية ترجع إلى أصلها، وهذا امتداد طويل وبعيد الاعتبار، وذكرناه من باب الفائدة. وهناك من يقول -وهي قضية والله ما أدري كيف ساغ لهم أن يقولوها- فيقول: الرسول صلى الله عليه وسلم عامل الناس بحالة نفسية؛ إذ كان العرب في أول أمرهم إذا جاءهم المولود أنثى فهم كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] . فكانوا إذا جاءت البنت لا يحبون حملها، أما الصبي فيحب، ودائماً يحمل، فخفف في بوله، لكن هذه العادة غير حميدة، فهل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويقر الناس عليها، ويخفف لهم ويرخص لهم بسببها، أم يقضي عليها؟ لاشك أنه سيقضي عليها. فهذه وإن كانت ساقطة فهي بعيدة بعد آدم وحواء، لكن تلك أقرب للتعليل من هذه. ومهما يكن من شيء فإن المهم هو الحكم الفقهي، وهو أنه يكتفى بنضح بول الغلام ويغسل بول الجارية، وبعض الذين قالوا بالغسل قالوا: النضح بمعنى الغسل؛ لأنه جاءت رواية: (رشه: نضحه) ، والنضح غسل. ولكن جاء في رواية علي رضي الله تعالى عنه: (فنضحه ولم يغسله) فهل النضح هو الغسل أم هو مغاير له؟ والجواب: مغاير له، ويكفينا في ذلك أن أصل البول نجس، وذلك في الأصل عند الجارية، ولكن الغلام الرضيع الذي لم يتناول الطعام خففت حالته، واكتفي فيه بالنضح، وما عدا الغلام الرضيع -سواءٌ أكان غلاماً يأكل الطعام، أم جارية من أول أمرها -فإنه يغسل، والله تعالى أعلم.

اختلاف العلماء في تطهير بول الغلام والجارية

اختلاف العلماء في تطهير بول الغلام والجارية موقف العلماء من بول الجارية وبول الغلام الرضيع يتلخص في ثلاثة مذاهب، كما نقل ذلك: الصنعاني والشوكاني وابن حجر في فتح الباري، وغيرهم. المذهب الأول: يغسل الجميع، بول الغلام وبول الجارية وهذا مروي عن الأحناف والمالكية. والمذهب الثاني: يرش من الجميع بدون تفرقة، فالأول لا يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يغسل الجميع. والثاني لم يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يرش الجميع. وهذا قول الأوزاعي المذهب الثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله -ويؤيده الحديث- أنه يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام. ووجهة نظر من قال بغسل الجميع، قولهم: هناك عمومات أخرى، منها: عموم غسل البول، ومنها: حديث القبرين: (وكان أحدهما لا يستنزه من البول) ، وهذا عام في البول، فيشمل الصغير والكبير، ثم ألحق الغلام بالجارية، وهذا الإلحاق يسمى عند الأصوليين إلحاقاً بنفي الفارق. أي: ننفي فارق الذكورة والأنوثة، ونرجع إلى أصل البول فهو سواء عندهم، فنغسل الجميع، كما جاء في حديث: (من أعتق شقصاً له في عبد) ، فكلمة (عبد) تطلق على المملوك الذكر، فقالوا: كذلك من اعتق شقصاً له في أمه، ولماذا الأمة والنص جاء خاصاً بالعبد؟ قالوا: بإلغاء الفارق بين الأمة والعبد، وهو الذكورة والأنوثة، فمن أعتق شقصاً في مملوك له ذكراً كان أو أنثى قوم عليه ودفع الباقي لشريكه ويعتق العبد، هذا ما يسمى عندهم بنفي الفارق. ولكن هذا حينما يأتي النص في أحد المتماثلين أو المتقابلين، فيكون هنا الإلحاق بنفي الفارق؛ لأن الأمة لم يأتِ في عتق شقصها نص ولكن هنا جاء النص مستقلاً في الغلام بالرش، وجاء مستقلاً في الجارية بالغسل، فنأخذ بالنص الموجود، أما القياس هذا فإنه يسمى عند الأصوليين قياساً فاسد الاعتبار، أي: اعتباره فاسد؛ لأنه في مصادمة النص؛ إذ يلحقون الغلام بالجارية، وهذا فيه نص صحيح صريح، وهو حديث أم قيس الذي رواه الجماعة، وحديث عائشة الذي رواه البخاري، وعند مسلم زيادات. فالغلام فيه نص مستقل، والجارية فيها نص مستقل، ولا يلحق أحدهما بالآخر؛ لأننا إذا ألحقنا أحدهما بالآخر ألغينا النص الذي يختص به، وهذا لا يجوز، وهو كما -يقول الأصوليون- قياس فاسد الاعتبار.

أحاديث في التفريق بين بول الغلام والجارية

أحاديث في التفريق بين بول الغلام والجارية في هذا الباب جاءت نصوص أخرى مع حديث أبي السمح، منها: أنَّ أم قيس بنت محصن: أتت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه -والتحنيك: هو أن يأخذ الكبير تمرة فيلوكها في فِيه، ثم يخرجها بعد المضغ وامتزاجها بلعابه، ويضعها بين فكي الطفل، فيبلغها أو يتلمض بها- قالت: فبال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بماء ونضحه) . وكذلك جاء عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كانوا يأتون بالصبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتبريك، والتحنيك -والتبريك: التماس البركة، ويحنكهم ليختلط ريقه صلوات الله وسلامه عليه بالتمرة، ويبتلعه الطفل الصغير- (فبال غلام على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حجره صلى الله عليه وسلم فأتبعه بالماء) . وجاء عن أم قيس حديثان، أحدهما قالت فيه: (أتي بغلام فبال على ثوبه صلى الله عليه وسلم فنضحه، وأتي بجارية فبالت على ثوبه فغسله) . وعن أم الفضل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام -الحسن، أو الحسين- فصعد على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فبال على صدره، قالت: قلت: أعطني ثوبك -يا رسول الله- أغسله والبس غيره قال: إنما ينضح من بول الغلام) . وعن علي رضي الله تعالى عنه: (أن غلاماً بال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية) ، قال قتادة: وذلك قبل الفطام، أو: وذلك للرضيع. وكل هذه الآثار جمعها وساقها صاحب المنتقى، وتكلم عليها الشوكاني في نيل الأوطار، وغيره. والقول الصريح بضم الفعل مع مجموع ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين بول الغلام الذكر، وبول الجارية الأنثى، وهذا التفريق محله قبل أن يستغني بالطعام ما دام رضيعاً، فأمر بغسل بول الجارية، واكتفى أو أرشد إلى نضح أو رش بول الغلام.

نجاسة الدم وكيفية تطهيره

نجاسة الدم وكيفية تطهيره قال المصنف رحمه الله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب-: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه) متفق عليه] . انتقلنا إلى مسألة أخرى، وهي حكم الدم في هذا الباب -باب النجاسة-، وقد تقدم شيء من التنبيه على ما وجد في الآونة الأخيرة من القول بطهارته. وقد أجمع على ذلك المسلمون إلى القرن الرابع عشر من المحدثين وعلماء تفسير، وفقهاء المذاهب الأربعة وأئمتها. ومن أراد الرجوع إلى ذلك بإيجاز فليرجع إلى كلام المفسرين عند قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير كل ذلك نجس، والمسفوح: هو الذي يخرج بغزارة وبقوة، وغير المسفوح هو الدم الذي يكون باقياً في عروق الذبيحة بعد سلخها، وقد تظهر حمرة هذا الدم في المرق في أوائل الطبخ، وهذا معفو عنه.

أدلة من قال بعدم نجاسة الدم والجواب عنها

أدلة من قال بعدم نجاسة الدم والجواب عنها الذين يقولون بطهارة الدم المسفوح قالوا: إنما حرم أكله ولم تحرم ملامسته، ولا يدل ذلك على النجاسة. واستدلوا بقصة عمر رضي الله تعالى عنه، حينما صلى وجرحه ينزف دماً. واستدلوا بقصة عمار والذي كان معه في الشعب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يحرس ليلاً، وكان العدو قد وقعت به حادثة فتبعهم ليلاً، فقام أحدهما يحرس ويصلي ويقرأ، فسمع العدو صوت القارئ فسدد السهم في الليل على الصوت فأصابه، فانتزع الحارس السهم ومضى في صلاته، إلى أن رماه بثلاثة أسهم، فأيقظ صاحبه سقوط الدم على وجهه، فقال: ما هذا؟ فأخبره. فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كنت اقرأ سورة فكرهت أن أقطعها -قيل: سورة الكهف-، فقالوا: خرج منه الدم فلم يقطع صلاته، ولو كان نجساً لقطعها، وكذلك ما جاء في حق المستحاضة: (صلي ولو قطر الدم على الحصير) ، لأنها لم تستطع إيقافه. لكن لا تقاس حالة الاضطرار على حالة السعة، أترى عمر يترك الصلاة لجرحه، وهو يقول: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة! وكذلك الذي كان يحرس في الجيش، ألا ترى المجاهدين يجرحون ويصابون، بل تكون سيوفهم مليئة بالدماء، ويصلون صلاة الخوف وهم يحملون السلاح، فلا تقاس حالة الاضطرار في القتال على حالة السعة في السلم، والكلام في غير الضرورات، فلا مستند لهم فيما يقولون، والله تعالى أعلم.

حكم نقل الدم

حكم نقل الدم هنا مسألة، وهي حكم نقل الدم، ونقل الدم لا يكون إلا من إنسان إلى إنسان، ودم الإنسان نجس كما تقدم في أنه يغسل، وكما تقدم في الاستحاضة، ونصوص العلماء كثيرة في هذا. ومسألة نقل الدم وجدت في الوقت الحاضر، ولم تكن موجودة في السابق. وقد اختلف العلماء في حكمها. فقوم قالوا: لا يجوز استعماله أبداً؛ لأن الدم نجس، ولا يجوز استعمال النجاسة في دواء ولا في غيره. والآن -والحمد لله- كتبت رسائل، وألفت مؤلفات في هذا الموضوع، ولكن من الجانب الطبي، أما من ناحية الإباحة والمنع فكان مما حدث في بعض نوادي الجامعة الإسلامية أن سأل سائل: هذا الدم الذي ننقله لإنسان آخر حلال أم حرام؟! فتكلم المشايخ -جزاهم الله خيراً- وكل تكلم بما قد حضره، والشيخ الأمين -يغفر الله له- ساكت ما تكلم، ولا بشيء، فسأله الشيخ ابن باز رحمه الله: أراك -يا شيخ- ساكتاً لا تتكلم! قال: نعم -يا سماحة الشيخ- فماذا أقول، ليس عندنا آية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع الجديد؟ فقال: ولكن لابد من القول، ولابد للإنسان المسلم أن يعرف أقوال العلماء في هذه الحالة، فلا نقول: الإسلام قاصر. بل ويجب أن نجتهد. فقال: إن كان ولابد فإننا نجد القرآن الكريم قرن الميتة بالدم في التحريم كما قال تعالى:، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، ووجدنا القرآن الكريم يأتي بالرخصة في أحد المقترنين، وهي الميتة، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فإذا جاءت الرخصة في المحرم أو أحد المحرمين، -وهي الميتة- للضرورة كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فإذا جاءت نقول: قرين الشيء يأخذ حكمه، فنقول: الدم قرين الميتة، فإذا وصلت بإنسان حالة شبيهة بحالة المخمصة التي يضطر فيها الجائع لأكل الميتة إنقاذاً لحياته، ويأثم إن ترك الأكل فكذلك أيضاً في نقل الدم؛ لأنها ضرورة تعادل تلك الضرورة، وإنقاذٌ لحياته، فيباح نقل الدم. قال الشيخ ابن باز: ماذا نريد أكثر من هذا؟! ومهما بحثنا فلن نجد أحسن من هذا، فهذا يكفي. وهناك قرار لهيئة كبار العلماء جاءت فيه أبحاث عديدة في التشريح والدم ونحوهما. وهل يتعاطى ثمناً للدم الذي أعطاه المعطي أم لا؟! قالوا: الجواب: لا. لأن الدم لا يباع، ولا يؤخذ ثمنه، ولكن يمكن أن يُكْرَم المعطي للدم من الطعام ومن الشراب ما يعوضه شيئاً من ذلك، فيشترى له ما يطعمه، وما يشربه من العصير، أو من الأشياء المباحة التي تعوض جسمه نشاطه، ونحو ذلك. وعلى هذا أصبح موضوع نقل الدم قضية -كما يقولون- شائعة، وفتحت بنوك الدم، واتسع فيها بعض الناس، وأصبحت تجارة، ولكن موقف الإسلام من هذه القضية أنه يباح للضرورة.

الطريقة الشرعية في تطهير دم الحيض

الطريقة الشرعية في تطهير دم الحيض وقوله صلى الله عليه وسلم: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه) . أي: تفرك اليابس، و (تقرصه) أي: بين يديها، و (تنضحه) أي: تغسله بعد هذا فهذه ثلاث مراحل في كيفية تطهير الثوب من دم الحيض. ولا يوجد أحد يخالف في نجاسة دم الحيض أبداً حتى اليوم، وإنما الخلاف في الدم المسفوح. قال العلماء: هذا نص صحيح صريح في وجوب غسل دم الحيض حين يصيب الثوب، والغسل يكون ببذل الجهد في إزالة النجاسة: فأولاً: بالحت إن كان يابساً، وغالباً الدم يكون له جُرم. وثانياً: بالقرص، أي: تدلكه بأصابعها مع الماء. وثالثاً: بالغسل، ثم بعد ذلك تصلي فيه.

حكم أثر الدم الباقي في الثوب بعد تطهيره

حكم أثر الدم الباقي في الثوب بعد تطهيره قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا رسول الله! فإن لم يذهب الدم؟ قال: (يكفيكِ الماء، ولا يضركِ أثره) أخرجه الترمذي وسنده ضعيف] . هذا السؤال تتمة للموضوع الأول، فإذا حتتنا وقرصنا وغسلنا وبقي اللون -خاصة إذا كان الثوب أبيض؛ فإن البياض قليل الحمل للدنس- فماذا نفعل؟ قال: (يكفيك الماء لا يضركِ أثره) ، فافعلي هذه الأوامر، فالله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . ويذكرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا حتّت وقرصت ونضحت ولم يذهب اللون تأتي بالزعفران، وتبله في الماء، وتأخذ ماء الزعفران وتصبه على محل الدم. قالوا: تريد أن تغير لون النجس بلون الطاهر، ولكن هذا لمن أراد أن يصبغ ثوبه كله بالزعفران، وليس هذا من باب التكليف، فهذا فعلها رضي الله تعالى عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به. ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحت، ثم القرص، ثم غسل الماء، وقال الفقهاء: إذا كان يمكن استعمال الحواد -والحواد: جمع حاد، وهو الشيء الكيماوي الحار الذي يذهب اللون، مثل الصابون، ومثل النخالة، ومثل الدقيق، ومثل الأشنان وغيرها، فكل هذه عوامل تنظيف يعرفها الناس- فإذا لم يذهب الأثر وكان عندك صابون فهل يتعين استعماله تبعاً لهذا التشديد -أي الأمر بالحت والقرص ثم النضح- وهل يعد استعمال الصابون من بذل الجهد, وقد يكون فيه كلفة على المساكين؟ وهل نطالب باستعمال منظف مزيل لا يؤثر على صبغ الثوب ولا على قماشه، أو ليس ذلك بلازم؟ والجواب: يجب أن نستعمل ما يمكن استعماله بدون كلفة، وبدون مشقة، وبدون تأثير على عين الثوب، والله تعالى أعلم. فجمهور العلماء من السلف والخلف يقولون: إن جميع الدماء نجسة. وقد جاء عند البخاري وعند مسلم حديث فاطمة بنت قيس في الاستحاضة. والبخاري ومسلم ذكرا حديثها في كتاب الطهارة والنجاسة ليبينا أن دم الاستحاضة نجس كدم الحيض، أو أن الدم نجس بصفة عامة، ثم أعادا نفس الحديث في باب الحيض والاستحاضة ليستدلا بذلك على أن دم الاستحاضة ملحق بدم الحيض، ودم الاستحاضة دم مسفوح؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلكِ عرق) ، واستدلوا بالآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: جمع في هذه الآية بين تحريم الميتة والدم المسفوح، والميتة نجسة كما تقدم التنبيه على ذلك في حديث ميمونة: (لو أخذتم إهابها فانتفعتم به -أو: فدبغتموه فانتفعتم به؟! - فقالوا: إنها ميتة. فقولهم: (إنها ميتة)) يستلزم أن الميتة نجسة، فتنجس الإهاب تبعاً للميتة، وأقرهم على هذا الفهم، وأجابهم عنه، وأخبرهم أنه يطهرها الدباغ. وعلى هذا فالدم المسفوح نجس بدلالة اقترانه بالميتة، ولذلك حرم أكله، وحرم بيعه، وحرمت الاستفادة منه في أي شيء.

خلاف العلماء في تقدير الدم المعفو عنه

خلاف العلماء في تقدير الدم المعفو عنه يبحث العلماء المتقدمون فيما يعفى عنه من النجاسات، ولم يعف عن شيء إلا عن قليل الدم. وقليل الدم وكثيره اختلف العلماء في تقديره، فمنهم من يقول: قليل الدم هو ما كان في حجم الدرهم البغلي. والدرهم البغلي كان درهماً نقدياً، صكه رجل يهودي اسمه: (البغل) ، وكان في الدولة العباسية، وكان يصك الدراهم للخلفاء العباسيين، خاصة للمناسبات. وبعضهم يقول: هو بقدر ما يرى في ذراع أو في ساق الحمار أو البغل من الداخل على هيئة دائرة سوداء تعادل الريال السعودي تقريباً، وهناك من أبعد في ذلك وقال: كربع الثوب ولكن هذه مجازفة كما يقول أصحابه. وجاء في الموطأ عند مالك رحمه الله في باب الرعاف أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ربما رعف في الصلاة بدم قليل، فيفتله بين أصابعه ويمضي في صلاته، وربما فقأ البثرة في وجهه -أي حب الشباب- فتخرج القطرة والقطرتان، فيمسحها بأصابعه ولا يغسلها. وجاء عن سعيد بن المسيب أنه رعف في الصلاة فاستلقى على ظهره لكثرته، ثم خرج فغسل عنه الدم. وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن الدم نجس، ويعفى عن قليله، ولكن لماذا لا يعفى عن قليل النجاسات الأخرى؟! قالوا: لأن بقية النجاسات الأخرى يمكن الاحتراز عنها، وقد جاء في حديث صاحبي القبرين: (كان لا يتنزه من البول) ، أما الدم فقالوا: الإنسان عبارة عن قربة دم، وفي كل موضع من جسمه يوجد دم، فمن الصعب أن يتحفظ الإنسان من دمه، وقاسوا عليه دم غيره. ومجموع هذه الأحاديث تابع للتدليل على نجاسة الدم، وبعد أن نمر عليها سنعود إلى قول من يقول بطهارة الدم بعد أربعة عشر قرناً، ونبين وجهة نظره والرد عليه. قوله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما] هي من أقارب بيت النبوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض. وقولها: (دم الحيض يصيب الثوب) مثل الثوب الفراش، وكل شيء يمسه.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [1]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [1] لقد شرع الله سبحانه الفرائض، وجعل لكل فريضة مقدمة قد تكون شرطاً في صحتها، ومن هذه الفرائض الصلاة، إذ شرعها الله في سائر الأديان السماوية، وشرطها الوضوء الذي هو الطهارة والنظافة، وقد شرعه الله سبحانه في الكتاب والسنة، وأجمع العلماء على فرضيته، وأنه لا صلاة لمن لا وضوء له.

أحكام السواك

أحكام السواك

استحباب السواك للصائم

استحباب السواك للصائم مباحث السواك طويلة، فقوله: (مع كل وضوء) وإخبار عائشة رضي الله عنها بأن أول ما كان يبدأ به عند دخوله البيت السواك يدلان على عدم ترديد السواك بوقت، فإذا قلنا: أن الوضوء كان لكل صلاة فيتكرر خمس مرات، وأما دخوله صلى الله عليه وسلم البيت فليس هناك تحديد لوقته. ومن هنا أخذ الجمهور أن السواك مندوب للصائم، وأن الصوم لا يمنع السواك؛ لأنه عند كل وضوء، والوضوء قطعاً كان خمس مرات؛ لأنه ما جمعت الصلوات بوضوء واحد إلا عام الفتح، وعام الفتح سنة ثمان، ولم يخالف في هذا إلا الشافعي رحمه الله، وذلك لوجه نظر إليه الشافعي من جانب، والجمهور نظروا إليه من جوانب أخرى: أما الجانب الذي نظر إليه الشافعي رحمه الله فهو ما يأتي في كتاب الصيام في فضائل الصوم، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) ، فيقول الشافعي رحمه الله: الخلوف هو ما يصعد من المعدة من الأبخرة، ولخلوها تكون هناك رائحة هي الخلوف، وهذه الرائحة تستقذر عند الناس جميعاً، فهذا الخلوف المستقذر عند الناس هو عند الله أطيب من ريح المسك، فيقول الشافعي رحمه الله: ما دام الأمر كذلك اتركه. والجمهور يقولون: ما دامت مهمة السواك مطهرة للفم من هذا الخلوف وأمثاله فإنه يستعمل؛ لأنه يتغير فمه إذا قام من النوم، وإذا طال صمته عن الكلام، وإذا أكل شيئاً له رائحة، ثم إنه مرضاة للرب. ويدل على ذلك عموم الأحاديث في السواك، كقوله: (عند كل وضوء) ، و (مع كل صلاة) ، واستياكه صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، وجاء في مجمع الزوائد أن عثمان رضي الله تعالى عنه -أو غيره- لما سئل عن السواك بعد الزوال قال: (لم يأمرنا الله أن ننتن أفواهنا) . وجاء في الأثر: (الفم طريق القرآن -أو مجرى القرآن- فطيبوا مجاريه) ، وجاء: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وأن الإنسان إذا قرأ القرآن جاء الملك ووضع فاه عند فيه يتلقى القرآن، فيتأذى إذا وجد خلوفاً أو رائحة غير طيبة. وقال الجمهور: استعمال السواك عند الوضوء لا يقطع الخلوف؛ لأن الخلوف ليس من بقايا الطعام بين الأسنان، فهذا يذهب في أول مرة، ولكنه الأبخرة المتصاعدة من المعدة إلى الفم، ففي كل لحظة يتنفس فيها يأتي الخلوف، فإذا استعمل السواك لصلاة الظهر فبعد لحظات يجيء الخلوف، وإذا استعمل السواك لصلاة العصر فبعد لحظات يجيء الخلوف، ويبقى ريح المسك، ويجمع بين الحسنيين. وبالله التوفيق.

لفظ (الأمة) والمعاني الواردة فيه

لفظ (الأمة) والمعاني الواردة فيه قوله: (لولا أن أشق على أمتي) يقولون: (الأمة) تطلق على عدة معان، منها الجماعة، ومنها الراية، ومنها الشخص القدوة، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، وتطلق على الراية لأنها الأم والكل يتبعها، وتطلق على المدة من الزمن لأنها مجموعة، وتطلق على الجماعات التي يجمعها وصف عام أو ترتبط بمبدأ، فيقال مثلاً: أمة العلماء، أمة الصناع، أمة التجار، وهكذا في المخلوقات الأخرى، فذوات الجناح أمة، وذوات الأربع أمة، والأمة الإسلامية هي أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي اصطلاح العلماء الأمة قسمان: أمة دعوة تشملها الرسالة المحمدية، فمن آمن ومن لم يؤمن مدعو بها. وأمة الإجابة التي استجابت لله وللرسول، فقوله هنا: (لولا أن أشق على أمتي) هل يشمل الأمة بكاملها -أي: أمة الدعوة- أم أنه قاصر على أمة الإجابة؟ الجمهور على أنها أمة الإجابة؛ لأنها محل الأمر والنهي. وأما أمة الدعوة فقالوا: هي داخلة في الأوامر والنواهي، ولكن لا يقبل منها شيء حتى تدخل في أمة الإجابة، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ، فقوله: (أمتي) يحمل على أمة الإجابة، وهي محل الشفقة ورفع المشقة. قوله: (لأمرتهم) ، الأمر -كما يقولون-: هو ما صدر من أعلى إلى أدنى، وإذا كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء، كقول المؤمنين: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة:286] ؛ فإن (واعف) صفة أمر، لكنه موجه من الأدنى إلى الأعلى، فهو دعاء وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى. وإذا كان من المساوي فهو التماس.

المراد بالسواك فعلا وآلة

المراد بالسواك فعلاً وآلة السواك قيل: هو الفعل. وقيل: هو الآلة التي يستاك بها، أما الفعل فإنهم يقولون: إنه يستحسن أن يسوك أسنانه عرضاً، فيبدأ بالأيمن فالأيسر، وقيل: بالأعلى إلى غير ذلك من الصور، وكيفما كان فقد حصل المقصود، أما الآلة فإنهم يقولون: بأي عود كان، لكن يستثنى من ذلك الريحان والقصب؛ لأنه يؤثر على اللثة ويجرحها، ويستحبون عود الأراك لأنه أكثر استعمالاً، وكيفما كان أجزأ، بل إنه -كما عند الشافعية- لو لم يجد عوداً وأخذ خرقة خشنة كصوف ونحوه ولفه على إصبعه ودلك به أسنانه أجزأ ذلك، وإذا لم يجد الخرقة ودلك بإصبعه جاء، كما جاء في الحديث: (يشوص أسنانه بإصبعه) . فعلى هذا يكون السواك من حيث الآلة إنما هو أي شيء يستعمله الإنسان، وكأني بإنسان يريد أن يسأل عن الفرشاة أهي داخلة في هذا المعنى أم لا؟ والجواب: إذا نظرنا إلى الغرض من استعمال السواك، وهو كما في الحديث: (مطهرة للفم مرضاة للرب) فأي شيء طهر الفم فإنه يؤدي المهمة، ولكن ما كان عليه السلف فهو أولى وأصح طبياً. وأحب أن أحذر من استعمال الفرشاة، فإن لها أنواعاً من النايلون وأنواعاً من الشعر، والتي من النايلون إذا كان النايلون فيها صلباً فإنه يجرح اللثة، وبعض الأشخاص يخطئ فيغسلها بالماء الحار، والماء الحار يقلص هذا النايلون فيعود على اللثة بالجراح، أو يفقد الصلاحية، بل يغسلها بالماء البارد حتى لا يؤثر على شعيراتها. أما عود الأراك فإنه قد اتفق طبياً الآن بأن في قشره ما يسمى عندهم: (حمض التنّيك) فهذا الحمض من طبيعته أنه يقلص اللحم، فإذا ما جاء إلى اللثة يجعلها تتقلص وتعتصر فتخرج الرطوبة منها، خاصة إذا كان جديداً، والكل يجرب هذا، فإذا أخذ عوداً من الأراك جديداً وقضمه بأسنانه فإن ما يتحلل من القشرة في فمه ويصل إلى اللثة يجعل اللثة تتقوى بإخراج الرطوبات الموجودة فيها. ووجدت في كتاب (القرى لقاصد أم القرى) ، وفي (تهذيب الآثار) للطبري بأن من فوائد عود الأراك أنه لو طبخ وشربته المرأة قرب مجيء الدورة الشهرية يوقفها، وكان النساء يستعملنه في الحج مخافة مجيء الدورة قبل طواف الإفاضة فتحبس أصحابها، وفعله جملة من النسوة برفقة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.

حكم السواك

حكم السواك قال (لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) وفي رواية: (عند كل صلاة) . الرواية عندنا هنا: (مع كل وضوء) ، يقولون: كان الوضوء في السابق لكل صلاة أحدث أم لم يحدث، إلى أن طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة عام الفتح، فصلى عدة صلوات بوضوء واحد، فسأله عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: (يا رسول الله! رأيتك تفعل شيئاً ما كنت تفعله من قبل، قال: عمداً فعلته يا عمر) أي أنه جمع عدة صلوات بوضوء واحد، وأصبح الأمر كما في الحديث: (لا يقبل الله صلاة من أحدث إلا بوضوء) ، وأصبح الوضوء لمن أحدث، أما إذا توضأ وبقي على وضوئه ولم يحدث ناقض للوضوء فإنه يصلي بالوضوء الواحد عدة صلوات. فكان في السابق كل صلاة لها وضوء، فيبقى قوله: (مع كل وضوء) و (مع كل صلاة) متلازمان، وينبه بعض العلماء أن ظاهر هذا النص أن الشخص لو توضأ للطواف، أو توضأ لقراءة القرآن، أو توضأ لذكر الله، أو توضأ لنافلة وهو متطهر يشمله هذا الحديث: (مع كل وضوء) . فالسواك مطلوب مع كل وضوء، سواءٌ أكان هذا الوضوء لصلاة أم لذكر. فهذا ما يدل عليه هذا الحديث، والجمهور على أن السواك سنة في الوضوء، وذهب بعض العلماء -من غير الأئمة الأربعة- فقال: هو واجب. وقيل: واجب في ذاته، وقيل: واجب في الوضوء وشرط في صحة الصلاة، فمن لم يستعمل السواك عند الوضوء لا تصح صلاته، وهذا -كما قالوا- شاذ وغريب، ولكنه مع ظاهر النص. والجمهور على أن السواك مندوب إليه لهذا الحديث؛ فإنه لولا المشقة لأوجبه صلى الله عليه وسلم عليهم، فإذا انتهى الوجوب لوجود المشقة بقي الندب، والله تعالى أعلم.

سماحة الشريعة الإسلامية

سماحة الشريعة الإسلامية المؤلف هنا -رحمه الله- بدأ الوضوء بأمر غريب، ألا وهو أمر السواك، وهل السواك نظافة أيضاً أم عبادة؟ وهل هو سنة مستقلة، أم من سنن الوضوء؟ وكيف يكون السواك ومتى ولماذا؟ وما هي فضائله؟ وما هي آلته؟ هذه كلها أبحاث مستوفاة في كتب الحديث، وأوسع ما وجدت إلى الآن في ذلك مؤلف لـ ابن دقيق العيد، وهو كتاب: (الإمام شرح الإلمام) ، وهو مخطوط إلى الآن. والسواك يطلق على المصدر العملي، وعلى الآلة التي يستعمل بها، والحديث هنا يحتمل المعنى المصدري العملي أكثر من اسم الآلة، فالمعنى: لأمرتهم بأن يسوكوا أفواههم؛ لأن الغرض في الوضوء هو أثر السواك في الفم، وجاءت أحاديث بعض العلماء فهم منها أنه للنظافة؛ لأن من أوقاته: عند القيام من النوم، وعند الوضوء، وعند القيام للصلاة، وعند طول الصمت، وعند شدة الجوع، وعند كثرة الكلام، فهذه أوقات يذكرون استحباب استعمال السواك عندها. وجاءت النصوص في الندب إلى السواك، سواءٌ مع الوضوء أم مع الصلاة أم مطلقاً عن هذه الأوقات، فجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت: ماذا كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت؟ قالت: (كان أول ما يبدأ به السواك) ، وليس هناك وضوء ولا صلاة. وأما الحديث هنا: (لولا أن أشق على أمتي) فإن (لولا) حرف امتناع لوجود، فيمتنع جوابها لوجود مانعه، تقول: لولا وجود زيد لهلك عمرو، فامتنع هلاك عمرو لوجود زيد، وكذلك قوله: (ولولا أن أشق لأمرت) ، فامتنع الأمر لوجود المشقة، وكونه لم يحصل الأمر لم يلغ السواك، فالذي لم يحصل هو الإيجاب الذي يترتب عليه حصول المشقة، فبقي ما بعد المشقة وبعد الوجوب، وهو الندب، وكأن الحديث في عمومه يقول: السواك مطلوب، ولولا المشقة لأوجبته عليكم، فقال: (لولا أن أشق) ، فأسند فعل المشقة إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل هو الذي يأتي بالأحكام من عنده، فيشق على الناس أو يخفف؟ قالوا: نعم، له حق التشريع مستقلاً، وهو كما وصفه سبحانه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . ومن الأمثلة في تشريعه صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله: حينما بين سبحانه وتعالى المحرمات في النكاح فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] فأضاف إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تنكح المرأة مع عمتها ولا مع خالتها) ، فالقرآن ما جاء بهذا، ولكن جاء به صلى الله عليه وسلم. ولذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فالله أعطاه حق التشريع، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وسواء أتانا به من عند الله أو أتانا به من عنده فقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3] ، فقوله: (لولا أن أشق) أي: بما أعطاه الله، سواءٌ أكان وحياً مكتوباً أم وحياً إلهاماً. يقولون: أصل المشقة من (الشق) ، فعندما تمشي في أرض مشققة يصعب عليك أن تتفادى الخطأ فيها من كثرة شقوقها، فإذا ما كانت ملتئمة سهل المشي عليها، فكذلك المشقة، فكأنك تجاهد تلك الشقوق في الأرض حينما تسير عليها، والمشقة هي ما يصعب على الإنسان، ولهذا يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال وأعظم مناقب العرب ومفاخرهم في الكرم والشجاعة، وكلا الأمرين فيه مشقة؛ لأن الجواد فقير، كما قيل: لا تنكري عطل الكريم من الغنى فالسيل حرب للمكان العالي فالكرماء لا يبقى عندهم شيء؛ لأن ما بيده لغيره، والإقدام قتال، فإذا أقدم في الجيش بالشجاعة قتل، وكلاهما فيه مشقة. وهو صلوات الله وسلامه عليه في منهجه في التشريع ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ لأن هذه الشريعة السمحة ما جاءت مؤقتة لنتحملها وقتاً قليلاً ونصبر عليها، وإنما جاءت أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا كان الأمر كذلك فلما قيل: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. ومن هنا -كما قال الفقهاء-: كانت (المشقة تجلب التيسير) ، فكل ما سمعت أو رأيت من مشقة في تكليف شرعي تجد بجانبها الرخصة والتخفيف. ففي الوضوء إذا شق على إنسان استعمال الماء خفف عنه واستعمل التيمم، وإذا شق على إنسان القيام في الصلاة خفف عنه وجلس، والصيام إذا شق على إنسان مريض أو مسافر خفف عنه، كما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، وهكذا الحج على المستطيع، والجهاد، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61] . فلعدم وجود الأمر صار السواك مندوباً، ولو أمر صلى الله عليه وسلم لكان واجباً، ومن هنا يقول العلماء: الأمر يقتضي الوجوب؛ فإنه بين هنا أنه لولا المشقة لأمر، إذن الأمر يقتضي الفعل ولو جلب المشقة، لكنه لم يأمر دفعاً للمشقة، فبقي على الندب.

الوضوء من سنن المرسلين

الوضوء من سنن المرسلين يتفق العلماء على آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخرها مدنية نزلت بالمدينة، ولكنهم يقولون: الصلاة شرعت بمكة، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بغير وضوء، فقالوا: كان الوضوء مشروعاً قبل نزول الآية، وكان على الندب، فجاءت الآية وأوجبته، فبعد أن كان مندوباً صار واجباً. وبعضهم يقول: كان مشروعاً زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان صلوات الله وسلامه عليه يتوضأ بمكة على شرع من قبلنا، وثبت وضوؤه صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الحديث الذي فيه أن فاطمة ابنته رضوان الله تعالى عليها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا ابنتي؟ قالت: سمعت أنهم يتآمرون عليك ليقتلوك، قال: أوفعلوا؟! ائتيني بوضوئي -أي: بالماء الذي يتوضأ به- فتوضأ وصلى ودعا الله عليهم. فهذا إثبات للوضوء قبل المدينة. ويقول بعض العلماء: إن جبريل عليه السلام صبيحة ليلة الإسراء والمعراج -لما فرضت الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل من صبيحتها لصلاة الظهر، وهي أول صلاة أقيمت بعد الإسراء- علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء، فتوضأ بتعليم جبريل وصلى. ويهمنا أن مشروعية الإيجاب كانت بالمدينة، وأن عملية الوضوء كانت في مكة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أن الوضوء كان في الأمم الماضية، وذلك حينما توضأ فغسل أعضاء الوضوء مرة مرة، فغسل وجهه مرة واحدة، ويديه مرة واحدة، ومسح رأسه وغسل قدميه مرة واحدة، وقال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة بدونه) ، ثم توضأ فغسل الوجه مرتين، واليدين مرتين، ومسح مرة -لأن المسح لا يكرر على ما سيأتي- ثم غسل القدمين مرتين، ثم قال: (وهذا وضوء من كان قبلنا) ، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (وهذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فأخذوا من هذا أن الوضوء مشروع من قبل. ويمكن القول بأن جميع أركان الإسلام كانت موجودة من قبل، فقد قال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] ، وقال تعالى لإبراهيم: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ، فوجدنا أن الصلاة سابقة. وفي الصيام يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، وفي الحج يقول تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] ، وهذا النداء لإبراهيم. ثم يصرح صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (كأني بموسى بن عمران على جمل أورق رحاله الليف يجأر إلى الله بالروحاء بالتلبية) . ومالك يروي أمراً غريباً لم نعرف سره، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه نزل من منى إلى مكة، فمر بواد يقال له: وادي سرر، وبه سرحة -شجرة كبيرة-، وعندها رجل يعرفه جالس عندها، فقال: ما الذي أنزلك هنا؟ قال الرجل: أستظل. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بوادي سرر سرحة سُرّ تحتها سبعون نبياً) ، وبعض العلماء يقول: (سُرّ) معناه: قطع حبل سرته، وولد هناك، فما الذي جمّعهم، وفي أي زمن؟ الله أعلم. وبعضهم يقول: (سُرّ) بمعنى السرور، أي: جاءته النبوة تحت هذه الشجرة، فحصل له السرور بذلك. والله تعالى أعلم، وهذا الأثر موجود، والشراح حاروا في فهمه أو كنهه، والذي يهمنا قوله: (سبعون نبياً) . كذلك الزكاة، فهي أخت الصلاة. ونقرأ في قصص القرآن قصة أصحاب الجنتين حيث قال تعالى عنهم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:17-19] . وفي الحديث قصة صاحب السحابة مع الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض، فسمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان. فإذا به يمشي في ظل تلك السحابة إلى أن جاءت إلى أرض حرة صلبة وأمطرت، وتجمع الماء في شرجة، فتبعه فإذا به يجد رجلاً يحول الماء في أحواض له، فقال: سلام الله عليك يا فلان. فنظر إليه وقال: كيف عرفتني وأنت لست من أهل هذه البلدة؟ فمن أين جئت؟ قال: جئت من كذا. قال: ما الذي أعلمك باسمي؟ قال: أخبرني أولاً ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: حتى تخبرني. فأخبره فقال: إن يكن فإني إذا حصدتها قسمت الغلة ثلاثة أقسام، قسم لي ولعيالي، وقسم أرده فيها، وقسم أتصدق به. وقضية النفر الثلاثة الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وهم الأقرع والأعمى والأبرص دليل على أن الزكاة كانت مشروعة فيمن قبلنا، فالزكاة موجودة، والحج موجود، والصيام موجود، والصلاة موجودة، والوضوء كان موجوداً. وهناك حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . قالوا: وكذلك قضية الراهب الذي اتهمته امرأة، فمكنت راعياً منها فحملت، ثم ألقت هذا الحمل عند صومعة الراهب، وتعرفون قصته لما جاءته أمه تناديه كان يقول: يا رب! أمي وصلاتي. فلم يجبها حتى أنهى الصلاة، وفي ثلاثة أيام تأتيه وهو في الصلاة، ولا يرد عليها من أجل أنه في الصلاة، فقالت: لا أماتك الله حتى ترى وجوه المومسات، فوقع ذلك، فلما اتهموه بالزنا وهدموا صومعته قال: أمهلوني. فتوضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن يبرئه، ثم جاء ونخس الطفل بإصبعه وقال له: من أبوك؟ قال: الراعي فلان، فرجعوا وتأسفوا وقالوا: نبنيها لك من ذهب وفضة، قال: لا، ردوها كما كانت. والذي يهمنا ما ذكره العلماء من أن الوضوء كان مشروعاً في الأمم الماضية كما هو مشروع عندنا.

الوضوء عبادة شرعية

الوضوء عبادة شرعية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقاً. ] . بعدما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أحكام المياه، ثم أحكام الآنية التي نحفظ فيها المياه، ثم جاءنا ببيان أنواع النجاسات، وما ينبغي إزالته عن الثوب والبدن والمكان من أجل الصلاة انتقل بعد ذلك إلى الوضوء. والوضوء أتى به قبل أن يدخل في كتاب الصلاة؛ لأنه جزء من الطهارة كما سيأتي بعد ذلك بتتمة مباحث الطهارة من الغسل وموجباته والتيمم. والوضوء شرط بإجماع المسلمين لصحة الصلاة، ولا تصح الصلاة بغير وضوء، كما بيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة من أحدث بغير وضوء) . والوضوء يأتي بالضم (وُضوء) ، وبالفتح (وَضوء) ، قيل: بالضم هو المصدر، وبالفتح هو الماء الذي يتوضأ به، وقيل بالعكس، مثل: (سَحور) و (سُحور) ، وبعضهم يقول: كل منهما ينوب مناب الآخر، ويقولون: الأصل في الوضوء في اللغة أنه مشتق من الوضاءة، والوضاءة: بهاء الوجه ونضرته، والأصل فيه النظافة، ولكن في الشرع هل الوضوء نظافة أم الوضوء عبادة؟ فكونه عبادة يتوقف على النية، أي: لا يصح الوضوء إلا بنية، وكونه نظافة فالنظافة لا تحتاج إلى نية، كما أن إزالة النجاسات لا تتوقف على النية، ولكن تنتهي بإزالتها. والذي يدل على أن الوضوء عبادة قياس الفقهاء، والنص القرآني الكريم: أما قياس الفقهاء فيقولون -كما قال ابن رشد في بداية المجتهد-: هذا العمل تعبدي. أي: لا يدرك السر ولا الحكمة في تشريعه؛ لأنه -كما يقال-: (مُوجِبُهُ في غير مُوجَبِهِ) ، وهذه قاعدة فقهية عندهم، بمعنى أن الذي أوجب الوضوء ليس داخلاً في أعضاء الوضوء، بمعنى أن الإنسان تخرج منه الريح، فيجب عليه الوضوء بسبب خروج الريح، فإذا أراد أن يتوضأ فإن مخرج الريح ليس داخلاً في أعضاء الوضوء، فلو كان معقول المعنى لكان سببه يدخل في فعله، فلما وجدنا الأمر كذلك حكمنا بأنه أمر تعبدي. الشيء الثاني: ما جاء في الحديث النبوي الشريف مما يؤكد معنى الوضاءة ومعنى التعبد، وأن الوضوء وضاءة حساً ومعنى، أي: نظافة ظاهراً وباطناً، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا توضأ فمضمض واستنثر خرجت ذنوبه من فِيه ومن أنفه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ... ) إلخ، وهكذا اليدان والقدمان. وأمور النظافة ليست لها علاقة بتكفير الذنوب. كما أنه قد ينفرد الوضوء عن النظافة، فلو أن إنساناً دخل الحمام واتخذ كل وسائل النظافة، وعندما أراد أن يتنشف مس فرجه، فإن عليه أن يتوضأ، مع أنه في غاية ما يكون من النظافة والوضاءة حساً. فالوضوء عبادة، وعليه فتشترط فيه النية، وكذلك الغسل، وإن كان عند الأحناف مناقشة في ذلك، حيث يشترطون النية في التيمم ولا يشترطونها في الوضوء والغسل، ويقولون في التيمم: إنه أمر تعبدي، فلا ندري الكنه ولا الغرض من كون الإنسان يعفّر وجهه ويديه بالتراب، فإذا عقلنا الحكمة في الوضوء وفي الغسل لم نعقل حكمة تعفير الوجه بالتراب، فيشترطون النية في التيمم، ولا يشترطونها في الغسل. فالوضوء أمر تبعدي، وهو عبادة.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [2]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [2] لقد أمرنا الله في محكم كتابه بالوضوء إذا قمنا إلى الصلاة، وذكر لنا أعضاء الوضوء جميعها على سبيل الإجمال، وجاءت السنة مبينة لكيفية هذا الوضوء، وما هو حده في الأعضاء، وما هو الركن منها والواجب والمسنون، وجاء حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صفة الوضوء جامعاً جل هذه المسائل من خلال التطبيق العملي للوضوء أمام الصحابة والتابعين.

مشروعية الوضوء

مشروعية الوضوء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحم الله: [وعن حمران (أن عثمان دعا بوضوء، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) . متفق عليه] . أصل مشروعية الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، فجاء في الكتاب في قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وهكذا جاء القرآن بالأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة، ولكن سنجد في صفة الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصور والكيفيات ما هو زائد عن كتاب الله، فالزائد عن كتاب الله نسميه سنة، والسنة من الوحي، كما جاء عن السيوطي أنه قال: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، ألا وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل بقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] . فما يأتينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الوضوء أم في الصلاة فإنه وحي، ويجب العمل به على مراتبه، ولا يحق لأحد أياً كان أن يزيد أو أن ينقص، وليس لإنسان أن يرد سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم نجد هذا في كتاب الله! بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت الرواية عنه به فهو في كتاب الله، أو فهو من كتاب الله، كما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه كان في المسجد وحدث، فمما جاء في حديثه تلك الليلة قوله: (لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) ، فمرت امرأة ووقفت فسمعت هذا وذهبت، ثم جاءت ووقفت عليه في حلقته وقالت: لقد قرأت القرآن من دفته إلى دفته فلم أجد ما قلت فيه! فاحتجت عليه بالقرآن، فقال: لو كنت قرأتيه لوجدتيه، فلم ينف عنها القراءة، لكن أخبرها أنها لو قرأته بإمعان وتأملت كل ما فيه لوجدت ذلك، ثم قال لها: ألم تقرأي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ؟ قالت: بلى. قال: هذا مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام الشافعي رحمه الله في مكة وقال: ايا أهل مكة! أنا من الراسخين في العلم -وهذه دعوه كبيرة والله- سلوني عمَّا شئتم أجبكم عنه من كتاب الله فقام رجل -وكما يقال: لا يفل الحديد إلا الحديد- فقال: أخبرنا عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله؟ -الزنبور: الدبور مثل النحلة، ويلسع أشد منها- فقال: نعم. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) -فالقرآن أحاله على رسول الله والرسول أحاله على سنة الخلفاء الراشدين- ثم قال: وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ قال: لا شيء. فلا شيء عليه في كتاب الله. وإنما أتيت بهذه المقدمة لأن هناك أموراً تعبدية ليس لنا فيها طريق إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هي مراتب من الندب إلى الإيجاب، فما جاءنا لا ينبغي لعاقل مسلم أن يتردد في مشروعيته وإن اختلف الناس في مرتبته من الوجوب إلى الندب إلى الاستحباب فنبدأ هنا بهذا الحديث، ولعله أجمع الأحاديث في فروض الوضوء.

المنهج العملي أنجح طريق في التعليم

المنهج العملي أنجح طريق في التعليم قثال: [وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء. ] عثمان هو: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... ) ، وابن تيمية رحمه الله لما سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس قال: ليس لها أصل من فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة لأدائها، والآن يؤذن المؤذن وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم يؤذن بعد ذلك بين يدي الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس ليصلوا فيها ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن طالب العلم إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت العلاقة بينهم، ولن يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون: هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم عذراً -وهي الطريقة والحكمة والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت الصلاة، والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة راشد، فأصبح له حكم المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فاعتبره رحمه الله من تشريع الخلفاء، وعذر العامة في ذلك. بينما بعض تلامذته حينما سئل عن هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل من حمار أهله، فانظر إلى الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا أسمي هذا سياسة الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة. والذي يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس! هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا يحتاج إلى عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد الطريقة المثلى -وهي الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال: انظروا وتوضأ لهم على النحو الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) . وهكذا كان السلف يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض الصحابة يأتي إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟ فيصلي لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ بالسمع؛ لأن هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله التعليم العملي، فقد صعد المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر، ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل القهقرى -وهو محافظ على استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد فرجة، وسجد في أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا وإنما حج وقال: (خذوا عني مناسككم) مع أنه أيضاً في الفتوى كان كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر الفعلي عنه هو الأصل. وهكذا نجد المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا يعلمون الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً وتأسياً بالمسلمين التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون يفعلون مثلهم. وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى عنه يشرع في تعليم هؤلاء القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً. ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي فإنه يأتي ويحاكيه في الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في صلاته لا يعرف القبلة من شرق أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا لا يدرك ولا يحسن، ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية. وما دمنا بصدد هذا الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما: كنت أدرّس في معهد الأحساء، وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم هذه الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف تذهب وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من جهد مع الطلاب ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت: الرسول صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها أغنتني عن تكرار الكلام وإعادته. وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي ولا أرى ماذا يفعل ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله لك حق، فقدمت واحداً من الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف، وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت إليها بعد ذلك طيلة العام الدراسي. الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند الطيور، فلي قصة لا أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا أوردها، ولكن ما دام أنها في سبيل التعليم فلا بأس بذلك. كنت آلف الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت الفراخ تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في ضحوة النهار إذا بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار، وهو منخفض عن الغرفة حوالي عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز، وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون خلفها كما تمشي ثلة من الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور على أرض الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت الدفء من حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت إلى عتبة الغرفة وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل. فوقفت عند عتبة الباب من الداخل تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند الدخول، وبقي واحد حاول أن يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية قليلاً، فنزلت مرة أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض مختلف مع العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها، ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز. وأنا خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل الدرجة، فنقص قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل وتقفز على هذه البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة، فيأتي فرخها بسلامته، ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به مع بقية الفراخ. فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟ فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله، لكن الدجاجة لا تفعل ذلك. فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد أبناءنا الصغار حينما يقلدون الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما هي الصلاة، فلا يستقبل قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء. فهذا المنهج العملي يجمع عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى التعليم.

من أحكام الوضوء

من أحكام الوضوء

غسل الرجلين إلى الكعبين

غسل الرجلين إلى الكعبين قال: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) عندما غسل يده تيامن، وغسل القدمين أيضاً فيه تيامن، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل شيء) ، وقد جاء الفعل في غسل اليدين والرجلين مجملاً في الكتاب، فقال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وليس فيه يمين ولا يسار، فبمقتضى عموم النص في الآية يمكن أن تبدأ باليمين أو اليسار كما تريد، لكن بمقتضى تطبيق السنة تقدم اليمنى. وقوله: (إلى الكعبين) الكعب والتكعيب والمكعب والكعبة والكواعب مأخوذة من مادة واحدة، فالشكل المكعب ما استوى طوله وعرضه وعمقه، فالمكعب: الجرم المتكعب الناتئ الذي يستوي طوله وعرضه وعمقه، ومنه سميت الكعبة؛ لأنها توجد على هذا التكعيب وسط الخلاء، ومنه أن الفتاة إذا ند ثديها وبرز على صدرها سمي مكعباً، فهو تكعب على جرم مصفح، فكواعب على وزن فواعل (جمع فاعل) ، وهي التي ند ثديها -أو برز ثديها- وظهر للعيان. فما هما العظمان الناتئان اللذان يصدق عليهما اسم الكعب؟ قال بعض العلماء: لو نظرت في ظهر القدم تجد أن فيه عظماً ناتئاً عند عقد شراك النعل، فكل رجل فيها كعب واحد، فتغسل إليه، ويكون غسل القدمين إلى الكعبين، ففي كل قدم كعب واحد، وهذا يذكرونه عن الأحناف. لكن الجمهور يقولون: كل قدم فيها كعبان، وكل رجل تغسلها إلى كعبيها. والكعبان عندهم العظمان الناتئان على جانبي القدم في المؤخرة عند التقاء الساق بالقدم، وهذا ما تشهد له السنة. فقد جاء في الإحرام أنه إذا لم يجد المحرم نعلين يلبس الخفين، ويفعل كما قال صلى الله عليه وسلم: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، وفي تسوية الصوف ومساواتها قال الراوي: يلصق أحدنا كعبه بكعب جاره فهل سيلصق الكعب الذي فوق القدم بكعب صاحبه، أم العظم الناتئ عن اليمين وعن اليسار؟ فالكعبان هل هما العظم الناتئ على ظهر القدم كما يقوله الأحناف، أم العظمان الناتئان على جانبي الساق؟ والجواب: العظمان اللذان على جانبي الساق. والكعبان غاية داخلة في المغسول.

غسل اليد اليسرى ثلاثا إلى المرافق

غسل اليد اليسرى ثلاثاً إلى المرافق قال: (ثم اليسرى مثل ذلك) . أي: ثلاث مرات إلى المرفق.

مسح الرأس

مسح الرأس قال: (ثم مسح برأسه) لفظة (مسح) تتعدى بنفسها، فتقول مسحت الزجاج، فتتعدى كلمة (مسح) بدون زيادة حرف، فهنا الباء جاءت ودخلت على الكلمة، فيقولون: ما دام أن مادة (مسح) تتعدى بذاتها فلا حاجة إلى مجيء الحرف، فنقول: وامسحوا رءوسكم فيحصل المسح، لكن مجيء الباء يدل على وجود مادة وقع المسح بها، كأنه قال: وامسحوا بالماء رءوسكم. بقي عندنا كيفية المسح والمقدار المجزئ في ذلك، فنجد من يقول: الباء للإلصاق، أي: لشمول وتعميم الرأس كل، وبعضهم يقول: الباء للتبعيض، نحو: اكتفيت بتمرة من كامل التمر الموجود فهل الباء هنا في الآية الكريمة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، أم للإلصاق، أم هي لضرورة وجود ممسوح به يعلم بالرأس؟ تقول: مسحت الدهن بالرأس فنجد من يقول: الباء للتبعيض ويقول: أي جزء من الرأس مسحت أجزأك. ونفس القضية في حلق الرأس، ونجد الآخرين يقولون: تحلق مقدار الربع، ونجد بعضهم الآخر يقول: تحلق الأغلب، فـ مالك وأحمد رحمهما الله يقولان بالأغلبية، وأبو حنفية يقول بكامل الرأس، وأبو حنفية رحمه يقول بالأكثرية، والشافعي رحمه الله يقول ببعضه. ومن غريب نوادر الفقه ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع، حيث يقول: وقد أغرب بعض أصحابنا فقال: لو مسح ثلاث شعرات أجزأه؛ لأنه أقل العدد وأغرب منه من قال: ولو مسح بعض شعرة أجزأه ثم يقول: وكيف يكون بعض شعرة؟ قال: إذا طلى الرأس بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء، ومسح الجزء الذي برز منها أجزأه، ثم يقول: هذا من أغرب الأقوال. وسيأتي في باب الوضوء كيفيات مسح الرأس عنده صلى الله عليه وسلم، ففي رواية: (فأقبل بهما وأدبر) أي: بدأ بمقدم رأسه وذهب بكفيه إلى قفاه، ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه. وسنجد أنه مسح بناصيته وكان عليه العمامة، فأتم على العمامة، والناصية هي مقدم الرأس، وكانت عليه صلى الله عليه وسلم العمامة، فأدخل يده تحت العمامة ومسح بالناصية، ثم أكمل المسح على العمامة. وهناك صورة ثالثة أنه مسح على العمامة بدون الناصية، فلهذا قال الشافعية: مسح بعض الرأس يجزئ وكذلك الأحناف قالوا: مسح الأكثر يجزئ ولكن الجمهور يجيبون عن ذلك بأنه لم يقتصر على الناصية، ولكنه أكمل على العمامة. وهنا عثمان رضي الله عنه قال حمران عنه: (ثم مسح برأسه) . وذلك بعدما مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، وفي مسح الرأس لم يذكر (ثلاثاً) ، وهنا يأتي السؤال: هل المسح على الرأس يكون ثلاثاً كبقية أعضاء الوضوء، أم مرة واحدة؟ وهنا أطلق، لكن إذا وجد عندنا ما يقتضي أن المسح ثلاثاً انتقلنا إليه، وهنا لم يذكر عدداً، ولم ينس ولم يخطئ، فما دام أنه ذكر العدد في كل أعضاء الوضوء فإنا نأتي بالعدد في موضع ما جاء به، وحيث ترك العدد في موضع منه تركناه، إلا إذا جاءنا نص في حديث آخر يقول: (ثلاثاً) فننظر هذه الزيادة، وننظر فيمن زادها، فإن كان ثقة فزيادة الثقة مقبولة. وبعض الشافعية يرى أن تثليث المسح كتثليث الأعضاء في الغسل، والجمهور على أن المسح لم يرد فيه نص صحيح صريح بأن يكون ثلاثاً، وقالوا: لا ينبغي أن يكون المسح إلا مرة واحدة. فنحن نعلم بأن الشعر لا يغسل بالماء، فإذا كانت اليد مبلولة ومسحت الرأس ترى أثر الماء على الشعر، ولو مسحت على الثوب لا تراه، ولو جئت بالمسح مرة ثانية أو مرة ثالثة انقلب المسح إلى ما يشبه الغسل، ولهذا قالوا: المسح لا يكرر؛ لأنك لو كررت المسح أصبح في صورة الغسل، والله سبحانه وتعالى أمر في حق الرأس بالمسح وليس بالغسل.

الاستنشاق

الاستنشاق قال: (ثم تمضمض واستنشق واستنثر) . قوله: (استنشق) أي: سحب الماء بأنفه بالنفس إلى الداخل، و (استنثر) أي: نثر الماء الموجود في الأنف بنفسه من أنفه.

غسل الوجه ثلاث مرات

غسل الوجه ثلاث مرات (ثم غسل وجهه ثلاث مرات) وبعض الناس يحاول أن يعرِّف الوجه، وكما يقولون: تعريف المعروف صعب، فيقول: ما هو الماء؟ وما هو العمود؟ ومن الذي يعرف العمود تعريفاً منطقياً جامعاً مانعاً؟ فهذا صعب جداً، لكن الشيء المجهول يمكن تعريفه من خلال صفاته. قالوا: الوجه من المواجهة، ويقابله القفا من: (يقفو إثره) فحد الوجه: ما يرى من الغير عند مواجهته، فعندما تواجه إنساناً هل ترى قفاه؟ فالقفا ليس من الوجه، وبعض الشافعية وغيرهم قالوا: حده معلم ومعروف، فحده طولاً من منبت الشعر -يعني: ما بين نهاية الجبهة وأول الرأس ولو كان أصلع- إلى أسفل الذقن، فهذا هو حد الوجه في الطول، وفي العرض قالوا: ما بين شحمتي الأذنين، فالأذن ليس بداخلة، ولكن إلى حد أوائل الأذن هو حد الوجه عرضاً. وبعضهم قال: حده إلى الصدغين، وهما العظمان الناتئان بين نهاية الوجه وأوائل الرأس. وهذا قريب. ويريد الفقهاء بهذا عدم الزيادة، فإذا كان في غسل الوجه لا يذهب يغسل رقبته من فوق ومن الخلف، والرأس، بل يغسل على حد العضو المسمى شرعاً وعرفاً.

غسل اليد اليمنى ثلاثا إلى المرفق

غسل اليد اليمنى ثلاثاً إلى المرفق قال: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) بعدما غسل الوجه ثلاث مرات بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في المرفق ليحدد الجزء المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه، والكفان من اليد، وبعض الناس يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو المعروف يميناً ويساراً من الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها تسمى: الكف، والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب. ووجدنا الشرع في ذكر اليد تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة يقيدها بقيد معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى الرسغ، والمرفق: هو المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنك تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان، فيساعد الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق في الجلوس. وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في التيمم في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، ولم تأت بلفظ (المرافق) ، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا عمل مستقل، ولا يقاس أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على مقيد ذاك؟ فـ الشافعي رحمه الله حمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم إلى المرفق كما هو في الوضوء إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما جاءت به السنة، فضرب بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد المطلقة في التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة. وكذلك جاءت اليد في حد السرقة وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب، وتخصص العام في الكتاب، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان) ، فخصص عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت. فكذلك هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين. وعلى هذا النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟ يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت الشعر، وليس هناك حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في الصيام: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل جزءاً يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار بكامله؟ فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق الصوم في النهار واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من أوله ولو دقيقة واحدة، وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛ لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن الحد المعروف، فكذلك غسل اليد إلى المرفق. لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل الغاية في الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟ هنا قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فهل المرافق داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا معنى: هل الغاية تدخل في المغيا أم تخرج عنه؟ فإذا جئنا إلى حكم اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا، وقد جاء النص: (أدار الماء على مرفقيه) ، فهل أدخلهما في المغسول أم لا؟ والجواب: أدخلهما. ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف نخيل، ويليه صف رمان، فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع -أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم خارجة عنه؟ فهل اشترى منك تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟ والجواب أنها داخلة. فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه عشر شجرات، فقلت لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل الليمونة الأولى داخلة في المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟ والجواب: خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت الغاية خارجة عن جنس المغيا فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما دام أنه وضعت حدود نجد هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف. فقوله: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل المرفق، مع أن النص: (وأدار الماء على مرفقيه) .

غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا

غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً قال: (فغسل كفيه ثلاث مرات) . الكف: هو ما كان من أطراف الأصابع إلى الرسغ، يقولون: سميت الكف كفاً لأنها تكف الأصابع داخلها؛ لأن الأصابع تأتي منفرجة، وكف الشيء: ثناه، ويكف بها عن نفسه، أي: يدفع الغير عن نفسه، قالوا: وتكفيه في حمل الأشياء الأخرى، ومنه: كفة الميزان تحفظ الشيء وتتعادل معه. وفي الحديث المشهور: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) ، فهنا عثمان غسل كفيه ثلاثاً، فهل غسل الكفين للحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، أم غسل كفيه لأنهما جزءً من أجزاء الوضوء وذاك غسل مستقل لا دخل له بالوضوء؟ والصحيح الأخير، وهو أن غسل المستيقظ من النوم كفيه قبل أن يدخلهما في الإناء عمل مستقل لا يحسب من أعمال الوضوء، وهنا عثمان ليس مستيقظاً من نوم، فـ عثمان جاء إلى قوم وقال: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله؟ فلم يكن مستيقظاً من نوم حتى يحتاج إلى غسل الكفين لاستيقاظه، فهنا غسل كفيه ثلاث مرات.

المضمضة

المضمضة قال: (ثم تمضمض) . (ثم) للعطف وللترتيب، فالأول كان غسل الكفين قبل المضمضة، فلو قال: غسل كفيه ومضمض، فـ (الواو) لمقتضى الجمع والتشريك، لكن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي، وهذا التراخي أمر اعتباري. وقال هنا: (غسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض) ، ولم يقل: (ثلاثاً) ولكن سيأتينا في حديث علي رضي الله عنه أنه مضمض ثلاثاً، وهل يمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة؟ التفصيل في الكيفية موجود في أخبار أخرى. فحديث عثمان هو الأصل الكلي للوضوء، والتفاصيل في غيره من الأحاديث. والمضمضة يقال: إنها تحريك الماء في الفم ثم مجه، لا أن يبلع الماء، والاستنشاق يكون بجذب الماء بالأنف، ثم نثره إلى الخارج، وفيه حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) احتياطاً للصوم، حتى لا يسبق الماء إليه. وهنا غسل الكفين عمل مستقل، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم يلي ذلك غسل الوجه ثلاث مرات، وهل المضمضة والاستنشاق كل منهما عمل مستقل بذاته، أو أن المضمضة والاستنشاق جزء من غسل الوجه؟ فمنهم من قال: أن الفم والأنف عضوان داخلان، وهما جزء من الوجه، فالمضمضة والاستنشاق مقدمة تتمة لغسل الوجه، فيكون غسل الوجه شاملاً لهما، وهما داخلان في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ويكون من ضمن الوجه الفم والأنف، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما جزء من الوجه. ومنهم من قال: الفم والأنف عضوان مستقلان، وليسا بداخلين في الوجه، ويكون الوجه على الفرضية بنص الآية، وتكون المضمضة والاستنشاق على الندب؛ لأنهما خرجا عن محيط الوجه، ولكن القول بأنهما عضو داخلي أو عضو خارجي يقال في الصوم؛ لأن الماء إذا وصل إلى داخل الجوف أبطل الصيام، والصائم يتمضمض ويستنشق، فهما عضوان خارجان بالنسبة إلى الصوم. والآية اقتصرت على غسل الوجه، والسنة النبوية جاءت بالمضمضة والاستنشاق، فبعضهم يقول: غسلهما واجب يبطل الوضوء بتعمد تركه، وبعضهم يقول: ليس بواجب؛ لأن الواجب جاء في القرآن بغسل الوجه، وبعضهم يخالف في الوضوء وفي الغسل، ويقول: هما واجبان في الغسل مندوبان في الوضوء. ولكن ما دامت السنة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة واحدة وترك المضمضة والاستنشاق فلا ينبغي لإنسان أن يتعمد تركها. ولذا يقول بعض العلماء: إذا كان الأنف والفم من الوجه، فلماذا لا يقدم غسل الوجه ثم يتمضمض ويستنشق؟ قالوا: لا تقديم غسل الكفين -وإن كانا مستقلين- لغرض، وتقديم المضمضة بالفم والاستنشاق بالأنف لغرض، أما الغرض في غسل الكفين فليعرف درجة حرارة الماء، أما إذا لم يعرفه وأخذه فجأة فإنه يلسعه بحرارته الزائدة، لكن الكفان يتحملان؛ لذا أول شيء لا بد أن يعرف حرارة الماء بغسل الكفين. وأما المضمضة فلقولهم: حكم الماء الطهور أن يسلم من الأوصاف الثلاثة التي تغيره وهي الطعم واللون والرائحة، أما اللون فيعرف برؤية العين، وأما الطعم فيعرف بالمضمضة، وأما الرائحة فتعرف بالاستنشاق، فكأنه بتقديم الكفين عرف حرارة الماء، وهذا أمر مهم لصحة الإنسان، وبتقديم المضمضة والاستنشاق عرف صفات الماء أنه طهور صالح، وليس يداخله ما يسلبه الطهورية، وقد عرف اللون بالرؤية. والله تعالى أعلم.

الترتيب في الوضوء

الترتيب في الوضوء قال: (ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) . هنا مسألتان: الأولى تتمة لهذا الحديث عند غير البخاري، أو غير المتفق عليه، وبنظرة إلى سرد أعمال الوضوء في هذا الحديث يقال: هل يتعين على الإنسان أن يأتي بوضوئه كما فعل عثمان، فلا يقدم ولا يؤخر، أم له أن يقدم ويؤخر، ويغسل يديه، ثم وجهه، أو يغسل وجهه ثم يتمضمض، أو يغسل قدميه ثم يمسح رأسه، فهل الترتيب واجب في الوضوء أم غير واجب؟ إن الآية جاءت فيها الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، والحديث جاء فيه (ثم) ، وهي على الأفضلية، وحديث (ابدءوا بما بدأ الله به) على الندب والاستحباب، وذلك لما قالوا: من أين نبدأ بالسعي؟ قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) . وانظر إلى فقه الأئمة وما فتح الله به عليهم، فـ الشافعي رحمه الله قال: ترتيب أعضاء الوضوء واجب في كتاب الله بدلالة الإيماء والتنبيه، وليس بدلالة النص الصريح. قال: أول ما يفعل من الوضوء غسل الوجه، فلتكريمه ولمواجهته ولشرفه كان موضع البداية، وفيه سلاطين الحواس السمع والبصر والفم وغيره فقدم، ثم بعد الوجه غسل اليدين، ثم بعد اليدين مسح الرأس، فهل الأقرب والمشابه والمجانس لليدين الرجلان أم الرأس؟ والجواب: الرجلان، فاليدان يبطش بهما، والرجلان يسعى بهما. فيقول: لو أن الترتيب غير واجب لأتبع المجانس بمجانسه، فيكون غسل اليدين أولاً، ثم الرجلين، ثم مسح الرأس، فلما جاء بممسوح بين مغسولين -وهذا حكم مغاير-، وأدخل أجنبياً بين متجانسين عرفنا أن موضع الرأس هنا لا يجوز تقديمه ولا تأخيره، وكذلك بقية أعضاء الوضوء، فانظر كيف أتى بها!! فهل نستقل بعقولنا أم نرجع إلى عقول العلماء؟! وجاء في رواية تتمة للحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فترتب على هذا الوضوء الكامل الإسباغ الوافي أنه إذا صلى ركعتين ليستا من الفرائض ولا من النوافل الراتبة، وكان فيهما حاضر القلب وليس مشغولاً بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه. ويقول ابن دقيق العيد أو غيره: ولو خطر على قلبه خاطر فدفعه فهو داخل في هذا المعنى، فالمهم أنه لا يسترسل مع تلك الخواطر. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [3]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [3] إن من رحمة الله عز وجل بعباده أن أرشدهم إلى مافيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، وما يعود عليهم بالنفع والفائدة في دينهم وأبدانهم، فكان مما شرع الله لهم مسح الأذنين، والاستنثار ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم، وغسل اليدين قبل غمسهما في الإناء بعد الاستيقاظ من النوم.

المسح على الرأس وأحكامه

المسح على الرأس وأحكامه

خلاف العلماء فيما يصدق عليه مسح الرأس

خلاف العلماء فيما يصدق عليه مسح الرأس ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه يمسح ولو ثلاث شعرات، والذي يقول بهذا القول الشافعي، وقد نقل عنه هذا القول الشافعية وردوه، والنووي ذكر ذلك ورده؛ لأنه فيه بعد كثير. ومأخذ الشافعية في الاكتفاء ببعض الرأس أنهم قالوا: حرف الباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، وبعض الرأس يصدق على ثلاث شعرات. ونحن لا نناقش من ناحية مذهبية، ولكن نريد أن نعرف كيف أخذوا هذا الرأي، حتى لا نقول: هذا تفريط منهم، فهذا المنهج لنطمئن إلى ما ينقل من الأقوال عن الأئمة رحمهم الله. وهناك من يقول: يمسح ربع الرأس وهم الأحناف، قالوا: وتقدر الناصية بربع الرأس. فإن قيل لهم: إذا كانت الناصية تجزئ فلماذا تمسح العمامة؟ يقولون: يجمع بين أقل ما يجزئ وأكمل ما ينبغي، فأقل ما يجزئ الربع، والتعميم على العمامة للتعميم والشمول. وهذه هي وجهة نظر الأحناف. أما الحنابلة والمالكية فقالوا بالتعميم، وقالوا: إذا كان المسح مجملاً في الآية، والباء مجملة أيضاً -لأن لها عدة معانٍ كالابتداء والإلصاق وغير ذلك- فإن السنة المبينة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتفى بالربع أو بالثلث، بل أقبل بهما وأدبر. فقيل لهم: هذا للكمال، وهذا متفق عليه، فماذا تقولون في المسح على الناصية؟ قالوا: مسح على الناصية، ولا يجزئ الربع لأنه أتم الواجب على العمامة، وأنتم تقولون: يكتفى بالناصية؛ لأنها أقل ما يجزئ، والمسح على العمامة تكملة للأفضل! مثل الذي يتوضأ فيغسل مرة مرة، والآخر يتوضأ فيغسل ثلاثاً ثلاثاً، فهذا أقل ما يجزئ، وذاك أفضل ما يعمل. ونحن نريد من هذا ناحية منهجية فقط، وهي تحقيق المسألة، والخلاف موجود من قبل، ولا نستطيع أن نرفعه، لكن عندما نمر على هذا الفعل ما الذي تطمئن إليه النفس في هذه المسألة، هل مسح ثلاث شعرات، أم ربع الرأس، أم الإقبال والإدبار بالكفين؟ لاشك أنه الإقبال والإدبار باليدين؛ حيث إنه ليس في ذلك شك ولا تساؤل، فإن كان الربع يجزئ فالحمد لله، فالإقبال بهما فيه الربع وزيادة، ويكون الإنسان على طمأنينة بأنه نفذ صورة ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ويكون مطمئنا إلى أقصى حد. وأما المسح على العمامة فإنهم يقولون: يشترط في العمامة التي يجوز المسح عليها -سواءٌ مع الناصية أو دونها- أن تكون عمامة محنكة، والمحنكة يكون لها طرف في اللفافة، والطرف الآخر يأتي من تحت الحنك إلى فوق الرأس، فتكون هذه محكمة، ويشق على صاحبها أن ينقضها، فقالوا: لوجود المشقة جاز المسح عليها، حتى إن بعض الناس قال: لو كان من عادة بعض البلاد أن النسوة يتعممن لجاز لهن أن يمسحن على العمامة، فبعض النسوة تتعمم بعمامة من نوع خمارها، فليست العمامة خاصة بالرجال، كما أن المسح على الخفين ليس خاصا بالرجال، وليس مقصوراً على الشتاء والبرد وغيره، وإنما على مشقة اللبس والنزع. والمسح على العمامة من حيث هو له مبحث مستقل في باب المسح على الخفين، ولكن ذكرناه لمناسبة قوله: (وأتم على العمامة) ، فالعمامة التي يمكن أن يتم عليها هي المحنكة التي يشق على صاحبها نزعها ولبسها، وهناك بعض العمائم مثل (الطربوش) تنزع وتطرح، وتكون العمامة مربوطة على طاقية، فلا كلفة في نزعها، فهي ملفوفة جاهزة، فمثل هذه لا مشقة فيها، فالعمائم التي يتمم عليها المسح مع الناصية أو التي يقتصر على مسحها فقط هي التي يكون فيها نوع من المشقة عند حبكها على الرأس.

عدد مرات المسح وكيفيته

عدد مرات المسح وكيفيته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومسح برأسه واحدة) أخرجه أبو داود، وأخرجه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح، بل قال الترمذي: إنه أصح شيء في الباب] . في حديث عثمان رضي الله تعالى عنه قال: (ثم مسح برأسه) ، ولم يبين لنا العدد، فهل يكرر المسح ثلاثاً كبقية الأعضاء المغسولة أم لا؟ فـ الشافعي يرى أن مجمل كلام عثمان في مسح الرأس يحمل على بقية الأعضاء، ولكن الجمهور يقولون بمسحة واحدة؛ لأن المسح لا يتشرب معه الرأس الماء، فإذا مسحناه أكثر من مرة فسيكون كأننا غسلناه، ولهذا قال العلماء: لا يتكرر. فجاء المؤلف رحمه الله بحديث علي رضي الله عنه، وفيه النص على أنه مسح مرة واحدة، فنحمل ما سكت عنه عثمان رضي الله تعالى عنه على النص الوارد هنا على أن المسح مرة واحدة. قال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال: (ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه] . هذا الحديث يماثل حديث عثمان رضي الله عنه في بيان كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء يجعله الأصل بدلاً من حديث عثمان، ويبني عليه كل النصوص التي تأتي في باب الوضوء، فحديثي عثمان وعبد الله بن زيد كلاهما مستوف ومكتمل. فمما ذكره حديث عبد الله بن زيد بيان كيفية مسح الرأس، وقد أتى المؤلف بحديث علي في بيان مسح الرأس؛ لأن عثمان أجمله، ولم يبين العدد، ولا الكيفية والهيئة، فاضطر المؤلف أن يأتي بنصوص أخرى ليبين لنا كيف يكون مسح الرأس، أما من حيث العدد فأخذا من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة واحدة، وهذه المرة كيفيتها يبينها حديث عبد الله بن زيد. فقال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال: (ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه، وفي لفظ لهما: (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) ] . فقوله: (بدأ بمقدم رأسه) مقدمة الرأس هي الناصية، وجاء في بعض الآثار: (مفرداً أو مفرقاً أصابعه) . وقوله: (ثم ذهب بهما إلى قفاه) أي: اليدين ذهب بهما إلى قفاه، والقفا ليس من الرأس، ونحن قلنا: الغاية إذا كانت من غير المغيَّا فليست بداخلة، فلا تذهب إلى القفا وتقول: هذا داخل في المسح. وإنما تمسح إلى أواخر الرأس؛ لأنه يريد أن يبين لنا استيعاب الرأس، فقال: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه) ، وتكون السبابة على منتهى منابت الشعر من القفا. قال: (ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) ، وهذه بإجماع المسلمين أكمل صورة في مسح الرأس في الوضوء.

مسح الأذنين وحكمته

مسح الأذنين وحكمته قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه -في صفة الوضوء- قال: (ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهامه ظاهر أذنيه) أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة] . وهذه المسائل زائدة على ما جاء في صفة وضوء عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه لم يذكر لنا في الأذنين شيئاً، وستأتي نصوص أخرى تبين الماء الذي تمسح به الأذن هل هو ماء مسح الرأس، أم يأخذ ماءً جديداً؟ ويهمنا الآن في الكيفية، حيث قال: (أدخل أصبعيه السباحتين) ، وهما الأصبعان اللتان تليان الإبهام، وتسمى الواحدة منهما: السباحة والسبابة، والتي تليها تسمى الوسطى، وبعدها الخنصر والبنصر. قوله: (أدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه) بعض علماء البلاغة يقولون: هنا المجاز اللغوي علاقته الكلية، فذكر الكل وأراد الجزء، بعكس العلاقة الجزئية، فإنه يذكر الجزء ويريد به الكل، مثل قولك: أرسل الأمير عيناً له، وكأن تذكر جزءاً من الإنسان وتريد كله، لكن العلاقة الجزئية يشترط فيها أن تكون هي المقصودة بالكل؛ لأن الذي يرسل إنسانا ليتجسس على الناس لا يتجسس برجله ولا بفمه، ولكن يتجسس بعينه. وهنا لم يدخل السباحة كلها، وإنما طرف الأنملة منها، فهنا لم يقل: أدخل طرف السباحة. بل قال: (السباحة) ، وهذه مناقشة لغوية، فأدخلهما بقدر ما يسعهما من تجويف الأذن الخارجي، فالأذن ثلاثة أقسام: القسم الخارجي، والأوسط، والطبلة. ويقولون: كل عضو نافذ إلى الجسم له صمام، فالفم له الشفتان، والعينان لهما الرموش تحميهما من التراب والأذى، والشفتان يغلق بهما الفم فلا يدخل إليه شيء من الأوساخ، أما الأذن فإنها مفتوحة، فعندما ينام وهي مفتوحة فالذباب يمشي، والحشرات تمشي، فما هو الذي يمنع هذه الموذيات من الدخول إلى الأذن؟! فإن الله جعل الأذن تفرز مادة شديدة المرارة لا تقوى حشرة أن تقرب منها، فأحيانا هذه المادة قد تزيد، وقد ينزل منها بعض الشيء، أو لأن الأذن جوفية يأتي الغبار فيعلق في هذا التجويف، فكلما توضأ ومسح لا تبقى رواسب تعمل عفونة أو مرضا، أو أي شيء آخر يؤذي الأذن، ولا شك أنها تنظف دائماً، فلذلك أقل الناس الذين يصابون بأمراض الأذن هم المسلمون. وسيأتي نص بأنه أدار إبهامه خلف الأذن، وإذا كنا قد علمنا أن تنظيف السبابة للأذن يكون من الأوساخ، فما هي العلة في مسح خلف الأذن؟ إن صلة الأذن بالرأس تجعلها أشد إفرازاً للعرق، وأشد حساسية، فلو جلست بعرقها وبالمادة الدهنية التي تفرزها ربما التهب الجلد وتآكل وانفصلت الأذن عن الرأس، فكلما توضأ ومسح بالسباحة المادة الدهنية، وجعل الإبهام تمر على الأذن الخارجي بقيت سليمة معافاة، ونحن لا نعلل للسنة، ولكن نقول: هذا من فضل الله علينا، ومن حكمة التشريع في مسحها. والحكمة من أن الفم والعينان عليهما غطاء والأذن ليس عليها غطاء هي أن الإنسان -كما قالوا- إذا نام، ومر إنسان بجواره لا يراه، وأراد أن يناديه أو يوقظه، فإنه يحتاج إلى أن يذهب إلى جواره ويلمسه بيده حتى يفتح الغطاء ويسمع منه، فعندما يكون نائما، وكل الحواس والأعصاب نائمة، وباب السمع مفتوح بلا غطاء يصل إليه الصوت من بعيد، ويأتيه من جميع الجهات الأربع فيسمع ويستيقظ، ونحن نجد أجهزة (الرادار) يصنع لها مظلة حتى تصطاد الصوت.

ما يفعله المستيقظ من نومه

ما يفعله المستيقظ من نومه

غسل اليدين قبل غمسهما في الإناء

غسل اليدين قبل غمسهما في الإناء قال: [وعنه (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] . هذا الحديث -كما يقول بعض العلماء- تكلم فيه بعض الناس، أولئك الذين يحشرون العقل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يدركون الحكمة منه. قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، والليل صالح للاستيقاظ والنهار صالح للاستيقاظ، فهل كلما نام الإنسان واستيقظ يغسل يديه؟ إن القرينة هنا هي قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، والبيتوتة تكون ليلاً. فقوله: (إذا استيقظ) عام مطلق لكل من ينام ويستيقظ، ولكن في آخر الحديث ما يحدد نوعية النوم. ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بالشفعة، فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ، وهناك من قال: الجار بمعنى المجاور، ولكن آخر الحديث: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق) بين أنها تكون بين الشركاء؛ لأن الجيران عندهم حدودهم وطرقهم من قبل. فلابد أن يؤخذ الحديث بمجموعه ولا يغفل فيه لفظ واحد، فلفظتي (فضربت) و (صرفت) بينتا لنا أن كلمة الجار التي هي حقيقة في المجاورة ومجاز في الشريك يراد بها الشريك. وعلى هذا فالحديث فيه قرينه تبين نوعية النوم الذي إذا استيقظ منه لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، وهي كلمة (باتت يده) . وقد يقول قائل: لماذا يغسلها؟ فيقولون -والله تعالى أعلم، وهذا من باب الموعظة- إن رجلاً سمع هذا الحديث وقال: عجيب! كيف لا أعلم أين باتت يدي! واحدة تحت جنبي والأخرى فوق الجنب الآخر، فابتلاه الله أن جعله يستيقظ ويده في مكان يستقذره. وبعض الناس يقول: الحديث هنا معلل وظاهر العلة، فيقولون: إن الحديث قيل في المدينة وهي حجازية، والحجاز حارة، وكانوا يستجمرون ولا يستنجون، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل قباء حين نزلت فيهم الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال: (إن الله أثنى عليكم، فماذا تفعلون؟ قالوا: نتبع الحجارة بالماء) ، فما كان كل الناس يتبعون الحجارة الماء، بل يكتفون بالحجارة، فيقول بعض الناس: إن الإنسان إذا نام لا يدري أين تطيش يده، فلربما وصلت يده إلى ذلك المكان، وربما عرق، فالحجارة لا تنقي، فمن هنا يغسل يده. ولكن الجمهور يقولون: لو أنه بات ويده مغطاة بالكفوف واستيقظ من نومه فبمقتضى هذا الحديث لا يغمسها في الإناء حتى يغسلها. وهنا تنتج من الفقهاء أقوال هندسية تصيب وتخطئ. فإذا كان سيتوضأ من الصنبور فإنه لا يحتاج إلى أن يغمسها، وإن كان الإناء صغيراً فسيكفئه ويتوضأ، ولكن إذا كان الإناء كبيراً وليس عنده ما نعترف به ولا يستطيع أن يميله فماذا يفعل؟ فبعض الفقهاء يقول: يأخذ الماء بفيه ويغسل يديه وبعضهم يقول: يأخذ من ثيابه ويغمسه في الماء، ثم يعصره على يده. فغسل اليدين للمستيقظ من نومه مستقل بذاته، فإذا استيقظ من النوم وأراد أن يتوضأ، فالحديث يقول: (فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) . مسألة: هل غسل اليدين ثلاثاً لغمسها في الإناء يجزئ عن غسل الكفين في الوضوء، كما لو أراد أن يتوضأ للظهر أو العصر، أم لابد من غسل اليدين مرة لغمسها في الإناء ومرة للوضوء؟ فهذا حكم وذاك حكم. فلو قمت من نومك وأردت غسلهما تحت الصنبور فإنك تغسلهما ست مرات، ثلاثاً لاستيقاظك من النوم، وثلاثاً للوضوء، وهذا مقتضى نص هذا الحديث. والذين يقولون: إنها مسألة معللة. نقول لهم: لا دخل للتعليل في هذا، وكلما أخذ الإنسان السنة على عمومها واطمأنت نفسه إلى مقتضاها دون أن يدخل العقل فيها كلما كان ذلك أسلم له وأطيب للخاطر. والله تعالى أعلم.

الاستنثار ثلاثا

الاستنثار ثلاثاً قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه) متفق عليه] . هناك في حديث عثمان رضي الله عنه قال: (تمضمض واستنشق واستنثر) ، ولم يقل (ثلاثا) ، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث ليبين أمرين: الأمر الأول: أن المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات. الثاني: عند الاستيقاظ من النوم يستنثر ويستنشق ثلاثاً، وذلك لأن الشيطان يبيت على الخيشوم داخل الأنف، والشيطان اختار هذا المحل لأنه مفتوح. وبعض العلماء يقول: لأنه موضع المخاط والقذارة، فالشيطان يتتبع هذه الأشياء، وسيأتي نص أنه يبول في أذن النائم الذي ينام عن صلاة الصبح، وهل أحد يحس بثقل الشيطان في خيشومه؟ وما هي ماهية الشيطان؟ هل هو خشب، أم حديد، أم دم ولحم فالله أعلم به، والأصل فيهم أنهم عالم نيراني، ولكن الله أمكنهم أن يتكيفوا بما لا نراه نحن، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، وكم ذكر أن من مؤمنيهم وصالحيهم من يتلقون العلم مع الناس، ويجلسون في حلق الدروس، ولا يعلم الناس بهم ولا يشعرون بهم، وقد يتشكلون بشكل ما حيوان أو إنسان. وفي السنة في حديث أبي هريرة أنه أتي بمال الزكاة، وقام عليه أبو هريرة حارسا، فإذا بشخص يأتي خلسة ويسرق من الطعام، فيمسكه، فيتعذر عليه بالفقر والعيال، فتركه لوجه الله، وفي اليوم الثاني جاء فإذا به أيضا يعتذر بنفس العذر، فسأله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعل أسيرك البارحة؟ قال: اعتذر وشكى لي العيال، قال: سيعود فعاد في الليلة الثالثة فأمسكه أبو هريرة وقال له: لأسلمنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا تفعل، وأعاهدك أني لن أعود، وأعلمك آية إذا قرأتها عند نومك لا يقربك شيطان، وأخبره أنها آية الكرسي، فتركه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: عاد، ولكن عاهدني وعلمني كذا، قال: صدقك وهو كذوب) ، فهو صدق حين أخبره بأن من قرأ آية الكرسي لا يقربه شيطان، وهو كذوب لأنه ثلاث ليال يقول له: (لن أعود) ، ولكنه عاد، فجاء في شكل إنسان إلى أبي هريرة. وفي حفر الخندق رجع رجل من الأنصار إلى بيته فووجد زوجه على الباب -وهو حديث عهد بعرس- فأراد أن يضربها بسيفه، فقالت: تعال وانظر إلى فراشك! فدخل فإذا حية ممددة على طول السرير، فالتقطها برمحه ثم ركز الرمح وسط البيت، فانتفضت عليه، فتقول الزوجة: فوالله لا أدري أيهما أسبق موتا. فلما أخبر صلى الله عليه وسلم قال: (أصابه ولم يسم، فانتقم له أصحابه. إلخ) . وجاء في الحديث الآخر: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ، ويوجد تحت كل شعرة عِرق يغذيها، ويقال: لو أن أوردة الإنسان وأوعيته الدموية أخذت على ما هي عليه ووصلت لدارت حول الكرة الأرضية، فهناك أوردة وعروق دقيقة جدا فالشيطان يمر فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (فضيقوا مجاريه) . فإذا كان يجري -وليس يمشي فقط- فلا غرابة أن يبيت على خيشومك. فنحن نستريح بقراءة هذه الآية، وكفانا خبر السيد المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكن بين لنا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان النائم ما عليه تكليف، فاتركه ينام، فإذا استيقظ واستنثر بالماء أخرج عنه الشيطان وآثاره في خيشومه.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [4]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [4] لقد حث رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يرفع الدرجات ويزيد في الأجر، فكان مما أرشد إليه إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع واللحية، والمبالغة في الاستنشاق، وهذه الأفعال من أسباب كمال الوضوء وحسن النظافة وزيادة الأجر.

أحكام متعلقة بالوضوء

أحكام متعلقة بالوضوء

إسباغ الوضوء

إسباغ الوضوء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] . وقوله: [وعن لقيط بن صبرة] يقال: (صبُرة) بالضم، وقيل: (صبِرة) بالكسر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) هذا الحديث في جملته من أهم أحاديث الوضوء؛ لما فيه من الحث على إسباغ الوضوء، والإسباغ: التعميم، كما قال تعالى: {أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً سابغات تغطي مواطن الخطر على الإنسان عند القتال، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة المرأة: (أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) وإسباغ الوضوء: هو تعميم العضو بالماء، حتى لا يبقى فيه جزء لم يمسه الماء. وجاء في المقابل في غزوة تبوك أنه صلى الله عليه وسلم نظر إليهم وهم يتوضأون سراعاً، فرأى في عقب واحد منهم لمعة -أي: لم يصلها الماء-، فقال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم. فعرفنا أن الإسباغ هو التعميم، ومن هنا قالوا -كما تشدد في ذلك المالكية- تدليك الأعضاء شرط في الوضوء، وقال آخرون: إن التدليك ليس شرطاً، وإنما هو عامل تأكيد لوصول الماء إلى البشرة كلها، وجاءت السنة مبينة بأن يتوضأ الشخص ثلاثاً؛ فتثليث الغسل فيما عدا الرأس مظنة تعميم الماء على الأعضاء، أو تحقيق لإسباغ الوضوء. فهذا الحديث نص صريح: (أسبغوا الوضوء) ، ومن هنا يقولون: من اطلع على لمعة في عضو من أعضاء الوضوء بعد أن صلى بهذا الوضوء عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن وضوءه ناقص، والوضوء شرط في صحة الصلاة، ولهذا كانت أهمية هذا الحديث، وكان على الإنسان إذا أخذ يتوضأ أن يتمهل ويدلك، ويتأكد من وصول الماء إلى جميع أجزاء كل عضو من أعضاء الوضوء. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء) في هذا استعمال اللغة المعنى المحسوس للمعنى المعنوي، فأصل الإسباغ للمحسوسات من الثوب والدرع ونحوه، فنقل إلى الوضوء؛ لأن الوضوء أمر حادث بعد إيجاد اللغة ووضعها.

تخليل الأصابع في الوضوء

تخليل الأصابع في الوضوء قال صلى الله عليه وسلم: (وخلل بين الأصابع) هذا مناسب لما قبله؛ لأن من عملية إسباغ الوضوء أن تخلل بين أصابع اليدين والرجلين؛ لأن العادة أن الأصابع قد تنطبق على بعضها -لا سيما أصابع القدمين-، فتكون فرصة دخول الماء بين الأصابع قليلة، والتخليل مأخوذ أيضاً من معنى محسوس، وهو عود الخلال، وكان الناس سابقاً -خاصة من لم توجد في أرضهم أعواد الأراك لاستعمال السواك بكثرة- كانوا يستعملون أعواد الخلال، وهو نبات ينبت أحيانا مع القمح، وهو عبارة عن أعواد كأعواد الكبريت، وهي أدق منها، ولها ثمرة البذور في أطرافها يداوى بها الكلى والحالب ونحو ذلك، وتلك الأعواد ملساء ودقيقة مثل إبرة الخياطة، فكانوا يدخلونها خلال الأسنان في تلك الفجوات لتنظف الفم وتقوم مقام السواك، وكانوا يختارونها دون غيرها لكونها ملساء، ولدقتها ورائحتها، فكانت تعطر الفم مع النظافة. فتخليل الأصابع إدخال الأصبع بين الأصبعين، مأخوذ من تخليل الأسنان، فالتخليل والخلة أخذا منها، فلم يبق بين الأسنان ما يسع مع عود الخلال عوداً آخر، وكذلك تخليل الأصابع، فإذا أدخلت الأصبع بين الأصبعين لم يترك مجالاً لأصبع آخر؛ لأن الأصبع وصل إلى الفجوات بين الأصبعين. ومن هنا قيل: الخليل: هو الصديق الوحيد للذي اتخذه خليلاً وحيداً لنفسه؛ لأن الخلة لا تسمح لصداقة غيره معه، كما أن عود التخليل بين الأسنان لا يسمح لعود آخر معه، ومنه الحديث: (لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، والأنبياء كثر، وسيدهم وخاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن لما جاءت الخلة لإبراهيم لم يكن هناك خليل آخر لخليل آخر، وهكذا العادة بين البشر، فإذا اتخذ الإنسان خليلا لم يبق في قلبه مكان لخليل آخر، إنما هو واحد فقط. والتنبيه على التخليل على ما بين الأصابع مع إسباغ الوضوء هو لأن نعومة الأصابع -وهي تلك المناطق اللينة- ربما يتراكم فيها شيء من العرق، أو ما يخرج من الجسم، أو الدهون، خاصة أصابع القدمين، وإذا تراكم شيء من ذلك كانت فيه مضرة على الجسم بسد المسام في هذه المناطق، فكان من فطرة الإسلام ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه على تلك الأماكن، وأن يؤكد على أن نظافتها جزءٌ من الوضوء، وإسباغٌ وتكميل للوضوء. وذكر الفقهاء في كيفية التخليل صوراً هندسية الله أعلم بها. قالوا: يجب أن يكون تخليل أصابع القدمين بخنصر اليد اليسرى لا باليمنى، أما أصابع اليدين فكيفما كان، ولو أن يدخل الأصابع بعضها في بعض، وسواءٌ أكان ببطن الكف أم بظاهره، فعلى أي صورة كانت فقد حصل التخليل، إلا أنه في القدمين الغالب والعادة -خاصة لمن يلبس الحذاء الساتر للقدم، أو الشراب- أن يكون بين أصابع القدمين روائح، فقالوا: نظافة القذارة أو ما يعلق في الجسم مختص باليد اليسرى، وأما ما عدا ذلك فهو لليد اليمنى، ولهذا قالوا: يكون تخليل أصابع القدمين باليد اليسرى، وبالخنصر؛ لأنه أرفع الأصابع وأدقها، وأيسر أن يمر وأن يخلل بين أصابع القدمين لتقاربها وتناسقها.

المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء

المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء قال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق) . يضيف صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بمدخل من مداخل الجسم، وهو الاستنشاق، وضابطه: جذب الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار:هو إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه، أي: بالغ في نظافة الأنف. ومعلوم عند الناس أن الله سبحانه جعل الأنف طريقاً للهواء، ويقولون: التنفس الصحي السليم أن يتنفس الإنسان بأنفه لا بفمه، والفرق بين التنفس بالأنف وبين التنفس بالفم واضح عملياً؛ لأن المتنفس بفمه يأتي بالهواء من الخارج عن طريق الفم إلى الرئة مباشرة، فإن كان في الحر فهو حاراً، وإن كان في البرد فهو بارداً، وإن كان الجو فيه غبار فهو هواء بغباره، ولكن الأنف نجد أنه مفتوح، وليس له مغلاق كالشفتين على الفم، فالهواء داخل وخارج على مر الوقت، فجعل الله سبحانه -من حكمته- في مداخل الأنف شعيرات، وهي عبارة عن مصفاة أولية لرد الأجرام المحسوسة، ووراء الشعيرات المادة المخاطية ترد ما تجاور منها ولو كان ضئيلاً فيلصق بتلك المادة، وما تعدى تلك المادة يأتي إلى الخياشيم، والخياشيم لا تسمح لشيء يدخل إلا الهواء الصافي فقط. ومن مهمة تلك المادة وتلك الشعيرات والخياشيم تكييف الهواء، فإذا كان الهواء حاراً شديداً فإنه حين يمر بتلك المناطق يتكيف بالبرودة بما يلائم داخل الصدر، وإذا كان الهواء بارداً شديداً مشبعاً بالرطوبة والبرودة فعندما يمر بتلك المناطق فإنه يتكيف بالحرارة التي تناسب الرئة. ومن هنا -ومن حكمة الله- لما كان طريق الهواء -وهو الأنف- طريقاً مفتوحاً وفيه تلك العمليات من التصفية والتنقية والتكييف كان لابد من العناية به في نظافته؛ لأننا إذا لم ننظف الشعر والمادة والخياشيم انسدت تلك المسام، أو تعطلت فائدتها، وأصبح الهواء يمر ولا يرده شيء. فعلى هذا كانت عناية الإسلام بهذا المدخل الوحيد للهواء أشد ما تكون. ويقابل ذلك العناية بالمدخل للطعام والشراب ألا وهو الفم فأمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ المضمضة، بل وشرع السواك، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، ونحن ننبه على محاسن الإسلام وشموله، ونقول:إن العالم الغربي كلما أمعن في الحضارة، وكلما ترقى في المدنية فإنه يعتدل المسار به إلى الإسلام. أنا لنسمع بالأسبوع الصحي، والعناية بالفم لأنه مدخل الطعام إلى الجسم، ومظهر صحة الفم مظهر من صحة الجسم وهذا بعد أربعة عشر قرناً، والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُعنى بذلك من أوائل البعثة، ويجعله جزءاً في الوضوء، ومع كل وضوء، والإنسان يتوضأ خمس مرات أو أكثر في اليوم والليلة. فعناية الإسلام بما انتبه إليه الغرب اليوم دليل شاهد قوي على قدم وسبق وسمو حضارتنا الإسلامية على ما توصل إليه الغرب بعد عشرات القرون، وعلى هذا يكون الحديث علما من أعلام السنة النبوية، فمن المعجزات كون النبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى هذه الجزئية الدقيقة في جسم الإنسان من باب الطب الوقائي قبل أن يقع شيء من الأمراض بسبب الإهمال. ونجد هنا -من الناحية الأصولية- الاحتراز في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستشناق إلا أن تكون صائماً) ، والمبالغة زيادة عن الحد المعتدل، كما يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فما نقص عن الوسط كان تقصيراً، وما زاد عنه كان مبالغة. وهنا يحث صلى الله عليه وسلم على المبالغة، مع أنه لم يحث على المبالغة في أي عمل من الأعمال، وجعل غسل الوجه ثلاثاً، فليس هذا مبالغة بل هو تكرار، ويمكن أن يكون الاستنشاق ثلاثاً دون مبالغة، والمبالغة هنا: أن يحاول أن يدخل الماء إلى داخل الأنف ليستقصي نظافته، ولكن نجد الاحتراز، كما قيل: لكل مقام مقال، والفتوى والعمل يجب أن تراعى فيهما أحوال الإنسان، فقوله: (وبالغ في الاستنشاق) لأن هذا أدعى إلى النظافة أو استكمال الوضوء، كما أنه جاء أن الشيطان يبيت على خيشومه. وقوله: (إلا أن تكون صائماً) ، أي: إن كنت صائماً لا تبالغ، ويكفيك الحد المعتدل بأن تستنشق الماء بسهولة بدون مبالغة؛ لئلا يصل الماء إلى درجة لا تستطيع معها أن تتحكم فيه، فيسبقك إلى الداخل وأنت صائم ممنوع من إدخال شيء إلى جوفك. فالمبالغة مع الصوم تؤدي إلى إبطال ما هو أعم وأفضل وألزم. وهذا الحديث أصل من أصول سد الذريعة، وهو أن تترك فعل الشيء الجائز مخافة أن تقع في فعل الشيء الذي ليس بجائز، أو تتسبب في حصول شيء أكثر ضرراً من ذلك، كما جاء في الحديث أيضا: (من الكبائر أن يسب الرجل أباه، قالوا: يا رسول الله! وهل يسب الرجل أباه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه) ، فسبك لأبي غيرك ذريعة لأن يسب أباك، فتكون كأنك سببت أباك. وجاء أيضاً في القرآن الكريم: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: تكونون أنتم من سلطهم على سب الله عز وجل بسبكم لآلهتهم، وأنتم غير مكلفين بهذا، ولكن تمنعونهم وتنصحونهم، ولا تسبوا آلهتهم فتأخذهم الغيرة والحماس مما يجعلهم يسبون الله أيضاً. وهذا الحديث أصل من أصول سد الذرائع في أصول الفقه، وهذا الذي ينبغي على الإنسان أن يراعيه ولهذا قال العلماء فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا وجدت إنساناً على منكر، أو علمت بمنكر في مكان فتحمست وقلت: يجب تغيير المنكر، ثم غفلت عما يجب مراعاته في قواعد الأمر والنهي، فاقتحمت البيت بغير إذن - وليس لك حق في هذا؛ لقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، وجئته بشدة وحماس وقلت له: يا جاهل يا فاعل فعند ذلك ينتصر لنفسه ولو بالكذب، فيدخل حظ النفس هنا، فبدل أن كنت تريد نصحه لله في إنكار المنكر سمعت سبه لك فأردت أن ترد عن نفسك، فأصبحت القضية شخصية، وبعدت عن الأمر والنهي لله. وقال العلماء في هذا المعنى: على الآمر أو الناهي أن ينظر في نتيجة ما يأمر به أو ينهى عنه، فهل ستمنع هذا المنكر الموجود الذي يُنهى عنه، أو سيأتي بالفعل المأمور المراد فعله بأمرك إياه؟ أو أن من تنهاه سيأتي ويعتبر ذلك إهانة له؟ وخاصة إذا كانت أمام الناس، فتعتبر فضيحة وينتصر لنفسه، فيأتي بمنكر أكبر مما هو عليه، فيكون نصف من المنكر فجلب من المنكر أكثر من ذلك، فالأولى أن تتكره على نصف المنكر. من هنا قالوا: على الآمر الناهي المحتسب أن ينظر في عواقب الأمور، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فيدعو على بصيرة، وليس على البصر الذي يرى الأشياء المحسوسة بالفعل، ولكن أصحاب البصائر النيرة هم الذين يرون ببصائرهم ما وراء الواقع استنباطاً من الواقع، وليس علماً بالغيب، ولكن -كما قيل- بصيرة، كما في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فكذلك الداعي يجب أن يكون على بصيرة من أمره، فلو أنه ذهب إلى رجل ينهاه فهل يتحمل أذاه؟ فإن قال: أنا أتحمل الأذى نقول: وإن كنت تتحمل، فليس من اللازم أن تعرض نفسك لما تتحمله من غيرك. فهذا الحديث أصل في سد الذرائع، سواءٌ أكان في الأعمال العادية، أم في احتساب الأمر والنهي لوجه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

المضمضة والاستنشاق وحكمها

المضمضة والاستنشاق وحكمها قال رحمه الله تعالى: [ولـ أبي داود في رواية: (إذا توضأت فمضمض) ] . حكم الاستنشاق في الوضوء في حديث لقيط، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق) وأعتقد أنه قد علم بالضرورة أنه إذا لم يسبغ الوضوء فالوضوء ناقص، وإذا كان الوضوء ناقصاً فالصلاة غير صحيحة، فإسباغ الوضوء واجب. وأما تخليل الأصابع فإنه قد اتفق العلماء على أن تخليل الأصابع سنة، فلو أنه توضأ ونسي -وقلنا: (نسي) ؛ لأنه لا ينبغي لمسلم أن يعلم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمد تركها؛ لأن هذا تقصير وإهمال فإذا نسي أن يخلل أصابعه فالوضوء تام ومجزئ، لكن لا ينبغي أن يترك ذلك عمداً. وأما الاستنشاق فبعض العلماء يقول بأنه واجب؛ لأن الرسول أكد عليه بالمبالغة إلا في الصيام؛ لأن المحافظة على الصيام أهم منه، وبعضهم يقول: إنه سنة من سنن الوضوء وهناك من نظر إلى الآية الكريمة فقال كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الآية الكريمة فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، قالوا: الوجه من المواجهة، والفم والأنف إن كانا من الوجه فالمضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما من تتمة الغسل للوجه، وإن كانا مستقلين فقد حصل غسل الوجه بدونهما. وقوم قالوا: هما من الوجه ولكن هل هما عضوان ظاهران كالخد والجبهة، أو أنهما خفيان لأننا لا نرى ما بداخلهما؟ فمن قال بوجوب الاستنشاق والمضمضة فلأنهما من تتمة الوجه، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ومن قال بأنهما عضوان مستقلان ولهما اسمان متميزان قال: الوجه محدود بغيرهما. وعلى هذا يختلفون، ولكن الجمهور يتفقون على أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل غير واجبين في الوضوء قالوا: لأن هناك حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، فكل موضع يمكن أن يصل الماء إليه يجب أن يعمم بالماء عند الغسل من الجنابة. ومن العلماء من فرق بين الغسل والوضوء، فجعل الاستنشاق واجباً وجزءاً من الغسل، وليس واجباً في الوضوء. ويأتي المؤلف رحمه الله بأثر بعد هذا، وهو: (إذا توضأت فمضمض) ، فقوله: (بالغ في الاستنشاق) أمر وزيادة، أمر بالاستنشاق وزيادة المبالغة، والمضمضة ليس فيها مبالغة؛ لأن حد المضمضة أن يأخذ الماء ويديره في فيه بلسانه أو بالهواء، ثم يمجه، والفم له حدوده، وليس هناك زيادات، ولكنه جاء بصيغة الأمر (إذا توضأت فمضمض) ، فهذه صيغة أمر، ولهذا فمن قال: إن المضمضة واجبة في الوضوء فلصيغة الأمر الوارد، ومن قال: إنه لا تجب المضمضة قال: هذا الأمر للإرشاد والاستحباب. ولكن لا ينبغي للإنسان أن يترك المضمضة والاستنشاق للوضوء من وضوئه، واستدلوا على تأكيد فعلهما في الوضوء بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المضمضة والاستنشاق. والله تعالى أعلم.

حكم تخليل اللحية في الوضوء

حكم تخليل اللحية في الوضوء قال رحمه الله تعالى: [وعن عثمان رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء) أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة] . بعد أن انتهى المؤلف رحمه الله من الأمور كالخفية الأنف والفم جاء إلى الظواهر، فذكر أنه كان صلى الله عليه وسلم -وهذا يدل على الدوام وعلى الاستمرار- يخلل لحيته) . والتخليل: هو إدخال شيء بين شيئين، وتخليل الأصابع: هو إدخال الأصبع بين فجوات الأصابع الأخرى، وكذلك تخليل اللحية بأن تدخل أصابعك خلال شعر الوجه، فقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وكان يخلل لحيته في الوضوء، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم أقل ما يقال فيه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . ولكن الفقهاء ناقشوا هذه المسألة، فعندما يكون الشخص أمرد لا لحية له، وغسل الوجه، فإن الماء سيعم بشرة الوجه من منبت الشعر في الجبهة إلى أسفل الذقن، ومن الأذن إلى الإذن، أي: أن الماء قد أسبغ على الوجه كاملاً. عندما تكون اللحية موجودة وكثة فلاشك أن اللحية ستحول دون ذلك، سواءٌ أكان الشعر جعداً، أم سبطاً، فإنه يحمل مادة دهنية، فيمنع الماء أن يدخل من خلاله إلا إذا خللته أنت. وهنا يأتي السؤال:مع وجود اللحية هل الفرض في غسل الوجه لا زال لبشرة الوجه، أم ينتقل من بشرة الوجه إلى اللحية؟ وهذا كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فإذا كان الإنسان أصلع ومسح فإنه سيمسح جلدة رأسه، فإذا كان الشعر كثيفاً ومسح فإنه سيمسح على شعره، والله تعالى يقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فهو سيمسح شعر رأسه؛ لأن مسح جلدة الرأس أصبح متعذراً، يقول الأصوليون: من قارب الشيء يعطى حكمه، ووجدنا جواز مسح الخفين بدلاً عن غسل القدمين؛ لأنهما ساترين للقدمين، مع أن هذا مشروع مستقل، لكن كان هذا تنظيرياً للمسألة. وهنا الواجب غسل الوجه، والوجه أصبح مغطى بالشعر، فبعض العلماء يقول: يكفي مرور الماء على ظاهر اللحية، كما يكفي مرور الماء على شعر الرأس، وهذه بتلك، وبعضهم قال: لا، الوجه للغسل وهو آكد من المسح فعليك أن تعمل ما بوسعك، خلل اللحية بمعنى: أن تدخل الأصابع خلال الشعر وهي مبللة؛ لأن الماء - إن قلنا إن الشعر يجزئ عن بشرة الوجه -سيمر على الشعر الظاهر على اللحية وباطن اللحية يأته شيء، فعندما تكون الأصابع مبللة وتدخلها في خلال اللحية يتبلل من الشعر جزء أكبر، ولذا قالوا في تخليل اللحية: أن يدخل الأصابع من أسفلها؛ لأنه إذا أدخل الأصابع من أسفلها تخلل الشعر، أما إذا أدخلها من أعلاها فيمكن أن ينثني الشعر مع أصابع يده ولا تنفذ الأصابع بين الشعر كما تتمكن من النفوذ إذا أدخلها من أسفلها. فيدخل الأصابع بين شعر اللحية من أعلى أو من أسفل بيد واحدة، فهذا كاف في تخليل اللحية، وإذا كانت اللحية شعيرات قليلة فليس هناك شيء يخلل، بل إن الماء سيصل إلى تحت اللحية بطبيعته، والله تعالى أعلم.

دلك الأعضاء في الوضوء

دلك الأعضاء في الوضوء قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه) أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة] . يروي لنا عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه مما رأى من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء القليل، قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي مد فأخذ يدلك ذراعيه) ، وثلثا المد يبينه العلماء بأن المد ربع الصاع، وتقدم في الزكاة بأن الصاع خمسة أرطال وثلث على رأي الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله ثمانية أرطال، وعلى قول الجمهور أنه خمسة أرطال وثلث فالصاع أربعة أمداد، فكم يكون مد الواحد؟ يكون المد رطلاً وثلث رطل؛ فإن الرطل الباقي يقسم إلى ثلاثة أثلاث بالإضافة إلى الثلث الآخر، فيبقى عندنا أربعة أثلاث، فتوزع على الأربعة الأمداد، فيكون وزن المد رطل وثلث وأما المقدار الذي أتي به صلى الله عليه وسلم فهو -تقريباً- نصف لتر. وقد جاء عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، وهنا: (أتي بثلثي مد) فمن كان من عادته الاقتصاد في الماء، فيتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع -والصاع: ثلاثة لترات -وهذا مبدأ في لزوم الاقتصاد وترك التبذير، ولذا قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإنسان أن يزيد في غسلات الوضوء على الثلاث التي جاءت بها السنة؛ لأنه يكون قد دخل في التبذير والمبالغة، والزيادة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال رجل لـ أنس حين حدث بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقال: والله لا يكفيني! فقال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر منك شعراً) وهذا يمكن أن يتأتى بالطريقة التي أشار إليها عبد الله بن زيد، حيث قال:: (فأخذ يدلك) ، والدلك أولاً يكون بقليل الماء؛ لأن البشرة إذا كانت جافة فإن الماء لا يتخللها، وربما كان هناك هواء وفقاقيع، لكن حينما يمسحها ويدلكها بيده وهي مبللة فإنه إذا جاء أدنى ماء جرى على اليد، وتعتبر تلك غسلة ولو بحفنة صغيرة، فالدلك لأمرين: الأول: التأكد من غسل الذراع وشموله، وعدم وجود بياض ولمع في عضو الوضوء. الثاني: الدلك ييسر عملية الوضوء بقليل من الماء. والغرض من هذا الحديث أمران: الأمر الأول: الدلك في الوضوء، وبعض العلماء شدد في الدلك في الغسل كالمالكية، حتى إن بعضهم قال: إذا لم يستطع أن يعمم البدن بيديه يأخذ حبلاً. واليوم يوجد من أدوات الغسل الشيء الكثير، فإذا أخذها وحركها من خلفه تأكد من وصول الماء إلى بشرته، فالمالكية يؤكدون الدلك في الغسل؛ لأنه تقدم حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، أما في الوضوء فإنهم يتساهلون في الدلك فيه. وهذا الحديث أصل في الدلك عند الوضوء، ولكن ليست كل الأعضاء صالحة للدلك، فالوجه صالح للدلك، والرأس غير صالح للدلك ولو بالغ في المسح لكان مكروهاً، ولذا قيل بأن المسح لا يكرر ثلاثاً؛ لأنه إذا تكرر ثلاثاً ترك بللاً على الشعر يشبه الغسل، والقدمان صالحتان للدلك، فقوله: (يدلك ذراعيه) نقيس عليه فنتبع الذراعين بالقدمين، وهذا أقل حد تبين من فعله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ به، فلو جاء إنسان -كما رأينا بعض الطوائف- وأخذ كأس الماء الذي فيه ماء قليل، فجعل يتوضأ به يبل أصابعه في الكأس ويمسح بهما على أعضاء الوضوء. فإن وضوءه لا يصح بهذا المسح، بل لابد من الغسل، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على العضو، أما المسح فقد يجتزئ فيه بأن تكون الآلة التي يمسح بها مبللة، فيمرها على العضو المراد مسحه، ولذا قال العلماء في الباء في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] قالوا: (مسح) تتعدى بنفسها وتتعدى بالحرف، فتقول: مسحت الزجاج، ومسحت رأس اليتيم. فهي تعدت بنفسها فلا تحتاج إلى الحرف، لكن لما جاء الحرف، فكما يقول الزمخشري: دلت الباء هنا على أن هناك شيئاً يمسح به من دهن أو ماء أو نحوه فتكون اليد فيها شيء تمسحه بالرأس وهو الماء، وعلى هذا: فالاقتصار في الوضوء على هذا المقدار يخل بالوضوء، والزيادة، على المد الكامل وليس الثلثين يدخل في الزيادة والتعدي أو التبذير. وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين لنا أمرين: الأول: بيان أقل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به. الثاني: بيان أن الدلك مشروع في الوضوء. وهذا مناسب لما ذكر أولاً في حديث لقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء) والإسباغ من ضرورياته الدلك، حتى لا تبقى لمعة أو محل يحول بين الماء وبين البشرة، والله أعلم.

مسح الأذنين وبم يكون

مسح الأذنين وبم يكون قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه) أخرجه البيهقي، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: (ومسحهما بماء غير قبض يديه) ، وهو المحفوظ] . هذه صورة أخرى يسوقها عبد الله بن زيد في صفة مسح النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه، وفي هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه وأدخل السباحتين) ، وسميتا بالسباحتين لأنهما لتحركان عند التسبيح، وعند والتشهد، وعند لفظ (أشهد أن لا إله إلا الله) ، وإن كان الأحناف يعادون تحريكها في التشهد معاداة شديدة؛ لأنهم يدخلونها في أبواب التوحيد والجهة وغير ذلك. فأدخل السباحة في أذنيه، وأدار الإبهام خلف الأذنين، وهذه الإدارة لأن خلف الأذن أسرع ما يتراكم فيه العرق، حتى تجد أن بعض الحيوانات ما يظهر العرق إلا حول أذنها وبعضهم يقول: خلف الأذن من الأسفل مقتل، فإذا أدار الإبهام خلف الأذنين أزال ما تبقى من العرق، ومن مواد دهنية في تلك المنطقة؛ لأنها إذا تركت على ما هي عليه من العرق والمواد الدهنية، وحصل جرح فإنه أبطأ ما يكون شفاءً؛ لأنها منطقة ناعمة لا تتحمل، فالعلاج فيها بطيء، والجرح فيها سريع، وهذا من العناية. فعني بالأنف كمجرى للهواء، وعني بالفم كمجرى للطعام، وكذلك عني بتخليل نعومة الأصابع لليدين والرجلين، وكذلك عني بما وراء الأذنين. وقوله: (مسح برأسه وأدخل السباحتين في أذنيه) يفهم منه أنه أدخل السباحتين بماء مسح الرأس، ولم يأخذ لهما ماء جديداً ليدخلهما في الأذنين، فيكون مسح الأذنين مع الرأس عملية واحدة. وهنا عبد الله بن زيد يخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ماء جديداً لمسح أذنيه، غير الماء الذي مسح به رأسه، فالأذنان لهما ماء مستقل ومسحة مستقلة، وهنا يبحث الفقهاء في الحديثين، ويقولون: هل الأذنان من الرأس فيجزيهما مسحة واحدة، أو أن الأذنين خارجتان عن حدود الرأس، ولهما مسحة مستقلة؟ والحديث الأول يشعر بأنه مسح الأذنين بماء مسح الرأس، وهذا الحديث ينص على أنه أخذ ماء جديداً، والعلماء رحمهم الله يجمعون بين الحديثين فيقولون: إن كان الماء وافراً في يديه عند مسح الرأس فإنه يمسح الأذنين بوفرة ماء الرأس، ولا يأخذ ماء جديداً، وإذا كان الماء ليس وافراً عند مسح الرأس، وظن أن المسح على الرأس استنفد الماء الذي في الأصابع أخذ ماء جديداً، وهذا هو الجمع بين الحديثين. والله أعلم.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [5]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [5] إسباغ الوضوء على المكاره أمر مستحب لابد من الاهتمام به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته يوم القيامة بآثار الوضوء، فينبغي للعبد أن يتوضأ كما أمر الله ورسوله، وأن يتيامن في وضوئه، ويوالي بين غسل الأعضاء، ولا يزيد في ذلك شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الغرة والتحجيل وما ورد فيهما

الغرة والتحجيل وما ورد فيهما

معنى الغرة والتحجيل

معنى الغرة والتحجيل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . هذا الحديث لو أن إنساناً تتبع طرقه واحتواه من جميع جوانبه ودلالاته لخرج برسالة كبيرة، وأوسع من رأيتُ ممن تكلم عليه ابن عبد البر رحمه الله في الجزء العشرين في كلامه على حديث الموطأ بهذا المعنى. والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا تتمة لأسباغ الوضوء، وليبين لنا أن إسباغ الوضوء يكون معه غرة وتحجيل. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون) : (إن) هنا أداة تأكيد، وأداة التأكيد لا تأتي ابتداءً إلا إذا شمت رائحة الإنكار، ولا تُشمُّ رائحة الإنكار إلا عن خبر متقدم، فهل النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابتداءً وقال: (إن أمتي يأتون) ، أم قال ذلك جواباً في سؤال كان موضع التساؤل؟ ولفظ الحديث أولاً: (إن أمتي) ، والأمة المحمدية هي خاتمة الأمم، وهي قسمان -كما يقولون-: - أمة الدعوة، وأمة الإجابة. والمراد هنا: أمة الإجابة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة) أي: بعد البعث يأتون مع سائر الأمم. وقوله: (غراً محجلين) الغرة: الشعر في ناصية الرأس. وفي الاصطلاح: بياض في جبين الفرس، تجد بعض الخيل تتميز به. والتحجيل شعر أبيض في موضع الحجل في يدي الفرس. والغرة والتحجيل من علامات فراهة الخيل وأصالتها، فما كل الخيل تأتي غراً محجلة، وهي أبرز علامة يتميز بها الخيل. وقوله: (غراً محجلين من أثر الوضوء) الوضوء يكون في الوجه واليدين والقدمين، والحديث ذكر البياض في الوجه والقدمين، فيكون أيضاً في اليدين تبعاً لهما، أو أنه يحوي الأطراف، فإذا كانت الغرة في الطرف الأعلى، والتحجيل في الطرف الأسفل فيكون قد حوى ما بينهما. والغرة والتحجيل شعر أبيض ينبت في هذين المحلين، لكن الغرة والتحجيل في الإنسان ليس شعراً ينبت، ولكن يكون نوراً، كما قال تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] ، فهذا النور من أثر الوضوء. وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قد يقال فيه: بماذا يطيلها؟ والجواب: يطيلها إما في المشبَّه -وهو أعضاء الوضوء- فيزيد على المفروض في الغسل، أو يسبغ الوضوء أكثرَ. والظاهر أن الطول والقصر في الزيادة ليس في الكمية، وإنما في الكيف.

عمل أبي هريرة ومن خالفه في ذلك

عمل أبي هريرة ومن خالفه في ذلك قالوا: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يغسل يديه إلى المنكب، فقيل: ما هذا يا أبا هريرة؟ قال: أطيل غرتي وكذلك كان يرفع في غسل القدمين إلى الركبة أو إلى نصف الساق. والمفروض إلى الكعبين، فكان هو يرفعها ويقول: أطيل غرتي. وذكر بعض السلف رحمهم الله فقال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فوق سطح المسجد، فغسل إلى كذا، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) . وغرض المؤلف التأكيد على استيعاب الفرض، وأنه لا مانع من الزيادة، وبيان خصوصية هذه الأمة. وبعض الناس يقول: الوضوء خاص بهذه الأمة ولكن لا يصح؛ لأنه قال: (إن أمتي يأتون) ومفهوم هذا: أن بعض الأمم الأخرى لا تأتي بهذا، فقالوا: لا وضوء في الأمم الأخرى. ولكن النصوص جاءت بالوضوء في زمن الأنبياء من قبل، وفي الأمم الماضية فيكون الوضوء ثابتاً للأمم الماضية؛ ولكن آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فالوضوء تشريع عام في جميع الأمم ولكن ظهور آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة. وبعض العلماء يقول: هل قوله: (فمن استطاع أن يطيل) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه مدرج في الحديث من قول أبي هريرة؟ أي أنه أخذه من قوله: (أمتي يأتون غراً محجلين) ، واستنبط من ذلك أنه كلما طال الغسل في عضو الوضوء طال النور فيه، فقال: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) . فبعض العلماء يقول: هذه الزيادة مدرجة من أبي هريرة، وهذا اجتهاد منه لِمَا فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) ، ويؤيد أنها مدرجة، ومن فعل أبي هريرة ومن فهمه أنه لم يُنقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن رسول الله نفسه أنه جاوز بغسل اليدين المرفق، كما جاء عنه: (وأدار الماء على مرفقيه) . أما أن يشرع إلى الساق أو إلى المنكب فلم يأتِ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، ولهذا قالوا: انفرد بهذه الصفة قولاً وفعلاً أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. وإذا كان انفرد بها الصحابي وخالفه الآخرون نقول: هذا عمل شاذ انفرد به، ويبقى العمل على ما ثبت من السنة وعمل جمهور الصحابة، وينتهي غسل اليد إلى المرفق كما في نص الآية الكريمة: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] . والرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن المرفق داخل في الغسل، لما جاء في الحديث: (أدار الماء على مرفقيه) أي: من أول الساعد. نأتي إلى جو الحديث وما أشرنا إليه من عمومه أو شموله أو سببه:

مناسبة ورود هذا الحديث

مناسبة ورود هذا الحديث قوله: (إن أمتي يأتون) مناسبة هذا الحديث، ومناسبة مجيء (إن) المؤكدة في أوله ما ذكره مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ومعه بعض أصحابه، فقال: (السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ... ) . يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد، أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك. كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: (بئس مضجع الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها) : أي: من المدينة. وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شاء الله بكم لاحقون) والمراد به: في هذه التربة. فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] . ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم، وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض) ، والفَرَط: الذي ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن يصلوا. وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة الاستيضاح. فقال هنا: (إن أمتي) . وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم. قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض) . فهنا تساءلوا: (ألسنا بإخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و) ابن عبد البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: (يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله. وفي رواية أخرى: (أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا: الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: غيرهم. وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا. قال: غيركم. وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها) . وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث. وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إن أمتي يأتون يوم القيامة) لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ (إنَّ) فقال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة. وفي تتمة الحديث: (ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً) . وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] . لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ، فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، وقال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] . والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي: تبقى على بياضها. وقال تعالى: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يُسلب نورُها، فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا} [الحديد:13] . وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق. وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم. قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] ، فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: ابقِ لنا هذا النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين: {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] . فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة. ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة. وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (وددتُ لو أني رأيتهم) ، ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل، حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

التيامن في الأفعال ومحله

التيامن في الأفعال ومحله

التيمن في التنعل والترجل

التيمن في التنعل والترجل قال: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله) متفق عليه] . قولها: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله) أي: لبسه النعل، ولبس النعل جِبِلَّة، فكان يلبسه متيمناً. ونحن نلبس النعال، ونمشي حفاة، فإذا لبسنا فالسنة أن نبدأ باليمين، وهذا محل التشريع، وهو الكيفية أو الوصف. قولها: (وترجُّله) الترجُّل هو: تسريح الشعر. فتسريح الشعر جِبِلَّة ونظافة وحسن مظهر، وفيه عناية الإنسان بصحة شعره، وإذا ما رجَّلته كان فيه القمل والأوساخ، فأنت مضطر لترجيله لنظافتك، ولكن باليمين؛ لأن ذلك هو السنة.

التيمن في الطهارة

التيمن في الطهارة قولها: (وطهوره) والطهور عبادة: وبهذا دخلنا في المشروع، فكان يعجبه التيامن في طهوره، وهذا محل الشاهد؛ إذ نحن في باب الوضوء، والوضوء عبادة، وعندنا يد يمنى ويد يسرى، وقدم يمنى وقدم يسرى، فإذا توضأنا نغسل اليمين أولاً. قالت رضي الله تعالى عنها: (وفي شأنه كله) . فبدل أن تعدِّدَ كل شيء قالت: (وفي شأنه كله) ، وكلمة (في شأنه) عامة لم يخرج منها شأن من شئونه، فلم يخرج لباسه، ولا نومه، ولا خروجه، ولا دخوله. ولكن قالوا: هذا العام دخله التخصيص في مسألتين خرجتا من هذا العموم: الأولى: عند خروجه من المسجد، فيقدم الشمال، فهذا أمر خرج عن عموم شئونه. والثانية: عند دخوله الخلاء، وهذا خرج عن عموم شأنه كله.

حكم التيمن عند العلماء

حكم التيمن عند العلماء فأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تخبرنا بأنه كان يعجبه التيامن. والأمور التي ذكَرَتْها، كالتنعُّل، وهو لبس النعال والجورب، والترجُّل، وهو تسريح الشعر، وفي لبس الثياب كان يبدأ بالكم الأيمن، كل هذه أمور جِبِلِّية، أي: تطلبها الجِبِلَّة والخِلقة، ولكن الوصف الذي كان يعجبه صلى الله عليه وسلم فعله هو التأسي، وهو السنة. وفي الوضوء والغسل كان يعجبه التيمُّن في وضوئه وغسله. وسيأتينا في كيفية الغسل أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيغسل فرجه، ثم يحتُّ يده بالأرض، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر قدميه، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، فحصل التيامن في الغسل. وعائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كان يعجبه) ، والذي يعجبه حده الاستحباب، وهذا رأي الجمهور، فالتيامن في الوضوء للاستحباب عندهم. وهناك من غير الأئمة الأربعة من يقول: إن التيامن واجب؛ لأنه ليس هناك مضادَّة، ولا خلاف بين كونه يعجبه وكونه واجباً، والواجب سيعجبه أيضاً. فقالوا: لا منافاة، فهو واجب يعجبه ولكن التعبير بـ (يعجبه) دون التعبير بـ (يلزمه) ، أو (كان يأمر) ، أو (كان يوجب) يوحي بأن هناك فارقاً. وبالنظر إلى الأمر في كتاب الله في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإن غسل اليدين في الآية مجمل، وجاء فعله صلى الله عليه وسلم مبيِّناً، وقد بدأ باليمنى، فلماذا لا نقول: هو واجب؟ فكان على مقتضى ما تقدم أن يكون التيامن واجباً، لكنهم قالوا: جاء عن الحسن وغيره أن علياً. قال: (لا أبالي بدأت باليسرى أو باليمنى إذا أتممتُ الوضوء) . وقالوا: (إنهما كالعضو الواحد) ، ولذا جُمعا في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإذا غسلهما بأي صورة ما تيامن أو تياسرَ تم الغسل المطلوب. فإن قيل: وأين تذهبون عما قاله الأصوليون أن بيانه للمجمل يأخذ حكم المجمل، وغسل اليدين واجب، فيكون بيانه واجباً؟ قالوا: يمنع ذلك ما نقل من الإجماع أنه سنة، وما نقل عن بعض السلف، ولهذا يقول ابن دقيق العيد وغيره: لولا نقل الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن التيامن سنة لكان مقتضى دوام فعله يقتضي الوجوب. وعلى هذا يكون التيامن من باب السنة، فإذا فعل إنسان خلاف ذلك صح وضوءه ذلك إلا من يقول: لا ينبغي تعمُّد ذلك، ولعل هذا من أحسن الأقوال، فمن ترك التيامن نسياناً وصلى نقول: وضوؤه صحيح، ولكن من تركه تعمداً فهناك الخطر عليه؛ لأن القول بالوجوب بمقتضى بيان رسول الله ودوام فعله، ولم يُنقل عنه مرةً واحدة أنه بدأ بالشمال دون اليمين، فإن هذا كله يقوِّي القول بالوجوب، كما تقول الهادوية وغيرهم، وكما يقول الشوكاني: لولا نقل الإجماع لكان القول بالوجوب قوياً. والله تعالى أعلم.

التيمن في الوضوء

التيمن في الوضوء قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدأوا بميامينكم) . أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] . الحديث الأول فيه: (كان يعجبه) ، وهذا حكاية فعل، وهنا قال: (إذا توضأتم فابدءوا بميامينكم) . وهذا الحديث أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، فلا يوجد مطعن في سنده. وهذا الأمر: (فابدأوا بميامينكم) ، يقوِّي وجه من يقول: إنه واجب، ولا ينبغي تعمد تركه، ويكون الإجماع لمن تركه نسياناً، لا لمن تركه متعمداً. والقول عن علي رضي الله تعالى عنه يناقَش في سنده أو لا يناقَش! فكلهم متفقون على رواية ذلك عنه رضي الله تعالى عنه.

الترتيب والموالاة وحكمها

الترتيب والموالاة وحكمها انتهى المؤلف رحمه الله من مبحث التيامن. وبقي مبحث الموالاة والترتيب، والترتيب بين أعضاء الوضوء هو كما جاء النص الكريم في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فهذا ترتيب أعضاء الوضوء الذي ورد في القرآن الكريم. والموالاة يستدل لها بقصة الرجل الذي رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قدمه لمعة مثل الظفر فقال: (اذهب فأحسن وضوءك) فما قال: اغسل هذه فقط. وقضية الموالاة بين الأعضاء معناها أنه لو قطع الوضوء عند غسل اليدين واشتغل بشيء ما، أو انتهى الماء عنده، أو جاء طارئ وتبعه وترك الوضوء من أجله حتى جف الماء عن اليدين، وأراد أن يكمل الوضوء، فهل يبني على ما مضى، أو أنه قد فات زمن يكون قد انقطع عما تقدم؟ فبعض العلماء يقول: إن طالت الفرقة أو الفصل بين أعضاء الوضوء استأنف من جديد، وإن لم يطُل الفصل بنى على ما تقدم. وقالوا: مقياس الفصل طويلاً كان أو قصيراً هو جفاف العضو الأخير الذي غسله وكفَّ عن تتمة الوضوء، كأن يكون غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم سمع منادياً فذهب وطال اشتغاله مع هذا المنادي، ثم رجع إلى وضوئه فإذا يداه جافتان كأنهما لم يمسا بماءً، قالوا: انفصل ما قبله عما بعده فيستأنف وضوءاً جديداً، أما إذا عاد إلى الوضوء ولم تزل بقايا البلل أو الماء على بعض أجزاء من يده الأخيرة -وهي اليسرى- فإنه يكمل ويبني على ما تقدم. وموضوع الموالاة سيأتي له النص في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الحديث عنده إن شاء الله.

خلاف العلماء في المسح على الرأس

خلاف العلماء في المسح على الرأس قال رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة) أخرجه مسلم] . هنا بدأ المؤلف بقضية مستقلة، وهي كيفية المسح على الرأس. فقد جاء النص مجملاً في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فكيف يكون المسح؟ إن الرأس من حيث هو في الوضوء إما أن يكون عارياً، وإما أن يكون عليه العمامة أو العصابة كما يُقال، أو الخمار كما جاء. فإن كان عارياً، فما الجزء المجزئ في مسحه؟ هناك من يقول: أيُّ معنىً يصدُق عليه المسح -أي: أيُّ مقدار يصدُق عليه المسح فهو مجزئ، وهو قول الشافعية. ولكن هذا القول حمله بعضهم على التفريط في هذا الأمر، كما قال النووي رحمه الله: والمنصوص أنه لو مسح ثلاث شعرات أجزأ؛ لأن أقل الجمع ثلاث، وقد أفرط بعض أصحابنا فقال: لو مسح بعض شعرة أجزأ. ثم يقول: وكيف يتحقق مسح بعض شعرة؟! فقال: إذا ما طلى إنسان رأسه بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء -والجزء البارز من تلك الشعرة ليس هو كل الشعرة- فمسح هذه الجزئية من الشعرة، أجزأه. ولكن يقول النووي: هذا تفريط، وقد ذكرتُه لأنبه عليه، ولا يُغتر به، ولو عظُم قائله. والقول الثاني: أقل ما يجزئ من مسح الرأس ربعه. وهو مذهب الأحناف. المالكية والحنابلة يقولون: الواجب مسح جميع الرأس. فهناك من يقول: يجب استغراق الرأس. وهناك من يقول: فيه عموم، فمعناه أنه قد يفوِّت بعض الرأس، وهو أقل شمولاً من القول بالاستغراق. وخلاصة القول فيما يجزئ من مسح الرأس إن لم يكن عليه عمامة أن العلماء مختلفون في ذلك. فمنهم من قال: أقل ما يصدُق عليه وهو للشافعية، وفيه ما فيه. ومنهم من قال: ربع الرأس، وهم الأحناف. ومنهم من قال: يمسح جميع الرأس. والجميع متفقون على أن مسح جميع الرأس هو الأفضل، فمن اقتصر على بعضه أو على الربع يقول أيضاً: لو مسح الكل لكان أفضل. أما إذا كان على الرأس عمامة، فيقولون: لها ثلاث حالات: الأولى: أن يمسح على العمامة وحدها دون أن يمس الرأس. الثانية: أن يمسح على الناصية تحت العمامة فقط. الثالثة: أن يمسح على الناصية تحت العمامة ويكمل على العمامة. فهي حالات ثلاث: فإما أن يقتصر على العمامة كما يقتصر على الخف في القدمين. وإما أن يقتصر على ربع الرأس وهو الناصية تحت العمامة. وإما أن يجمع بين الناصية والعمامة. فهذه الأقوال مجمل ما قيل في مسح الرأس في الوضوء. أما في الغسل فلا عمامة ولا قلنسوة، وعليه يجب تعميم الغسل. وهنا حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه نأخذه كأصل في المسألة. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) . فحديث المغيرة يكون أوفى، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه روى كثيراً من حالات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً في سفره معه في غزوة تبوك. فقوله: (بناصيته) الناصية: مقدَّم الرأس، أي: قدر وضع اليد على مقدَّم الرأس، فهذه هي الناصية. فلقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القدر المجزئ هو المسح على الناصية وقدرها. وقال: إما أن ينفرد المسح على العمامة، وإما إن ينفرد على الناصية، والمغيرة لم يرِد الجمع بينهما، وإنما أراد أنه مسح على الناصية تارةً، وعلى العمامة وحدها تارةً. والآخرون يقولون: المغيرة يحكي حالةً واحدة في الوضوء الواحد، وهو أنه جمع بين الناصية والعمامة. فقال أبو حنيفة: لا يوجد مانع، الناصية قدر الواجب، والتكميل على العمامة أو على الرأس تمام السنة والفضيلة. وقال: لو كانت العمامة وحدها تجزئ لما كانت هناك حاجة إلى الناصية، ولو كانت الناصية مكملة للفضيلة لما كانت هناك حاجة إلى العمامة، فهو جمع بين المفروض والمسنون، فمسح على الناصية لأنه أقل الواجب في الفرض، وأتم على العمامة؛ لأنه الأكمل والسنة والأفضل. وعند مالك رحمه الله لا يُقْتَصَر المسح على العمامة وحدها إلا للضرورة، كشدة البرد أو الحاجة، كما جاء في قصة التساخين والعصائب والعمائم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً فاشتد بهم البرد، فأمرهم أن يمسحوا على التساخين وعلى العمائم) ، قالوا: و (التساخين) هي نوع من القماش يُلف على القدم تسخَّن به، وينوب عن ذلك الخفُّ أو الجوربُ المتين. وكذلك العصائب والعمائم المشدودة على الرأس. ولمن يجيز المسح على العمامة فقط شرط، وهو أن تكون العمامة محنكة، ومكورة، ويقصدون بالمحنَّكة: التي يأتي طرفها من تحت الحنك ويذهب به مرة أخرى إلى الرأس أي: أنها ثابتة يشق نزعها في كل وقت، فتسهيلاً عليه يمسح عليها.

خلاصة مسألة المسح على الرأس من كلام ابن القيم

خلاصة مسألة المسح على الرأس من كلام ابن القيم وخلاصة لما تقدم يقول ابن القيم رحمه الله: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية العمامة ثلاث حالات: · فتارةً مسح على الناصية تحتها فقط. · وتارةً مسح على الناصية وأتم على العمامة. · وتارة مسح على العمامة وحدها دون الناصية. وكل ذلك فيه نصوص واردة صحيحة ومن اقتصر على حالة منها أجزأته. والله تعالى أعلم. هناك مبحث في هذه المسألة في قضية (الباء) في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِـ. } [المائدة:6] : فالشافعية يحملونها على التبعيض ولكن العلماء -خاصة علماء اللغة- يردون هذا، ويقولون: ليست للتبعيض. وقال الأحناف: هي للإلصاق. ولا مانع أن تكون للإلصاق وللتبعيض؛ لأنهم يقولون بالمسح على الناصية. وغيرهم يقولون: إن مجيء (الباء) ليدل على وجود ممسوح به؛ لأنك تقول: مسحت رأس اليتيم أي: مررتَ يدك عليها، ويقول: مسحت يدي في رأس اليتيم. تعني أن في يدك دهناً مسحته عليها. وهكذا قالوا في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] ، مع أن الشرب يتعدى بنفسه، تقول: شربت الماء. أو: شربت ماء العين. أو تقول: شربت بماء العين. فقالوا: (الباء) هنا كـ (الباء) هناك. ولكن يجيبون عن ذلك من جهة اللغة بالتضمين في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بها} فقالوا: ضُمِّن فعل (يشرب) معنىً يتعدى بـ (الباء) ، وهو (يستمتع ويتلذذ) ؛ لأن شرب أهل الجنة ليس عن عطش. وقالوا في (الباء) هنا: هي للإلصاق. والشافعية حملوها على التبعيض. وكان مجيء (الباء) هو سبب لهذا الخلاف والنزاع في جزء ما يمكن أن يُقْتَصَر عليه في الوضوء. والخلاف فيما يجزئ في مسح الرأس في الوضوء هو عين الخلاف فيما يأتي في قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فهل المراد بـ (رءوسكم) جميع الرأس، أو أن المراد: محلقين رءوسكم ومقصرين من الرأس؟ والخلاف في أية الوضوء لوجود (الباء) ليس كالخلاف هنا؛ لأن هنا لا يوجد (باء) . والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب الوضوء [6]

كتاب الطهارة - باب الوضوء [6] شملت أحكام الوضوء بعض الواجبات والسنن التي أوردها العلماء في باب الوضوء، ومن هذه الواجبات والسنن: الاقتصاد في الماء، وترتيب أعضاء الوضوء، وإسباغ الأعضاء بالماء، والذكر المسنون الذي يقوله العبد في أول الوضوء وعند الانتهاء منه.

مسائل في الوضوء

مسائل في الوضوء

ما يبدأ به من أعضاء الوضوء

ما يبدأ به من أعضاء الوضوء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما -في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم-: قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في الوضوء، فما علاقة صفة الحج بأعمال الوضوء؟ لقد أراد المؤلف رحمه الله تعالى الإتيان بعبارة جاءت في صفة الحج صالحة لجميع الأعمال، فجاء بها إلى الوضوء، وهذا لأول وهلة يعطينا فكرة عن المؤلف أنه يرى القياس؛ لأنه سيقيس أعمال الوضوء على أعمال الحج بعموم القاعدة التي جاء بها من صفة أعمال حج النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج قال: (ابدأوا) أو قال: (أبدأ) والفرق بين الروايتين هو كسر الهمزة وإسناد الفعل إلى واو الجماعة، وفتح همزة القطع، فبكسر الهمزة هو أمرٌ موجه للناس، وبفتح الهمزة هو إخبار عن فعله وإرادته ورغبته فيما يفعل، وذلك في المتساويين: الصفا والمروة، فكلاهما غاية في السعي، والمطلوب سبعة أشواط، فإن بدأت بالصفا وأتيت إلى المروة كان شوطاً، وإن بدأت بالمروة وانتهيت إلى الصفا كان شوطاً، فنحن نعد قطع المسافة بينهما شوطاً، ولكن النص هنا في البداية، فإذا كان الصفا والمروة متساويين من حيث البداية إن بدأنا من هنا أو بدأنا من هنا فهو شوط فمن أيهما نبدأ؟! فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) والله بدأ بالصفا كان المشروع أن نبدأ بالصفا. فمن بدأ السعي بالمروة للشوط الأول وجاء إلى الصفا، ثم رجع من الصفا إلى المروة يكون له شوط واحد، وهو رجوعه من الصفا إلى المروة، والشوط الأول الذي بدأه من المروة إلى الصفا يكون لاغياً؛ لأن المروة ليست محلاً لبداية السعي، فيكون فعله الشوط الثاني في حسابه من الصفا إلى المروة هو الشوط الأول من السبعة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا) ، سواءٌ أكان أمراً والأمر يقتضي الوجوب، أم كان إخباراً، فقد أحال أيضاً على فعله وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فهو بدأ بالصفا وقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) . وفي رواية (أبدأ) تكون قضية خاصة بالسعي؛ ولكن قوله: (بما بدأ الله به) ، لفظة (ما) فيه موصولة، فيتعين إذا كان هناك حكم والأعمال فيه متساوية، وتصح البداءة من أي واحد منها أن نراعي البداية بِمَا بدأ الله به من هذه المتعددات، فيتعين أن نبدأ منه؛ لأن العليم الخبير لا يقدم واحداً من المتساويات إلا لحكمة، فنعمل بذلك، وقلتُ: وذلك ما لم يكن هناك مراعاة لجانب آخر، كالترتيب الزمني. فمثلاً قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] فذِكْرُ نوح ثم ذِكْرُ إبراهيم وموسى وعيسى هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وإبراهيم هل هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وهل هم متساوون في الزمن أم مختلفون؟ والجواب: مختلفون. فترتيبهم الزمني كترتيبهم في النص الذي جاء بإيرادهم، فروعي في ذلك الزمنُ. فأنت عندما تقول: الله سبحانه شرع لنا من الأديان ما شرع للأنبياء من قبلنا عيسى وموسى وإبراهيم لا مانع من ذلك؛ لأن التركيب جاء مراعياً للزمن، وأنت لم ترد بيان التاريخ.

الآية وترتيبها لأعضاء الوضوء

الآية وترتيبها لأعضاء الوضوء أعضاء الوضوء المنصوص عليها في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] وهذه الأربعة الأركان بالترتيب. فلو غسلتَ القدمين ثم مسحت الرأس ثم غسلتَ اليدين ثم الوجه فإنك تكون أتيتَ بالأركان المذكورة في الآية. وكما يقولون: (الواو) لا تقتضي الترتيب، ولكن تقتضي التشريك. و (ثم) و (الفاء) هما اللتان تدلان على الترتيب والتعقيب، أما (الواو) كمثل: (جاء زيد وعمرو) ، و (زارني اليوم زيد وعمرو) ، فلا تعطي الأولية للذي جاء أولاً، ولا تفيد ترتيب مجيئهما إليك. فلما كان الأمر كذلك أمكن البداءة باليدين ثم الرجلين ثم الوجه ثم مسح الرأس، فكل هذا ممكن؛ لأنه لا يوجد نص فيما يتعلق بالترتيب. والآية ذكرت الأعضاء الأربعة في نسق، فجاء الحديث لما سأله رجل: (من أين نبدأ يا رسول الله؟) بياناً لما يبدأ به. بل كان هناك سؤال قبل ذلك، فلما اقتربوا من مكة قالوا: يا رسول الله! من أين ستدخل مكة؟ ومكة لها مدخلان، كَداء وكُداء، وهما موقعان متقابلان، ولذا يقول بعضهم في هذا من باب الظرافة والدعابة: افتح وادخل، واضمم واخرج. والمعنى: (افتح) تورية بفتح الباب، والمراد به (كَداء) ، واضمم واخرج أي: من (كُداء) . فقالوا: من أين ستدخل يا رسول الله؟ وكان أعلاها يسمى (كَداء) ، وأسفلها يُسمى (كُداء) ، وهي مداخل لمكة من بين الجبال، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يحيلهم على أمر أدبي، وعلى نصرة الدعوة في الشعر الإسلامي، فقال: (انظروا ماذا قال حسان!) . وذلك أنه هجا أهل مكة فقال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداءُ فـ حسان يتوعد أهل مكة بمجيء الخيول بكثرة، وبكثرتها تثير النقع أي: الغبار، وموعدها؟ كَداء. فلما نطق الشاعر المسلم الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه بأحد المتساويين أيده رسول الله، وأيد شعره في نصرة الإسلام، وأمرهم أن يطبقوا قول حسان، فدخلوا من (كَداء) . ولما دخلوا مكة وطافوا بالبيت وأرادوا السعي لقوله تعالى في الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] سألوا رسول الله، فقال: (ابدأوا) ، فهي جواب عن سؤال منهم رضي الله تعالى عنهم لما رأوا الطرفين متساويين، وتصح البداءة من أيهما؛ ولكن كان الرسول موجوداً فسألوا: من أيهما تكون البداية؟ فقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .

خلاف العلماء في الترتيب بين أعضاء الوضوء

خلاف العلماء في الترتيب بين أعضاء الوضوء ننتقل من السعي ووجوب البداية مما بدأ الله به -وهو الصفا- إلى الوضوء. فلو قال قائل: كيف نتوضأ؟ وبم نبدأ؟ فالجواب: (ابدأوا بما بدأ الله به) ، والله بدأ في أعضاء الوضوء بالوجه. ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا النص يدل على ترتيب غسل أعضاء الوضوء كما جاء في الآية. وإلى هنا تمَّ التشريع، وبقي الحكم، فهل هذا الترتيب شرط في صحة الوضوء، أم أنه إذا غاير هذا الترتيب صح الوضوء؟ فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء يقولون: لا ينبغي مغايرة هذا الترتيب. وبعضهم يحكي الإجماع بأنه لو غاير ذلك ناسياً وصلى فلا إعادة عليه؛ لأنه أتى بالغسل المطلوب، و (الواو) في الآية لا تقتضي الترتيب. ثم يذكرون عن علي رضي الله تعالى عنه في التيامن وفي الترتيب أنه قال: (لا أبالي غسلتُ قدميَّ أولاً أو يديَّ أو وجهي، إذا أكملتُ الوضوء) . أما اليمين واليسار فيقولون: اليدان والرجلان كالعضو الواحد، فأيهما غسلتَه قبل الآخر تَمَّ غسلهما إذا أوقعتهما في مكانهما. وعلى هذا لم يقل أحد بأن مخالفة الترتيب الموجود في الآية مبطل للوضوء قطعاً، إلا أنهم يجمعون على أنه السنة، ولا ينبغي تعمُّد خلاف ذلك. وبعضهم -غير الأئمة الأربعة- يقول: إن تعمد فلا وضوء له، وإن وقع منه نسيان فلا إعادة عليه. وإذا جئنا إلى السنة النبوية -كما يقول الشوكاني وابن القيم - فلم يؤثر ولم يرِدْ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين -سوى رواية علي، وفيها ما فيها- أن أحداً توضأ عاكساً هذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله. فلا ينبغي عكسه، وإذا قسناه على بداية الصفا والمروة فإننا نعتبر البداءة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها. ثم من ناحية أخرى يقولون: لو نظرنا إلى أعضاء الوضوء الأربعة، فأشرفها الوجه. فالوجه فيه خصائص تقدمه على غيره، فإذا بدأت بالوجه نزلت بالترتيب إلى اليدين، لكنك تصعد إلى الرأس ثم تنزل إلى القدمين. ومن هنا قال الشافعي: الترتيب واجب، فمن غير الترتيب فإن وضوءه باطل. قال: لأن الله سبحانه غاير في تلك الأعضاء بين المتشابهين أو بين القرينين، فاليدان والرجلان متناسقان، ففرَّق بينهما، فأمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، وبإمكانه أن ينزل إلى الرجلين؛ ولكنه أمر بمسح الرأس. فمجيء الرأس بين اليدين والرجلين يدل على أن هذا محل مسح الرأس، فلا يقدَّم على اليدين، ولا يؤخَّر عن الرجلين. ثم قال من ناحية أخرى: اليدان مغسولتان، والقدمان مغسولتان، والرأس ممسوح، فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، فلِمَ لَمْ يجعل المغسولات كلها في نسق وجاء بالممسوح وسطهما؟ فـ الشافعي رحمه الله لهذا الأمر قال: الترتيب واجب، ويستوي فيه العامد والمخطئ، فمن نسي فأخلف الترتيب، أو تعمد فأخلف الترتيب فوضوءه باطل. وبقية الأئمة رحمهم الله يقولون: إنما الترتيب هو الأكمل. والشافعي هو الذي قال ببطلان الوضوء إذا اختل فيه الترتيب عن نسقه في الآية الكريمة، مستدلاً بهذا على الترتيب الموجود في وضع أعضاء الوضوء، ومستنداً أيضاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) . والله تعالى أعلم.

إدخال المرفق في غسل اليد

إدخال المرفق في غسل اليد قال: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه) . أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف] . هنا يأتي المؤلف رحمه الله ليبين لنا قضية لغوية وعملاً شرعياً، فالآية الكريمة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] لم تطلق اليد عن القيد، بل قيدت غسل اليد بـ (إلى) ، و (إلى) حرف غاية، فجعلتا الغايةَ إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل؛ لأنك ترتفق به وتتكئ عليه، واللغة تقول: إذا كانت الغاية من جنس المُغَيَّا فهي داخلة فيه، وإذا كانت الغاية من غير المُغَيَّا فليست داخلة. كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهل الليل داخل في الصيام، أم هو خارج عنه؟ الليل مغاير للنهار، وجُعل الصيام إلى الليل، فالليل خارجٌ عن منطقة الصيام، وإن كان العلماء يقولون: يأخذ جزءاً من الليل تحقيقاً لكمال صوم يوم النهار؛ لكن الليل من حيث هو ليس داخلاً في الصوم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) . فلما كان الليل مغايراً للمُغَيَّا -وهو النهار، أو زمن الصوم- لم يكن الليل داخلاً. لكن هل المرفق داخل في مسمى اليد أو أنه ليس بداخل؟ يقولون: إن كلمة (اليد) يدخل فيها أطراف الأصابع إلى المنكب، وأجزاؤها مختلفة التسمية، فالأصابع أولاً، ثم الكف، ثم الرسغ، فالزند، فالساعد، فالمرفق، فالعضد، فالمنكب، فكل جزء في اليد أخذ اسماً مستقلاً، ولكن الجميع يدخل تحت اسم اليد. فلما جاءت كلمة (اليد) وغييَ المطلوب غسله من اليد إلى المرافق، كان المراد غسل اليد مع المرافق؛ لأنها جزء من الأيدي. فجاء بهذا الحديث ليبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل يديه أدار الماء على مرفقيه، يعني: شمل المرفق بالغسل، فالمرفق داخل في غسل اليد. والله تعالى أعلم.

التسمية عند الوضوء وخلاف العلماء فيها

التسمية عند الوضوء وخلاف العلماء فيها قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) . أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد ضعيف، وللترمذي عن سعيد بن زيد وأبي سعيد نحوه، قال أحمد: لا يثبت فيه شيء] . قوله: (لا وضوء) (لا) حرف نفي. و (الوضوء) : عمل محسوس بيِّن وهو غسل أعضاء معينة، والأعيان لا يتوجه إليها النفي. فعمل الوضوء حاصل، فهو قد غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه، وغسل قدميه، فالوضوء حاصل. - فكيف نقول: (لا وضوء) وهو متوضئ؟ قالوا: إن النفي يتوجه إلى أحكام الأعيان، أما الأعيان بذواتها فلا تُنفَى. وعلى هذا قالوا: يجب أن يكون هناك حكم مقدَّر يتوجه عليه النفي وهو: (لا وضوء معتبر) ، أو (لا وضوء صحيح) أو (لا وضوء كامل) . وأي المعاني يقدر حتى يتوجه عليه النفي؟ بعضهم قال: لا وضوء كامل. فالوضوء موجود، ولكن ليس بكامل، فإذا كان موجوداً والمنفي الكمال، فتصح به الصلاة. وبعضهم قال: لا وضوء معتبر. فيكون هنا المراد نفي الاعتبار، فلا تصح به الصلاة؛ لأنه أصبح كالعدم؛ لأن عدم اعتباره هو عبارة عن عدم وجوده، فلا يُعتد به. ومن هنا عند اختلافهم في تقدير الوصف الذي يتوجه إليه النفي وقع الخلاف. فإذا جئنا إلى الحديث فهو ضعيف، وأحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لم يثبت في هذا شيء، وكون الوضوء يُعتبر أو لا يُعتبر، والصلاة يُعتد بها بهذا الوضوء أو لا يُعتد بها ليس بأمر هين، بل يحتاج إلى أن يكون الحكم صادراً عن قاعدة ثابتة قوية. فلما كان الحديث ضعيفاً فلا يمكن أن نبطل الصلاة بعدم ذكر اسم الله على الوضوء إلا بحديث صحيح قوي يقاوم أهمية الوضوء وأهمية الصلاة، وما وجدنا. ثم قالوا: هناك بعض النصوص، كقوله: (لا وضوء كامل) . أورده الصنعاني. وبعضهم قالوا: هناك حديث: (من توضأ كما أمره الله ... ) ، قالوا: لما أمرنا الله بالوضوء قال: ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)) ولم يذكر تسمية. فأجيب عليهم: الأمر جاء مجملاً، ولكن الرسول بيَّن! فقالوا: أثبتوا البيان ثم احتجوا به، فالذي قلتم: إنه بيان هو ضعيف، ولا ينبغي أن نعول في أركان الإسلام والأعمال على شيء ضعيف. ومن هنا لم يقل بوجوب التسمية على الوضوء إلا الظاهرية. وبعض شُرَّاح الحديث ينسب لـ أحمد أنه قال: إذا ترك التسمية عامداً بطل وضوؤه، وإن تركها ناسياً صح وضوءه ولا يعيد الصلاة. وهذا القول يذكره ابن قدامة في المغني. فالرواية عن أحمد ليست على العموم كالظاهرية، وإنما يفرق بين المتعمِّد والناسي. والجميع -ما عدا الظاهرية وهذا التفصيل عند أحمد - على صحة الوضوء ولو لم يذكر اسم الله عليه. وأهم ما في الموضوع هنا -كما قال أحمد -: أنه لم يثبت فيه شيء، فلا نحكم على أحد ترك التسمية ببطلان وضوئه، ولا ينبغي لأحد أيضاً أن يترك التسمية على الوضوء ولو كان الحديث ضعيفاً؛ لأن غاية ما فيه أنه ذكرٌ لله على هذا العمل، ويعتضد بصفةٍ عامة بحديث: (كل أمر ذي بال لم يُبدأ باسم الله أو الحمد لله فهو أبتر) ، فلا نجعل وضوءنا أبتر وأقطع، بل نذكر اسم الله عليه، ويتم لنا الأمر، والحمد لله.

الفصل بين المضمضة والاستنشاق

الفصل بين المضمضة والاستنشاق قال رحمه الله تعالى: [وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق) أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف] . إيراد هذا الحديث في هذا المكان يورد عليه بعض العلماء شيئاً من وجهة النظر في الترتيب؛ إذ كان ينبغي أن يذكر هذا مع المضمضة والاستنشاق هناك. فقوله: (يفصل) الفصل: جعل كل شيء على حدة. والمضمضة والاستنشاق جاء لهما صور عديدة: منها: أن يمضمض ويستنشق ويستنثر بالكف التي أخذ بها الماء. ومنها: أن يمضمض ويستنشق بكف واحدة. ومنها: أن يفعل ذلك ثلاث مرات بكف واحدة. ومنهاك أن يفصل بينهما. فقوله: (يفصل بينهما) يحتمل أنه يأخذ كفاً واحدة فيتمضمض ثلاث مرات، ثم يأخذ كفاً واحدة فيستنشق ثلاث مرات. فهذا فصل بين المضمضة والاستنشاق. أو أنه يأخذ للمضمضة غرفة فيتمضمض، ثم يأخذ للاستنشاق غرفة ويستنشق، ويفصل بينهما في أخذ الماء، فالمضمضة لها ماء مستقل، والاستنشاق له ماء مستقل. فعلى كلتا الحالتين العمل صحيح، سواءٌ أجمع المضمضة والاستنشاق من غَرفة واحدة بكف واحدة، أم أخذ لكل واحدة غَرفة مستقلة، وسواءٌ أأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة وثلاث غَرفات للاستنشاق، أم ثلاث غَرفات لكل من المضمضة والاستنشاق يتمضمض ويستنشق من كل غَرفة منهما معاً، وهذا نص في أنه يفصل بينهما. قال رحمه الله تعالى: [وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم تمضمض صلى الله عليه وسلم واستنثر ثلاثاً، يمضمض ويستنثر من الكف الذي يأخذ منه الماء) . أخرجه أبو داود والنسائي] . هذه الصورة الأخرى في رواية علي رضي الله تعالى عنه، وهي أنه يمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاثاً من الكف الذي أخذ به الماء) ، يعني: من كف واحدة يتمضمض بجزء من الماء، ثم يستنشق ببقية الماء في تلك الكف، ويستنثر بتلك الكف التي أخذ بها الماء، سواءٌ أكان أخذُه الماءَ باليمنى، أم كان أخذُه الماءَ باليسرى، فيجمع المضمضة والاستنشاق في غَرفة واحدة، ويستنثر الماء من الأنف بتلك الكف التي أخذ بها الماء، ولم يعيِّن لنا أيَّ الكفين، أهي اليمنى أم اليسرى. والله تعالى أعلم. قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف واحد، يفعل ذلك ثلاثاً) . متفق عليه] . يؤخذ من قوله: (فمضمض واستنشق من كف واحد) أنه جمع بينهما، ففي حديث طلحة: (يفصل) ، وهنا: (يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد) . فسواءً جمعتَهما أم فصلتَهما فلا حرج في ذلك.

وجوب إسباغ أعضاء الوضوء بالماء

وجوب إسباغ أعضاء الوضوء بالماء قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء، فقال: (ارجع فأحسن وضوءك) . أخرجه أبو داود والنسائي] . هذا حديث (اللمعة) كما يقال، وهو متعلق بإسباغ الوضوء وترتيبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وعلى قدمه أو في عقبه لمعة مثل الظفر -أي: قدر الظفر- وفي بعض الروايات: (قدر الدرهم) ، أو يكون معنى (مثل الظفر) : لمعة كلمعة الظفر؛ لأن الظفر يلمع، والجلد إذا غُسل وبقي جزء منه لم يُغسل صار أبيض يلمع؛ لأن الماء معدود في الألوان السوداء، كما في باب التغليب، وفي الحديث: (الأسودان: التمر، والماء) ، فإذا غسل القدم أو اليد أو الوجه وتعدَّى الماء عن جزء فلم يصبه كان كاللمعة وسط بقية العضو المغسول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فأحسن وضوءك) . وفي بعض الروايات: أعد وضوءك. وبعضها: أتمم وضوءك. فمعنى (أحسن) أن الوضوء قبل ذلك كان ليس بحسن. وروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان شيئاً يسيراً فلا تأثير في الوضوء؛ لأن الحكم للأغلب. وعلى رواية: (أتم) أو: (أعد) يكون ذلك نصاً في أن هذا الوضوء بهذه اللمعة غير تام، ولا تصح به الصلاة. ومن هنا أخذ العلماء وجوب الموالاة بين غسل الأعضاء، لا أن يغسل وجهه، ثم يذهب ليشرب قهوة، ثم يجيء ليغسل يديه، ثم يأخذ كتاباً ويقرأ فيه، ثم يمسح رأسه ويتكئ حتى يستريح، ثم يقوم ويغسل قدميه. والموالاة مقياسها أن يغسل العضو قبل أن يجف الماء عن العضو الذي قبله، فلو أنه غسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، وكان البرد شديداً، فأخذ شيئاً يستر وجهه أو يمسح بيده الماء عن وجهه ولم يجف، فغسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم بعد أن مسح رأسه لبس الطاقية أو العمامة، ثم ذهب وغسل قدميه. يعتبر ذلك موالاة؛ لأنه لم يفرق بين العضو والذي قبله بزمن يجف فيه العضو -كما يقولون- في الجو المعتدل مع الإنسان المعتدل، فهناك بعض الناس عنده حرارة، فحالاً يجف الماء، وأحياناً في الشتاء يكون جفاف الماء عن العضو ليس مثل الصيف، فقالوا: في الجو المعتدل. وموجب أخذهم بالموالاة هنا أنه عندما غسل تلك الأعضاء، وبقيت لمعة في رجله أو في يده أو في غير ذلك، فإنه لو غسل ذلك الجزء فقط فبقية الأعضاء التي جاءت بعد هذا العضو جاءت على فساد؛ لأن العضو الذي قبلها لم يتم غسله، وكذلك لو أن اللمعة كانت في القدمين وليس بعدها عضو آخر، فإذا طال الزمن، وجف الماء عن الرأس واليدين، وأراد أن يكمل غسل القدمين، أيكون غسل اللمعة موالياً للأعضاء التي قبلها، أم أنه مضى عليه زمن؟ فإن كان مضى عليه زمن فإن الموالاة تكون قد فُقِدت، فيكون قد غسل القدمين، أو أحسن غسل القدمين بعد فصل طويل عن الأعضاء قبلها، فيبدأ الوضوء من جديد لتتحقق له الموالاة. ولذا قدمنا أنه إذا انتبه للمعة وهو في مكان الوضوء أخذ نقطة ماء -ولو من شعره- ومسح اللمعة وأجزأه ذلك، أما إذا كان قد بعُد عن مكان الوضوء وجفت الأعضاء فإن القدمين ستصبحان مفصولتين عن الأعضاء قبلهما، فلم تكن هناك موالاة، فعليه أن يبدأ الوضوء من جديد لتتم له الموالاة. والله تعالى أعلم.

الاقتصاد بالماء عند الوضوء

الاقتصاد بالماء عند الوضوء قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) . متفق عليه] . مقدار الماء في الوضوء والغسل موضوعه واحد، فكان من حسن التنسيق أن يكونا معاً في مكان واحد. ولعله أخره من أجل أنه فيه ذِكْر الغسل، فأخره إلى آخر أعمال الوضوء. قال: (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ -والمُد: قدر لتر وثلث- ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، والصاع أربعة أمداد، فقوله: (إلى خمسة أمداد) أي: صاع وربع. فهذا بيان لأقل المقدار، والذي ينبغي على الإنسان -كما يقول العلماء- ألَّا يزيد على ذلك؛ لئلا يدخل في السَّرَف وتضييع المال. وإذا كان النص جاء -في العبادات لله- بالمحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه مع وفرته وكثرته فما بالك بالمال الذي هو عصب الحياة؟! فهو تعويد على الاقتصاد في استعمال الماء؛ ليكون خطوة إلى التعوُّد على الاقتصاد في غير الماء. وفي هذا المعنى جاءت أحاديث، منها أنه: (اغتسل من فَرَق) و (الفَرَق) : ثلاثة آصُع. ومنها أنه: (اغتسل هو وميمونة في جفنة فيها أثر العجين) . فإذا كان يغتسل بالصاع الذي هو أربعة أمداد فهذا يكفيه في الغسل، وهذا يأتي مع الدلك والتحفظ في استعمال الماء. قوله: (ويتوضأ بالمُد) ، وفي رواية: (أتي بثلثي مد) ، فهل هناك مغايرة؟ والجواب: لا توجد مغايرة، فإذا كان الماء قليلاً دلك حتى يتمكن من إيصال الماء لجميع البشرة، وإذا كان الماء متوافراً مرَّر يده ليتأكد، فالمهم التأكد من إسباغ الوضوء، فإذا كان الماء قليلاً تعيَّن الدلك، وإذا كان الماء كثيراًَ وتأكد بجريان الماء على العضو فالحمد لله، لكن لا ينبغي أن يزيد -إن أمكن- في الوضوء على المُد، ولا في الغسل على الخمسة أمداد، أي: صاع ومد. والله تعالى أعلم. فهذا ما يتعلق بالوضوء والغسل في العبادة. ويُقاس عليه الوضوء والغسل للنظافة، أو المسنون في غسل الجمعة أو للإحرام أو لدخول مكة أو لعرفة، ولكن المهم هنا أنه لو أن إنساناً في الغسل الاعتيادي يريد أن يغير ملابسه، ويريد أن يزيل عنه العرق، ويريد أن ينظف نفسه، فتارةً يستعمل الصابون، وتارةً يستعمل الماء بدون صابون، فهذا لا حد فيه، ما لم يصل إلى الإسراف؛ فالتحديد هنا في رفع الحدثين، الأصغر بمُد، والأكبر بصاع إلى خمسة أمداد.

بيان الذكر عند الانتهاء من الوضوء

بيان الذكر عند الانتهاء من الوضوء قال رحمه الله تعالى: [وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) . أخرجه مسلم والترمذي وزاد: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) ] . لقد أحسن المؤلف ختم هذا الباب بهذا الحديث، وبيان ما ينبغي أن يقوله المتوضئ، فهذا هو الدعاء المسنون المشروع عقب الوضوء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ -قيده بإسباغ الوضوء- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ، فهي أساس التوحيد وقاعدة الإسلام، فأنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله؛ لأن هذا العمل الذي جاء به أمر تعبُّدي، ولا دخل للعقل ولا للعلة فيه، إنما يأتي به المسلم طاعة لله ورسوله، كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: (عملٌ مُوجَبُه في غير موجِبِه) . فالإنسان يخرج منه الريح، فيتوضأ ولا يغسل موضع خروج الريح الذي هو سبب في الوضوء، فلا نغسله ونغسل أعضاءً بعيدة كل البعد عن سبب هذا الوضوء، فأين العلة هنا؟ فلا علة ولا سببية، إنما هي طاعة لله. ومن هنا يعلن المسلم هذه الشهادة عقب هذا العمل التعبدي المحض الذي لا علاقة له بعلة ولا سبب، كأنه يقول: يا رب! أشهد أنك أنت الله الواحد الأحد، أمرتني فامتثلتُ، وأشهد أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم بلَّغنا عنك فسمعنا وأطعنا، فتحقيق الإيمان بالله والطاعة لله ولرسوله، بسببه فتحت له أبواب الجنة الثمانية. وقال في الحديث: (فُتحت) ، ولم يقل: (تفتَح) ، فقالوا: هذا يراد به أنها ستُفتح له يوم القيامة. ونحن نقول: لماذا التكلف فيها؟ لنقل: فُتحت الآن، وما المانع أن تُفتح الآن؟ وسيدخلها إن شاء الله من أيِّ أبوابها، فلا مانع. وزاد بعض الروايات: (اللهم اجعلني من التوابين -أي: فيما أخطأتُ، وما أسررت وما أعلنت- واجعلني من المتطهرين) ، والتوبة هي طهارة داخلية، والتطهر طهارة ظاهرية، ولأن الوضوء يحقق الطهارة والنظافة فسأل الله التوبة بالمناسبة. ومن هذا قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ، ثم قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38] ، فلما وجد الأرزاق تأتي من عند الله قال: يا رب! أعطني. فكذلك هنا، فلما فعل الطهارة الحسية طلب من الله الطهارتين: الطهارة الحسية من كل الأخطاء، والطهارة المعنوية بالتوبة، فيكون من عباده التوابين والمتطهرين. وينبه العلماء على قضية شائعة عند العوام، وهي أنهم يجعلون لكل عضو من أعضاء الوضوء دعاءً، ويقول النووي رحمه الله: كل هذه الأدعية المخصوصة بكل عضو لا أصل لها في السنة، وإنما يفعلها بعض الناس بالمناسبة. والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1]

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1] المسح على الخفين من أبرز مباحث الطهارة، وتواترت النصوص فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -قولاً وفعلاً- حتى قيل: إن رواة المسح على الخفين نحو ثمانين صحابياً وقد خالف فيه أهل البدع حتى صار شعار أهل السنة المسح على الخفين، وشعار غيرهم عدمه. ولهذا الباب مسائل وأحكام وشروط وضوابط وأحوال تناولها أهل العلم بالبحث في مصنفاتهم في ضوء الأحاديث الواردة عن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام

مشروعية المسح على الخفين

مشروعية المسح على الخفين بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) متفق عليه. وللأربعة عنه إلا النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) وفي إسناده ضعف] . هذا الباب بعنوان (المسح على الخفين) ، والخفان: هما لباس القدمين، ومناسبة هذا الباب لما قبله من مباحث الوضوء، أن مسح الخفين يتعلق بغسل القدمين، وهما من أعمال الوضوء، فكان مبحث المسح على الخفين من تتمة أبحاث الوضوء.

تواتر الأدلة على جواز المسح على الخفين

تواتر الأدلة على جواز المسح على الخفين والمسح على الخفين قد يكون من أبرز مباحث الطهارة، وبلغت فيه النصوص حد التواتر، ولم يخالف في مشروعية المسح إلا من خالف أهل السنة، حتى صار شعار غير أهل السنة أنهم لا يمسحون على الخفين، وشعار أهل السنة أنهم يمسحون على الخفين، والمسح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، أما من حيث القول - كما يقول البيهقي وغيره - فقد وصل عدد رواة المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى نحوٍ من ثمانين صحابياً، ولذا قال الكرخي: أخشى الكفر على من أنكر المسح على الخفين. أي: لأنه ثابت بهذه القوة من عدد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رد دعوى النسخ أو التعارض فيما يتعلق بغسل القدمين ومسحهما

رد دعوى النسخ أو التعارض فيما يتعلق بغسل القدمين ومسحهما وقع شبه توقف أو تساهل في بادئ الأمر لموضوع آية المائدة التي فيها الأمر بغسل القدمين، حتى جاء جرير بن عبد الله وروى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل رأيته مسح قبل آية المائدة أو بعدها؟ - آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]- فقال مجيباً: وهل أسلمت إلا بعد آية المائدة؟! ويقولون: إن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، في قضية العقد، والمريسيع إنما كانت في السنة الرابعة، وقالوا: إن إسلام جرير بن عبد الله البجلي كان في عام الفتح، فيكون ذلك متأخراً بأربع سنوات، فكان البعض يظن أن آية المائدة نسخت المسح، حتى نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق الكتاب المسح. وقالوا: الكتاب: هو آية الوضوء، وفيها الغسل. وأجابوا عن ذلك بقولهم: إن كان الكتاب سبق، فتكون الآية سابقة ومتقدمة، ويكون المسح متأخراً عن الكتاب، والمتأخر لا ينسخ بالمتقدم، فعلى روايتكم أنتم أيضاً عن علي: سبق الكتاب المسح. يكون المسح ثابتاً بعد الكتاب؛ لأن الكتاب سابق، أي: متقدم عليه. وكانوا أيضاً يقولون: إن أحاديث تعليم الوضوء ليس فيها مسح، وجاء أيضاً الحث على غسل الرجلين في أحاديث: (ويل للأعقاب) ، أي: مَنْ مَسَحَ العقب ولم يغسله بالماء، وجاءت قراءة الآية الكريمة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، فقالوا: إن قراءة: (وأرجلِكم) بالجر عطف على مسح الرأس، فتكون الأرجل تمسح بذاتها، ولم يأت فيها ذكر الخف. وأجاب الجمهور أن القراءتين إذا كانتا ثابتتين؛ فهما بمثابة آيتين مختلفتين، ونبه على ذلك والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان عند قضية غسل القدمين وقراءة المسح؛ لأن بعض الطوائف المنتمية إلى الإسلام لا تغسل القدمين، وإنما تمسحهما دون أن تكونا في خفين، فيمسح القدم بأصابعه ويكتفي بذلك، بناء على قراءة: (وأرجلِكم) ، على أنها معطوفة على مسح الرأس فتمسح، وأجاب ابن جرير الطبري وغيره بأن القراءة المشهورة هي قراءة النصب: (اغسلوا وجوهَكم) ، (اغسلوا أيديَكم) ، (اغسلوا أرجلَكم) . وقراءة الجر قالوا: بالمجاورة، والمحل محل نصب، ولكن جاءت قراءة: (وأرجلِكم) بالجر للمجاورة لمسح الرأس. ويبين موضوع قراءة النصب استمرارية فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يغسل قدميه، وقالوا: إن قراءة الجر مع قراءة النصب لا تعارض بينهما؛ لأن قراءة النصب التي تقتضي الغسل هي حينما تكون القدمان عاريتين، وقراءة الجر التي تقتضي المسح هي حينما تكون القدمان داخلتين في الخفين، فنمسح على الخف بقراءة الجر. ومن هنا قال بعض العلماء: إن المسح على الخفين ثابت بالكتاب كما هو ثابت بالسنة. ولكن يغنينا عن هذا كله ما تواتر فيه النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المسح على الخفين سمة لأهل السنة

المسح على الخفين سمة لأهل السنة وبهذا تكون مشروعية المسح على الخفين سمة من سمات أهل السنة، ويكون المنع من المسح سمة من سمات تلك الطوائف التي تغاير أهل السنة، ومن الطرف أن الحسن بن علي بن زيد عتب على كاتب عنده فحبسه وصادر ماله، فكتب إليه هذا الكاتب من السجن يعتذر في أبيات، ومما قاله في هذه الأبيات - وكان قد اتهم بالتشيع -: إلى الله أشكو ما لقيت محبة قوم بهم بليت إلى أن قال: أمسح خفي ببطن كفي ولو على جيفة وطيت فجعل كونه يمسح على خفه تبرئة له من تلك الطوائف التي اتهم بها، ودليل أنه من أهل السنة أنه يمسح على خفيه. إذاً: أخذ موضوع المسح على الخفين حيزاً واسعاً، وإن كان المسح رخصة - كما سيأتي في حديث صفوان بن عسال: (رخص لنا) - فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب المسح عند قوم ينكرونه ليظهر السنة عندهم. والبحث في المسح على الخفين يتناول؛ المشروعية - وقد أشرنا إليها بأحاديث التواتر -، وكيفية المسح، ونوعية الممسوح عليه، والتوقيت له حضراً وسفراً، وزمن الرخصة فيه، ومن أي شيء يمسح عليه - الحدثان الأصغر والأكبر، أم الأصغر فقط -، وبأي الطهارتين؛ المائية والترابية، أم المائية فقط، هذه جوانب مباحث المسح على الخفين. نأتي إلى هذا الحديث الأول الذي صدر به المؤلف رحمه الله هذا الباب؛ لأنه يعتبر الأصل في المشروعية، وفي الكيفية، وفي بعض الشروط له. يقول: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم) ، متى كان معه، وفي أي مكان؟ تأتي نصوص أخرى أن ذلك كان في غزوة تبوك، وغزوة تبوك متى كانت؟ كانت في السنة التاسعة، وآية المائدة متى نزلت؟ نزلت في غزوة المريسيع سنة أربع، إذاً: فحديث المغيرة بعد نزول آية المائدة بخمس سنوات، فلا يمكن أن يدعى بأن المسح نسخ بآية المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت قبل زمن، ثم بعد خمس سنوات يأتي المغيرة وينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح، إذاً: فلا مجال لادعاء النسخ هنا أبداً، وانتهت قضية الإشكال في الخلاف أو النزاع، إلا من أصر واتخذ جانباً لنفسه.

من شروط المسح على الخفين لبسهما على طهارة

من شروط المسح على الخفين لبسهما على طهارة كان صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم حانت صلاة الفجر، يقول المغيرة رضي الله عنه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وكان من عادته إذا كان في الفلاة بيعد حتى لا يراه الرائي، فتبعه المغيرة بإداوة من ماء، وتنحى عنه حتى قضى حاجته، ثم جاء يصب عليه الماء ليتوضأ، كما ذكر مالك في الموطأ: شرع ليخرج يديه من كم الجبة فضاق الكم عليهما، فأخرجهما من تحت الجبة، وغسلهما، وهذا يعني: أن الكم الضيق موجود من قديم، لكن ليس بـ (الكبك) الذهب أو الفضة. يقول المغيرة رضي الله عنه: (فأهويت لأنزع خفيه) ، من أجل أن يغسل القدمين، وهذا من باب المساعدة في الطهارة أو في الوضوء، وخاصة لذوي الشأن فلا بأس في ذلك، (فقال: دعهما) ، أي: اتركهما في مكانهما في القدمين، (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، فقوله رضي الله تعالى عنه: فأهويت لأنزع الخفين من قدميه صلى الله عليه وسلم، أي: ليغسل القدمين على ما هو الأصل، فنهاه صلى الله عليه وسلم، أو أمره ألا ينزعهما، وأخبره بما يتم المسح به: (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، وتتمة الحديث -ثم نعود إلى محل الشاهد-: أنهما أتيا القوم فوجدا أن القوم استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي الخبر بأنهم ترددوا ماذا يفعلون، فقد جاء وقت الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتهم، فهل ينتظرون حتى لو خرج الوقت، أم يقدمون واحداً منهم يصلي بهم، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً، لكن ليس موجوداً عندهم الآن؟ أخيراً استقر رأيهم على أن قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بظروفه، وهو في غيبته لا نحكم عليه بشيء، ونحن مكلفون بأداء الصلاة وقد جاء وقتها، فلنصل. وهذا كما سبق التنبيه عليه في بعض المحاضرات في الجامعة الإسلامية للشيخ أبي الحسن الندوي، قال: هناك مواقف في الإسلام يتردد فيها المسلم بين الحكم العقلي وبين دواعي العاطفة، فذكرت له هذه القضية، فقال: نعم. وهنا الصحابة رضي الله عنهم -حسب مقتضى العقل- يقولون: الصلاة واجبة فعلينا أن نصلي قبل أن يخرج الوقت. ومنطق العاطفة يقول: ننتظر حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا؛ لأن صلاة أحدنا بنا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن أي الجانبين غلّبوا؟ أغلّبوا المنطق والعقل، أم غلّبوا العاطفة؟ قدّموا منطق العقل بأداء الصلاة في وقتها، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة والناس في الصلاة، وفي بعض الروايات أن المغيرة همّ أن ينبه الإمام ليرجع، وعند الفقهاء إذا تأخر الإمام الراتب وقدم القوم رجلاً منهم وحضر الإمام الراتب فهو أحق بالإمامة، ولو كان الذي قدموه صلى بعض الصلاة، فيأتي الإمام الراتب ويتقدم ويصلي بالناس، ويعتبر ما بدأ به بداية لصلاته، وهم يبنون على ما تقدم من صلاتهم، وكل يكمل صلاته، ثم هم يجلسون عند إتمام صلاتهم، وهو يقوم لإتمام ما فاته، ثم يسلم فيسلمون معه، فهنا كان من فقه المغيرة أن ينبه الإمام ليتقدم الإمام الراتب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من حقه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، وقال له: اتركه، وهذا أيضاً يدل على أن من حق الإمام الراتب أن يتنازل عن حق، ويقر من قدموه للصلاة بهم؛ لأن مدار الإمامة على رضا الجمهور، فإذا ارتضوا هذا الإنسان كان إمامهم، وعندنا حديث في المحراب: (تخيروا لوفادتكم؛ فإن إمامكم وافدكم إلى الله) ، الإمام وافدنا إلى الله، يتقدم بنا إلى الله، فينبغي أن يكون على أعلى مستوى؛ لأنه يسأل الله لنا، فيقول: اهدنا الصراط المستقيم. ونحن نقول: آمين. إذاً: من حق الإمام أن يتقدم ويأخذ مكانه، ومن حقه أيضاً ترك الإمامة لمن اختاروه، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المغيرة معه، وكان ابن عوف قد صلى ركعة وبقيت ركعة للجماعة، فلما أتموا صلاتهم سلموا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة يكملان ما بقي عليهما من صلاتهما، فلما رأى الناس رسول الله فزعوا، ولسان حالهم: كيف تقدمنا على رسول الله؟ وكيف يصير مأموماً وراءنا؟ فلما سلم وأنهى صلاته قال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، ولو أننا أخذنا المسألة على مجرد أحكام، وعلى فقه، وعلى (يصح أو لا يصح) لانتهينا، ولكن كما يقولون: السنة كنز وافر. وهذه العملية توحي بما وراء الصلاة، وتوحي بأمور عديدة جداً، لماذا ما قبض حتى يصلي خلف واحد من أمته؟ كون النبي يرضى أن يأتمّ بواحد من أصحابه، فإلى أي مدى وصل أصحابه؟ وإلى أي مدى أثمرت تربيته لأصحابه؟ وإلى أي مدى كان تأثيره في تنشئة هذه الأمة؟ كانوا أعراباً، فأصبحوا الآن أئمة، إذاً: هذا يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنوات التسع بعد الهجرة؛ لأن سنوات ما قبل الهجرة كانت سنوات كفاح، ومصادمات إلخ، لكن هنا في الحياة العملية، كأنه في تسع سنوات تخرج على يديه صلى الله عليه وسلم الآلاف من الرجال كل منهم يصلح أن يكون إماماً، ونظن أن الدنيا كلها ما شهدت مثل هذا الإنجاز! إذاً: ما دام أنه قد أصبح كل أصحابه صالحين للإمامة، فهو بذلك يكون قد أنهى المهمة، وأدّى الواجب؛ ولذا جاءت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1-2] تكون قد انتهيت، فسبح بحمد ربك وتهيأ للقائه، كما قال ابن عباس: نَعَتْ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، لأنه إذا جاء نصر الله، وجاء الفتح، وأصبح الناس يدخلون طواعية في دين الله أفواجاً، فما الحاجة بعد هذا لرسول يقوم فيهم؟ انتهت المهمة، إذاً يتهيأ لملاقاة ربه؛ لينال الجزاء الأوفى على رسالته، وهنا يظهر معنى قوله: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلى خلف رجل من أمته) .

اشتراط طهارة القدمين معا عند لبس الخفين

اشتراط طهارة القدمين معاً عند لبس الخفين قوله صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ، الفاء هنا تدل على السببية والعلة. (فمسح عليهما) ، لماذا يدعهما ويمسح عليهما؟ لأنه أدخلهما طاهرتين. فمفهوم المخالفة لو أنه لبس الخفين في قدمين غير طاهرتين فلا يصح المسح عليهما، وكان ينبغي نزعهما وغسل القدمين، ولهذا قالوا: إن من شروط صحة المسح على الخفين أن يكون الماسح قد لبسهما على طهارة كاملة، ومعنى (كاملة) من منطوق (أدخلتهما) أي: معاً، مكتملتي الطهارة، قالوا: (طاهرتين) لا تصدق فيها إلا الطهارة المائية، للنزاع الموجود في التيمم، وهل هو مبيح أم رافع؟

التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث

التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث أعتقد أن الراجح في هذه القضية أنه مبيح وليس برافع؛ لأنه يترتب على ذلك أشياء كثيرة، والدليل على أن التيمم مبيح وليس برافع، قضية المزادتين، لما كان صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، وانتهى ماء الجيش، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليتحسسا الماء، فسارا في طريقهما والمسلمون ينتظرون، وعند قرب الزوال لقيا امرأة -ضعينة- بين مزادتين فسألاها عن الماء الذي سقت منه، فقالت: عهدي به أمس الساعة، يعني: مشيت من على الماء أمس في مثل هذا الوقت من الظهر، معنى هذا أنه مضى عليها منذ تركت موضع الماء أربعة وعشرون ساعة، فهل يا ترى يذهبون للبحث عن ذلك الماء؟! فاختصرا الطريق وقالا: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معها مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة المصنوعة من جلد البعير أو الثور، فقالت: إلى ذاك الصابي؟! قالا: ذاك الذي تعنين، واقتاداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بالأمر، قال: أنزلاها، وأخذ من كل مزادة جزءاً من الماء، ودعا فيه وبرّك عليه، وأعاد الماء إلى المزادتين، ثم دعا الجيش: هلم فاملئوا أوعيتكم، فملأ كل إنسان ما عنده من قربة أو أداوة أو أي شيء، وتوضئوا، وسقوا دوابهم، واكتفوا من كل الجوانب بالماء. وكان في صلاة الصبح رجل معتزل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني أجنبت ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فتيمم وصلى) ، فلما جاءت المزادتان وتوفر الماء قال: (أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا، فأعطاه إناء به ماء وقال: خذ فأفرغه على جسمك) . وهناك حديث عمر وعمار رضي الله تعالى عنهما: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فما حكم السنوات العشر التي كانت بالتيمم ألم تكن طهارة؟ بلى، ولكن كانت مبيحة، وهنا في قضية المزادتين، حينما أعطى الرسول الماء للرجل وقال: (خذ فأفرغه على جسمك) ، فهل كان ذلك لجنابة جديدة بعدما صلى الصبح، أم للجنابة الأولى التي امتنع عن صلاة الصبح بسببها، ثم تيمم وصلى الصبح؟ الجواب: للأولى. فإن قيل: ولكنه تيمم وصلى، فيرد عليه: التيمم لم يرفع الجنابة -الحدث- ولكن أباح له الصلاة من أجل الوقت. إذاً: التيمم ليس طهارة كاملة، فقوله: (أدخلتهما طاهرتين) يتعين أن يكون ذلك بطهارة مائية. وقوله: (أدخلتهما) بضمير التثنية، يتفق الجمهور - ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله على أن الإنسان لو توضأ كما أمره الله، ولما غسل القدم اليمنى أدخلها في خفها، ثم غسل اليسرى فأدخلها في خفها، في هذه الحالة يكون أدخلهما طاهرتين، أم أدخل الأخيرة وهي اليسرى وهما طاهرتان؟ وهل يصح المسح على مثل هذا أم لا يصح؟ قالوا: لا يصح؛ لأنه لم يدخلهما معاً وهما طاهرتان. لكنه غسل اليمنى وطهرها؟ قالوا: لا. الطهارة في الوضوء لا تتجزأ، ولا تكمل طهارة القدم اليمنى إلا بعد إتمام غسل القدم اليسرى ويكتمل الوضوء، فحينئذ تكون قد طهرت أعضاء الوضوء، فلبسه اليمنى قبل يكون قبل أن تطهر اليمنى؛ لأنه بغسلها قبل اليسرى ما تمت طهارتها، ولا تتم طهارة اليمنى إلا بإكمال غسل اليسرى، أي: بإكمال الوضوء. ولهذا قالوا: يشترط في المسح على الخفين أن يدخل القدمين معاً بعد وفاء الطهارة لهما، ولا يكون ذلك إلا بعد إكمال غسلهما قبل أن يلبس الخف في إحداهما، والإمام أبو حنفية رحمه الله يجوز أن يغسل القدمين فيلبس الخفين ثم يكمل الوضوء، وهذا بناء على النزاع المتقدم في الترتيب، هل هو واجب أو غير واجب؟ والذي عليه الجمهور أنه -كما تقدم- لا يتم المسح إلا إذا أكمل الوضوء وغسل القدمين ثم لبسهما بعد تمام الغسل. إذاً: فحديث المغيرة يعتبر هو الأصل في هذا الباب، فإنه أثبت المشروعية بعد آية الوضوء قطعاً، ثم بين لنا الشرط، ثم نص على الممسوح عليه وهو الخف، وسيأتي النزاع في شكلية وصفات الخف الذي يصح المسح عليه، ثم الشرط في جواز المسح، وهو أن يكون قد لبسهما على طهارة. مداخلة: فإذا توضأ وغسل القدم اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف ما حكم وضوئه؟! الشيخ: يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، لكن هذا الخف الذي لبسه بهذه الصفة لا يصح المسح عليه. مداخلة: هل من الممكن أن ينزع خفيه ثم يلبسهما بعد غسله لقدمه اليسرى؟! الشيخ: ينزع الخف عن القدم اليمنى، وينزع الخف عن اليسرى، ثم يبدأ لبس الخف بعد إتمام طهارة القدمين، فهو لبس اليمنى قبل أن يغسل اليسرى، فلبسه لليمنى يكون قبل إتمام طهارتها، فينزعه، وبعد أن يكمل غسل اليسرى يلبس الخفين، سواء ألبس اليسرى أم اليمنى فلا وجود للترتيب هنا، فيكون لبس الخفين بعد تمام غسلهما معاً.

كيفية المسح على الخفين

كيفية المسح على الخفين قال: [وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) . أخرجه أبو داود بإسناد حسن] . حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا في بيان كيفية المسح وموضعه، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الخف من أعلاه) . هذا النص كونه عن علي رضي الله تعالى عنه، وكما قال المؤلف: بإسناد حسن، يجعل طالب العلم يتمهل ويتوقف، ولكن ما دام ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجزء الأخير من الحديث مرفوع إلى النبي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف) ، هذا النقل عنه صلى الله عليه وسلم، فنقول: محل المسح ظاهر الخف، لكن استنتاج علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي) . يرى بعض المحققين أن الرأي الصحيح لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين الصحيح، أي: الثابت الصريح. فالعقل السليم لا يتنافى مع الدين الصحيح، والدين لا يتعارض مع العقل الصحيح السليم، إذا كان النص صحيحاً صريحاً لا يمكن أن يتنافى مع العقل الصحيح الصريح، قد يعجز العقل عن الإدراك، لكن لا يتناقض مع الدين. فمثلاً: العقل لا يدرك لماذا كانت الصبح ركعتين والظهر أربعاً، ولكن ليس عنده ما يناقضه، وعجز عن إدراك الحكمة في ذلك، والعجز ليس تناقضاً إلى غير ذلك. ولما قال القائلون: أنتم تفرقون بين المتماثلين، وهذا منافٍ للعقل، قيل لهم: لا يوجد أبداً تفريق بين متماثلين لمحض المماثلة، وإذا وجدت تفرقة بين متماثلين في نظرك فاعلم أن هناك فرقاً قطعاً، وذكروا الرش من بول الغلام والغسل من بول الجارية، فقالوا: كلاهما رضيع، فكيف ترش هذا وتغسل هذا؟ إما أن ترش الاثنين، أو تغسل الاثنين. فهذا منطق العقل، قيل لهم: هناك سبب، وقد كشف المحققون من المتقدمين - كـ المتولي من الشافعية - بأن بول الجارية أشد كثافة ولزوجة من بول الغلام، والآن حقق العلم في تحليلاته بأن في بول الجارية من الهرمونات ما لا يوجد في بول الغلام، فعُلم أن هناك فارقاً. وقالوا: توضأتم من لحم الجزور ولم تتوضئوا من لحم الغنم. قلنا: نعم، هذا ما جاء به النص، ونحن نقبله، ثم تبين بعد ذلك أنهما ليسا متماثلين، والبحث في ذلك طويل، فهنا لو كان الدين بالرأي، ولو فسحنا المجال للاستفهام -لا للاعتراض على علي رضي الله عنه- وقيل: إن الرأي الصحيح السليم لا يتنافى مع الشرع؛ لأن الإسلام جاء يخاطب العقول السليمة، قائلاً: (يا أولي الألباب) . إذاً: لماذا كان المسح على ظاهر الخف، وليس على باطنه، كما قال علي؟ لقائل أن يقول: مقتضى العقل أيضاً أن يكون المسح على ظاهر الخف لا على باطنه، لماذا؟ ليس لمحض العقل، ولكن لنصوص الشرع، لقد جاءت النصوص بالصلاة في النعلين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحهما في التراب) ، وهذا حينما كانت المساجد بها الحصباء والتراب، بخلاف المساجد اليوم، وكذلك في ثوب المرأة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإسدال المرأة ثوبها قال: (ترخيه شبراً، قيل: إذاً تنكشف قدماها، قال: فذراعاً؛ ولا تزد عليه) ، فقالوا: المرأة تجر ثوبها أو عباءتها خلفها في الطريق، وقد تمر على نجس، فقيل: ألا تمر على طاهر بعده، قالوا: بلى، قالوا: هذا يطهر ذاك، أي: الثوب يمر على التراب، والتراب يأخذ ما علق به من مكان آخر، وييبسه فيطهر بذلك، وذلك لضرورة ستر المرأة، فإذا كان الإنسان قد لبس النعلين وجاء إلى المسجد ونظر فيهما فوجد فيهما أذى، الرسول قال: (فليمسحهما في التراب) ، لكن لا يوجد الآن حول المسجد تراب لتحكهما فيه، وقد انتفت هذه المسألة ولا يتيسر للإنسان أن يحقق السنة فيها، فإذا كان هناك أذى وحكهما في التراب، وتوضأ وأراد أن يمسح عليهما، فإذا مرت اليد المبللة على ذاك الأذى الذي جفف بالتراب، سيُحدِث تغييراً أم لا؟ يحدِث تغييراً، فاليابس الذي طهره التراب، واكتفى الشرع به، أنت أثرته بالرطوبة، فعاد رطباً من جديد، وقد يعلق في اليد شيء مما كان في أسفل النعلين، فإذاً: ما دام أن أسفل النعلين قد جف، وجاء الأمر بالمسح؛ فاجعل المسح في الأعلى بعيداً عن تلك الاحتمالات. إذاً: المسح على ظهر الخفين هو عين العقل، وهو الذي جاء به الشرع، ويهمنا في هذا الموضع أن علياً رضي الله عنه نقل لنا كيفية مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه مسح على ظاهر الخف، لكن نجد بعض العلماء أو المذاهب يقولون: المسح على ثلاث صور: مسح في أسفل الخف فقط، ومسح في أعلى الخف فقط، ومسح على أعلاه وأسفله. فيجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أسفله لا يجزئ، ولا تصح به الصلاة، ويجمعون على أن المسح على ظاهر الخف فقط يجزئ، وتصح به الصلاة، ولكن هناك من يقول -كالمالكية والشافعية-: الاكتفاء بالمسح على ظاهر الخف مجزئ، ولكن الأفضل أن يمسح على أعلاه وأسفله، ولعل قولهم ذلك في حال إذا ما كان الخف يلبس في نعلين، ولم يباشر الأرض بالمشي، وقالوا في الصفة: اليد اليمنى فوق ظهر الخفين تبدأ من جهة الأصابع وتمضي باتجاه الساق، واليد اليسرى تحت الخفين تأتي من جهة الكعبين وتمضي باتجاه الأصابع، ولكن يجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أعلى الخفين مجزئ للصلاة، وبعضهم ينقل عن مالك رحمه الله في التوقيت وفي هذه الصور روايات، وابن عبد البر يقول: الصحيح ما وافق الجمهور، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [2]

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [2] جعل الله المسح على الخفين رخصة عامة، ليست خاضعة للضرورة أو الحاجة، إلا أن هذه الرخصة لها شروط يلزم صاحبها الإتيان بها، ومن هذه الشروط: أن يلبس الخفين على طهارة قدميه طهارة بالماء من وضوء أو غسل، ومن الشروط أيضاً أن يمسح خلال مدة يوم وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إن كان مسافراً، وتبدأ المرة من أول مسح يمسحه، وإذا انتهت المدة وهو على وضوء انتقض وضوءه، ولا يصلي بوضوء مسح فيه إلا خلال المدة المعتبرة.

مدة المسح على الخفين

مدة المسح على الخفين بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله: سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال: [وعن صفوان بن عسّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه] . أنهى المؤلف رحمه الله موضوع المشروعية، في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، مع الشرط اللازم لصحة المسح على الخفين، وهو: (أدخلتهما طاهرتين) ، ثم قدم لنا كيفية المسح، ثم جاء إلى المدة، فإلى متى يمسح الإنسان على خفيه؟ هل هناك توقيت، أم ليس هناك توقيت؟ فبدأ بحديث التوقيت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً -جمع مسافر- أن نمسح على الخفاف ثلاثة أيام بلياليهن) ، هذا إذا كنا مسافرين، فقال في الحديث: (ألاّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة) ، لا ننزعها إلا من جنابة، ولو كان بعد ست ساعات، أو عشر ساعات، فالجنابة لا مسح فيها على الخفين، بل يجب غسل الجسم كاملاً ومن ضمنه القدمين، ولا مسح من جنابة. فنمضي في المسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا ننزع الخفين لنغسلهما، بل نستمر في المسح عليهما ثلاثة أيام، إلا إذا حدثت جنابة ولو بعد يوم واحد، وهذا في حالة السفر. قوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) أي: لا ننزع الخفين إلا من جنابة، ونبقيهما من غائط وبول ونوم، أخذ العلماء القطع بأن الغائط والبول ناقضان للوضوء، وأخذوا أن النوم ناقض للوضوء من هذا الحديث، أما الغائط والبول فبالإجماع ولا نزاع في ذلك، ولكن النوم حقيقته عند العلماء أنه ليس بناقض، ولكنه مظنة النقض، ومعنى مظنة النقض: أن النوم من حيث هو غلبة النعاس على العين وعلى القلب ليس فيه حدث، ولكن حين ينام الإنسان لا يدرك ما يحدث منه، فهو مظنة أن يقع منه حدث ينقض الوضوء وهو لا يدري بسبب نومه، ولذا جاء في حديث ابن عباس: كنا ننتظر الصلاة حتى تخفق رءوسنا. وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، ومن نام جالساً؟ قالوا من نام جالساً ليس عليه شيء؛ لأن الجالس ولو نعس لا يتمكن الريح أن يخرج منه؛ لأن موضع خروجه لا مجال له، فإذا اضطجع سهل خروج الريح منه وهو نائم لا يدري. إذاً: النوم بذاته ليس حدثاً، ولكنه مظنة الحدث وهو لا يدري، ولغلبة الظن على وجود الحدث عند النوم فقد اعتبر النوم هو الناقض، ولذا من نام مضطجعاً فعليه الوضوء. إذاً: المسح على الخفين لا يكون من الجنابة، بل الجنابة يجب فيها نزع الخفين وغسل القدمين، وهذا الحديث أعطانا التوقيت للمسافر بأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، لكن كيف يمسح إذا كان السفر أطول من ذلك؟ بعد المدة المحددة ينزع الخفين، ويتوضأ وضوءاً كاملاً، ويلبس الخفين من جديد، ويستأنف ثلاثة أيام أخرى، وهكذا طيلة سفره له بعد كل وضوء كامل ولبس الخفين على طهارة أن يستصحب الحكم إلى ثلاثة أيام، فهذا حكم للتوقيت في المسح في السفر ثلاثة أيام، وبيان أن الجنابة ليس فيها مسح، فإنه ينزع الخفين ولو بعد اللبس بساعات معدودة، وأعتقد أن هذا القدر في بيان المسألة يكفي، وأنصح بمطالعة أضواء البيان عند آية المائدة، فالشيخ الأمين رحمه الله ناقش قضية المسح، مع قضية غسل القدمين ومسحهما، وأتى بتفريع وتعليقات ومسائل تكاد تكون قد أحاطت بموضوع الخفين من كل الجوانب، وقد أُفرِد المسح على الخفين ببعض الكتب، وبالله تعالى التوفيق. [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين) أخرجه مسلم] . بدأ المؤلف رحمه الله في بيان التوقيت. إلى متى يمسح الإنسان على الخفين إذا لبسهما طاهرتين؟ هل يمسح بصفة دائمة بدون توقيت بزمن، أم أن هناك تحديداً للزمن، بحيث لو انقضى هذا الزمن نزع الخفين وتوضأ وغسل القدمين، ثم إن شاء لبس الخفين مرة أخرى واستأنف المسح، وهكذا دواليك، ولو كان طول السنة؟ العلماء يختلفون في التوقيت، فالجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي هنا، وكما سيأتي في حديث ثوبان - وقّت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ما دام في سفره، وللمقيم مدة يوم وليلة، أي خمس صلوات، ويتفق الجميع على أن المسح على الخفين مطلق لا يتوقف على عذر، لا لمرض في القدمين، ولا لشدة بردٍ، ولا لشيء من ذلك، فلو كان في أشد الصيف وأشد الحر، وكانت قدماه أصح ما تكون، فإن له إذا لبس الخفين على طهارة أن يمسح، ولا يتوقف ذلك على أي عذر كان. وقالوا: المرأة والرجل في ذلك سواء، فالمرأة إذا لبست خفين على طهارة هي كالرجل؛ في الإقامة يوم وليلة، وفي السفر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا يتوقف ذلك على عذر أو على صفة أو على داعٍ سوى مجرد اللبس. وعند مالك رحمه الله النزاع في المدة، فهناك من يروي عن مالك رحمه الله بأنه لم يوقت، وجعل المسح على الخفين بدون توقيت لا في حضر ولا في سفر، وسيأتي مأخذه في الأحاديث التي سيسوقها المؤلف، من أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أمسح على الخف يوماً يا رسول الله؟! قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) ، فقوله: (نعم، وما شئت) أخذ منها مالك بأن هذا مطلق، أي: على مشيئته هو، والجمهور أخذوا بالتنصيص على التوقيت، وقد بحث والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في أضواء البيان عند آية الوضوء، ثم قال: هذه النصوص الموجودة مختلفة، ولا يمكن الجمع بينها؛ لأن بعض العلماء -كـ ابن قدامة في المغني - قال: يجمع بين هذه النصوص، فيقال: (نعم، وما شئت) ، أي: إذا مضت الأيام الثلاثة، وأردت أن تمسح فاخلع الخفين، ثم اغسل، ثم البس، ثم امسح ما شئت. وهذه طريقة من طرق الجمع بين الأدلة. الشيخ الأمين رحمه الله يقول: هذا تخريج، ولكن الجمع هو أن تحمل الموضوع بالنصّين وتجمع بينهما دون مغايرة لهذا النص أو لذاك النص، كما لو جاء نص مطلق ونص مقيّد، فيحمل المطلق على المقيّد، مثل عتق الرقبة؛ فقد جاء مرة مطلقاً بدون قيد الإيمان، وجاء مرة (رقبة مؤمنة) ، فحملنا المطلق على المقيد، وهنا يقول: لا يتأتى الجمع؛ لأن أحاديث التوقيت في السفر وفي الحضر تحدد مدة معينة، وحديث: (وما شئت) يقتضي الزيادة، والمعارضة بين الزيادة وعدم الزيادة تناقض، والمتناقضان لا يُجمع بينهما، والعلماء يقولون: إذا اختلف نصان؛ فإما أن يُعرف التاريخ فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وإما أنه لا يعرف ويمكن الجمع بينهما، كما جاء -مثلاً- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فجاءت نصوص بأنه قد دخل وصلى، وجاءت نصوص بأنه دخل ولم يصل، فجمعوا بين النصين، وقالوا: إنه دخل الكعبة مرتين؛ مرة في فتح مكة، ومرة في حجة الوداع، فيكون الذي ذكر أنه صلى في إحدى الدخلتين، والذي ذكر أنه لم يصل يكون في الدخلة الأخرى، وليس هناك تعارض، وبهذا جمع بين النصين؛ لأن النافي والمثبت لم يذكر زمن الصلاة أو زمن عدمها، ولصحة التعارض ينبغي أن يتفق التعارض في الزمان وفي المكان وفي الفاعل، فإذاً: أمكن الجمع، فمن قال إنه لم يصل كان صادقاً؛ لأنه في هذه المرة لم يصل، ومن قال: إنه صلى كان صادقاً؛ لأنه صلى في المرة الأخرى، ولا تعارض بينهما. فإذا لم يمكن الجمع كان المصير إلى الترجيح، فأي النصوص أرجح، نصوص التوقيت، أم نصوص الإطلاق؟ يقول شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: والأرجح الذي تطمئن إليه النفس إنما هو ترجيح نصوص التوقيت؛ لأنه أحوط في العبادة؛ ولأن رواته أوثق من رواة الإطلاق، ولأن رواته أكثر عدداً من رواة الإطلاق. إذاً: تتعارض النصوص في توقيت مدة المسح سفراً وحضراً، وفي عدم التوقيت، فـ مالك أخذ بعدم التوقيت في رواية عنه، والجمهور أخذوا بأحاديث التوقيت، وقالوا: من لبس الخفين ومسح عليهما فليلتزم بالتوقيت فإن كان مسافراً ثلاثة أيام بلياليهن، وإن كان مقيماً يوماً وليلة، فإن أراد أن يمسح نزع وتوضأ فغسل، ثم لبس واستمر في المسح ولو عشر سنين.

ما يلحق بالمسح على الخفين

ما يلحق بالمسح على الخفين قال: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم- والتساخين -يعني: الخفاف-) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم] . حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، (بعث) مادة تتعدى بنفسها، وتتعدى بالحرف، فنقول: بعث بهدية بعث بخطاب بعث زيداً. ويقول علماء اللغة: إذا كان المبعوث يمكن أن يُبعث بنفسه فلا يُحتاج إلى الحرف، بعثت مبعوثاً إلى موضع كذا أرسلت مرسولاً إلى كذا، فلا يُحتاج أن تقول: بعثت بزيد إلى كذا، بل تقول: بعثت زيداً. أما إذا كان المبعوث لا يصلح أن يبعث بنفسه -كالخطاب، أو الهدية، أو الطعام- فتقول: بعثت لزيدٍ بالكتاب بعثت لزيدٍ بهدية. وهنا قال: (بعث سرية) ؛ لأن السرية تنبعث بنفسها، والسرية في الاصطلاح قالوا: ما دون الأربعين، وقالوا: بل كل جمع خرج لقتال ليس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى سرية، وكل جمع خرج فيه رسول الله يسمى غزوة، ولو كان الرجال عشرة أشخاص ومعهم رسول الله تسمى غزوة، هذا اصطلاح تاريخي في السيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالسرايا، وقبل أن يخرج إلى بدر بعث عدة سرايا إلى سيْف البحر، وكان فيها حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله وعكاشة بن محصن وغيرهم، فكان يرسل السرايا في اتجاهات معينة إما للاستطلاع، وإما لأنه يكون قد بلغه خبر عن جماعات يتأهبون لغزو المدينة، فيرسل إليهم سرية تعاجلهم في مكانهم. تلك السرية لما رجعت اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البرد (فأمرهم أن يمسحوا على العصائب) ، والعصائب: جمع عصابة، وهو ما يعصب به الرأس، أو يعصب به الأعواد أو نحو ذلك، لكن في الاصطلاح: هي ما يعصب بها الرأس، ومنه سميت العصابة، فكل ما يوضع على الرأس لمصلحتها يسمى عصابة، ومنه العمامة؛ لأنها تعصّب الرأس وتدور حولها، فقالوا: كل ما تعمم به الإنسان وأداره على رأسه يصدق عليه اسم العمامة، (فأمرهم) وأصل الأمر للوجوب، ولكن أمر هنا بمعنى رخّص وأجاز؛ لأن المسح على هذه الأماكن ليس واجباً، كما سيأتي قوله: (رخّص) ، وقوله: (إن شئت) . قال: (والتساخين) ، أي: وعلى التساخين، وقالوا: التساخين: هو كل ما يسخن القدمين، أي من البرد، وقدمنا أن البرد ليس علة في الترخّص في المسح، ولكن السرية اشتكت، وصادف ذلك الترخيص في المسح، ومن هنا أخذ العلماء توسعة نطاق المسح على ملبوس القدمين، فقالوا: هناك الخف، وهناك الموق، وهناك الجرموق، وهناك الجورب، والنعل؛ كل هذه أسماء لملبوسات في القدم، أما النعل فلم يثبت أنه جاء المسح عليها، وكل أثر جاء في المسح على النعلين فلا يثبت، اللهم إلا ما جاء في المسح على النعلين والجوربين، فيكون مجموع النعلين مع الجوربين كأنهما شيء واحد؛ لأن النعل لا يغطي موضع الوضوء في القدم، ويشترط في الخف الذي يمسح عليه أن يكون مغطى وساتراً موضع الغسل من القدمين في الوضوء، والرِّجل تكون مكشوفة في النعل. إذاً: ما كان على هيئة الخف، والأصل في الخف أنه مصنوع من الجلد، فبعض الناس قالوا: لا يمسح إلا على الخف الذي هو من الجلد؛ لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، فجاء هذا الحديث: (والتساخين) ، وهو ما يسخن القدمين، فإذا لبس الجرموق وهو أكبر من الخف، أو لبس الموق وهو أكبر منه ويلبس عليه، فلا مانع أن يمسح عليه. ثم جاء موضوع الجورب، فالشافعية يقولون: لا يمسح على الجورب إلا إذا كان صفيقاً منعَّلاً، ومعنى منعَّل: مجعول له نعل من الجلد من الأسفل ليشابه الخف في إمكان المشي عليه، وهم يتفقون ويقولون: كل ما أمكن تتابع المشي عليه جاز المسح عليه، ولكن تتابع المشي أين يكون؟ في الصحراء والخلاء، أم في البيوت؟ قالوا: في البيوت؛ لأن بعض الأماكن لا يصلح المشي عليه حتى بالحذاء الحديث، إذاً: ما يمكن تتابع المشي عليه بأن يمسك نفسه، بقينا الآن في الجورب غير المنعَّل، فعند الأحناف نوع من التوسعة في هذا الموضوع، فكل جورب لبس على القدمين يمسح عليه، والآخرون يقولون: لا. الأصل في ذلك الخف، فما كان من جورب يأخذ صفات الخف -ولو من غير الجلد- يمسح عليه، سواء أكان من الصوف أو من الشعر أو من القطن، بل حتى قال النووي في وصف الخف: ولا يشترط فيه أن يكون ساتراً للبشرة، كما لو كان من زجاج مثلاً، فالزجاج يكون متيناً ويكشف ما تحته، فإذا كان نوع الخف كما هو الحال الآن من النايلون أو البلاستيك، وبعضهم قال: ولو كان من الخشب، الخشب لا يكشف ما تحته، ولكن يقولون: في عموم ما يلبس ويأخذ صفات الخف من أن صفاقته تمنع نشع الماء من خلاله إلى القدم؛ لأنه إذا كان خفيفاً رقيقاً شفافاً يوصل الماء إلى ما تحته ماذا أنت مسحت على الجورب، فعندها سيصل الماء إلى القدم، فتكون قد مسحت القدم، فإذا كان جاء الحكم إلى القدم فالقدم حكمها الغسل، وأنت هنا لم تغسل القدم وإنما مسحت الجورب، ولكن تعدى المسح إلى القدم، والقدم من حكمها الغسل، ولهذا يقال: جميع أنواع الأحذية التي يرتفع ساقها إلى ما فوق الكعبين -وهو موضع غسل القدمين في الوضوء- وكان صفيقاً متيناً جاز المسح عليه أياً كان نوعه، ولو قدِّر أن هناك لفافات متينة من الورق على شكل طبقات بعضها فوق بعض فإنه يجوز المسح عليها، أما إذا كان خفيفاً كبعض الجوارب الموجودة الآن، والتي يلبسها الناس في الصيف، بعضها يكون مخرقاً كالشبكة، وبعضها يكون رقيقاً جداً بحيث يكشف عما تحته، ولا يمنع من وصول الماء إلى القدم، فهذا ينبغي إلا يعول عليه، ولا يمسح عليه، والله تعالى أعلم.

الرد على من لم يشترط المدة في المسح

الرد على من لم يشترط المدة في المسح قال: [وعن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وعن أنس مرفوعاً: (إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة) أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه] . هذا الحديث من أدلة مالك رحمه الله، عمر يقول موقوفاً عليه، وأنس يرفع القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر جاء موقوفاً عن عمر، وجاء مرفوعاً من طريق أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه توقيتاً، (إذا تطهر أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما، ولا ينزعهما إلا من جنابة) إلى متى شاء، فهذا الحديث موقوف على عمر رضي الله تعالى عنه، ومرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر التوقيت فيه، ويقال: إن تصحيح الحاكم في هذا الحديث ملاحظ عليه، وأنه لم يثبت عن أنس، كما يقال: إن عمر رجع عن هذا القول، وصار يقول بالتوقيت، ولكن الذي يهمنا هو وجود هذا الأثر، سواء كان موقوفاً على عمر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كما تقدم فقد رواه الدارقطني فقط، أما هناك فقد رواه أبو داود والنسائي، ورواه الأربعة، ورواه فلان وفلان فتلك أحاديث متعددة، وبروايات متعددة، وبأسانيد أقوى وأثبت من مجرد رواية الدارقطني، وعلى هذا -كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: إذا لم يمكن الجمع فيصار إلى الترجيح، وأحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة بالاحتياط في الدين. لأن من مسح بصفة دائمة ولم يأخذ بالتوقيت، بينما الآخر آخذ بالتوقيت، فلو جئنا عند مناقشة المسألة فهل أحد يختلف في صحة صلاة الذي أخذ بالتوقيت؟ لا. فالكل مجمع على صحتها. لكن من أخذوا بالتوقيت هل يصححون صلاة من لم يأخذ بالتوقيت؟ لا. إذاً: صلاته غير صحيحة ومختلف فيها عند الآخرين، والواجب على الإنسان أن يترك المختلف فيه، وأقل ما فيه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) . قال: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما) أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة] . يروي هذا الحديث أيضاً الدارقطني، ولكن صححه ابن خزيمة مضافاً إلى الدارقطني في أن أبا بكرة ينقل نفس الأثر، ولكن بالتوقيت، (ثلاثة أيام ولياليهن) و (يوماً وليلة) . بالمناسبة: (أبو بكرة) بتسكين الكاف وبفتحها، فـ (البَكْرة) هي الناقة في أوائل شبابها، و (البَكَرة) هي الآلة التي يوضع عليها حبل الدلو لسحب الماء، واختلفوا في تسمية أبي بكرة، هل الصحيح (بكْرة) أم (بكَرة) ؟ وهذا الاختلاف حصل؛ لأنه كان من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف تدلى من سورها على بكرة، قالوا: جاء ببكَرة وحبل وربطها في السور ونزل بها إلى المسلمين، وقيل: نزل من على السور على ظهر بكرة كانت واقفة عند السور من الخارج، فكان الاختلاف في هذا اللفظ بسبب الاختلاف في صورة نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: [وعن أبيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوماً؟ قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي] . وهنا مربط الناقة! قال: (أمسح يوماً؟ قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) . من أخرج هذا الحديث؟ أبو داود، وهو ناقد، فماذا قال عنه؟ ليس بالقوي. فهل يا ترى نبني صلاتنا على ما ليس بالقوي، وأن نمسح ما شئنا بدون تحديد، مع أن الأصل ليس بقوي، أم نرجع للأصل القوي الذي صححه العلماء وهو التوقيت؟ بعض العلماء يناقش المسألة بصورة عامة، فقوله: (نعم، وما شئت) ، يقولون: هذا من باب التأكيد على الترخيص، وكما قال ابن قدامة: وما شئت بالتزام التوقيت، وهذا كلام لطيف، وقالوا: (نعم، وما شئت) نظيره: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنوات) ، فهل هناك من يعيش بغير ماء عشر سنوات؟ ماذا سيشرب أو يأكل؟ قالوا: هذا من باب تأكيد الترخيص؛ لأن التيمم طهارة ثابتة، ولو يستمر على ذلك عشر سنوات. إذاً: قوله: (نعم، وما شئت) تأكيد للمسح بالأيام العديدة، وفي نظري لا يخلو الأمر من أحد أمرين؛ إما الرجوع إلى الترجيح كما قاله والدنا الشيخ الأمين: ووجدنا أحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة، واحتياطاً للصلاة، وبراءة للذمة، بخلاف القول بعدم التوقيت. أو كما قال ابن قدامة رحمه الله، وقوله وجيه، (نعم، ما شئت) ، سنة سنتين امسح، ولكن هناك نقطة فهل نقول: (وما شئت) حتى لو كانت جنابة، أم أنه عند الجنابة سيخلع الخف؟ نقول: يوم يومان ثلاثة عشرة فهل يأخذ برخصة (نعم، وما شئت) على الإطلاق؟ يعني: إذا سافر ومسح على الخف في الصباح وأجنب في الظهر، فهل نقول له: وما شئت، أم يخلع؟ نقول: يخلع. إذاًَ: إذا كانت الجنابة ستجعله يخلع، فنقول: مضي التوقيت أيضاً يجعله يخلع.

مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف

مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف هناك مباحث عديدة في المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف، ولابد للإنسان أن يأخذ فكرة عنها:

حكم المسح على الخف الممزق

حكم المسح على الخف الممزق أولاً: إذا كان الخف ممزقاً وفيه خروق، فهل يصح المسح عليه، أم لابد من خياطة هذه الخروق أولاً؟ الجمهور على صحة المسح عليه، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله لو كانت تلك الشقوق أو الخروق في مجموعها تزيد على ربع الخف فلا يصلح المسح، والآخرون يقولون بعدم التحديد، وابن تيمية رحمه الله يقول من ناحية عقلية: هل كانت خفاف الصحابة كلها جديدة وليس فيها خروق، أم حسب ما هو معتاد خاصة بالنسبة للحالة الاقتصادية لكثير منهم؟ ويمكن أن يدعي إنسان أن جميع خفافهم كانت جديدة، فنقول: كان عمر يرقع قميصه أربعين رقعة، إذاً: الواقع الطبيعي لحياتهم يعطينا فكرة أنه لابد أن تكون بعض خفافهم مخرقة، وكانوا يمسحون عليها، فما دام الخف متماسكاً على القدم يجوز المسح عليه.

متى تبدأ مدة المسح؟

متى تبدأ مدة المسح؟ ثانياً: إنسان توضأ ومسح فله يوم وليلة، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة، من لبسه عند وضوئه، أم من حدثه بعد الوضوء، أم من مسحه بعد الحدث؟ فإذا توضأ للصبح ولبس الخف في الصبح، وصلى الصبح بالوضوء الذي لبس به الخف، وبقي على وضوئه من صلاة الصبح إلى الظهر، وصلى الظهر بوضوء الصبح، وأحدث قبل العصر، فهل يا ترى! يحسب الوقت من وقت ما لبس فينتهي بصلاة الصبح من الغد أم من بعد الظهر حينما أحدث؟ أم منذ توضأ بعد دخول العصر ومسح. فعندنا هنا ثلاثة أوقات: من حين لبس في الصباح، ومن حين أحدث بعد الظهر، ومن حين مسح بعد دخول وقت العصر، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة؟ المشهور أنه يبدأ من أول مسحة، يعني: من بعد دخول وقت العصر، والمدة التي فاتت هي على حساب الوضوء الأول؛ لأنه أمره أن يمسح يوماً وليلة، فلو اعتبرنا ما قبل المسحة الأولى نكون قد أعطيناه أقل من يوم وليلة، لا يوماً وليلة؛ لأن هناك من يقول: من حين أحدث وبطل الوضوء الأول، والقول المشهور: من أول مسحة يمسحها.

مسألة: هل انتهاء مدة المسح ناقض للوضوء؟

مسألة: هل انتهاء مدة المسح ناقض للوضوء؟ إذا اعتبرنا بداية اليوم والليلة من بعد العصر، له أن يمسح إلى أن يأتي الظهر من اليوم التالي، أو إلى قبيل العصر للنوافل، فلو مسح قبل العصر وقبل إتمام الأربع والعشرين ساعة، فبعد العصر يكون خرج عن المدة أم لا؟ خرج. هو على وضوئه، فقد توضأ قبل العصر وبقي على وضوئه لم ينتقض وجاء العصر، فهل يصلي العصر الواقع بعد اليوم والليلة بهذا الوضوء الذي وقع بالمسح خلال اليوم والليلة، أم أنه بانتهاء التوقيت يكون قد انتهى الوضوء؟ هناك من يقول: يصلي؛ لأنها طهارة مكتملة ولم يأت ما ينقضها، وهو قول الحسن البصري، فيصلي إلى أن ينتقض وضوءه الأخير، أما الجمهور فيقولون: المسح رخصة، إلى وقت محدد، فلما انتهى الوقت انتهت الرخصة. أنت حين تأخذ تأشيرة للسفر إلى بلد -وانتهت مدة التأشيرة- وأنت على أهبة السفر، خرجت -مثلاً- من بلدك متوجهاً إلى لندن ونزلت في عدة مطارات، فلما وصلت إلى لندن كانت التأشيرة قد انتهت بالأمس، بينما أنت انتقلت من بلدك منذ عدة أيام، فهل سيتغاضون عن الأيام السابقة، أم سيقولون لك: انتهت التأشيرة، وعليك أن ترجع؛ لأنك تحتاج إلى تأشيرة جديدة؟ فالجمهور يقولون: إذا كان على وضوء قبل مضي المدة، ثم دخلت صلاة بعد خروج المدة المحددة فلا يصليها بذاك الوضوء. فإن قيل: هو لم ينتقض وضوءه. قالوا: لكن المدة انتهت، وأبطلت المسح الذي مسحه أثناء المدة. ولتلخيص ما سبق نقول: بدأت المدة من أول المسح، وتنتهي مدة المسح وصلاحيته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا توضأ ومسح بعد ثلاث وعشرين ساعة، فهل يكون مَسَح في المدة أم لا؟ يكون مسح في المدة، فجاء بعد سبع وعشرين ساعة ليصلي، ووضوءه الذي كان قبل بضع ساعات لا زال باقياً لم يطرأ عليه ما ينقضه، أيصلي بعد خروج المدة بثلاث ساعات بذاك الوضوء السابق في المدة، أم لا يصلح ذاك الوضوء للصلاة؟ هناك من يقول - كـ الحسن البصري -: يصلي ما شاء ما دام وضوءه لم ينتقض؛ لأنه وضوء صحيح بمسح صحيح في وقته. والجمهور يقولون: لما انتهت المدة انتهت الرخصة. وهذا يشمل المسح سواء كان في مدة السفر أو في مدة الحضر، ولو توضأ ولبس الخف -وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق- وقبل أن يحدث خلع الخفين، ثم لبسهما مرة أخرى قبل أن يحدث، فهل يمسح عليهما أم لا؟ يمسح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فلو توضأ لصلاة المغرب وصلى بوضوء المغرب العشاء وغسل القدمين عند وضوئه للمغرب، وذهب إلى المسجد وصلى العشاء، فلما دخل البيت لبس الخفين -خوفاً من البرد عند صلاة الصبح- وهو على طهره من المغرب، فلبس الخفين بعد صلاة العشاء، فهل هذا اللبس صحيح أم باطل؟ صحيح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فإذا جاء الصباح وانتقض الوضوء بالنوم أو بغيره يمسح على الخفين؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، إذاً: ليس بشرط أن يكون لبس الخفين عقب غسل القدمين في الحال، فما دام على طهره الأول ولو طال الزمن ولبس الخفين وأدخلهما طاهرتين، فله أن يمسح عليهما. وإذا لبس الخفين على طهارة وطال الزمن، ثم انتقض وضوءه، ولم يكن قد مسح على الخفين قبل ذلك، فخلع الخفين، هل يلبسهما على ما كان عليه، أم يستأنف وضوءاً جديداً؟ يستأنف وضوءاً جديداً. فإذا كان قد توضأ ثم انتقض وضوءه ومسح على الخفين ثم خلعهما بعد أن مسح عليهما مسحة، حينما خلعهما أيعود للبسهما، أم يجدد الوضوء؟ يجدد الوضوء؛ لأن الوضوء قد انتقض، والوضوء الموجود الآن بمسحة، والمسحة يشترط فيها طهارة القدمين دائماً، فلما خلعهما انتفت رخصة المسح وعليه أن يستأنف وضوءاً جديداً. وهناك من يقول: يغسل قدميه فقط، ولكن الجمهور على أن الطهارة لا تتجزأ، فعليه أن يستأنف وضوءاً من جديد.

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [1]

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [1] معرفة نواقض الوضوء مهمة لكل مسلم، حتى لا تفسد عبادته وهو لا يشعر، ولهذا كانت الطهارة من أهم الأشياء في حياة المسلم، سواء كانت طهارة معنوية وهي طهارة القلب، أو طهارة حسية وهي طهارة البدن، فواجب على كل مسلم أن يعرف الطهارة وشروطها ونواقضها حتى تكون عبادته صحيحة.

انتقاض الوضوء بالنوم

انتقاض الوضوء بالنوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم. نأتي إلى المسألة الأولى التي صدر بها المؤلف هذا الباب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم) . الخفق: هو ميلان الرأس على الصدر في أول النعاس، فإذا كان الإنسان جالساً ثم أتاه النعاس فإنه يخفق برأسه ويميل، فإذا مال رأسه ينتبه حالاً، وهذه هي حالة أوائل النعاس، وفي أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض الليالي متأخراً في ثلث الليل، وقد نام ونعس بعضهم، وأخذت رءوس بعضهم تخفق، وهذه الألفاظ جاءت في حديث ابن عباس في خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وفيه أنه قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق عليكم، إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض مثلكم) أي: أنكم على طهارة وتنتظرون الصلاة ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر الصلاة مثلكم، فكان في هذا تسلية لهم عن تأخير الصلاة، وبياناً منه صلى الله عليه وسلم أن الأفضل في وقتها التأخير، ولكنه قال: (لولا أن أشق) ، فرفع المشقة هو الذي جعل التبكير بصلاة العشاء. وفي مسألة النوم نجد كما يقول الشراح ومنهم ابن حجر والنووي كما في شرح مسلم، ونقل ذلك عنه الشوكاني يقولون: في هذه المسألة ثمانية أقوال: فهناك من يقول: مطلق النوم ناقض، وهذا مبني على أن النوم بذاته حدث، وصاحب هذا القول كـ الحسن البصري ومن وافقه لا يراعي أي حالة ولا صفة للإنسان عند نومه، لا قليلاً ولا كثيراً، مطلق النوم عندهم إذا خامر رأس الإنسان فقد انتقض وضوءه، وعليه أن يتوضأ؛ واستُدل على ذلك بإجماع المسلمين على أن غيبة العقل بسكر أو بمخدر أو بإغماء أو بأي سبب من الأسباب فإنه يتوضأ صاحبه بجميع الأقوال، ولا يخالف في ذلك أحد؛ لأن العقل يغيب عن الحس والإدراك، فقالوا: وكذلك النوم، فإن النوم يجعل صاحبه غائباً عن الحس. القول الثاني: مقابل لهذا: وهو أن النوم بذاته ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، كما سيأتي الحديث في ذلك، وكان من الأنسب أن يقدمه المؤلف هنا، وإنما أخره إلى ما قبل آخر الباب بحديث واحد، وهو حديث معاوية وعلي مرفوعاً: (العين وكاء السه -والسه: اسم لحلقة الدبر- فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) يعني: أن الإنسان ما دام مستيقظاً فالسه مربوط، والوكاء هو: الرباط، ووكاء القربة هو الذي يربطها حتى لا يتدفق الماء منها، فكذلك العين هي وكاء السه، وإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فيخرج ما في تلك القربة وهو لا يشعر. إذاً: من منطوق هذا الحديث: (العين وكاء السه) ، وأحاديث أخرى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ذكروا في هذه المسألة عدة أقوال: القول الأول: مطلق النوم ينقض، وهذا على أن النوم ناقض بذاته. والقول الثاني: قول الجمهور: وهو أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر، ثم اضطجع ونام، ثم جاء المنادي لصلاة الصبح، فقام وصلى الصبح ولم يتوضأ. فقلت له: يا رسول الله! أتصلي وقد نمت؟! فقال: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فعلى هذا إذا استطلق وكاء فهناك وكاء آخر؛ لأن القلب يقظان في حقه صلى الله عليه وسلم، فلو أنه اعتبر النوم بذاته حدثاً لكان عليه أن يتوضأ، ولكنه اعتبر أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وأنه يقظ بقلبه، فلو كان قد حدث حدث أثناء نومه لشعر به؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة مبيته عند خالته ميمونة، قال: (فقام صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فتوضأ فصلى) يعني: بأنه نام وأدرك بأنه أحدث فقام وتوضأ وصلى. وعلى هذا: إذا كان النوم هو مظنة الحدث فأي أنواع النوم هو المقصود؟ فيه ثمانية أقوال -كما ذكرها الشوكاني وذكرها قبله النووي في شرح مسلم- وكلها تدور حول نقطة واحدة، وهي: تحقيق المناط في أنه قد حصل نوم فعلاً. فهناك من يقول: من نعس -والنعاس أوائل النوم- وهو جالس فلا وضوء عليه؛ لأن جلوسه يجعله متمكناً ولا يخرج منه شيء إلا إذا شعر به. وهناك من يقول: إن من نام مضطجعاً واتكأ على جنبه وتمدد فعليه الوضوء؛ لأنه إذا نام متمدداً مضطجعاً فليس هناك ما يمنع خروج شيء من مخرجه؛ لأن الحال أنه نائم. وهناك من يقول: من نام في الصلاة فلا وضوء عليه؛ لما جاء في بعض الآثار: (إن العبد إذا نام وهو ساجد يقول الله تعالى لملائكته: انظروا عبدي، روحه عندي وجسده بين يدي) فقالوا: (نام وهو ساجد) ، أثبت له النوم وهو ساجد وأثبت له صحة السجود. وكذلك إذا نام وهو راكع، أو نام وهو جالس يتشهد، أو نام وهو قائم يقرأ، قالوا: كل نوم في الصلاة لا ينقض الوضوء ولماذا لا ينقض؟ قالوا: لأن النوم يكون خفيفاً، فإذا كان النوم ثقيلاً خرج عن هذه الصورة، ولذا عند مالك رحمه الله: أن الإنسان إذا نعس وهو قائم أو راكع فإنه لا ينتقض وضوءه، وأما إذا نعس وهو ساجد فينتقض. وما الفرق بين السجود والركوع؟ قال: إن نام الإنسان وهو راكع فيحتاج إلى إدراك وإحساس يحفظ به توازنه، وأما إذا كان ساجداً فهو يسجد على أربعة أطراف، ومهما أخذه النوم وأغرق فيه فإنه لن يسقط؛ لأنه متمكن على أربعة أطراف. إذاً: النوم في الركوع لا يكون ناقضاً لخفته، والنوم في السجود يكون ناقضاً لتمكن صاحبه من عدم السقوط، وكل ذلك راجع إلى تحقيق المناط في حصول النوم. وقد جاء عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الظهر ونام، وأصحابه حوله إلى أن أُذن للعصر فأيقظوه، فسألهم: هل سمعتم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: أشممتم ريحاً؟ قالوا: لا، فقام فصلى؛ وهذا بناء على أن العين وكاء السه، وأن هناك حراساً، فلما لم يسمعوا شيئاً ولم يشموا ريحاً تأكد بأنه لم يحدث في نومه وإلا لأخبره أصحابه بذلك. وعلى كل فتلك الأقوال الثمانية بالصور المختلفة في حقيقة النوم إنما ترجع إلى تحقيق المناط في أن النائم قد استغرق في النوم، بحيث لو خرج منه شيء لم يشعر به، إلا صورة واحدة عند الشافعي وهي: ما لو جلس ممكناً مقعدته من الأرض بحيث لا تسمح بخروج شيء، ولو استغرق في النوم ورأى المنامات فإنه لا ينتقض وضوءه. إذاً: هل النوم من حيث هو ناقض بذاته أو أنه مظنة حدوث الناقض؟ الحسن ومن وافقه قالوا: هو ناقض بذاته؛ بناءً على أن زوال العقل بالأسباب الأخرى ناقض إجماعاً، والجمهور على أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وإنما هو مظنة حدوث الحدث الذي ينقض الوضوء، ومتى يكون مظنة ذلك؟ يرجع هذا إلى تحقيق المناط في أنه نام إلى الحد الذي لو خرج منه ريح لم يشعر به، وهذا أيضاً هو رأي الجمهور. والله تعالى أعلم.

الاستحاضة وأحكامها

الاستحاضة وأحكامها قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي) وللبخاري: (ثم توضئي لكل صلاة) وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً] . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش. وفاطمة هذه كانت إحدى ثلاث كن يستحضن بالإضافة إلى حمنة وأخرى، والاستحاضة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم قد تلتبس على المرأة بالحيضة.

أقسام الدماء عند النساء

أقسام الدماء عند النساء والدماء الخارجة من النسوة: إما دم حيض، وإما دم نفاس، وإما دم استحاضة. ودم الحيض كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دم أسود يُعرَف أو يعرِف، يُعرَف من المعرفة، ويعرِف من العرف وهو الرائحة، أي: أن له رائحة تعرفها النسوة. وسبب الحيض -كما يقال- هو دورة الرحم، وللرحم دورتان: دورة شهرية، ودورة سنوية، فالدورة الشهرية هي دورة الحيضة، والدورة السنوية هي النفاس، وقد يكون نفاس بلا دم وتسمى (الجفوف) . فإذا جاءت الحيضة ثم تواصل الدم بعدها فهذا الدم الزائد عن الحيضة يسمى (استحاضة) . فلما قالت: (إني أستحاض) عرفت أنها ليست بحائض، ولكنها ظنت أن استمرار دم الاستحاضة يجعلها غير طاهرة، فسألت: أأترك الصلاة في هذه الحالة؛ لأني (أستحاض فلا أطهر) أي: لا يقف الدم؟ أجابها صلى الله عليه وسلم وقال لها: (لا؛ إنما ذلك عرق) أي: لا علاقة له بالطهر وعدم الطهر؛ ولذا نجد في القرآن الكريم -كما يقال- درس الألفاظ قال تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] فطهر المرأة ليس بيدها كما هو الاغتسال، ولذا قال: ((يطهرن)) ؛ لأنه رفع الدم، وقال: ((فإذا تطهرن)) وزاد في الأحرف؛ لأن التطهر هو حركة الماء والغسل والتدليك، وهذا بيد المرأة، فهنا أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة -لأنك غير طاهرة- وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم -أي: دم الحيضة- واغتسلي وصلي) أو (توضئي وصلي) جاءت ألفاظ عديدة في هذه القصة. والجمهور يقولون: إذا كان أول مجيء الحيض فإنها تعرفه، ولذا قال: (إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة) وهذا الإقبال معروف، ولكن إذا أدبرت فكيف تعرف أنها قد أدبرت والدم متواصل؟ فأجابوا وقالوا: قد بين لها صلى الله عليه وسلم وأرشدها إلى أمور عديدة، وهي: إما أن يكون الدم متغيراً، بأن يكون دم الحيض أسود يعرف، وبعد انتهائه يكون دم العرق أحمر صافياً، أو أن يكون دم الحيض ليس أسود، بل عادياً، فترجع إلى أيام حيضتها قبل الاستحاضة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فتربصي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) فإذا كنت تحيضين في الشهر أربعة أو خمسة أيام فأمسكي عن الصلاة أربعة أو خمسة أيام، فإذا تعدت المدة التي كنت متعودة عليها فاغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي، ولوكان الدم يجري؛ لأنه بعد مضي مدة حيضتك التي تعودتها يكون الدم خارجاً باستحاضة. وأما إذا كانت المرأة قد نسيت حيضتها، أو كانت في أول أمرها والتبس عليها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحيضي كما تحيض النساء في علم الله سبعة أيام أو ستة أيام، ثم اغسلي عنك الدم واغتسلي وصلي) .

أكثر الحيض وأقله والخلاف في ذلك

أكثر الحيض وأقله والخلاف في ذلك قال الفقهاء: الحيض له أقله وأكثره، والطهر بين الحيضتين له أقله، ولا حد لأكثره، فيقول الفقهاء: إذا رأت الدم أقل مدة الحيض فلتمسك عن الصلاة والصيام إلى أكثر مدته عندهم، فإن تجاوزت أقصى مدة الحيض عندهم فعليها أن تغتسل وتصلي وتعتبر الزائد استحاضة. فما هو أقل الحيض وما هو أكثره؟ المسألة فيها خلاف، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، فإذا رأت الدم ليوم فيقول: هذا دم فاسد، ويلزمها الصلاة عند ذلك، وهكذا إذا رأته ليومين، فإذا كان ثلاثة أيام فهو حيض عنده. وعند الشافعي وأحمد: أقل مدة الحيض يوم وليلة، فإذا رأت المرأة الدم يوماً وليلة فهو حيض، ولا يصح لها أن تصوم ولا أن تصلي، فإذا ذهب عنها الدم اغتسلت، ولو رأت الدم أقل من يوم وليلة قلنا لها: هذا دم فاسد؛ لأنه لم يكتمل أقل مدته. وعند مالك رحمه الله - تفصيل بين العبادات والعدة، فقال في حق العبادات: يكون الحيض إذا رأت الدم ولو لحظة، بمعنى: لو أن المرأة رأت الدم في نهار رمضان خمس دقائق، ثم ارتفع عنها ولم تره إلى المغرب قال: فسد صومها وعليها قضاؤه. وكذلك: إذا رأته في وقت المغرب ولم يرتفع عنها حتى طلع الفجر، فهذا أقل من يوم وليلة، فتسقط عنها صلاة المغرب والعشاء، وهكذا اعتبر الحيض بالنسبة للعبادات بمجرد رؤية الدم ولو لحظة. أما إذا كانت مطلقة وتعتد بالحيض فلا تكون الحيضة المعتبرة في العدة إلا بيوم وليلة. وعلى هذا فقد اختلفوا في أقل مدته، فمن رأت الدم أقل من أقله فهو دم فاسد، وإذا رأته لأقله فهي حيضة معتبرة، لا تصلي ولا تصوم. وأما أكثره فهو عند أكثر الأئمة خمسة عشر يوماً. وعلى هذا إذا استمر الدم أكثر من خمسة عشر يوماً قيل لها: ما زاد عن أكثره فإنه استحاضة، فعليك عند آخر اليوم الخامس عشر، أن تغسلي ثم بعد ذلك يعتبر ما زاد عن هذه الفترة استحاضة تصلين وتصومين معها. وسيأتي زيادة توضيح لما يتعلق بالحيض والاستحاضة، ويهمنا في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبره ناقضاً، وأمرها بالوضوء لكل صلاة. وسيأتي النقاش أيضاً في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ لأن في بعض الروايات (توضئي لكل صلاة) وفي بعضها: (اغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي) فكانت تغتسل لكل صلاة، وقيل: كانت تجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً باغتسال في كل أوقاتها، وسيأتي تحقيق ذلك في باب الحيض. إذاً: ما خرج من السبيلين على غير هيئة معتادة كسلس الدم باستحاضة، أو سلسل البول من الرجل أو المرأة، أو سلسل الريح: وهو أن يخرج بدون تحكم من صاحبه بل يغلبه عليه، فإنه يتوضأ عند دخول الوقت لكل صلاة، فإذا خرج بعد ذلك وهو على غير حالة معتادة، وبغير اختيار منه يكون قد انتقض وضوءه، وعليه وضوء آخر.

حكم السائل الذي يخرج من الفرج

حكم السائل الذي يخرج من الفرج قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: فيه الوضوء) متفق عليه واللفظ للبخاري] .

صفة المذي وحكمه

صفة المذي وحكمه يقول المؤلف رحمه الله: (وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أخرى: (فأمرت بلالاً) وهناك رواية أخرى دون ذكر علي (أن المقداد سأل رسول الله عن المذي) ، وفي رواية لـ علي قال: (كنت رجلاً مذاءً فكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، واستحييت أن أسأل رسول الله لمكانة ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء) وفي بعض الروايات: (توضأ وانضح فرجك) وبعض الروايات: (واغسل ذكرك وأنثييك) . وإلى هنا يتفق العلماء بلا نزاع على أن في المذي الوضوء، وأنه ناقض للوضوء كالبول. وقوله: (مذاء) مذاء على وزن فعّال (صيغة مبالغة) أي: كثير المذي. والماء الذي يخرج من الرجل وكذلك المرأة خلاف البول: المني، والودي، والمذي، وتزيد المرأة على الرجل بماء قبل الولادة يسمى (الهاد) أي: الهادي إلى أوائل الولادة. ويتفقون على أن المذي هو عن طريق المني، لكنه لم ينضج ولم يكتمل حتى يصير منياً يخرج دفقاً، ولكنه يخرج بدون دفق كما يخرج غيره، وهو لا يكون إلا عند الشباب في كمال الصحة. وسببه: إما اشتغال الفكر وإما وقوع النظر -يعني: بسبب حركة نفسية جنسية- وهو دون الملامسة، أو حصلت ملامسة ولكن لم يحصل هناك دفق للمني. ولونه ولون المني سواء، فيه مادة لزجة، والمذي يتفقون على أنه نجس كالبول يجب غسله. وبقي الخلاف في الألفاظ التي جاءت مع الغسل، فقوله: (وانضح فرجك) النضح: قد يطلق على الغسل، ومنه الحديث: (ويغسل أنثييه) وبعض العلماء يقول: (انضح فرجك) يعني: محل خروج المذي كما يغسل محل خروج البول. والآخرون يقولون: (انضح فرجك) أي: كامل العضو. وكذلك الأنثيين مع الذكر، والذين قالوا بهذا قالوا: إن الأمر بغسل هذه الأعضاء راجع إلى حالة صحية للإنسان؛ لأن المذي طريقه طريق المني إلا أنه لم ينضج، والمذي يخرج خروجاً عادياً، وأهم أعضاء خروج المني بالنسبة للرجل هي أنثياه مع فرجه، فقد تكون هناك إثارة جنسية كان مقتضاها خروج المني، ولكن جاء مانع منع خروج المني ففتر، وتغير الحال في مجراه ولم يصل الماء إلى درجة المني وبقي مذياً. تلك الأعضاء يقولون: يحصل لها تفاعل، فإذا ما تركت ربما يحصل هناك التهاب كما يحدث لكثير من الشباب، يكون في حالة احتلام فيستيقظ ولم يستكمل خروج الماء منه فيحصل عنده التهاب؛ بسبب عدم استكمال خروج هذا الماء من مكانه، فقالوا: في غسل الذكر والأنثيين تلطيف لهذا المحل يجنب صاحبه الالتهابات أو الأخطار الصحية التي قد تنتج بسبب عدم اكتمال المني وخروجه. إذاً: الغَسل هنا ليس له علاقة بالنقض ولكن له علاقة بصحة الإنسان، والذين قالوا: هو أمر تعبدي يغسل مع الوضوء قالوا: سواءً قبل الوضوء أو بعده بشرط إذا كان بعد الوضوء: أن يكون على اليد حائل، ولا حاجة إلى هذا كله، وإنما يغسل المحل، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة. إذاً: المذي ناقض للوضوء وليس فيه غسل، وحكمه حكم البول في وجوب غسله.

صفة الودي وحكمه

صفة الودي وحكمه أما الودي: فهو ماء أبيض ثقيل، غالباً يأتي في حالات الإمساك عند قضاء الحاجة، ولعل السبب في ذلك هو ضغط الإمساك على البروستاتا عند الرجل، فيكون هناك إفراز مثل هذا الماء، وهو كذلك كالمذي لكن ليس فيه الأمر بغسل الأنثيين؛ لأنه لا علاقة له بالأنثيين، وإنما يخرج في حالة وجود إمساك عند الإنسان، ويخرج قبل خروج الإمساك أو في عقبه، وهذا الماء حكمه أيضاً كحكم البول، أي: أنه نجس يجب غسله من الثوب والاستنجاء منه، والوضوء بسببه.

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [2]

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [2] مس المرأة وتقبيلها وأثر ذلك على الوضوء والصيام من المسائل المهمة التي ينبغي على المسلم معرفتها، حتى يبني عبادته على علم ويقين، وحتى لا يشك أو يشكك في أدائه لهذه العبادات.

الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء

الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) أخرجه أحمد وضعفه البخاري] . حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) . قولها: (بعض نسائه) جاء في بعض الروايات أنها هي المعنية ببعض نسائه، كما جاء في بعض الروايات أن الذي أخبرته قال: (ومن هي إلا أنت؟ فضحكت) فهذا يدل على أنها المعنية، فتكون قد أخبرت عن نفسها، وهذا مما يزيد الخبر قوة ثبوت لعدم وجود الواسطة. وجاء عنها رضي الله تعالى عنها في تقبيل الرجل امرأته: (أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم) فتعددت الروايات عنها في تقبيله صلى الله عليه وسلم إياها تارة في الصيام، وتارة من أجل الوضوء، فصلى ولم يتوضأ.

حكم تقبيل الصائم لزوجته وما يترتب عليه

حكم تقبيل الصائم لزوجته وما يترتب عليه أما قبلة الرجل لزوجه وهو صائم فيتفقون على أن القبلة من حيث هي لا تبطل الصوم، ولكن يخاف أن يتطور الأمر إلى ما يبطله؛ ولذا فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في تقبيل زوجه وهو صائم، ومنع الشاب من التقبيل وهو صائم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم تقول: (وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟) أي: أنه كان باستطاعته أن يملك نفسه فلا يتطور أمر التقبيل إلى ما وراءه باختياره أو باضطرار عليه.

الخلاف في انتقاض الوضوء بمس الرجل للمرأة

الخلاف في انتقاض الوضوء بمس الرجل للمرأة والذي يهمنا في هذه الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو خارج إلى المسجد، ولم يتوضأ، وصلى بالوضوء الذي كان عليه قبل أن يقبلها، وهذا الحديث هو أصل الأحاديث النبوية في قضية الوضوء من لمس المرأة أو عدم الوضوء منه. وهناك أحاديث أخرى نرى المؤلف قد أعرض عنها، وإذا نظرنا إلى الأصل: فإنه إذا توضأ الإنسان وثبت الوضوء فهو يستصحب الأصل، وما كان ناقضاً فهو خلاف الأصل؛ إذاً: الأصل في المتوضئ أن يبقى على وضوئه حتى يأتي ما يبطل هذا الوضوء، ولكن المؤلف ساق هذا الحديث من أجل أن يبين أن من قال: في تقبيل المرأة الوضوء، مستنده على هذا الحديث، والقضية من حيث هي من المسائل التي يمكن أن يعتبرها طالب العلم نموذجاً لخلاف الأئمة الأربعة، وهذه المسألة لها أصل في كتاب الله وذلك في قوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فهذه الآية الكريمة ربطت مجيء الأحد من الغائط بملامسة النساء، والغائط في اللغة هو: المكان المنخفض، وسمي قضاء الحاجة باسم المكان؛ لأن الغالب في حق من أرد قضاء حاجته في الخلاء أنه لا يطلب مكاناً بارزاً يكون كالنار على علم، بل يطلب مكاناً منخفضاً حتى لا يراه أحد، فسمي الآتي من الغائط كناية عن أنه قضاء حاجته هناك، فأصبح الغائط حقيقة عرفية لا لغوية في من يقضي حاجته بغائط أو بول، حتى الخارج من أحد السبيلين يسمى غائطاً، باسم المكان الذي يُقضى فيه. وقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] قالوا: ملامسة النساء مقترنة بالمجيء من الغائط، والمجيء من الغائط كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وقضاء حاجة الإنسان فيها الوضوء بالإجماع، فيكون ((لامستم النساء)) فيها الوضوء كالغائط. وهنا يقع الخلاف في المراد بـ (لامستم) فمن قائل: هو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، ومن قائل: إن الملامسة هي: كناية عن الجماع، وكما كني عن الخارج من الجسم بمكانه كني عن الجماع بالملامسة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن الله حيي كريم يكني ولا يسمي) . وقد جاء في الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] ، وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] والرفث في الحج: كلام باللسان ويتناول أيضاً الجماع ويفسد الحج، ومثله في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] فهو أي: الرفث المداعبة والملامسة وكذلك يراد به الوطء الذي كان ممنوعاً. إذاً: (لامس) هناك من يقول: إن لامس (فاعل) من طرفين، كما تقول: قابل زيد عمراً، وزاحم زيد عمراً، فتكون هذه المادة مفاعلة من طرفين لا من طرف واحد، فيكون المراد بها الجماع، وتكون الآية شملت المريض والمسافر والذي جاء من الغائط والذي كان به جنابة ولم يجد ماءً أن يتيمم. والآخرون قالوا: إن (لامس) بمعنى اللمس. والملامسة هنا تكون بمجرد لمس البشرة لوجود قراءة أخرى سبعية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ} [النساء:43] فقالوا: القراءتان سبعيتان صحيحتان، وتفسر إحداهما الأخرى، فـ (لامستم) التي تدل على المشاركة تفسرها (لمستم) التي ليس فيها مشاركة، كما يقال: لمست الجدار، أو لمست الدابة، أو لمست الكتاب، ويكون هذا من جانب واحد. إذاً: المسألة مبناها من الكتاب على الاختلاف في مدلول (لامس) أو (لمس) ، وعندنا في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لـ ابن تيمية رحمه الله؛ كتاب لا أعتقد أنه وجد في موضوعه ولا في بابه نظيره أبداً، ذكر أسباب الخلاف بين الأئمة، والخلاف الذي لا ينبغي أبداً الاعتراض عليه لوجود أسبابه شرعاً وذكر عشرة أسباب منها: الاختلاف في فهم النص، أو بلوغ النص لمن لم يبلغه، أو صحة النص عند شخص وعدم صحته عند غيره، أو سلامته من معارضة أو عدم معارضته. إلخ، وهنا وقع الاختلاف في فهم (لامستم) ، وقد بحث هذه المسألة ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار وأطال فيها، ونقل الآثار عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وعن التابعين وعمن قال بذلك. ونأتي إلى المسألة كتطبيق علمي شرعي لمسألة اختلف فيها الأئمة لنرى المنهج السليم في تحقيق مسائل الخلاف، والنتيجة بترجيح ما صح ترجيحه. فنأخذ المسألة من جهة الأئمة رحمهم الله، ونتتبع في ذلك (أقوالهم) : نجد الشافعي رحمه الله يقول: (لامستم) بمعنى لمس، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] ، وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] جاءت (مس) بمعنى الجماع، وجاءت (لمس) بمعنى المقاربة أو الملاقاة، فهنا جاءت (لمس) و (لامس) وكل منهما في مكانها، فيقول الشافعي رحمه الله: مجرد التقاء بشرة رجل بامرأة بأي حالة أو على أي كيفية ذاكراً أو ناسياً أو قصداً أو بدون قصد، حدثت شهوة أو لم تحدث، والمراد بملامسة البشرة للبشرة سواء بكف اليد أو بظهرها، بالذراع أو بالفخذ أو بالقدم، أي مطلق لمس الرجل للمرأة يكون ناقضاً، هذا قول الشافعي. نجد في مقابل هذا القول: ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا وقع لمس الفرج بالفرج وليس هناك إيلاج كان فيه الوضوء، وما عدا ذلك من قبلة أو لمس أو جس بشهوة أو بغير شهوة فلا وضوء فيه. إذاً نستطيع أن نقول: الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: كل لمس بأي صفة لا وضوء فيه، وهذا القول مقابل لقول الشافعي رحمهما الله، فهذا يقول: مطلق اللمس ناقض، وهذا يقول: كل اللمس ليس بناقض، وأعتقد أنه خلاف قوي. وأما مالك وأحمد رحمهما الله: فاتخذا طريقاً وسطاً وقالا: اللمس الذي يكون ناقضاً هو اللمس بشهوة، واللمس العادي العابر عمداً أو سهواً هذا ليس فيه شيء وليس بناقض. إذاً: هذا القول وسط بين قول من ذهب في طرف الإيجاب ومن ذهب في طرف المنع. والخلاصة: أن عندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بالإيجاب مطلقاً، وقول بالمنع مطلقاً، وقول بالوسط، والقول الوسط تحقيقه عند المالكية والحنابلة: إن قصد اللذة ولو لم يجدها، أو لم يقصد اللذة ولكن وجدها، فهذا هو الناقض عندهم. بم استدل الشافعي رحمه الله؟ وبم استدل أبو حنيفة رحمه الله؟ وبم يجيب كل منهما على دليل الآخر لأنه مناقض لقوله؟ وما هو موقف الإمامين مالك وأحمد بين الطرفين؟

كيفية الترجيح في المسائل الخلافية

كيفية الترجيح في المسائل الخلافية ونحن سبق أن قررنا بأن المسائل الخلافية لا يتأتى تحقيق الأمر فيها إلا بأربع خطوات: الخطوة الأولى: إدراك الخلاف على ما هو عليه الآن: فـ الشافعي يقول: المس ينقض الوضوء. وأبو حنيفة يقول: لا ينقض، ومالك وأحمد يفصلان. الخطوة الثانية: معرفة دليل كل قائل، فنعرف الدليل الذي استدل به، ثم نعرف دليل أبي حنيفة، ثم نعرف دليل مالك وأحمد، ونترك دليل كل قول عند صاحبه. الخطوة الثالثة: نأتي ونتساءل: الشافعي حينما يرد على أبي حنيفة في استدلاله بعدم النقض، هل لديه شيء يرد به عليه؟ وأبو حنيفة هل عنده شيء يرد به على الشافعي على ما استدل به من عموم النقض؟ إن وجدنا رداً ونقداً من الشافعي لـ أبي حنيفة وكان مقبولاً قبلناه، وإن وجدنا رداً من أبي حنيفة لأدلة الشافعي، وكان مقبولاً قبلناه، وكذلك نقول لـ مالك وأحمد: ما دليلكما على أدلة الشافعي وأبي حنيفة؟ فإن وجدنا عندهما أدلة تكفي أخذنا بها، وإذا لم نجد في أقوال بعضهما في أدلة البعض الآخر ما يمكن أن يؤخذ به تركناه. فإذا تعادلت جهات الخلاف باعتدال وتوازي أدلتها تركناها معلقة، وذهبنا نطلب الترجيح من خارج تلك الأدلة إن وجدنا. وطرق الترجيح كثيرة كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الترجيح بحر لا ساحل له. ولهذا يقول الشافعي: لا ينبغي لأحد أن يعترض على أحد رجح عنده حكم لم يرجح عنده هو؛ لأن لديه من المرجحات ما ليست عندك، ولو فرضت رأيك وكانت المسألة إلزامية ليس رأيك بأولى أن نفرضه من رأي الآخر، فمثلما تود أن تفرض رأيك فالآخر يود أن يفرض رأيه، والمسألة بالأدلة. إذاً: نخطو تلك الخطوات لتصور الخلاف، وهذه المسألة قد اخترناها فعلاً في كتاب: (موقف الأمة من اختلاف الأئمة) ، لأنها مسألة عملية، فالناس في بيوتهم الرجال مع النساء، يصلون، ويطوفون بالبيت، ويذهبون ويجيئون، كل ذلك -كما يسميه العلماء- مما عمت به البلوى، فلا يمكن أن نعزل الرجال عن النساء خاصة في بيوتهم، إذاً: نحتاج إلى إمعان النظر في هذه المسألة، وإلى التأني والتمهل فيها. فنأتي أولاً إلى من يقول بأنه ناقض لأنه ناقل عن الأصل، فنقول: بم استدل الإمام الشافعي رحمه الله على أن مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ استدل رحمه الله بقوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فهذان متساويان في وجوب التيمم إذا لم تجدوا الماء، ومنها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) . فقلنا له: إن (لامس) يرد عنها أبو حنيفة بأن المراد به الجماع. يرد الشافعي ويقول: جاءت القراءة الأخرى: ((لمستم)) فأنا أتمسك بنص الكتاب في (لمستم) وهي تبين القراءة الثانية: ((لامستم)) . هذا قول الشافعي رحمه الله. ثم نأتي إلى الإمام أبي حنيفة ونقول: بم استدل على أن اللمس لا ينقض الوضوء؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل عدم وجوب الوضوء، فمن أوجبه فليقم الدليل، ومن أدلتي: أن (لامس) بمعنى: جامع، وقد فسرها بذلك ابن عباس، ومن أدلتي أن الرسول قبّل عائشة ولم يتوضأ. قال له الشافعي: قد جاء عن ابن عمر أنه قال: قبلة الرجل امرأته من الملامسة، وفيها الوضوء. أجاب أبو حنيفة وقال: هذا كلام ابن عمر، وكلام ابن عمر لا يقضي على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، تقول: وأنا نائمة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد لمسني بيده أو غمزني بقدمه فكففت قدمي عنه ليسجد) فهذا غمز ولمز ولم يكن هناك وضوء، وهو في الصلاة وليس لقصد، فماذا يقول الشافعي؟ قال: نعم، لكن لم تمس البشرة البشرة، بل كانت نائمة متغطية بملحفتها فغمزها من فوق الحائل. فماذا يقول أبو حنيفة؟ قال: إذا قلتم ذلك، فماذا تقولون في قولها: (قمت ذات ليلة فلم أجد رسول الله عندي، والحجرات آنذاك ليس فيها سرج، فقمت أبحث عنه بيدي، فوقعت بطن كفي على قدمه وهو ساجد في المسجد، وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، ففي هذا الحديث وقعت بطن كفها على بطن قدمه، فماذا تقولون؟ قالوا: نعم، الإنسان قد يكون ساجداً والإزار ساتر على قدميه فبينهما حائل. فقال أبو حنيفة: قد جاء عنها رضي الله تعالى عنها: أنها انتظرته حتى قام من الركعة الأولى، وظنت أنه ذهب إلى جاريته مارية، فقضى حاجته واغتسل وجاء يصلي، قالت: فقمت فأدخلت أصابعي في شعر رأسه أنظر هل هو مغتسل أو لا؟ فماذا تقولون في ذلك يا شافعية؟! قالوا: ليس فيه شيء؛ لأنها لامست الشعر، والشعر ليس فيه حرارة. إلى هنا تكون الكفة بين الشافعي وأبو حنيفة راجحة لـ أبي حنيفة، على ما فيها. وأما الذين قالوا بالتوسط فماذا يقولون في أدلة أبي حنيفة؟ قالوا: إنما استدل بأمور عادية، ولكنا نقول بالقول الوسط الذي لم يقله الشافعي ولا أبو حنيفة، ودليلنا مستقل عنهما. وهو: الحديث الذي جاء فيه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا أبيع التمر، وجاءتني امرأة تطلب تمراً، فأغواني الشيطان، فقلت لها: عندي في البيت خير من هذا، فذهبت معي لأعطيها تمراً من البيت، ولكن حدث أن كل ما يفعله الرجل مع امرأته قد فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني. قال: هل صليت معنا العصر؟ قال: لا. قال: توضأ وصلِ) . فقال المالكية والحنابلة: هذا الرجل قد لمس ولامس وفعل ما يقصد به اللمس فعلاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، بينما لم يتوضأ من مجرد القبلة، فقد تكون قبلة عاطفية كما يقبل الإنسان زوجه وهي مريضة، أو يقبل ابنته الصغيرة، أو يقبل أمه عاطفة وبراً، فالقبلة ليس فيها دعوى الشهوة، وكذلك الملامسات الأخرى، كقول عائشة: غمزني أو لمسني بيده. فكل هذه أمور عادية، فتركنا الوضوء من الأمور العادية، وأوجبنا الوضوء من الأمور غير العادية؛ لأنه قال للرجل: توضأ، وموجب وضوء الرجل هنا هو ما كان منه مع المرأة؛ لأنه لامسها بقصد الشهوة، ولذا شعر بالإثم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقال: طهرني!. قالوا: لا، من قال لكم: إن الرجل قبل أن يلقى المرأة كان متوضئاً حتى انتقض وضوءه بهذه الحالة. فلماذا قال له: توضأ؟ قال له: توضأ. لأن الوضوء مكفر للذنوب (إذا غسل وجهه خرجت خطاياه. إذا غسل يديه. إذا فعل. إذا فعل ... ) . قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الاستفصال من الرجل قبل أن تأتي تلك المرأة، فلم يقل له: كنت متوضئاً أم غير متوضئ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال في الحال، فكأن الرسول لم يعتبر وضوءاً قبل ذلك، وأمره بوضوء جديد لتلك الحالة. فقلنا: بأن مطلق اللمس لا ينقض، ولم نقل: كل لمس لا ينقض، وقلنا: اللمس بشهوة هو الذي ينقض. فما رأيكم الآن ما بين أحمد ومالك وأبي حنيفة؟ أي الكفتين ترجح؟ مالك وأحمد. وعلى هذا -أيها الإخوة- نحن لا نطمع أن نزيل الخلاف في مسألة خلافية اختلف فيها الأئمة رحمهم الله؛ لأن لديهم من النصوص، ما يؤيد ما ذهبوا إليه، وهناك نصوص عديدة لا أستطيع أن أسردها كلها أو أحفظها كلها، ولكن هذه هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهذا القدر يكفينا، فإذا كنت شافعياً أو حنفياً أو مالكياً أو حنبلياً أياً كان، وكنت من أهل النظر والترجيح ما الذي تطمئن نفسك إليه بصرف النظر عن المذهب الذي تأخذ به؟ كما يقال: الحال الوسط والذي يجمع بين الأدلة هو ما ذهب إليه مالك وأحمد، ولو قال قائل: الأحوط ما قال الشافعي. ويكون أحوط للعبادة وأصح، ولكن الأحوط فيه تكليف وإفساد، فيه إبطال الوضوء السابق، وفيه تكليف بالوضوء من جديد، وهذا فيه أيضاً إحراج. إذاً: من حيث المنهج العلمي ومن حيث البحث في الأدلة على هذه الطريقة يكون قد ترجح عندنا ما ذهب إليه مالك وأحمد. عندنا جزئية يضطر إليها الشافعية فيقلدون فيها مالكاً وأحمد، وهي أنه في حالة الطواف وشدة الزحام تجد بعض الإندونيسيات يلبسن القفازات، والمحرمة ممنوعة من لبس القفاز، فتأتي المحرمة وتلبس القفازين حتى لا ينتقض وضوءها، حتى إن من الرجال من يلبسهما حتى لا يلمس المرأة، ولبس القفازين ممنوع على المحرم، ومن هنا نجد الشافعية يقولون: من أراد أن يطوف بالبيت فيقلد مذهب مالك وأحمد أو مذهب أبي حنيفة في الطواف؛ حتى لا يبطل وضوءه، ويكون على اعتقاد بأخذ قول إمام معتبر ينجيه من الورطة، وإلا لو بقي شافعياً فليس بمكمل طوافه طوال عمره! فإذا قيل: إذا حصل اللمس يكون فلمن النقض: للامس أم للملموس؟ هناك من يقول: النقض للامس؛ ولهذا بعض الشفاعية ما قالوا بوجود حجاب وغطاء في قصة عائشة، وإنما قالوا: هي التي لمست، الرسول ما لمس، وإذا كانت هي متوضئة ينتقض وضوءها أما الرسول فلا، بل يستمر في صلاته؛ لأن النقض للامس وليس للملموس. وإن قيل: باللمس حصلت شهوة عند الاثنين،

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3]

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3] الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، والخلاف أنواع: منه الجائز، ومنه المحرم، ومن الخلاف الجائز: اختلاف الأفهام، واختلاف التنوع، واختلاف الأفهام هو أكثر ما يحصل في المسائل الفقهية، فلا ينكر على من قال أي قول إذا كان متحرياً للحق، ولكن واجب المسلم أمام الخلاف أن ينظر الأقرب إلى الحق، والموافق للدليل، ويسعى جاهداً إلى معرفة الراجح، والعلماء رحمهم الله قد بينوا لنا طرق الترجيح، وطرق الجمع بين المسائل المتعارضة.

الشك في الوضوء

الشك في الوضوء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه مسلم] .

الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا)

الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في باب نواقض الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه ريح أو لا؟ فلا ينصرفن من صلاته أو من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) هذا الحديث يعتبره علماء الحديث وعلماء الأصول والفقهاء أساساً لقاعدة فقهية، وهي: أن اليقين لا يرفع بالشك. ومعنى قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يعني: حركة قد تحصل في البطن بتحرك غازات أو ما يسمى بالمغص أو شيء من هذا. قوله: (وأشكل عليه) الإشكال مأخوذ من الشكل، وهو عند علماء المنطق التشكيك، وذلك: أن الصورة الذهنية بالنسبة لموضوع معين تشتبه بين أمرين: إذا نظر إلى هذا قال: هو منه، وإذا نظر إلى ذاك قال: هو منه، فشك بأيهما يُلحق أو من أيهما يكون، ولذا قالوا: الشك هو: استواء الطرفين دون ترجيح. وقالوا: إن العلم هو: ما وقر في النفس دون منازعة، والظن هو: ما نازعه ما هو أضعف منه، فإذا تعادلت الكفتان ثم رجحت إحدى الكفتين بأحد المعنين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإذا تعادلت الكفتان دون ترجيح فهو شك. وهنا لما وجد الشيء في بطنه وأشكل عليه: شك، وقال في نفسه: هل يا ترى مع تلك الحركة التي في البطن هل خرج شيء أم لا؟ فحينئذ عليه أن يلغي هذا الشك ويبني على ذاك اليقين؛ لأنه في الصلاة -كما في بعض الروايات- والصلاة ما دخلها إلا بيقين الطهارة، أو في المسجد -على بعض الروايات- والمسجد ما أتى إليه إلا بكامل الطهارة، إذاً: الذي أشكل عليه طارئ بعد يقين الطهارة، إذاً: الطهارة هو متأكد منها وثابتة عنده بيقين، فلا يحكم برفضها وإبطالها إلا بيقين مثله، وهكذا قالوا في عموم الأمور، فمثلاً: لو توضأت في بيتك أنت وزميلك، وكل منكما متأكد بأنه توضأ مع الآخر في مكان واحد ومن إبريق واحد، ثم خرجتما، وفي طريقكما إلى المسجد دعاكما بعض الإخوان لتناول الشاي، فذهبتما معه وجلستم، ثم قمتم لتذهبوا إلى المسجد، وعند باب المسجد قلت: هل أنا أحدثت أو لا؟! الطهارة أنتم متيقنون فيها أنت وهو، ولكن الشك حصل في كونك هل أحدثت بعد تلك الطهارة المتيقنة أو لا، فصاحبك يقول لك: نحن توضأنا معاً، وأنت تقول له: نعم، أنا متأكد أننا توضأنا معاً، لكن لا أدري عندما جلسنا نشرب الشاي هل حصل مني شيء أو لا؟ الآن عندنا طهارة وشك في الحدث، والطهارة ثابتة بيقين، والتفكير في الحدث شك طارئ، فنقول: الطهارة ثابتة باليقين فتبقى على ما هي عليه، وعندنا استصحاب الأصل، والأصل الطهارة وهي ثابتة، وأما الحدث فهو أمر مشكوك فيه، فلا نترك اليقين بسبب الشك. وكذلك العكس: فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فيلغى الشك في الطهارة ويعتمد الحدث ويتوضأ، مثلاً: أنت وصاحبك كنتما في البيت، ودخلتما الحمام، وخرجتما، ثم لقيكما صاحبكما ودخلتما عنده، وقلتم: هيا نذهب إلى المسجد. فقلت: أنا أحدثت في البيت ودخلت الحمام، ولكن ما أدري هل توضأت أو أتوضأ الآن؟ إذاً: الشك هنا هو في الطهارة؛ لأن الحدث ثابت ويشهد عليه بيت الخلاء، لكن الوضوء هو الذي شككت فيه، إذاً: الوضوء هنا يكون على اليقين، فإذا تيقنت في الحدث وشككت في الوضوء، فألغ الشك، وابنِ على اليقين بالحدث وتوضأ. وهكذا أيها الإخوة! حتى في المعاملات يقولون: لو قدر أنك اقترضت من زيد ألف ريال، ثم جاء يطالبك، فقلت له: هذا صحيح، ولكن هل أنا أعطيتك الألف؟ قال: لا، ما أعطيتني. فقلت: يا أخي! أظن أنني أعطيتك. وليس هناك سند، ولا شهود. فإذاً: القرض هنا ثابت قطعاً وأنت معترف به، والدفع مشكوك فيه؛ لأنك تدعي وهو ينفي، فالشك طارئ على السداد، فابنِ على اليقين بأن القرض لا زال ثابتاً في ذمتك حتى يثبت السداد يقيناً وهكذا. فهذا الحديث أصل عظيم، ومنه أخذت القاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، كما تقدم. وهنا قال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وقد ذكرنا قصة أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بالنقض بالنوم، فقد كان ينام وإخوانه حوله، فإذا استيقظ قال لمن حوله: هل سمعتم شيئاً؟ فإذا قالوا: لا. قال: فهل شممتم ريحاً؟ فإذا قالوا: لا، قام فصلى، لأنه لما لم يسمع جلساؤه منه صوتاً، ولم يشموا منه ريحاً بنى على اليقين الأول الذي هو الطهارة قبل النوم؛ لأنه كان ينام في المسجد بعد أن يصلي، فهو على طهارة، ولما كان النوم مظنة الحدث لم يقطع بأنه أحدث؛ لأن الحضور المشاهدين لم يسمعوا صوتاً ولم يشموا ريحاً. لكن لو أن الشك في غير الريح، أي: في شيء آخر من نواقض الوضوء، كأن تكون ذهبت إلى أقاربك زائراً، وجاءوا -على عادات بعض الناس- إليك فصافحتك امرأة منهم، ثم شككت هل صافحت فلانة أو لم تصافحها؟ فحصل عندك شك في كونك صافحت أو لم تصافح، فعلى كونك صافحت يكون قد حصل اللمس، وعلى قول من يقول بالنقض فعليك الوضوء، ولكن أنت متأكد من الوضوء وشككت في وقع النقض بالمصافحة. إذاً: عليك أن تبني على اليقين وهو بقاء الوضوء. فسماع الصوت أو وجدان الريح في الحديث إنما هو على سبيل المثال؛ حتى يتأكد الإنسان في الأمر الذي أشكل عليه، فيرفع الإشكال ويبني على اليقين.

الوضوء من مس الفرج والمذاهب في ذلك

الوضوء من مس الفرج والمذاهب في ذلك قال المؤلف رحمه الله: [وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: (قال رجل: مسست ذكري أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة] . هذه المسألة يعنون لها: بالوضوء من مس الفرج، أو الوضوء من مس الذكر -بخصوص الذكر في الرجل-، والقضية عند من يبحثها تشمل كل ذكر لرجل أو فرج لامرأة، ومن يبحثها أيضاً يبحث هل هو خاص بالذي يمس شخصياً أو يشمل مس ذكر غيره أيضاً، وهل يشمل مس فرج امرأة أيضاً؟ والبحث في هذا الموضوع يتناول المس أو اللمس قصداً أو سهواً ببطن الكف أو بظاهرها من صغير أو من كبير من إنسان أو من حيوان كل ذلك يبحث في هذه المسألة تحت هذا العنوان. ساق المؤلف أولاً حديث طلق بن علي، وطلق بن علي هو: رجل من أهل اليمامة ورد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد البناية الثانية -أي: سنة سبع من الهجرة- بعد عودته من خيبر، وكانوا يبنون بالحجارة والطين، ومما جاء عنه أنه مر برجل من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله، وقال: أرني حتى أريك. فأخذ منه المسحاة وخلط خلطة جيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم يراه، فقال: (دعوا هذه لهذا، فإنه أعرف بها) وهنا يقال: هذا مجال التخصص، فهذا نوع من أنواع البناء والتجهيز فمن كان أتقن لعمل فهو أحق به؛ ولذا نجد التخصصات في مواد البناء أمراً عجيباً! حتى قيل: كان أكبر مهندسي الخرسانة معتقلاً في بعض المعتقلات، وعند بناء السد العالي استعصى عليهم مكان فاضطروا أن يخرجوه من المعتقل حتى ينفذ لهم هذا المكان ثم ردوه إلى معتقله. فالأعمال إذا كان هناك من هو ذو تخصص فيها فهو أولى بها، ونحن نجد الآن أنواع التخصصات الطب، وقد كان الطب طباً عاماً، الطبيب يداوي العين والأنف والمعدة والكبد والطحال والجرح وكل شيء، لكن الآن أصبح الطب قائماً على تخصصات، حتى الجراحة فيها تخصصات، فهناك جراحة خاصة بالقلب، وجراحة خاصة بالدماغ، وجراحة خاصة بالأنف والأذن، وجراحة خاصة بالعظام. إلخ، فمن دقة العلم وتوسع الاطلاع في المادة أصبحت هناك التخصصات، وصاحب التخصص في مجاله أولى من غيره. وكذلك وجد التخصص في العلوم الدينية: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن: (أفرضكم زيد) إذاً عنده تخصص في علم الفرائض، (وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، (وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ) ، وقال لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) فأصبح عندهم تخصصات علمية، فإذا أشكل على الصحابة شيء في موضوع من تلك المواضيع رجعوا إلى صاحب التخصص فيها وهكذا. وذكرنا ذلك لبيان تاريخ مجيء طلق بن علي، قالوا: إن طلقاً ورد على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في بادئ الأمر، والمرة الثانية: عند بناء المسجد، وروى حديث الوضوء مرتين، وهذا الحديث مروي عن قيس بن طلق عن أبيه: (أن أعرابياً جاء ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل: الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، أيعيد الوضوء؟ قال: لا، إنما هو بضعة منك) أي: وهذه البضعة مثل أي بضعة أخرى من أبضاع الجسم، فاليد بضعة، والأذن بضعة، والساعد بضعة، والساق بضعة. كل هذه قطع، والبضعة: القطعة. إذاً: مادام هو بضعة من الإنسان فهو كسائر أجزاء الجسم يمس بعضها بعضاً فلا وضوء، وفي هذا إشارة إلى القياس، وإشارة إلى إتباع الشيء المختلف فيه بالمتفق عليه. وبهذا أخذ من يقول: إن مس الذكر ليس ناقضاً. فإذا كان ليس ناقضاً فلماذا ذكر هذا الحديث في باب نواقض الوضوء؟ الجواب: هو أن المؤلف رحمه الله جمع هذا الكتاب -بلوغ المرام من أدلة الأحكام- فهناك من يقول: لا وضوء. وهناك من يقول: فيه الوضوء. إذاً: القولان متقابلان، فذكر دليل من يقول: لا ينقض، وسيأتي بدليل من يقول: نعم، ينقض، وقد تكلم المؤلف على هذا الحديث فنقل: أن ابن المديني -وهو إمام جليل في علم الحديث- قال: هو أحسن من حديث بسرة. وأين حديث بسرة هذا؟ يأتي به المؤلف مباشرة بعد حديث طلق ليبين طرفي الاستدلال عند من يقول: ينقض، وعند من يقول: لا ينقض. قال المؤلف رحمه الله: [وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب] . حديث بسرة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره) فخص المس بذكره المضاف إليه، إذاً: عموم الفرج ليس وارداً هنا، فقوله: (من مس ذكره) لا يتناول ذكر غيره، ولا يتناول فرج المرأة، ولا يتناول الدبر، لا يتناول إلا ما جاء النص فيه؛ ولذا فإن هناك من وقف عند هذا اللفظ وقال: لا ينقض الوضوء إلا إذا مس ذكره. وأما ما يتعلق بكيفية المس، فقالوا: أن يكون بغير حائل. كما جاء في حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينه وبينه حائل فليتوضأ) ويقول أحمد عن هذا الحديث: هو أحب إليّ من الجميع. ومن هنا توسع النطاق قليلاً فقوله: (من أفضى) تفيد العموم، فتشمل الرجال والنساء (أفضى) الإفضاء: الملاقاة (بيده إلى فرجه) والفرج يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة (فليتوضأ) إذاً: المرأة كذلك: إذا أفضت بيدها إلى فرجها فعليها الوضوء. وجاءت رواية أخرى بلفظ: (من أفضى بيده إلى فرجٍ) بالتنوين من دون إضافة، فقالوا: هذا شمل جميع أنواع هذا العضو، حتى قالوا: ولو من بهيمة، وحتى قالوا: من حي أو ميت؛ لأنه يصدق عليه أنه فرج. وخلاصة هذا البحث عند الجمهور: أنه قد جاء حديث طلق مرفوعاً: (إنما هو بضعة منك) وجاء حديث بسرة مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء) ، وجاء أيضاً عن أبي هريرة رواية أخرى مرفوعة: (من مس فرجه فليتوضأ) فجاءت الروايات بهذا، فقالوا: إن حديث طلق وإن قال ابن المديني عنه: هو أحسن من حديث بسرة. إلا أن البخاري قد صحح حديث بسرة، والشافعي قد عارض في صحة حديث طلق، وقال: إنما جاء من طريق قيس بن طلق، وسألنا عن قيس بن طلق هذا فلم نجد من يعرفه. والذين قالوا: لا وضوء منه، أخذوا بحديث طلق قالوا: حديث بسرة قال عنه البخاري: هو أصح شيء في الباب، فقيل: من أين أخذه؟ قالوا: إنه جاء من طريق مروان بن الحكم، فقد جاء في رواية تذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: من مس الفرج الوضوء. فقال أبي بن كعب: ما سمعنا بهذا! فقال مروان: أخبرتني بذلك بسرة. ثم أرسل مروان حرسياً له إلى بسرة فسألها، فرجع الحرسي وأخبرهم بما أخبر به مروان، فلما أنكر المنكر على مروان أرسل رسولاً إلى بسرة، ورجع الرسول بمصداق ما قال به مروان، فقالوا: هذا الحرسي لم نعرفه، فيكون في الحديث مجهول، ولكن يقولون: حديث بسرة قد جاء عن أربعة عشر صاحبياً، وقال به من الصحابة عمر وغيره، ومن التابعين مجاهد وعطاء، ومن الأئمة أحمد والشافعي، ولم يقل به أبو حنيفة. وهنا لما جاءت الأحاديث، التي شملت حديث طلق والذي يقول فيه ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة. وحديث بسرة يقول فيه البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب. والشافعي يقول: حديث طلق من طريق ولده قيس. وقد سألنا عن ولده قيس فلم نجد من يعرفه، فقالوا: تعارض الحديثان. وعند التعارض نرجع إلى النسخ، ثم إلى الجمع، فإن لم يكن فإلى الترجيح، وهذه الطرق الثلاث هي التي يعتمدها العلماء عند تعارض الأدلة، فبعضهم قال: نمضي إلى النسخ؛ لأن بسرة أسلمت في عام الفتح، وطلق بن علي وفد إلى النبي وهو يبني المسجد، وشارك في البناء، وكان سنة سبع، فيكون حديث بسرة ناسخاً لحديث طلق الذي فيه: (إنما هو بضعة منك) . والآخرون قالوا: لا نسخ، فـ طلق بنفسه قد رجع بعد تلك المرة التي كان فيها بناء المسجد وروى عن رسول الله حديث الوضوء. إذاً: يكون طلق بنفسه بروايته الأخيرة قد نسخ الأولى. والآخرون الذين يقولون: لا نسخ يقولون: نجمع بين الحديثين، فهذا يقول: لا وضوء. وهذا يقول: وضوء. يقول مالك رحمه الله: الأمر بالوضوء للندب؛ نظراً لحديث المنع. فأخذ قولاً وسطاً، ليس فيه القول بالإيجاب الناقض المبطل، وليس فيه القول بعدم المشروعية، وعنده: من مس فرجه بعد الوضوء ناسياً وصلى، فإن تذكر قبل خروج الوقت توضأ وأعاد الصلاة، وإن تذكر خروج وقت الصلاة فلا يعيد، ويتوضأ لما يستقبل. وهناك من ينقل عن مالك رحمه الله في الجمع: أن من مس فرجه بشهوة فليتوضأ، ومن مس فرجه بدون شهوة فلا وضو

خلاصة القول في الوضوء من مس الفرج

خلاصة القول في الوضوء من مس الفرج وهكذا تكون النتيجة: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يرى وضوءاً من مس الفرج، والشافعي وأحمد رحمهما الله يرون الوضوء من مس الفرج على العموم، ومالك وقف موقف التفصيل، فنقل عنه بأن الوضوء للندب وليس للإيجاب، وقول آخر ينقل عنه: أن الوضوء يجب إن وجد شهوة، ولا يجب ولا يندب إن لم يجد شهوة. وهذا حاصل الأقوال في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق. وعلماء الحديث يرجحون الوضوء؛ وجاء هذا القول عن بعض السلف المتأخرين، وكذلك عن بعض الصحابة، ومن ذلك ما جاء عن سعد بن أبي وقاص: أن غلاماً كان يمسك له المصحف وهو يقرأ، قال الغلام: فاحتككت، فقال لي: هل مسست فرجك؟ قلت: نعم، قال: فأخذ مني المصحف وقال: قم فتوضأ، أي: يتوضأ لحمل المصحف، فهذا عمل من صحابي يدل على أن المس يقتضي الوضوء. وكذلك روى سالم عن عبد الله بن عمر: أنه توضأ وصلى بعد أن طلعت الشمس، فقلت له: ما هذه الصلاة التي لم أكن أراك تفعلها؟ قال: توضأت ومسست فرجي، ونسيت -أي: أن أتوضأ- وصليت، فهأنا أتوضأ وأعيد الصلاة. فعند ابن عمر: لزوم إعادة الصلاة ولو خرج الوقت. وعلى هذا لما عمل بذلك ابن عمر، ونقل عن عمر، ونقل عن سعد بن أبي وقاص وغيرهم قالوا: إن هذا يرجح أن اللمس ناقض، وإذا كان هناك حديثان: أحدهما: يبقي على البراءة الأصلية، ولم يزد شيئاً، والآخر: ينقل عن البراءة الأصلية إلى تكليف جديد، فالناقل يكون أولى. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [4]

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [4] يجب على المرء المسلم أن يسلم لجميع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض على شيء من ذلك، ولا يسأل: ما هو السبب وما هي الحكمة في كذا؟ فإن الشرع كله حكم، ولكن قد تظهر له الحكمة فيزداد يقيناً، وقد لا تظهر له، فما على المسلم إلا التسليم والطاعة، وألا يجهد نفسه في معرفة ما خفي عليه من الحكمة والعلة، فإن ذلك قد يورده إلى الشك والحيرة والتكذيب، والعياذ بالله!

حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي

حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم) ] أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره. هذا الحديث من الأحاديث المشكلات، تقول فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي) وتشديد الياء في المذي غير سليم.

تعريف القيء والقلس

تعريف القيء والقلس فجاء في الحديث ذكر هذه الأربعة: القيء، والرعاف، والقلس، والمذي، أما المذي فقد تقدم الكلام عليه، وبقي ما هو القيء وما هو القلس؟ القيء: هو رجوع الطعام من داخل المعدة دهفاً، والقلس: هو رجوع بعض الماء أو السائل من أول المعدة، وليس من داخلها، ولذا القلس ليس فيه تغير الطعام، والقيء يتغير معه الطعام؛ لأنه جاء من داخل المعدة، وقد مر بعملية الهضم، وكما يقولون: هل عملية الهضم ميكانيكية أو كيميائية؟ بمعنى: هل المعدة تطحن الطعام كالرحى عندما تطحن الحب -فهذه ميكانيكية-؟ أو أن هناك مادة يفرزها الجسم إلى المعدة تذيب الطعام مثل حمض الكبريت أو الأسيت الذي إذا وضع على نبات يحرقه ويذيبه؟ قالوا يحصل الأمران معاً، فالمعدة فيها غدد تفرز مواداً تساعد على الهضم، والمعدة تتحرك فتهضم الطعام. فقالوا: إذا جاء الطعام من المعدة فقد نالته حركة المعدة الميكانيكية، واختلط بإفراز المعدة الكيميائي، فأصبح خارجاً عن حالة الطعام. هذا هو القيء، أما القلس فلا يصل إلى داخل المعدة، بل يرجع من أولها، وغالباً ما يكون من كثرة المياه عند الإنسان في نهاية الأكل، فإذا أكل وشرب ماء بكثرة لم يبق هناك محل للنفس، فإذا أراد أن يتنفس يطرد النفس السوائل التي في أول المعدة، فهذا هو القلس. فالحكم هنا هو: هو أن من أصابه القيء يتوضأ، ومن أصابه القلس يتوضأ.

تعريف الرعاف

تعريف الرعاف الرعاف هو: خروج الدم من الأنف خاصة، وهذا كما يقولون: قلّ من يسلم منه، خاصة في الحر وفورة الشباب ووفرة الدم، فيكون الرعاف كثيراً عند بعض الأشخاص خاصة في سن المراهقة لوفرة الدم، يقول الأطباء: إن منطقة الأنف يلتقي فيها اثنا عشر عرقاً مع الأعصاب لحساسية الدم، فأدنى احتقان في الأنف يأتي بالرعاف، ولذا من أنواع علاجه الكي، فتكوى تلك العروق لتنشف وتجف. وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه الرعاف. فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ، فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد: (الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض) . فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث، ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف. وذكر فيه أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما، أثر ابن عمر: أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي. وجاء عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع) . الإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه. وبعضهم يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه البغل كان يسك الدراهم لـ جعفر البرمكي أو لدولة العباسيين، وقيل: هو أقل من الكف. وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء. أما بقية الأئمة الثلاثة فلم يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله، واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ) والحجامة تخرج دماً كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس بناقض. والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي: بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة. إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره. فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا: بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض. والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل

حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) أخرجه مسلم] . في نهاية باب نواقض الوضوء، وقبل أن يتكلم المؤلف على أحكام أخرى غير أحكام الوضوء جاء بهذه المسألة، وهي من أشد المسائل خلافاً في نواقض الوضوء، وللناس فيها آراء متعددة، ألا وهي: الوضوء من لحوم الإبل. قوله: عن جابر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) . قوله: (رجلاً) نكرة، غير مسمى، وهذا لا يضر في الإسناد؛ لأن هذا النكرة سأل رسول الله، يعني: أنه مسلم رأى رسول الله، فهو صحابي، والصحابي لا يفتش عنه؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول؛ ولذا فإن المرسل إذا كان الذي لم يُسم فيه صحابياً فقط فإنه صحيح ويعمل به. قوله: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) ومقتضى هذا السؤال ما حاك عنده: هل هناك فارق بين لحم الإبل ولحم الغنم أو لا؟ أأتوضأ من لحوم الإبل؟ أأتوضأ من لحوم الغنم؟ فلما سأل عن لحوم الغنم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) بدل (نعم) أو (لا) أخذ منه العلماء جواز الوضوء للمتوضئ؛ لأنه إذا لم يكن متوضئاً فليس أمر الوضوء متروكاً إلى مشيئته، بل يتعين عليه أن يتوضأ؛ لأنه غير متوضئ، ولكن معنى السؤال: المتوضئ الذي يأكل لحم الغنم هل يتوضأ بسبب ذلك أو لا؟ فكان الجواب في حق لحوم الغنم: (إن شئت) يعني: إن شئت توضأت، وإن شئت اكتفيت بالوضوء الذي كان قبل أكلك لحم الغنم، وبالتالي يكون أكل لحم الغنم ليس ناقضاً للوضوء. قوله: (أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) هناك فرقٌ بين (نعم) وبين الجواب الذي يتضمن صيغة السؤال، وقوله (نعم) أي: توضأ من أكل لحوم الإبل. وهنا وجدنا فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل في أن الأولى لا توجب الوضوء، والثانية توجب الوضوء، وجاء حديث آخر عام بلفظ: (توضئوا -بصيغة الأمر- من لحوم الإبل) وجاء أيضاً: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) في هذا الحديث وذاك أمر منه صلى الله عليه وسلم بعدم المقارنة، فهذه بهيمة أنعام وتلك بهيمة أنعام، وكلاهما حلال الأكل، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل، ويخير الإنسان في الوضوء من لحوم الغنم، والنتيجة: أن لحوم الغنم ليست ناقضة، ولحوم الإبل ناقضة.

مشروعية الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيرها

مشروعية الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيرها قبل الدخول في التفصيل في أقوال الأئمة رحمهم الله نقول: هناك أشخاص دخلهم الشك، وأرادوا أن يشككوا غيرهم في التشريع الإسلامي، وأعداء الإسلام يتتبعون الشبه، يقولون: كيف يفرق الدين الإسلامي بين متماثلين، فهذا لحم وهذا لحم، وهذا ينقض وهذا لا ينقض؟! وهذا في حسبانهم تناقض، وكذلك قالوا في الحديث الآخر -حديث أبي السمح -: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) قالوا: كيف فرقتم بين بول البنت وبول الولد وهما متماثلان أي: قبل أن يأكلا الطعام؟! فنقول لهؤلاء: نحن أولاً وقبل كل شيء التزمنا باتباع رسول الله كما التزمنا بوحدانية الله، ولا يتم إسلام إنسان إلا بهذا الالتزام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أعلن أن "لا إله إلا الله" فإذا ما اعتقد ألوهية غير الله نقض "لا إله إلا الله"، وكذلك "محمد رسول الله" فإذا ما اتبع غير محمد نقض أن محمداً رسول الله، وإذا التزم بأن محمداً رسول الله الذي اعترف برسالته لزمه أن يأخذ كل ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ردّ شيئاً يكون قد نقض قوله: "محمد رسول الله". ونحن هنا نقول: لو أن إنساناً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق له بين المتماثلين، هل يملك أن يقول: لماذا يا رسول الله! فعلت ذلك؟ ولو أن رسول الله جاء إلى إنسان عنده، وأخذ رطبتين من طبق، وقال: هذه حلال لك فكلها، وهذه حرام عليك لا تأكلها. هل من حقه أن يقول: لماذا لا آكلها يا رسول الله؟! أو يتعين عليه ألا يأكلها؟ الجواب: يتعين عليه أن لا يأكلها ولو أكلها مع كونها رطباً جنياً لكان عاصياً، ولذا أجمع الأصوليون على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المباحة العادية، لو توجه إلى إنسان بعينه يصير فرضاً عينياً عليه، ولا يجزئ عنه إلا هو. وقالوا: لو ركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وسقط السوط من يده، وعنده عشرة أشخاص، وقال لواحد منهم: يا فلان! ناولني السوط. فهذا المسمى تعين عليه فرضاً عينياً كفرض الصلاة أن يناول السوط لرسول الله، ولا يحق له أن يقول: يا فلان! ناول رسول الله، أو أنت قريب من الناقة ناول رسول الله؛ لأن الأمر توجه إليه بشخصه. إذاً: لا يمكن أبداً لإنسان مسلم أن يحكِّم العقل في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ثبت الأمر من رسول الله فالعبرة حينئذ بالثبوت، ونحن نقول أيضاً: لو جاءك رسول الله بكأسين من الماء، وقال: اشرب هذا، ولا تشرب هذا. فهل تملك أنت أن تشرب الذي قال لك: لا تشربه؟ الجواب: لا تملك ذلك. فأقول: بهذه المناسبة، أنا أريد أن أطيل في هذه المسألة بالذات، لما فيها من الشبه، ولما فيها من توقف العقل: فهذا حدث وقع بين يدي أحد الملوك العرب في الجزيرة العربية: وهو أنه كان له وزير، وكان يتحرز منه، وكان الملك له أخت دونه في السن ذات عقل، وكانت تجالسه، ولما كبر وبلغ الستين كان يحضرها معه إلى المجلس؛ مخافة أن يكون منه خطأ أو زلل أو شيء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كنوع حراسة له من كيد الوزير. وحدث ذات مرة أن جاء الساقي بعدة كئوس للحاضرين -قد تكون عشرة- فيها شراب، وجاء بكأس واحد فارغ فوضعه أمام الملك، وجاء بزجاجة الشراب -وكانت مختومة- ففكها أمامهم وصب في الكأس الخالي وقدمه للملك، فإذا بأخته الفطنة حينما مد الملك يده إلى الكأس أمسكتها وقالت: لا تأخذها، فشرب الحاضرون من كئوسهم، ثم استدعت الطبيب وقالت له: انظر إلى هذا الشراب في هذا الكأس. فأخذه فبهت! لأن فيه سماً زعافاً، فقالت له: انظر إلى هذه الزجاجة التي صب منها، فأخذها وقال: لا شيء فيها. وهنا يأتي دور العقل! الزجاجة ليس فيها شيء، وفتحت وصب منها في كأس خال، وصار الشراب في الكأس سماً، فمن أين جاء السم؟ وهنا إما أن يقول: الزجاجة كانت خالية من السم، والكأس كانت خالية فلا سم فيحكم العقل ويكذب الطبيب فيشرب فيموت، وهذا بسبب تحكيم العقل، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم. وهنا تعجب الحاضرون! فسألها أخوها: كيف عرفت فيه السم؟ وكيف فطنتِ لذلك؟ قالت: لأن الساقي كان في السابق يأتي بالكئوس كلها مصبوبة ويبدأ باليمين، ويأتي إلى الملك فيأخذ إحدى الكئوس، وفي هذه المرة عين الكأس الذي سيشربه الملك، والكأس قد طلي بمادة سامة لا يظهر لونها، وهي شديدة الفاعلية، وفي النظر أنه زجاج صاف رائق لا شيء فيه، ولما صب الشراب على السم الذي صبغ ودهن في الكأس تحلل مع الشراب، وأصبح قاتلاً. وهذه واقعة وقعت فعلاً، ولا أريد أن أسمي البلد ولا الملك وهو معروف، فالعقل هنا يقول: الكأس أبيض صقيل نظيف، والزجاجة التي صب منها الشراب ليس فيها سم، إذاً: الإنسان بين أحد أمرين: إما أن يحكم العقل ويقول: الزجاجة سليمة، والكأس نظيف، فلا سم فيشرب، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم. وهكذا أيها الإخوة! فإن المسلم إذا سمع عن رسول الله خبراً ثابتاً -وهنا الحديث رواه مسلم، ولا مطعن فيه لأي مخلوق- فهو بين أحد أمرين: إما أن يقول: سمعاً وطاعة فيمتثل الأمر ولو لم يعلم ما وراء ذلك، وإما أن يحكم العقل وقد يورده المهالك، وقد وجدنا في الشرع الحكيم في نص القرآن الكريم أن الشيء الواحد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات ابتلاءً وامتحاناً، يقول سبحانه وتعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ويقول: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: الصيد حين الإحرام حرام، وبعد الانتهاء من الإحرام الصيد حلال، فهل تغير الصيد؟ وهل تغير الإنسان؟ الجواب: لا، فكيف حرم الصيد وهو أحل الحلال على المحرم الذي توجه إلى الله يلبي، وهو حلال للبدوي الذي يسوق البعير، أو للسائق الذي هو غير محرم، يغني في الهواء ويقتل الصيد ويأكل؟! بين سبحانه الحكمة من ذلك فقال: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] لماذا؟ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] إذاً: تحريم الصيد ليس شحاً بالصيد ولا امتهاناً للمحرم، ولكن ابتلاء، ليرى هل المحرم صادق في إحرامه، وصادق في إيمانه أو لا؟ وقد وجد هذا الامتحان في غير ذلك، ومن أمثلة ذلك قصة طالوت وجنوده الذين معه قال تعالى حاكياً قوله لجنوده: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] أي: نهر يجري، وقال: الذي يشرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده لماذا؟ الجواب: لأنه يريد أن يمتحن هؤلاء؛ لأنهم اعترضوا على تنصيبه ملكاً عليهم كما قال الله عنهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] لأن عندهم مقاييس متغايرة فقال الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وزاده مكونات الملك: العلم والجسم، العلم في العقل والتفكير والتدبير، والقوة في الجسم للتنفيذ، وهذه هي مقومات الملك. إذاً: الشرع يأتي بأمور معقولة قد يدرك العقل الحكمة من ورائها، وقد يأتي بما لا يدركه العقل -أي: أنه يتقاصر في قواه وإدراكه عما وراء ذلك- فإن كان الإنسان مؤمناً صادقاً فسيقول: سمعاً وطاعة. وهذه أيها الإخوة! مقدمة بين يدي هذا الحديث وهذه المسألة التي هي في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل) والتخيير في الوضوء من لحوم الغنم، فلا يقف العقل ويتطاول ويتساءل: لماذا فرق بين هذا وبين ذاك؟ بل نقول: إن لم تظهر لنا حكمة سكتنا وسلمنا ونحن على حق، وإن ظهرت لنا ازددنا إيماناً ويقيناً كما قال الله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .

اختلاف العلماء في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل

اختلاف العلماء في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل جميع علماء الحديث من أصحاب السنن الست وغيرهم متفقون على أن من أكل لحم الجزور يتوضأ، وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله: فـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله يقولون: لا يتوضأ؛ لأنه نسخ الوضوء من أكل لحم الإبل، ولم يقولوا: ليس بثابت، بل قالوا: نسخ. وأما أحمد رحمه الله فيقول بالوضوء من لحم الإبل، وهذا هو مشهور المذهب، وإن كان هناك عن أحمد رواية أخرى توافق الأئمة الثلاثة، ورواية ثالثة: أن من أكله عالماً بالنهي توضأ، ومن أكله جاهلاً بالنهي لا يتوضأ. وهذه مردودة عند متأخري أهل المذهب؛ لأن عندهم أن نواقض الوضوء لا تتوقف على العلم والجهل. إذاً: من الناحية الفقهية فالأئمة رحمهم الله: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون بعدم الوضوء، وأحمد رحمه الله المشهور في مذهبه الوضوء. إذا كان الأمر كذلك فهناك تفريعات في هذه المسألة: السائل سأل عن اللحوم، فيأتي عند من يقول بالوضوء من اللحوم، هل الحكم مناط باللحم فقط في مسماه، وفي حقيقته العرفية، أو أنه يتبع اللحم غير اللحم عرفاً؟ وهل اللبن -لبن الإبل- يتبع اللحم؟ وهل المرق الذي طبخ فيه اللحم يتبع اللحم؟ وهكذا هل يتبع اللحم الكرش، والكبد، والدماغ، واللسان، ولحم الرأس؟ يقولون: كل هذه أصبحت في العرف متميزة، بدليل أنك لو أمرت خادماً لك أو إنساناً أن يأتيك بكيلو جرام لحم إبل، وذهب وأتى لك بكرش كامل، فستقول له: يا أخي! أنا ما قلت لك: كرش، أنا قلت لك: أريد لحماً. فإن قال: هذا لحم! فستقول له: لا هذا ليس بلحم؛ لأنه قد أصبح العرف عند الناس أن اللحم في البعير غير الكرش، والكرش له اسم مستقل. ولو قال لك قائل: اذهب وائتني بلحم رأس. فذهبت وأتيت له بلحم فخذ، أو أتيت له بالسنام. فهذا كله لحم! لكنه لا يرضى بذلك، لما كانت أجزاء الحيوان لها أسماء عرفية عند الناس فهل يقتصر النقض على مسمى اللحم العرفي عند الناس أو يشمل جميع أجزاء الإبل؟ هناك من يقول: يشمل جميع أجزاء الإبل؛ لأن الله لما حرم لحم الخنزير شمل جميع أجزاء الخنزير. وهناك من يفرق ويقصر الحكم على مسمى اللحم فقط.

بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل

بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل وننتقل إلى القضية من حيث هي، ولا نقول: ما حقيقة الأمر؟ وما الحكمة والغرض من وراء ذلك؟ لا نقول ذلك؛ لأن هذا تحكم على الشارع، فقد تكون هناك حكمة غابت عنا لا ندركها ابتلاءً وامتحاناً؛ لأن التشريع كله ابتلاء كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1-2] إذاً: قد يكون الحكم ابتلاءً، وهنا لا نقول: الحكمة كذا، ولا نقول: الغرض وراء ذلك كذا، ولا السبب في هذا هو كذا؛ وإن كان بعض الفقهاء قد قال: الوضوء من لحوم الإبل إنما هو لشدة زهومته وزفره؛ لأنه أشد زهومة من لحم الغنم. فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء. والذي يمكن لإنسان متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) وهل النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان) يقول العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه، بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء. وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان) فخلقت من الشيطان، أو معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان. وإذا جئنا إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ذلك) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء) فإذا كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء. إذاً: هناك ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل. وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن. وأن. إلخ. ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل لماذا؟! فأجابوا وقالوا: إن الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة ولذا قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً، أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته، وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر، فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها، أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش. إذاً: فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة والإهانة. وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان: إن كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم. إذاً: نرجع ونقول: اللحوم وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة) فصاحب الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة. إذاً: هناك فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة -لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر: للحم خرمة. أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من الشيطان كان إطفاؤه بالماء. وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل. وبالله تعالى التوفيق.

حكم الغسل على من غسل ميتا والوضوء على من حمله

حكم الغسل على من غسّل ميتاً والوضوء على من حمله قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء] . هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء، والأئمة الأربعة لا يرون وجوب الغسل على من غسل ميتاً، ولا الوضوء على من حمله، وأما الحديث: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) فقالوا: على فرض صحته يكون هذا الغسل لا عن حدث، ولكن عما يمكن أن يكون قد وصل إليه من رذاذ الماء الذي يغسل به الميت، وعادة الميت في تلك الحالة أنه ربما كان فيه ما ينبغي تغسيله، فقالوا: يغتسل احتياطاً للنظافة والطهارة لا عن حدث تغسيل الميت. والقسم الثاني من الحديث: قوله: (ومن حمل ميتاً فليتوضأ) (من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا: (من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال ... ) فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر الله، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا: وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا يتوضأ؟ قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه بالوضوء من قبل. وجاء في تغسيل الميت في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله عنهما في وفاة أبي بكر كانت هي التي غسلته، ثم خرجت على الناس وقالت: لقد غسلت أبا بكر، واليوم شديد البرد، فهل ترون عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا. فهذا اتفاق من جميع الحاضرين بأنها لا غسل عليها من تغسيله، وعلى هذا -كما قال أحمد رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب شيء. إذاً: يكفينا عدم صحة الحديث، وهذا هو توجيه الحديث على افتراض أنه صحيح. وبالله تعالى التوفيق. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5]

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5] ذكر الله عز وجل من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا شرعه الله للإنسان ليزيد به من درجاته، ويثقل به موازينه، ولفضله جعله الله في كل وقت، وعلى أي حال، ليكون الإنسان قريب الصلة بربه، وجاء النهي عن ذكر الله في المواطن المستقبحة كقضاء الحاجة والجماع ونحوها، وما عدا ذلك فيذكر الإنسان ربه في كل وقت وحين، ولكن يستحب له عند الذكر أن يكون متوضئاً، وقد يجب عليه الوضوء عند الذكر في بعض الحالات.

حكم الطهارة للذكر

حكم الطهارة للذكر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم وعلقه البخاري] . جاء المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) والأحيان: جمع حين، وهو الوقت، كما تقول: حان حينه، أي: آن وقته. لما كان المنع من مس المصحف قد يوهم المنع من ذكر الله كذلك إلا لمتوضئ جاء المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليرفع هذا الوهم، وقد أجمع الجميع على أن ذكر الله من التسبيح والتحميد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار جائز لكل مسلم، ولو لم يكن متوضئاً، أي: ولو كان محدثاً. قوله: (يذكر الله) ذكر الله يدخل فيه تلاوة القرآن، ولكن تلاوة القرآن خرجت من عموم هذا الذكر بما سيأتي إن شاء الله في باب الغسل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) فإذا كان جنباً فلا، ولا حرفاً، فيستثنى من عموم: (يذكر الله) تلاوة القرآن لمن كان جنباً.

المواطن التي لا يصح فيها ذكر الله

المواطن التي لا يصح فيها ذكر الله وقولها رضي الله تعالى عنها: (على كل أحيانه) يقولون: هذا للغالب، كما في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] أي: أن الغالب عليهم أنهم يذكرون الله في كل لحظة، وقد خصص هذا العموم: (على كل أحيانه) بحالات ومواطن لا يصح فيها ذكر الله مطلقاً، منها: قضاء الحاجة، فلا يجوز لإنسان أن يذكر الله وهو يقضي حاجته في الخلاء أو إذا كان في داخل بيت الخلاء ولو لم يكن يقضي حاجته، وكذلك عند الجماع، فتلك حالات لا يجوز لإنسان أن يذكر الله في أثنائها، وأما قبل أن يتلبس بها فنعم؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل الخلاء -يعني: أراد الدخول- قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبْث -أو الخبُث- والخبائث) فالخبْث: جميع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، قيل: من الخبث وهو دون الخير، والخبُث الذين هم الشياطين، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عند إرادة دخول الخلاء بهذه الكلمات، أما إذا دخل فلا. بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا تغوط الرجلان فلا يحدث أحدهما الآخر) وسيأتي في باب آداب قضاء الحاجة: (إن الله يمقت على ذلك) . إذاً: منتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، وهذا الذي جعل المؤلف يسوق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في باب نواقض الوضوء.

مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجبا أو مستحبا

مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجباً أو مستحباً فالوضوء لذكر الله، ليس بواجب، ومنتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، ولكن يستحب له أن يتوضأ لذكر الله، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي فبال على سباطة قوم، فلقيه رجل في الطريق، فسلم على النبي، فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى حائط فتيمم عليه، ثم رد عليه السلام وقال: (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء، أو قال: على غير طهارة) ولهذا اتفقوا على أن الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجلس جلسة ذكر لله فيما بينه وبين الله أن يكون متوضئاً. ومن هنا قالوا: الوضوء تارةً يكون واجباً ترتبط به العبادة، وتارةً يكون مندوباً في ذاته، وتارةً يكون مندوباً لعبادة ليست واجبة، فهو واجب للعبادة الواجبة كالصلاة والطواف، وهذا بالاتفاق، وفي مس المصحف على خلاف -كما تقدم- ومندوب لذكر الله. وكذلك قالوا: يستحب الوضوء فيما يتعلق بالمعاشرة بين الزوجين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وجاء في بعض الروايات: (فإنه أنشط للعود) أي: أن الماء يعطي الجسم نشاطاً، وهناك أيضاً موطن آخر يستحب فيه الوضوء وهو: إذا أراد الجنب أن ينام قبل أن يغتسل، فقد جاء عند ابن ماجة أن الأولى له أن يتوضأ قبل أن ينام، وجاء في بعض الأخبار تهديد إذا لم يتوضأ ونام وهو جنب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أخشى إذا مات في نومه ألا يحضره جبريل) هكذا نص الحديث. إذاً: إذا واقع الرجل أهله وأراد أن يعود فعليه أن يتوضأ، وبهذا الوضوء يُلغز عند الفقهاء ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجماع؟ والجواب: هذا الوضوء هو الذي بين المعاودتين فلو أحدث حدثاً أصغر مما ينقض الوضوء فلا يحتاج إلى أن يتوضأ وضوءاً آخر؛ لأنه في الأصل ليس متطهراً - بل هو جنب- فإذا ما توضأ وهو جنب من الجماع الأول، وأراد أن يجامع مرة أخرى فتوضأ للوضوء، فلا نقول له: عليك أن تتوضأ مرة أخرى إذا أردت أن تعاود؛ لأن الوضوء موجود، وهذا الحدث لا ينقض الوضوء؛ لأن هذا الوضوء لا ينقض إلا بالجنابة، فإذا أراد أن يعاود مرة ثالثة عليه أن يتوضأ؛ لأن وضوءه قد انتقض بمواقعته أهله. وأيضاً يستحب الوضوء على الوضوء، وكما تقدم في حديث: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت) فجعل له المشيئة في أن يتوضأ وهو متوضئ؛ لأنه جاء يسأل عن نقض وضوئه من أكل لحم الغنم، فقال له: (إن شئت توضأت) يعني: توضأت على وضوئك الأول. وجاء في قصة الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الجنة سمع خشخشة نعلين أمامه، فقال: من هذا؟ قيل له: بلال. فلما نزل وسأل بلالاً وقال: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فقال بلال: ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به صلاة) . وهذه الصلاة هي التي يقولون عنها: سنة الوضوء، اللهم إلا إذا كان في الأوقات المنهي عنها، إذا أخذنا بقول الجمهور في أنه لا صلاة في الأوقات المنهي عنها، وأما الشافعي رحمه الله فعنده جواز صلاة ذوات الأسباب، واعتبر الوضوء من الأسباب التي تسوغ للإنسان أن يصلي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. والعامة يقولون: الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان على وضوء، وواجه ما يكره في طريقه أو اشتد عليه شيء، ودعا الله سبحانه، فإنه يكون على حالة حري أن يستجاب له فيها. والوضوء على الوضوء -كما قيل- نور على نور.

شرح حديث: (العين وكاء السه)

شرح حديث: (العين وكاء السه) قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) رواه أحمد والطبراني، وزاد: (ومن نام فليتوضأ) وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: (استطلق الوكاء) ، وفي كلا الإسنادين ضعف، ولـ أبي داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) وفي إسناده ضعف أيضاً] . قدم لنا المؤلف ما يتعلق بنقض الوضوء من النوم، وذكر فيه حديث أنس وفيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون أو ينعسون حتى تخفق رءوسهم) ، وقد تقدم هناك بحث النوم، وهل النوم ناقض بذاته أو أن النوم مظنة النقض؟ وأشرنا هناك إلى حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العينان وكاء السه) وكما يقول الشراح: كان من حسن الترتيب والربط أن يضيف المؤلف هذا الحديث إلى الحديث المتقدم هناك، أو يؤخر ذاك الحديث إلى آخر هذا الباب ويذكره عند هذا الحديث، يعني: من باب الجمع المتجانسين.

الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضا للوضوء

الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضاً للوضوء وقد تقدم لنا أن الجمهور يرون أن النوم مظنة النقض. ومتى يكون الحكم بالنقض؟ قلنا: إنهم اختلفوا في صور النوم: فقد ينام الإنسان جالساً، وينام مضطجعاً، وينام نوماً خفيفاً، وينام نوماً عميقاً، والفرق بين الخفيف وبين العميق، أنه إذا رأى المنامات، وكان لا يشعر بمن حوله، أو كان بيده شيء فسقط منه، أي: أنه استغرق حسه عما في يده فهذا عميق، وقد أشرنا إلى أن القاعدة في ذلك تدور على: تحقيق المناط في وجود النوم، وأنهم أجمعوا على أن غيبة العقل بأي سبب آخر سوى النوم ناقض، فلو كان إنسان يغمى عليه، أو إنسان يخدر، أو إنسان يحصل له إغماء بسبب السكري - عافانا الله وإياكم- فإذا غاب العقل بأي أمر مشروع أو غير مشروع من مرض أو صحة فإنه يتوضأ لغيبة العقل؛ لأنه في غيبة عقله قد يحدث حدثاً ولا يشعر به، فوجب عليه أن يتوضأ، ومن هنا كان النوم كذلك، إذا تيقن أنه قد نام فيجب عليه أن يتوضأ. وهذا الحديث يبين لنا أن النوم مظنة النقض وليس بناقض في ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مثل الجوف بالقربة، والقربة يكون فيها الماء موكأ بالخيط، فإذا كان فم القربة مربوطاً فلن يخرج منها ماء ولو دحرجتها على الأرض، لكن إذا انفك هذا الوكاء وانفك هذا الرباط خرج ما في القربة ولم يبق فيها شيء، فكذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم العينين بوكاء السه، وهذا من بديع التشبيه، ونظائر هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم والسه -كما تقدم-: اسم لحلقة الدبر، والريح إنما يخرج من الدبر، فإذا كانت العينان مفتوحتان فالقربة مربوطة، فلا يخرج شيء من السه لأنه مربوط موكأ، ووكاؤه في العينين، لكن إذا نامت العينان واسترخت الأعصاب انفك الوكاء، فيمكن أن يخرج من السه شيء وهو لا يشعر به؛ لأنه في نوم. ولذا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: من نام نوماً عميقاً وهو جالس، وكان متمكناً في جلسته، وحلقة الدبر مباشرة للأرض أو على عقبه، أو على رجله، وكان متأكداً من أنه لا يمكن أن تخرج منه ريح، فإن نومه لا ينقض الوضوء؛ لأنه إذا انفك وكاء العينين فهناك وكاء آخر وهكذا، وقوله: (العين وكاء السه) هذا في غير الأنبياء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا سابقاً- جاء عنه أنه صلى من الليل، ثم أوتر، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم قام لصلاة الصبح، فصلى ولم يتوضأ، فقالت له أم المؤمنين عائشة: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ قال: (يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فإذا استطلق وكاء العينين وجد وكاء القلب؛ لأنه ما دام القلب يقظاً لم ينم فإنه إذا حدث شيء يشعر بذلك ويدرك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يقوم من الليل فيتوضأ كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في مبيته عند خالته ميمونة؛ فذكر أنه نام على عرض الوسادة، فقام صلى الله عليه وسلم من الليل وذكر الله ومسح وجهه، وقام ودخل الخلاء، فقام ابن عباس وجاء بإداوة الماء ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج وجد الماء، قال: من وضع هذا؟ قالت له: الغلام - تعني: ابن عباس - قال: (اللهم! فقه في الدين) . فقيل لـ ابن عباس: لم وضعت الماء؟ قال: لأن الذي يدخل الخلاء ثم يخرج يحتاج إلى وضوء، فلابد أن يكون الماء جاهزاً. وهذا من الفقه والاستنباط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه الدين وعلمه التأويل) فتوضأ صلى الله عليه وسلم. إذاً: هو ينام صلى الله عليه وسلم، وفي نومه قد ينتقض الوضوء وقد لا ينتقض، فإذا ما انتقض الوضوء فإنه يدرك ذلك؛ لأن قلبه لا ينام، وجاء في بعض الروايات: (وهكذا الأنبياء) ومن هنا كانت منامات الأنبياء وحياً؛ بدليل قول الله عز وجل حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال لإسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ولم يقل له: افعل ما رأيت في المنام، بل قال: ((افعل ما تؤمر)) فاعتبر إسماعيل عليه السلام منام أبيه أمراً من الله، ولهذا فإن الشيطان لما جاء وقال: يا إبراهيم! تأن، أتذبح ولدك على رؤيا منام؟! انتظر حتى يأتيك الوحي جهاراً عياناً. أخذ إبراهيم الحصباء وحصبه، وقال: اخسأ يا لئيم! إنه أمر الله، ومن هنا شرع رمي الجمرات. فهنا إبراهيم عليه السلام اعتبر الرؤيا وحياً، وكذلك إسماعيل عليه السلام اعتبرها وحياً، وهكذا رؤيا الأنبياء. وعندنا درجة نازلة قليلاً: كان صلى الله عليه وسلم مدة تحنثه في الغار ستة أشهر، يرى الرؤيا فتأتي في النهار كفلق الصبح، يعني: إذا رأى بأن خمسة رجال مروا عليه يمر عليه خمسة لا ستة ولا أربعة، وهكذا، فجاء مثبتاً في رواية أخرى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: هذا التحديد الحسابي الهندسي: واحد من ستة وأربعين، لماذا ليس من ثمانية ولا من عشرين؟ قالوا: لأن مدة تحنثه صلى الله عليه وسلم في الغار بالنسبة إلى مجموع مدة الرسالة جزء من ستة وأربعين، وكان مدة تحنثه يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح؛ لأن مدة الرسالة ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة، ومدة التحنث كانت ستة أشهر، وستة أشهر نصف سنة، وأنصاف الثلاث والعشرين تكون ستة وأربعين نصفاً، ولذا كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يصلي الصبح يقول أحياناً: (أيكم رأى البارحة رؤيا؟ فكان من رأى رؤيا واستحسنها قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وقوله: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وهذا -كما تقدم- يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض؛ لأنه في تلك الحالة قد يحدث ولا يشعر بشيء. هناك جزئية صغيرة لم نتعرض لها هناك، وهي في قوله: (العين وكاء السه) يبحث العلماء في أن ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء، ومما يخرج الريح، والريح تخرج من الدبر، فلو خرجت الريح من القبل هل يكون خروجها ناقضاً للوضوء أو لا؟ فقالوا: القُبُل ليس موضعاً للريح؛ لأن الريح غازات تفاعلت في المعدة وخرجت عن طريق القولون وعن طريق السه، لكن القُبُل متصل بالمثانة، والمثانة عبارة عن كيس لا تتصل بالمعدة في تفاعل ولا في شيء، فقال بعضهم: الريح من القُبُل لا عبرة بها، وقال بعضهم: إن كان من المرأة فهو ناقض، وإن كان من الرجل فلا؛ لصلة قُبل المرأة بالرحم وكذا. إلخ، والجمهور على أنه ليس له اعتبار؛ لأنه غير متصل بالجوف. والشافعية لهم تفصيلات عديدة في هذا. والله تعالى أعلم.

الحجامة وأحكامها

الحجامة وأحكامها قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ) أخرجه الدارقطني ولينه] . تقدم الحديث: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ) والرعاف هو: خروج دم من الجسم من غير موضع السبيلين؛ لأن ما خرج من السبيلين ولو دم كدم الاستحاضة -وقد تقدم الحديث في المستحاضة في أول الباب- فإنه يكون ناقضاً للوضوء لأنه خارج من السبيلين وهنا يبين أحكام الدم الخارج من غير السبيلين.

تعريف الحجامة وأنواعها

تعريف الحجامة وأنواعها قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم) الحجامة هي: إخراج الدم من الجلد من غير السبيلين، وكما يقولون: هناك الحجامة وهناك الفصد، والحجامة تكون على قسمين: حجامة سائلة، وحجامة جافة. والحجامة الجافة تكون بإخراج الهواء، وكيفيتها عندهم: إذا كان هناك ما يسمى بالروماتيزم أو بالالتهاب العضلي أو نحو ذلك فإنه يؤتى بوعاء مثل الكأس الكبير، ويؤتى بشعلة نار فتوضع على قطعة من العجين أو على شيء يثبت على العضو الذي فيه الألم ويكفأ الإناء على هذه الشعلة متمكناً من الجلد، فإن من طبيعة الشعلة أن تحرق الأكسجين الموجود في تجويف الكأس، وعند احتراقها تتطلب هواء، والكأس ليس فيه هواء، فيخرج الهواء من داخل الجسم بسبب جاذبية الشعلة، فإذا كان هناك رطوبة أو هواء أو برودة في الجسم جذبتها تلك الشعلة ثم تنطفئ لعدم وجود الأكسجين؛ لأن النار لا تشتعل بغير أكسجين، فهذه هي التي تسمى (حجامة جافة) . والحجامة السائلة: تكون بإخراج الدم الزائد أو الدم الفاسد من الجسم، وهذا له أهل اختصاص يفعلونه، ويخرجون الدم من الجلد؛ وذلك بتشريط الجلد تشريطاً خفيفاً أقل من الملليمتر، أي: بمجرد جرح سطح الجلد، ثم يوضع الكأس مكان التشريط ويجذب بأي وسيلة من الوسائل، فيسحب الدم من الجلد ويخرجه إلى الخارج، وهذه هي الحجامة السائلة. والفصد: هو أن يعمد إلى العرق بالذات ويقطعه، فيخرج الدم نافراً من ذلك العرق. والفصد والحجامة معروفان عند العرب من القدم، فقد كانوا يستعملون الحجامة للتداوي، ويستعملون الفصد للأكل، فكانوا يأتون إلى البعير أو إلى الثور ويقطعون عرقاً نابضاً في جسمه، فيسكب الدم، فيتلقونه في إناء، ثم بعد ذلك يحمُّون التراب ويصبون هذا الدم في ملة التراب فيجمد ثم يأكلونه، أو يأتون بالجزور الذي ذبح، ويصبون هذا الدم في أمعاء الذبيحة، ويدفنونها في الملة، فيجمد الدم داخل الأمعاء فيأكلونه، هذا هو الفصد، وأما استعمال الدم وأكله فقد جاء الإسلام ونهى عنه. فالحجامة نوع من أنواع العلاج، وقد أطال ابن القيم رحمه الله وغيره في إيراد النصوص التي جاءت بالتداوي بالحجامة، ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في التداوي بها قوله: (لو أن دواءً يصل الداء لوصلته الحجامة) يعني: لو أن دواءً يصل الداء بذاته لقوة فاعليته لوصلته الحجامة، وقال: (احتجموا لا يضير بكم الدم) أي: لا يهلككم الدم.

أوقات الحجامة ومواضعها

أوقات الحجامة ومواضعها ولأهل العلم والاختصاص مباحث تتعلق بالحجامة: متى تكون الحجامة؟ فهم ينهون عنها في الأيام البيض أيام المد والجزر، وينهون عنها من كان عمره دون السابعة عشر، وينهون عنها من كان فوق الستين، وهذا النهي عند الفقهاء بالذات هو الذي يعمل به الأطباء الآن في نقل الدم من إنسان إلى إنسان فإنهم لا يأخذون دماً من إنسان عمره دون السابعة عشر، ولا يأخذون دماً من إنسان تجاوز عمره الخمسين أو الأربعين، ولهم في ذلك حد أيضاً، ولا يعطون إنساناً دماً على فترتين متواليتين ليس بينهما ستة أشهر على الأقل، ولا يعطون إنساناً دماً أكثر من خمسمائة ملليلتراً في المرة الواحدة. فإذاً: أخذ الدم والحجامة شيء واحد ولكن مع الفرق في بعض الأشياء، فأخذ الدم من العرق من باب الفصد، وأما الحجامة فهي: أخذ الدم من الجلد، والدم الذي يخرج بالحجامة غالباً لا يصلح للنقل إلى المريض، فغالباً ما يكون فيه فساد، وغالباً ما يكون لونه أسود. إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها من يتعاطى هذه المهنة وله خبرة فيها. وكذلك لهم مباحث في أيام الأسبوع: فمنهم من يمنع الحجامة في يوم الأربعاء. وأما المواضع التي يحجم فيها: فيُحجم في الرقبة، ويحجم على الفخذ، وبين الكتفين في أي موضع، وفي الرأس، وإذا فرط الحاجم فقد يضر بالمحجوم. وجاء فيما يتعلق بالصيام: هل الحجامة تفطر الصائم أو لا؟ والحجامة قد أخذت حيزاً لو أفردت ببحث لكان بحثاً كافياً. وهنا جاءنا المؤلف بغرض واحد وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلى ولم يتوضأ، وما زاد على أن غسل مواضع الحجامة أو غسل محاجمه) ، يعني: مواضع الكأس أو القرن الذي يشفط به، وهذا دليل على أن هذا دم خارج من الجسم وهو كثير، ولم ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم به. إذاً: ما تقدم هناك من ذكر القيء وذكر القلس وذكر الرعاف هو محل البحث عندهم، وتقدم أن عرفنا أن الحديث في ذلك ضعيف. والمؤلف رحمه الله تعالى ساق ذاك الحديث أولاً ليبين لنا دليل من يقول بأن الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض، ثم بين أن دليل هذا حديث ذو سند ضعيف، ثم ساق هنا حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ) ؛ ليبين دليل من يقول: إن الخارج الفاحش النجس من الجسم من غير السبيلين ليس بناقض. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته) الحديث

شرح حديث: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته) الحديث قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه البزار، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت. فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) ] . قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) أي: سواءً كان في المسجد أو في البيت. قوله: (فينفخ في مقعدته) والمقعدة: موضع الحدث. قوله: (فيخيل إليه) أي: من نفخة الشيطان يخيل إليه أنه أحدث، والحال في الحقيقة أنه لم يحدث، ولكنه تخييل من الشيطان. قوله: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف) فإذا وجد ذلك التخييل من الشيطان فلا ينصرف؛ لأنه في صلاة. وقد تقدم نظير هذا الحديث وهو حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهنا قال: (يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه) فالإشكال والتخييل سواء، فكأن الحديث الذي هنا يناسب أن يكون مربوطاً مع الحديث الأول، ولكن المؤلف له رأيه في هذا، والله تعالى أعلم. ويبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتابع الإنسان من أجل إبطال عبادته إلى أقصى حد، فهو أولاً: أراد أن يمنعه من الصلاة، فسمع الأذان واستحيا أن يترك الصلاة، فمشى ملبياً -حي على الصلاة- فإذا جاء ليتوضأ شككه في الوضوء، وجاء له بالوسواس كما في الحديث: (إن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان) فتغلب عليه وتوضأ، فإذا دخل إلى المسجد، لم يستطع أن ينطق (الله أكبر) وذلك بسبب وسوسة الشيطان، فلما دخل في الصلاة ما بقيت لدى الشيطان إلا الفرصة الأخيرة، فيأتي وينفخ في مقعدته ليخيل إليه أنه أحدث، فلو أخذ بهذا التخييل فسينصرف ليتوضأ، وسيعيد الكرة وينفخ فيه مرة أخرى، وهكذا حتى لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة، ومن هنا بين صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيل له بسبب هذا النفخ أنه أحدث، والحقيقة أنه لم يحدث، فماذا يفعل؟ قال: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف) أي: فلا ينصرف من صلاته، وليبق على صلاته وعلى يقينه بالطهارة وليبق على اليقين الذي هو عليه، فمجيئه من بيته إلى المسجد، وقيامه في الصف، كل هذا يدل يقيناً على أنه متوضئ، وهذا التخييل الذي طرأ عليه إنما هو من الشك، والشك لا يلغي اليقين السابق، أو اليقين لا يلغى بهذا الشك الطارئ عليه. قوله: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا كما تقدم هناك إذا شك هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً. وتحقيق الأمر في (يسمع) أو (يجد) : لو أنه أصم لا يسمع، ولو أنه مزكوم لا يشم شيئاً فهل يتوقف الأمر على هذا حتى يتعافى من الزكام، وحتى يعالج من الصمم؟ الجواب: لا وإنما هذا خرج مخرج الغالب، والغرض أن يكون عنده يقين فعلاً بأنه قد أحدث، أما مجرد التخييل فلا. وقوله: وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت. فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) . هذه إعادة للحديث مرة أخرى، وزيادة توكيد و (أشكل عليه) أو (خيل إليه) أي: بسبب نفخ الشيطان، فليقل له: كذبت، أنا ما أحدثت. ولكن هل يقولها بصوت يسمع أو يقولها في نفسه؟ جاءت الزيادة تبين ذلك: (فليقل ذلك في نفسه) ليؤكد عند نفسه أنه لم يحدث، وأن الشيطان كاذب في ادعائه، وأنه على يقين من طهارته. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [1]

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [1] يعلم الإسلام أبناءه مكارم الأخلاق، والتنزه عن النجاسات، وتنزيه ما يستحق التعظيم عن ذلك ومما أرشد إليه هذا الدين الحنيف كيفية قضاء الحاجة والأماكن التي تقضى فيها.

حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء

حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) أخرجه الأربعة، وهو معلول] . أنس رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث لأنه كان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه ملازمه في بيته، فهو أدرى بتلك الأمور الداخلية، فليس كل الناس سيحضرون دخوله صلى الله عليه وسلم الخلاء، وهنا لما كان أنس هو الذي يرويه -وأنس خادمه في بيته- يكون ذلك قرينة على أن هذا خلاء البيت. وتذكر كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده بيت خلاء فيما بين حجرة عائشة وحجرة فاطمة، وكان يقضي حاجته فيه، وقيل: فوق السطوح إلى غير ذلك، والصحيح أنه كان أسفل ما بين حجرة عائشة وفاطمة داخل الحاجز الحديدي الأخضر الموجود الآن، وكان يقضي فيه حاجته. وكانوا العرب قبل ذلك تأنف أن تبني مراحيض أو تقضي الحاجة محل السكنى، وكانت تأخذ المناصع -كما يقال- وهو الخلاء البعيد عن البيوت، وإلى الآن ربما يوجد في بعض القرى في بعض البلاد الإسلامية أنهم يستقذرون أو يستبعدون أو يتحرجون أن يجعلوا بيوت خلاء في داخل البيوت، ويذهبون ويخرجون فيقضون حوائجهم في الخلاء، ثم اتخذت بيوت الخلاء في البيوت حفاظاً على القعود والتكشف وغير ذلك.

نزع كل ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء

نزع كل ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء فـ أنس يروي لنا من صور آداب الخلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، ولفظه (كان) تدل على التكرار. (وإذا دخل) المراد بـ (دخل) : أراد الدخول؛ لا أنه إذا دخل بالفعل، والمراد أن ينزع الخاتم، وسبب نزع الخاتم أنه منقوش عليه "محمد رسول الله" ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر، فلو حملنا (إذا دخل نزع) على ظاهر لاقتضى إدخال هذا الذكر الذي فيه لفظ الجلالة بيت الخلاء، ولهذا قلنا: إن معنى (كان إذا دخل) أي: إذا أراد أن يدخل، وكما يقول المالكية: ما قارب الشيء فإنه يعطى حكمه، وفي القرآن الكريم {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، فكذلك هنا: إذا أراد خول الخلاء. قال: (نزع خاتمه) . أول ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الخاتم كان يلبس خاتم الفضة، وكان له فص من العقيق، فلما أراد أن يراسل الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، قالوا له: يا رسول الله! إن الملوك لا تقبل خطاباً إلا إذا كان مختوماً بختم المرسل، أي: حتى يكون رسمياً كختم الدائرة أو ختم الدولة، فترك الخواتيم التي هي مزينة بفص العقيق -وهو فص من الأحجار الكريمة- والناس يتخذون الآن العقيق والفيروز والزمرد وغيرها من باب الحلية ومن باب الزينة، ويذكرون خواص في هذه الأشياء الله أعلم بحقائقها. فترك الخاتم الذي فيه فص العقيق، واتخذ خاتماً من فضة ونقش على فصه محل الحجر، فجعله مربعاً أو مستديراً أملس، وحفر فيه نقش "محمد رسول الله". قالوا: كان صفة النقش أن لفظ الجلالة في الوسط، ولفظ "محمد" ولفظ "رسول" في الطرفين، ومهما يكن من شيء ففيه لفظ "محمد" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الرسالة، وفيه لفظ الجلالة. وهنا أخذ العلماء ضرورة تنزيه ما فيه ذكر الله عن مواطن الخبث: فإذا دخل ونسي الخاتم أن ينزعه فماذا يفعل؟ قالوا: إن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من الباب بعيد عن الأقذار فعل، فينزعه ويجعله في فيه ويطبق شفتيه عليه، حتى يكون في حجاب عن مواجهة الأقذار، ولا مانع من ذلك. وإن لم يمكن أن ينزعه، وصعب عليه أن يخلع الخاتم، كأن تطول مدة الخاتم في يده ويصبح الخاتم ضيقاً فيحتاج في نزعه إلى مجهود أو آلام، قالوا: يدير الفص إلى داخل الكف ويطبق الكف عليه، فيصبح اسم الله أو ذكر الله محفوظاً بداخل الكف لا معرضاً لمواجهة الأقذار؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في محله عارياً عن ستر، ربما مع استعمال الماء أو مع أي شيء يحصل هناك رذاذ من تلك المياه الموجودة، فتصل النجاسة إلى ما فيه ذكر الله، فيقع المحظور. وقياساً على الذكر الموجود في الخاتم يشمل الحكم كل ما فيه ذكر الله، سواء كان خاتماً، أو كان حلية، أو كان قرطاساً، أو كان جهازاً أو آلة، فمهما يكن من شيء يشتمل على ذكر الله فإنه يجب تنزيهه عن بيت الخلاء، فإن تذكر قبل الدخول فبها ونعمت، وإن لم يتذكر فعليه أن يحتاط، فإن استطاع أن يبعده وهو على جلسته فعل، وإن لم يحتط فعليه بإخفائه عن مواجهة النجاسات، قالوا: حتى لو يضعه في عمامته، وذلك عندما كان الناس يلبسون العمائم. وعلى هذا فالأمور تختلف من حيث هي، فـ مالك رحمه الله يكره إدخال شيء مكتوب بالعربية ولو لم يكن فيه ذكر الله، لو أن هناك كتاب هندسة -زوايا وأضلاع ومقاييس موجودة- أو أشكال هندسية يعبر عنها بكلام عربي قال: لا ينبغي إدخالها ولا التمسح بها ولو لم يكن فيها ذكر الله؛ لأن تلك الكلمات والحروف عربية، والقرآن الكريم إنما هو بلسان عربي نطقاً وكتابة، فتحترم الحروف التي بها كتب القرآن الكريم عن تلك الأماكن. أما اللغات غير العربية فإنه إن وجد فيها ما تعرف ترجمته بذكر الله فهي تأخذ حكم العربية؛ للمعنى الذي تحمله، كما قيل: الألفاظ قوالب المعاني، أما إذا كان بلغة غير عربية، وليس فيها ذكر الله فهذه لا قيمة لها، كنقوش ليس لها حرمة.

حرمة دخول الخلاء بالمصحف

حرمة دخول الخلاء بالمصحف من هنا نعلم يقيناً بأن أشد ما يكون في هذا الباب التجرؤ في الدخول بالمصحف الشريف إلى بيت الخلاء، ولو تطور وأصبح معطراً ومرخماً وو إلخ كما يتصور بعض الناس، وسبق أن نبهت على ذلك. وقد سأل بعض الطلاب في الفصل وقال: شريط (كاسيت) مسجل وليس فيه حروف، هل يكون له حرمة القرآن المكتوب بالأحرف في أوراق؟ فقلت: نعم؛ لأنه يحمل في طياته القرآن الكريم، وكما قيل: (النار كامنة في الحجر) فإذا قدحت به الزند خرجت النار، وكذلك هنا المعنى والصوت موجود في هذا الشريط، وملصق على المادة المغناطيسية على هذا الحديد بأمور فنية لا ندركها، وهي تمسك هذا القول على الشريط كما يمسك على القالب الشمعي الذي يسمى الأسطوانات إلى غير ذلك، فمعناه أن القرآن موجود، وإن كنا بحواسنا العادية لا نستطيع أن ندركه لا بالسماع ولا بالرؤية، لكن إذا وضع في جهازه أخرج لنا هذا الصوت وسمعناه طبق ما قرأه القارئ وسجل عليه. كذلك الرؤية: إذا أدخل شريط فيه صور، فعرض على جهاز يخرجه ويبرزه، فرأينا الصورة وسمعنا القول، فإنه يأخذ حكم المصحف. فإذا بإنسان -ما أدري هو يتمدح بهذا أو يتطاول أو يتجاهل- يخرج مصحفاً في جيبه على سحَّاب ويقول: أنا أدخل بهذا الخلاء! فقلت له: ماذا أفعل إذا حرمك الله توقير كتاب الله؟! وهذا من المؤسف! فإذا به يتمادى ويقول: بيت الخلاء اليوم ليس كبيت الخلاء في القديم، أصبح الآن مرخماً ومعطراً ونظيفاً وكذا قلت: مرحباً حياك الله، لو وضع لك الغداء اليوم في بيت خلاء منظف من أحسن ما تحب، رخامه أبيض، وهو مطيب، وكل الخبز مثلما تشاء، وتفضل هناك الغداء. قال: كيف يصير هذا؟! قلت: عجيب أنت لست أفضل من كتاب الله. فيا إخوان: يؤسفني أن أورد مثل هذا، لكن حيث وجد بالفعل شباب مسلم ينتمي لكل معاني الإسلام، ويخرج المصحف من جيبه، مما يدل على أنه حريص ومكثر من التلاوة، والله أعلم بأمره، لكنه يقول: أنا أدخل بهذا بيت الخلاء فحذارِ يا إخوة! أما من الناحية الفقهية فنجد المسائل إذا استجد لها صور عن الماضي ربما تدخل العقل والفكر، نجد بعض العلماء يذكر ما إذا كان يخشى ضياع المصحف قبل الدخول؛ ولذا تجدون أنتم في سبل السلام: أنه لا يجوز الدخول إلا عند الضرورة، وذلك بأن يخشى ضياعه. يا سبحان الله! والله لأن يضيع ألف مرة، أو يأخذه كافر ليس مسلماً ولا أدخل به بيت الخلاء! إذا أخذه إنسان مسلم أقل ما يفعله أنه سيقرأ فيه أو سيحطه في الرف، أو سيبيعه ويأكل ثمنه، وهذا أولى من أن ندخل بكلام رب العالمين بيت الخلاء. قال تعالى:: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:75-80] إذاً: نتساهل نحن وندخل المصحف أو ما في معنى المصحف ولو أوراقاً صغيرة وفيها ألفاظ من القرآن أو نحو ذلك! لا ينبغي أبداً. ثم ما وجدنا بيت خلاء خالياً من الناس؛ لأنه لا يكون الخلاء إلا في العمران، فأودعه عند إنسان خارج عن دورة المياه، فهناك دكان! أو إنسان جالس! أو شخص في الخارج ينتظرك! فتقول له: خذ هذا معك حتى أخرج، فإذا خرجت أخذته منه ودخل هو، إذاً: الإنسان يحتاط. أما ما نجده من بعض الأوجه والاجتهادات والآراء، ويقولون: حفظ المال واجب، وضياع الأموال ممنوع ومحرم، كل ذلك قد يقال في غير القرآن الكريم. والله تعالى أعلم.

الحمامات العامة حكمها حكم بيوت الخلاء

الحمامات العامة حكمها حكم بيوت الخلاء كذلك يلحق ببيت الخلاء الحمامات العامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها تحضرها الشياطين، وهي من المحلات التي لا ينبغي دخولها إلا لضرورة العلاج أو عدم وجود أماكن أخرى يستطيع أن يغتسل فيها، فلا ينبغي أن يدخل أيضاً المصحف في الحمام، اللهم إلا إذا كان للحمام إدارة -مكتب- فتضع ثيابك وتضع المصحف هناك، فلا بأس في ذلك. لكن في مواجهة المغاسل أو المغطس أو الأماكن التي تكشف فيه العورات هذا منهي عنه، فإذا كان منهياً عن كشف العورات في الحمامات، وبسببها جاء النهي عنها إلا للضرورة، فلا ينبغي أن يعرض إليها أيضاً المصحف الشريف أو الأحاديث النبوية الشريفة. وكما نبعد وننزه ما فيه ذكر الله عن تلك الأماكن، فإن الإنسان كذلك لا ينبغي أن يدخلها إلا وقت الاضطرار، ولا يأتي إليها -كما قيل- إلا للحاجة التي دفعته إليها، ولولا الحاجة ما دخل هناك.

الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء

الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء [وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أخرجه السبعة] . الأدب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول أيضاً، قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبْث) بالتسكين أو (من الخُبُث) بضم الباء، فالخبْث: بالتسكين جمع خبيث، ويشمل الجمادات كخبائث الطعام، وخبائث الماديات، والأشغال النتنة والقبيحة، والخبُث: جميع خبيث، وهم شياطين ومردة الجن، والخبائث: جمع خبيثة، فذكران الشياطين الخبُث، وإناث الشياطين خبائث. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم) يقول علماء العربية: (الميم) في (اللهم) عوضاً عن الياء في أول الكلمة، أصلها: يا ألله، فالأصل أن يؤتى بحرف النداء في الأول، فإذا لم يأت حرف النداء جاءت الميم في الآخر (اللهم) . (إني أعوذ) قالوا: أعوذ وألوذ بمعنى أحتمي، والاستعاذة: هي الاستجارة والحماية والاحتماء بمن تستعيذ به، وعندنا صيغة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهنا يستعيذ صلى الله عليه وسلم بالله من هذا الصنف من خبائث الجن ذكوراً وإناثاً؛ لأنه لا يعيذ الإنسان منها إلا الله، وبالاستعاذة بالله تكفي شرها؛ ولهذا كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: علمنا الله كيف نصانع أعداء الإنس ونتحفظ من أعداء الجن في الآية الكريمة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] السيئة ستأتي من العدو: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فيقول: إذا كنت تريد أن تكتفي شر عدو الإنس فقابل إساءته بالإحسان. وأظن أنه قيل لواحد واسمه شكسبير: نراك تصانع أعداءك، أهذا ضعف منك؟ قال: لا، أترونني حينما أصانعهم أكتفي شرهم أم لا؟ قالوا: بلى. قال: هذا خير من أن أجاهدهم وأواجههم. والقرآن الكريم يبين لنا بأنه لا تستوي الحسنة منك ولا السيئة من عدوك، فادفع سيئة العدو بالتي هي أحسن منك تكتفي شره، فإذا هذا العدو المعادي لك كأنه ولي حميم. ولكن لا ينالها كل أحد ينالها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فهذا الجانب هو الاكتفاء من شر عدو الإنس. والجانب الثاني: الاكتفاء من عدو الجن، وهو يأتي بعد ذلك مباشرة: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:36] فهنا عدو الجن لا تستطيع أن تصانعه، ولا أن تدفع سيئته بأن تحسن إليه، ولا تراه ولا تستطيع أن تعامله معاملة الإنسي، فليس لك مفر ولا مهرب منه ولا سلامة من كيده وشره إلا أن تستعيذ بالله منه؛ لأنه الأقدر عليه والأعلم بحاله. وهنا: (اللهم إني أعوذ بك) : أي: ألوذ بك، وأحتمي بك. (من الخبُث والخبائث) ، أي: من ذكران الشياطين المتمردة ومن إناثهم. إذاً: الشياطين فيهم ذكور وإناث، وفيهم تزاوج وتناسل، وفيهم تكاتف، وهذا كما جاءت الأخبار في ذلك مستفيضة. وعلى هذا: لماذا يقول ذلك عند دخول الخلاء ولم يقل ذلك حينما يأوي إلى فراشه لينام، ولم يقل ذلك حينما يريد أن يأكل أو يلبس ثيابه؟ قالوا: لأن بيوت الخلاء هي مسكن هؤلاء الأشرار (الخبث والخبائث) أما الصالحون الذين لا يتمردون فلا يسكنون بيوت الخلاء، ولا يأوون إلى محلات النجاسات، ولكن: إما أن يسكنوا في البيوت الخربة، أو في بعض الآبار وخاصة المهجورة، أو حتى الآبار المستعملة.

قصص واقعية للجن مع الإنس

قصص واقعية للجن مع الإنس ومن غريب ما سمعت من أحد الأشخاص، سمى لي بيتاً -وأنا أعرفه وهو موجود- كان هذا البيت موجوداً إلى عهد قريب بجوار مبنى البريد الآلي الموجود، وأنتم تعرفون أن المدينة ليلة العيد يكون فيها حركة، فالنساء تغسل البيوت وتهيئ الفراش، والرجال في الأسواق يشترون، وفي حركة دائمة، فيذكر لي أناس من نفس هذا البيت، أنهم طوال الليل، وهم يسحبون الماء من البئر ويغسلون الحجر والبيت، فإذا هم يسمعون صوتاً من داخل البئر: يا جماعة! ألا تنامون! طلع الفجر ونحن نريد أن ننام، فالبنت قالت: نطلع دلوين فقط ونغلق. وقالت: نحن متعودون على ذلك من زمان يكلمونا ونكلمهم! ثم يحدثني رجل أنه كانت هناك زمالة وصداقة بين عمه وبين الجن وذهاب وإياب، فيقول: قال لي عمي: اجلس عند النافذة -وكان عمه يعمل في جمع المصاحف وتوزيعها في الروضة، ويعطيها الناس ليقرءوا فيها يوم الجمعة، وبعد أن يذهب الناس يجمعها ويرتبها في مكانها- حتى إذا دق الباب فتحت، يقول: كنت صغيراً ولم أكن كبيراً جداً، قال: وبينما أنا جالس أسمع الأذان فقبل أن ينتهي المؤذن من الأذان سمعت حركة في البئر، فقلت: ربما أنا أتخيل أو أن هذه حركة عند الجيران، وبينما أنا جالس عند النافذة إذ بي أسمع خفق نعال على الدرج كأن إنساناً لابس (قبقاباً) ويمشي في الحجر. قال: فتجمدت في مكاني! ثم نظرت فإذا بالباب ينفتح ثم يغلق! وبعد أن انتهى الإمام من خطبته وصلاته وقال: السلام عليكم، فما هي إلا لحظات وإذا بالباب ينفتح ثم يغلق، يقول: ثم جاء عمي فدق الباب، يقول: خذ المفتاح وافتح. لماذا لا تنزل؟ قلت: أنا لن أنزل، افتح أنت واصعد، فلما فتح الباب وصعد أراد أن يضربني، قلت له: اصبر اصبر فذكرت له القصة فضحك، يقول: أنا أحترق في نفسي وهو يضحك. ثم قلت: يا عم! لماذا تضحك؟ يقول: هؤلاء من زمان قديم وهم يسكنون عندنا، يذهبون ليصلوا الفجر، ويذهبون ليصلوا الجمعة، ونحن وهم مصطلحون وليس بيننا شيء. إذاً: الجن غير الخبائث والخبيثات، فإنهم لا يسكنون في مواطن النجاسات كالمراحيض، ولكن يسكنون في المحلات البعيدة عن النجاسة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم) وجاء ذلك في قصة وقعت أيام في غزوة الخندق، عندما جاء الصحابي الذي استأذن رسول الله أن يدخل بأهله، لأنه كان حديث عهد بعرس، فقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك يهود بني قريظة) ، فلما وصل إلى باب البيت فإذا زوجه واقفة على باب البيت بدون حجاب وستر، فأراد أن يهوي إليها برمحه، قالت: لا تعجل! ادخل بيتك، وانظر فراشك ما فيه! فدخل فإذا حية على طول الفراش، فانتظمها بالرمح ولم يسم الله، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الرجل! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هذا من الجن، قتله ولم يسم الله فانتقم له أصحابه فقتلوه، إذا رأى أحدكم شيئاً من هذه الحيات في البيوت فليؤذنها ثلاث مرات، فإن رآها بعد ذلك فليقتلها) . ومن هذا يتبين أن الجن المؤمنين يهاجرون إلى المدينة كما يهاجر الإنس ويسكنونها، ويأتون إلى المسجد، ولكن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] . وسمعت من الشيخ ابن عثيمين -الله يغفر له ويرحمه- في مسجده في مدينة المجمعة يقول: أخبرني الشيخ بأنه كان في صلاة الضحى في بيته، فإذا بجماعة يسلمون عليه ولم ير أحداً، قال: من أنتم؟ قالوا: يا شيخ! نحن تلاميذك في المسجد، وجئنا ولم نستأذن منك، فنريد أن يكون حضورنا دروس الفقه بإذن منك، دروس الفقه. قال: لا بأس؛ بشرط: أن تظهروا للطلاب، فربما آذوكم أو تأذوا منكم. قالوا: نعم. إذاً: في هذا الحديث يبين لنا صلى الله عليه وسلم أن خبائث الجن تسكن في الأماكن القذرة ولهذا أيضاً فأعمال الشر من السحرة والفسقة لا تتم إلا في تلك الأماكن، ولا تتم أبداً في أماكن متنزهة كبستان، أو مجرى نهر، إنما تصلح معهم في تلك الأماكن حيث يسكنها خبائث الجن وخبيثاتهم، وهم اللذين يعينونهم على الشر. والله تعالى أعلم.

حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم

حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء) متفق عليه] .

العنزة وفائدة استصحابها

العنزة وفائدة استصحابها ويأتي لنا أنس مرة أخرى فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وغلام نحوه يحملان للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء إداوة من ماء وعنزة. ذكر العنزة وكونه يحمل إداوة من ماء وغلام نحوه كأنها قرينة على إرادة الخلاء الحقيقي وهو الفسيح من الأرض؛ لأنه في بيت الخلاء لا يحتاج إلى عنزة، وفي الفلاة يحتاج إلى العنزة حتى يركزها ويضع عليها رداءه، وتكون ستراً له من أعين الناس. وحقيقة العنزة: هي عود من الخشب من نوع قوي، في طرفها زج من الحديد، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم، وكان إذا أراد الإنسان أن يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة، حتى لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه، فإذا كانت الأرض رملية فإنها تتقبل البول ولا يرتد منه شيئاً، بخلاف الأرض الصلبة فإنها ترد وتعكس البول على ما يقابلها، والعنزة كانوا يستعملونها في أشياء كثيرة، وكما قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] . وهناك سيرة أو قصة لعنزة، وهي: كان الزبير رضي الله تعالى عنه في غزوة بدر، وكان هناك رجل من المشركين يقال له: أبو ذات الكرش، لديه بنت كرشها كبير، وكان يحملها فلقب بهذا، وكان في صفوف المشركين مجللاً بالحديد من أوله إلى آخره، ولم ير منه إلا فتحة العين، وكان مع الزبير عنزة، قال: فصوبتها على فتحة العين فأصابته وصرع منها، قال: فجئت لآخذ العنزة فما استطعت سحبها حتى وطئت على رأسه بقدمي، ثم انتزعت العنزة بالقوة حتى انثنى طرفاها. على كلٍ حكاية التصويب والإصابة وقوة الضربة هذا كله شيء معروف من فروسية المسلمين، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبرها قال: أعطنيها، فأعطاها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول القصة فيها: فكان صلى الله عليه وسلم يصحبها في السفر، فإذا أراد الصلاة في الخلاء ركزها أمامه -كما يقال- سترة للمصلي، وإذا أراد الخلاء ركزها ووضع عليها رداءه تستره من الناس. ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذها أبو بكر فكانت عنده، ولما توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها عمر فكانت عنده، وبعد وفاة عمر استرجعها صاحبها الأول. قوله: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء) . الخلاء حقيقة وابتداءً: الأرض الواسعة الخالية من الأشجار، والخلاء يطلق على المرحاض الذي بني لقضاء الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة، فـ (دخل الخلاء) تصدق على المرحاض، وتصدق على الأرض الواسعة، لكن ذكره للعنزة هنا، وأنه يحمل هو وغلام نحوه الماء يمنع أن يكون الخلاء هو المرحاض. ابن عباس لما كان عند ميمونة رضي الله تعالى عنها، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت الخلاء ذهب وأتى بإبريق وملأه ماء وطرحه عند باب المرحاض، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ووجد الماء قال: (من وضع هذا؟ قالت له: ابن عباس. قال: لم وضعه؟ قال: علمت أنك حينما تدخل الخلاء تحتاج إلى الماء. قال: اللهم فقهه في الدين) وهذا هو الفقه -أي: الفهم- استنتج من دخول الخلاء الحاجة إلى الماء، فجهزها قبل أن يطلب منه. والإداوة: إناء من الجلد على هيئة الإبريق تماماً، وقد رأيتها مع جماعة يمنيين في منى، وهي عبارة عن جلد سخلة صغيرة مربوط من آخر النصف الأسفل، والرقبة هي فتحة الإبريق، وإحدى اليدين هي (البزبوز) الذي يخرج منه الماء واليد الثانية هي الأذن أو اليد التي يمسكون الإداوة بها كشكل الإبريق سواء بسواء، الرجلان الأماميتان واحدة بدلاً عن (البزبوز) والثانية محل اليد، والرقبة هي عنق الإبريق، ومن الوسط إلى تحت جعل له قاعدة من نفس الجلد على شكل مستدير كقاعدة توضع على الأرض، يعني: محيط قاعدة نحو (20سم) . ولما رأيته تعجبت، وقلت له: ماذا تسمون هذا؟! قال: هذه الإداوة. قلت: جزاك الله خيراً، الحمد لله أننا رأيناها، كانوا يصفونها لنا في الكتاب وفي الدرس، والآن رأيناها بأعيننا طبق الأصل. فالإداوة: إناء من جلد بقدر الإبريق البلاستيك، وكانت في القديم تصنع من التنك -ما يسمى بالزنك- فكان إناء لحمل الماء.

استحباب البعد عند إرادة الخلاء

استحباب البعد عند إرادة الخلاء قوله: (أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة) كل شخص منهما يحمل شيئاً، وكلمة (غلام) تدل على أنه صغير، معنى ذلك أنه لا بأس باستخدام الصغار للمساعدة في مثل هذه الحالة. وقد كان من شأنه صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في حديث المغيرة - إذا لم يكن هناك بيت للخلاء، وأراد الخلاء أن يبعد حتى لا يراه أحد، ولابد من الاستتار، ولو بكوم من رماد. وجاء في بعض خواصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أنه كان في أرض صلبة وما وجد شيئاً يستتر به، وكان هناك شجرتان متباعدتان، فناداهما وأشار لكل واحدة منهما أن تنضم إلى الأخرى، فشقتا الأرض والتقيتا حتى جلس وقضى حاجته، ثم أشار إليهما أن يرجعا، فرجعتا إلى ما كانا عليه. وهذه الحادثة حدثت مرة أخرى لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقي ركانة يرعى غنماً، وكان ركانة -كما يقولون- بطل المصارعة، فما كان أحد يصارعه إلا صرعه ركانة، فجاء الرسول وقال له: (يا ركانة! أما آن لك أن تسلم؟ قال: يا محمد! تصارعني؟ قال: نعم أصارعك. قال: إن غلبتني أعطيتك مائة شاة، فصارعه فغلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) يقول الصحابة: (كنا نحدث بأنه أوتي قوة أربعين رجلاً) . وكانوا يحتمون به صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت المعركة، وفي حنين لما فوجئوا برمي النبل من هوازن نفروا، فثبت مكانه وقال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وما بقي معه إلا العباس، فقال: (نادِ: يا أهل بيعة الرضوان!) فرجعوا إليه وكروا على العدو ونصرهم الله، فكان صلى الله عليه وسلم -لا نقول مصارعاً- بل كان يصرع الصرعة، فهنا صرعه صلى الله عليه وسلم فغلبه، قال: واويلتاه! ما أحد قط وضع جنبي إلى الأرض قبلك، تعيدها؟ قال: نعم. فأعادها معه المرة الثانية، فقال: والله يا محمد هذا أمر! لابد من الثالثة، قال: الثالثة، فصرعه، فوقف يضرب يداً بيد: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهلي في ثلاثمائة شاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا أجمع عليك غبنين: غبن في الغلبة وغبن في الشياة، ثم قال: أتعجب من ذلك يا ركانة؟! قال: إي -والله- يا محمد! قال: انظر إلى تلك الشجرة، فنظر إليها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إلي إلي فجاءت إليه تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث كنت، فرجعت حيث كانت. ويقولون: كان صلى الله عليه وسلم يبعد جداً ويستتر لجهتين: جهة شخصيته كمروءة، وجهة الناس؛ لأنه لو قدر أن إنساناً رآه فقد بصره، هكذا يقولون والله تعالى أعلم، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها زوجة، ومع ذلك تقول: (والله ما رأى مني ولا رأيت منه) وهذه أخلاق عالية، فهما زوجان في فراشٍ واحد، ويغتسلان في مكان واحد، ثم لا يرى أحدهما من الآخر، فهذه مثالية عليا في آداب الحياة والمعاشرة. كان صلى الله عليه وسلم يبعد حتى يقضي حاجته، ثم يدنو من الناس ويطلب الماء ليستنجي، ويكون قد استعمل الحجارة هناك، وبعد أن قضى حاجته يطلب الماء ويستنجي بالماء، وهذا فيه إثبات استعمال الماء مبدئياً، وهو الأصل، وسيأتي استعمال الحجارة وأيهما أفضل، وسيأتي خبر أهل قباء: (إن الله أثنى عليكم في الطهارة ماذا تفعلون؟ (ولكن يهمنا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء ويستنجي بالماء. والاستنجاء: هو إزالة النجو، والنجو: هو الباقي بعد الاستجمار؛ لأن الاستجمار لا ينقي، ولابد أن يترك أثراً مكانه، فمهما استعملت عدداً من الحجارة أو نحوها فلابد أن يبقى في مكانه أثر، ويتفق الفقهاء على أن هذا الأثر الباقي بعد الاستجمار مادام في محله فهو معفو عنه، ولو وجد مثل ذلك أو أقل منه في غير محله على اليد أو على الفخذ لما صحت الصلاة به، ولوجب غسله؛ لأنه في غير محله. والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2]

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2] من رحمة الله بعبده أنه أرشده إلى آداب تمنعه من التسبب في لعن الناس له، وتمنعه من إيذاء الناس، ومن هذه الآداب ألا يتخلى العبد في أماكن تجمع الناس أو تواجدهم كالظل والطريق وموارد الماء وأماكن التجمعات والأسواق، وأن يستر العبد نفسه عند التخلي ويترك الكلام مع نفسه أو مع الآخرين.

حديث المغيرة بن شعبة في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم حاجته في غزوة تبوك

حديث المغيرة بن شعبة في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم حاجته في غزوة تبوك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ الإداوة، فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) متفق عليه] .

الألفاظ الواردة في حديث المغيرة لم يذكرها المصنف

الألفاظ الواردة في حديث المغيرة لم يذكرها المصنف اقتصر المؤلف هنا على قوله: (فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) يعني: الاستتار عن الناس عند قضاء الحاجة. وهذا الحديث تقدم جزء منه في باب المسح على الخفين؛ لأنه حديث طويل، ويشتمل على عدة مباحث فقهية تدخل في عدة أبواب، وعلماء الحديث ربما جزءوا الحديث في الأبواب على حسب الحاجة، وتتمة هذا الحديث قول المغيرة رضي الله تعالى عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) وجاء تعيين هذا السفر أنه في غزوة تبوك. قال: (فضرب عنق راحلتي فتبعته -أو قال:- خذ الإداوة واتبعني، فانطلق) وعرفنا الإداوة أنها إناء من جلد على هيئة الإبريق: (فانطلق حتى توارى عني) ثم يذكر ابن عبد البر عدة روايات في عدة مواطن من هذا الحديث. قال: (فقضى حاجته) وقال في بعض الروايات: (هل معك ماء؟ قلت: بلى. فأفرغت من قربة عندي ماء في كذا) وفي بعض الروايات (فأتاني فأفرغت على يديه من الإداوة فغسل يديه) وفي بعض الروايات: (مسح يده بالتراب) وفي بعض الروايات: (ثم توضأ فغسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، فأراد أن يخرج يده من كم الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرجها من تحت الجبة، وغسل يديه إلى المرفقين. ومسح رأسه، فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني قد أدخلتهما طاهرتين، ومسح على الخفين، ثم جئنا إلى القوم فوجدناهم قد قدموا عبد الرحمن بن عوف يؤمهم في صلاة الصبح، فهممت أن أنبهه ليتأخر ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاني وكبر في الصف وكبرت معه، فلما قضى عبد الرحمن صلاته قام صلى الله عليه وسلم يصلي ما فاته من الصلاة، فلما رأى الناس ذلك فزعوا -أي: لكونهم تقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما رأى ما بهم من فزع، قال: أحسنتم) . وإلى هنا ينتهي لفظ الحديث، ثم يأتي بعد ذلك زيادة أنه قال لهم: (ما قبض الله نبياً إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) فهذا هو تمام هذا الحديث.

بعض الآداب والأحكام الواردة في حديث المغيرة

بعض الآداب والأحكام الواردة في حديث المغيرة نريد الوقوف عند عباراته لما فيها من الفقه:

الإبعاد عند قضاء الحاجة

الإبعاد عند قضاء الحاجة أولاً: الجزء الذي ساقه المؤلف هنا: (فانطلق حتى توارى عني) . هذا من أدب قضاء الحاجة، وهو أنه إذا لم يكن في البنيان وكان في أرض فسيحة فيبعد حتى يتوارى، فإما أن يجد ما يستره كشجرة أو مكان منخفض مثلاً، وإما أن يبعد عن الأنظار، وخاصة النبي صلى الله عليه وسلم.

أيهما أفضل الاستنجاء بالحجارة أم بالماء؟

أيهما أفضل الاستنجاء بالحجارة أم بالماء؟ (ثم أتاني فصببت عليه من إداوة معي) . هنا لم يذكر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استجمر بالحجارة، ولكن ذكر لنا قال: (أتاني فأفرغت على يديه فغسل كفيه ثم توضأ) وهنا يقول ابن عبد البر: نقلاً عن كثير من العلماء: يجوز الاجتزاء بالأحجار مع وجود الماء. والجمهور وخاصة الشافعي رحمه الله يقول بالاجتزاء بالأحجار عند عدم وجود الماء، ويمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتزأ بالحجارة لأنهم في سفر، وعادة المسافر وخاصة في الصحراء أن يكون الماء معه قليلاً، وإذا كانت إداوة فلربما لا تجزئ في الاستنجاء بها والوضوء، وإذا أمكن الاجتزاء بالحجارة فإنه يوفر الماء للوضوء، إذاً: لا ينبغي أن يكون هذا العمل دليلاً على ما ذهب إليه البعض. والجمهور انتهوا إلى أنه إذا فقد الماء فالاستجمار رخصة، والآخرون يقولون: سواء وجد الماء أو لم يوجد، في حضر أو في سفر، فإن الاستطابة بالأحجار مجزئة. وجاء عن بعض السلف أن الأحجار للرجال، وأن الماء من خواص النساء، وخاصة في البول، وقالوا: بأن البول من الرجل معلوم المكان ويمكن أن يجزئ فيه التمسح بالحجارة، بخلاف المرأة فإن خروج البول ليس محصوراً في مكان كالرجل، لأنه ينتشر فلذا لزم عليها استعمال الماء.

حكم العمل اليسير أثناء الوضوء

حكم العمل اليسير أثناء الوضوء والذي يهمنا في هذه النقطة: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة مع وجود الإداوة مع المغيرة، وقضى حاجته واستجمر وانتهى، ثم جاء إلى المغيرة ليتوضأ، فأفرغ على يديه وغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم أراد أن يخرج كفيه من كمي الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرج يديه من تحت الجبة. هنا يقول الفقهاء: العمل اليسير أثناء الوضوء لا يقطعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل بإخراج يديه من الكمين فلم يستطع، فحاول إخراجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء، فقد كان موالياً في غسل الأعضاء لكن وقع بين غسل الوجه وغسل اليدين محاولة إخراج اليدين من الكمين ولم يستطع، فأخرجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء. فقالوا: إذا كان العمل قليلاً يسيراً فلا شيء في ذلك، ويبني على ما كان من وضوئه ويكمل الباقي، أما إذا كان الاشتغال طويلاً فإنه يستأنف الوضوء من جديد، وحددوا الطول والقصر في هذا بجفاف العضو الذي تشاغل عنده. فمثلاً: غسل وجهه، وأراد أن يغسل يديه فبحث عن كرسي ليجلس عليه، وذهب ليأتي به وجاء حتى جف ماء الوضوء عن الوجه، فيكون قد انقطع، فيبدأ الوضوء من جديد فيغسل وجهه استئنافاً للوضوء من جديد؛ لأنه بالعمل الكثير قد قطع الوضوء فيستأنف.

لبس الثياب الضيقة الأكمام والواسعة

لبس الثياب الضيقة الأكمام والواسعة ثم كون الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس الجبة ضيقة الكمين، يقول ابن عبد البر: هذا أنسب للسفر، وخاصة للجهاد؛ لأن الكم الضيق لا يشغل صاحبه، ونستطيع أن نقول: لا ينبغي للإخوان أن يعيبوا على بعض الناس أن يلبس ثوباً في كمه (كبك) ويقولون: هذه بدعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الجبة ضيقة، وسواء كان الضيق (بالكبك) أو بالأزارير أو بالخياطة فكل ذلك جائز. ومن نوادر ما ذكر عن الشافعي رحمه الله أنه كان يتصف بالحلم وسعة الصدر إلى حد بعيد، فأراد بعض الناس أن يخرجه عن هذا الوقار أو عن هذا الحلم، فسمعوا بأنه ذهب بثوب إلى الخياط ليخيطه، فذهبوا إلى الخياط ودفعوا له أكثر من الأجرة وقالوا له: نريد أن تجعل الكم الأيمن للشافعي ضيقاً، والكم الأيسر واسعاً جداً؛ فأخذ الخياط الأجرة وفعل، فلما جاء الشافعي يستلم الثوب كانوا موجودين يتوقعون الغضب والتسخط، فلما لبسه وأدرك أن هناك شيئاً قال: جزاك الله خيراً، لقد يسرت لي أمري وساعدتني على طلب العلم. قال: لماذا؟ -الرجل متوقع خصومة- قال: أما ضيق الكم الأيمن فلكي لا يشغلني حال الكتابة، وأما سعة الكم الأيسر فإني أحمل فيه كتبي -يعني: بدل الحقيبة- فعجب الجماعة الذين تآمروا عليه! ولنعلم أن ضيق الكم قد يساعد على أداء بعض الأعمال، وسعة الكم قد يساعد على بعض الأعمال، وطبيعة الثياب -بصفة عامة- يمليها نظام البيئة والجو، ولذا تجدون الأعراب في البادية أكمامهم تكون بطول الرجل وربما تكون فتحة الكم أكثر من متر، وسعته تحت الإبط ثلث متر أو ربع متر أو شيء من هذا؛ لأن الجو حار، فهو بمثابة المراوح أو وسائل التهوية، وتجد في البلاد الباردة يصنعون كماً قصيراً وجبة وبنطلوناً ضيقاً أكثر من اللازم، إذاً: البيئة هي التي تملي على الإنسان نوع اللباس والثياب الذي يتلاءم مع طبيعة الجو. يهمنا في هذه الحالة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة، فهل كان هذا دائماً في الغزوات والأسفار أو كان هذا عارضاً في غزوة تبوك؟

استحباب خدمة أهل الفضل

استحباب خدمة أهل الفضل وهنا بعد أن توضأ صلى الله عليه وسلم يقول المغيرة: (فأهويت لأنزع خفيه (، ولا مانع في مثل ذلك، أعني أن الفضلاء وأهل الفضل يخدمهم الآخرون ولو في خلع النعلين أو تقديمها إليهم، وقد جاء في قصة الأمين والمأمون أولاد هارون الرشيد لما جاء معلمهم وتذاكروا فيما بينهم، وأراد أن يخرج فقام الأمين والمأمون يقدما إليه النعل فتسابقا، فأخذ كل واحد فردة من النعل وقدمها إليه، فقهقه الرشيد وقال: والله ما رأيت أشرف منك اليوم؛ لأنهم لم يفعلوا هذا لي أنا، يعني: لم يفعلوه للخليفة ولكن فعلوه للمعلم. فلا مانع من خدمة أصحاب الفضل وخاصة العلماء وأصحاب النعم على أربابها أن يخدمهم الآخرون، ولاسيما إذا كان في جانب ديني ولوجه الله.

لبس الخفين لا يكون إلا بعد طهارة كاملة

لبس الخفين لا يكون إلا بعد طهارة كاملة فقال له صلى الله عليه وسلم:) دعهما -يعني: دع الخفين في قدمي- فقد أدخلتهما طاهرتي) وفي بعض الروايات: (أنسيت يا رسول الله -يعني: نسيت الغسل ومسحت-؟! قال: بل أنت نسيت، أما أنا فأمرني ربي) ومن هنا يدخل البحث في المسح على الخفين. وفي قوله: (أدخلتهما) أي: الثنتين، يقول العلماء استنتاجاً من ذلك: لو أن المتوضئ غسل إحدى القدمين اليمنى مثلاً فألبسها الخف، ثم غسل القدم اليسرى فألبسها الخف، لم يجز المسح على هذين الخفين بتلك الصفة؛ لأنه لما أدخل القدم اليمنى لم تكن اليسرى قد استكملت الطهارة؛ لأن كمال الطهارة بتمام الوضوء، وتمام الوضوء بغسل القدمين معاً، ولهذا أخذ الفقهاء رحمهم الله أن المسح على الخفين إذا أدخلهما معاً طاهرتين، أي: بعد تمام طهارة الوضوء.

تعارض العاطفة مع العقل وأيهما يقدم

تعارض العاطفة مع العقل وأيهما يقدم أما مجيئهما إلى القوم وقد قدموا عبد الرحمن بن عوف فالبحث فيه من عدة جوانب: الجانب الأول: جاء أبو الحسن الندوي وحاضر في الجامعة الإسلامية وقال: قد يتعارض العقل مع العاطفة، وكان الوقت ضيقاً ولم يذكر أمثلة، فكان العادة أن نعلق على المحاضرات، فقلت: لعل من ذلك ما وقع للقوم في غزوة تبوك، لما غاب عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الصلاة، وتأخر الوقت، فهم الآن في موقف بين العاطفة والعقل، العاطفة تناديهم: انتظروا رسول الله؛ لأن الصلاة خلف رسول الله جانب روحاني عاطفي، ودخول الوقت ومضي جزء منه يقول لهم: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أدوا الصلاة قبل أن يخرج الوقت. فأداء الصلاة قبل أن يخرج الوقت حكم عقلي بالنسبة لتحديد الشرع، والانتظار إلى مجيء النبي صلى الله عليه وسلم أمر عاطفي لتعلقهم بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا جانب العقل على جانب العاطفة. وفي مواقف أخرى قد يقدم جانب العاطفة على جانب العقل، وذلك في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء وأبو بكر يؤم الناس، فلما شعر الناس بمجيء رسول الله أكثروا التصفيق أو أشاروا إلى أبي بكر إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف في الصف، فأراد أبو بكر أن يتأخر ليتقدم رسول الله، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك، لكنه لم يمكث مكانه ورجع في الصف، وأمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم المصلين، فهنا العقل يؤدي إلى أن يبقى مكانه؛ لأنه أمر صادر عليه من رسول الله، والعاطفة والأدب واستعظام أبي بكر أن يؤم رسول الله، فغلب جانب العاطفة أو الأدب كما يقولون. إذاً: قد يقف الإنسان بعض المواقف، وجانب العقل ينادي بشيء، وجانب العاطفة ينادي بشيء، فننظر أيهما أصوب.

فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الجانب الثاني: فضيلة عبد الرحمن بن عوف أن اختاره الموجودون في تلك الغزوة بأن يتقدمهم ويؤمهم في الصلاة مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخطر في بالي أن غزوة تبوك حضرها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون أو المرشحون للخلافة، وابن عوف لم يكن منهم، نعم هو من المبشرين بالجنة ولكن لماذا قدموه وفي القوم هؤلاء؟ مع أن أبا بكر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن أبو بكر في كفة والأمة في كفة لرجح عليها أبو بكر) وفضيلة أبي بكر وصلته برسول الله أمر مفروغ منه: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي) وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] . يمكن أن يقال: لكل مقام مقال، فالخلافة وإدارة الأمة ومراعاة شئونها تصلح لـ أبي بكر، الصلاة من حيث هي أداء، لقد عرف عن أبي بكر كما جاء من حديث عائشة: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قرأ لا يتمالك نفسه) أي أنه يبكي، وإذا قدمنا شخصاً يصلي بنا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع بكاءه، نحن في حاجة إلى أن نسمع القراءة، فالصلاة مبناها على القراءة وليس على البكاء. إذاً: يكون ابن عوف مناسباً لإمامة الصلاة في هذا الوقت، ويمكن أن يروا بأنه أولى من غيره. ثم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة المغيرة أن ينبه الإمام ليتراجع، يقولون: إن الإمام الراتب إذا تغيب وقدم القوم رجلاً يصلي بهم، فحضر الإمام الراتب، فهو مخير بين أن يتقدم ويرد من قدموه، ويصبح بعد أن كان إماماً مأموماً، حتى ولو كان قد صلى ركعتين أو ركعة من الصلاة، وإما أن يترك حقه في الإمامة ويقف مع المصلين مأموماً كبقية الناس، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الإمامة على الأمة عامة، فترك هذا الحق وصلى خلف الإمام الذي اختاروه لأنفسهم مسبوقاً مأموماً ثم أتم صلاته.

مراعاة اختيار أفضل الموجودين للإمامة

مراعاة اختيار أفضل الموجودين للإمامة ينبغي أيضاً اختيار الإمام بأن يكون من خيرة الموجودين، وعندكم حديث مكتوب على المحراب في مثلث من المثلثات الموجودة على جانبي المحراب (تخيروا من يؤمكم في الصلاة فإن أئمتكم وافدوكم إلى ربكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فالإمام وافد القوم إلى الله؛ لأننا نقدمه بين أيدينا ليناجي الله سبحانه وتعالى، فهو مقدم منا إلى الله كالوافد، أي: الذي نوفده ونرسله إلى بعض الملوك أو الأمراء ليسأل حاجة الأمة أو حاجة القوم، فكذلك الإمام وافد المؤمنين إلى الله سبحانه وتعالى.

صحة صلاة الفاضل خلف المفضول

صحة صلاة الفاضل خلف المفضول ثم كونه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الرسل ونبي الأمة- يصلي خلف فرد من أفراد الأمة، يؤخذ منه صحة قالوا: تصح صلاة الفاضل خلف المفضول إذا كان المفضول أهلاً للصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف في هذه الحالة، ثم لما سلم الإمام نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم ما كان باقياً عليه، وهذا تأييد لما جاء عن معاذ رضي الله عنه. وذلك أنهم إذا كانوا في الصلاة وجاء المسبوق سأل من في نهاية الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه بيده، ركعة أو ركعتين، فيصلي وحده وهو قائم في الصف ما فاته من الصلاة، ثم يتابع الإمام فيما بقي، فإذا سلم الإمام سلم؛ لأنه أتى بما فاته ثم تابع الإمام فيما تبقى، فيكون قد أتم صلاته. فقال معاذ: لأن آتي فأجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وافقته فيها، فجاء مسبوقاً والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى من صلاته شيئاً، فتابعه على ما هو عليه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام معاذ وأتى بما كان قد فاته، وقد عرف من نفسه -دون أن يسأل أحداً- ما فاته من الصلاة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فخذوها) ، وأصبح من بعد تلك الحادثة أن المسبوق يأتي فيدخل مع الإمام على ما هو عليه، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم! دخل مع الإمام على ما هو عليه، ثم بعد أن سلم الإمام قام وأتم ما فاته من الصلاة، وهي الركعة الأولى؛ لأن الصلاة كانت صلاة الصبح. قوله: (فزعوا) ، أي: لأن هذا أمر عاطفي كما أشرنا، وكانوا يحبون أن تكون الإمامة لرسول الله، وفزعوا أن يكون الرسول مأموماً لواحد منهم.

استحسان فعل المحسن والثناء عليه

استحسان فعل المحسن والثناء عليه قوله: (فلما رأى فزعهم) . هذه نواح نفسية أدركها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس القوم، فأراد أن يذهب عنهم دواعي الفزع فقال:) أحسنتم) أي: أتيتم عملاً محسنين فيه. إذاً: ليس هناك موجب لأن تفزعوا؛ لأنكم ما أتيتم بشيء يوجب الفزع، وهنا يقولون: على ولي الأمر أو المسئول أن يستحسن ما فُعل تحت أمره أو تحت رئاسته من فعل حسن، فيثنى على المحسن كما يعاتب المسيء؛ لأن في الثناء على المحسن تشجيع له على إحسانه، وهكذا كان قوله صلى الله عليه وسلم:) أحسنتم) . ومن هنا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أرادوا الصلاة في أول وقتها، ولما لم يحضر الإمام الأحق بالإمامة قدموا غيره ليؤدوا الصلاة في وقت الفضيلة.

نجاح الرسالات السماوية في تربية الأمم

نجاح الرسالات السماوية في تربية الأمم ثم بعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم تطييباً أو إخباراً بأمر مستقر جديد: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) . هذا اللفظ على وجازته واختصاره يعطينا معنى عظيماً جداً، وذلك: أن أي نبي بعث في أمة إنما بعث فيها وهي على جهالة، وجاءهم الله بما أوحى به إليه ليخرجهم من تلك الجهالة إلى المعرفة، ولينشئهم ويربيهم ويعلمهم إلى أن يصلحوا في أنفسهم، ويكونوا صالحين لإصلاح غيرهم. وهكذا هنا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية، وكلنا يعلم ما كانوا فيه من عبادة الأوثان، وجاهلية جهلاء، كما ذكر جعفر رضي الله تعالى عنه للنجاشي: كنا يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل الميتة، وكنا نخفر الذمم وكنا. وكنا. إلخ، فبعث الله لنا رجلاً منا نعرف نسبه ونشأته، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحقوق الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به. إلخ. فهنا كان العرب على تلك الحالة التي يعرفها الجميع، وجاءت الرسالة المحمدية بما يعرفه أيضاً الجميع، وأخرج الله به الأمة من الجهالة إلى المعرفة، ومن الضلال إلى الهداية، فكأنه يشير إلى أن الرسالة قد أدت مفعولها وأثمر غرسها، وأصبحت الأمة الأمية والأعراب في البادية قادة في أنفسهم، وصالحين لأن يؤم بعضهم بعضاً، وبالتالي كل واحد منهم أصبح صالحاً لأن يكون إماماً لغيرهم من الأمم والجماعات، وهذا بعد الهجرة بتسع سنوات؛ لأن تبوك كانت في السنة التاسعة، معناه أن الإسلام قد أعطى ثماراً، وأن الأمة التي تبعت الإسلام ودانت به أصبحت مستكملة ثقافياً وفكرياً وقيادياً، وأنها قد توفر فيها كل ما تتطلبه الأمة من عناصر الحضارة والتقدم. ويدل على ذلك أن الواحد منهم بعد أن كان يعبد الصنم، ويفعل القبائح، أصبح الآن صالحاً لأن يؤم العالم وقد أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل بعدها بسنة واحدة وهي السنة العاشرة في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) دليل على أن الرسالات السماوية ناجحة في تربية الأمم، سواء كثر الأتباع أو قلوا؛ فإن نظام الوحي ومنهجه هو أن يوجد الإنسان الكامل الفاضل الذي يصلح لإمامة الدنيا بأسرها. والله تعالى أعلم.

حديث أبي هريرة في النهي عن التخلي في الملاعن الثلاثة

حديث أبي هريرة في النهي عن التخلي في الملاعن الثلاثة [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللعانين، الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) رواه مسلم. وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) ] .

حكم لعن المعين

حكم لعن المعين هذا أدب جديد في تجنب مواضع معينة في قضاء الحاجة، وتلك الأماكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها نهياً مصحوباً بالعقوبة؛ لأن في ذلك إيذاء للناس، فمن أدب قضاء الحاجة ألا يؤذي الناس بحاجته، فقال: (اتقوا اللعانَيْن) بالتثنية، أو) اللعانِين (بالجمع. واللعن: هو الدعوة بالطرد من رحمة الله، ولا يجوز لعن المعين ولو كان كافراً؛ لأن اللعن معناه الطرد من رحمة الله، وما يدريك لعل عناية الله تدرك الكافر فيؤمن، فأين تذهب اللعنة حينئذ؟ ومما جاء من النهي عن اللعن أن اللعنة إذا خرجت من إنسان صعدت إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، فتعود إلى الأرض، فإن وجدت أن من توجهت إليه أهلاً لها وجبت عليه، وإن لم تجده أهلاً لها رجعت على من قالها فتبعته. ولهذا جاء النهي عن اللعن حتى في حق إبليس، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان واستعيذوا بالله منه؛ لأنكم إذا لعنتموه تعاظم في نفسه) يعني: أنه صار خطيراً عليهم حتى ناصبوه العداء باللعان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (اتقوا اللعانين) بمعنى: اتخذوا منها وقاية وابتعدوا عنها.

حكمة إسناد اللعن إلى الموطن المتخلى فيه

حكمة إسناد اللعن إلى الموطن المتخلى فيه ثم فسر اللعانين فقال: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) . الرسول صلى الله عليه وسلم أسند اللعن هنا للبراز في الطريق والظل، والطريق والظل ليسا محلاً للعن، قال العلماء: معنى ذلك أن المتسبب في ذلك جلب اللعنة على نفسه ممن يأتي تلك الأماكن بفعله؛ لأن قارعة الطريق محل للناس يقرعونها بأقدامهم، فإذا قضى حاجته على الطريق آذاهم. وكذلك الظل، والمراد به خصوص الظل الذي يستظل الناس فيه، بخلاف الظل في الخلاء، كأن تكون شجرة في الخلاء وظلها كثير، وليست طريقاً مطروقة فلا مانع أن يقضي حاجته تحتها؛ لأنه ليس موضعاً يأوي إليه الناس، أما إذا كان الظل على الطريق والمسافر يستظل فيه تحتها، فداخلة في معنى الظل. قال العلماء: إسناد اللعن إلى الطريق والظل من المجاز العقلي؛ لأنه بفعله تسبب في أن الغير هو الذي يلعنه، كما جاء الحديث في تقبيح أن يسب الرجل أباه وأماه: (قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه،) فيكون كأنه هو الذي سب أباه؛ لأنه تسبب في ذلك. ومثله:: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: أنتم تتسببون في أنهم يسبون الله؛ لأنكم سببتم آلهتهم أو سببتموهم. ولذا نقول في بعض المواقف السياسية التي تطرق أسماعنا: إن بعض الناس في بعض البلاد الإسلامية قد يأخذه الحماس إلى أن يوقع بالعدو مكيدة تساوي (10%) من الخسائر، فالعدو يتخذها ذريعة وينتقم بما يساوي (20%) ، فيكون هذا الذي فعل ما هو جزئية بسيطة تسبب في إيقاع الإيذاء لقومه بمضاعفات الإساءة. ويؤخذ من قوله: (اتقوا اللاعنين) أنه لا يجوز قضاء الحاجة في موارد الناس كما جاء لفظ أبي داود. وكذلك قارعة الطريق: وهي الجزء المعين بقرع الأقدام في المسير. والظل: هو الظل الذي يحتاجه الناس ويستظلون به، سواء كان في الحضر أو السفر. والموارد: جمع مورد، وهو في الأصل: الأماكن التي توجد على ضفاف الأنهار أو السيول أو العيون التي يردها الناس ليستقوا من الماء، فهذا أيضاً مورد للناس، فإذا قضى إنسان حاجته في تلك الموارد تسبب في لعنه؛ لأنه آذى الناس.

ما يلحق بالمواطن الثلاثة من المرافق العامة والأسواق

ما يلحق بالمواطن الثلاثة من المرافق العامة والأسواق وعلى هذا يكون من آداب قضاء الحاجة: ألا يؤذي الإنسان غيره بأن يقضي حاجته فيما يحتاجون إليه من مرافق عامة، كالطرق والظل وموارد المياه. وإذا كان هناك موارد أخرى كأن يكون هناك سوق يرده الناس في النهار، وفي الليل لا يوجد أحد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته في هذا السوق، فمثلاً سوق الخضار الموجود هو عبارة عن محلات مشكوفة ليست محجوزة كالدكاكين، فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته فيها. كذلك مواقف السيارات، وإن كان في الليل لا يوجد فيها سيارة، لكن الصباح تكون الساحة مملوءة بالسيارات والمسافرين ونحو ذلك، فكل ما كان موضعاً لتجمع الناس فلا ينبغي لإنسان قط أن يقضي حاجته فيه. وبعضهم يزيد على ذلك موطناً وهو عند أبواب المساجد؛ لأن هذا أيضاً من ضمن الموارد، ونقول أيضاً: أمام المعارض، والدكاكين، والمحلات التي يردها الناس لقضاء حوائجهم. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنَين -أو اللاعنِين-) يشمل كل ما كان مرفقاً عاماً يرده الناس، سواء كان للسير أو للظل أو للماء أو للسفر أو غيرها، حتى ولو كان المكان خالياً وقت قضاء حاجته، لكن من شأنه أن يشغل بالناس فيما بعد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته فيه؛ لأنه يتسبب لنفسه باللعن من الذين يتأذون من هذا العمل في هذا المكان. والله تعالى أعلم.

حديث أبي ذر في النهي عن البراز في الموارد

حديث أبي ذر في النهي عن البراز في الموارد [وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) . وقال المصنف رحمه الله: ولـ أحمد عن ابن عباس: (أو نقع ماء) وفيهما ضعف] . ذكر المؤلف هنا (نقع الماء) : وهو الغدير الذي يتركه السيل، فلو كان هناك غدران ولو لم يردها الناس، فإن الماء الذي تجمع فيها ربما احتاجه الناس، أو أن السيل يأتي فيجرف ما فيه فيكون فيه إيذاء وتقذير للماء على الناس ولو لم يرده أحد، فما دام أنه مستنقع يجمع فيه الماء فلا يجوز، ولو كان هناك أحواض على الطريق فجاء السيل وملأها فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته في تلك الأحواض، فكذلك مناقع المياه وكل ما كان من هذا الباب. وذكر بعض العلماء البراز تحت الشجرة المثمرة، فلو كان في الخلاء نخلة تثمر، وليس هناك أحد، وليست محل ظل، ولكن أصحابها عند نضوج ثمرتها يأتون إليها، فكانت مثمرة في الوقت الحاضر أو ستثمر؛ فلا يجوز له التخلي تحتها؛ لأنه لو سقطت ثمرة من تلك الشجرة ربما تلوثت بالنجاسة فأفسدها على أهلها، أو إذا جاءوا إليها يستظلون بظلها كان ذلك ظلاً يستظل به، وزيادة على ذلك إفساد الثمرة التي تسقط من تلك الشجرة المثمرة. وذكر الفقهاء عدة أماكن، وكلها تندرج تحت قاعدة عامة: (كل موطن يتأذى منه الناس فلا يجوز قضاء الحاجة فيه) . [وأخرج الطبراني النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف] . فمثلاً: النهر أو السيل يجري وليس هناك مورد، ولكن يأتي شخص على ضفة النهر والسيل ويقضي حاجته، ربما أن النهر ارتفع منسوبه فوصل إليها، فيكون سبباً في إفساد الماء على الناس، كما تقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يبول الرجل في الماء ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ؛ لأن كثرة البول في الماء وسيلة إلى إفساده أو تقذيره على الناس، فهذا من المواطن التي نهي عن قضاء الحاجة فيه، وهي حافة النهر أو حافة السيل أو حافة العين التي تضر بالماء. وبالله تعالى التوفيق.

النهي عن كشف العورة للآخر والتحدث معه في الغائط

النهي عن كشف العورة للآخر والتحدث معه في الغائط [وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه أحمد وصححه ابن السكن وابن القطان وهو معلول] . من آداب قضاء الحاجة: ما جاء هنا في حديث جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تغوط الرجلان فلا يكلم أحدهما الآخر؛ فإن الله يمقت على ذلك) . يقولون: (تغوط) أي: دخل في الغائط، مثل تصبح وتمسى، والغائط: هو المكان المنخفض، وكانوا يقصدونه لأنه يستر صاحبه عن الناس، وجاء القرآن بهذا اللفظ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] والإتيان من الغائط أو الذهاب إلى الغائط يراد به لازمه؛ لأنه ليس المراد مجرد كون الإنسان يأتي إلى مكان منخفض، بل المراد قضاء الحاجة؛ لأن العادة لا يذهب الناس إلى المكان المنخفض إلا لقضاء الحاجة المتقدم ذكرها في الأحاديث المتقدمة. (فإذا تغوط الرجلان) أي: ذهبا معاً للمكان المنخفض ليقضي كل منهما حاجته، يقول صلى الله عليه وسلم: (فلا يتحدثا) أي: لا يكلم كل واحد منهما صاحبه. وقوله: (الرجلان) خرج مخرج الغالب، ولكن لو ذهب رجل وامرأة كزوجين مثلاً وذهبا لقضاء الحاجة، أو امرأتان مثلاً ذهبتا لقضاء الحاجة؛ فالكل داخل في عموم المطلوب في هذا الحديث، أي: إذا تغوط اثنان: رجلان أو امرأتان أو رجل وامرأة، فلا يتحدثا عند قضاء الحاجة في الغائط. (فإن الله يمقت) والمقت: شدة الغضب، فهذا النهي مصحوب بالتوعد بالعقوبة، وبعض العلماء يقول: إن من علامات الكبائر أن يأتي المنهي عنه مصحوباً بعقوبة شديدة عليه، ولذا أكد كثير من العلماء بأن هذا من الكبائر، وبعض الناس يقول: إنه من المكروهات ومن الآداب في قضية التخلي، ولكن إذا كان هناك نهي فلا يتحدث، وهناك ترتيب عقوبة: (فإن الله يمقت على ذلك) ، وهذا يدل على شيء أكبر من مجرد الكراهية، إلا إذا قلنا على بعض اصطلاح الفقهاء: كراهة تنزيه، وكراهة تحريم، فيكون هذا من المكروه كراهة التحريم. ما هو تطلع العلماء إلى موجب المقت في هذا العمل؟ في الواقع لم أقف على جواب كافٍ في ذلك، ولكن هناك عمومات وهي: أن الملائكة المكلفين بالعبد: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] لا يفارقون الإنسان إلا عند قضاء الحاجة وعند إتيانه أهله، فلو تكلم في المرحاض أو أذنب فإن الملائكة تشم رائحة الخطيئة وتعلمها ولو لم تكن حاضرة إياها فتكتبها عليه، فهنا وفي هذه الحالة كأنه يستدعي الملائكة من أجل أن تكتب ما يقول، وكان ينبغي له ألا يسيء إلى رفقائه أو قرنائه، ويكفينا مؤاذاة الناس. إذاً: إذا ذهب الإنسان مع زميل له إلى الغائط فإنه يجب أن يستتر كل منهما عن الآخر ولا يتحدث معه حتى ينتهيا من قضاء حاجتهما. مسألة: إذا كان وحده هل يجوز أن يتكلم ولو كلاماً عادياً؟ كأن ينشد شعراً -مثلاً- هجاء أو وصفاً أو غزلاً أوغيره، هل يجوز ذلك؟ لا يجوز الكلام في ذلك؛ لأنه فيه استيجاد الملائكة لتكتب عليه ما يتلفظ به، وإذا كان في البنيان تكون الملائكة خارج المراحيض بعيداً عن النجاسة، فالخلاء ليس فيه تحديد. إذاً: لا ينبغي الكلام للشخص في نفسه أو مع غيره، اللهم إلا إذا انتهى من حاجته واحتاج إلى من يساعده، وطلب ماءً أو حجارةً أو طلب شيئاً من ذلك فحينئذ لا مانع، أي: بعد قضاء حاجته والفراغ منها. والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [3]

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [3] من آداب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء ألا يتمسح الإنسان من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه حال البول، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستجمر برجيع أو عظم.

حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه

حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . هنا في الحديث ثلاث مسائل:

النهي عن مس الذكر باليمين حال البول

النهي عن مس الذكر باليمين حال البول المسألة الأولى: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) . هل هناك حاجة لأن يمسك الإنسان ذكره وهو يبول؟ نعم، قد تكون الحاجة لذلك كأن تكون الأرض التي هو عليها صلبة وأمامه مكان رخو، فيحتاج إلى أن يمسك ذكره ليرفع مجرى البول عن المكان الصلب إلى مكان آخر، وقد يكون لحاجة أخرى، فإذا احتاج أن يمسك ذكره وهو يبول فلا يكون باليمنى، وهذا أمر واضح. (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) . إذا تكررت مسائل في حديث واحد؛ فإن اتفقت فبها ونعمت، وإن اختلفت طلبنا الرابط بين المسألتين المختلفتين في الحديث الواحد؛ لأن عقلاء الناس لا يجمعون بين متناقضين أو متنافرين في سلسلة حديث واحد، فإذا ذكر إنسان عندك أموراً فلابد أن يكون هناك رابط يربط تلك الأمور، ولو على الأقل رابطة التعليم أو حاجة المستمع إلى ذلك. فهنا: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) نهى عن أن يمسكه بيمينه، فيكون مفهوم المخالفة له أن يمسكه بشماله، إذاً: اختصت اليمين بالامتناع عن هذا المحل.

النهي عن التمسح من الخلاء باليمين

النهي عن التمسح من الخلاء باليمين المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) . التمسح من الخلاء إن كان يستعمل الماء فيده ستباشر المحل مع الماء، وكان بعض السلف يمتنع أن يستنجي بالماء، ويقول: لا تزال يدي منتنة لأنها باشرت النجوى، والآخرون كانوا لا يستنجون بالماء إلا بعد استعمال الحجارة، فهي تزيل النجوى ويبقى الأثر، فيغسل بالماء ويباشره بيده، فحينئذ إذا استنجى بيمينه فاليمين ستباشر النجوى الخارجة منه، فإذا نهي عن ذلك بخصوص اليمين فمعناه أنه سيستعمل اليسار. إذاً: تميزت اليمنى بإبعادها عن هذين الموطنين، وأبيح استعمال اليسرى فيهما، حينئذ نستطيع أن نقول: النهي عن استعمال اليمنى في هذين المحلين تكريماً لليمنى؛ لأنه سيتناول بها الطعام، ويصافح بها الآخرين، فتكون اليمنى للمكرمات -كما قيل- واليسرى لغيرها.

النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب

النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب إلى هنا المسألتان بينهما مناسبة ولكن قوله: (ولا يتنفس في الإناء) -وهي المسألة الثالثة- فيه النهي عن التنفس في الإناء عند الشرب، فما علاقة التنفس في الإناء مع هاتين المسألتين المتقدمتين؟ وموضوع التنفس في الإناء جاء إيضاحه أكثر عندما نهى صلى الله عليه وسلم الشارب عن أن يتنفس في الإناء -أي: الإناء الموجود- قال قائل: (يا رسول الله! إنني لا أروى من النفس الواحد، فقال: أدر القدح عن فيك وتنفس، ثم أعد القدح واشرب. قال: إني أجد فيه القذاة -القشة أو شيء تستقذره النفس، فيريد أن يبعد بنفخة- قال: أبنه عنك) أي: لا تبعده بالنفس. ونحن نبين الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء، قالوا: إن الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء وأنت تشرب أن الحلق ينتهي بطريقين: طريق دخول الهواء للرئة، وطريق دخول الطعام والشراب للمعدة، وعند افتراقهما كيف يميز الهواء عن الطعام والماء؟ قالوا: يوجد صمام على شكل عضلة، إذا أراد أن يبلع طعاماً أو شراباً فالعضلة في الحلق تنقبض فتسد طريق الهواء، وإذا أراد أن يتنفس انفتحت هذه الفتحة وذهب الهواء إلى الرئة؛ لأنه لو قدر أن قطرة ماء وصلت أو جاءت خطأً أو بسرعة إلى طريق الهواء فإنها تضر الرئة. ومن حكمة الله أن القصبة الهوائية التي تتفرع من الزور إلى الرئة يوجد فيها شعيرات تمتد إلى أعلى وليس إلى أسفل، أي: تنبت كما ينبت الخوص في الجريدة إلى أعلى، فإذا جاءت قطرة وسبقت لسان المزمار من أن يسد طريق الهواء، فإن تلك الشعيرات التي في القصبة الهوائية تطرد ما أتى ودخل عليها من ماء أو طعام، ولو نصف حبة سمسم، ولا تزال كل طبقة تطردها إلى أعلى وتتلقاها عنها التي أعلى منها، وتتلقاها ما بعدها إلى أن تردها إلى الحلق فتنزل عن طريق المعدة؛ لأنها لو وصلت إلى الرئة أفسدت فيها شيئاً كثيراً. وعملية بلع الطعام والشراب ليست مجرد انزلاق من أعلى إلى أسفل، بل إنها عملية امتصاص ودفع، وكما يقول بعض الأطباء في هذا: لو علق إنسان من قدميه وتدلى رأسه إلى أسفل وأعطي الماء فإنه بتلك الحالة يستطيع أن يشرب الماء ويبلعه وهو منكوس الرأس، ويستطيع أن يمضغ التمرة والطعام ويبلعه ويصل إلى معدته وهو منكوس الرأس، لأن هناك عملية امتصاص ودفع. إذاً: عندما يشرب الإنسان وينتهي نفسه في الشرب ويريد أن يزيد ماء فإنه سيأخذ نفساً، وعندما يأخذ نفساً والإناء على فيه فلربما سبق الماء إلى الرئة عند أخذ الهواء فيكون خطراً عليه، وهذه يسمونها الشرقة، والشرقة بالماء من أصعب ما يكون؛ لأن رد الشعيرات للماء أصعب من ردها لقطعة من الخبز أو التمر أو غير ذلك. وهنا تظهر الحكمة النبوية في كونه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في الإناء عند الشرب، والفقهاء يقولون: نهى عنه لأنه ربما خرج مع الهواء الخارج من أنفه ما يقذر الماء. ما هي الرابطة بين (لا يتنفس في الإناء) وبين (لا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه) ؟ يمكن أن نقول: بجامع الاستقذار؛ لأن من تنفس في الإناء كان عرضة لتقذيره أو كان عرضة لإيذائه بوصول شيء من الطعام أو الشراب إلى القصبة الهوائية فيؤذيه، وهذا كذلك قد يؤذيه باستعمال اليمنى في ذلك. والله تعالى أعلم.

حديث سلمان في آداب الخلاف

حديث سلمان في آداب الخلاف [وعن سلمان رضي الله عنه قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) رواه مسلم] .

الحكمة في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة

الحكمة في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في حديث سلمان جملة من آداب قضاء الحاجة، ووالله -يا إخوان- لو أخذتم جميع كتب الأدب، سواء الشعر الجاهلي أو الأدب الحديث في أرقى دول العالم في الحضارة، فلن تجدوا شيئاً من هذه الآداب مدونة عندهم، وهذا من سمو الإسلام، ومن تربية الفرد على أعلى ما يمكن من علو الهمة وعلى التجنب لما لا يليق. يقول سلمان رضي الله تعالى عنه: (نهانا) والنهي يقتضي التحريم إن لم توجد قرينة صارفة عن التحريم إلى الكراهية، وهنا لا يوجد قرينة حتى الآن. (نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) : والقبلة هي: جهة الكعبة. وماذا سيضر القبلة إذا استقبلنا أو استدبرناها؟ والجواب أن الحكمة من ذلك العمل كأنه تهوين من شأن القبلة، والقبلة من أعظم مقدسات المسلم؛ لأنه تستقبل في اليوم خمس مرات استقبال تكريم وتشريف وتعظيم، والمحرم إذا جاء ووصل إلى مكة ووقف على باب المسجد ورأى الكعبة قال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ورفعةً وأمناً، وزد يا رب من شرفه وكرمه. إلخ الدعاء. وقد ذكرنا سابقاً وقلنا: هناك جانب عاطفي وجانب عقلي، الجانب العقلي يقول: شرق أو غرب كما تشاء، ولكن العاطفة تقول: تلك القبلة التي تجعلها وجهتك في وقوفك بين يدي الله يجب أن تكرمها، فلا تستقبلها بغائط أو بول.

مسألة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة

مسألة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة في حديث سلمان هنا قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين) . حديث سلمان اقتصر على النهي عن الاستقبال، وجاءت نصوص أخرى تنهى عن الاستدبار، في المدينة المنورة وما حاذاها من البلاد أن من استقبل القبلة فقد استدبر بيت المقدس، وبيت المقدس هو القبلة القديمة، فيجب أيضاً أن نكرمها؛ لأنها كانت قبلتنا في وقت من الأوقات، فنهى أن نستقبل القبلة أو نستدبرها؛ لأننا إن استقبلناها استقبلنا بيت المقدس، وبيت المقدس والمدينة على خط مستقيم واحد، وهكذا المساجد الثلاثة: بيت المقدس، المدينة، البيت الحرام على خط مستقيم واحد، وأنتم ترون مسجد القبلتين، القبلة الأولى كانت مقابلة للقبلة الموجودة حالياً، وكذلك هنا في هذا المسجد كانت القبلة إلى الشمال، ولما تحولت صارت إلى الجنوب فهما متقابلتان سواء، فموضوع استقبال القبلة واستدبارها سيأتي له نصوص أخرى في هذا الباب، وعند كل حديث منها نوفيه شرحه إن شاء الله.

حكم استقبال القبلة واستدبارها في المراحيض

حكم استقبال القبلة واستدبارها في المراحيض (نهانا أن نستقبل) هل هذا النهي شامل لمن قضى حاجته في الخلاء وفي المراحيض في البيوت أم أنه خاص بواحد منهما؟ الشوكاني رحمه الله ذكر حوالي عشرة أقوال، وهذا أنسب ما يرجع إليه طالب العلم ليقف على تلك الأقوال بأدلتها والراجح منها، فهناك من يقول: إن هذا النهي خاص بالأرض الفلاة التي ليس فيها بين الإنسان وبين القبلة حاجز، فإذا وجد حاجز في الخلاء خرج عن النهي، واستدل قائل هذا القول بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سفر، ثم أناخ راحلته واستتر بها متجهاً إلى القبلة وقضى بوله، فقيل له: (يا أبا عبد الرحمن! ألم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بغائط أو بول؟ فقال: إذا كان بينك وبين القبلة حاجز فلا بأس) إذاً: يكون النهي خاصاً بالخلاء إذا لم يوجد ساتر. المراحيض في البيوت هل يشملها هذا النهي؟ الجمهور على أنه من باب الأفضلية أن يتجنب استقبالها واستدبارها، عملاً بعموم حديث سلمان، والبعض يقول: ما دام في البنيان وفيه السترة فلا مانع، وهناك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (قيل لرسول الله: إن أناساً يمتنعون -أو يتأبون أو يكرهون- أن يواجهوا القبلة بفروجهم! فقال: أو فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي إلى القبلة) والمضاف والمضاف إليه لا يكون إلا في مكان مخصوص كالمراحيض في البيوت التي فيها بنيان. قوله: (حولوا. الحديث) في هذا الحديث شيء من الكلام، لكن قد قدمنا أن هناك من قال: إذا كان في البنيان فلا مانع، وإذا كان في الخلاء وهناك حاجز فلا مانع، إنما ينصب النهي على من كان في الخلاء ولا ساتر عنده، فهذا لا يستقبل ولا يستدبر إذا كان على سمت المدينة من مكة، أما إذا كان شرقيها أو كان غربيها فإنه إن يستقبل أو يستدبر فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسامت الكعبة باستقباله القبلة -أي: الجنوب- من حيث هو؛ لأنه جاء في هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا) ؛ لأن الذي يتوجه إلى الشرق لا يكون أمامه البيت الحرام، ولا خلفه المسجد الأقصى، وكذلك الذي يغرب ليس أمامه من القبلتين شيء. وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يتوجه إلى أهل الحجاز أو أهل المدينة ومن في حكمهم؛ لأن استقبال القبلة يكون فيه استدبار بيت المقدس، واستقبال بيت المقدس يكون فيه استدبار القبلة. وهناك أقوال أخرى كمن يجوز الاستقبال ولا يجوز الاستدبار، وسيأتي زيادة بيان في هذا الموضوع عند النصوص الأخرى إن شاء الله.

النهي عن الاستنجاء باليمين

النهي عن الاستنجاء باليمين (أو نستنجي باليمين) يستنجي: الهمز والتاء والنون، وماذا عن السين والتاء؟ إنما هي لطلب الفعل، وهي طلب إزالة النجو باليمين كما تقدم؛ لأن استعمال اليمين ومباشرتها لإزالة النجو فيه استقذار لليمين، فإذا نهانا أن نستنجي باليمين معناها أننا سنستنجي باليسار، اللهم إلا إذا كان إنسان يساره معطلة لشيء ما فحينئذ (الضرورات تبيح المحظورات) .

النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار

النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار قال: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) . أي: نهى عن إزالة النجو بأقل من ثلاثة أحجار، وهل العدد مطلوب من حيث هو أم أن المراد الصورة التي تنقي المحل؟ الظاهرية يقولون: ثلاث مسحات بثلاثة أحجار، والجمهور يقولون: لو أن عنده حجراً كبيراً وله ثلاثة أضلاع وتمسح بكل ضلع من الحجر الواحد فقد حصلت ثلاث مسحات وأجزأه ذلك؛ لأن الغرض ليس العدد من حيث هو، ولكن التكرار للتأكد من إنقاء المحل، وكما قالوا أيضاً في إطعام المساكين في الكفارة. فمثلاً إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، فهل المراد عشرة بالعدد، أم أننا لو أعطينا إطعام العشرة لثلاثة أو خمسة فإنه يجزئ، وأن المراد بالعشرة بيان المقدار التي تقع به الكفارة؟ نقول: سواء وصل عدد الإطعام إلى العشرة أو أن إطعام العشرة أعطي لخمسة، فيكون المراد في عدد العشرة المقدار الذي تصح به الكفارة، فكذلك هنا قوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) فلو وجد حجران يتأتى بهما ثلاث مسحات أو حجر واحد يتأتى به ثلاث مسحات أجزأ ذلك، ما عدا الظاهرية فإنهم يقولون: لابد من ثلاثة أحجار معدودة.

النهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم

النهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم قال: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) الرجيع: هو روث الدواب، والعظم معروف، والسبب في هذا ما جاء في حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم قال: ائتني -أو ابغني- ثلاثة أحجار. يقول: فما وجدت إلا حجرين وروثة، فجئت بالحجرين والروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة -ويزيد بعض الرواة- وقال: ائتني بغيرها -وفي بعض الروايات- فإنها ركس) أي: إنها نجسة، ولا تزال النجاسة بنجس. إذاً: الذي لا يجوز الاستجمار به ما كان نجساً أو عظماً، وقاسوا على العظم كل مطعوم، لأن العظم مطعوم، وجاء في بعض الروايات أن العظم إذا ألقاه المسلم وسمى الله عليه فإنه يكسوه الله لحماً للجن. وفي ليلة نصيبين سأل الجن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد فقال لهم: (لكم روث كل دواب المسلمين يعود على ما كان عليه قبل أن تأكله دوابهم) أي: فإن كان روث البرسيم فإنه يرجع برسيماً، وإن كان روث الشعير فإنه يعود شعيراً ويكون علفاً لدوابهم، وقال: وما ألقاه المسلم من عظم وسمى الله عليه يكسوه الله لحماً طعاماً لكم. فبعضهم يقول: النهي عن الاستجمار بالعظم لأنه طعام مؤمني الجن، وبعضهم يقول: العظم من حيث هو حاد يجرح ولا ينقي، وإذا استنجى بمستطيل العظمة -بجرمها- فالعظم أملس، والأملس لا ينقي، وعليه: لا يصح الاستجمار بكل ما كان مثل العظم في ملاسته، فلو أخذ قارورة صغيرة من الزجاج واستنجى بها لم يصح لأنه أملس لا ينقي، أو أخذ مثلها من الأجرام الأخرى من العاج أو من الأحجار الناعمة فهذا لا يجزئ. وبالتالي فإن كل ما كان يشاكل الحجارة في اليبوسة والخشونة فإنه يجزئ، ولو كان هناك قماش متين كالصوف مثلاً فإنه يجزئ، أما الحرير الناعم لا يجزئ؛ لأنه لا ينقي، وإذا كان هناك ورق خشن كما يوجد في بعض المحلات ورق خاص لبيوت الخلاء فهذا يجزئ. وهكذا النهي عن الاستجمار بكل محترم طعاماً كان للإنس أو الجن، وما كان طعاماً للإنس تلك نعمة ويجب أن تكرم وتحفظ لا أن تضيع وتتلف وتخالط النجاسة، فلا يجوز أن يستجمر بالتمر أو الرمان أو التفاح؛ لأنه لا يجوز تقذيره، ويحرم عليه أن يستعمله في هذه الحالة.

حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها

حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها قال المؤلف: [وللسبعة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا) ] . أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه يذكر هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها) ، فزاد النهي عن الاستدبار على حديث سلمان. وأبو أيوب سافر إلى الشام، وجاء في آخر الحديث: (فقدمنا الشام، فوجدنا بيوت الخلاء قد بنيت إلى القبلة، فكنا ننصرف أو ننحرف -الرواية المشهورة: ننحرف- ونستغفر الله) ، أي: المقعدة موجهة إلى القبلة، وهو مضطر إليها، وحينما يجلس على تلك المقعدة ينحرف ويجعل اتجاهه شرقاً أو غرباً، وهذه يستطيع أن يتصرف فيها الإنسان وإن كان ليس على كمال الصورة من تجنب القبلة تماماً لكن ينحرف عن القبلة قدر استطاعته، وبعضهم يرويها: (ننصرف) أي: ننصرف عن تلك المحلات ولا نقضي الحاجة فيها لكونها متجهة إلى القبلة. ولكن قوله: (ونستغفر الله) أنسب لـ (ننصرف) منها لـ (ننحرف) . والجمهور يقولون: إنها أنسب لـ (ننحرف) لأن انحرافه ليس انصرافاً كاملاً، فهو يجلس والمقعدة متجهة إلى القبلة، وقدماه عليها إلى القبلة، لكنه ينحرف بصدره أو بجسمه عنها، فيستغفر الله لعدم تمام الاتجاه إلى الشرق أو الغرب، وفيه نوع اتجاه إلى القبلة، وإن كان أقل ممن لو كان مستقيماً إليها. وبعضهم يقول: ونستغفر الله لمن بناها على تلك الحال، سواء ننصرف ونستغفر الله لأصحابها، أو ننحرف ونستغفر الله لأنفسنا لقضاء الحاجة على تلك الصورة التي ليست كاملة في الابتعاد عن الاستقبال أو الاستدبار. والله تعالى أعلم. وهنا مما يذكر أن بعض العلماء -ومنهم أبو أيوب رضي الله تعالى عنه- يمنع الاستقبال والاستدبار سواء في الفلاة أو في بيوت الخلاء، ولكن جاء عن جابر أنه قال: (نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكني رأيت رسول الله قبل وفاته بسنة يستقبل القبلة بالبول) فقالوا: هذا ناسخ لما قبله، والآراء والأقوال في ذلك متعددة، ولكن مجمل ذلك أن النهي منصب على الخلاء ما لم يكن هناك ساتر، وأن الأولى في بيوت الخلاء ألا تكون متوجهة إلى القبلة، فينبغي على الإخوة الذين ببنون بيوتهم أن يراعوا هذه الحال، ولا يجعلوا بيوت الخلاء -في الجلسة عليها- مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، ولكن يجعلها متجهة إلى الشرق أو إلى الغرب، وهذا أسلم وأدعى لأن يكون بعيداً عن الخلاف الموجود، سواء قلنا بحديث جابر هذا أو بحديث سلمان أو بغيره، فيكون هذا أدعى لطمأنينة النفس. والله تعالى أعلم.

وجوب الاستتار عند الغائط

وجوب الاستتار عند الغائط [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الغائط فليستتر) رواه أبو داود] . هذا من آداب قضاء الحاجة، ومعناه: ألا يجلس للبول حيث يراه المارة أو يراه الناس، وجاء في بعض الحديث (ولو يجمع كثيباً من الرمل) . وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يستتر إما في مكان مطمئن وهو الغائط، أو يستتر ولو بحائش من نخل أو بشجر أو بأي شيء، وبعض الناس يقول: قد يكفي الاستتار بطرف الثوب من الوراء، ولكن قد لا يتمكن الإنسان من ذلك أو يكون ثوبه ضيقاً لا يسع هذا، فلابد أن يتخذ له سترة من الناس.

الذكر عند الخروج من الخلاء

الذكر عند الخروج من الخلاء [وعنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك) أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم] . انتهينا من الكيفيات والهيئات والحالات التي يكون عليها الإنسان في قضاء الحاجة، جاء هنا في هذا الحديث ما يقول إذا خرج من الخلاء. قولها: (كان) يدل على الدوام والاستمرار. (كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) : تقدم لنا أنه إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك) . (غفرانك) منصوب على حذف العامل، بمعنى: أسألك غفرانك، أو على أنه مفعول مطلق والتقدير: اغفر غفرانك، فلأي معنى من المعاني طلب المغفرة، فإن طلب المغفرة أنما يكون عن ذنب قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ، فأي ذنب فعله هنا حتى يقول: (غفرانك) . يذهب العلماء إلى البحث عن الموجب لطلب الغفران في هذه الحالة، فبعضهم يقول: ربما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على جميع أحيانه، وما كان يغفل عن ذكر الله أبداً، وإذا كان عامة المؤمنين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون. إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وقد جاء في حقه: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فقالوا: وقت نزوله لقضاء حاجته لا يستطيع أن يذكر الله، فهو يتعطل عن ذكر الله مدة وجوده في بيت الخلاء، فإذا ما انتهى اعتبر امتناعه عن ذكر الله تلك الفترة كأنه ذنب وتقصير، فيطلب من الله الغفران عن هذا التقصير، فكأن المعنى: أننا أكلنا كثيراً واحتجنا إلى بيت الخلاء، فانشغلنا بالطعام والشراب، وتسببنا في ما يبعدنا عن ذكر الله. وبعضهم يقول: إنما يقول: (غفرانك) لأنه كل إنسان حينما أنعم الله عليه بنعمة العافية، ورزقه الطعام والطيبات من الرزق، وأكل واستمتع وانتفع في بدنه، ثم إن هذا الخارج عبارة عن فاضل هذه النعمة بعد أن أخذ منها فائدتها واستفاد الجسم منها، ويسر الله خروج المؤذي منها، فإذاً: هذه نعم متوالية: نعمة العافية، ونعمة الطيب من الرزق، ونعمة الاستمتاع بالطيب الحلال، ثم نعمة وإخراج المؤذي من تلك النعمة وفضلاتها نعمة أخرى. ولذا يقولون: إن بعض الملوك دخل عليه شخص من زهاد الدنيا وقال: ماذا تطلب؟ قال: وما الذي لديك؟ قال: ما تريده. قال: كل ما عندك لا يساوي بولة ولا كأس ماء. قال: كيف هذا؟ قال: إذا كنت في فلاة ونفد ماؤك وأشرفت على الموت وتطلب كأس ماء، أتشتريه بالملك أو لا؟ قال: نعم. قال: إذاً: ملكك لا يساوي إلا كأس ماء، وإذا شربتها واحتبس عليك البول، وطلبت إخراجه، أتدفع ملكك في إخراج هذا البول أو لا؟ قال: نعم. قال: إذاً: ملكك لا يساوي كأس ماء تشربها ولا بوله تخرجها. ومن هنا -أيها الإخوة- كان من نعم الله على الإنسان أن متعه بالصحة وأنعم عليه بطيبات الرزق، واستمتع بطعمها، واستفاد بما أودعت من فوائد في جسمه، ثم أنعم الله عليه بإخراجها. والله -يا إخوان- لقد رأيت إنساناً في حوالي سن الأربعين منذ أكثر من أربعين سنة يدور في الشوارع ويصيح بسبب إمساك عنده، وعجز الناس عن أن يسعفوه بشيء، فإذا حبس في الإنسان فضلات الطعام فهذه مصيبة. قال العلماء: فالنبي صلى الله عليه وسلم استشعر نعمة الله عليه بالصحة، وبالرزق الطيب، وبالاستفادة من هذا الرزق، ثم يسر عليه خروج هذا المؤذي، فكأنه يقول: لا يستطيع الإنسان أن يشكرها لله سبحانه وتعالى، فيستغفر على التقصير من أنه لم يقدم لله من العبادات ومن الذكر ما يعادل تلك النعم المتعددة. إذاً (غفرانك) إما لأنه منع من ذكر الله في تلك الفترة، أو لأنه استشعر نعم الله عليه، واستشعر التقصير في شكره عليها، فيطلب الغفران لذلك. وهذا تنبيه لنا على أن نستشعر نعم الله علينا، وأن نسأل الله دائماً وأبداً أن يوزعنا شكر النعمة ولو كانت شربة ماء، ولو كانت خروج فضلات من جسمه؛ لأن هذا سواء كان في الإدخال أو في الإخراج فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى.

الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالروثة والعظم

الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالروثة والعظم [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً، فأتيته بروثة فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا رجس -أو ركس-) أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] . يأتي المؤلف رحمه الله بحديث ابن مسعود هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط وقضى حاجته، قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين ولم أجد الثالث، فأتيته بروثة؛ والروثة تكون غالباً للحمار أو للبغل أو للفرس، والبعرة تكون للبعير، والخثل يكون للبقر. وروث ما لا يؤكل لحمه نجس، وفضلات ما يؤكل لحمه طاهر عند كثير من العلماء ما عدا الشافعي. فهنا ابن مسعود ذهب ليأتي بثلاثة أحجار ما وجد إلا حجرين، فألغى وصف الحجرية وجاء بالروثة اجتهاداً منه بأن يأتي بثلاثة أحجار. فلما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحجرين ورد الروثة، وقال: (ائتني بغيرها، ثم قال له في سبب ردها: إنها (رجس) بالجيم أو (ركس) بالكاف) . الرجس والركس هو: النجس؛ فأخذ العلماء بأنه لا يجوز الاستنجاء بشيء نجس؛ لأن النجاسة لا تزال بنجس. ولذا قال بعض العلماء: لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين، بل طلب الثالث، وقال ابن حزم: لابد من الأحجار الثلاثة لثلاث مسحات. والله تعالى أعلم. [وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] . يعني: لم يكتف بالحجرين، بل طلب حجراً ثالثاً. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وصححه] . أما العظم فلأنه أملس، وأما الروث فلأنه نجس، فلا يصح واحد منهما أن يستعمل في الاستنجاء، وهما لا يطهران، وعلى هذا لا يجوز الاستجمار بالعظم ولا بالروث، ويزاد على ذلك أيضاً العلة التي ذكرها العلماء في أنها طعام للجن ودوابهم. والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4]

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4] إن ديننا الإسلامي الحنيف دعا إلى النظافة والطهارة، وجعل لذلك آداباً يلتزم المؤمن بها، منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، ومن ذلك: الاستنزاه من البول، وتنقية المكان من نجاسة البول والغائط، والجمع بين الحجارة والماء لأجل طهارة المحل ونظافته، ولا يعني ذلك أن يبالغ العبد حتى يصل إلى الوسوسة والشك، فإن هذا مذموم في الشرع، ومنهي عنه.

وجوب التنزه من البول

وجوب التنزه من البول الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني] . الاستنزاه من البول ومن جميع النجاسات واجب سواء كان للصلاة أو غيرها، والبعض يقول: الوجوب فيه من أجل الطهارة للصلاة، والجمهور على أن الواجب الاستنزاه من القذارات ولو لم تكن نجسة، ثم يجب التجنب لكل النجاسات قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] كما قيل في بعض أوجه التفسير في هذا اللفظ الكريم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا) أخذ منه العلماء أن البول نجس ينبغي التنزه عنه، وكيف يكون التنزه من البول؟ قالوا: بعدم مخالطته. وفي بعض الروايات: (استبرئوا من البول) كما في حديث عذاب القبر لرجلين، الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ ثم قال: بلى إنه لكبير! أما أحدهما فكان لا يستتر -وفي رواية: فكان لا يستنزه، وفي رواية: فكان لا يستبرئ- من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس) . ، وهذا الحديث أطال الشوكاني في شرحه في نيل الأوطار. : (استتروا من البول أو استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) . (عامة) من ألفاظ العموم، وبعضهم يقول: فإن عذاب القبر منه، وقالوا: مناسبة عذاب القبر من البول ليس في ذاته، فإنه لم يترتب العذاب على عدم التنزه من البول أو الاستبراء من البول، ولكن لأنه يؤدي الصلاة وهو على تلك الحالة، والصلاة يشترط فيها طهارة البدن والثوب والمكان، فهو حينئذ إذا لم يستنزه من البول وصلى سيكون فاقد شرط صحة الصلاة، فتكون الصلاة باطلة، ومن بطلت صلاته كان هذا مصيره، وسيأتي زيادة الإيضاح لذلك بعد الحديث الآتي إن شاء الله.

الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر

الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر وهنا موضوع أساسي، وإن كان ليس من آداب قضاء الحاجة، ولكنه من لازم هذا الحديث، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عامة عذاب القبر منه) فهذا الحديث نص صريح في وجود عذاب القبر، وهناك من أنكر ذلك كالمعتزلة ومن نحا نحوهم، ولكن الجمهور يثبتون عذاب القبر لنصوص متعددة منها هذا الحديث، ومنها قول المرأة اليهودية التي كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها وأكرمتها، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت:: (إن فلانة اليهودية قالت لي كذا، أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: بلى يا عائشة) . وكذلك الحديث الذي جاء في البكاء على الميت: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه) هذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعائشة رضي الله تعالى عنها لما سمعت ذلك قالت: (رحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يهودية ماتت، وهم يبكون عليها: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) أي: لكونها يهودية. ومهما يكن من شيء فقد ثبت عذاب القبر كما ثبت نعيمه، وذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القبر إما حفرة من حفر النار وإما روضة من رياض الجنة، وإذا أسند العبد في قبره -أي: بعد السؤال- فالمؤمن أول ما يفتح له باب من النار، ويقال له: كان هذا مقعدك لو لم تكن مؤمناً، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال له: ذاك مقعدك يوم القيامة، فالكافر يقول: رب! لا تقم الساعة. والمؤمن يقول: يا رب! أقم الساعة أقم الساعة) . وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: من العلماء من استدل على عذاب القبر من كتاب الله في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} يعني: قبل أن تقوم الساعة {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي: صباحاً ومساءً، إذاً: هذا استنتاج من كتاب الله يثبت وجود عذاب القبر لأصحابه غدواً وعشياً، ثم يكون لهم يوم القيامة شيئاً آخر.

عذاب البرزخ ونعيمه وتعلقه بالبدن أو الروح

عذاب البرزخ ونعيمه وتعلقه بالبدن أو الروح وهنا بحث طويل -بالنتيجة فيه والله تعالى أعلم- وهو: هل عذاب القبر للجسم وقد فني وصار تراباً أم أنه للروح، أو للروح مع الجسم؟ ليس هناك نتيجة قطعية، لأن عالم البرزخ عالم غيب، ولا يستطيع عقل البشر أن يتصور حقيقة عالم البرزخ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار الأمر العجيب، جاء في حق نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر عليه وهو قائم في قبره يصلي، ثم لما وصل بيت المقدس فإذا هو مع الأنبياء في استقباله، ثم لما عرج به صلى الله عليه وسلم فإذا به في السماء السادسة، فإذاً موضوع البرزخ أمر لا يعلم حقيقته إلا الله. وجاء في حق الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأجسامهم في الأرض مدفونة، وقدمنا ما ثبت في حق شهداء أحد لما دفنوا في أرض المعركة على ما هو الأصل والسنة في ذلك: أن شهداء المعركة يدفنون في موطن مصرعهم ولا ينقلون، ولكن جاء سيل وجرف بعض القبور من شهداء أحد، منهم سيد الشهداء عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة؛ فنقلوه من مجرى السيل إلى الربوة المرتفعة التي هو فيها الآن، يقول مالك: لما جرف السيل الأرض عن قبورهم وجدوا أجسادهم طرية كأنهم دفنوا بالأمس، وذلك بعد أربعين سنة من دفنهم، فهذه حالة لا يمكن للإنسان أن يتصورها بعقله. وذكرت لكم القصة التي ذكرها لي بعض أعضاء الهيئة الذين كانوا في منطقة أحد، قالوا: توفيت لنا طفلة، فتباطأنا أن نذهب بها إلى البقيع، وقلنا: ندفنها هنا في مقبرة الشهداء، فذهب أبوها ليحفر لها في مقبرة الشهداء، فما لبث أن واجهه الدم في وجهه، فألقى بالمسحاة وتحسس، فإذا المسحاة قد مست فخذ رجل، وتطاير منه الدم على وجهه، نحن إذا قلنا: إنهم أحياء وهم في هذا التراب مقبورين، كيف نتصور حياة لهؤلاء؟ بماذا يتغذون؟ وكيف يتنفسون؟ لكن هم أحياء عند ربهم يرزقون، كيف يرزقهم؟ هذا شيء لا دخل لنا فيه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الوصال في الصوم أنه قال: (لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين) وقالوا: لو كان يطعمه ويسقيه كما نطعم نحن ونشرب لم يكن هذا صياماً، ولكن (عند ربي) والله سبحانه وتعالى أعلم بكيفية إطعامه وسقيه وهو في الحياة بين أظهرنا، فكيف يكون الحال في موضوع القبر؟!

تحقيق الخلاف في طهارة أبوال وأرواث مأكول اللحم

تحقيق الخلاف في طهارة أبوال وأرواث مأكول اللحم الرسول صلى الله عليه وسلم ينص هنا ويأمرنا ويرشدنا: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) والحديث الآخر: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول -واللفظ الآخر: من بوله-) فأخذ بعض العلماء كلمة: (من البول) على عمومها، وجعل كل بول من كل حيوان يجب أن نستنزه منه، والبعض أخذ هذا العام وخصصه بالخاص وهو لفظ (بوله) أي: بول الإنسان. ثم قسموا بول الحيوان إلى قسمين: ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، فما لا يؤكل لحمه فبوله نجس عند الجميع، وما يؤكل لحمه فبوله طاهر عند مالك وعند أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: بوله أيضاً نجس كعامة الأبوال. والذين قالوا بطهارة بول مأكول اللحم قالوا بأنه جاءت نصوص تؤيد هذا، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء العرنيون واجتووا المدينة ومرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا مع رعاة إبل الصدقة، فيكونوا معهم في البادية، وليشربوا من ألبان الإبل ويغتسلوا من أبوالها، وكذلك الأمر (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) وإذا صلوا في مرابض الغنم، وفيها أبوالها وأبعرتها، فيكون قد صلى في موطن فيه بول مأكول اللحم، فإذاً: أبوالها طاهرة. والشافعي -كما أشرنا- يعتمد على عموم الأمر بالتنزه من البول على أن (ال) للاستغراق فهي تستغرق جميع البول. وبعض العلماء يقول: (ال) هنا للعهد، أي: عهد الإنسان المخاطب، وهذا لعله الأرجح، والله تعالى أعلم.

وجوب ارتياد المكان الصالح للبول

وجوب ارتياد المكان الصالح للبول وهناك أدب من آداب التخلي يساعد على الاستنزاه من البول، وهو ارتياد مكان البول، فمثلاً يقولون: من المواطن التي نهي عن البول فيها تحت الشجر المثمر، أو في ظل الناس، وموارد المياه، فهذه الأماكن نهى صلى الله عليه وسلم أن يقضي الإنسان حاجته فيها؛ لما فيه من مضرة للناس، وكذلك قارعة الطريق للحديث: (اتقوا الملاعن الثلاث) إلخ. ويقولون أيضاً: مما نهي عن البول فيه لحكم عديدة الجحر، فإذا وجدت جحراً في الأرض فلا تبل فيه؛ لأنه جاء في تفسير بعض الروايات أنها مساكن الجن، أو مأوى الحشرات، فإذا كان الجحر فيه ثعبان أو حشرة مؤذية وأحست ببول الإنسان فإنها تبادر بالخروج، وحينئذ يفزع منه، وربما أصابه من بوله في حالة الفزع. كذلك المكان الصلب، لا ينبغي للإنسان أن يبول فيه؛ لأن الأرض الصلبة ترد رذاذ البول على الإنسان، بل ينبغي أن يرتاد لبوله مكاناً رخواً مثل الرمل والتراب، ومثل هذه الأشياء اللينة؛ فإنها تتشرب البول ولا ترده على صاحبه. ومما يذكرون في باب طلب العلم: أن إنساناً توجه إلى طلب العلم وهو كبير السن، وكان قد كف بصره، فحضر مجلس علم ولم يستوعب كل ما قيل، فأخذ على نفسه عهداً أن يذهب ويحضر في مجلس العلم، وإذا استوعب مسألة اكتفى بها ورجع، هكذا يقولون، وكان معه ولده يقوده من بيته إلى مقر التعليم، وكان من قرية والمعلم الذي يتعلم عنده في قرية أخرى، فخرج مرة ثم احتاج أن يبول، فجلس وكان مجلسه وهو لا يرى على مكان صلب، فأحس برذاذ البول يرجع عليه، فلما انتهى قام وجاء قافلاً إلى بيته، فقال ولده: لماذا لا تذهب إلى مجلس العلم؟ قال: إني عاهدت نفسي أن أكتفي بفائدة واحدة في كل ليلة، وقد استفدت هذه الليلة. قال: ماذا استفدت؟ قال: استفدت أني لا أريق البول على أرض صلبة؛ لأن ذلك يعكس رذاذ البول على الإنسان. وجاء راجعاً!! وكذلك لا يستقبل بالبول مكاناً مرتفعاً؛ لأن المكان المرتفع يجعل البول يسيل عليه، فإذا كان مستتراً بثوبه فقد يصيبه من هذا البول النازل. فإذاً: يتجنب الإنسان مواضع أو هيئات لا يمكن أن يستنزه من البول فيها، أو أن يصيبه من بوله إذا فعل شيئاً من ذلك، وهكذا يرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى الاستنزاه من البول، ويخبرنا بأن عامة عذاب القبر منه. والله تعالى أعلم. [وللحاكم: (أكثر عذاب القبر من البول) وهو صحيح الإسناد] . وهذه الزيادة تبين كلمة (عامة) فإنها قد تكون للشمول وقد تكون للمبالغة، وجاءت كلمة (أكثر) تبين المقصود، ولماذا كان أكثر؟ قالوا: لأن بعض الناس ربما يتساهلون في ذلك. ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم بأن عادات بعض الشعوب -وخاصة في الآونة المتأخرة عند من غلبتهم عادات وتقاليد ما يسمى بالحضارة فإنهم قد لا يتنزهون من البول، وقد يريق أحدهم بوله قائماً في مكان معين لذلك، ولا يستنزه منه؛ أي: لا يغتسل ولا ينشفه بمنديل ولا ورق ولا شيء، ويكتفي بأنه أراق بوله ثم ذهب! والإسلام يأتي بهذه التعليمات ويحث على النزاهة أو الاستنزاه من البول لقذارته ولنجاسته في وقت واحد. فإذاً: أكثر عذاب القبر من البول مع رواية: (عامة عذاب القبر من البول) يدل على شدة خطره ووجوب التنزه منه.

تفريق الشرع بين المتساويات لحكمة

تفريق الشرع بين المتساويات لحكمة وتقدم لنا في باب إزالة النجاسة استثناء بعض الأبوال للآدميين، وهو حديث أبي السمح: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) فليس معنى (يرش من بول الغلام) ألا يتعرض الإنسان إليه أو أن يتركه، ولكن من العلماء من قال: بول الغلام كبول الجارية نجس، ولكن في تطهيره تخفيف على بول الجارية، ولكن بعض المتأخرين كـ المتولي من الشافعية ذكر علة في ذلك وقال: إن طبيعة بول الجارية أشد كثافة من بول الغلام؛ لأن عنصر الأنوثة زائد في بول الجارية، يؤثر عليه أكثر من عنصر الذكورة في بول الغلام، فيكتفى في بول الغلام برشه فيزيل نجاسته؛ لأنها أخف من نجاسة بول الجارية، فيغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام. وقال بعض الناس: إنكم تفرقون بين متساويين، وهذا لا يجوز. فقيل لهم: الشرع هو الذي فرق وليس هذا من عندنا، فإذا كان الأمر كذلك ورجعنا إلى الأصل فإنهما ليسا متساويين، بل هناك فرق بينهما، وقد وجدنا تفريق الإسلام بين المتساويين فعلاً في غير هذا الموطن، كما في الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) فذكر الكبد والطحال وهو دم، ولكنه دم حلال، وغيره دم نجس حرام. إذاً إذا جاء الشرع بتفريق بين متساويين في نظرنا أو في علمنا فنأخذ بما جاء عن الحكيم العليم سبحانه، أو عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى، وألغينا ما نتصوره نحن من أن ذلك لا يجوز عقلاً؛ لأن الشرع لا يخضع للعقل في الحكمة أو في حقائق الأمور، والله تعالى أعلم. قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى! إنه لكبير) يذكر العلماء في هذا النص أنه جاء منه السلب والإيجاب في مكان واحد، فنفى أن يكون تعذيبهما من كبير، ثم أثبت أنه كبير كيف يكون ذلك؟ فقالوا: كبير وليس كبير مع اختلاف الجهة، وانفكاك الجهة ينفي التعارض، كما قالوا: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى فيها) وجاءت رواية: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ولم يصل فيها) فهذان حديثان متغايران إثباتاً ونفياً، فإذا اختلف الزمان أو المكان فهنا ينتفي التعارض، فقالوا: نعم، دخل عام الفتح ولم يصل، ودخل في حجة الوداع فصلى، فالذي ذكر عدم الصلاة مع الدخول أراد وقتاً معيناً، والذي قال: دخل وصلى. أراد وقتاً آخر، فلا مانع من أن يدخل في وقت من الأوقات ولم يصل، ويدخل في وقت آخر ويصلي، ولا يكون هناك تعارض في الأخبار. وهنا قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) فقوله: (بلى إنه كبير) أي: بالنسبة لحكمه عند الله، وقوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بالنسبة للإنسان من حيث إمكان التحرز منه؛ لأن الاستتار والاستنزاه والتحفظ من البول هذا ليس بكبير على الإنسان، بل إنه ميسر له، وفي إمكانه أن يستتر ويستبرئ، وليس في ذلك كبير مشقة عليه. إذاً: (وما يعذبان في كبير) أي: لا يشق على المكلف أن يفعله. (بلى إنه لكبير) أي: كبير عند الله {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ، فالمعنى: ليس بكبير بالنسبة للمكلف، وإنه لكبير عند الله، إذاً ليس هناك تعارض بين إثبات أنه كبير وبين نفي أن يكون كبيراً؛ لأن نفي أن يكون كبيراً بالنسبة للإنسان؛ من حيث أنه يمكنه أن يتحفظ منه دون مشقة عليه، ولكنه من جهة أخرى عند الله كبير؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإن الله جميل يحب الجمال، والصلاة من شرطها الأساسي الطهارة فهو يقف بين يدي الله، وهي عماد الدين، ويترتب عليها صحة الصلاة؛ إذاً: يكون أمره كبيراً. قوله: (والآخر كان يمشي بالنميمة بين الناس) النميمة: من نم ينم، والنماء الزيادة، والنمام -عافانا الله وإياكم- يسمع الكلمة وينمها -أي: يزيدها- وينقلها إلى الآخرين، وهذا من أخطر ما يكون من أدواء المجتمعات وأمراضها، وكم يوقع من الفتن! ولهذا عظم الله أمر النميمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنها من أسباب عذاب القبر؛ لما يترتب عليها من المفاسد وقطيعة الأرحام، ومن إفساد ما بين الأخوين أو الزوجين أو الولد وأبيه. وهناك أشخاص -عافانا الله وإياكم- لا يطيب لهم الحديث إلا أن ينموا بين الناس، ويقول بعض العلماء: النميمة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليها العذاب.

كيفية القعود في الخلاء

كيفية القعود في الخلاء [وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى) رواه البيهقي بسند ضعيف] . هذا الحديث وإن كان سنده ضعيفاً إلا أن معناه صحيح. تعلمون سراقة وقصته في الهجرة، فهو الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وساخت فرسه في الأرض، وطلب الأمان. إلخ، وهو هنا يخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذا الأدب وتقدم الأثر بأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا كالوالد لكم أعلمكم: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا) فمن شفقته صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه يعلمها كل ما ينفعها، وقد تقدم معنا في حديث سلمان الذي فيه ذكر آداب الخلاء، وكذا كما في حديث سراقة هنا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس أحدكم في الخلاء فليجلس على رجله اليسرى ولينصب اليمنى) معناه: أن يجعل القدم من الأرض معتدلة كما لو كان واقفاً، وينصب قدم الرجل اليمنى ويكون مستنداً على رءوس أصابعها، فلا يمكن قدم الرجل اليمنى من الأرض كما يمكن اليسرى، واليسرى تكون متمكنة من الأرض كما لو كان يمشي، والرجل اليمنى تكون القدم فيها مرتفعة، ويستند على رءوس أصابع القدم.

الحكمة في القعود على الرجل اليسرى ونصب اليمنى عند التغوط

الحكمة في القعود على الرجل اليسرى ونصب اليمنى عند التغوط قوله: (أن ننصب اليمنى، ونقعد على اليسرى) . يقول العلماء: ما السبب في هذا؟ فأجاب بعض العلماء بأن هذا أمر شكلي؛ تكريماً لليمنى أن تكون متمكنة من الأرض كاليسرى في تلك الجلسة. والآخرون قالوا: هناك حكمة خلقية في خلقة الإنسان، وهي: أن هذا الجلوس يساعد على خروج الفضلات، ويقول الأطباء: بأن المستقيم الذي يخرج الفضلات إلى الخارج يأتي من جهة اليسار، فإذا ما نصب اليمنى وجلس على اليسرى سيميل -بطبيعة الحال- بارتفاع اليمنى إلى جهة اليسار، فيكون بميلانه إلى اليسار ويده منضمة هكذا بمثابة من يعتصر المستقيم ليساعد على خروج الخارج بيسر، وخاصة إذا كان هناك إمساك فإن هذه الهيئة على هذا الوضع تسهل عملية التبرز، وتساعد على إخراج ما في الجسم من فضلات، ويكون ذلك من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه فرق بين اليمنى واليسرى. ويقول بعض المستحدثين: كيف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرى ذلك أو يعلم ذلك في تشريح الإنسان أو في وضع أعضائه الداخلية؟ وذكر في مواطن أخرى الأمور الخارجية كقوله: (كل سلامى من ابن آدم كل يوم عليه صدقة) وقالوا: ثلاثمائة وستون مفصلاً في الإنسان كيف عدها؟! إذاً علم التشريح يبين تلك المواضع والوظائف. وهذا عالم بحار غربي أسلم بسبب ما جاء في القرآن الكريم على صفة البحر {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] ووجد ذلك فعلاً في البحر الأسود، وهو أشد البحار أمواجاً وخطورة، ولما سمع الآية قال: عجيب! محمد لم يخرج من الجزيرة، ولم يركب البحر، ولم يزاول أعمال البحارة، كيف استطاع أن يصف هذا الوصف؟! لابد أن يكون ذلك بوحي من الله؛ إذاً: هذا دين صحيح، وهذا رسول صادق. فأسلم لهذه الآية الكريمة. فكذلك كثير من المسيحيين الذين سلموا من التعصب، أو طلبوا العلم والحقيقة بذاتها، كثيراً ما يتأملون في بعض الأحاديث فيما يتعلق بالإنسان في تركيبه أو تكوينه إلى غير ذلك، فيهديهم الله سبحانه وتعالى ببعض هذه النصوص إلى الإسلام وإلى حقيقته. وهاهنا عملية بسيطة علمنا فيها رسول الله إذا جلسنا إلى الخلاء أن نجلس على اليسرى وأن ننصب اليمنى، هذا إذا أمكن للإنسان، أما إذا كان شخصاً مريضاً أو بديناً لا يستطيع أن يجلس على رجل واحدة، فلا يستطيع أن يجلس على هذه الحالة، فلا نقول له: لابد من أن تفعل ذلك؛ لأن هذا يشق عليه، بل بقدر المستطاع ما دام أنه في مجرى التعليم، وأنه لأمر ترجع نتيجته إلى الإنسان في ذاته، والله سبحانه وتعالى أعلم. بالمناسبة: ربما يقول إنسان: نحن المسلمين جاءت إلينا بعض المظاهر في الحياة عن غيرنا، كهذه المقاعد الإفرنجية، وهي فعلاً جاءتنا من الإفرنج، يجلس الشخص عليها جلوسه على الكرسي ويقضي حاجته، فلا يستطيع أن ينصب اليمنى ولا أن يجلس على اليسرى، بل إنه رافع لرجليه، فيكون هذا مخالفاً للسنة، فهو بدعة. نقول: لا، إذا كان للإنسان بديل، ويصعب عليه الجلوس على بيت الخلاء العادي والقيام عنه، ولكن هذه التي وجدت -كما قيل- إفرنجية تساعد على قضاء حاجته برفق فلا بأس، فإذا كان الأمر كذلك فالإنسان ينظر ما يمكن أن يستريح به، وكيف يمكن أن يقضي حاجته على راحته، وأن يتمكن من أداء طهارته، سواءً كان على كرسي عربي أو على إفرنجي، أو كان في الخلاء، أو ينصب اليمنى أو يجلس عليهما، إنما ذلك من باب الأفضلية وليس بواجب، ولا يعاب على إنسان استعمل هذه المقاعد الأخرى؛ لأنه ربما يكون أيسر له، ويعجز أن يستعمل غيرها، والله تعالى أعلم.

حديث النتر عند البول وكلام العلماء عليه

حديث النتر عند البول وكلام العلماء عليه [قال: وعن عيسى بن يزداد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات) رواه ابن ماجة بسند ضعيف] . هذا أدب من الآداب، ولاحظوا هذا الترتيب فإن المؤلف دقيق جداً! فإنه ذكر لنا في حالة قضاء الحاجة أن نجلس على اليسرى وننصب اليمنى، وأن ذلك يساعد على إخراج الفضلات، ثم يعقبه بهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) . (ينتر) بمعنى: يحرك طرف ذكره؛ لكي يخرج ما يمكن أن يكون في قصبة الذكر من بقايا البول، ولكن لما كان هذا الحديث ضعيفاً، وهذا الفعل فيه تكلف ولسنا مكلفين به في شيء، ولا يكون نجساً تجب طهارته إلا إذا خرج عن خارج الجسم، وقبل أن يكون خارج الجسم فالمثانة تكون مليئة بالبول وهو قائم يصلي، فهذا داخل الجسم لا تكليف في ذلك، ولذا قالوا: إن المبالغة في نتر الذكر قد تؤدي إلى سلس البول، وعند التحقيق نجد أن سلس البول سببه ضعف العضلة العاصرة، فالعضلة العاصرة عند البول، والعضلة العاصرة عند الغائط وظيفتها أنها تمسك ولا تخرج شيئاً إلا بإعطاء تعليمات لها من المخ بأن ترتخي ليخرج البول أو الغائط، فهي تعتصر وتمنع أن ينزل من البول شيء إلا إذا استرخاها العقل وقال لها: اتركي الاعتصار ليخرج البول في طريقه، وكذلك العضلة العاصرة للغائط تمسك المخرج حتى لا يخرج شيء إلا عند إرادة ورغبة الإنسان. وقالوا: إن استعمال نتر الذكر بكثرة قد يؤدي إلى ضعف تلك العضلة، فلا تقوى على الاعتصار، فيتفلت منها بعض قطرات البول، ويصبح مبتلى بالسلس. ويقولون: إن بعض السلف كان يفعل ذلك، فأصيب بهذا فترة، وبعضهم سمع حديث: (استنزهوا من البول) فكان يأخذ زجاجة، وإذا دخل الخلاء يفرغ بوله في تلك الزجاجة، ثم إذا خرج تخلص منها، فقال له ولده بلطف: يا أبت! لماذا تفعل ذلك؟ قال: تحفظاً من البول قال: هل فعل ذلك رسول الله؟ قال: لا. قال: هل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون؟ قال: لا. قال: هل فعله أحد من أصحابه الكرام؟ قال: لا. قال: ألا يكفيك ما يكفيهم؟ قال: بلى -والله- وتركها وقال: الحمد لله الذي جعل هدايتي على يد ولدي. فالمبالغة في هذه الأمور قد تزيد عن حدها، فالذي يتحفظ من البول ليستنزه منه فوق العادة قد يؤدي به ذلك إلى الوسوسة، ويخرجه عن حد الطاقة العادية، والذي ينتر ذكره ليخرج ما بقي هذه أيضاً قد يكون فيها مبالغة، ولكن إذا كان الإنسان مبتلى بالسلس وبقي شيء ولا يمكن أن يخرج إلا بهذا الأمر فلا بأس. وهناك مسألة تتعلق بخروج المني بعد الغسل: إذا انفصل المني عن الصلب ولم يخرج إلى الخارج ثم خرج بعد الغسل، هل يعيد الغسل أم لا؟ فقوم قالوا: لا غسل عليه لأنه لم يخرج من الخارج. وقوم قالوا: إذا تحرك من مكانه ففيه الغسل، ثم إذا خرج بعد ذلك هناك من يقول: يغتسل؛ لأنه خرج إلى الخارج. وهناك من يقول: لا يغتسل؛ لأنه اغتسل منه من قبل. ويتفقون على أن الإنسان بعد أن يخرج المني يستحسن له أن يريق البول؛ لأنه إذا كان في القصبة شيء من بقايا المني فإن البول يزيله، لا لأنه نجس يطهر محله؛ فالمني طاهر عند الجمهور، ولكن حتى لا يبقى في ذلك المكان، وربما يحصل التهاب في المكان الذي بقي فيه، وإذا جاء البول وأخرجه أخلى المحل من آثاره وسلم من آفاته. فماذا تعمل المرأة، وليس عندها طريق في الاستنتار، إذاً الغرض من هذا أن يتأكد الإنسان قبل أن يقوم من مكانه بأن بوله قد انتهى، ولاسيما الذين أصيبوا بمرض (البروستاتا) فقد تضغط على الحالب، أو تجعل البول ينزل ببطء، فيظن أن البول قد انتهى، وإذا قام فإذا بشيء يسبقه. إذاً: الغرض من أن ينتر الرجل ذكره هو التأكد من أنه قضى بوله وانتهى، وقد جاء في حديث الأعرابي: (لا تزرموه) أي: اتركوه لينزل البول بطبيعته. وعلى كل: فالحديث سنده ضعيف، والجمهور لم يأخذوا به، والغرض منه التأكد من إنهاء عملية إراقة البول كاملة؛ حتى لا يبقى شيء في الطريق إذا قام وتحرك نزل عليه وعلى ثيابه، والله تعالى أعلم.

مسألة الجمع بين الحجارة والماء حال الاستنجاء وكلام العلماء فيها

مسألة الجمع بين الحجارة والماء حال الاستنجاء وكلام العلماء فيها قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إن الله يثني عليكم. فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة] . هذا الحديث -يا إخوان- يأخذ حيزاً كبيراً، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] والواقع أن تناول هذه الآية يرتبط بما قبلها فيما يتعلق بمسجد الضرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] بخلاف مسجد الضرار فإنه أسس ليكون مأوى للذين يحاربون الله ورسوله، فهنا كانت مقارنة. وقد جاء في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] (أنه تشاحَّ رجلان قال أحدهما: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله. فأتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من حصباء الأرض وضرب بها أرض المسجد، فقال: مسجدكم هذا، مسجدكم هذا (ثلاث مرات)) وهذه الآية نزلت في قباء قطعاً؛ لأنها في مقابلة مسجد الضرار، وبين سبحانه وتعالى أنه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه} [التوبة:108] فلما ذكر سبحانه مسجد الضرار، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه أبداً، وجاء بالمسجد الآخر وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فهو المراد بذلك. وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هذه الأولية هل هي أولية زمنية أم أولية أفضلية؟ إن كانت أولية الزمنية فمسجد قباء بني قبل هذا المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بناه قبل أن يصل إلى المدينة، وقبل أن يشرع في بناء هذا المسجد، وإن كان من الأولولية والأفضلية فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع الذي ترتضيه العقول والنصوص أن المقارنة تصلح لكل مسجد على وجه الأرض أسس من أول يوم على تقوى، لأن هناك مساجد تقام للرياء والسمعة، كمن يبني مسجداً ليجعل له ضريحاً فيه، يكون المسجد وسيلة إلى أن يدفن في هذا المسجد، وكمن يبني مسجداً لأجل أن يغتصب الأرض، وقد تكون هناك عوامل أخرى، فمعنى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] : أنه ليس هناك دخل، وليس هناك غبن، وليس هناك غش ولا غرض آخر، فهو أحق من أن يقوم الإنسان في مسجد فيه شبهة أو تهمة مما يتجنب أمره، فهي عامة. إذاً على هذا: سبب النزول -كما يقول علماء الأصول- قطعي الدخول في النص، وسبب النزول هو مسجد قباء، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم: (إن الله يثني عليكم -أي: في الطهارة- ماذا تفعلون؟) هناك تأتي بعض الروايات: (إنا نستنجي بالماء) وهناك الرواية المشهورة: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستجمر بالحجارة أولاً ثم نغسل ونستنجي بالماء بعد ذلك، إذاً هذا هو السبب. ولهذا قال العلماء: أيها أفضل: الاستجمار فقط بالحجارة أم الغسل بالماء فقط، أم الجمع بينهما؟ واتفقوا على أن الجمع بينهما أفضل. وبعض العلماء يقول: لم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة والماء، ففي قضية تبوك حديث المغيرة: (ائتني بثلاثة أحجار) وحديث ابن مسعود: (فأتيته بحجرين وروثة) وحديث المغيرة: (ثم جاء فصببت على يديه فتوضأ) وكانت الإداوة مع المغيرة فقالوا: الرسول لم يجمع بين الحجارة والماء في حديث عرفناه. والآخرون استدلوا بقوله: (إن الله يثني عليكم) فبينوا السبب في ثنائه عليهم ما هو، فقالوا: (نتبع الماء الحجارة) ولا شك أن استعمال طهورين أولى من استعمال طهور واحد، ولا شك أن الماء ينقي. وقد قيل لبعض السلف: تستنجي بالماء؟ قال: إذاً تظل يدي منتنة؛ لأنه يباشر النجوى باليد في غسل الماء، وأما استعمال الحجارة فإن اليد لا تباشر النجاسة، فكان البعض يكره استعمال الماء؛ لأنه يباشر النجاسة بيده عند الغسل. والبعض يقول: هذه طهارة، وينبغي استعمالها، واتفقوا على أن الجمع بين الطهورين أفضل، فيستجمر بالحجارة ولا يباشر النجوى بيده، ثم يغسل بالماء ما أبقت الحجارة في ذلك المحل، وهذا أخذاً من هذا الحديث: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستعمل الحجارة أولاً بالاستجمار، ثم نتبع الاستجمار بالغسل بالماء، فنجمع بين الأمرين. والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [1]

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [1] ينبغي معرفة مدى اهتمام الإسلام بالمظهر العام للمسلمين، فقد شرع أنواعاً من الأعمال، منها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، والرجال والنساء فيها على ااسواء، ومن تلك الأعمال الغسل لمن جامع، سواء أنزل أم لم ينزل، والغسل لمن أسلم، والغسل يوم الجمعة، وغيرها.

شرح حديث: (الماء من الماء)

شرح حديث: (الماء من الماء) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:-[عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) رواه مسلم، وأصله في البخاري] . ذكر المؤلف رحمه الله باب الغسل، وأورد فيه عدة أحاديث، وبدأها بقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء من الماء) ، فما المقصود بالحديث؟ قالوا: هذا من حسن الجناس في اللغة؛ لأن الماء الأول غير الماء الثاني، فالماء الأول هو: الماء المعهود للشرب والغسل، وأما الماء الثاني فالمقصود به المني. والمعنى: أن استعمال الماء -للغسل- يكون من الماء الذي يخرج من الرجل، ومفهوم المخالفة: إذا لم ينزل المني فلا يجب الغسل، وسيأتي الجمع بين هذا الحديث وبين حديث: (إذا جلس بين شعبها) ، فلو أن إنساناً أتى أهله فأكسل -لم ينزل- فهل يجب عليه الغسل؟ إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد: (الماء من الماء) ، فهذا النص بهذا اللفظ لا يمنع أن يكون الماء من شيء آخر، لكن جاء الحديث بالحصر: (إنما الماء من الماء) ، والحصر كما يقولون: يحصر المبتدأ في خبره، فإذا قيل: إنما الماء من الماء، فلا غسل إلا لنزول المني فقط، لكن: (الماء من الماء) بدون حصر معناه: أن الغسل قد يكون من غير النزول كالجماع بدون إنزال مثلاً، وهناك من يقول: من أتى أهله فأكسل -لم ينزل المني- فلا غسل عليه. وسبب هذا الحديث: أن أحد الصحابة كان على بطن زوجه، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعجل وقام ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تأخره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عليك، إنما الماء من الماء) ، ما دمت أعجلت عليها ولم تنزل، فلا غسل عليك، لأن الغسل لا يجب إلا مع النزول، وإنما عليك أن تغسل فرجك، فأخذ بعض العلماء من هذا أن من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه. ثم جاء الحديث الآخر: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، قال بعضهم: الشعب كناية عن اليدين والرجلين، وذلك كناية عن الجماع، وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم جهدها) والجهد من الجهد، وهو: الطاقة؛ لأن المرأة تبذل جهداً، أو أن الرجل يحملها جهداً في هذه العملية، وذكر ابن دقيق العيد أن من معاني الجهد لغة: النكاح، فقوله: (ثم جهدها) بمعنى: وطئها. وجاء في حديث آخر: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل) . وجاء أيضاًَ: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -قبل الحجاب- وعائشة جالسة فقال: إني لآتي أهلي وأكسل -لا أنزل المني- أعلي غسل؟ فقال: إني أفعله أنا وهذه ونغتسل) .

الراجح في مسألة حكم الغسل لمن جامع ولم ينزل

الراجح في مسألة حكم الغسل لمن جامع ولم ينزل والتحقيق عند العلماء أن من جامع ولم ينزل فعليه غسل. وجاء أن بعض الصحابة كان يقول: من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه،. وقال آخرون: عليه الغسل، فاختلفوا بين يدي عمر، فجاء علي رضي الله تعالى عنه فسأله عمر: ما تقول أنت؟ قال: وعلام تسألني وبجوارك أمهات المؤمنين؟! فأرسل إليهن فسلهن فإنهن أعلم بذلك منا. وهذا من ضمن ما يذكره العلماء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن ينقلن عنه بعض تصرفاته الخاصة مما يستفاد منها في التشريع، فأرسل عمر لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقالت: سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله عنها فقالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ، وفي بعض الروايات أن بعض أقاربها سألها وكان غلاماً: الرجل يجامع أهله ولم ينزل؟ قالت: مثله كمثل الفروج؛ سمع الديكة تصيح فصاح، يا ابن أختي! إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل. فلما جاء رسول عمر رضي الله تعالى عنه ونقل له حديث أم المؤمنين عائشة: (أنه إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ومعناه: ولو لم يحصل إنزال، فقال عمر: لا أسمع بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره، فجاء أبي بن كعب فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين: كان في بادئ الأمر رخصة لنا، ولا غسل إلا لمن أنزل، ومن جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، ثم عزم علينا. وكذلك في الخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره في بعض الروايات: (أفعله أنا وهذه ولا نغتسل، قال الراوي: ثم عزم علينا بعد ذلك) ، وجاء: (أفعله أنا وهذه ونغتسل) . ومن هنا نعلم: أن بعض المسائل قد تخفى على بعض الصحابة، مما تعم بها البلوى كما يقال؛ لأنها قضية بين الزوجين، وتحدث في كل ليلة، وفي كل ظهيرة، وفي كل وقت، ليس فيها تحديد زمان، ومع ذلك حكمها يخفى على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم. إذاً: مع طول الوقت ووجود الخلاف ووجود التساؤل تبلورت المسائل، وما كان مختلفاً فيه أو متجاهلاً أمره على البعض تمت معرفته؛ ولذا نجد هذه المسائل التي تسمى: بالمذهب ما جاءت عفواً، ولا قام بها الإمام في المذهب وأملاها على الناس، ولكن جزئيات وأحداث ووقائع تقع وينظر فيها الإمام على مقتضى النصوص السابقة التي وصلته، ويصدر رأيه وفتواه فيها، فتجمع ثم يأتي أصحابه وأتباعه من بعده، وتأتي أحداث وتأتي وقائع فينظرون فيها على مقتضى قواعد إمامهم وما تقدم له، وعلى أسس فتواه في نظائرها، فيضمون الأشباه والنظائر إلى أن اكتمل المذهب؛ وهو من عمل الإمام ومن عمل أتباعه وأصحابه، وتكون من المجموع مذهب فلان، من فعله وفعل تلاميذه وأتباعه. فهل قضية مثل هذه يختلفون فيها؟ نعم، ولا مانع، وعمر يتوقف ويسأل علياً، ويسأل أمهات المؤمنين، فيخبره أبي بأن ذلك الأمر كان في بادئ الأمر رخصة ثم عزم علينا. إذاً: انتهى الخلاف في هذه القضية بذلك المجلس العلمي الذي ترأسه أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وبنوا رأيهم وحكمهم على ما أتاهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهى الأمر بوجوب الغسل.

حجة القائلين بعدم نسخ حديث: (الماء من الماء)

حجة القائلين بعدم نسخ حديث: (الماء من الماء) حديث: (الماء من الماء) ، هناك من يقول: قد نسخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) . ، والصحيح أنه ليس منسوخاً؛ والمؤلف أدرك ذلك؛ ولذا جاء بحديث المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل على المرأة غسل إن هي احتلمت؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) . إذاً: للمرأة ماء، وللرجل ماء، وكانت أم سلمة موجودة فغطت وجهها وقالت: فضحت النساء، وهل المرأة تحتلم؟! استنكرت ذلك؛ لأنها ما احتلمت ولم تسمع بأن المرأة تحتلم، ولكن وجد ذلك من عدد من الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وفي بعض الروايات: (النساء شقائق الرجال) ، يعني: يجري على النساء في المنام ما يجري على الرجال، فقال: (نعم، تغتسل إن هي رأت الماء) ، لا لمجرد الاحتلام بل لرؤية الماء. وهل قوله: (رأت) رؤية علم إذا أحست بخروج الماء؟ قالوا: رؤية المرأة للماء لا يتعين خروجه؛ لأن ماءها يجد مكاناً يكمن فيه ولا يبرز إلى الخارج، فإذا أدركت أنه خرج ماؤها وانفصل عن مكانه ولو لم يبرز إلى الخارج فعليها غسل، بخلاف الرجل فإذا جاوز ماء الرجل مكانه فليس عنده مكان في الداخل يكمن فيه، بل يخرج إلى الخارج حالاً. وهكذا حديث: (إذا رأت المرأة ما يرى الرجل) ليس هناك جلوس بين الشعب، وليس هناك جهد، وليس هناك مجاوزة ختان لختان، ولكن شيء في المنام رأته تسبب في خروج الماء، فعليها غسل، وسيأتي تتمة الحديث. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) شمل المرأة؛ فالمرأة إذا رأت ماءها باحتلام أوبغيره فعليها الغسل مثل الرجل في ذلك. إذاً: حديث: (إنما الماء من الماء) لا يصح ادعاء نسخه؛ لأنه يبقى معمول به في غير الجماع؛ وهو الاحتلام، سواء كان للرجل أو كان للمرأة. وبالمناسبة يقولون: إذا رأى الرجل المني في ثوبه ولم يذكر احتلاماً، فيغتسل لقوله: (الماء من الماء) ، وقد وقع لأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه بعد أن صلى الصبح ذهب إلى الجرف، وبعد أن طلعت الشمس وجد في إزاره المني، فقال: ما أراني صليت الصبح إلا وأنا جنب. وفي بعض الروايات قال: لما أصبنا الودك لانت العروق وجرى الماء؛ لأنه في عام الرمادة آلى على نفسه ألا يأكل دهناً ولا يأكل لحماً حتى يأكل ذلك كل المسلمين؛ فلما أخصبت الأرض وعادت الأمور إلى مجاريها وأكل، قال: فلما أصبنا الودك- والودك هو: الشحم المذاب- لا نت العروق - كانت يابسة - فجرى الماء، فغسل إزاره وأعاد صلاته، ولم يأمر الناس الذين صلى بهم أن يعيدوا صلاتهم. ومن هذا أخذ العلماء: أن الصلاة إذا وقع فيها شيء من جانب الطهارة والنجاسة فخرج وقتها فلا إعادة.

هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن كلا منهما صلاته مستقلة؟

هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة؟ ابن عبد البر يتساءل في التمهيد: هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة وبطلاناً، أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؟ رجح أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؛ بدليل: أن الإمام لو نابه شيء في الإمامة، وخرج من الصلاة فالمأمومون لا شيء عليهم، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: (كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء) . أي: اغتسل- فعندما كبر كأنه كان قد وجب عليه غسل ونسي، وتذكر وكان الناس قد كبروا وراءه، فلما تبين أن تكبيرته التي وقعت واقتدى به الناس فيها غير صحيحة؛ ما بطلت تكبيرات المأمومين، وقال: مكانكم. وبقوا على تكبيرة الإحرام السابقة قياماً حتى دخل فاغتسل فجاء وكبر لنفسه وأتم الصلاة. إذاً: صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام في الطهارة صحة وبطلاناً. وهذا لا يخلو من خلاف عند العلماء كما نعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) وفي رواية أخرى: (إنما الماء من الماء) ، وبعضهم يقول: من أدوات الحصر تعريف الطرفين بأداة التعريف أل، وتعريف الطرفين يدل على الحصر، تقول: الشاعر زيد، فالمبتدأ المحلى بأل معرف، والخبر علم معرف، ومن أدوات الحصر، تقديم ما حقه التأخير، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب قدم وجيء معه (بإيا) لينطق بالكاف معه؛ لأنه لا ينطق به وحده، فلما قدم ما حقه التأخير بعد الفعل دل على الحصر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لا نعبد سواك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لا نستعين بغيرك وهكذا، فيتفق الأسلوب الأول مع الثاني إلا أنهم يقولون: أشد أدوات الحصر (إنما) لأنها بذاتها أداة مستقلة، وكذلك النفي والإثبات مثل: لا شاعر إلا زيد. (لا) هذا نفي، و (إلا) إثبات، وهي أقوى من (إنما) لأنها جاءت في (لا إله إلا الله) فلا إله: نفي لجميع الآلهة، وإلا الله: إثبات للمولى سبحانه وتعالى. إذاً: {الماء من الماء} ، كان في أول الزمن رخصة، والمعنى: لا ماء -غسل- من جماع دون إنزال، ثم عزم عليهم وأصبح الحديث خاصاً بالاحتلام إذا خرج الماء، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)

شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل) قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل) متفق عليه. زاد مسلم: (فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم. فمن أين يكون الشبه؟) ] أنس رضي الله تعالى عنه اختصر الحديث، ومن هي المرأة؟ أم سليم بنت أبي طلحة، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض مجيئه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وأبو عمير أخو أنس، فكان الرسول يغشاهم بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سليم تصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم؟! قالت: إذا جاءني كافر أبعج به بطنه) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في روايات الحديث مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، -كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأل في أمر يستوجب الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين كثيراً من الحقوق من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن هي رأت ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) ، وكانت أم سلمة رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت: أوتحتلم المرأة يا رسول الله؟! تستنكر سؤال أم سليم، والإنسان إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو ما مر عليه يستنكره، كما جاء عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] ، شيء يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟) أي شبه؟ شبه المولود من أبويه؛ لأن المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن الجنين إما أن يحمل خصائص الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث صاحب الإبل لما رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها جمل أورق؟ قال: نعم. قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً نزعه عرق) أي: من أجداده أو أعمامه أو أخواله. وعلى هذا يقولون في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل جينات في مذنبه - يعني: مثل الجيوب -، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله، إلى آخره. فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين. ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟ في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن هذا كما يقولون من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية حديثة لم تكتشف إلا متأخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض المتأخرين: إنها اجتهاديات منه صلى الله عليه وسلم لا تصدق. نقول: لا، الاجتهاديات في أمور الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما يكون فيه الاجتهاد لما قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره يشيص، فقال: إن كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً، فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) ؛ لأن الدنيا مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم ظنية. فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم يأتينا في الطب جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا بسبب إجراء العلماء تجربة كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي هو الذي يتابع الدورات، ونتائج المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد بتجدد التجارب. والأمور العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (1+1=2، 6-5=1) ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها. وأما الظنيات: فما يقال عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية على الظنيات، وقد تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن- لوجود الاكتشافات الحديثة. وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح عن المعصوم، وكل ما يتعلق بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:94] ، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فما كان غيباً فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل، ولكن بالنص الإلهي من الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة. إذاً: الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما الأب، وأما التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه وتعالى جعل في ماء الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة في ذلك أبداً، جاء في آية النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:46] فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل، وماء الرجل هو الذي يحدد الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ. } [البقرة:223] والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد قمحاً بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع.

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع ... ) قال رحمها لله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة. ] . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع ... ) هل لهذا العدد مفهوم مخالفة؟ يعني: هل هذا حصر لاغتسالاته صلى الله عليه وسلم أم أنه مجرد إخبار؟ جاء في هذا الحديث أنه كان يغتسل من أربع، وفي حديث أم سلمة أنه كان يغتسل من خمس. ، وفي حديث صفية أنه كان يغتسل من عشر، وهل هناك معارضة؟ لا توجد معارضة، كل تخبر بشيء مما كان يغتسل منه، فهنا: (كان يغتسل من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) ونحن نعلم أنه كان يغتسل للعيدين، وكان يغتسل لإحرامه، وكان يغتسل لدخول مكة، وكان يغتسل لوقوفه في عرفات. إذاً: هناك مواطن للاغتسال عديدة، وعلى هذا: إخبار أم المؤمنين عائشة لا يدل على حصر موجبات الغسل في هذه الأربعة، ثم هي جمعت لنا كما يقال: كشكولاً، وهل كل هذه الأربعة سواء في الحكم؟ فهل غسل الجمعة كغسل الجنابة؟ وهل غسل الجنابة كالغسل من الحجامة؟ وهل غسل الميت كغسل الجمعة؟ كل هذه مختلف في حكمها إلا غسل الجنابة فهو متفق عليه. إذاً: كان يغتسل من أربع، مبدئياً لا مفهوم لهذا العدد، من أربع من خمس من عشر على حسب ما جاء النص وثبت. فالموضع الأول هو غسل الجمعة: وسيأتي المؤلف إلى تفصيل هذه الأربعة، فكأنه قدم حديث عائشة بهذه الأربعة مجملة ثم يشرع في تفصيلها، فإذا كان المؤلف سيشرع في تفصيل هذه الأربعة، فنترك الكلام على تفصيلها إلى ما سيأتي به المؤلف؛ لأنه سيذكر الخلاف، سواء في غسل الجمعة، أو في غسل الحجامة، أو غسل الميت، أما الغسل من الجنابة فقد انتهينا منه، وهذا موضع إجماع. إذاً: بقي علينا بيان الكلام التفصيلي في هذه الأمور الأربعة.

شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)

شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة ثمامة بن أثال عندما أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يغتسل) رواه عبد الرزاق، وأصله متفق عليه. ] تجاوز المؤلف تلك الأربعة وجاء بقضية أخرى ليلحقها بالأربعة، ثم يأتي إلى التفصيل. يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثمامة بن أثال أمره أن يغتسل) . ثمامة سيد بني حنيفة، وكان في طريقه إلى مكة معتمراً، فأخذته خيل المسلمين وجاءوا به أسيراً، فربط في سارية المسجد، وكان يؤتى بحلب سبع شياه فيشربها، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول: (كيف بك يا ثمامة؟) فيقول: يا محمد! إن تمنن تمنن على كريم، وإن ترد فداءً أعطيتك ما يرضيك، وإن تقتل تقتل ذا دم، يعني: دمي لا يصير هدراً، فأهلي سيطالبون به، فما زال على ذلك ثلاثة أيام، والرسول يسأله ويجيب بهذه الإجابة، وفي اليوم الثالث قال: (اتركوا ثمامة) فأطلقوه، فلما أطلقوه أتى إلى الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل دينكم؟ قالوا: يغتسل، فذهب فاغتسل، فجاء فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لِمَ لَمْ تفعل ذلك من أول يوم؟ قال: لا، خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، فلما أطلق سراحي جئت بحريتي. إذاً: الرواية هنا في قصة ثمامة أنه سأل وأخبره الصحابة فذهب إلى بيرحاء، وكانت عند مقدمة المسجد في الجهة الشمالية، -وكانت موجودةً إلى وقت قريب قبل هذه التوسعة الأخيرة- فاغتسل هناك وجاء إلى صلاة الظهر وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم. هنا يقول (إن الرسول أمره أن يغتسل) ، وهل كل من أسلم جديداً نأمره بالاغتسال أم لا؟ نعم على قول الجمهور ما عدا أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: لا غسل عليه؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. وبعضهم يقول: إن كان قد وقعت عليه جنابة ولم يغتسل أمرناه بالغسل. وبعضهم يقول: يغتسل، أجنب أو لم يجنب. والجمهور على أن غسل من أراد الإسلام ليس بفرض؛ لأنهم في غزاتهم وفي إسلامهم وفي دخول الناس في الدين أفواجاً ما ثبت أن الرسول أمر إنساناً أسلم أن يغتسل، كما يفعل بعض المتأخرين؛ يلزم من يريد الإسلام أن يختتن، فلربما ترك الإسلام من أجل ذلك. الذي يهمنا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يغتسل، وهل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ قالوا: ليس للوجوب؛ لأننا وجدنا صوراً عديدة ممن دخل في الإسلام ولم يأمرهم قادة الجيوش وأمراؤهم أن يغتسلوا، وجاءت الوفود وأسلموا في المدينة -وفد ثقيف، ووفد تميم- وما أمروا أن يغتسلوا قبل أن يسلموا. إذاً: الأولى أن يغتسل، ولكن ليس بشرط في صحة إسلامه، فيصح الإسلام ويقبل منه ولو لم يغتسل. ثم كان من شأن ثمامة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت معتمراً فأخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، قال: امض فاعتمر - أو: أتمم عمرتك) ولما جاء مكة وعلم أهل مكة أنه أسلم آذوه هناك، فتوعدهم ورجع إلى بلاده ومنع الميرة -الطعام- أن تأتي إلى مكة، وكان وادي حنيفة يمول مكة بالحنطة، فجاء أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه: أن يأمر ثمامة أن يسمح للميرة أن تأتي إلى مكة، فإن فيها الخالات والعمات، وذوي الأرحام وقد منعها، فكتب إليه بذلك ففعل. إذاً: الموضوع هنا زائد عن الأربعة، وهو أمر من أراد أن يدخل في الإسلام أن يغتسل، وهذا بصرف النظر عن الوجوب أو عن الندب، فيغتسل من أربع، وهذه زيادة على الأربع، فصار إلى الآن خمس اغتسالات، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب.

شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه السبعة. ] نعلم جميعاً أن يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، وقد جاء أن اليهود ما حسدوا المسلمين على شيء كما حسدوهم على يوم الجمعة، وقول: آمين. ويوم الجمعة اختصت به هذه الأمة وضيعته اليهود والنصارى، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله هذه الأمة ليوم الجمعة. ويوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بيوم العروبة، وقد صلى بعض الصحابة يوم الجمعة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة؛ وسبب ذلك أن اليهود كانوا يجتمعون يوم السبت لعبادتهم ولأذكارهم، فيخصون ذلك اليوم بالعبادة وينقطعون عن العمل، فرأى بعض الأنصار الأولين أن يتخذوا يوماً يجتمعون فيه، ويذكرون الله كما يفعل اليهود، فدعاهم شخص فذبح لهم شاة وصنع لهم طعاماً، وصلوا الجمعة - أي: ركعتين- في المدينة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وأحكام هذا اليوم كثيرة جداً، وسبق أن نبهت عليها، ومن أراد استقصاء أحكام يوم الجمعة فإنه يطول عليه، والكلام عن يوم الجمعة أشبه ما يكون بالكلام عن الحج، وأشرنا إلى أكثرها في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] مع قوله: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] . ومن أحكامها التي تعرض لها المؤلف هنا: الغسل ليوم الجمعة، فعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) . مما نلاحظه في هذا الحديث مدى عناية الإسلام بالمظهر والنظافة، وخاصة في أيام الأعياد والمجتمعات، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا على أحدكم إذا اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوب مهنته؟) وهذا تنظيم عجيب! أعمال المهنة سواء كانت زراعة للمزارع، أو نجارة للنجار، أو حدادة للحداد، أو أو، كل إنسان له مهنة يحتاج إلى لباس يناسبها يتحمل ما يجري عليه أثناء العمل، فإن أتى الجمعة فمن باب حسن المظهر، ومن باب حسن السمت أن يلبس من أحسن ما يملك، وقد ذكر البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، ومشهور عن كثير من العلماء أنهم يعنون بسمتهم، وكما جاء عن ابن عمر في التجمل للزوجات قوله: إنهن يردن منا ما نريد منهن. وجاء عن مالك رحمه الله أنه ما كان يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ليكون في أحسن هيئة، وذكرنا في قصته مع هارون الرشيد، حينما أتاه هارون الرشيد فلم يفتح له حالاً ولكن ذهب واغتسل، وأبدل ثيابه وتطيب ثم أذن له، فقال له هارون الرشيد ما شأنك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك، فقال له: علمت أنك لم تأت لدنيا ولكن للحديث، فكرهت أن أجلس للحديث وأنا على غير هيئة مكتملة. والله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] . وعمر رضي الله تعالى عنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأخذها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اشتر هذه، لتلبسها في الأعياد، وتتجمل بها عند الوفود. وجاء في بعض الآثار: إذا اجتمعتم فتجملوا. إذاً: عناية الإسلام بالمظهر أو بالهيئة أو بحسن السمت عناية فطرية وطبيعية، وتدل على الذوق والرقي في الإسلام.

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [2]

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [2] ينبغي للمسلم معرفة الأحكام التي لها تعلق بحياته سواء منها اليومية أو الموسمية، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بيوم الجمعة: كحكم الغسل يوم الجمعة، وحكم الأذان الأول لها، وغير ذلك.

أحكام غسل يوم الجمعة

أحكام غسل يوم الجمعة باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فقد وصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) . نجد الظاهرية يقولون: الغسل لليوم، واليوم: من الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن اعتبار اليوم في الصوم من الفجر إلى غروب الشمس، وقيل: الغسل لصلاة الجمعة، فلا يشرع بعد انقضائها. ولكن إذا نظرنا إلى مشروعية الغسل يوم الجمعة من بين بقية الأيام؛ نجد أن العلة المناسبة للغسل في هذا اليوم إنما هي لاجتماع الناس، وقد سماه الرسول: يوم عيد، أما لو كان للنظافة ونحو ذلك فأيام الأسبوع كلها تستوي في ذلك. إذاً: في هذا الحديث حث للمسلمين على الاغتسال في يوم الجمعة. ثم نأتي إلى التحديد؛ قال: (غسل يوم) ، فأضاف اليوم إلى الجمعة، ومن هنا أخذ الجمهور أن علة الغسل هي الاجتماع للجمعة.

أقوال العلماء في وقت الغسل للجمعة

أقوال العلماء في وقت الغسل للجمعة ومن مباحث هذا الغسل: متى يكون وقته؟ فنجد مالكاً رحمه الله يستحب أن يكون في أول لحظة يذهب فيها المصلي إلى المسجد، وأن يذهب إلى الجمعة بطهارة هذا الغسل. والجمهور يقولون: كلمة (يوم) يبدأ من طلوع الفجر، فلو اغتسل بعد طلوع الفجر وقصد به الغسل ليوم الجمعة أجزأه. ولكن إذا جئنا إلى الغرض كما بينته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، نجد أن قول مالك هو أنسب الأقوال؛ لملاحظة الوصف المناسب لترتب الحكم عليه. والغسل عند الجمهور -الأئمة الأربعة وغيرهم- إنما هو من أجل حضور الجمعة، فإذا فاتت الجمعة أصبح الغسل ليس ليوم الجمعة؛ ولكن غسلاً عادياً كما لو اغتسل من الحر أو من غيره.

حكم الاغتسال للجمعة

حكم الاغتسال للجمعة قوله: (واجب) ، الواجب هو: اللازم، فوجوب الغسل هنا مقيد على كل محتلم -أي بالغ-. ونظير ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بدرع وخمار) ، وهل الحائض وقت الحيض تصلي؟ لا تصلي، ولا تصح صلاتها، ولكن قوله: (حائض) أي: بلغت سن الحيض؛ لأنها أصبحت بالغة مكلفة، وعلامة بلوغها: أن يأتيها الحيض، وهنا كذلك: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل من بلغ سن الحلم. نص الحديث يدل على أن غسل يوم الجمعة واجب، فهل يوجد صارف يصرف هذا الوجوب إلى الندب؟ نجد المؤلف رحمه الله تعالى يسعفنا حالاً، ويأتي بحديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) ، هل توضأ لصلاة الصبح أو لصلاة العصر؟ لو استثنينا الجمعة سيتوضأ أربع مرات، إذاً: من توضأ يوم الجمعة للجمعة، وهذا يؤيد ما ذكرناه: من أن الغسل للجمعة هو من أجل الجمعة. قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) لا مانع، أجزأه (ومن اغتسل فالغسل أفضل) . إذاً: كون الغسل يوصف بالأفضلية يخرجه عن حد الوجوب، لكن قالوا: ماذا يمنع أن يكون واجباً وأفضل؟ لكن مقدمة الحديث: (من توضأ فبها ونعمت) ، ونعم: من أفعال المدح، وبئس: من أفعال الذم، فالحديث امتدح من توضأ يوم الجمعة، ولكن أرشد إلى ما هو الأفضل، ومن هنا اختلف العلماء في حكم الغسل للجمعة لكل محتلم: أما الظاهرية فإنهم على وجوب الغسل على كل محتلم يوم الجمعة، ويجزئ عندهم الغسل ولو بعد العصر؛ لأنه يصح وينطبق عليه أنه اغتسل يوم الجمعة، فهم يرونه واجباً على الإنسان لليوم. أما الجمهور فقد اتفقوا على أن الغسل يوم الجمعة للجمعة ليس بواجب، والذي صرف حديث الوجوب عن وجوبه حديث: (فبها ونعمت) . وإذا كان الأمر كذلك، فإن القضية قد جرى فيها الخلاف والنزاع، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ما يحل هذا النزاع، وهو أن الغسل في بادئ الأمر كان واجباً، وإنما رخص في تركه فيما بعد. إذاً: الغسل ليوم الجمعة أخذ مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الإيجاب لزوماً. المرحلة الثانية: مرحلة الندب تفضيلاً. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان المسلمون عملة أنفسهم، وكان المسجد ضيقاً، ويأتي الحر، ويأتي الناس من العالية يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذهم العرق، فتظهر منهم روائح يؤذي بعضهم بعضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو اغتسلتم لهذا اليوم) ، ثم جزم فقال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، فلما وسع الله على المسلمين - هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها - وكفوا مئونة العمل بما أتاهم من العلوج من الأسارى، وتوسع المسجد، صار الغسل مندوباً، ورخص في تركه صلى الله عليه وسلم. إذاً: الأمر بالغسل كان في بادئ الأمر واجباً لعلة، ولما زالت العلة تحول الوجوب إلى الندب، هذا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. والذين يقولون ببقاء الوجوب يقولون: هذا اجتهاد منها، وهذا ربط للواجب بعلة ما ندري هل هي صحيحة أم لا؟

أدلة الجمهور على نسخ حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)

أدلة الجمهور على نسخ حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ومما أرده الجمهور كدليل على النسخ وبقاء الندب: ما يرويه مالك رحمه الله تعالى في الموطأ: أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخطب للجمعة، فدخل رجل، والرواية الأخرى تسميه: عثمان بن عفان، فقطع عمر الخطبة وقال: (أية ساعة هذه؟) ما الذي أخرك إلى هذا الوقت حتى جئت أثناء الخطبة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت) ، يعني: ليس واجباً علي أن آتي قبل أن ينادى لها، وإلى هنا احتجاج على ظاهره، فما أن سمع عمر رضي الله تعالى عنه قوله: إلا أن توضأت وجئت؛ قال: (والوضوء؟!) يعني: تأخرت واكتفيت بالوضوء ولم تغتسل، (وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل) . وهذا بعض من يقول بالوجوب يحتج به، ومن يقول بالندب يحتج به أيضاً. فالذين قالوا بالوجوب قالوا: لولا أن غسل يوم الجمعة واجب ما أباح عمر لنفسه أن يعاتب مثل عثمان على تركه. وأجاب الآخرون فقالوا: أترون عمر يترك عثمان يجلس للصلاة مع تركه لواجب ولا يأمره بالذهاب للاغتسال؟ وقبل ذلك: أترون عثمان يترك واجباً عليه، ويأتي بالوضوء ويترك الغسل؟ ثم مجموع الصحابة الحاضرين يسمعون من الطرفين، فهل عابوا على عثمان، وقالوا له: ارجع فاغتسل. إذاً: عمر أقر عثمان على ترك الغسل، وعثمان جاء بغير اغتسال، والحاضرون من الصحابة أقروا عثمان على مجيئه بغير اغتسال، ولا يمكن لـ عثمان ولا لـ عمر ولا للحاضرين أن يقروا إنساناً عادياً على ترك واجب يتوقف عليه أمر الجمعة. إذاً: اعتبر كإجماع من الحاضرين على إقرار ما كان من عثمان رضي الله تعالى عنه.

الأذان الأول للجمعة

الأذان الأول للجمعة وتتمة لهذه القضية: لما تأخر عثمان واعتذر وقال: سمعت النداء فتوضأت وجئت، وكان مكانه وراء الزوراء، فتوضأ وجاء، ففاته جزء من الخطبة، ولما آلت إليه الخلافة أنشأ أذاناً جديداً قبل الوقت، وجعل المؤذن في السوق على الزوراء، وأين كانت الزوراء؟ الذين عاصروا المدينة قبل هذه التوسعة التي استوعبت المدينة بكاملها يعرفون الباب المصري، ويعرفون مسجد فاطمة الزهراء، وهذا محرف عن الزوراء، وقد اطلعت على صك في المحكمة للأشراف يحدد طريق الزوراء، ويحدد وقف الأشراف، وكان موجوداً داخل السور هناك. إذاً: الزوراء كانت خارج سور المدينة وراء الباب المصري إلى جهة سوق القفاصين، إلى تلك الجهة، أي: في الشمال الغربي عن المسجد. فعلى هذا: عثمان أوجد أذاناً قبل أذان الوقت الذي تصح فيه الصلاة في السوق؛ لينبه أصحاب السوق إلى أن الوقت قد دنا وقرب، ليرجعوا إلى بيوتهم ليغتسل المغتسل، ويتأهب المتأهب، فيصل إلى المسجد قبل أن يؤذن للوقت وقبل أن يشرع الإمام في الخطبة، وكانت هذه سنة سنها عثمان رضي الله تعالى عنه. والشيء بالشيء يذكر: الأذان الأول الذي أوجده عثمان رضي الله تعالى عنه كان ينادى به على المنائر، وكان الأذان الذي هو للوقت حينما يصعد الإمام المنبر، وهذا الأذان الذي هو للوقت تبتدأ بعده الخطبة. وقد تعبت في البحث عن الوقت بين الأذان الأول والثاني للجمعة، وأنسب ما يقال في ذلك: إنه يكون بما يكفي من كان في السوق أن ينقلب إلى بيته ويأتي إلى المسجد، لكن تحديده بالساعات والدقائق لم أقف عليه.

حكم الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة

حكم الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة مسألة: من كان جالساً في المسجد ثم يقوم ويصلي ركعتين بين الأذان الأول والثاني الذي تصح فيه الصلاة، هل هذا مشروع؟ هذه المسألة مستجدة، وقد سئل ابن القيم عن ذلك، فقال كلمة أود ألا يستعملها طالب علم: من ظن أنها سنة فهو أجهل من حمار أهله، وسئل عنها ابن تيمية رحمه الله -وهو شيخه- فكتب فيها رسالة وهي موجودة ضمن المجموع، وكان جواب ابن تيمية رحمه الله جواب داعية، وأنا أقول: إن في هذه الرسالة فلسفة الدعوة، وحكمة الداعي؛ فقال رحمه الله: ليعلم كل إنسان أن تلك الصلاة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد أبي بكر ولا عمر، ولكنها وجدت في عهد عثمان؛ لأن عثمان هو أول من أنشأ هذا الأذان، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذان واحد عند دخول الوقت، وكان بلال عندما يذهب يسوي الصفوف يقول للرسول صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة: لا تسبقني بآمين، وكان في يوم الجمعة يفرغ من الأذان على سطح المسجد أو البيت المقارب له، ويشرع الإمام في الخطبة، وجاء في صحيح البخاري في باب: رجم المرأة، أن عمر لما جلس على المنبر وفرغ المؤذن من الأذان قام يخطب. إذاً: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر كان أذاناً واحداً، وحينما يفرغ المؤذن وقبل أن ينزل من السطح يشرع الخطيب في الخطبة، فما كان هناك وقت يمكن لإنسان أن يصلي فيه، وإنما وجد الوقت حينما جاء عثمان رضي الله تعالى عنه وأوجد الأذان الأول، وأصبح هناك أذانان. فـ ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضوان الله تعالى عليه، وجزاه الله أحسن الجزاء في هذه الحكمة في الدعوة قال: ينبغي لطالب العلم وقد علم ذلك ألا يفعلها في نفسه، وإذا رأى من يفعلها فماذا يكون الحال؟ لينظر: إن كان ممن يظن فيه قبول النصيحة بين له، وإن كان يخشى إن هو بين له أن يجفوه ويتهمه بمحاربة السنة أو الصلاة فالترك أولى، وليلتمس له عذراً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، والأذان الأول الذي شرعه عثمان دخل في حيز المشروعية؛ لأنه مشروع من خليفة راشد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فما أوجده عثمان رضي الله تعالى عنه أصبح مشروعاً لأنه سنة خليفة راشد. يهمنا في هذا التوجيه الكريم: أخذ العذر لمن يصلي في ذلك الوقت.

حكم الأذان الأول يوم الجمعة

حكم الأذان الأول يوم الجمعة يقول بعض العلماء: إن عثمان لم يأت بجديد، ولكن كرر صورة أصلها ثابت عن رسول الله، وذلك ما وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود أذانين للصبح، وقوله: (إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) ، فكان بلال يؤذن قبل الوقت، وبين صلى الله عليه وسلم علة ذلك: (ليرجع القائم، ويتسحر الصائم) ، فعندما يسمع أذان بلال يعلم أن الوقت قد قرب؛ ولذا ينص الفقهاء على أن من أحيا تلك السنة، وجعل مؤذنين للفجر، فيجب ألا يتغايرا ولا يتبادلا، بل يكون الذي يؤذن أولاً شخصاً معروفاً، وصوته معروف؛ حتى إذا سمعه الناس عرفوا أنه الأذان الأول الذي لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام، وإذا جاء الأذان الثاني فهو الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم. فقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه وجد السنة النبوية أوجدت أذاناً قبل وقت الفجر لعلة؛ وهي: أن يرجع القائم؛ أي: الذي يقوم الليل إذا أراد أن يجدد طهارة، وإذا أراد أن يصوم يتسحر، فلما وجد الناس اشتغلوا في أسواقهم حتى وألهتهم عن الوقت، ولو انتظر الإنسان حتى ينادى للجمعة ربما فاتته نصف الخطبة أو الخطبة كلها؛ والله سبحانه يقول: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] فـ عثمان عمل بهذا؛ كما في قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلو أن إنساناً كان منزله بعيداً عن مسجد الجمعة ولو أنه تأخر حتى يسمع النداء ثم توجه، تفوته الصلاة، فيتعين عليه وجوباً أن يسعى إليها قبل أن ينادى لها، فلو أن إنساناً في العالية أو قباء- وكانوا يأتون إلى الجمعة هنا- جلس هناك حتى سمع الأذان، ثم أخذ يتوضأ ومشى على قدميه إلى أن يأتي، فهل يدرك الجمعة؟ لا يدركها، إذاً: يتعين على من حاله كذلك أن يسعى إليها قبل وقت النداء إليها بما يكفيه أن يصل إلى المسجد، فلا ينادى إليها إلا وهو موجود فيه. ونرجع إلى موضوع الغسل ليوم الجمعة، وقد وجدنا فيه حديثين: الحديث الأول: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، والحديث الثاني: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) فبعضهم يقول: الأول نسخ بالثاني، نقول: لا، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الغسل واجباً عليهم مراعاة لظروف حياتهم، فلما تغيرت الظروف تغيرت الفتوى، وتغير الحكم، فأصبح الغسل مندوباً إليه، ومن تركه صحت جمعته، كما استدلوا بقضية عثمان رضي الله تعالى عنه مع أمير المؤمنين عمر بحضرة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء لمن حمل ميتا والغسل لمن غسله

حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله وأما حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله فجمهور العلماء على أن ذلك ليس بواجب عليه، وإنما هو مندوب إليه، وقالوا: حديث متكلم فيه: (من حمل ميتاً فليتوضأ، ومن غسله فليغتسل) متكلم فيه، وجاءت آثار عن السلف رضوان الله تعالى عليهم أنهم حنطوا موتى ولم يغتسلوا، ومن أشهر ذلك: ما جاء في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما يوم أن توفي رضي الله تعالى عنه هي التي تولت غسله، ثم خرجت على الناس وقالت: أيها الناس! لقد غسلت أبا بكر وأنا اليوم صائمة، وهذا اليوم شديد البرد، فهل تجدون علي من غسل؟ إذاً: عندها خبر عن تغسيل الميت والغسل، وهذه قضية متداولة، لكنها لم تتأكد من الإيجاب على أن من غسل ميتاً يغتسل، فكلهم أجابوها: لا نرى وجوباً عليك. وقد عدد ابن عبد البر في الاستذكار آثاراً منها: (من غسل ميتاً فأصابه منه شيء فليغتسل، ومن غسل ميتاً فلم يصبه منه شيء فلا شيء عليه) . وهكذا يستحب الوضوء لمن حمل ميتاً، لا لحمل الميت لأن الميت -أصلاً- طاهر، وهو لم يباشره، إنما يباشر خشب النعش وقالوا عن علة ذلك: ليكون على استعداد للصلاة عليه عندما توضع الجنازة، لكن إذا جاء وهو بغير وضوء ووقف الناس يصلون فهو يقف منعزلاً عنهم، وإن ذهب وتوضأ فقد تفوته الصلاة. إذاً: قوله: (من حمل ميتاً) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ ليكون على استعداد للصلاة على الميت حينما يصلي عليه المصلون. وذكروا عن عبد الله بن عمر أنه حنط طفلاً له؛ أي: غسله وكفنه، ودخل المسجد وصلى عليه، ولم يغتسل ولم يتوضأ، وكذلك سعيد بن العاص حنط فلاناً ولم يغتسل، بل ولم يتوضأ وصلى، فذكروا آثاراً عديدة تدل على أن الوضوء لحمل الميت، أو الغسل من تغسيله، إنما هو على سبيل الندب والتهيؤ للصلاة عليه مع المصلين، والله تعالى أعلم.

حكم الاغتسال لمن احتجم

حكم الاغتسال لمن احتجم أما الحجامة: فلم يأت نص صحيح صريح في الغسل منها، وإنما جاءت النصوص بأنه غسل الدم، وجاءت النصوص بأنه احتجم وهو صائم، وجاءت النصوص بأنه توضأ، وقيل: الوضوء بمعنى الغسل، وقيل: لا ندري هل كان متوضأ قبل أن يحتجم أم لا؟ وهل كان وضوءه للحجامة؟ لم يأت من قوله عليه الصلاة والسلام نص قولي بأن من احتجم يغتسل، إنما اغتسل صلى الله عليه وسلم بعد الحجامة، فهل كان ذلك عن الحجامة أم لأمر غير ذلك؟ جاء عن بعض السلف أنه غسل ميتاً فاغتسل، فقال: لا تظنوا أني اغتسلت لأني غسلت الميت، بل اغتسلت للحر. فهذه نصوص ترجح رأي الجمهور بأن من غسل ميتاً ليس بواجب عليه أن يغتسل كغسل الجنابة الذي جاء في هذا الحديث. وعلى هذا: يأخذ العلماء أن دلالة الاقتران ليست قوية، ولا تؤدي إلى الوجوب أو المساواة؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها جمعت بين الغسل للجمعة وللجنابة وللحجامة ولتغسيل الميت، فكلها قرنتها في سياق واحد، فهل الاقتران يدل على أن حكمها واحد؟ نجد الفرق بين الغسل للجنابة، والغسل للجمعة، والغسل للحجامة، والغسل للميت، فليس هناك غسل متفق على وجوبه إلا غسل الجنابة، وتقدم التنبيه على تلك الأنواع الأخرى المذكورة في الحديث، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كان يقرئنا القرآن مالم يكن جنبا)

شرح حديث: (كان يقرئنا القرآن مالم يكن جنباً) قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) رواه الخمسة، وهذا لفظ الترمذي وصححه، وحسنه ابن حبان. ] هذا الحديث يكثر السؤال عنه، وخاصة ممن يحفظن القرآن من النساء عندما تطرأ عليهن الدورة الشهرية؛ لأن الحيض والجنابة لهما نفس الحكم، فالجنب ممنوع من الصلاة، وممنوع من المكث في المسجد، وقد قرنهما صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، وساوى بينهما، وقد ذكرنا أن دلالة الاقتران لا تستوجب المساواة في الحكم، ولكن النصوص الأخرى تدل على أن الحائض تمنع من المكث في المسجد لا مجرد العبور. وهنا قال علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) . علي رضي الله تعالى عنه يحكي لنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرئنا) أي: يقرأ علينا ونسمع منه القرآن، ما لم يكن جنباً، إذاً: ما لم يكن جنباً يقرئنا، وإذا كان جنباً فلا يقرئنا. وقد يكون هذا حكاية فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل علي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه توضأ وقرأ القرآن، ثم قال: هكذا من أراد أن يقرأ القرآن، أما إذا كان جنباً فلا ولا حرفاً) وكلمة: (ولا حرفاً) الحرف: يطلق على الجملة، وعلى الآية، وعلى الكلام الكثير من القرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) ، أي: على هيئة من القراءة، ومثال حرف واحد في عرف هذا الحديث: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] {ص وَالْقُرْآنِ} [ص:1] ، فلو قرأ حرفاً يقصد به التلاوة فهو آثم، ولكن إذا قرأ أو ذكر على لسانه لفظاً من القرآن كدعاء كقوله: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا. على أنه يدعو ويسأل الله، ولا يريد به تلاوة؛ فلا شيء عليه لأنه يعتبر ذكر، والجنب والحائض كل منهما يذكر الله بغير القرآن. وفي قصة أسماء لما حاضت عند أبيار علي، وسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (مرها فلتغتسل وتفعل كل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر) . والحاج يلبي، ويحمد الله، ويسبح، ويدعو، ويأتي إلى عرفات، ويذكر الله هناك وعند المشعر الحرام، ويرمي الجمرات. إذاً: الحاج له أذكار في مواطن متعينة، فالحائض تفعل كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت حتى تطهر. واتفقوا على أنها إن كانت طاهرة وطافت بالبيت وذهبت لتسعى، ثم على الصفا لأول وهلة فاجأتها الحيضة؛ فإنها تكمل سعيها عند الأئمة الثلاثة، ومالك يستحب أن يكون الساعي على طهارة، لكنهم أجمعوا على أنها لو سعت وهي حائض بعد أن طافت وهي طاهر فسعيها صحيح، وهي في سعيها تذكر الله. إذاً: الحائض لها حكم الجنب في هذا الأمر.

أقوال العلماء في حكم قراءة الحائض والجنب للقرآن

أقوال العلماء في حكم قراءة الحائض والجنب للقرآن ما موقف العلماء من ذلك: أما الجنب فمتفق عليه، وأما الحائض فالأئمة الأربعة -عدا مالك - منعوها من قراءة القرآن، ومالك يقول: المنع للجنب باتفاق؛ لأن وقت الجنابة محدود، واغتسال الجنب في يده؛ وبإمكانه رفعه في أي وقت أحب، بخلاف الحائض: (حيضتك ليس في يدك) فأمرها ليس إليها {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] . إذاً: مدة الحيض للحائض طويلة، فـ مالك ينقل عنه أنها إذا كانت تحفظ من كتاب الله، ولها ورد يومي حتى لا تنساه؛ فلها أن تقرأ وردها ولو كانت في حيضتها؛ لأنه تعارض النهي عن قراءتها والنهي عن نسيان القرآن. والجمهور يقولون: لا.

حكم مس القرآن للحائض

حكم مس القرآن للحائض الفتاة في المدرسة إذا كان عندها حصة قرآن، وكانت حائضاً، فهل لها أن تعتذر وألا تسمِّع ما عليها من حفظ؟ أقول: لو فتح هذا الباب لاعتذر به أكثر الفتيات، ولهذا فلا بأس بأن تسمع الفتيات في المدرسة القرآن، لكن دون أن تمس المصحف، ولا بأس بأن تكون معها إحدى زميلاتها غير حائضة وتمسك لها المصحف، أو أن يُفتح لها وتنظر إليه بعينها دون أن تلمسه. وهي لا تقرأ ولا تمس المصحف، ولكن تنظر وتتابع، لكن الفتاة ماذا تفعل؟ إن قلنا: تعتذر وتسمِّع ما وجب عليها في الحصة الأولى أو في الحصة الثانية حينما يرتفع العذر، فهذه يمكن نعالجها. ولكن إذا صادف وقت حيضتها يوم اختبارها، وجاء اختبار القرآن وهي حائض، فلو اعتذرت ضيعت على نفسها سنة واعتبرت راسبة، وهي حافظة! فماذا تفعل؟ الله تعالى أعلم قبل كل شيء، ولكن لو نظرنا إلى الضروريات، وأن مالكاً يرى أن التي تخشى النسيان لها أن تقرأ، وأيهما أشد عذراً. التي تخشى من النسيان مع أنها يمكن أن تتدارك ذلك في طهرها، فبدل أن تكرر وردها مرة تكرره عشراً، أم هذه التي ستقدم على الاختبار؟ هذه الأمور أعتقد لو اعتبرناها فيمكن القول بالسماح لها بأن تقرأ من حفظها دون أن تمس المصحف، فتقرأ موضع السؤال فحسب ولا تزد على ذلك، وقد وجدنا إمام دار الهجرة يجيز لها ذلك لعذر أقل من هذا، وأعتقد لو قيل بهذا لكان حلاً عملياً، ويرفع الحرج عن الناس، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [3]

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [3] مما يهم المسلم في حياته الزوجية معرفة أحكام الجنب، كالوضوء عند إرادة العود مرة أخرى، والوضوء عند الأكل والشرب، والوضوء عند إرادة النوم، وكيفية غسل الجنابة، وحكم استعمال المناشف بعد الغسل.

شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود.

شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود ... ) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) رواه مسلم، زاد الحاكم: (فإنه أنشط للعود) ] . لا زلنا فيما يتعلق بالجنب من الأحكام، ومنها إذا أتى الرجل أهله -وهذا كناية عن الجماع- ثم أراد أن يعود في تلك الليلة إلى أهله، وهذه أمور شخصية تعود إلى ذات الإنسان نفسه وإمكانياته، فهل له أن يعود دون أن يحدث غسلاً أو وضوءاً مكانه؟ هنا الحديث يقول: (إذا أتى أحدكم أهله وأراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وهذا النص أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى أهله، ثم وجد في نفسه رغبة للعودة مرة أخرى، ألا يعود مباشرة بل يتوضأ ثم يعود، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليتوضأ بينهما) إلى هنا كان يكفي في التشريع، ولكن قال: (وضوءاً) ، وعلة ذلك كما يقول العلماء: تأكيد بالمصدر لينفي المجاز، ويدل على حقيقة الماهية، كما جاء في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] أي: ليبين أن الله كلم موسى كلاماً حقيقياً، وليس من باب المجاز، كأن يكون نفث في روعه، فقوله: (فليتوضأ بينهما وضوءاً) يؤكد أن المقصود هو الوضوء الشرعي المعروف، وجاء في بعض الألفاظ: (وضوءه للصلاة) ، فيكون هذا التصريح صارفاً المعنى اللغوي وهو غسل اليدين والوجه إلى المعنى الشرعي الذي يبدأ بغسل اليدين وينتهي بغسل القدمين وقبل ذلك غسل الفرج. وقد نبه كثير من الأطباء على ضرورة غسل الفرج بعد المباشرة؛ لأن في الفرج رطوبة، ويخرج من الرجل ماء، فإذا ترك ذلك وجف على المحل فإنه قد يؤلم ويضر، وأقل شيء يبقى في الجلد فيسبب حساسية أو حرارة أو شيئاً من هذا، فإذا أتى أهله ولو لم يرد أن يعود فليغسل فرجه، ثم جاءت الزيادة على هذا الحديث مبينة الحكمة من وراء هذا الوضوء والثمرة منه، لأن هذا الوضوء لا يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة؛ ولذا من ألغاز الفقهاء: ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجنابة؟ هو هذا الوضوء إذا أراد أن يعود، فإذا عاد وأراد أن يعود مرة ثالثة فليتوضأ أيضاً بينهما وضوءاً، والجنابة في العود الثاني قد نقضت ذلك الوضوء، فهذا الوضوء لا يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة، ولكنه لأي شيء؟ قالوا: أولاً: للنظافة، وثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه أنشط للعود) يا سبحان الله! إلى هذا الحد يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الشخصية، وهذه -يا إخوان- أخطر ما يكون في الحياة الزوجية؛ لأن من أتى أهله وليس عنده نشاط، فلربما تتراخى قوى الرابطة الزوجية، وكم من مشاكل تحصل بسبب ذلك؛ ولذا في مسألة العنين ذكر العلماء أنه يمهل سنة، حتى تمر عليه فصول السنة الأربعة، فإن كان متأثراً من الحرارة، تأتي البرودة في الشتاء، وإن كان متأثرا من البرودة تأتي الحرارة في الصيف، وهكذا، فإذا مرت عليه السنة بفصولها الأربعة وعجز في الوصول إلى أهله فحينئذ يعتبر عنيناً، وللزوجة حق المطالبة بالفراق، والمهلة بعد أن ترفع أمرها للقضاء، والقاضي هو الذي يمهله تلك المهلة، وقد تختلف الأمور، ويكون للقاضي وجهة نظر، فيجعل المدة أقل أو أكثر.

حكم الوضوء للجنب إذا أراد العود

حكم الوضوء للجنب إذا أراد العود نأتي إلى الحكم الفقهي في هذا الوضوء: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) ، اللام هنا: لام الأمر؛ لأنه عند الأصوليين: لام الأمر مع المضارع من صيغ الأمر الذي يقتضي الوجوب، وأكده بالمصدر ليدل على أن المطلوب هو الوضوء الكامل، وليس مجرد غسل الفرج فقط؛ لأن الوضوء لغة يطلق على النظافة، وغسل الفرج يكون من النظافة، فجاء بالمصدر (وضوءاً) ليؤكد على أن الوضوء الشرعي هو المقصود. وهل معنى (فليتوضأ) وجوب الوضوء أم له أن يأتي أهله ولو لم يتوضأ؟ يقولون: إن هذا الوضوء ما قال بوجوبه إلا داود الظاهري ومن تبعه، والجمهور على أنه سنة؛ لأنه من باب الإرشاد، وبين الحكمة والنتيجة منه وهو أنه أنشط للعود، فكأن قائلاً يقول: وإذا كان نشيطاً فهو ليس بحاجة إلى منشط، ولكن يستثنى من ذلك غسل الفرج، ويتحتم غسل الفرج إذا أتى جاريته ثم أراد أن يأتي الزوجة، فإنه يتعين عليه أن يغسل ذكره، وهذا من حق الزوجة عليه؛ لأن إتيانها بعد إتيان غيرها من غير غسل الفرج فيه إيذاء لها، وقد يكون فيه مضرة عليها. يأتي هنا بحث آخر، لو كان عنده عدة زوجات، وأراد أن يطوف عليهن في ليلة واحدة، قالوا: (جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مرة طاف على نسائه ولم يغتسل إلا عند الأخيرة) ، ولم يذكر عنه أنه غسل فرجه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم قيل له: ألا تجعل هذا في الآخر؟ قال: (هذا أطيب وأطهر) أي: الاغتسال بعد كل واحدة على حدة، ومن هنا قالوا: إن الوضوء هنا إنما هو للندب والاستحباب، وليس للوجوب؛ لأن حكمته أنه أنشط للعود مرة أخرى، والله أعلم.

شرح حديث: (كان رسول الله ينام وهو جنب.

شرح حديث: (كان رسول الله ينام وهو جنب ... ) قال رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وهو معلول) ] . من أحكام الجنابة: إذا أجنب الرجل فهل ينام وهو جنب؟ وهل يأكل وهو جنب؟ وهل يشرب وهو جنب؟ كل هذه الأمور جاءت فيها النصوص، وبدأ المؤلف بموضوع النوم الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء) ، وجاءت أحاديث أخرى كحديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام الجنب قبل أن يغتسل يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا توضأ) ، وهنا: (من غير أن يمس ماء) ، قال بعض العلماء: ماءً هنا عام؛ ماء الغسل أم ماء الوضوء؟ فالجمهور على إطلاق الماء لا لوضوء ولا لغسل، والآخرون قالوا: لا، لو لم تأت الأحاديث الأخرى لكان الحمل على الإطلاق واقع، ولكن جاءت أحاديث أخرى (نعم إن هو توضأ) ، وجاء في حديث عائشة: (وكان جنباً يتوضأ وينام يتوضأ ويأكل) ، فإذا أثبتت الوضوء، والوضوء مس ماء، ثم نفت الماء؛ فيكون الماء المنفي هو ماء الغسل، ويكون ماء الوضوء ثابتاً بحديث عائشة نفسها، وبحديث ابن عمر وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أباح للجنب أن ينام قبل أن يغتسل إذا هو توضأ. وجاء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يذكره السيوطي في تعليقه على موطأ مالك - سئل: (أينام الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو توضأ، فإني أخشى أن يموت في تلك الليلة وهو جنب فلا يحضره جبريل) ، فبين صلى الله عليه وسلم العلة في وضوئه عند نومه، وهنا قالوا: ما الغرض من الوضوء، فالوضوء لا يرفع حدثاً ولا جنابة؟ قالوا: أولاً: مع الوضوء غسل الفرج، وهذه النقطة الأساسية الحساسة. ثانياً: إذا توضأ فهو بين أحد أمرين: إما أنه بوضوئه خفف حكم الجنابة، أو إنه إذا لامس الماء وباشر الماء وتوضأ، فلعل ذلك يدفعه إلى الغسل، فيكون الوضوء مقدمة وتنشيطا لما هو المطلوب من أن يغتسل. يهمنا في هذه الجزئية: أن الجنب ممنوع من تلاوة القرآن، ومن حمل القرآن، ومن الطواف, وهنا هل تمنعه الجنابة من النوم؟ بين صلى الله عليه وسلم أنها لا تمنعه، ولكن قال: (إن توضأ) . وهل الوضوء من الجنابة واجب كالوجوب للصلاة أم أنه من باب الإرشاد والتوجيه؟ رواية ابن ماجة: (أخشى أن يموت فلا يحضره جبريل) تدل أن الأمر هنا من باب الإرشاد وبيان الأفضلية، ومن الذي لا يريد أن يحضره جبريل عند الوفاة؟ كل إنسان يرجو ذلك. إذاً: الأولى أن ينام الجنب بعد أن يتوضأ، فإذا توضأ فلعله يخطو خطوة أخرى وينشط ويغتسل وينتهي الأمر.

حكم الأكل والشرب حال الجنابة

حكم الأكل والشرب حال الجنابة بقي التساؤل عن الأكل والشرب للجنب، وقد وسع هذا البحث صاحب المنتقى، وفصل فيه الشوكاني تفصيلاً طيباً جداً، وهو موجز من فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وقد جاءت النصوص أيضاً في الأكل والشرب، فقالوا: (هل يأكل الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو توضأ) ، فجمهور العلماء حمل الوضوء هنا على الغسل نظافة؛ لأنه لم يأت تأكيده بالمصدر كما جاء في النوم، وقالوا: إن الأكل يحتاج إلى نظافة في يديه، فقد يكون مس فرجه، وقال بعضهم: إن الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي المعروف. وروى عند البيهقي رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أن أبا موسى -أو شخصاً آخر- سألها قال: يا أم المؤمنين! إني أستحي، -أي: إنه يجول بخاطري أمور وأستحي أن أواجهك بها- هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب؟ قالت: نعم، كان أحياناً يغتسل وينام، وأحياناً ينام ويغتسل. قال: هل كان يغتسل في أول الليل أو في أوسطه أو في آخره؟ قالت: كان أحياناً يغتسل في أول الليل، وأحياناً يغتسل في أوسطه، وأحياناً في آخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، وهل كان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: نعم، كنت آكل معه فآخذ العظم فأتعرقه ثم أناوله إياه فيتعرقه بفمه بعد فمي، وكنت آخذ القدح فأشرب ثم أناوله إياه فيضع فاه موضع فيَّ فيشرب، وكان في كل مرة يقول: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، ثم سألها هل كان يوتر عليه الصلاة والسلام قبل أن ينام؟ فقالت: أحياناً وأحياناً. ففي هذا الحديث رد على اليهود، فقد جاء في الحديث: (قدمنا المدينة فإذا اليهود إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء غير الجماع) ، وعلى هذا فمن أراد العود بعد الإتيان، فيستحب له الوضوء قبل العود، وكذا الوضوء للأكل، وكل ذلك مندوب إليه وهو أولى، ولكن لم يقل بالوجوب إلا داود الظاهري ومن وافقه، وبالله تعالى التوفيق. المؤلف ذكر أن كثيراً من أحكام الجنب، وهو ألا يقرأ القرآن، وكذا حمل المصحف، كما جاء في الحائض في رواية مالك أن ابن عمر قال لجارية: (ناوليني المصحف، قالت: إني حائض، قال: حيضتك ليست في يدك، ناوليني من العلاقة) وعلاقة الكيس هو الذي فيه المصحف، أما أن تباشره فلا.

شرح حديث: (صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة)

شرح حديث: (صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيده على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء، ثم يدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه) متفق عليه واللفظ لـ مسلم. ولهما من حديث ميمونة: (ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب بها الأرض) ، وفي رواية: (فمسح بها التراب، وفي آخره: ثم أتيته بالمنديل فرده، وفيه: فجعل ينفض الماء بيده) . ] هذا شروع في كيفية الغسل من الجنابة: كيف يغتسل من الجنابة؟ أما الوضوء فقد جاء القرآن الكريم ببيان كيفيته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وجاءت السنة النبوية وبينت هذه الأعضاء، فأضافت إلى غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، وأضافت إلى مسح الرأس مسح الأذنين، وأضافت تخليل الأصابع، وهذا تأكيد في الغسل، أما غسل الجنابة فلم يأت فيه تفصيل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فهنا تأتي السنة فتفصل ما أجْمل القرآن في أمر الغسل. جاء حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث ميمونة، وحديث حفصة، وكل هذه الأحاديث بمجموعها تبين لنا كيفية الغسل من الجنابة.

غسل الكفين

غسل الكفين بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه أشمل وأجمع، ولا شك أن أمهات المؤمنين هن أعرف الناس بغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن يشاركنه في هذا العمل، ماذا قالت عائشة؟ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه) والمراد باليدين: الكفان وليس الذراع، وجاء في بعض الروايات أنه يأخذ الحلاب - وهو الإناء الذي يحلب فيه - فيصب على يديه ويغسلهما، كما جاء في غسل اليدين في الوضوء لمن كان نائماً، (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً) فكان أيضاً صلى الله عليه وسلم يأخذ هذا الإناء الذي كان يحلب فيه، ويغترف من الإناء الذي فيه ماء الغسل، ويصب على يديه ويغسلهما ثلاثاً، هذا أول الأمر.

غسل الفرج

غسل الفرج (ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) . يفرغ من الحلاب أو يقترب فيأخذ بيديه من الإناء بعد غسلهما. ولكن هنا تقول: (يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) ، لأنه ورد حديث: (لا يمسن أحدكم فرجه بيمينه) ، فاليمين لا تباشر هذه الأماكن، بل يفرغ باليمين على الشمال فيغسل فرجه، ويقدم الوضوء على الغسل؛ لأنه ألزم لنظافة المحل قبل أن تجف رطوبته، وليكون احترازاً لئلا يعود إلى مس هذا المحل فينتقض وضوءه بمس فرجه، فيغسل فرجه قبل أن يتوضأ وقبل أن يفيض الماء على جسده؛ لتبقى الطهارة بلا ناقض. نأتي إلى حديث ميمونة، وفيه زيادة أنه بعد غسل فرجه عليه الصلاة والسلام يضرب يديه بالتراب، وفي بعض الروايات: بالجدار، قالت ميمونة: (ولو شئتم لأريتكم أثر يده في الجدار من ذلك الغسل) ، وأخذ العلماء من هذا أن التراب يزيل ما يمكن أن يكون قد علق باليد من لزوجة آثار الوطء، أو أنه فعل ذلك ليزيل ما بقي من الرائحة.

الوضوء

الوضوء في البداية غسل كفيه، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ. وهل المقصود الوضوء اللغوي -غسل الكفين مع الوجه- أم الوضوء الشرعي -غسل أعضاء الوضوء كاملة-؟ الجمهور على أن المقصود هو الوضوء الشرعي، لأنه جاءت التفصيلات بأن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فقوله: (ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يؤخر غسل رجليه بعد أن يفرغ الماء) ، المقصود من ذلك الوضوء الشرعي لا اللغوي. وهنا مسألة: عندما يتوضأ هل يغسل القدمين في هذا الوضوء أم يؤخر غسل القدمين حتى يفيض الماء على سائر جسده؟ سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

تخليل الشعر

تخليل الشعر وقولها: (ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، بعد أن يتوضأ يأخذ الماء ويصبه على رأسه، ويدخل أصابعه إلى أصول الشعر، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له جمة تضرب إلى منكبيه إن أطالها أو إلى شحمة أذنه إن قَصَّرها، ويدلكها ثلاثاً حتى يغلب على ظنه أن الماء قد وصل إلى أصول منابت الشعر.

صب ثلاث حفنات من الماء على الرأس

صب ثلاث حفنات من الماء على الرأس وقولها: (ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات) ، الحفنة: هل هي بكف واحد أو بكفين؟ اللغة الدارجة: الحفنة بالكف، والحفان بالكفين، تقول: هذا من الإحفان، فقال: حفن بكفه ثلاث حفنات، وجاء في بعض الروايات: (بكفه) ، على الإفراد، وجاءت بعض الروايات: (بكفيه) ، على التثنية.

إفاضة الماء على سائر البدن

إفاضة الماء على سائر البدن وقولها: (ثم أفاض على سائر جسده) أي: بعد أن غسل يديه غسل فرجه، ثم دلك يديه بالتراب، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بدأ بالرأس فأدخل الماء إلى أصول الشعر، حتى ظن أنه أرواه -كما في بعض الروايات- ثم أخذ ثلاث حفنات فأفرغها على رأسه. وهل يثلث الغسل كما يثلث الوضوء أم أن هذا من باب تأكيد غسل الرأس فقط؟ الجمهور أنه يستحب أن يثلث كما في الوضوء، فأخذ ثلاث حفنات للحيطة والتأكيد وأفاضها على رأسه. إذاً: الرأس بدأ بتخليله حتى يصل إلى أصول منابت شعره، وإذا كانت لديه لحية كثة فهل يخللها أم لا؟ قالوا: نعم يخللها إلحاقاً لها بشعر الرأس، خاصة إذا كانت كثة، فإذا أفاض على رأسه ثلاث حفنات فماذا بعد ذلك؟ قالت: (ثم أفاض على سائر جسده) . الإفاضة: تعميم الجسد بالماء، وقولها: (على سائر) أي: الباقي بعدما تقدم؛ لأن سائر ليست بمعنى الجميع، بل بمعنى الباقي، فكأن سائر جسده بقية الأعضاء التي لم يمسها الماء، وقال بعضهم: الإفاضة على سائر الجسد تشمل الرأس وأعضاء الوضوء، ويكون غسلها أولاً بصيغة الوضوء تكريماً لأعضاء الوضوء ثم يشملها الغسل مع سائر البدن. وجاءت بعض الروايات بأنه يبدأ بشقه الأيمن، يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، ثم يتأخر ويغسل قدميه تتمة للوضوء الذي أوقعه قبل غسل رأسه وإفاضة الماء على جسده. وهنا مسألة: هل الدلك واجب في هذا الغسل؟ الجمهور لا يقولون بوجوب الدلك، بل يقولون: إنه إذا جرى الماء على الجلد، وتأكد الإنسان من أن الماء قد وصل إلى أصل كل شعرة؛ فإن ذلك يكفي، ومالك يقول: لا بد من الدلك، ويتعين على المغتسل من الجنابة أن يدلك جلده بقدر ما تطول يداه، قالوا: لماذا تشترط هذا؟ قال: لنتأكد من تعميم الماء على سائر الجسد، وفي أثر موقوف على علي: (تحت كل شعرة جنابة) فإذا كان كذلك فلا بد من التأكد من إيصال الماء إلى جميع البشرة. وبعض الروايات تقول: (ثم غسل رجليه) ، وبعض العلماء يقول: إن قلنا: إن الوضوء السابق للغسل كالوضوء للصلاة فيتعين غسل القدمين أولاً، وقال بعضهم: حتى وإن قلنا: إنه كالوضوء للصلاة فيمكن تأخير بعض الأعضاء، وفصلها بجزء من الزمن، وقال مالك رحمه الله: إن كان المكان الذي وقف ليغتسل فيه نظيفاً فإنه يغسل قدميه مع الوضوء أولاً، وإن كان غير ذلك بأن كان تراباً أو كان طيناً وسيعلق فيهما من أثر الغسل فيؤخرهما، ثم بعد أن ينتهي من الغسل ينتقل إلى مكان آخر جاف فيغسلهما فيه. وهكذا يتم من مجموع حديث عائشة مع حديث ميمونة كيفية غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وتبقى بعض الجوانب في اغتسال الرجل مع المرأة في وقت واحد وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل) .

حكم استعمال المناشف بعد الوضوء

حكم استعمال المناشف بعد الوضوء وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: (ثم أتيته بالمنديل) المنديل: (المنشفة) ، يقول علماء اللغة: سمي هذا النوع من القماش باستعماله منديلاً (مفعيل) من الندل، والندل: الخسيس -عافانا الله وإياكم- لأن المنديل دائماً يستعمل للتنظيف، ولا يستعمل في أشياء مشرفة، بل يستعمل في الأشياء الدنية؛ ولذلك سمي منديلاً، قالت: (فأتيته بالمنديل) ، وفي رواية: (وأتيته بالخرقة فردها وجعل ينفض الماء بيده) ، وهنا يقول العلماء: ما حكم استعمال المناشف بعد الغسل؟ قال بعض العلماء: هذا عائد لاختلاف الجو، ففي الشتاء ينبغي ذلك؛ مخافة التعرض للمرض، بخلاف الصيف، وقد جاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام استعمل المنديل كما في رواية أم سلمة. والخلاصة: أن استعمال المناشف -المناديل- بعد الغسل راجع للمصلحة، والله أعلم.

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [4]

كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [4] يجب على كل مسلم ومسلمة معرفة أحكام الغسل من الجنابة والحيض؛ لأن الناس يتكرر منهم الغسل من الجنابة أو من الحيضة بالنسبة للمرأة، وقد بين أهل العلم أحكام ذلك ومستحباته وآدابه اعتماداً على الكتاب والسنة.

شرح حديث: (إني امرأة أشد شعر رأسي.

شرح حديث: (إني امرأة أشد شعر رأسي ... ) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. ثم أما بعد: فلا زلنا في باب الغسل وحكم الجنب، وقد وصلنا إلى قول المؤلف: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ - وفي رواية: والحيضة - قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) رواه مسلم] . أتى المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: (إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي رواية: والحيضة؟ - فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا، يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) ، وهذا الحديث موضوعه في نقض المرأة شعرها إذا كان مشدوداً، وشد الشعر يكون بظفره ظفائر، وسيكون الكلام هنا على حكم نقض ظفائر الشعر عند غسل المرأة من الجنابة والحيض، وبهذا الحديث يستدل من يقول: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها للغسل سواء كان للجنابة أو كان للحيض، ولكن الجمهور على المغايرة بين غسل المرأة ونقض شعرها للجنابة وغسلها للحيضة، وفي الجملة تقدم لنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع حديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت: (فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، والنبي صلى الله عليه وسلم أدخل أصابعه في شعر الرأس إمعاناً وتأكداً من وصول الماء إلى أصول الشعر، فإذا كان الشعر بذاته مظفراً فهل يصل إليه الماء أو لا يصل؟ ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) أنه يكتفى بذلك سواء دخل الماء خلال الشعر أو لم يدخل، وكما يقولون: إن الشعر غضروفي لا يمنع دخول الماء، ولكن الماء يمر عليه بملامسته، وكذلك ريش الطير، فحينئذ يقول البعض: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها، ولكن وجدنا في حديث آخر لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحج حينما حاضت قال لها: (لا عليك، انقضي شعرك - وفي بعض الروايات: وامتشطي - واغتسلي، وقولي: حجة في عمرة) ، وكان غسل عائشة رضي الله عنها وهي محرمة، وهذا الغسل ليس لرفع حدث الحيضة، أما الحيضة فلم تطهر منها إلا بعد النزول من عرفات، فكونه يأمرها وهي حائض أن تفك ظفر شعرها، فلأن يكون فك ظفر الشعر لرفع حدث الحيضة من باب أولى، وقد جاء في بعض الروايات في غسل الحائض: أنها تنقض شعرها، وفرق بعض الفقهاء بين الغسل للجنابة والغسل للحيضة؛ لأن الجنابة أهون أو أخف من حدث الحيضة، وحدث الجنابة يتكرر، أما حدث الحيضة ففي الشهر مرة، فلو كلفت المرأة بنقض شعرها عند كل جنابة لكان في ذلك مشقة عليها، أما نقضها لشعرها عند غسل الحيضة فلا يكون إلا في الشهر مرة، وهذا لا مشقة فيه، وهذا هو خلاصة القول في ذلك. وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأمر النساء بنقض شعرهن إذا اغتسلن من الجنابة ومن الحيض، فبلغ ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فعابت عليه ذلك وانتقدته كما سيأتي. وأما أقوال العلماء في حكم نقض المرأة شعرها عند غسل الجنابة والحيض: فالجمهور على التفرقة بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وأنها لا تنقضه من الجنابة، وتنقضه للحيض، وجاء في بعض الروايات -في صفة الغسل للجنابة- أنها تجمعه بين كفيها، وتضغطه بيدها ليتخلل الماء داخل الشعر، وقال مالك رحمه الله: إن كانت الظفيرة مشدودة شداً قوياً تمنع تخلل الماء داخل الشعر فإنها تفكها، سواء كان ذلك في جنابة أو كان في حيضة. وهل الرجل يلحق بالمرأة إن كان له ظفائر؟ قيل: إنه يلحق، وإن كان النص لم يأت فيه، ويوجد خلاف في قياسه على المرأة، وفي بعض البوادي بعض الرجال يطيل شعره ويظفره كما تظفره المرأة، فيكون حكمه وحكم المرأة في هذا سواء. والقول الثاني في حكم ظفائر المرأة أنها لا تفكه كما سيأتي في حديث عائشة الأخير، وهناك من يقول: تفكه فيهما كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهناك من يفرق بين الجنابة وبين الحيضة، وهناك من يفرق بين شدة الظفر وقوته وبين سهولته وليونته، وهذا حاصل ما جاء في هذه المسألة.

شرح حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب)

شرح حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة] . حديث أم سلمة السابق في كيفية الغسل، وماذا تفعل المرأة في شعرها؟ وحديث عائشة هذا من أحكام الجنابة، وكان من حقه أن يكون مع حديث المنع من قراءة القرآن ونحوه، ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر خرج على الناس، وكانت البيوت المجاورة للمسجد مفتحة أبوابها إلى المسجد، وطريقهم إلى بيوتهم من المسجد دخولاً وخروجاً، فأمر بتحول هذه الأبواب عن المسجد. ولما أراد عمر أن يوسع المسجد، أراد أن يشتري من العباس داره فامتنع وقال: إنها دار أقطعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبيعها، فألح عليه عمر؛ لأن المسجد ضاق على المسلمين، ولا سبيل إلى التوسعة من المشرق، وأما جهة المغرب ففيها حجرات أم المؤمنين، وقال له عمر: إن بعتني أعوضك عنها الثمن التي تريد، أو أعطيك أرضاً أينما تريد، وأبني لك داراً فيها كيفما تريد، قال: لا، لا أعطيكها أبداً، وأخيراً قال: سآخذها، قال: لأنك أمير المؤمنين؟ لن تأخذها! قال: اختر من شئت نحتكم إليه، فاختاروا أبي بن كعب، وتحاكما إليه، وذكرلهما قصة بناء بيت المقدس، وأن الله أوحى إلى نبيه داود: أن ابن لي بيتاً، قال: يارب! وأين أبنيه لك؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فأرسل الله له ملكاً في صورة فارس شاهراً السيف واقفاً في حوش، فضرب داود عليه السلام صاحب الحوش بيده وقال له: ثامني على حوشك، قال: اشتر، قال: بمائة ألف، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: لا، الأرض خير، قال: أقلني. قال: أقلتك، قال: مائتي ألف، قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك، الأرض خير أم الثمن؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، قال: ثلاثمائة، وهكذا خمس مرات حتى وصل الثمن إلى خمسمائة، ثم قال له نبي الله داود: سل ما شئت أقدمه إليك؛ لأني أريد أن أبني فيه بيتاً لله، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأ علي بيتي نعماً؛ إبلاً وبقراً وغنماً، فنادى نبي الله داود في بني إسرائيل: أن املئوا له بيته إبلاً وبقراً وغنماً، ولما جاء الليل ذهبوا إليه في بيته يهددونه، فلما أصبح قال: يا نبي الله! أبيعاً أم غصباً؟ قال: بل بيعاً، وسأله: ما الذي حصل؟ قال: إن بني إسرائيل جاءوني وهددوني بكذا وكذا، قال: لا، بيعاً ورضاً، فقال: يا عمر أتأخذه غصباً من العباس؟ قال: لا آخذه غصباً، ولكن يتخير العوض الذي يريده، قال: لا أريد، قال: إذاً انتهينا، فعندما خرج عمر استوقفه العباس وقال: انتهيت؟ قال: نعم، قال: لا سبيل لك علي، قال: نعم، قال: إذاً: البيت تبرعاً مني لمسجد رسول الله وللمسلمين عامة، قال: ولماذا من قبل؟ قال: في الأول كنت تأتي بسلطانك وسلطتك، فامتنعت عليك، والآن بالرضا وبالطيبة أنا أقدمه للمسلمين توسعة للمسجد. ودار العباس كانت بالجهة الغربية، وكذلك دار أبي بكر رضي الله عنه، وكان في الجهة الشمالية بعض حجر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجر أخرى لأناس، وقد كانت أبواب تلك البيوت المبنية حول المسجد كلها مشرعة إلى المسجد، وكان طريق أهلها إلى بيوتهم من المسجد، ففي آخر الأمر نادى صلى الله عليه وسلم -كما جاء في رواية عائشة - بأعلى صوته: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد) ، ومن الغد لم يحصل شيء، وانتظروا لعله يأتي تغيير لهذا الأمر أو تأتي رخصة، ثم من الغد وقف ونادى بأعلى صوته، ولم يفعل أحد شيئاً، وفي اليوم الثالث قال: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب -ثم استثنى- إلا باب أبي بكر) . وحد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤشر عليه بالتاج الأخضر المقابل لمجلسنا الآن: هذا حد مسجد النبي، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، قال صلى الله عليه وسلم: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، والعلة أنه عندما تكون البيوت مشرعة أبوابها إلى المسجد، والبيوت فيها الجنب والحائض فيمرون من المسجد للوصول إلى بيوتهم، فلما تتحول تلك الأبواب إلى الخارج يستقلون عن المسجد، وتكون البيوت بأبوابها خارجة عن المسجد، إلا بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: كان بيت عمر وبيت عثمان وبيت العباس كلها مشرعة إلى المسجد، فكلها تحولت، وبقيت خوخة أبي بكر. وبعضهم قال: هذا من التنبيه ولفت الأنظار إلى مكانة أبي بكر وقوة ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: (إني لا أحل) معناها: أن المسجد حرام على الحائض وعلى الجنب.

هل المقصود من الحديث المكث أم المرور؟

هل المقصود من الحديث المكث أم المرور؟ مسألة: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا أحل) ، هل هو المكث على الدوام أم المرور؟ قوله سبحانه: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] قالوا: هذا في السفر، وقوم قالوا: هذا في الصلاة، فالجنب والحائض يمكن أن يكونا عابري سبيل، وبعضهم يقول: ليس على الاختيار لكن عند الاضطرار، فلو أن امراة حائضاً أفزعت ولم تجد ملجأً إلا المسجد، فلا بأس أن تدخل المسجد فراراً من الفزع، أو تريد أن تأخذ ماء من المسجد؛ لأن المسجد فيه بئر، ولا تجد ماء قريباً منها إلا في المسجد؛ فلا بأس أن تعبر وتأخذ الماء وتخرج، فهذا عبور سبيل، وكذا الجنب كأن يكون نائماً واحتلم فيعبر حتى يخرج. وعلى كل: فإنهم أجمعوا على أن الجنب والحائض لا يمكثان في المسجد، فلا يأتي أحدهما يقول: أريد أن أستريح أو أستظل أو أن أنتظر فلاناً، لا، أما مجرد العبور فلا مانع، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ناوليني الخمرة من المسجد) وابن دقيق العيد يقول: وجاءت رواية: (من المسجد ناوليني الخمرة) وبينهما فرق: لأنه إذا قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد -والخمرة: هي التي تشبه السجادة التي نصلي عليها- تكون (من) لانتهاء الغاية، قالت: (أنا حائض، قال: حيضتك ليست في يدك) ، إذاً: هي ستدخل المسجد وتأخذ الخمرة وتأتي بها إليه، ويكون هو عند هذا القول في بيتها، وهذا يقتضي أنها ستدخل المسجد وهي حائض، ولكن لا تمكث فيه، بل مجرد عبور سبيل، أما الرواية الثانية: قال لها: (من المسجد) (من) هنا لابتداء الغاية، فحينما قال لها ذلك كان هو في المسجد، (قال لها من المسجد: ناوليني الخمرة) كان هو في المسجد كانت هي في بيتها، فتأتي بالخمرة، وهو عند باب الحجرة، والحجرة مشرعة على المسجد، فيكون هو في المسجد وهي في حجرتها، ويتناول منها الخمرة. وجاء عن إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم قالت: (كانت إحدانا تكون حائضاً، فتقوم فتأخذ الخمرة وتفرشها في المسجد لرسول الله) ، وهذا نص صحيح صريح بأن الحائض تدخل المسجد. قالوا: والجنب لا يمكث في المسجد على حدثه، لكن كونه يمر مروراً للحاجة فلا مانع من ذلك، وقد كره بعض الفقهاء أن يتخذ المسجد طريقاً؛ لأنه امتهان للمسجد، ومرورٌ به دون أن يؤدي تحية المسجد؛ لأنه عابر سبيل. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد) ، هذا عام في جميع المساجد، (أل) للجنس، سواء كان في مسجده صلى الله عليه وسلم أو غيره، فالحكم لجميع المساجد، فلحرمتها لا ينبغي للجنب ولا للحائض أن يمكثا فيها، أما للضروريات فلها أحكام تخصها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كنت اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد)

شرح حديث: (كنت اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد) قال رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة) متفق عليه. وزاد ابن حبان (وتلتقي أيدينا) . ] عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد - وفي بعض الروايات: من الجنابة -وتختلف أيدينا فيه) أي: في هذا الإناء، والحديث له تتمة تتعلق بفك ظفر الشعر، وقولها في نفس هذا الحديث: (وإني أشد شعر رأسي وأغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف فيه أيدينا، ولا أزيد ثلاث حفنات على شعري) ، وكأنها تقول: ولا أنقض شعري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراني، وهذا الحديث قالته جواباً على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد بلغها أن ابن عمر كان يأمر النساء أن ينقضن ظفائر شعورهن في غسل الجنابة وغسل الحيض، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! يأمر النسوة أن ينقضن شعرهن عند الغسل، أفلا يأمرهن بحلق رءوسهن؟! وهذا نوع من التأنيب على الفتوى على غير ما يراه الإنسان، ثم جاءت بالخبر وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد -يعني: وهو يراها- وكنت أشد شعري، ولا أزيد على أن أصب على رأسي ثلاث حثيات) فذكرت شد شعرها، وأنها لا تزيد على ثلاث حثيات، وذكرت أنها تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ومقتضى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك العمل لها، وهو غسلها ظافرة شعرها ولم تنقضه، واكتفاؤها بثلاث حثيات. إذاً: أتانا أثر عن عائشة رضي الله عنها في عدم نقض الشعر المظفر، ووجدنا أثراً لـ ابن عمر أنه كان يأمر النسوة أن ينقضن شعر رءوسهن، فوجدنا القولين مختلفين، فبأيهما نأخذ؟ جاء عنه صلى الله عليه وسلم -في بعض الروايات- أنه أمر النسوة أن ينقضن شعرهن لغسل الحيضة، وقد جمع صاحب المنتقى فيه آثاراً كثيرة، وكذلك ابن عبد البر في الاستذكار أورد آثاراً عديدة، والجمهور يفرقون بين غسل الجنابة وغسل المرأة من الحيضة، فيوجبون نقض شعرها من غسل الحيضة دون غسل الجنابة، وأما الإمام مالك رحمه الله فقال: ننظر إن كان شد الشعر شديداً يمنع وصول الماء إليه فتفكه، وإن كان شد شعر الرأس ليناً يسمح بوصول الماء فلا حاجة إلى نقضه.

ما يستفاد من الحديث

ما يستفاد من الحديث ما يستفاد من الحديث؟ أولاً: جواز اغتسال الزوجين معاً في وقت واحد. ثانياً: صحة اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس، وقد تقدم معنا في باب المياه نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ووجدنا البحث هناك إذا خلت به لغسل حيضة أو إذا خلت به لغسل جنابة، أما إذا كانا معاً كما في هذا الحديث فلا بأس؛ ولهذا يقول ابن دقيق العيد: النهي هناك إذا خلت به فلا يستعمله الرجل بعدها، ومذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا خلت به في غسل حيضتها، وعلل الفقهاء بأن المرأة الحائض عندما تريد تنظف المحل فلربما أفسدت الماء بشيء من ذلك المحل، ولكن إذا أفسدته أفسدته على نفسها أيضاً، فقالوا: المنع إذاً خلت به المرأة لغسل الحيضة أما غير ذلك فلا مانع، وهنا قالت: (نغتسل معاً) قال العلماء: إذا شرعا معاً، ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا معاً لابد أن أحدهما ستسبق يده إلى الإناء فيغترف، ويأتي الآخر ويغترف من بعده، وهكذا تتابع الأيدي من الطرفين على ذلك، فإذا اغترف الزوج أولاً اغتسلت هي بفضل مائه، وإذا اغترفت هي أولاً اغتسل هو بفضل مائها، وعلى هذا يكون هذا الحديث ناسخاً لحديث (لا تغتسل المرأة بفضل الرجل، ولا الرجل بفضل المرأة) .

شرح حديث: (إن تحت كل شعرة جنابة)

شرح حديث: (إن تحت كل شعرة جنابة) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) رواه أبو داود والترمذي وضعفه. ولـ أحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول. ] أتى المؤلف رحمه الله بهذا بعد موضوع نقض الشعر للمرأة، وكأنه يلمح إلى ضرورة نقض شعرها، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فإنهم يقولون: هذا الحديث موقوف على علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف إذا لم يكن موضوعه محل اجتهاد يعطى حكم الرفع؛ لأن إثبات حكم الجنابة تحت كل شعرة، ليس من الاجتهاد، وإن كان موقوفاً على علي فيقال: يعطى حكم المرفوع؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه ليست عنده الإمكانيات لأن يحكم بأن تحت كل شعرة جنابة، إذاً: فلا يكون قد قال ذلك إلا بعد أن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سواء كان مرفوعاً كما هو هنا، أو كان موقوفاً على علي -كما في بعض الروايات- فإن الموقوف هذا يعطى حكم الرفع؛ لأن موضوعه لايستفاد بالاجتهاد والرأي. إذا كان تحت كل شعرة جنابة، فإن هذا من باب التأكيد، وإن لم تكن هناك شعرة، كأن يكون المغتسل أقرعاً، فكل جزئية تعادل شعرة في الجسم تحتها جنابة؛ ولذا أردف الخبر بأن تحت كل شعرة جنابة بما هو أعم فقال: (فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر) ، فغسل الشعر إذا كان مظفوراً مشدوداً لا يتأتى، وهذا يرجح أولوية نقض الشعر المظفور ليتمكن من غسله، وقوله: (وأنقوا البشرة) ، البشرة: من المباشرة، وسمي الآدمي بشراً؛ لأن بشرته مكشوفة بخلاف الحيوان فجلده مغطى بشعر أو صوف أو غير ذلك، ولا يوجد حيوان مكشوف البشرة إلا الإنسان، ومن هنا كانت البشرى، إذا سمع خبراً ساراً تغيرت أسارير بشرة وجهه، وظهرت على وجهه علامات الاستبشار، فهي مأخوذة من البشرة. وبشرة الإنسان هي جلده، فكل ذرة من ذرات الجلد الظاهرة يجب إنقاؤها، وليس مجرد غسلها، ومن هنا أخذ مالك رحمه الله ضرورة الدلك؛ ليتحقق الإنسان في غسله أنه أنقى البشرة، وذكر ابن عبد البر عن كثير من المالكية أنه يبذل جهده؛ لأن المالكية المتأخرين يقولون: إذا لم تلتق يديه من وراء ظهره، ولم يشمل ظهره كله؛ يأخذ خرقة أو يأخذ منديلاً ويمرره على ظهره؛ ليتأكد أنه دلك جميع بشرته، وقال ابن عبد البر عن أصحاب مالك: لو أنه لم يفعل هذا التدليك المطلوب وكرر إضافة الماء فإن ذلك يجزئه عن الدلك، كما يحصل الآن عندما تقف تحت الدش والماء ينصب متوالياً، فيقول: إذا تكررت إفاضة الماء وتوالت فهي مظنة وصول الماء إلى جميع البشرة، أو إذا انغمس في ماء ومكث مدة، أو تحرك في الماء فإن هذا مظنة تعميم الماء إلى جميع البشرة. وعند الآخرين يكفي إذا تأكد من وصول الماء ولو من صبة واحدة، وقد جاءت السنة أنه أفرغ على جسده ثلاث مرات. وعلى كل: فما يتعلق بالتدليك وما يتعلق بإنقاء البشرة إنما هو تأكيد لرفع الجنابة عن جميع الجسم، وقد رأينا في الوضوء أنه إن ترك لمعة فقد جاء الوعيد (ويل للأعقاب من النار) وابن عبد البر يقول: إن الله سبحانه أمر المسلم أن يغسل أعضاء الوضوء، وغسلها لا يتأتى إلا بإمرار الماء عليها مع الدلك كما تغسل الثوب أو الإناء، أما مجرد مرور الماء على العضو فهذا ليس بغسل وإنما هو صب للماء، ولا يتحقق الغسل إلا بالدلك والفرك، ويقول: إن الله سبحانه وتعالى قال: في الغسل: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] ، فكيف يكون الاغتسال الذي جاء مجملاً في كتاب الله مع الوضوء الذي جاء مفصلاً؟ فكما أمر الله المتوضئ أن يغسل أعضاء الوضوء، ولا يتحقق غسل الأعضاء إلا بإمرار اليد عليها، وعدم إمرار اليد لا يسمى غسلاً، بل يسمى إفاضة الماء على العضو؛ وكذلك في الغسل عليه أن يمر يديه على سائر بشرته كما يمر يده على أعضاء الوضوء التي جاء التنصيص عليها، والجمهور أنه كيفما اغتسل أجزأه.

حكم الوضوء بعد غسل الجنابة

حكم الوضوء بعد غسل الجنابة وبقي مسألة في هذا الباب: إذا اغتسل، هل يصلي بهذا الغسل أم يتوضأ؟ تقدم في حديث عائشة (توضأ وضوءه للصلاة) يعني: مثل وضوئه للصلاة سواء بسواء، ثم أدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم أفاض الماء على رأسه وحثى على رأسه ثلاث حثيات، فقالوا: إذا توضأ أولاً ثم اغتسل على ما قالت أم المؤمنين عائشة، وفي أثناء الغسل لم يمس فرجه بعد وضوئه، فإنه يصلي بهذا الغسل المسبوق بالوضوء. ويقول ابن عبد البر: لم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد الغسل، ولكن إذا حدث أثناء الغسل ما ينقض الوضوء الأول، فإنه لابد له من أن يتوضأ، وأكثر العلماء يقولون: إن الحدثين يتداخلان: الحدث الأصغر مع الحدث الأكبر، فإذا اغتسل وعمم البدن أثناء الغسل ناوياً رفع الحدثين معاً؛ فإن الحدث الأصغر يتداخل مع الحدث الأكبر، ويصبح طاهراً من الحدثين، فيصلي بهذا الغسل، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب التيمم [1]

كتاب الطهارة - باب التيمم [1] لقد خص الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص جمة، وهذه الخصائص لا يشركه فيها أحد من الأنبياء، ومنها: أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وأحل له أخذ الغنائم، وأعطي الشفاعة، وبعث إلى الناس كافة، ومنها: أنه جعلت له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، فإذا لم يجد أحد من أمته الماء ليتوضأ أو ليغتسل فليتيمم وليصلِّ حيث شاء.

مشروعية التيمم

مشروعية التيمم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب التيمم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراًً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، وذكر الحديث. وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ، وعن علي رضي الله عنه عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] . انتقل المصنف رحمه الله إلى الطهارة الترابية وهي التيمم، والتيمم لغة: القصد، يقال: يممت جهة كذا أي: قصدتها، أو تيممت إلى جهة كذا قصدتها. وشرعاً: القصد إلى الصعيد الطيب عند عدم وجود الماء، لمسح الأعضاء على صفة مخصوصة. وهذا الباب مما يدل على مدى سماحة الإسلام، ومجيء البدائل من الأصل المفروض، وهذا أولها. فالأصل في الطهارة أن تكون بالماء، ولكن إذا عدم الماء أو تعذر استعماله فلا يتعطل التشريع، ولا تتوقف العبادة، بل يأتي البديل وهو التيمم، سواء كان التيمم رخصة أو عزيمة، فإنه نيابة مؤقتة، أو دائماً على حسب الظروف في استعمال الماء. ونجد البدائل في الإسلام عندما تأتي الشدائد أو المضايقات والعجز، وفي بعض الأحيان تسمى رخصة، وأحياناً تكون عزيمة. فإذا انتهينا من الطهارة وجئنا إلى الصلاة فإن الأصل فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا عجز الإنسان عن القيام جاءته الرخصة في أن يصلي جالساً، وإذا عجز عن الجلوس صلى وهو على جنبه، أو مستلقياً على ظهره. وإذا جئنا إلى الصيام فإن الأصل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فإذا كان عاجزاً عن الصوم أو تلحقه به مشقة من مرض أو سفر أو ما يلحق بالمرض والسفر، فإنه تأتي الرخصة في الفطر والقضاء في أيام أخر: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] . وتأتي الزكاة ولا تجب إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده مال وهو مستغنٍ مستغنياً عنه حتى يحول عليه الحول في يده، فحينئذٍ يثبت غناه فتفرض عليه الزكاة. ونأتي إلى الحج فنجد من أول مشروعيته: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] . ونأتي إلى الجهاد فنجد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [الفتح:17] وهكذا. ومن هنا لم يكن في التشريع الإسلامي ما يسمى طريقاً مسدوداً، بل كلما عجز الإنسان جاءته الرخصة، والتيمم يختلفون فيه على ما سيأتي إن شاء الله: هل هو عزيمة أو رخصة؟ كما اختلفوا في إباحة الميتة، إذا نفد الطعام ولم يجد ما يسد رمقه ووجد الميتة، وهي محرمة في الأصل، فإنه أبيح للمضطر: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] فإباحة الميتة عزيمة أم رخصة؟ قالوا: إنها رخصة، ولكن قد تكون عزيمة إذا خاف على نفسه الموت ولم يجد غيرها. وهنا في التيمم مباحث كثيرة من حيث العزيمة والرخصة، ومن حيث أنه مبيح للصلاة أو رافع للحدث، وهذه كلها جوانب فقهية تتعلق بموضوع التيمم، وسيذكر المؤلف بعض النصوص الموجودة في هذا الباب، وسنشرحها إن شاء الله تعالى.

من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم والتيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فلا حاجة إلى بحث جوازه أو مشروعيته، وقد بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بشيء من بيان المشروعية مع خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنها: حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، قوله: (أعطيت) فعل مبني للمجهول، أو لنائب الفاعل، ومعلوم أن الذي أعطاه هو الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله: (لم يعطهن أحد قبلي) ، وقد اعتبروا هذه الخمس من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصر ما أعطيه دون الأنبياء في الخمس، وإنما قال: (أعطيت خمساً) ، ويمكن أن يعطي خمساً أخرى أو عشراً، ولهذا ذكر السيوطي أنه عد ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم فوصل إلى مائتي صفة، وذكر ابن حجر في فتح الباري ثمانية بنصوصها. وهناك أمور تمر على الإنسان وقد لا يعلم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في بيان خصائصه: إما أن يأتي النص عليها، كما جاء في الواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن بالتنصيص: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، فهذا نص قرآني على أن هذه الصورة من صور الزواج خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن المرأة إذا رغبت في زواجها من رسول الله، فجاءت ووهبت نفسها لرسول الله، فإنه يحق له أن يتزوجها بدون صداق ولا ولي ولا شهود، وهذا من خصائصه، قيل: لأن الولي لا حاجه إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أما غيره فلا يحق له أن يتزوج امرأة بالهبة كما هو معلوم. ونرجع إلى الخمس المذكورة في هذا الحديث، فنجد أنه صلى الله عليه وسلم استهل حديثه بقوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، وفي رواية: (أحد من الأنبياء قبلي) ، وإذا كان لم يعطهن أحد قبله فهل يعطى أحد بعده شيئاً منها؟ الجواب: لا؛ لأن الرسالة انتهت، والعطاء والإكرام من الله سبحانه وتعالى بتخصيص فرد من الأفراد بشيء لم يكن لغيره قد انتهى أمره، اللهم إلا أمور ليست في التشريع، كما قالوا عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنه كانت تمر به الملائكة فتسلم عليه وكان يراها، فحدث، أن اكتوى، فامتنعت الملائكة عن التسليم عليه، وعن رؤيته، فلما ترك الكي عادت إليه، وقال: قد عاد إليَّ ما كان أولاً. وكذلك العباس رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى بيت رسول الله، واستأذن على رسول الله فلم يأذن له، والباب مفتوح، وهو يراه في داخل البيت، فغضب العباس، وكان في بني هاشم نوع حدة، فجاء راجعاً إلى بيته، فقال له عبد الله: لا تغضب يا أبي! لعله مشغول عنك بالرجل الذي كان يتحدث معه، فقال: وهل معه رجل؟ قال: بلى، قال: ما رأيته، فرجع العباس مرة أخرى، فاستأذن على رسول الله فأذن له، فدخل وقال: (ما شأنك يا ابن أخي استأذنتك أولاً ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: إنه كان عندك رجل تحادثه؟ فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس وقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: ذاك جبريل كان عندي آنفاً) ، فهذا قد يكون من خصوصياته، ولكن وجدنا في مجلس عام في حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل) ، وذكر من صفاته، فهذا في مجمع عام، وفي النهاية قال لهم صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) . فقد يخص الله بعض العباد ببعض الخصائص التي ليست للآخرين، كإجابة الدعوة، فليس كل إنسان مجاب الدعوة، ولكن يوجد من بعض عباد الله الصالحين كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أقسم على الله لأبره) .

قذف الرعب في قلوب الأعداء

قذف الرعب في قلوب الأعداء قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) . والرعب: هو الخوف، والمسيرة نسبة إلى موضع السير، والمعنى: مسافة ما يسير الإنسان شهراً بالسير العادي على الأقدام أو على الإبل، قالوا: مسيرة شهر أمامه، ومسيرة شهرٍ وراءه، ومسيرة شهر عن يمينه، ومسيرة شهر عن يساره، فكل من سمع به على بعد شهر فإنه يخاف منه، وجاء في بعض الروايات: (نصرت بسيفي) أي: بالسمعة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم، والرءوف الرحيم لا يخاف الناس منه، إنما يخافون الناس من البطاش والجبار والظالم، ولكنه رءوف رحيم ومع ذلك يخافون منه! وقوله: (نصرت) ، هذه النصرة كما يقولون: لو كان وحده وليس معه من الجيش أحد فإنه بمجرد وجوده في مكان ويسمع به أي إنسان ولو على بعد مسيرة الشهر فلابد أن يرتجف قلبه خوفاً من رسول الله؛ لما أعطاه الله من النصر على أعدائه. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات كما يقول الراوي: نزلنا منزلاً وكان الظل شحيحاً، فكنا نترك الشجرة المظلة لرسول الله ونتجنب عنه -أي: ليقيل وينام- فجاء إلى ظل شجرة وعلق سيفه بغصنها ونام، فجاء أعرابي وأخذ السيف واستله من جرابه، وأيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! من يعصمك مني؟ -السيف في يده، وهذا أعزل وجالس في الأرض وهو متمكن بقيامه- قال: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي فتناوله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أعرابي! من يعصمك مني؟ فقال: العفو يا محمد. فهذا من نصرة الله، فإنه لم يأتِ أصحابه حوله، ولم يستصرخ أحداً، ولا استنجد بأحد، ولا نادى أحداً، ولكنه استعان بالله. ومن المعلوم أن نصرة الأنبياء في مثل تلك الوقائع ليست بدعاً من الأمر، فالقرآن الكريم قد ذكر عدة وقائع، فهذا الخليل عليه السلام عندما وضعوه في المنجنيق وأرادوا إلقاءه في النار وهي ملتهبة مستعرة، ويأتي جبريل ويقول: ألك حاجة؟ فيقول له: أما منك فلا، وأما من الله فنعم، قال: أفلا تدعوه؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤاله، فكانت نصرة الله له أقرب من كل شيء، وقد جاء في الحديث: (ضجت الملائكة لما رأته في المنجنيق وقالوا: إن سألكم عوناً فأعينوه إن استطعتم) ، ولم يسأل أحداً شيئاً، وكانت نصرة الله له بقوله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] . وموسى عليه السلام لما وقف على حافة البحر، ونظر من معه فإذا فرعون وجنوده وراءهم، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وكلمة (معي) نجدها في الغار عندما وصل الطلب من قريش لرسول الله إلى فم الغار وقال الصديق: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما بالك باثنين الله ثالثهما) ، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] . وهكذا نجد نصرة الله للرسل عامة، ولكن أن يكون النصر على مسيرة شهر، فهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] .

جعل الأرض كلها مسجدا وطهورا

جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً) . والجعل: التصيير، تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الخشب باباً، وجعلت الطحين خبزاً، والأرض موجودة من قبل، ولكن الجعل منصب على الوصف الطارئ، و (الأرض) جنس -كما يقولون- الكوكب الذي نعيش عليه، و (أل) هنا للاستغراق، فتشمل جميع أجزاء الأرض مشارقها ومغاربها، شمالها وجنوبها، أعلاها وأسفلها، وكلمة (لي) مفهومها أنها لم تجعل لغيره، وقوله: (مسجداً وطهوراً) هل المسجد والطهور خصلة واحدة؟ التحقيق في العدد أنها خصلة واحدة؛ لأننا لو عددناهما خصلتين لكان المذكور في الحديث ست خصال، والمذكور في الحديث في الجملة خمس، وهذا من الأساليب النبوية، وهو الأبلغ، أن تذكر القضية مجملة ثم يفصل في أجزائها. و (مسجِد) على وزن مفعِل، من سجد يسجد فهو مسجد، على خلاف القياس، وهو موضع السجود، كمجلس، يقال: هذا مجلس زيد أي: مكان جلوسه، وهذا مسجد زيد أي: مكان سجوده، وهل المراد بالمسجد هنا المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي؟ بمعنى هل المراد أن يجوز أن يبنى المسجد في أي جزء من الأرض، أم المراد أن جميع أجزاء الأرض مسجد بمعنى موضع للسجود، ولو لم يكن هناك مسجد مبني؟ المعنى الثاني أعم، وكأن الأرض كلها مسجد كبير جداً في جميع أجزاء الأرض. وقوله: (وطهوراً) ، والأرض تكون طهوراً، وكلمة (الأرض) تشمل جميع طبقاتها، والأرض أنواع كما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثلي ومثل ما بعثني الله به من الحق كمثل أرض خصبة شربت الماء وأنبتت، وأرض قيعان لم تمسك ماءً ولم تنبت كلأ، وأرض أمسكت الماء ولم تنبت واستفاد بها غيرها) ، فقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، يعم كل أرض، وسيأتي بيان هذا الطهور وكيف نتطهر بالأرض. إذاً: التعميم هنا والمجيء بـ (أل) وهي لجنس الأرض، أخذ العلماء من ذلك أن طهور الأرض يصلح بكل أنواع أجزائها، سواء كانت رملاً، أو حصى، أو صخرة ملساء، أو أرضاً طيبةً منبتة، أو غير ذلك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، كما تصح الصلاة في جميع أجزاء الأرض، سواء كانت صخرة ملساء، أو رملاً بيضاء، أو حصوة، أو حجارة، أو حتى على رأس جبل فإنه تصح الصلاة فيه، وكذلك تصح الطهارة منه، وهذا هو ما أخذ به من يقول بأن التيمم يصح أن يكون على جميع أجزاء الأرض. وقوله: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، (أي) من صيغ العموم، و (ما) هنا موصولة وهي من صيغ العموم، فتعم كل رجل وكل امرأة (أدركته الصلاة) في أي بقعة من بقاع الأرض، (فعنده مسجده وطهوره) مسجده أي: الذي يصلي فيه، وطهوره الذي يتطهر للصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل) أي: من أمته، فالأمم الماضية ما كانت تصح لهم الصلاة في عموم الأرض؛ لأن هذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه ولأمته معه، وكان الأنبياء والأمم من قبل لا تصح صلاتهم إلا في أماكن العبادة، سواء كانت البيع، أو الكنائس، أو مواطن العبادة التي تختص بهم، أما عموم الأرض فلم يرخص لهم فيها، وجاءت هذه الأمة فكانت صلاتها تصح في المساجد التي بنيت للصلاة، وتصح في أي جزء من أجزاء الأرض، فأيما رجل أدركته الصلاة في سفر أو في حضر، وليس عنده مسجد فعنده مسجده، أي: وجه الأرض، وإذا لم يجد الماء فعنده الأرض يتطهر بها ويصلي عليها، أي: أنه لا يعفى أي رجل من أداء الصلاة، فلا يقول: لا يوجد مسجد، فعنده مسجده، ولا يقول: ليس عندي ماء أتوضأ، فعنده طهوره. إذاً: لا عذر لأي رجل كان في أي بقعة كانت أن يترك الصلاة لعدم وجود مسجد مقام، أو لعدم وجود ماء يتطهر به، فعنده في أي مكان كان مسجده وهو وجه الأرض، وعنده طهوره الذي هو جزء الأرض المكشوف لنا. وقوله: (فأيما رجل) تلحق به المرأة أيضاً، فلو أن عائلة بكاملها رجالاً ونساءً، أو قبيلة في رحلة، أدركتهم الصلاة ولم يجدوا الماء، فإن الجميع رجالاً ونساءً يتيممون ويصلون.

حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض

حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض [وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ] . من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء باللفظ الأول: (وجعلت لي الأرض) ، والأرض عامة، ثم جاء باللفظ الآخر: (وجعلت تربتها) يقولون: إن التربة والأرض سواء، وتربة كل جزء من الأرض بحسبها، يقال: هذه الأرض تربتها خصبة، وهذه الأرض تربتها رمل، وهذه الأرض تربتها حصى، وهذه الأرض تربتها صخر، فتربة كل مكان بحسبه. إلا أن البعض قال: (تربتها) نوع خاص منها هو الذي يمكن أن يكون منه التيمم، وهنا سنبدأ في تخصيص عموم الأرض، ويبين ذلك الأثر الذي يأتي بعد هذا، وهو عن علي عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] ، وهذا نص صريح، والتراب متميز عن أجزاء الأرض من غيره؛ لأن الأرض ليست كلها تراباً، وكذلك الطين، والرمل الأبيض الناصع، والحصا والصخرة الملساء، فالتراب: ما كان من الأرض صالحاً للزرع والإنبات، وكان له غبار. فمن هنا لوجود هذه الروايات هناك من أخذ بالعموم وقال: يصح التيمم على جميع أجزاء الأرض، كـ مالك وأبي حنيفة رحمهم الله. وقال الشافعي: لابد من وجود تراب، وإذا وجد التراب ولو في غير الأرض صح التيمم، كما يقول النووي رحمه الله: لو جاء إلى كيس من الحب معرض للهواء والغبار والتراب، أو إلى مفرشة مليئة بالغبار، فضرب عليها، وتصاعد غبار التراب من هذا الكيس أو من هذه المفرشة؛ صح التيمم عليه؛ لأن الغرض هو التراب. والجمهور يقولون: إن الله يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] ، فلا بد من القصد للصعيد، وهو وجه الأرض. إذاً: العلماء مجمعون على مشروعية التيمم، ولكنهم اختلفوا في هل عموم الأرض على النص الأول العام أم على التربة؟ وهل التربة تتميز عن عموم الأرض؟ وإذا كان التراب على جدار أو على كيس أو على مفرشة أو نحو ذلك فهل يصح التيمم؟ فـ الشافعي رحمه الله أخذ بأثر علي، وجعل التراب حيثما كان ولو لم يكن مباشراً للأرض؛ لأن التراب عوض عن الماء. والآخرون قالوا: الذي يصح منه التيمم هو وجه الأرض؛ لقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:43] ، والصعيد: ما تصاعد وارتفع عن وجه الأرض، حتى قال المالكية: صعيد الأرض ولو كان حجراً أملساً، فلو أن صخرة بالوادي كانت مليئة بالتراب وجاء السيل وغسلها، ثم جاء إنسان في وقت من الأوقات ولم يجد ماء، ووجد تلك الصخرة الملساء، فإنه يصح التيمم عليها ولو لم يكن بها ذرة غبار ولا تراب. إذاً: إلى هنا بيان اختلاف العلماء رحمهم الله في نوعية ما يصح منه التيمم من الأرض، وهم مجمعون على أن جميع أجزاء الأرض تصح الصلاة عليه، فلو كان هناك إنسان في قمة جبل، ثم حان وقت الصلاة، فلا نلزمه أن ينزل إلى بطن الوادي ليصلي، بل يصح أن يصلي في قمة الجبل ولو كان أملساً مثل الرخام المنعم. وقالوا: كما تصح الصلاة وتكون الأرض مسجداً بعمومها وجميع أنواع أجناسها، سواء في رملة، أو في حصوة، أو في صخرة، أو في تراب، أو في غير ذلك، فكذلك الطهور قرين المسجد، فعنده مسجده وطهوره، فإذا كان عنده مسجده والأرض صخرة ملساء وقلنا: لا يصح التيمم، صار عنده مسجده فقط، وعليه أن يبحث عن طهوره، وهذا ينافي الحديث. وعلى هذا يكون الراجح من هذه الأقوال: أن أي جزء من أجزاء الأرض بطبيعته فإنه يصح التيمم عليه كما تصح الصلاة فوقه. والمؤلف لم يذكر من الخصائص الخمس إلا اثنتين، ثم قال: (وذكر الحديث) ، أي: أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ذكر بقية الحديث، ولكن المؤلف اقتصر من الحديث على ما هو محل الشاهد هنا، وهو قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وما دام أن المؤلف قد ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) فلا بأس أن نقف على بقية الخصال الخمس التي اختص بها خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه.

إباحة الغنائم

إباحة الغنائم قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم -وفي لفظ: المغانم- ولم تحل لأحد قبلي) . الغنائم والمغانم: هي ما يناله الجيش المنتصر من ممتلكات الجيش المنهزم، من أموال وحيوانات وسلاح وغيرها، فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا أول من أحلت له الغنائم، أما الأمم الماضية فلن تكن حلالاً لهم، والأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على قسمين: قسم أمر بالقتال ووعده الله بالنصر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] . وقسم لم يؤمر بقتال فليست عنده مغانم، فالذين أمروا بالقتال وكانوا يغنمون من العدو، كانوا يجمعون المغانم والغنائم في مكان واحد، فإن كان عملهم خالصاً وسلم من الغلول -أي: لا يوجد شخص من الجيش أخفى شيئاً لنفسه- نزلت عليه نار وأحرقته، كما حدث في قضية قابيل وهابيل لما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وهو أن نزلت نار فأحرقت القربان الذي قبل عند الله. فكانت تنزل نار فتحرق تلك الغنائم، ولا يمتلك الجيش المقاتل منها شيئاً، ويُذكر عن نبي من الأنبياء أنه قاتل وجنده فغنموا مغانم ووضعوها، فلم تنزل نار لتحرقها، فقال لرؤساء القوم: فيكم غلول منع من نزول النار لإحراقها، فكان كل واحد يقول: لا يوجد عندنا الغلول، فدعا رؤساء الجند وقال: ليبايعني كل واحد على قومه، فبايعوه، إلا واحد لصقت كفه بكف نبي الله، فقال: في قومك الغلول، ائتني بهم ليبايعوا واحداً واحداً، فجاءوا وبايعوه، فلصقت كف الغال بكف النبي عليه السلام، فقال: أنت عندك الغلول، فأخرج رأس ثور من ذهب وألقاه، فنزلت النار وأحرقته. فكانت الأمم الماضية والرسل المتقدمون إذا غنموا لا يقتسمون الغنائم، ولكن هذه الأمة أحلت لهم الغنائم، وكلمة (أحلت) تشعر بأنها لم تكن حلالاً من قبل، كما في آية الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] ، وقبل نزول الآية لم يكن الرفث -وهو الجماع- حلالاً. وبعض العلماء يقول: المراد بالمغانم هنا بعضها وهو الخمس، فيتصرف فيه صلى الله عليه وسلم كيفما شاء، كما جاء في الآية: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] الآية. وبعضهم يقول: بل المراد جميع الغنائم، كما جاء في سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] ، فما أعطى للآخرين شيئاً وهو الذي يعطي المقاتلين حصتهم، ثم جاء التقسيم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] ، والأربعة الأخماس تكون للمقاتلين، وهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى قال صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة) ، الشفاعة هنا جنس عام، وأصل الشفاعة: من الشفع، والشفيع يأتي مع الشخص المفرد فيجعله شفعاً، فإن الشخص وحده وتر فرد، فإذا ضم إليه من له حاجة إليه فإن هذا الذي جاء معه يشفعه، فصار هو والذي جاء شفعاً وليس وتراً، والشفيع: هو الذي يأتي مع المشفوع فيه فيكون شفعاً معه. وعرفاً: هو الذي يسأل من عنده الحاجة للمشفوع له، وغالباً يكون الشفيع أو الشافع ذا منزلة عند المشفوع عنده؛ لأن الشخص بذاته قد لا يعنى به من عنده الحاجة، وإذا أتاه قد لا ينظر إليه أو لا يقضيها له، فإذا أتاه من له مكانة عنده ربما قضى حاجة المشفوع له بموجب وجود الشافع الذي أتى معه. والشفاعة يوم القيامة: هي أن يشفع الشافع في غيره، إما بعدم دخول النار وقد استحقها، وإما بدخول الجنة وهو لم يستحقها، وإما بإخراجه من النار وقد دخلها. والشفاعة من حيث هي بهذه الصفات يشارك فيها الكثيرون، فالعالم يشفع في جيرانه وفي أهله، والطفل يشفع في أبويه، والشهيد يشفع في سبعين من أهله، فهناك من الأشخاص من يعطيهم الله حق الشفاعة في الأفراد. ولكن الشفاعة هنا للجنس، وإذا أطلق الجنس انصرف إلى أكمل أفراده، يقال: جاء الرجل، والرجل هو إنسان في مقابل المرأة، لكن إذا أطلق وقيل: جاء الرجل، فالمعنى: الأمثل في الرجال الذي ينصرف إليه الاسم كعلم عليه لتميزه، وقد يكون نسبياً، فيقال: جاء الرجل الشجاع، جاء الرجل الكريم، جاء الرجل العاقل، وذلك إذا كنا في قضية حول الشجاعة والجبن، وحول الكرم والشح، وحول الحلم والغضب، فيقال: جاء الرجل، أي: الرجل الذي هو أحق بهذه الصفة عند الناس. واسم الجنس قد يكون علماً للغلبة على فرد، مثل كلمة (المدينة) ، فإذا أطلقت المدينة التي هي في أصل اللغة نكرة ودخلتها (أل) التعريف، فيراد بها المدينة المنورة، مع أنها تصدق على كل مدينة من مدن العالم، ولكن أصبحت علماً على المدينة المنورة. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت الشفاعة) ، تصرف الشفاعة عند الإطلاق على أعلى فرد من أفراد الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى. والشفاعة المذكورة هنا هي الشفاعة التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل والأنبياء وجميع الخلق، وهي ما يسمى عند العلماء: بالشفاعة العظمى، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة، وتدنو الشمس من الرءوس بقدر الميل، ويشتد الأمر بالناس، حتى يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون مجيء الرب لفصل القضاء؟ ألا تجدون من يشفع لنا؟ فيذهبون إلى أبي البشر آدم عليه السلام ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما نحن فيه؟ اذهب فاشفع لنا عند ربك ليأتي لفصل القضاء، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولقد نُهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها؛ فإني أستحي أن أسأل ربي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، وأنت وأنت وأنت. فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الله، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، فيقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فيقول: أنا لها أنا لها) . وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، وقد تعجل كل بني بدعوته على قومه في الدنيا، -قال: (وأنا ادخرت دعوتي إلى يوم القيامة) ، فاخرها لذلك اليوم، يقول: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعلمها) ، ونحن نذكر في الدعاء: (اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فهناك يعطي الله رسوله في ذلك المقام مما استأثر به في علم الغيب عنده، فيحمد الله بتلك الأسماء في ذلك المقام، وهي المناسبة لذلك لهذا الموقف الحرج الشديد، إلى أن يقبل الله منه فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) ، فيسأل المولى سبحانه المجيء لفصل القضاء، أو أن يعجل فصل القضاء. وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعده الله، والذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسألها من الله له عندما قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا هو) ، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى؛ لأنها تشمل جميع الأمم وجميع من في الموقف. إذاً: الشفاعة في قوله: (وأعطيت الشفاعة) وإن كانت اسم جنس عام إلا أنها تصرف لأعلى أفراد الجنس، وبقية الشفاعات يذكرون أنها سبعة أنواع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن لا يستحق الجنة فيدخلها، ويشفع ثلاث أو أربع مرات لمن دخل النار بالفعل أن يخرجه الله منها، كما في الحديث: (يا رب! أمتي، فيقول: اذهب فأخرج من تعرف من أمتك من النار) ، وفي بعض الروايات: (فيحد لي حداً في النار ويقول: اذهب فأخرج من وجدت من أمتك في النار) أي: في هذا الحد، ثم يرجع مرة ثانية وثالثة وهكذا.

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة قال صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) . هذه هي الخامسة، وهي عموم وشمول الرسالة، فقد كان النبي يبعث في قومه خاصة، فلوط بعث في قومه، وإبراهيم بعث في قومه، ونوح بعث في قومه، وإن كان نوح عليه السلام بعد الطوفان أصبح لجميع من على وجه الأرض؛ لكن هذا العموم طرأ بعد أن غرق كل من عدا من آمن معه؛ ولكن أصل بعثته لقومه خاصة: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح:2] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] ، فبعد أن وقع الطوفان، وغرق سوى من لم يؤمن، أصبح لا يوجد على الأرض إلا من تبعه، فلا نقول: إن رسالته عامة للناس؛ لأن هذا العموم طارئ بعد فناء من لم يؤمن، فأصل رسالته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام خاصة لقومه. وهكذا صالح أرسل إلى ثمود، وهود أرسل إلى عاد، وهكذا كل واحد من الأنبياء أرسل لقومه، إلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] ، فرسالته عامة للأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وكل بشر على وجه الأرض شملته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (ما من أحد سمع ببعثتي ولم يؤمن بي إلا دخل النار) ، (سمع) من أي الأجناس، في أي بقعة على وجه الأرض، وأعتقد أنه لا يوجد على وجه الأرض بشر إلا وقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا -في نظري- أولئك البشر الذين يعيشون في بعض الغابات في آسيا، ولم يتعرفوا على البشر، ويعيشون عراة تحت الأشجار، وبعض الدول هناك تذهب وتأخذهم كما يؤخذ الصيد، وتأتي بهم إلى المدن وتحاول أن تلبسهم فيمزقون اللباس، فجعلت لهم بيئة كبيئة الغابة بالفعل، وجعلت أنهاراً في وسط الأشجار، فتأتي أول ما تأتي بهم وتطلقهم في هذه الغابة المصنوعة، وبعد فترات تجعل لهم أكواخاً صغيرة، وتضع أطعمة في بعض الصحون، فيأكلون الأطعمة ويكسرون الصحون، وعندما يتآلف الشخص منهم يأتون إليه بنوع من القماش، ويفتحون فيه فتحة من الوسط ويدخلون رأسه، ويتركونها عليه جزء منها من الأمام، وجزء منهما من الوراء، فإذا بهم يخلعونها ويرمونها، ويعودون إلى العراء، وبعد فترة يألفون هذا اللباس، ثم بعد ذلك يعطون قميصاً واسعاً، ثم بعد ذلك يخاط القميص والسراويل ويألفون عليها وهكذا. ويحكون عنهم أنه إذا برز واحد من طرف الغابة التي يعيشون فيها ورأى بشراً من بعيد هرب ودخل إلى الغابة، فهؤلاء لا أدري هل بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم؟! الله أعلم، ولكن الذي يهمنا أن دعوة رسول الله عامة حتى لهؤلاء، وعلى ولاة المسلمين أن يعملوا على إبلاغها لهؤلاء ما استطاعوا لذلك سبيلاً. وهذه الخصيصة تعتبر من الخصائص المتميزة التي ذكرت، ومن أراد الوقوف على أكثر من ذلك فليرجع إلى فتح الباري، أو إلى الخصائص للسيوطي، أو إلى الخصائص النبوية للبيهقي، فهناك أشياء عديدة في شخصه صلى الله عليه وسلم، وفي قوته وشجاعته وكرمه، وفي بيته مع نسائه، وأشياء عديدة يمكن أن تمر بالإنسان في بعض الأحاديث فيدرك خصوصيتها. أما ما لم يأت التنصيص على خصوصيتها لرسول الله فإن العلماء يقولون: كل ما أمر به ولم يفعله فعدم الفعل له من خصائصه، وكل ما نهى عنه وفعله فهو من خصائصه ولا يقتدى به في ذلك، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.

كتاب الطهارة - باب التيمم [2]

كتاب الطهارة - باب التيمم [2] من رحمة الله بعباده أن فرض عليهم الفرائض وأوجبها على قدر الاستطاعة، وجعل لكل ما لم يقدر عليه العبد بديلاً، ومن ذلك: الطهارة للصلاة بالماء، فإن لم يجد العبد ماء ليتوضأ كي يصلي أو ليغتسل إن كان جنباً، أو لم يستطع أن يستعمل الماء لمرض أو خوف، فإنه يعدل إلى التيمم.

شرح حديث عمار بن ياسر في صفة التيمم

شرح حديث عمار بن ياسر في صفة التيمم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم. وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) . ] . بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، في حاجة، ولم أقف على تلك الحاجة، يقول: فأصابتني جنابة وليس عندي ماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، وهذا الفعل منه رضي الله تعالى عنه يعتبر من استعمال القياس، فإن التيمم جاء في الوضوء وجاء أيضاً في الجنابة، وهو لا يعلم الكيفية، فقاس التيمم من الجنابة على الغسل من الجنابة بالماء، والغسل من الجنابة يعمم فيه جميع البدن، بخلاف الوضوء في الحدث الأصغر، فإنه تغسل أعضاء خاصة من البدن، فهو ظن أن التيمم ينبغي أن يعمم جميع البدن كما يعممه الغسل بالماء، ففعل تلك الصورة، فلما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما وقع منه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا!) ، أي: أن تفعل هكذا، والقول قد يأتي محل الفعل، يقال: قال بيده هكذا وفعل، قال برجله هكذا ودفع الأمر، قال برأسه هكذا، أي: أشار وفعل. قال: (فضرب بيديه الأرض) ، فيتعين هنا إحداث الضرب، أما أن يمسها أو يجرها على الأرض فليس من صورة التيمم، فعليه أن يضرب بيديه الأرض، واليد تطلق من الكف إلى الذراع إلى الزند إلى المنكب، ولكن الذي يضرب به الأرض إنما هو الكفان.

ضرب اليدين في الأرض للتيمم

ضرب اليدين في الأرض للتيمم والضرب باليدين على الأرض هي أول حركة في التيمم، وهذا متفق عليه، ولكن يأتي البحث في: ماذا يمسح؟ وفي عدد الضربات، وهذا هو ما يدور القول فيه في كيفية التيمم، أهو ضربة واحدة أم هو ضربتان؟ وهل يمسح الكفان والوجه فقط أم يمسح إلى المرفقين أم يمسح إلى المنكبين؟ وهل هي مسحة واحدة أو مسحتان؟ كل ذلك ورد، أما عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يأت إلى المنكب، ولكن جاء عن بعض السلف. أما مسح الكفين والمرفقين فجاءت فيه النصوص، كما في حديث عبد الله بن عمر الذي ساقه المؤلف بعد حديث عمار، وبعض روايات عمار أيضاً إلى المرفقين. إذاً: حديث عمار فيما يتعلق بالجنابة انتهينا منه، وذكرنا أن التيمم يشرع للجنابة كما يشرع للحدث الأصغر، ثم يأتي هنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم والبيان، ولا يجوز تأخير التعليم أو البيان عن وقت الحاجة؛ لأن عماراً لم يعلم كيف يتيمم من الجنابة، والرسول بين، والبيان في معرض التعليم هو الأساس والأصل.

مسح اليد اليسرى على اليمنى

مسح اليد اليسرى على اليمنى قال: عمار: (فضرب بيديه الأرض ثم مسح الشمال على اليمين) . أي: أنه مسح اليمنى أولاً، ثم مسح الشمال، فذكر عمار هنا التيامن بين اليدين، فاليمين تمسح قبل الشمال، ثم تمسح الشمال. وهنا يقول عمار: مسح الشمال على اليمين، أي: قدم مسح اليدين على مسح الوجه، وهذا في ترتيب حديث عمار الذي ساقه المؤلف في معرض التعليم.

مسح الوجه والكفين

مسح الوجه والكفين قال: (وظاهر كفيه ووجهه) . باطن الكف حده ما تنكف عليه الأصابع، فالجزء الذي لا تقع عليه الأصابع عند قبضها ليس من باطن الكف؛ لأنه لا تأتي عليه الأصابع، والكف من بعد أطراف الأصابع إلى نهايتها، وظاهر الكفين يبدأ من الرسغ، وهو موضع الحركة والاتصال بين الكف وبين الذراع، فهذا هو ظاهر الكف مع الأصابع. فـ عمار ذكر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يضرب بكفيه الأرض، أي: ضربة واحدة، ثم يمسح الشمال على اليمين، أي: أنه قدم اليدين وقدم اليمنى على اليسرى، ثم يمسح ظاهر الكفين، ولم يذكر هنا إلى المرفقين، ولكنه لما قال: (ثم مسح الشمال على اليمين) ، يمكن أن يقال: إن هذا يشمل اليدين إلى المرفقين، على ما سيأتي في الرواية الثانية. ثم بعد مسحِ اليدين مسحَ وجهه وظاهر كفيه، فيكون عاد إلى الكفين ومسح ظاهرهما وذلك بعد الوجه.

نفخ الكفين بعد ضربهما في الأرض للتيمم

نفخ الكفين بعد ضربهما في الأرض للتيمم وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما) . قوله: (وضرب بكفيه الأرض) هذا متفق عليه في كل الأحاديث، وقوله: (ونفخ فيهما) أي: بعدما يضرب الأرض بيديه يقربهما من فيه وينفخ فيهما، وفي بعض الروايات: (فنفض بعضهما ببعض) ، وهذه النفخة وافق عليها الأئمة الثلاثة، وخالف في ذلك الشافعي؛ لأنه يقول: النفخ يذهب التراب الذي علق باليدين، والآخرون يقولون: إن النفخ ليس قوياً، إنما الغرض منه -سواء النفخ أو ضرب الكفين بعضهما ببعض- أنه قد يعلق بالكفين حصاة أو قذاة أو عود صغير، فلو مسح به وجهه فقد يؤذيه هذا الذي علق باليد، فالنفخ فائدته أنه يذهب هذا الذي علق باليد، إذاً ليس المراد بالنفخ إذهاب ما علق باليدين من تراب إن كان على أرض ترابية، فهذه النفخة يوافق عليها الأئمة الثلاثة رحمهم الله، ويأخذون بها، والشافعي يقول: لا ينفخ؛ لأنه يذهب أثر التراب من يديه. قال: (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) ، إذاً رواية البخاري تقدم الوجه على اليدين، ولهذا ساقها المؤلف ليبين أن الصحيح والراجح هو تقديم الوجه على اليدين، والله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، فذكر الوجه قبل اليدين، وهذا هو المشهور والمعمول به عند الجميع.

شرح حديث: (التيمم ضربتان.

شرح حديث: (التيمم ضربتان ... ) [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ، رواه الدارقطني وصحح الأئمة وقفه] . إذاً: حديث عمار رضي الله تعالى عنه متفق عليه، وتتفق الروايات كلها عن عمار بأن التيمم ضربة واحدة، وفيه روايتان: رواية تقديم اليدين على الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى، ورواية أخرى صحيحة عند البخاري فيها تقديم الوجه على اليدين، ورواية عمار في الموضعين ذكر فيها الوجه والكفين، ولكن جاء عن عمار أيضاً -كما ذكر ذلك ابن عبد البر - المسح إلى المرفقين. وهنا يأتي المؤلف رحمه الله برواية عبد الله بن عمر وقد اختلفوا في رفعها وإرسالها ووقفها عليه، فيقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (التيمم ضربتان) ، وهذا ليس من باب الاجتهاد بالرأي، فلو لم تكن مرفوعة نصاً فهي مرفوعة حكماً، وكونها مرسلة -المرسل هو سقوط الصحابي- هذا لا يطعن في الحديث؛ لأن الصحابي ولو لم نعرفه فهو عدل مقبول. إذاً: رواية عبد الله بن عمر قوية يحتج بها، وقد قال فيها: (التيمم ضربتان) ، وفي حديث عمار: (ضربة واحدة) ، ثم فصل ابن عمر في هاتين الضربتين، فقال: (ضربة للوجه) ، فقدم الوجه على اليدين، (وضربة لليدين إلى المرفقين) ، فزاد على حديث عمار رضي الله تعالى عن الجميع بأن ذكر أن التيمم ضربتان، وزاد أن مسح اليدين ليس إلى الكفين فقط، ولكن إلى المرفقين مثل الوضوء.

خلاف العلماء في عدد ضربات التيمم وفي المسح إلى المرفقين

خلاف العلماء في عدد ضربات التيمم وفي المسح إلى المرفقين وهنا يأتي العلماء إلى البحث في هذه المسألة: فـ الشافعي وأحمد يقولون: لابد من الضربتين، ولابد من المسح إلى المرفقين، ومالك رحمه الله يقول: التيمم ضربتان، ولكن ضربة للوجه وضربة للكفين فقط، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: ضربة واحدة للكفين. فكما وجدنا الاختلاف السابق في المسح، وجدنا هنا تعدد الضرب، ووجدنا بلوغ المسح إلى المرفقين، وكما وجدنا الخلاف في نوعية ما يتيمم عليه من أجزاء الأرض، وجدنا الخلاف هنا بسبب الألفاظ الواردة، فحديث ابن عمر يقول: (إلى المرفقين) ، وحديث عمار يقول: (ومسح بهما وجهه وكفيه) . ونجد بعض الروايات عن مالك رحمه الله يقول: إن اقتصر على الكفين أجزأه، وأحب إليَّ إلى المرفقين، والذين قالوا بالمسح إلى المرفقين أخذوا طريق القياس أيضاً وقالوا: إن التيمم بديل عن الوضوء، واليدان يغسلان إلى المرفقين، فيكون المسح في التيمم كالغسل في الوضوء يبلغ بهما إلى المرفقين. والآخرون قالوا: إن الآية الكريمة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] ، جاءت فيها اليد مطلقة فيما يتعلق بالتيمم، ولم يأت تحديدها في كتاب الله، وجاءت الآية في الوضوء الذي هو الأصل بقيد المرفقين، وجاءت أيضاً اليد مطلقةً في حكم قطع يد السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، ولم تحدد موضع القطع، وجاءت السنة وعينت موضع القطع من الرسغ، أي: الكف. فهنا يقول بعضهم: تحمل اليد المجملة في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] على آية القطع في السرقة، وأن السنة حددتها بالكف فقط. وقال الآخرون: إن كانت القضية قضية قياس فقياس التيمم على الوضوء أولى؛ لأن كلاً منهما طهارة، فقياس طهارة التيمم على طهارة الماء أولى من قياس اليد في التيمم على اليد في قطع يد السارق. ولكن المحققين من أهل الأصول يقولون: لا يصح القياس في كلا الأمرين؛ لأن من شرط القياس أن يساوي الفرع الأصل، والفرع هنا ليس مساوياً للأصل؛ لأن الأصل: طهارة مائية بغسل، والفرع هنا: تيمم تعبدي في الصورة والهيئة، ونحن لا ندرك الحقيقة، ولو قال قائل كما قال أبو حنيفة رحمه الله: إن الوضوء من الوضاءة وهو النظافة، فماذا يقول في التيمم وهو من تعفير الوجه بالتراب؟ هو إذاً أمر تعبدي، وقد يقال: إنه سد فراغ، وإشباع للروح والتطلع؛ لأن الماء يتطهر به للصلاة، فإذا لم يجد الماء ولم يكن للماء بديلاً كان في النفس شيء، فلما أعطي التراب تيمماً بدلاً من الوضوء، كأنه أعطي بديلاً عن مفقود، والبديل عن المفقود تطمئن إليه النفس وتستريح، فالمجال ليس مجال قياس. إذاً: بقيت النصوص التي تذكر تارة ضربة واحدة وإلى الكفين، وتارة ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وأحسن ما قيل في ذلك هو ما قاله مالك رحمه الله: أنه من حيث الإجزاء تجزئ ضربة واحدة، ويجزئ الاقتصار على الكفين، ومن حيث الكمال والأوفى والأتم والأحسن في التيمم ضربتان وإلى المرفقين. إذاً: أقل ما يجزئ في التيمم ضربة واحدة، والاقتصار على الكفين، وأكمل التيمم ضربتان، وليس ثلاثاً كالوضوء، وأن يبلغ بالمسح المرفقين.

الأسلوب البلاغي في حديث عمار

الأسلوب البلاغي في حديث عمار بقي جانب الأسلوب البلاغي، وهو ما ينبغي على طالب العلم أن يمعن النظر فيه، ولنأت مرة أخرى إلى حديث عمار تصور كأنك تشاهد المنظر رجل أجنب في الخلاء، وهو لا يعلم حكم التيمم، فأتى بأقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره، وهو أن يتمرغ في التراب من شعره إلى ظفره، فعل أقصى ما يمكن أن يفعله إنسان في العقل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد النبي من عمار مبالغة وزيادة على الواجب، ولو بالغ إلى المنكب فقط فقد يقال: ما زال في حدود اليد، ولكن جسمه كله! فيكون صلى الله عليه وسلم قابل المبالغة من عمار والزيادة الكثيرة عن المطلوب بأقل ما يجزئ، وقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ، فضرب الأرض ضربة واحدة في مقابل تمرغه في الصعيد، ويكون ذلك مقابلة للمبالغة في الزيادة عن المطلوب بمبالغة في أقل ما يجزئ. أما في الأمر العادي فليس هناك صورة بلاغية، كحديث ابن عمر فإنه جاء على الأمر العادي، والتشريع ابتدائي، فيكون التيمم على أوفى ما يكون وأكمل أن يكون ضربتين، وعلى هذا كما قال مالك رحمه الله: أقل ما يجزئ ضربة واحدة وإلى الكفين، والشافعي يقول: لا يجزئ إلا ضربتان وأن يبلغ بالمسح إلى مرفقيه. إذاً: القضية في الكيفية دائرة بين ضربة وضربتين، وبين الاجتزاء بالكفين أو البلوغ إلى المرفقين. ومما يتعجب منه أننا نجد بعض المشايخ عند الشافعية يمسح على اليدين في التيمم بشكل هندسي، يقول: ضرب أولاً ومسح بها وجهه، ثم ضرب الثانية ومسح الشمال على اليمين، فيبدأ ببطن كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى، أي: ببطن أصابع اليد اليسرى على ظهور أصابع اليد اليمنى، ثم يمر بأصابع يده اليسرى حتى يأتي إلى المرفق، ثم ينقلب ببطن الكف اليسرى على بطن اليد اليمنى، ويصعد بها إلى أن يلتقي الكف بالكف، ويمسح الإبهام بالإبهام، والأصابع بالأصابع، ثم يعود إلى اليسرى فيفعل بها مثلما فعل باليمنى؛ لأنهم يقولون: الجزء الذي يمسح به اليد اليمنى باليسرى يجب أن يكون موزعاً بين ظاهر اليد وبين باطنها، ولا يمسح هنا ثم يرجع ويمسح هناك؛ لأنه سيصير كأنه استعمل المستعمل، ولم يبقِ للبطن مما كان يمسح به ظاهر اليد، وهكذا حتى يأتي إلى المرفق، ثم يبدأ مرة أخرى باليمنى على اليسرى. ونخلص من هذا كله: بأن من اقتصر على ضربة واحدة للوجه والكفين فلا نعيب عليه، ومن زاد وأخذ ضربتين واحدة للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين فلا نعيب عليه، وكلاهما فيه سنة، وكلاهما قال به أئمتنا رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب التيمم [3]

كتاب الطهارة - باب التيمم [3] من المسائل المتعلقة بالتيمم: جواز التيمم لمن لم يجد الماء ولو كانت المدة طويلة، ومنها: لو تيمم رجل وصلى، ثم وجد الماء، فإنه لا يعيد الصلاة، وإن وجد الماء أثناء الصلاة فإنه يقطعها ويتوضأ ويصلي، ومن تلك المسائل: جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من استعمال الماء، لمرض ونحوه، كأن يكون الماء شديد البرودة، ولم يستطع استعماله، ونحو ذلك من الاعذار.

شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)

شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) رواه البزار، وصححه ابن القطان، لكن صوّب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه] . بعد ذكر المؤلف بيان مشروعية التيمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً) ، وبيان نوعية ما يتيمم به في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) ، وبيان الكيفية وهي ضربة أو ضربتان إلى الكفين أو المرفقين، أتى هنا إلى التوقيت في التيمم، وهل التيمم مؤقت بوقت، أو أنه مطلق الزمان؟ فقد وجدنا توقيت المسح على الخفين بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فجاء المؤلف رحمه الله بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد) ، ولم: يقل التراب ولا التربة على عموم ما تقدم. (طهور المسلم) ، كلمة (طهور) جاءت في قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] ، وهي وصف للماء الذي يتطهر به، فالصعيد طهور المسلم، ولذلك قالوا: إن التيمم طهور كطهور الماء، ولفظ (المسلم) هنا للأغلبية، فإذا كانت أسرة أو عائلة أو جماعة ولم يجدوا الماء فالتيمم للمرأة وللرجل سواء. وأصل الحديث أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك أبو ذر يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟! قال: كنت أكون في الخلاء ومعي أهلي وتصيبنا الجنابة وليس عندي ماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) ، وهنا إلى أسلوب المبالغة، فهل سيعيش الإنسان في فلاة لا يجد الماء عشر سنين؟! وإذاً كيف تكون حالته وحياته؟! لابد أنه سيقيم في مكان لا ماء فيه عشر سنين ويتيمم للجنابة وللحدث، أو يكون الماء قليلاً لا يكفي إلا لطعامه وشرابه؛ لأنه من المتفق عليه أنه إذا كان الإنسان في الخلاء وليس معه من الماء ما يكفي إلا لشرابه، وطهي طعامه، ولدابته التي يركبها ليسقيها، ولم يزد على ذلك؛ وفّر الماء لشرابه، ولإنضاج طعامه، ولعجينه ولدابته وتيمم، ويعتبر فاقد الماء؛ لأنه ليس عنده ماء زائد عن حاجته، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته، وحاجة كل حيوان محترم معه، فله أن يوفر الماء للحيوان؛ لأنه سوف يموت إذا لم يشرب، ولنفسه من باب أولى في مصالحه: في الشراب، والقهوة، والطعام، والعجين، وإذا لم يزد عن ذلك شيء تيمم ووفر الماء للضروريات تلك. فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع (لم يجد الماء عشر سنين) هذا هو أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان أنه لن يجد الماء في تلك المدة، فإذا كان لأسبوع أو لشهر أو لشهرين فمن باب أولى أنه لا مانع في ذلك. إذاً: لا توقيت في استعمال التيمم ما دام أنه على ما وصف الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وكما أجمع العلماء: أن من كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء فإنه له أن يتيمم. إذاً: إن عدم الماء أو عدمت الاستطاعة على استعمال الماء وكان موجوداً؛ فإنه حينئذٍ يعمد إلى التيمم، وإلى متى؟ لا تحديد في ذلك ما دام مريضاً لا يستطيع استعمال الماء، وما دام على غير ماء لم يجده، فإنه يستعمل التيمم دون تحديد بزمن، لا يوم وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا شهر ولا شهران، ولا غير ذلك.

هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟

هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟ ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هذا الحديث من المشكلات. فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟ ومن هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ والإشكال في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة، والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن وجد الماء. إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة. ولكن يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار, إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت له إبقاءً على حياته، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فهي محرمة ولكن: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم. وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول العلماء: يمسه بشرته للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟ نقول: أما للمستقبل فلا يحتاج؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه عليه هنا. إذاً: قوله: (فليمسه بشرته) ، إنما هو للحدث المتقدم الذي تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء، فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي: من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله، فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من الماء. وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: الصعيد وضوء المسلم) ، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟ يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك) ، وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة فقط. وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا، وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على المزادتين) ، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم، ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا. والذي يهمنا في هذه القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟ لا؛ لأن الوقت قد خرج.

حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء

حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له, فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: (خرج رجلان) فكونه لم يسم الرجلين لا يضر في الحديث؛ لأن الرجلين ليسا موضع تشريع خاص بهما، ولكنه يحكي ما وقع منهما، وما بينه صلى الله عليه وسلم من فعلهما، وهذا من أهم أحاديث التيمم. هذان الرجلان خرجا في سفر وليس عندهما ماء، وأدركتهما الصلاة، فتيمما وصليا، وإلى هنا فعلا شيئاً عادياً, صليا بطهارة مشروعة وهو التيمم عند انعدام الماء، ثم مضيا في طريقهما فوجدا الماء الذي كان مفقوداً عند التيمم، والوقت باقٍ لم يخرج، وهنا اجتهد الرجلان، وكما يقول العلماء: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في غيبته لا في حضوره، أما في حال حضوره فلا اجتهاد لأحد، ولا يقدم أحد شيئاً بين يدي رسول الله. ولنفرض أنهما سافرا ودخل وقت العصر وليس عندهما ماء، فتيمما وصليا في أول الوقت، وفي أثناء المسير عند اصفرار الشمس وجدا الماء، فهم الآن في وقت العصر التي صلياها، فحينئذ اجتهد الرجلان، أما أحدهما فرأى أن الوقت باقٍ, وهو مطالب بالصلاة بطهارة مائية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فتوضأ وأعاد الصلاة بهذا الوضوء، ليوقع الصلاة بطهارة مائية كما أُمر, والآخر نظر إلى شيء آخر وقال: لقد صليت بطهارة مشروعة، تيممت كما أمرني الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وقد أديت الصلاة بوجهها المشروع وانتهيت من أدائها ومضت، فكوني أجد الماء بعد ذلك لست مطالباً بإعادة الصلاة؛ لأنني صليتها بطهارة مشروعة جائزة لي، إذاً أنا عملت عملاً صحيحاً شرعياً, أما أن أوجب على نفسي إعادة الصلاة بطهارة الماء فأنا لا أرى ذلك ولم أفعل. إذاً: اختلاف وجهات النظر فيما لا نص فيه أمر وارد, ولم يعب الذي توضأ وصلى على من لم يتوضأ ولم يصلِّ, ولم يقل له: أنت مقصر، وإنما قال: هذا اجتهادي أنا في نفسي, والثاني لم يقل له: أنت مبتدع أو مخالف، ولم يعب عليه؛ لأن كلاً منهما عمل باجتهاده الخاص، وليس عند أحدهما نص يوقف الآخر عنده, وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه رجلان فقال: من أين جئتما؟ قالا: من عند فلان, قال: ماذا تصنعان عنده؟ قالا: كنا نحتكم إليه في قضية كذا, قال: بم حكم لكما؟ قالا: حكم بكذا, قال: لو كنت أنا لحكمت بغير ما حكم به, فقالا: وما الذي يمنعك أن تحكم بيننا وأنت أمير المؤمنين بما تراه؟ فقال لهما: -وهذا محل الشاهد, وينبغي على طالب العلم الحرص كل الحرص على هذا المنهج؛ لأنه هو الذي يبقي المودة والأخوة، وصفاء النفس، وطهارة القلب بين طلبة العلم- قال: لو كنت أردكما إلى نص رسول الله أو كتاب الله لفعلت، ولكني سأردكم إلى رأيي، وليس الرأي بأولى من الرأي. مع أنه أمير المؤمنين، وهو خليفة راشد، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فلما لم يكن عنده نص من كتاب ولا سنة توقف، وقال: ولكني سأردكم إلى رأيي. وقد بين لنا القرآن الكريم في قضية داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] ، فداود عليه السلام حكم لأهل الحرث بالغنم عوضاً عن الحرث الذي أتلفته, وسليمان قال: أنا سأحكم بغير هذا، وعندي وجهة نظر أخرى، قال: تكون الغنم عاريةً عند أهل الحرث ينتفعون منها، وأصحاب الغنم يقومون على الحرث حتى يصلح على ما كان عليه من قبل، فمثلاً: إذا أكلت الغنم القمح في صغره، فهو يمكن أن ينبت ويطلع، فالشجر الصغير يمكن أن يورق وتطلع أغصانه، ويأتي بالثمار، فإذا ما استوى الحرث على ما كان عليه رد الحرث لأصحابه، وردت الغنم لأصحابها، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] ، ثم قال: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] . فكما قال الفقهاء: صوب الله حكم الاثنين؛ فحكم داود صحيح، وحكم سليمان صحيح، ولكن حكم سليمان أكثر فهماً وأجمع للمصلحتين، ونحن لو نظرنا في قضائنا اليوم: (على اليد ما أخذت، وعلى العين ضمان ما أتلفت) ، فداود حكم بهذه القاعدة، وسليمان عليه السلام رأى إلى ضمان مصلحة الطرفين. وهنا عمر رضي الله تعالى عنه الملهم المحدث يقول: لو كنت أردكما إلى نص من كتاب أو من سنة فعلت ونفذت؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولكن رأيي، وليس الرأي أولى من الرأي) ، ولهذا في نظام القضاء لو أن قضية عرضت على قاض، وهي مسألة اجتهادية لا نص فيها، وحكم فيها، فإن حكمه يمضي، ولا يحق لحاكم يأتي بعده -ولو كان أعلى منه رتبة- أن ينقض ذلك الحكم؛ لأنه سوف ينقضه لرأيه الخاص، وليس رأياً بأولى من رأي، أما إذا كان مخالفاً نصاً فينقض لمخالفة النص. فهذان رجلان مستويان في الدرجة، أدركتهما الصلاة ولا ماء عندهما، وهما يعلمان الحكم بأن الصعيد طهور المسلم، فتيمما وصليا، ثم طرأ عليهما ما جدد الفكر، واستوجب النظر، وهو أنهما وجدا الماء في الوقت، فحينئذٍ لو لم يكونا صليا بالتيمم فسوف يكون الواجب عليهما الوضوء والصلاة، لكنهما صليا وأديا ما عليهما، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، والثاني لم يعد، وإلى هنا عمل كل منهما مغاير للآخر، والمرجع في هذا إلى الله ورسوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، وهذا مما يبين منزلة صدر الإسلام وسلف الأمة، وأصحاب رسول الله الذين يتلقون العلم مبدئياً حياً طرياً من رسول الله مباشرة، فإذا جاءنا حكم عن صحابي عن رسول الله وجب أن نرفع به رأساً، ويجب أن نسترعيه الانتباه، ونعلم بأن هذا أحق ما يمكن أن يؤخذ فيه الأحكام. فأجابهما صلى الله عليه وسلم على ما كان منهما، وقال للذي لم يتوضاً والصلاة لم يعد: أصبت السنة، والسنة هي الطريقة، وقد تستعمل السنة في مقابل الفرض في ذلك الوقت، وهو أمر اصطلاحي، كما جاء في حق رمضان: (إن الله افترض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، وليس قيام الليل يعدل صيام النهار، فالصوم فرض: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، ولكن القيام من النوافل والسنن، فهنا نص صلى الله عليه وسلم على الفرق بين العملين، العمل الذي هو فرض وعين على كل مكلف، والعمل الذي هو سنة مندوب إليه، فقال للذي لم يعد واكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، والسنة: هي الطريقة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام أي: لكل معشر طريقة وإمام يقتدون به، وقوله: (سنت لهم آباؤهم) أي: رسمت لهم الطريقة والمنهج في حياتهم. وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، يدل على أن صلاته صحيحة؛ ولهذا أخذ العلماء أن من تيمم في أول الوقت لانعدام الماء، ثم وجده في الوقت، فإن صلاته صحيحة؛ لأن إصابة السنة معناها إصابة الصواب، فهو نص على أن الصلاة صحيحة مجزئة، وأنه أصاب السنة بعمله ذلك. وقال للآخر: (لك الأجر مرتين) . وذلك لأنه فعل الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالوضوء، وبعضهم يقول: (لك الأجر مرتين) أي: لاجتهادك، ولكن الأول كذلك اجتهد في اكتفائه بالتيمم وصلاته التي مضت، فالتحقيق كما يقوله الكثيرون: (لك الأجر مرتين) ، لأنه أعاد الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالطهارة المائية.

المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين

المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين وهنا يأتي نقاش العلماء النقاش الطريف: أيهما أفضل: الذي أصاب السنة أو الذي حصل على الأجر مرتين؟ نقول: الذي حصل على الأجر مرتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه قال للذي لم يعد: (وأجزأتك صلاتك) ، ولفظ الإجزاء هو أقل ما يمكن أن يحصل عليه، وليس بعد الإجزاء من نقص فيكون ذلك قد أجزأته صلاته، ولكن الذي أصاب الأجر مرتين أجزأته وزيادة.

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي وهذه مسألة يبحث الفقهاء فيها وهي: إدراك المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي، فيقولون بالتقسيم العقلي: تيمم وقبل أن يصلي وجد الماء، فهل يصلي بتيممه، أم أن الماء موجود وهو ما شرع في الصلاة فيتوضأ؟ نقول: يتوضأ، وهذا باتفاق العلماء، إلا قول لـ داود الظاهري. فإذا تيمم ووجد الماء قبل الشروع في الصلاة، فالجمهور على أنه يبطل التيمم بوجود الماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وقد وجده.

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة

مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة مسألة: تيمم وشرع في الصلاة، ثم وجد الماء أثناء صلاته، فهل يخرج من الصلاة ليتوضأ ويأتي بالصلاة بوضوئها أو يستمر في صلاته؟ يبطل التيمم بوجود الماء؛ لأن التيمم مشروط فيه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] وقد وجد فألغي التيمم. والشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ، فهو قد دخل في الصلاة بوجه شرعي معلوم، وأصبح مطالباً أن لا يبطل صلاته بالخروج منها. ولكن الجمهور يقولون: الطهارة المائية شرط أساسي، والتيمم ما جاء إلا نيابة عن الماء عند فقده، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة لم يبق للتيمم سبب. وفي بعض المذاهب يقولون: إذا نهق الحمار بطلت صلاة المتيمم، وما هو الذي أبطل الصلاة بنهيق الحمار؟ قالوا: كأن طلب الماء فلم يجده، فأرسل شخصاً بحمار ليأتي بالماء، فاستبطأه فتيمم، ثم دخل في الصلاة، فإذا هو بالحمار ينهق من ورائه، فعلم أن الماء قد حضر، فحينئذ تبطل صلاته بالتيمم لحضور الماء، وهذا من نواقض التيمم زيادة على نواقض الوضوء. إذاً: إن أدرك الماء وهو في أثناء الصلاة بطلت صلاته، وعليه أن يخرج من تلك الصلاة؛ لأنها لم تعد صلاة؛ لعدم استيفائها الطهارة المائية، وقد وجد الماء. وإن وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى، فهذه قضية هذا الحديث الموجود عندنا، وباتفاق الأئمة الأربعة أنه قد أجزأته صلاته؛ لأنه صلاها وأداها، وخرج من عهدتها، فبقاء الوقت مع وجود الماء أمر جديد يكون لما يستقبل من الصلوات الأخرى. وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت ثم وجد الماء، فلا إشكال أن الصلاة التي صلاها مضت لطريقها، وعليه أن يستعمل الماء لما يستقبل من الصلوات الآتية.

حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء

حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم] . هذه قضية من العقد في باب التيمم، يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم، لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فـ ابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم. ولكن إذا كانت الجراح مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة، والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟ تحمل برودة الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه، وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح وحي الطبيعة: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه، هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل: عيون المها بين الرصافة والجسر قتلنني من حيث أدري ولا أدري ففرق بين التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال: لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء، فلا أقوى عليه الآن. إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس بالتيمم. ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو؟ قال: بلى، قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة) . إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد. إذاً: من أجنب وخاف على نفسه الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون له حق التيمم. لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟ لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة - باب التيمم [4]

كتاب الطهارة - باب التيمم [4] من المسائل المتعلقة بالتيمم: أن الإنسان إذا كان واضعاً جبيرة على جرح أو كسر جاز له المسح عليها لخوف ضرر الماء، وإذا كان به جرح يخشى ضرره من استعمال الماء فيتيمم ويعصب على جرحه ويمسح عليه.

شرح حديث علي بن أبي طالب في المسح على الجبائر

شرح حديث علي بن أبي طالب في المسح على الجبائر [وعن علي رضي الله عنه قال: (انكسرت إحدى زندي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر) رواه ابن ماجة بسند واه جداً] . يذكر الفقهاء أن من أشكل مسائل الفقه على طلبة العلم مسألتين: المسألة الأولى: المبتدئة في الحيض التي لم تستقر حيضتها، ولذلك يقول الشوكاني: جاءوا بالمتحيرة فتحيروا فيها. والمتحيرة: هي المبتدئة في حيضها التي لم تستقر حيضتها، فتارة تحيض خمسة أيام، وتارة تحيض ثلاثة أيام، وتارة تحيض عشرة أيام، وتحيرت في مدة حيضتها، فماذا تفعل؟ المسألة الثانية: المسح على الجبيرة، ويبحث موضوع المسح على الجبيرة من عدة جهات، وفيها المكثر والمقل. يقول: علي رضي الله تعالى عنه: (انكسرت إحدى زندي) والزند: عظم، فاليد من المرفق إلى الرسغ فيها عظمان يسميان الزندان، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: انكسرت إحدى زندي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم (فأمرني أن أمسح على الجبائر) . ومعنى ذلك: أن علياً رضي الله تعالى عنه وضع جبيرة على الكسر، ومعالجة الكسر بالجبيرة أمر طبي معروف من قديم، وهذا من خصائص طب العرب أنهم يجبرون الكسر، وقد يكون هناك شخص متمرس في ذلك عملياً أحذق من طبيب متخرج في غرفة العمليات، وطالما جاء إنسان إلى المستشفيات وأعطي العلاج اللازم، وعملت له الجبيرة على أحسن ما يكون في الطراز الحديث، فيلتئم الكسر على غير مثال، فيأتي إلى شخص تعلم الطب العربي، فيكسر ذلك العظم مرة أخرى، ويعيده ويجبره، فيصبح على أحسن ما يكون.

وضع الجبيرة على الكسر لا يشترط له طهارة مسبقة

وضع الجبيرة على الكسر لا يشترط له طهارة مسبقة قال علي رضي الله عنه: (فأمرني -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- أن مسح على الجبيرة) ، فإذا كان في حدث أصغر فإنه يغسل أعضاء الوضوء ما عدا الموضع الذي عليه الجبيرة فإنه يمسحه مسحاً فقط، والمسح على الجبيرة يبحث فيه من الجهات الآتية: أولاً: هل يشترط أن يكون وضع الجبيرة وهو على طهارة من الحدث -كما في لبس الخفين، أم لا يشترط؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخفين: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ، فمسح على الخف، إلا أن الخف مؤقت بيوم وليلة أو ثلاثة أيام، أما الجبيرة فيمسح عليها مدة وجودها. فبعض العلماء يقول: إن كان وضع الجبيرة على طهارة هذا العضو من الحدث فإنه يمسح ولا إعادة عليه، وإن كان وضعها على العضو وهو محدث فهو مطالب بغسل العضو، ولكنه قد تعذر الغسل، والمسح إنما هو لاستباحة الصلاة، فيعيد الصلاة، ثم ينظر مرة أخرى إلى الجبيرة هل هي موضوعة للجرح أو للكسر حينما وضعها، وهل أخذت من السليم أكثر ما يمكن أن تمسك به أم لا؟ لنفرض مثلاً: أن طول الكسر (5سم) ، فوضع جبيرة تحتاج إلى زيادة (3سم) من طرف، وإلى (3سم) من الطرف الآخر لتثبت على محل الجرح، فأصبح طولها بمجموعها (11سم) للإمساك، لكن الذي وضع الجبيرة -على الكسر (5سم) - جعل طرفها من جهة يستغرق (10سم) في السليم، ومن الجهة الثانية يستغرق (10سم) من السليم، فزاد واستغرق من السليم (7سم) من كل طرف، فإذا مسح فيكون قد مسح زيادة على محل الكسر. وهناك من يقول: إن زاد في الجبيرة على قدر ما يمسكها على الصحيح فهو متعدٍ، ويكون قد مسح على ما لا يحق له المسح عليه لسلامته، فكان عليه أن يغسل الزائد عن قدر ما يمسك الجبيرة، فإذا أزيلت الجبيرة فعليه أن يعيد الصلاة، وتكلموا في ذلك كلاماً كثيراً. ولكن إذا نظرنا إلى عموم قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فإذا مكثت الجبيرة -كما يحصل في بعض الأحيان- شهراً أو شهرين فإن أمره بأعادة الصلوات لهذه المدة فيه مشقة، وأيضاً عندما يريد أن يضع الجبيرة على الكسر هل يقال له: اذهب فتوضأ ثم ائت نضع الجبيرة؟ مع أنه في حالة يحتاج فيها إلى المبادرة بالعلاج. إذاً: الرسول صلى الله عليه سلم لم يستفسر من علي عن حالة الجبيرة على كسر زنده، لم يقل له: هل كنت متوضئاً أم لا؟ ولم يقل له: هل استغرقت من السليم أكثر من الحاجة أم لا؟ بل إنه رأى جبيرة وضعت على كسر فأمره أن يمسح عليها.

الجبيرة التي يمسح عليها

الجبيرة التي يمسح عليها ما نوع الجبيرة التي يمسح عليها؟ هل تعتبر الجبيرة مجرد رباط شاش طبقة واحدة على الجرح، أم أن الجبيرة تكون سميكة كما يجعل الآن أجزاء من الخشب أو من الجريد، ومعها أنواع من الجبس كما هو معروف في المستشفيات، أو تلف بخرق من الصوف، أو يجعل معها مثلاً من البيض والنورة ومن المواد الأخرى كما في الطب العربي؟ فإذا كانت سميكة بالجبس أو بالخشب ولفافات الصوف وتلك المتانة فهي التي يمسح عليها، أما إذا كانت خفيفة والجرح والعضو بين، فهذه قالوا: لا يمسح عليها؛ لأنها لا تحتمل المسح، وإذا كان الجرح لا يقوى أن يباشر بالماء فهل يمسح؟ قالوا: إذا كان الجرح خفيفاً كأن يكون في اليد، ويمكن أن يمر يده على الجرح بدون تألم فليفعل، وإذا احتاج إلى الجبيرة بالوضع الذي تقتضيه حالة الجرح فيمسح على الجبيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث جابر في الرجل الذي شج فاغتسل فمات

شرح حديث جابر في الرجل الذي شج فاغتسل فمات [وعن جابر رضي الله عنه -في الرجل الذي شج فاغتسل فمات- قال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) ، رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته] .

خطر الفتوى بغير علم

خطر الفتوى بغير علم قدم لنا المؤلف رحمه الله كلام ابن عباس: فيمن تكون به الجراحة في سبيل الله وخشي على نفسه الهلاك فماذا يفعل؟ ثم جاء بهذا الحديث الذي فيه أن الرجل هلك بالفعل، رجل شج في سبيل الله، فأجنب فسأل من بحضرته: ماذا أفعل هل أتيمم أم أغتسل؟ فقالوا: لابد من الغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فسمع الرجل الكلام واغتسل مع شجة الرأس، فتأثر الدماغ، فمات الرجل بسبب وصول الماء إلى الشجة في الدماغ، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذ لم يعلموا، إنما دواء العي السؤال!) ، وهذا هو الخطأ والخطر في تولي الفتيا بغير علم، لما سألهم هذا المسكين فتقدموا وتبرعوا بالفتوى، وقالوا: عليك أن تغتسل، وكان ذلك خطأ منهم، فبخطئهم قتلوه، ومن هنا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يتدافعون الفتوى كل المدافعة، ويخشون منها كل الخشية، ويقولون: (أجرأ الناس على الفتوى أجرأهم على النار) . فهؤلاء بكلمة خرجت منهم قتلوا الرجل، واستحقوا الدعاء عليهم من رسول الله: (قتلوه قتلهم الله!) ، أي: مجازاةً على إفتائهم بغير علم، (هلّا سألوا إذا لم يعلموا) ، فالواجب على من لم يكن عنده علم، وسُئل عن شيء، أن لا يبادر إلى الفتوى فيه، وعليه أن يسأل من عنده علم في ذلك، ونحن نعلم قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما خرج إلى الشام ووصل إلى بلدة بين المدينة والشام، وأخبره الناس بأن الطاعون بالشام، فنظر وتحير هل يمضي إلى الشام وفيها الطاعون أم يرجع حتى يرتفع الطاعون عن الشام؟ ثم استشار الناس، فقال: يا ابن عباس! ادع لي شيوخ المهاجرين، فدعاهم، فسألهم فاختلفوا عليه، فقوم قالوا: نرى أن ترجع؛ لأن معك أصحاب رسول الله فلا تقدمهم على الطاعون فيهلكهم. وقوم قالوا: إنك خرجت لأمر الله فتوكل على الله وامض، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، وقال لـ ابن عباس: ادع مشيخة الأنصار، فجاءوا فاختلفوا عليه أيضاً، فقال: قوموا عني، ثم قال: ادع لي مشيخة قريش، فدعاهم إليه فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى معك وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون، ولما اتفقوا مع عمر في ذلك ومعه بعض الناس الذين قالوا: لا تدخل عليهم، ترجح عنده ذلك، ثم أعلن وقال: إني مصبح على ظهر، أي: راجع، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً، وقال: يا أمير المؤمنين! عندي علم في ذلك، قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فحمد الله سبحانه وتعالى على إصابته للوجهة السليمة، بأنه أراد العودة، فأكد ذلك عنده، فجاء راجعاً. الشاهد: أنه لما لم يكن عند عمر نص في الموضوع استشار وسأل، ولما اختلفوا عليه، وجاءت القرائن، وترجح عنده العودة، قرر أن يعود، فجاءه العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك، كما جاء عن ابن مسعود وغيره في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها، وقضى فيها بالصداق والعدة والميراث، ثم قام قائم وقال: لقد قضى بذلك رسول الله، فحمد الله على موافقته لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا رجل أصيب ولم يعلم الحكم، وسأل الحاضرين، فكلهم اجتهدوا وأخطئوا، وهذا لا يغتفر في الاجتهاد، فلا يقال لكل مجتهد: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد في هذا الموضوع، وإنما يكون الاجتهاد من أهل الخبرة، والذين لديهم خلفيات في النصوص، ويستطيعون أن يردوا الفرع إلى الأصل، وأن يقيسوه على غيره، أو يدخلوه ضمن قاعدة من قواعد الفقه، أما أن يأتي شخص بدأ يطلب العلم بالأمس، واليوم ينصب نفسه مفتياً ومجتهداً، فهذا يؤدب ولا يحق له ذلك، وإذا أخطأ فإنه يحاسب على خطئه، كما لو جاء إنسان ودخل كلية الطب وأخذ قلماً، ثم بعد ذلك أخذ حقيبة وأخذ أدوات وقام يعمل عمليات جراحية، فإذا أتلف شيئاً فإنه يغرمه؛ لأنه لم يتأهل بعد لأن يكون جراحاً يجري العمليات الجراحية. وهكذا الفتوى في الدين إذا لم يكن مؤهلاً للفتوى وأفتى بخطأ فلا يقال: له أجر في اجتهاده؛ لأنه لم يتأهل.

ماذا يفعل من أصيب بجرح وأراد أن يغتسل أو يتوضأ؟

ماذا يفعل من أصيب بجرح وأراد أن يغتسل أو يتوضأ؟ لقد دعا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس، ثم بين فقال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة) أي: يتيمم للموضع الذي لا يستطيع أن يغسله، وليست عليه جبيرة يمسح عليها، إنما يضع خرقة للجرح لمداواته ودفع الماء عنه، ولهذا قالوا: إذا كان في عضو من أعضاء الوضوء جرح ليست عليه جبيرة، ولا يستطيع أن يسمح عليه، فيغسل السليم ويتيمم للجرح ويصلي بذلك، فيأتي بما يستطيع له. فهذا الذي شج يتيمم لموضع الشجة التي لا جبيرة عليها تمسح، ولا يمكن إمرار الماء عليها، ثم يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، إن كانت الخرقة سميكة صالحة للمسح، (ثم يغسل سائر جسده) أي: الموضع السليم الذي يقبل الغسل وإمرار الماء عليه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث ابن عباس في عدد الصلوات التي تصلى بالتيمم الواحد

شرح حديث ابن عباس في عدد الصلوات التي تصلى بالتيمم الواحد [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف جداً. ] في نهاية باب التيمم يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: (من السنة) ، وإذا قال الصحابي: من السنة فإنه يصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما إذا كان الموضع ليس موضع اجتهاد، ولا تقبل فيه آراء الرجال؛ لأن كون الصلاة تصح أو لا تصح، وصحة الصلاة وعدمها لا يحكم به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (من السنة) : أي: المعروفة عندنا، والتي عليها العمل عندنا، أن المتيمم لا يصلي بتيممه إلا صلاة واحدة، ويتيمم للصلاة الأخرى التي تأتي.

خلاف العلماء في مسألة كم يصلى بالتيمم الواحد؟

خلاف العلماء في مسألة كم يصلى بالتيمم الواحد؟ وهذه المسألة تباعد الخلاف فيها، حتى قال ابن عبد البر رحمه الله: لقد جمعت فيها كتاباً، أي: جمع الآراء والأقوال، واستدلال كل فريق لما ذهب إليه. وغالب ما يبنى عليه الخلاف في هذه المسألة هو ما تقدم بحثه: هل التيمم مبيح للصلاة أو رافع للحدث؟ فمن اعتبر التيمم رافعاً أعطاه حكم الوضوء، ومن اعتبره مبيحاً قصره دون الوضوء، ومجمل الأقوال في ذلك هي: عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا تيمم صلى ما شاء من الصلوات المفروضة ما لم يحدث، فهو عنده كالمتوضئ تماماً. وأبو حنيفة رحمه الله، مبناه في ذلك على أن التيمم حكمه حكم الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم) ، فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصعيد وضوءاً، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد، ومن هنا قال أبو حنيفة رحمه الله: يجمع بالتيمم الواحد عدة فروض كما يجمعها بالوضوء، ولا يبطل الوضوء إلا الحدث، وهو الذي يبطل التيمم من باب أولى، وبالتالي له أن يصلي بالتيمم الفرض والفرضين والنوافل التابعة لها، ويفعل بالتيمم كل ما يفعله بالوضوء، ولا يتعين بنية، فلو تيمم للمغرب ودخل المسجد الحرام وصلى المغرب وقام وطاف بذلك التيمم، وصلى ركعتي الطواف، وتنفل بين المغرب والعشاء ما شاء، ثم صلى العشاء بذلك التيمم؛ صح، فهذا قول أبي حنيفة. ويقول الإمام مالك رحمه الله: إذا تيمم للفريضة فلا يصلي نافلتها قبلها بهذا التيمم، ولو تيمم لصلاة الصبح فصلى ركعتي الفجر قبل الصبح بذلك التيمم فعليه أن يتيمم للصبح مرة أخرى، بخلاف النافلة بعد الفريضة، فإذا تيمم للظهر فله أن يصلي سنة الظهر التي بعدها. والشافعي رحمه الله يقول: يصلي الفريضة وراتبتها قبلها أو بعدها، فلو كان سيجمع بين فريضتين في سفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فتيمم للظهر وأقام الصلاة للعصر، فيتيمم للعصر في مكانه، وإن كان في مكان واحد وفي وقت واحد، ولكن لفريضتين. والإمام أحمد كذلك يقول: يصلي الفريضة ونافلتها قبلها أو بعدها، وعند أحمد أيضاً كما يذكر صاحب المغني: إذا تيمم للفريضة صلى النافلة وصلى على الجنازة بذلك التيمم؛ لأن نيته في التيمم للفريضة، وهي أقوى من النافلة، والنافلة أقوى من الصلاة على الجنازة؛ لأنه كما قال ابن عمر: (إنما هي دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود) . وبهذا نرجع مرة أخرى إلى أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكونه بسند ضعيف جداً أُخذ العمل به على ما قدمنا؛ لعدم معارضته لما هو أصح منه أو أقوى. نأتي إلى مناقشة من يقول: التيمم لا يصلى به إلا فريضة واحدة حتى في الجمع في السفر، وقالوا: الأصل في ذلك أنه عندما تيمم لصلاة الظهر مثلاً، لم يتيمم إلا بعد أن بحث عن الماء فلم يجده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أولاً قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فأمر بالوضوء عند القيام لكل صلاة، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] إذاً: عدم وجود الماء يكون بعد البحث والطلب، فهو قد بحث عن الماء وطلبه فلم يجده، فجاز له أن يتيمم؛ لأن التيمم مشروط بعدم وجود الماء، فإذا تيمم للظهر وصلاها، ثم جاء وقت العصر، فعليه أن يعيد الكرة بأن يطلب الماء، فإن وجده استعمله، فإن لم يجده فعنده النص: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] . إذاً: عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، وله أن يتيمم إذا لم يجد الماء بعد الطلب. وقالوا: اتفق العلماء على أنه لا يحق لمن يصلي بالتيمم أن يتيم قبل دخول الوقت؛ لأن التيمم ضرورة تبيح الصلاة، والصلاة لم يأت وقتها بعد. وقالوا كذلك: لا يحق له أن يصلي الصلاة الثانية بالتيمم الأول؛ لأن تيممه قبل دخول وقت الثانية، فيكون كالذي تيمم للحاضرة قبل وقتها، وهذا لا يصح. ثم قالوا أيضاً: كان الأصل في الطهارة مبدئياً (إذا قمتم فاغسلوا) و (إذا قمتم) تقتضي التكرار، أي: كلما قمتم فاغسلوا، وهي الطهارة الأساسية المائية، فقد كان الأمر في البداية إفراد كل صلاة بوضوء، ثم خفف ذلك وجازت عدة صلوات بوضوء واحد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عدة صلوات بوضوء واحد، كما في حديث عمر في فتح مكة. ولكن لم يأت في التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بتيمم واحد، فيبقى الوضوء في طريقه ما لم يحدث: (إذا توضأ صلى ما شاء ما لم يحدث) ، ويبقى التيمم في طريقه عند عدم وجود الماء، وعدم الوجود يكون بعد الطلب، والطلب يكون بعد دخول الوقت.

مباحث متعلقة بالنية في التيمم

مباحث متعلقة بالنية في التيمم مسألة: لو أن إنساناً بعد ما صلى الفريضة في مكانه تذكر صلاة فائتة عليه، نسيها بالأمس وأراد أن يقضيها الآن، فهل يصليها بتيمم الفريضة التي صلاها الآن أم يتيمم لها؟ قالوا: يتيمم لها؛ لأنه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، وهناك تفريعات على هذه المسائل في هذا الأثر وغيره، فهم مجمعون على أن النية في التيمم ركن، وكذلك في الوضوء، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: النية ليست شرطاً في الوضوء؛ لأن الوضوء نظافة، أمر معقول المعنى، فكيفما غسلت أعضاء وضوئك تم الوضوء، والجمهور يقولون: الوضوء عبادة، والعبادة لابد فيها من النية: (إنما الأعمال بالنيات) ؛ لأنك قد تغسل أطرافك، وقد تغتسل ولم تنو طهارة، وقد تتبرد من الحر. إذاً: يمكن غسل الأعضاء والجسم بدون إرادة الطهارة، والنية هي التي تميز بين الطهارة والعادة، والنافلة والفريضة، ففي صلاة الصبح السنة ركعتان، والفريضة ركعتان، وما الذي يفرق بينهما؟ النية هي التي تعين النافلة من الفريضة، وإن اختلفت الصورة، ففي الفريضة يجهر بالقراءة، وفي النافلة يسر بها، لكن عدد الركعات سواء، فالنية هي التي فرقت. إنسان عليه قضاء من رمضان، وجاء يوم الإثنين، وأراد أن يصوم، فصام يوم الإثنين على أنه نافلة ونسي القضاء الذي كان عليه، فهل يجزئ صومه بنية يوم الإثنين عن القضاء الذي عليه سابقاً؟ لا يجزئ. إذاً: إذا اتحدت صورة العمل بين الفرض والنافلة، وبين العبادة والعادة، فالذي يفرق في ذلك هو النية، فالأئمة الثلاثة قالوا: النية فرض في الوضوء والغسل والعبادات، والإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: إنما هي أعمال معقودة المعنى بالنظافة، فإذا حصلت ولو لم ينو أجزأت. لكن التيمم حتى عند الإمام أبي حنيفة تتعين فيه النية؛ لأنه ليس نظافة، وليس تبرداً كما في الوضوء، فقال: تتعين النية في التيمم، وتكون النية للصلاة، والنية للطواف، والنية لقراءة القرآن، والنية لحمل المصحف، والنية للمكث في المسجد، كل هذه من الأمور التي يشرع لها الطهارة، فهناك من يعتبر قاعدة: (إذا نوى الأعلى جاز له به الأدنى، وإذا نوى الأدنى لا يصح له به الأعلى) ، فإذا بحث عن الماء فلم يجد ماء، ويريد أن يقرأ في المصحف، فتيمم لمس المصحف، فهل يطوف بهذا التيمم؟ وأيهما أقوى في مشروعية الطهارة الطواف أم مس المصحف؟ لاشك أن الطواف أقوى؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، والطهارة لصلاة النافلة أقوى من الطهارة لمس المصحف؛ لأن الصلاة منصوص عليها، وإذا أراد أن يصلي الفريضة في الوقت، قالوا: إن نوى الظهر مثلاً جاز له ما كان دون الفريضة بنوافلها، كمس المصحف، والطواف بالبيت، والمكث في المسجد، والصلاة على الجنائز؛ لأنها في مرتبة أدنى من مرتبة الفريضة في الطهارة، أما إذا تيمم لما هو أقل كما ذكر مالك، كأن تيمم وصلى ركعتي الفجر، فركعتا الفجر أقل من الفريضة، فلا يصلي بهذا التيمم الفريضة، وعليه أن يتيمم للفريضة؛ لأنها أقوى من النافلة، وإذا تيمم للطواف فلا يصلي به الفريضة؛ لأن الفريضة أقوى من الطواف وهكذا. إذاً: لابد من النية في التيمم، وهل تكون النية برفع الحدث أو باستباحة الصلاة؟ من اعتبره وضوءاً فيكون عنده بنية رفع الحدث، ومن لم يعتبره وضوءاً فينوي به استباحة الصلاة، ولذا يقول صاحب المغني: من تيمم بنية رفع الحدث فإن التيمم باطل؛ لأنه لا يرفع الحدث؛ فـ أحمد عنده التيمم لا يرفع الحدث. إذاً: ينوي في التيمم استباحة ما يتيمم من أجله، كأن يستبيح به الطواف، أو مس المصحف، أو المكث في المسجد، أو الصلاة على جنازة، هذه كما قيل رخصة يستبيح بها هذا العمل الممتنع عنها بدون طهارة، إذاً لا ينوي بتيممه رفع الحدث؛ لأن الحدث باقٍ. ووجدنا الإمام أبا حنيفة رحمه الله يعتبر التيمم والوضوء سواء، يفعل بهذا ما يفعل بذاك، ولا ينتقض التيمم إلا بنواقض الوضوء أو وجود الماء. ووجدنا مالكاً رحمه الله يقول: إنما التيمم مبيح لفريضة وقتها، ونافلتها التي بعدها، أما التي قبلها فلا. ووجدنا الشافعي رحمه الله يزيد على مالك: النافلة التي قبلها. وبالله التوفيق، والله أعلم.

كتاب الطهارة - باب الحيض [1]

كتاب الطهارة - باب الحيض [1] كتب الله الحيض على بنات آدم، وفي الحيض أحكام كثيرة، ومسائل عديدة، والمرأة قد تحتار فيما خرج منها: هل هو دم حيض أو استحاضة؟! وقد جاء في السنة ما يزيل هذا الإشكال، وما يرفع هذه الحيرة، وهذا من كمال الشريعة.

شرح حديث: (إن دم الحيض دم أسود يعرف)

شرح حديث: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، واستنكره أبو حاتم] . الحيض فيه مشاكل عديدة، وتفريعات لا نهاية لها، ويقولون: ليس هناك تفريعات أكثر من مسائل المسح على الجبيرة والحيض. والحيض قد يتبعه استحاضة، وليست هناك نصوص قاطعة فيما يتعلق بأمر حيض النساء، والحيض من شئون النساء كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) ، ونحن ندرس باب الحيض؛ لكي نكون مرجعاً لنسائنا، فكل واحد منا عنده زوجة أو أم أو بنت أو أخت، وهن يحتجن إلى معرفة أحكام الحيض، وأولى من يبين لهن ذلك هو وليهن من ابن أو أخ أو أب أو زوج. والمؤلف رحمه الله تعالى اختصر هذا الباب، وأتى بأربعة أحاديث أصول تجمع باب الحيض والاستحاضة.

معنى الحيض

معنى الحيض الحيض في أصل اللغة: السيلان، تقول العرب: حاض الوادي، أي: سال، وبعضهم يقول: الحيض هو: التجمع، ومن فقه اللغة أنك إذا وجدت مادتين متحدتين في أكثر الحروف واختلفتا في حرف واحد فاعلم أن بين المادتين صلة، وإذا نظرنا إلى كلمتي: حيض وحوض، فالفرق بينهما: الياء والواو، والحوض لاجتماع الماء، والحيض دم يتجمع في الرحم، ولا تناقض بين أصل الاشتقاق؛ لأن الدم الذي يتجمع في الرحم سيسيل ويخرج إلى الخارج. وهناك معنى آخر للحيض، تقول العرب: حاضت البيضة، إذا فسدت، وصارت لا تصلح لإنتاج فروخ، ولا للأكل؛ لأنه امتزج بياضها بصفارها، فتتعفن إذا مكثت طويلاً، والحيض يجمع هذه المعاني الثلاثة، يقول الأطباء: إن للرحم دورتين: دورة شهرية، ودورة سنوية، أما الدورة الشهرية فهي دورة الحيض في كل شهر، وليس المراد بالشهر: الشهر القمري أو الشمسي، ولكن شهر الدورة هو: ما بين أول الحيضة الحاضرة وأول الحيضة المقبلة، وغالباً يكون ثمانية وعشرين يوماً، فهذه هي الدورة الشهرية، وهذا هو شهر المرأة في حيضتها.

سبب الحيض

سبب الحيض وسبب الحيض أن المرأة تفرز البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي، فتخرج من المبيض إلى طريق البوق أو إلى فم الرحم، فتنتظر المني من الرجل ليلقحها، فإذا تلقحت علقت بجدار الرحم، وهي العلقة عند الأطباء، ثم بعدما تمضي عليها الأربعينات المعروفة تنفصل عن جدار الرحم بخيوط دموية رفيعة، وتكثر بعد ذلك وتصير حبل السرة الذي يغذي الجنين داخل الرحم، وتأخذ دورتها السنوية في فترة الحمل، لكن إذا لم تلقح البويضة، أو جاءها مني لا يصلح للتلقيح، ومضت مدة التلقيح؛ فإن الرحم يلفظها، وقد كان الرحم مهيئاً ينتظر الحمل المقبل، ولمَّا لم يأت الحمل نكث ما بداخله، فيخرج هذا الدم ومعه مواد أخرى من الرحم؛ لتنظيفه واستقبال بويضة جديدة. إذاً: الدورة الشهرية عند المرأة هي: الحيض المعروف لغة وشرعاً، وهو نتيجة لدورة طبيعية في الرحم، فإن أتى الحمل توقف الحيض، وإن لم يأت الحمل خرج دم الحيض، إلا إذا كانت هناك موانع أخرى كحالة الرضاع، وحالة المرض، وغير ذلك. وتكلم الفقهاء عن أقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر وأكثره، فما كان زيادة عن أكثر مدة الحيض فهو استحاضة، وما كان أقل من مدة الطهر بين الحيضتين فهو استحاضة، وهذا سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله في نهاية هذا الباب. وهذه النصوص الأربعة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب تشتمل على حالات الاستحاضة، والاستحاضة إما أن تكون مؤقتة أو تكون دائمة، ومعنى مؤقتة: أن يزيد دم الاستحاضة عن مدة الحيض، فإذا زاد عنها اعتبر الزائد استحاضة، والدائمة أن ترى الدم دائماً، ولا ترى طهراً، ولا ينقطع عنها الدم.

الاستحاضة

الاستحاضة لقد بدأ المؤلف رحمه الله بأحاديث الاستحاضة ليبين: ماذا تفعل المستحاضة في صلاتها وصيامها عند وجود الاستحاضة؟ عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض. وهناك عدة نسوة كن يستحضن، مثل بنات جحش الثلاث، وهذه كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) .

رجوع المستحاضة إلى التمييز

رجوع المستحاضة إلى التمييز المستحاضة عند الفقهاء إما أن تكون ذات عادة شهرية سابقة، فهي تعرف مدة حيضتها، فيطبق عليها الدم فلا تعرف حيضاً من استحاضة، وإما أن تكون مبتدئة بالحيض، وتأتي حيضتها طويلة، ولا تعرف مدة حيضتها، ولا ما زاد عليها من استحاضة، فهنا ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللون، فقال: (إن دم الحيض دم أسود يُعرَف) ، وفي رواية: (يعرُف) فيعرف من المعرفة، ويعرُف من العرف وهو: الرائحة، فهو يُعرَف تعرفه النسوة بسواده، ودم الاستحاضة ليس أسوداً، بل هو نزيف كما في الحديث: (إن ذلك عرق) ، وقال: (إنما هي ركضة شيطان) ، فالاستحاضة نزيف دم طبيعي يخرج من العرق كالدم الذي يخرج من جرح في اليد أو غيرها، أما دم الحيضة فليس دماً خالصاً، بل فيه من فضلات الرحم، وفيه من المواد الأخرى التي يفرزها جدار الرحم مما كان مبطناً فيه، فيجتمع مع الدم سوائل أخرى؛ ولهذا فإن دم الحيض لا يتخثر، أي: لا يتجمد، بخلاف الدم الذي يخرج من العرق فإنه لصفائه ولخلوصه من السوائل الأخرى؛ إذا مكث قليلاً تجمد مثل الدم المسفوح من الذبيحة فإنه بعد فترة يتجلط ويتجمد. معنى الحديث: أنه ما دام قد التبس عليك أمر الحيضة من الاستحاضة؛ فاعلمي أن دم الحيض متميز بلونه ورائحته، فدم الحيض رائحته كريهة منتنة؛ لما يحمله من المواد المخاطية من الرحم، أما دم الاستحاضة فليست له رائحة كريهة؛ لأنه دم طبيعي يخرج من العرق كدم الفصد والجرح ونحوه. فأرشدها أن تنظر إلى الدم الذي يخرج منها، فإذا كان الدم الخارج منها أسوداً له رائحة فهو دم حيض، وسيستمر معها خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فتعتبر الأيام التي يكون فيها الدم أسوداً منتناً أيام حيض، وما بعد ذلك تعتبرها استحاضة، فتتطهر بعد مضي حالة الدم المعروف، وتغتسل ثم تصلي وتصوم مع وجود الدم الآخر الذي ليس أسوداً، وليست له رائحة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان ذلك فأمسكي) . أي: فإذا كان ذلك الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة؛ لأنك في حالة حيض، والمعروف عند أطباء أمراض النساء أن متوسط عادة النساء خمسة أيام، وأن من تحيض أقل من يومين أو تزيد عليها الحيضة عن ثمانية أيام فلتراجع الطبيب، فعند الأطباء أن الحيضة لا تقل عن يومين ولا تزيد عن ثمانية أيام، ولكن أقل مدة الحيض يوم وليلة عند الجمهور، وثلاثة أيام عند أبي حنيفة رحمه الله، ولحظة عند مالك فيما يتعلق بالصلاة والصيام، وثلاثة أيام فيما يتعلق بعدة الطلاق ونحوها. وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا ذهبت أيامها -أي: أيام الدم الأسود- فاغتسلي) أي: اعتبري نفسك خرجت من الحيضة، ودخلت في الاستحاضة، فاغتسلي للطهر من الحيض.

كيف تتوضأ المستحاضة

كيف تتوضأ المستحاضة وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) . أي: فإذا كان الآخر يعني: غير الأسود، وهو دم الاستحاضة، فليس هناك إلا قسمان فقط: أسود وآخر لونه أحمر قاني، فهنا قال: (توضئي وصلي) ، وهل تتوضأ وتصلي فقط أم تغتسل عند نهاية الدم الأسود من الحيض؟ تغتسل كما بين الله سبحانه في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] ، فطهر الحائض هو: انقطاع الدم عنها، وتطهرها هو اغتسالها، فالمستحاضة تعرف طهرها بذهاب الدم الأسود، وحينئذٍ تعتبر نفسها قد طهرت من الحيضة، فتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة بعد ذلك.

جلوس المستحاضة في مركن

جلوس المستحاضة في مركن قال رحمه الله: [وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود: (ولتجلس في مركن) ] . هذه رواية أبي داود عن أسماء رضي الله عنها، فإنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحيض حيضة كبيرة، فقال: (فلتجس في مركن) ، والمركن هو: حوض كبير أو إناء كبير مثل البانيو الآن أو الأحواض النايلون، فتملأه بماء وتجلس فيه، فإذا رأت الصفرة على وجه الماء فهذا علامة على أن تلك الصفرة من دم الاستحاضة، وليست من دم الحيض؛ لأن دم الحيض لا صفرة فيه، فهو أسود، فإذا رأت الصفرة فهي مستحاضة.

غسل المستحاضة غسلا واحدا عند انقطاع حيضتها

غسل المستحاضة غسلاً واحداً عند انقطاع حيضتها وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً) . بين صلى الله عليه وسلم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مع الاغتسال عن الحيضة في نهاية مدتها، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل غسلاً واحداً -كما في رواية عائشة - في نهاية الحيضة عند انقطاع اللون الأسود، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولو لم يخرج من السبيلين شيء، لا ريح ولا بول، فلا موجب للوضوء غير دم الاستحاضة، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تتوضأ لكل صلاة، وهل هذا الوضوء يقطع الدم؟ لا، لكن هذا الوضوء للضرورة؛ لأن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فهي تتوضأ، وبعد أن تتوضأ يخرج الدم، وقد أمرها صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- أن تستثفر وتضع الكرسف، أي: القطن، حتى لا ينزل الدم على ثيابها، وعلى جسمها، وعلى الأرض التي تصلي عليها، فعندما تستثفر سيخرج الدم، وسينتهي إلى ما تجعله من قطن أو قماش، ولا يسقط على الأرض، فلما كان الدم سيخرج، فالأصل عدم بقاء الطهارة مع خروج الدم كخروج البول والريح، ولكن تتوضأ للضرورة، فما دامت الطهارة ضرورية فلا ينبغي أن تتوضأ قبل دخول الوقت، وإذا توضأت فتصلي الصلاة التي توضأت لها، وتصلي كذلك النوافل، وتفعل ما يفعله غير الحائض؛ لأنها طهرت بانقطاع الدم الأسود، وبعد الغسل الأول تتوضأ لكل صلاة، ولو لم ينتقض الوضوء بناقض آخر. قال عليه الصلاة والسلام: (ولتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر، غسلاً واحداً) . إذا رأت الصفرة أي: انتهت الحيضة وجاءت الاستحاضة، وعلامتها: رؤية صفرة فوق الماء الذي في المركن الذي جلست فيه، وهذا نوع من العلاج يساعد على عدم تركز الدم في المهبل أو في محله، ويساعد على إخراجه إلى الخارج. قال عليه الصلاة والسلام: (فلتغتسل للظهر والعصر جميعاً، وتغتسل للمغرب والعشاء جميعاً، ولتغتسل للصبح غسلاً آخر) ، بينما في حديث عائشة ذكر بعد اغتسالها من الحيضة أنها تتوضأ لكل صلاة، وفي حديث أسماء أنها تجمع بين كل صلاتين بغسل، وهل تقدم المتأخرة مع المتقدمة أم تأخر المتقدمة مع المتأخرة؟ أي: هل تجمع جمع تقديم أم جمع تأخير؟ لم يبين لنا في هذا الحديث كيف تجمع بين الصلاتين بهذا الغسل، فهل تغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء؛ في وقت إحداهما على اختيارها، كالمسافر إن شاء جمع جمع تأخير، وإن شاء جمع جمع تقديم؟ لا، فسيأتي لنا النص بأن هذا الجمع جمع صوري، بأن تؤخر الظهر إلى آخر وقتها، فتصلي الظهر في آخر الوقت، فيدخل وقت العصر فتصليه في أول الوقت، فتكون اغتسلت للصلاتين، وصلت كل صلاة في وقتها، إلا أن الصلاة الأولى كانت في آخر وقتها، والصلاة الثانية في أول وقتها، فتكون جمعت بين الصلاتين في الصورة، ولكن في الحقيقة فإن كل صلاة وقعت في وقتها. إذاً: تغتسل للظهر والعصر معاً، وتغتسل للمغرب والعشاء معاً، وتغتسل للصبح، ولم يبين هنا كيفية اغتسالها للصلاتين، وسيأتي النص في بيان ذلك. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتتوضأ فيما بين ذلك) . أي: تتوضأ فيما بين ذلك لتلاوة القرآن، وللطواف، ولصلاة نوافل، ولما يحتاجه العمل الديني من طهارة.

شرح حديث: (إنما هي ركضة من الشيطان)

شرح حديث: (إنما هي ركضة من الشيطان) قال رحمه الله: [وعن حمنة بنت جحش قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه، فقال: إنما هي ركضة من الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلي) . حمنة بنت جحش ثالث ثلاث من بنات جحش كن يستحضن، ويقول بعض أطباء أمراض النساء: إن الحيض والاستحاضة لهما تعلق كبير بالوراثة، في مدتها وغزارة دمها، فقالت حمنة: كنت أستحاض حيضة كثيرة، وقالت: إنما أثج ثجاً، فقال: (افعلي كذا وصلي ولو قطر الدم على الحصير) ، كما في رواية، فهي كانت تستحاض استحاضة كبيرة شديدة فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (إنما هي ركضة من الشيطان) ، أي: هذه الحيضة الطويلة الكثيرة الزائدة إنما هي ركضة من الشيطان، والفقهاء يقولون: هي ركضة على الحقيقة، فالشيطان ركضها في رحمها حتى فجر العروق، فخرج الدم من الرحم؛ كي يشكل عليها أمر طهارتها، ويختل عليها أمر صلاتها، فهو يريد أن يفسد عليها أمر دينها، وهل هذا حقيقة أو مجاز؟ نحن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هي ركضة من الشيطان) ، والأطباء يعبرون عنها بالنزيف الرحمي، والنزيف الرحمي عندهم له أسباب عديدة، ولا يعرفون كلمة: ركضة شيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زيادة الدم عن الحيضة الطبيعية التي يعرفها سائر النساء؛ ليست بسبب مرض، ولا حرج على المرأة فيها؛ لأنها لا تملكها ولا تستطيع دفعها، إنما هي ركضة من الشيطان. وقال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام) ، وقد أشرنا إلى أن أكثر الحيض عند الأطباء ثمانية أيام، والرسول صلى الله عليه وسلم قصرها على ستة أو سبعة، وقد يختلف حيض النساء من يوم إلى يومين إلى ثلاثة إلى أربعة إلى سبعة، ولكن هذا متوسط حالات النساء، وقد يكون الحيض عشرة أيام؛ ويكون حيضاً طبيعياً، ويهمنا هنا التعليم النبوي لـ حمنة رضي الله تعالى عنها لما اختلط عليها الدم وتواصل، ولم تعلم مدة حيضها من حيضتها، ولا يوجد لون أسود يفرق بين الحيضة والاستحاضة، فلو كان عندها علامة تفرق بها بين الحيضة والاستحاضة مثل اللون لردها إلى صفة الدم كما رد من قبلها، ولكن قال: (تحيضي) أي: في علم الله، فامكثي حائضاً، واعتبري حيضتك من كل شهر ستة أو سبعة أيام، وهذا متوسط عادة غالب النساء، وهناك من تحيض يوماً واحداً، وهناك من تحيض يومين فقط، وتنتظم حيضتها على ذلك، وهناك من لا تزيد على ثلاثة أيام، وهناك من تصل إلى عشرة أيام، لكن متوسط الحيضة عند غالب النساء ستة أو سبعة أيام. فالمستحاضة لها حالتان: حالة يكون الدم المتواصل عندها يتميز بعضه عن بعض باللون والرائحة، فما تميز بلون ورائحة فهو حيضة، وما لم يتميز بشيء من ذلك فهو استحاضة، وهذه حمنة دمها ليس فيه تمييز، فكله على لون واحد، كله أسود أو أحمر أو بين بين، ودم الحيض أسود يميل إلى اللون البني، ودم الاستحاضة لونه بعيد عن هذه الألوان، فإذا لم تميز المستحاضة أيام حيضها، ولم يوجد في الدم الخارج منها ما يميز بعضه عن بعض فماذا تفعل؟! تتحيض على غالب حيض النساء، ومتى تجلسها؟ تتخير، فتعتبر أول الشهر مثلاً حيضها، فتجلس ستة أيام أو سبعة أيام وتعتبرها حيضة، فتغتسل وتأخذ حكم الطاهرة، وهكذا أول كل شهر تجلس من واحد في الشهر إلى ستة أو سبعة، وهكذا تعتبر الشهر دورة كاملة، وتتحيض فيه ستة أو سبعة أيام من أول الشهر إلى سابع يوم، وتكون هذه حيضتها المعتبرة، وتمتنع فيها عن الصلاة وعن الصيام وعن الوطء، ثم بعد نهاية الأيام المذكورة تعتبر نفسها قد طهرت فتغتسل، ثم بعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، وهل تغتسل وتجمع بين الصلاتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأتي فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثة وعشرين وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك) . قوله: (فإذا استنقأتي) يعني: اعتبرتي نفسك قد استنقأتي من دم الحيضة بعدد الأيام، أما النقاء حقيقة فليس بحاصل؛ لأن الدم موجود، لكن المعنى: اعتبرتي نفسك قد استنقأت من الحيضة بعدد الأيام التي اعتبرتيها حيضاً، وقد تعتبر الأيام من نصف الشهر، وقد تعتبر الأيام من أوله أو آخره، فإذا حددت لنفسها وقتاً من الشهر تعتبره حيضاً؛ فإذا انقضت تلك الأيام فتغتسل، ويكون حكمها حكم الطاهرة، فتصلي أربعة وعشرين يوماً، وهذا الحديث لم ينظر إلى أن الدورة الشهرية عند المرأة -كما يقول الأطباء- ثمانية وعشرين يوماً، ولكن نظر إلى الشهر بهلاله، فإذا تحيضت ستة أيام فقد بقي من الثلاثين أربعة وعشرون يوماً، وإذا تحيضت سبعة أيام فقد بقي ثلاثة وعشرون يوماً، فتصلي بقية الشهر بعد الستة أو السبعة الأيام التي اعتبرتها حيضة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك) . أي: بعد الستة أو السبعة أيام؛ اغتسلي للحيضة، واعتبري نفسك كالطاهر، وصومي بقية الشهر وصلي كذلك، ولزوجها أن يأتيها، ولكن الأولى الابتعاد عن وطئها من ناحية صحية، وليس من الناحية الشرعية. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء) . أي: وكذلك فافعلي كل شهر: تتحيضين ستة أو سبعة أيام، وتعتبرين نفسك بقية الشهر طاهرة، فتغتسلين عند نهاية أيام الحيض، ثم تصومين وتصلين إلى نهاية الشهر، وهكذا دواليك كل شهر.

جواز الجمع الصوري للمستحاضة

جواز الجمع الصوري للمستحاضة ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حين تطهرين) . هنا بين كيفية اغتسالها للظهر والعصر معاً، بأن تؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وتقدم الثانية إلى أول وقتها، وتغتسل غسلاً واحداً لهما، وفي الحديث الأول: الوضوء لكل صلاة، وهنا قال: (فإن قويت) ، أي: إذا كان لا يشق عليك، لا يوجد شدة برد، أو قلة ماء، أو عدم تحمل الماء. إذاً: المبدأ الأساسي مع حمنة أن تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل عن الحيضة، لكن الأكمل والأطيب إن قويت أن تؤخر الظهر، وتقدم العصر، ثم تغتسل لهما، وتؤخر المغرب، وتقدم العشاء، وتغتسل لهما، ثم تغتسل للصبح في وقتها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ثم تغتسلي حين تطهرين، وتصلي الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي) . وهل قوله: (تجمعين بين الصلاتين) جمع حقيقي فتصلي إحداهما في وقت الأخرى أم هو جمع صوري بأن تصلي كل صلاة في طرف وقتها؛ فهذه في آخر وقتها، وتلك في أول وقتها؟ هو جمع صوري، وليس بجمع حقيقي؛ لأن كل صلاة وقعت في وقتها. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتغتسلين مع الصبح وتصلين) قال: وهو أعجب الأمرين إلي. قوله: (وهو أعجب الأمرين إلي) ، اختلف العلماء في هذه الجملة، هل هي من قوله صلى الله عليه وسلم أو من قولها هي؟ والأمران هما: الوضوء لكل صلاة، والغسل للصلاتين، فأيهما أعجب في الحكم؟ الأعجب في الحكم الاغتسال والجمع بين الصلاتين، لكن من قال: أعجب إلي؟ جل العلماء أن هذه الجملة راجعة إلى حمنة، فهي قالت: هو أحب الأمرين إلي، أي: أن أغتسل للصلاتين معاً، وأؤخر الظهر وأقدم العصر. وقد كانت بعض المستحاضات تغتسل لكل صلاة، قال الجمهور: هذا من عندها هي، ولا موجب لإعادة الغسل بعد انتهاء فترة الحيض، سواء كان بالأيام أو كان باللون، فالغسل للحيض واحد، سواء اعتبرناه بلونه أو اعتبرناه بأيامه، فما الموجب للغسل بعد ذلك؟ والدم الخارج بعد الحيض دم نزيف، وهو لا يستوجب غسلاً، ولكن كان ذلك أحب إليها احتياطاً وتورعاً وإنقاءً لنفسها، فكانت تغتسل وتجمع بين الصلاتين. إذاً: الحديث الأول موضوعه: تمييز الحيضة من الاستحاضة باللون، وأن تغتسل للحيضة ثم تتوضأ لكل صلاة، أو تغتسل للظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، والحديث الثاني بين أن اغتسالها للظهر والعصر وجمعها بينهما يكون جمعاً صورياً، وهذا أحب الأمرين للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمرأة، على الخلاف، والجمهور أنه للمرأة.

رجوع المستحاضة إلى عادتها السابقة

رجوع المستحاضة إلى عادتها السابقة قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، فكانت تغتسل لكل صلاة) . رواه مسلم. وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) وهي لـ أبي داود وغيره من وجه آخر] . أم حبيبة هي أخت حمنة، وأختهما أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهن. وانظروا إلى حسن ترتيب المؤلف لهذه الأحاديث الثلاثة، أم حبيبة رضي الله تعالى عنها جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم استحاضتها، فماذا قال لها؟ لم يقل لها: دم الحيض أسود، ولم يقل لها: تحيضي في علم الله ستة أو سبعة، بل قال لها: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فهذا قسم ثالث، كانت لها حيضة منتظمة، تعرف أيامها، وتمكث مدتها، ثم اختلط الأمر عليها بعد أن كانت لها عادة معروفة تمسك فيها عن الصلاة والصيام، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كانت عليه قبل الاستحاضة، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) أي: تمسك عن الصلاة والصوم، يعني: كم كنت تحيضين قبل هذا الحال الجديد؟ لو كانت ثلاثة أيام، فامكثي ثلاثة أيام، أو خمسة أيام فامكثي خمسة، وهكذا ستة أيام أو تسعة أيام، فقدر ما كانت تحبسك حيضتك قبل الاستحاضة فهي مدة حيضتك الآن مع اختلاط الأمر عليك. إذاً: المستحاضة قد تكون ذات دم يعرف، وقد تكون لا تميز الدم، وليست لها حيضة من قبل، فتمكث ستة أو سبعة أيام، وقد تكون لها حيضة منتظمة قبل الاستحاضة فترجع إلى مدة حيضتها قبل ذلك. وقوله هنا: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فيه ردها إلى العادة القديمة، فليس هنا حكم زائد، ولا حكم جديد، إنما ردها إلى ما كانت عليه؛ ولهذا يقول مالك رحمه الله في مسائل الحيض: لقد وكل الله أمر النساء إليهن، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من الولد، ومن دم الحيض، ومن الاستحاضة، فهي ترجع إلى مدة حيضتها، والنبي عليه الصلاة والسلام ما قال: كم كانت تحبسك؟ ثم ألزمها بشيء، لا، بل ردها إلى ما كانت عليه، وهي المسئولة عن ذلك، وهي أمانة بينها وبين الله. وقوله: (ثم اغتسلي) أي: اغتسلي بعد مضي مدة حيضتك الأولى، واعتبري نفسك قد طهرتي، وما زاد عن مدة حيضتك الأولى بعد الاغتسال يكون استحاضة، فإذا اغتسلتي للحيضة فما عليك إلا الوضوء لكل صلاة، ولا تغتسل لكل صلاة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال لها: اغتسلي لكل صلاة بل اغتسلي بعد الحيضة، فأمرها أن تغتسل من حيضتها الاعتبارية، ولكن هي من أجل الصلاة كانت تغتسل لكل صلاة، قالوا: هذا من فعلها هي، ولا يكون حكماً سارياً على بقية النساء، وقد جاءت الروايات موضحة لذلك. وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) . هذا هو ما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام به: اغتسلي بعد مدة حيضتك الأولى، ثم بعد ذلك توضئي لكل صلاة، وقد تقدم قوله: (توضئي لكل صلاة) في رواية عائشة أول الباب، ثم في رواية أسماء: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وجاء الحديث الآخر أنها تؤخر وتقدم وتغتسل للصلاتين، وجاء هنا في رواية البخاري أنها تغتسل بعد حيضتها المعتبرة، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهذا الذي استقر عليه الأمر عند العلماء، أن المستحاضة تغتسل في نهاية حيضتها الاعتبارية، وتتوضأ لكل صلاة عند وجود دم الاستحاضة. فإذا اغتسلت مستحاضة لكل صلاة من نفسها فلها ذلك، وإن قويت أن تغتسل وتجمع بين الوقتين، فتصلي في أول هذا، وآخر ذاك فلا مانع، وإن توضأت لكل صلاة، وصلت كل صلاة في وقتها فلا مانع. الخلاصة أن المستحاضة لها ثلاث حالات: أن تميز بين دم الحيضة ودم الاستحاضة، إما باللون وهو السواد، وإما بالرائحة وهو النتن، وإما بالكثرة والغزارة، فدم الحيض أكثر عند خروجه من دم الاستحاضة، فتعمل بالتمييز. وإذا التبس الأمر عليها، ولم يتميز الدم، فترد المستحاضة إلى غالب حيضات أغلب النسوة ستة أو سبعة أيام. وإذا كانت لها حيضة سابقة، فإنها ترد إلى حيضتها التي كانت قبل الاستحاضة، وتغتسل وتطهر لمضي الحيضة الاعتبارية عند الجميع. بعد ذلك ماذا تفعل؟ جاء أنها تغتسل للوقتين، وجاء أنها تغتسل لكل صلاة، وجاء أنها تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل الأول، وهذا هو الواجب على المستحاضة.

المستحاضة المبتدئة

المستحاضة المبتدئة حالات المستحاضة أربع، وقد ذكرنا ثلاث حالات، والرابعة هي: المبتدئة التي بدأها الحيض، ثم استمر عليها الدم ولم تعرف حيضها من استحاضتها، وليس هناك لون ولا رائحة تميز به، وليست عندها حيضة سابقة، ولا تعرف لها عادة حتى ترد إليها، ولا ترد إلى غالب عادات النساء لأن الكلام على أول ما يأتيها الدم وآخره، فمن العلماء من يقول: إنها تنتظر إلى أقصى مدة الحيض، وأقصى مدة الحيض عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام، وعند الأئمة الثلاثة خمسة عشر يوماً، فالإمام أبو حنيفة يرى أن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، والأئمة الثلاثة يرون أن أقل مدة الحيض يوماً وليلة، وأقصاه خمسة عشر يوماً، ومالك يفرق بين الحيض بالنسبة للصلاة والصوم، والحيض بالنسبة للعدة في الطلاق، فيعتبر الحيض بالنسبة للصلاة أو الصوم ولو ساعة من النهار، فلو حاضت المرأة في نهار رمضان ساعة من النهار فقط أفطرت ذلك اليوم، واعتبرت تلك الساعة حيضة، أما إذا كانت في عدة الطلاق فلا تعتبر تلك الساعة حيضة، ولا تعتد إلا إذا كانت الحيضة يوماً وليلة مثل الأئمة الآخرين. هذه المبتدئة بعضهم يقول: تجلس إلى آخر انقضاء مدة الحيض، فإذا استمر بعد ذلك اعتبرت نفسها مستحاضة بعد مضي الخمسة عشر يوماً، وبعضهم يقول: المبتدئة تقعد عن الصلاة والصوم يوماً واحداً -وهو أقل مدة الحيض- احتياطاً، ثم تصلي وتصوم، وتعمل ذلك ثلاثة أشهر، فإن استمر الدم إلى ما بعد نهاية مدة الحيض في الثلاثة الأشهر، فإنها تنتقل إلى التمييز إن حصل، أو إلى غالب ما تحيضه النساء ستة أو سبعة أيام. إذاً: هذه المبتدئة التي لم تعلم لها عادة سابقة، ولم تجد في الدم مميزاً، فإنها تجلس عند البعض أقل مدة الحيض، ثم تغتسل وتعتبر الباقي استحاضة، وتصلي وتصوم إلى ثلاثة أشهر، فإن استقرت على هذا رجعت إلى غالب عادة النساء. ومنهم من يقول: من أول ما ترى الدم تجلس إلى أقصى مدة الحيض، وهذا هو اليقين، وبعد الخمسة عشر يوماً تغتسل، فإن استمر معها بعد الخمسة عشر يوماً فهو استحاضة، وإن كانت صامت قبل ذلك فإنها تقضي صومها؛ لأنها صامته في حالة الحيض.

كتاب الطهارة - باب الحيض [2]

كتاب الطهارة - باب الحيض [2] كرم الإسلام المرأة، وجعل لها أحكاماً خاصة فيما يتعلق بالحيض والنفاس، وهذا يدل على كمال الشريعة السمحة، وإعطائها لكل ذي حق حقه، وحسن أحكامها التي توافق العقل الصحيح المجرد عن اتباع الهوى.

شرح حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا)

شرح حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) . رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] . حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة شيئاً) ، وفي بعض الروايات: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وبهذا يكون الخبر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو علم به وأقرهن عليه، وفي رواية: (بعد الطهر) . ويتفق العلماء على أن المرأة إذا رأت الطهر ثم أعقب ذلك كدرة، أي: ماء مكدراً بلون الحمرة، أو ماء مكدراً بلون الصفرة، فلا تعتبر هذه الكدرة ولا الصفرة شيئاً بالنسبة للحيضة، وتبقى على طهرها الذي دخلت فيه، ويتفقون على أنها إذا رأت هذه الكدرة أو الصفرة أثناء الحيضة، بأن جاء بعدها دم أسود أو جاء بعدها دم العادة المعروف؛ فإنها تكون من أيام الحيض، فمثلاً: رأت الدم ثلاثة أيام، ورأت الكدرة والصفرة يوماً أو يومين، ثم رأت بعد ذلك الدم بقية الستة أو السبعة الأيام؛ فتلك الكدرة وتلك الصفرة في اليومين وسط العادة تعتبر حيضة لا تصلي فيها، ولا تصوم فيها، أما إذا رأت ذلك بعد أن طهرت وتطهرت واغتسلت فلا يلتفت لذلك. وكيف تعرف المرأة أنها طهرت من الحيض؟ ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن نساء الأنصار كن يرسلن إليها في الدلجة -يعني: في غلس الليل- بالكرسف) ، أي: بالقطن فيه الماء من محل الحيض، وقد اشتبه عليهن: هل هذا يعتبر طهراً أم لا؟ فتقول رضي الله عنها لهن: (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) ، والقصة البيضاء هي: ماء أبيض ثخين، يفرزه الرحم في نهاية الحيض، فتعلم به المرأة أن الحيض قد انتهى، ويقول الأطباء: إن هذا الماء الأبيض الذي يعقب الحيض هو بمثابة التليين لجدار الرحم؛ ليكون مبطناً ملطفاً بهذا الماء؛ ليستقبل البويضة الجديدة بعد أن نبذ وأخرج البويضة القديمة التي لم تلقح، فيقولون: هو بمثابة المهاد والفراش للضيف الجديد المنتظر. فالحيض إذا انتهى أفرز الرحم هذه المادة البيضاء؛ ليبطن بها جدار الرحم ويلطفه، حتى إذا جاءت البويضة ووجدت هذا الماء علقت به. إذاً: المرأة تعرف نهاية حيضتها إذا رأت القصة البيضاء، فإذا رأت القصة البيضاء علمت أنها طهرت، وبقي عليها أن تتطهر أي: تغتسل، فإذا رأت القصة البيضاء فلا تنظر إلى ما يأتي بعد ذلك، كما قال الفقهاء رحمهم الله في الدم المسفوح: إذا ذبحت الشاة، ثم أخذ اللحم ووضع في القدر، وغلا به الماء، فربما يظهر على وجه الماء لوناً أحمر من أثر الدم الذي داخل العروق في اللحم، فهذا لا ينظر إليه، ولا يضر اللحم، ولا يقال: إنه دم نجس؛ لأنه من بقايا الدم في العروق، وليس مسفوحاً، فكذلك الكدرة أو الصفرة عندما تراها المرأة بعد أن رأت الماء الأبيض واغتسلت، فإنها لا تعتبر هذا شيئاً، ولا تترك صلاتها ولا صيامها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)

شرح حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه: (أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح) رواه مسلم] . تأملوا -يا إخوان- هذا الحديث، فهو يعطينا تاريخ المرأة عند اليهود، وهي أمة ذات كتاب، قدم المسلمون المدينة فوجدوا اليهود إذا حاضت المرأة فيهم، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يساكنونها في مسكن واحد، بل يعزلونها ويقولون: إنها نجسة، ولما رأى المسلمون اليهود يفعلون ذلك -وهم أهل كتاب- وقعت عندهم شبهة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل اليهود، فقال لهم: (اصنعوا كل شيء) أي: من المؤاكلة والمشاربة والمضاجعة والمساكنة، وكل شيء يفعله الزوج مع زوجه افعلوه (إلا النكاح) أي: الجماع، أما: النكاح بمعنى العقد فليس هناك مانع، فيجوز أن يعقد عليها وهي حائض، لكن إلا الجماع، كما قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فلما بلغ هذا اليهود قالوا: والله! إن هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا وخالفنا فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحرص على مخالفتهم. فنقول للعلمانيين ولأصحاب الحداثة وللذين لا يلتزمون بتعاليم الإسلام وللذين ينادون بتحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقها: انظروا إلى تاريخ المرأة عند اليهود، وهم أهل كتاب، فيعتبرونها -لأمر لا قدرة لها فيه، ولا مدخل لها في حدوثه- نجسة، وكان ينص القانون الفرنسي في عهد نابليون أو قبله: أن المرأة مخلوق نجس، ولا يحق لها أن تمس الكتاب المقدس، بينما صحف القرآن جمعها زيد بن ثابت زمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم توفي فانتقلت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي كانت تلك الصحف الأساسية عند حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب المصحف الأم؛ استأذنها واستعارها منها على أن يردها إليها بعد نهاية المهمة، فأهل القانون الوضعي والأوروبيون والذين يدعون الحضارة يقولون: المرأة مخلوق نجس بصفة عامة، واليهود لا يأكلون ولا يشربون معها، ولا يستخدمون الإناء الذي تأكل وتشرب منه، ولا الفراش الذي تنام عليه، فيعزلونها جانباً عن سكنهم وعن طعامهم وشرابهم؛ بحجة أنها نجسة لحيضتها. إذاً: من الذي يستحق أن ينكر عليه فيما يتعلق بالمرأة: اليهود ومن سار على شاكلتهم ومنوالهم أم المسلمون الذين يكرمون المرأة ويقول رسولهم صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) ؟ جاء في سنن البيهقي رحمه الله أن رجلاً قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبريني يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر أول الليل أم آخره؟ فقالت: من كل الليل أوتر: من أوله وأوسطه وآخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ اللحم أنهشه بفمي ثم أعطيه إياه فيأكل منه من بعدي، وكنت أشرب من القدح فأعطيه إياه فيضع فاه موضع فمي ويشرب، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. فالمرأة كانت مهانة عند اليونان والرومان، وكانوا يعاملون المرأة معاملة وحشية، وكانت المرأة في بعض الشعوب تدفن مع زوجها وهي حية! ويقولون: إنها بعد موت زوجها لا قيمة لها، وكانت في الجاهلية تورث وتباع، وكانت توأد وهي حية، فجاء الإسلام فكرم المرأة حتى وهي حائض، وجعل للحائض جميع حقوق المرأة ما عدا موضع الأذى، وذلك لمصلحتها ومصلحة زوجها، قال الله: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فالجماع عند الحيض أذى على الرجل؛ لوجود التلوث بالدم، وأذى على المرأة؛ لأن أعصابها لا تحتمل الجماع. هذا الحديث يعنونون عليه بباب: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وسيأتي زيادة إيضاح لذلك في حديث أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كانت إحدانا إذا حاضت وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئاً أمرها أن تتزر ويباشرها) . إذاً: كان اليهود يعاملون الحائض تلك المعاملة السيئة، فجاء الإسلام ونقض عليهم ذلك، ونبذ أحوالهم، وبين للمسلمين أن الحائض امرأة عادية، وهذا ليس بيدها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) . إذاً: يجوز للرجل من امرأته الحائض كل شيء -كما صرح الشوكاني - من التقبيل واللمس والتمتع وكل شيء إلا الجماع، والعلماء يتفقون أنما فوق سرة المرأة لزوجها أن يتمتع به، وما تحت الركبة كذلك، واختلفوا فيما بين السرة والركبة، هل له أن يتمتع بذلك؟ قالوا: نعم له ذلك، إذا طرح على فرج المرأة ثوباً يمنعه منها، لكن الناس يختلفون في ذلك الأمر، فإذا كان الشخص يعلم من نفسه أنه يملك نفسه عن الجماع في الفرج فله ذلك، وإذا كان يعلم من نفسه أنه قد ينزلق فليبتعد. وعلى كلٍ، فكل شيء من الحائض جائز من المؤاكلة والمشاربة والمماتعة والمساكنة إلا الجماع، وهو نص القرآن الكريم: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] . ويبحث علماء التفسير في كلمة: (المحيض) ، فمحيض على وزن: مفْعِل، ومفعل يطلق للزمان والمكان، مثل: مجلس موعد، تقول: هذا مجلس فلان، فهو اسم مكان، وتقول: هذا موعد مجيء فلان أو موعد جلوسه. فهذا اسم زمان، واسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي يتفقون أن صيغته على وزن: مفعل، فهل المحيض اسم مكان الحيض أو اسم زمان مدة الحيض أو مصدر ميمي؟ ومهما يكن من شيء فإن الفقهاء متفقون على تحريم وطء الحائض كما جاء في الحديث: (إلا النكاح) ، والنكاح هنا بمعنى: الجماع، والنكاح قد يطلق على العقد، ويطلق على الدخول بالمرأة، فأما العقد فلا مانع أن يعقد عليها وهي حائض، ولكن لا يجامعها وهي حائض.

شرح حديث: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمرني فأتزر)

شرح حديث: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمرني فأتزر) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) متفق عليه] . جاء في بعض الروايات أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش، ففاجأتها حيضتها، فقامت من الفراش مبتعدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما شأنك -يا عائشة - لعلك حضت؟ قالت: نعم، قال: لا عليك، شدي عليك إزارك، وارجعي إلى فراشك) . فالحائض تشد إزارها عليها، وتكون مع زوجها، ويباشرها من فوق الإزار كيف شاء، ويباشرها أيضاً فيما عدا ما بين السرة إلى الركبة من أعلاها وأسفلها كيف شاء، ولا شيء عليه. قالت أم المؤمنين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إحدى نسائه وهي حائض، أمرها أن تتزر، وهي تقصد نفسها أو غيرها، وقد جاء ذلك أيضاً عن صفية وعن أم سلمة، وهذا أمر سائغ، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم سئل: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وهذا أمر غير مختص به صلى الله عليه وسلم، بل هو عام للأمة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

شرح حديث: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار)

شرح حديث: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار) قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار) رواه الخمسة، وصححه الحاكم وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه] . هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأن من أتى زوجه وهي حائض أو جاريته وهي حائض، فليتصدق بدينار أو بنصف دينار، و (أو) هنا ليست للشك، ولكنها للتنويع، ففي حالة يتصدق بدينار، وفي حالة يتصدق بنصف دينار، أما الحالة التي يتصدق فيها بدينار فهي في فورة الحيضة، أي: في شدة جريان الدم، والأطباء يقولون: الحيضة في أول يوم ضعيفة، واليوم الثاني والثالث أشدها، وفي اليوم الرابع وما بعده تتناقص حتى تنقطع، وحالات النساء تختلف في هذا، فينظر في حالة الدم عندما أتاها زوجها: فإذا كان في شدته فعليه دينار، وإذا كان في ضعفه وقلته فعليه نصف دينار. والحديث -كما ذكر المؤلف- هناك من صححه مرفوعاً، وهناك من جعله موقوفاً على ابن عباس من قوله، ولكن مثل هذا الحكم -وهو الأمر بالصدقة- الظاهر أنه مرفوع، فإن أموال الناس معصومة، ولا يتأتى لإنسان أن يقول فيها برأيه، وأن يأتي بحكم من عنده واجتهاده، فهو إن لم يكن مرفوعاً صناعة فهو مرفوع حكماً، ولكن يذكر الشوكاني وغيره أن الحديث فيه مقالات، وأن في سنده ما يضعفه، ومن هنا اختلفوا هل هذا الدينار أو النصف الدينار واجب أو على سبيل الندب؟ فبعض العلماء على أنه واجب لنص الحديث، وإن كان في سنده مقال، فقالوا: يتصدق بدينار إذا كان الدم شديداً، أو بنصف دينار إذا كان الدم قليلاً، وبعض العلماء يقول: ليس بواجب، ولكنه للاستحباب. فالزوجة أحلها الله لزوجها، وعند مجيء الدم يحرم عليه وطؤها تحريماً مؤقتاً، وكونه يجامعها وهي حائض خطيئة، وكفارة تلك الخطيئة أن يتصدق، فمن أتى أهله وهي حائض لا نقول: إنه أتى محرماً كالزنى، ولكنه ارتكب مخالفة ونهياً، ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الدينار والنصف الدينار للردع من ذلك، فهم في ذلك الوقت ما كل إنسان منهم يملك ديناراً ولا نصف دينار، وإن امتلكه فليس بزائد عن حاجته، وقل من يتوفر عنده الدنانير، فيكون جعل ذلك حتى لا يقع الرجال على النساء وقت الحيض، تنفيذاً لقوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] . ويقولون: المرأة في حالة الحيض أعصابها ونفسيتها مختلفة، وجسمها غير طبيعي، فإذا جامعها زوجها تتوتر أعصابها؛ لأن خلاياها وكل أجزاء جسمها تختل، وتختلف حالة الحيض عن حالة الطهر، وإذا انتهى الحيض وجاء الطهر كانت في أشد الاستعداد لذلك العمل. فهذا الحديث فيه الزجر والمنع من تطلع الرجال إلى النساء عند المحيض، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟)

شرح حديث: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) متفق عليه في حديث طويل] . يبين المؤلف رحمه الله حكم الحائض بالنسبة للصلاة وللصيام؛ لأنهما أهم شيء في حياتها وفي دينها، والحديث طويل، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه اطلع على أهل النار، ووجد أكثر أهلها النساء؛ فقامت امرأة وقالت: ما شأن النساء أكثر أهل النار؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لأنهن يكثرن اللعن، ويكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) ، وهذا على سبيل حكم الكل، وليس الكلي، ففي الجملة المرأة أنقص ديناً وعقلاً، ولكن قد يوجد بعض النساء أرجح عقلاً من عشرات الرجال، وقد يوجد في النساء من هي أرجح في الدين والعبادة والتورع من عشرات الرجال، لكن ذلك من حيث العموم، فقالت المرأة: ما نقصان عقلها ودينها؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (أما نقصان عقلها فشهادتها نصف شهادة الرجل) كما قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، قال: (وأما نقصان دينها فأليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) ، وكونها لا تصلي ولا تصوم نقص في دينها، فالرجل يصلي بصفة دائمة، ويصوم بصفة دائمة، ولكنها يأتيها ما يمنعها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أليست المرأة إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم؟) معناه: أن الحائض تمتنع عن الصلاة، وتمتنع عن الصيام، فلا يجوز للحائض أن تصلي، ولو استباحت ذلك لكفرت عياذاً بالله، ولا يصح لها أن تصوم، ولو صامت فلا يعتبر صيامها، ولو استحلت ذلك لكفرت عياذاً بالله. وهل المرأة تقضي ما فاتها من الصلوات والصيام أثناء حيضها؟ جاءت زوج عبادة بن الصامت إلى أم المؤمنين عائشة وقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (كان يصيبنا الحيض فنقضي الصوم ولا نقضي الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنها قالت: (أعراقية أنت؟! قالت: لا، ولكني مستفسرة) ، وقولها: (أعراقية) ؛ لأنه كان مشتهراً عن أهل العراق أنهم أهل الجدل والقياس، والمعتزلة يقدمون العقل في كثير من قضايا الإسلام، ومن أهل البدع من يقول: إنها تقضي الصلاة، وهذا السؤال هو شبه اعتراض عقلي، أي: كيف هذا، فهذه صلاة فريضة وهذا صوم فريضة، ثم فرق بين الفريضتين، فريضة تقضيها وفريضة لا تقضيها؟! وهذا من استعمال القياس العقلي، فقالت لها هذا الجواب: أعراقية أنت؟! أي: أأنت قياسية، تعملين بالقياس مع وجود النص؟ وأما القياس في غير وجود النص فهو من أصول الفقه وأصول الدين، لكن إذا وجد النص فلا قياس، ويسمى عند الأصوليين: فاسد الاعتبار؛ لأن النص موجود. فهي سألت كيف تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فأجابت أم المؤمنين بقولها: كنا نحيض ونؤمر بذلك، وما كنا نسأل عن السبب ولا عن العلة، فهي أمور تعبدية نتقبلها بالسمع والطاعة، ولا نسأل عن السبب ولا عن الفرق، ولكن العلماء قالوا: هناك فرق، وليس قضاء الصلاة وقضاء الصوم مستويان، ومن شرط صحة القياس أن يستوي الطرفان: المقيس مع المقيس عليه. فمثلاً: الربا في البر مع الشعير أو مع الذرة؛ لأنهما يستويان في كونهما قوتاً مدخراً، ولكن الصوم والصلاة ليستا متفقتين، لماذا؟ لأن الصوم يأتي مرة واحدة في السنة، والحيض يأتي في الشهر -غالباً- مرة واحدة، فإذا حاضت خمسة أيام أو سبعة أيام في رمضان، فيسهل عليها أن تقضي السبعة أيام في بقية السنة، وهذا لا مشقة عليها فيه، وأما إذا كانت تؤمر بقضاء الصلاة فسبعة أيام تضرب في خمسة يساوي خمسة وثلاثين صلاة، فتحتاج سبعة أيام من الأيام الأخرى لتقضيها في غير أيام الحيضة، فعلى هذا؛ لما كانت الصلاة تتكرر كل يوم، وهي تحيض عدة أيام، وقد يستمر حيضها إلى أكثر مدة الحيض وهي الخمسة عشر يوماً، فستقضي الصلاة خمسة عشر يوماً مع صلاة الخمسة عشر يوماً، وتكون الفائتة بقدر الحاضرة، وهذه مشقة ظاهرة؛ ولهذا سقط عنها قضاء الصلاة.

شرح حديث: (افعلي ما يفعل الحاج.

شرح حديث: (افعلي ما يفعل الحاج ... ) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما جئنا سرف حضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه في حديث طويل] . هذا الحديث مثل الحديث المتقدم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهنا قالت عائشة: لما جئنا سرف، وسرف على مرحلتين من مكة في طريق المدينة، وكانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكانت محرمة بالعمرة متمتعة، ولما دنت من مكة فاجأتها الحيضة، وكانوا قدموا مكة صبح رابعة من ذي الحجة، أي: وفي اليوم الثامن بعد أربعة أيام سيذهبون إلى عرفات، وهي لن تطهر في هذه المدة، فهي بين أحد أمرين: أن تجلس في مكة حتى تطهر وتكمل عمرتها ويفوتها الوقوف بعرفة، أو تدرك الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي في خيمتها في سرف، فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك يا عائشة؟! لعلك نفست؟ قالت: نعم) والنفاس من أسماء الحيض مثل: العراك، والفورة، والدم، فقال: (هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) ، أي: لست أنت وحدك التي يأتيك الحيض، وليس أمرك بيدك. ومعلوم أن الحج أعماله كلها تدور على ذكر الله، فهل لها أن تذكر الله، فتلبي، وتأتي المشعر الحرام، وتأتي عرفات، وتقول ما جاء في الحديث: (خير ما قلته أنا والنبيون قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... ) إلى آخره، وتعمل بالآية: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أم أنها تمتنع بسبب حيضتها؟ الحديث الأول يتعلق بأمر اليهود في أمور الدنيا، وفي الأمور الخاصة، والأمور العائلية، والمعاشرة الزوجية، وحديث عائشة في الأمور الدينية، فقال لها: (افعلي -مع وجود حيضتك- ما يفعل الحاج) ، وقد أمرها أن تغتسل، وأن تدخل الحج على العمرة، فتقول: لبيك حجة في عمرة، وصارت قارنة من مكانها في سرف، واغتسلت من أجل إدخال الحج على العمرة للنسك وليس للحيضة، وأصبحت بعد ذلك قارنة، فجاز لها أن تجلس عند البيت، وتخرج مع الحجاج إلى عرفات، وتنزل من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى، وترمي الجمرات، ثم تنتظر، فإن طهرت في تلك الحالة اغتسلت، وطافت طواف الإفاضة عن الحج والعمرة المقترنين، وبهذا أكملت حجها، فالحديث الأول في أمور الدنيا والمعاشرة، وهذا في أمر الدين والعبادة: (افعلي ما يفعله الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) . وإذا نهاها عن الطواف بالبيت، فما هو أشد تطلباً للطهارة: الصلاة أم الطواف؟ الصلاة؛ لأن الرسول قاس الطواف على الصلاة في قوله: (الطواف صلاة) ، فالطواف فرع عن الصلاة، فإذا منعت من الطواف بالبيت بسبب الحيضة، فمنعها من قراءة القرآن في الصلاة من باب أولى. وهل تقرأ القرآن؟ القرآن هو لب الصلاة، وجاءت الأحاديث بمنع الحائض من قراءة القرآن ومن حمل المصحف. إذاً: قوله: (اصنعي كل ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، ونضيف إلى عدم الطواف: قراءة القرآن وحمل المصحف، وهذا يبين لنا أن الحائض تذكر الله بغير التلاوة، وتفعل كل ما يفعله الحجاج: من الأذكار، ومن الوقوف بعرفات، والوقوف بمزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وذهابها إلى منى، ورميها الجمار، والتكبير مع كل حصاة، وتنحر أيضاً إذا كان عليها نحر إن كانت تحسن النحر أو تنيب من ينحر عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم (نحر عن نسائه بقرة) .

شرح حديث: (إتيان الحائض فيما فوق الإزار)

شرح حديث: (إتيان الحائض فيما فوق الإزار) قال رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار) رواه أبو داود وضعفه] . سبق أن ساق المؤلف رحمه الله حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، وهذا عام، فله أن يصنع كل شيء حتى ما تحت السرة، ما لم يكن هناك إيلاج وجماع، وهنا سأل معاذ: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ لم يقل: يحل له كل شيء إلا النكاح مثل الحديث السابق؛ لأنه كان في مقابلة تعامل اليهود، فاليهود منعوا التعامل معها في كل شيء، والإسلام أباح التعامل معها في كل شيء، إلا شيئاً واحداً وهو الجماع، فهو مقابل لتعنت اليهود مع الحائض، وحديث معاذ توجيه وتعليم لما هو الأكمل والأحوط للرجل، وهو ما فوق الإزار. وهل له ما فوق الإزار ولو كان في مقابل الفرج في منطقة الاتزار؟ الحديث يحتمل الأمرين، والإزار العادي يكون من السرة إلى الركبة، ويكون الإزار حاجزاً وحاجباً بين الجسم والجسم، قال بعض العلماء: المباشرة تكون مكان الاتزار، وهذا هو الظاهر، أما كونه يباشر الفرج بحاجز الإزار فهذا قد يؤدي إلى إثارة المرأة، وقد يكون فيه إيذاء عليها. إذاً: ما فوق الإزار هو محل إزار المرأة، وهذا قول الجمهور، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (فيأمرها فتتزر ويباشرها) ، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوما)

شرح حديث: (كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً) قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تقعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً) رواه الخمسة إلا النسائي واللفظ لـ أبي داود، وفي لفظ له: (ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس) ، وصححه الحاكم] . المؤلف رحمه الله انتهى من مباحث الحيض، ولكنه لم يبين لنا مدة الحيض صراحة، ولكن ذكر حديث المستحاضة: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، والفقهاء حددوا أقل مدة الحيض وأكثره، فالحنفية قالوا: أكثر الحيض عشرة أيام، والجمهور على أنه خمسة عشر يوماً، وأقله يوم وليلة، وغالبه سبعة أيام. فأقل الحيض وأكثره معلوم عند العلماء والحمد لله، علماً بأن حالات النساء تختلف، ولكن جعلوا هذا هو الحد الأقصى والحد الأدنى، فما كان من دم دون الحد الأدنى فليس بحيض، وما كان من دم فوق الحد الأعلى فليس بحيض. ودم النفاس يأخذ حكم دم الحيض في ترك الصلاة، وترك الصيام، وترك القراءة، وعدم حمل المصحف، وتحريم الوطء، فدم النفاس ودم الحيض في ذلك سواء، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً كما في قوله: (لعلك نفست؟) ، فإلى متى تجلس المرأة بعد نفاسها؟ هذا الحديث يبين أقصى مدة الدم في النفاس، وأقل دم النفاس لحظة، فلو نفست اليوم وانقطع دمها غداً ولم تر شيئاً فقد طهرت، وتأخذ حكم الطاهر، وليس بلازم أن تستمر إلى أربعين يوماً إلا في الجماع من باب الندب؛ لأنها بعد الولادة ليست مستعدة للجماع، والمحل غير صالح، فإذا كملت الأربعون يوماً صار الرحم يقبل ما كان يقبله قبل الحمل، وهل هذا محل اتفاق؟ ليس محل اتفاق، هناك من يرى أن أقصى النفاس خمسون يوماً، وبعضهم يراه ستين يوماً، والعبرة بغالب حالات النساء، وقد أشرنا أن دم الحيض ودم النفاس يختلف في أسرة دون أسرة، ويختلف في قرية دون قرية، ويختلف في إقليم دون إقليم، ويختلف في فصل دون فصل، فهو في الأيام الباردة غير الأيام الحارة. قالوا: أقصى ما تجلس النفساء بعد دم النفاس أربعون يوماً، وهناك من قال: خمسون، أو خمسة وخمسون، أو ستون، وليس بعد الستين خلاف. لو أن المرأة ولدت ونزل الدم، وفي آخر النهار انقطع عنها الدم، فهل انتهت من نفاسها أم لابد أن تجلس أربعين يوماً؟ انتهت، وإذا ولدت ولم ينزل ولا قطرة دم فهل لازم أن تجلس أربعين يوماً أم ليس هناك دم نفاس؟ ليس هناك شيء، وهذه ولادة الجفوف، فبعض النسوة تلد المولود ولا ينزل معه دم، فبنزول الولد ينتهي نفاسها، ولا تحتاج أن تجلس أي مدة بعد نزول الولد إذا لم يوجد الدم. إذاً: هذا الحديث يبين لنا الحد الأقصى الذي تجلسه المرأة في نفاسها، فإذا زاد عن الأربعين يوماً خمسة أيام فماذا نعتبر هذه الأيام الخمسة؟ يقول الفقهاء: إن كانت الزيادة وافقت زمن حيضتها فهي حيض، أي: أنها انتقلت من نفاس إلى حيض، فتترك الصلاة والصوم، فمثلاً: كانت ترى الحيضة يوم ثلاثة وعشرين من كل شهر، فنفست، وبعد الأربعين يوماً صادف يوم ثلاثة وعشرين، وهو زمن حيضتها، فتترك الصلاة؛ لأنها انتقلت من نفاس إلى حيض. أما إذا كانت حيضتها تأتيها في أول الشهر أو في نصف الشهر، وانتهى دم نفاسها يوم خمسة وعشرين من الشهر، ولكن استمر الدم إلى يوم الثلاثين، فهذه الخمسة الأيام الزائدة من بعد يوم خمسة وعشرين التي هي نهاية الأربعين تكون استحاضة، والله تعالى أعلم.

الصلاة

كتاب الصلاة - باب المواقيت [1] جعل الله للصلوات الخمس مواقيت محددة الأول والآخر، وقد بين الله ورسوله هذه المواقيت، وشرحها العلماء، وأطالوا في ذلك؛ لأنها متعلقة بأفضل العبادات، وأعظم القربات، فالصلاة لا تقبل إلا بعد دخول وقتها، فوجب معرفة المواقيت للقيام بالصلاة في وقتها المحدد شرعاً.

مقدمات أصولية تتعلق بالمواقيت

مقدمات أصولية تتعلق بالمواقيت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [كتاب الصلاة، باب المواقيت] . المواقيت: جمع موقت، والموقت هو الوقت المؤقت لشيء ما، وبدأ المؤلف رحمه الله تعالى قائلاً: كتاب الصلاة، ثم قال: باب المواقيت ليبين لنا أن مواقيت الصلاة من ضمن مباحث الصلاة. وهذا الباب جعله الإمام مالك رحمه الله أول أبواب الموطأ، وقال: باب الوقوت (جمع كثرة لوقت) وقالوا: إنه راعى الأوقات المختلفة في أداء الصلاة من أفضلية الوقت إلى آخر ما يجزئ في الوقت من الوقت الضروري، ووقت القضاء لمن نام أو نسي، وهناك أوقات الصلوات الخمس، ووقت الجمعة، وغير ذلك. والتوقيت للصلاة واجب كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، أي: موقتاً بزمن.

تقسيم أوقات العبادة إلى مضيقة وموسعة

تقسيم أوقات العبادة إلى مضيقة وموسعة العبادات المؤقتة ينقسم وقتها بالنسبة إليها إلى قسمين: القسم الأول: وقت موسع. القسم الثاني: وقت مضيق. فالوقت الموسع كأوقات الصلوات، فمثلاً: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى مجيء وقت العصر، ووقت العصر من أول وقتها إلى غروب الشمس، ومعنى موسع: أن يستطيع الإنسان أن يأتي بالفريضة في وقتها ثم يأتي بمثلها معها في وقتها. والوقت المضيق كصوم رمضان، فشهر رمضان هو وقت الصوم، وهو مضيق بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأتي في يوم من رمضان بفريضتين: فريضة شهرك الحاضر وقضاءً عما عليك من الماضي، بخلاف وقت الصلاة، فإنك تستطيع أن تُصلي الحاضرة، وتُصلي النافلة، وتُصلي ما كان عليك من قضاء في الوقت الواحد، وفي الصلوات قد يصبح الوقت الموسع مضيقاً إذا لم يبق من الوقت إلا ما تدرك به صلاة الوقت الحاضر.

تقسيم خطاب الشرع إلى خطاب تكليف وخطاب وضع

تقسيم خطاب الشرع إلى خطاب تكليف وخطاب وضع والله سبحانه وتعالى بين توقيت العبادات من باب خطاب الوضع؛ لأن خطاب الشرع ينقسم إلى قسمين: خطاب التكليف، وخطاب الوضع. فخطاب التكليف هو: الذي فيه الأمر والنهي بالتشريع أو التحريم. وخطاب الوضع هو: العلامة أو الشرط أو المانع المتعلق بهذا العمل الذي كُلف به المسلم. فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] هذا خطاب تكليف، كلف فيه المسلم أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] خطاب تكليف؛ كلف فيه المسلم بالصوم. ولكن تحديد متى نصوم ومتى نصلي يجيء بيانه بخطاب الوضع، فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فعين لنا زمن الصوم الذي فرض علينا، وكذلك قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، فهذا خطاب وضع من جهة بيان وقت الصلاة، فنصلي لدلوك الشمس، وهو تحركها بعد الاستواء عن كبد السماء إلى جهة الغرب، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظلمة الليل. فدلوك الشمس شمل الوقت المشترك لصلاتي: الظهر والعصر، وغسق الليل شمل الصلاتين المشتركتين في ذلك الوقت وهما: المغرب والعشاء، ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وهو: مشتمل على صلاة الصبح، فهذا الخطاب الذي بين أوقات الصلوات يسمى: خطاب وضع، والخطاب الذي جاء بتكليف المكلف بالواجب عليه في العبادات هو خطاب تكليف. كذلك الحج، قال الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فهذا خطاب تكليف، فعلى كل مستطيع أن يحج، ولكن متى نحج؟ جاء خطاب الوضع في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، فبين لنا وقت الحج، والسنة بينت أنه من أول شوال، فيجوز الإحرام في شوال، وذي القعدة، وجزء من ذي الحجة، وهذا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم.

دخول الوقت شرط لصحة الصلاة

دخول الوقت شرط لصحة الصلاة إذاً: مالك رحمه الله راعى في كتابه الموطأ أن أول ما يكلف به العبد فعلاً الصلاة، ولكن الصلاة تبدأ من الميقات أي: من التوقيت، أي: بدخول الوقت، والطهارة شرط لصحة الصلاة، ودخول الوقت شرط لصحة الصلاة، فمن صلى صلاة قبل وقتها فلا يعتد بها، ومن صلى صلاة دون أن يتوضأ فلا يعتد بها، فراعى أن أول ما يكون هو دخول الوقت، فإذا دخل الوقت وجب عليه أن يتوضأ ليصلي، لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا. } [المائدة:6] ، ولا يكون القيام إلى الصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولكن كتب الحديث المرتبة على أبواب الفقه قد يختلفون في البداية، فبدأ البخاري صحيحه بباب الإيمان والعلم، وكذلك فعل مسلم فبدأ بباب الإيمان، وجاء أبو داود فبدأ بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالطهارة؛ لأنها شرط في صحتها، ثم جاء بعد ذلك بستر العورة وهو باب اللباس، ثم أتى بالمساجد ومواضع الصلاة، وكذلك فعل غيره. والذي يهمنا أن الناس يختلفون في ترتيب كتب الفقه، ولكنهم مجمعون في الجملة بأنهم يبدءون بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم بالأحوال الشخصية، ثم بالجنايات، ثم بأحكام القضاء؛ لأن العبادات فرض عين على كل شخص، فهي أهم، وهي حق الله على العباد، والمعاملات هي لمصلحة الناس فيما بينهم من بيع وشراء وكفالة وضمان وحوالة إلى غير ذلك، وكذلك الأحوال الشخصية من الأنكحة والعشرة الزوجية وحق الزوجات والأولاد والنفقات والطلاق والعدد ونحو ذلك. ويؤخرون بعد هذا باب القضاء؛ لأن الإنسان في الغالب بعد أن يبيع ويشتري ويتكسب ويتزوج يصير له الأولاد، فتقع المشاكل مع الجيران، فيأتي باب القضاء، فكتب الفقه تتفق على هذا الترتيب في الجملة، وبعضهم قد يقدم باباً على باب، ولكن من حيث الجملة فالترتيب عبادات، معاملات، أحوال شخصية، جنايات، قضاء. انتهى المؤلف رحمه الله من كتاب الطهارة من وضوء، ومن غسل، وبيان حكم الجنب، والتيمم، والإنسان يتطهر استعداداً للصلاة؛ لأن الطهارة سواء بالوضوء أو بالغسل تصح قبل دخول الوقت، فهو قد يتهيأ للصلاة قبل دخول وقتها.

(يريد الله بكم اليسر) قاعدة عامة في التكاليف

(يريد الله بكم اليسر) قاعدة عامة في التكاليف انتهى المؤلف رحمه الله من مقدمة الصلاة، وشرطها الأساسي وهو الطهارة، ثم جاء بعد ذلك بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالوقت؛ لأنها لا تؤدى إلا في وقتها المحدد لها، ومن ناحية أخرى نجد كل خطاب الوضع مرتبطاً بعلامات كونية أو أمور وضعية متعارف عليها، ويستوي في معرفتها أعلم الناس هندسة وعلوماً عامة وأجهل الناس بتلك العلوم، فيستوي فيها العامي والمتعلم. فمثلاً أوقات الصلوات الخمس رُبطت بأمور بأمور يستوي في معرفتها العامة والخاصة، بل قد يكون العامي صاحب البادية أعرف بها من الحاضر، حيث جعل الله مواقيت الصلاة مرتبطة بحركة الشمس، فالفجر من انفجار النهار عن ظلام الليل، وهي نتيجة اقتراب الشمس من الظهور، وتقدم أشعتها، فيظهر بعض الضوء، ويتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والظهر حينما تزول الشمس عن كبد السماء ونرى الفيء. فالشمس حينما تشرق، تأخذ في نصف الدائرة، فإذا توسطت نصف الدائرة وهو الربع الأول من الدائرة الكاملة، يمتد ظل كل شيء إلى الغرب، فلما تزحزحت عن نقطة الصفر في متوسط الدائرة، وانحازت إلى الربع الثاني إلى جهة الغرب؛ تحول الفيء إلى الشرق، فنحن وإن كان بيننا وبين الشمس مئات الآلاف من الأميال فإننا ندرك حركتها عندنا في الأرض؛ بتحول الظل من الغرب إلى الشرق، ثم يأتي وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثله، ثم يأتي وقت المغرب عندما تغرب الشمس، وما بين الظهر والمغرب وقت للعصر. الذي في البادية أدرى بالأوقات من الذي في الحاضرة؛ لأن الحضري ساكن في شقة أو في بيت وربما لا يراقب الشمس، وخاصة طلوع الشمس، وأهل البادية أعرف بذلك من الآخرين. والمغرب وقته من غياب الشمس إلى أن يغيب الشفق الأحمر، وهو الحمرة التي في الأفق، ومن غيبوبة الشفق إلى طلوع الفجر وقت للعشاء. فهذه معالم وأمارات وتوقيت يتفق في معرفتها الجميع؛ لأن التشريع للجميع، ولا يكلف الله الناس معرفة علم الفلك، ولا يجب أن نعرف أوقات الصلاة بتوقيت فلكي، وإنما جاءت الساعة تسهيلاً وتقريباً لذلك، ولهذا لو رأينا ساعة الفلك مغايرة لساعة الجيب؛ لألغينا ساعة الجيب، فلو أن الساعة في جيبك تشير أنه بقي على المغرب نصف ساعة، ورأيت الشمس تغرب بعينك، فبأي الساعتين تعمل؟ هل بساعة الشمس التي تنظر إليها بعينك أو الساعة التي في يدك؟ تلغي الساعة التي في يدك وتعدلها، وكذلك صوم شهر رمضان، والعالم كله يعرف متى يدخل رمضان ومتى يخرج رمضان، وهل نعرف ذلك بالحساب كما يقولون؟ لا، لحديث: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، ورؤية الهلال أيسر في البادية من الحاضرة، فالحاضرة فيها دخان، وكهرباء، وو إلى آخره، وأضواء الكهرباء تضعف من البصر، بخلاف أهل البادية فهم حديدو الأبصار، يرون الهلال في أول يوم، ويعرفون منازله، ويطلبونه فيه، وكذلك الحج. والزكاة جُعِل قدرها (2. 5%) وهذا المقدار لا يغلط فيه الإنسان عند الحساب، وقال الله في زكاة الزروع: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فهذا تكليف، وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وهذا خطاب وضع، وكم قدر الزكاة؟ بينت السنة أنه إما العشر وإما نصف العشر، وهذه أمور عامة يعلمها العامة والخاصة، وهذا دليل على أن الإسلام هو الدين الباقي، والدين الشامل، وهو دين الفطرة؛ لأنه يستوي فيه جميع الخلق: من عرب، ومن عجم، ومن حضر، ومن بدو، ومن متعلم، ومن عامي. فبدأ المؤلف كتاب الصلاة بالمواقيت، وجاء بالأحاديث المتعلقة بالباب، وفيها الكفاية إن شاء الله.

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله مالم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) رواه مسلم] .

معنى زوال الشمس

معنى زوال الشمس قوله: (إذا زالت الشمس) ، معنى زالت: ذهبت عن كبد السماء؛ لأنها تشرق في أول الأمر من المشرق، وتأخذ في حركتها في نصف الدائرة، ويقولون: قدر ثماني عشر، والدائرة الكاملة قدرها ست وثلاثون درجة، فهي تأخذ ثماني عشرة درجة في هذا الوجه، وثماني عشرة درجة في الوجه الثاني من جهة الأرض، فتكون ثماني عشرة درجة مضيئة بطلوع الشمس، وثماني عشرة درجة ليل؛ لعدم وجود الشمس هناك، فإذا أخذت نصف الثماني عشرة درجة، فهي تسعة، وهذا هو وسط وكبد السماء، وفيء الزوال يختلف صيفاً وشتاء، بل ويختلف على درجات الأرض، فهو على مستوى خط الاستواء يختلف على مدار السرطان أو على الجهة الشمالية أو الجهة القطبية، حتى إنه في منتهى تكوير الأرض في السويد والنرويج من جهة القطب المتجمد الشمالي قد يختفي الظل، وقد يبقى النهار عدة أشهر، والليل عدة أشهر، وقال لي إنسان: جلسنا هناك على قمة ونحن ننظر الشمس، ففي حوالى دقيقة واحدة اختفت الشمس من جهة، وظهرت من الجهة الثانية حالاً، ولم يوجد هناك فترة طويلة!! إذاً: تختلف مواقيت زوال الشمس عن كبد السماء بالنسبة لسقوط ظل أشعتها إلى الأرض، فعند الزوال في وقت اعتدال الليل والنهار تكون الأشعة متعامدة من السماء إلى الأرض على زاوية قائمة، وفي بعض الفصول في الشتاء أو في الربيع أو في الخريف، يكون ظل الزوال قدماً أو قدمين إلى ستة أقدام بقدم الإنسان. ونحن لا نستطيع أن نحدد مكان الشمس في كبد السماء في نقطة الصفر، ولا نعلم أول زوالها وتحولها إلى الغرب؛ لأن المسافة بعيدة جداً، ولكن يكفي أن ننظر إلى ظل الأشياء في الأرض، فما دام الظل إلى جهة الغرب فهي لا زالت في الربع الذي من جهة المشرق، وإذا تحول الظل إلى المشرق فقد زالت الشمس، ويسمى الظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع، فنعرف بذلك أن الشمس زالت عن كبد السماء. وقوله: (إذا زالت الشمس) ؛ لأن نقطة الزوال بالذات لا تصح فيها الصلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت قيام الشمس في قائم الظهيرة، وهو وقت الاستواء قبيل الزوال، وجاء في الحديث: (ثلاث ساعات، نهينا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حينما تطلع الشمس من المشرق حتى يكتمل طلوعها وترتفع، وحينما يقوم قائم الظهيرة -أي: تكون الشمس في كبد السماء بالذات- وحينما تضيَّف الشمس للغروب، حتى يكتمل غياب قرص الشمس) ، فهذه الأوقات الثلاثة نهي عن الصلاة فيها، وعن قبر الموتى فيها، لكن يجوز قضاء الفائتة فيها. وقد جاء في الحديث: (من أدرك من العصر ركعة فقد أدرك العصر) ، يعني: أدرك الوقت، وإلا فإنه سيصلي الركعات الثلاث الباقية بعد غياب القرص، فسيغيب القرص وهو يصلي، وهذا مستثنى من النهي عن الصلاة عند غروب الشمس أو عند شروقها، فقد جاء في الحديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح) ، وهذه هي الأوقات الاضطرارية. والأوقات الاضطرارية تكون لإنسان نسي الصلاة، أو نام عن الصلاة، أو لصبي بلغ، أو كافر أسلم، أو مجنون أفاق، أو امرأة كانت حائضاً فطهرت، فهؤلاء من صلى منهم حينذاك وكان الوقت مثلاً قبل شروق الشمس بما يسع ركعة، فتوضأ واستعد للصلاة، ولم يبق على طلوع الشمس إلا ما يسع ركعة، فيصلي تلك الركعة ويكون قد أدرك الصبح في وقتها، وكذلك الحائض إذا طهرت قبل أن تشرق الشمس بما يسع ركعة، فعليها أن تصلي الصبح، وكذلك الصبي إذا بلغ في هذا الوقت، والمجنون إذا أفاق في هذا الوقت، والكافر إذا أسلم في هذا الوقت؛ فإننا نكلفه بالصلاة؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت، وهو الجزء الضروري لأصحاب الأعذار. والمؤلف هنا ذكر أحاديث المواقيت العامة لعامة الناس، أما أحاديث أهل الأعذار فسيأتي الإشارة إليها كما في الحديث: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك الظهر) . وكذلك يستثنى من كراهة الصلاة في وقت الاستواء قضاء الفائتة، وسيأتي التنبيه على الأوقات المنهي عن الصلاة فيها إن شاء الله.

وقت صلاة الظهر

وقت صلاة الظهر قوله رحمه الله: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر وقت العصر) . أي: فإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، وقوله: (وكان ظل الرجل كطوله) : الرجل مجرد مثل، والمراد أن يكون ظل كل شيء مثله، فإذا غرست عوداً أو غرست عصاً أو كان هناك بيت، وكان الظل بمقدارها؛ فحينئذ دخل وقت الظهر. وبهذه المناسبة يقولون في بعض الرياضيات: هذه المنارة كيف تعرف طولها؟ يقولون: تستطيع أن تعرف طولها بعصا طولها متر واحد، فإذا جئت بين الظهر والعصر وغرست العصا، وأخذت مقياسها من الأرض إلى أعلاها، وتأخذ امتداد ظلها وطولها مثلاً متر، وطول ظلها على الأرض مترين مثلاً، فتكون نسبة الظل إلى الشاخص اثنين إلى واحد، فتعرف بذلك طول المنارة أو عمود الكهرباء أو النخلة الطويلة أو أي جرم ممتد، فتأخذ ظله، فلو كان مثلاً مائة متر، وأنت عندك العصا وقد عرفت مقدار ارتفاعها، وكان ظلها ضعفها، فإذا كان ظل العصا ضعفها فكذلك النخلة أو المنارة يكون ظلها ضعفها، فإذا وجدت الظل مائتي متر فيكون ارتفاعها مائة متر، أو وجدت ظلها مائة متر فيكون ارتفاعها خمسين متراً فقط، وهكذا.

وقت صلاة العصر

وقت صلاة العصر قوله: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) . أي: وقت العصر بعد أن يصير ظل الإنسان مثله ما لم تصفر الشمس، وهذا الوقت الاختياري، وهو وقت الفضيلة، مع أن وقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع ركعة، وهو الوقت الاضطراري. فالعصر له وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت اضطرار، فالوقت الاختياري بعد أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال. ومعنى قول الفقهاء (بعد ظل الزوال) : أن للشيء ظل وقت الاستواء، ويكون قدره قدماً أو قدمين، وهذا حينما تكون الشمس في كبد السماء؛ لأن أشعة الشمس في فصل الشتاء لا تنزل متعامدة على الأرض، بل تنزل بزاوية منحرفة، وهذا الانحراف يجعل للشيء ظلاً عندما تكون الشمس في كبد السماء، ولكن في شدة الصيف، وعندما يستوي الليل والنهار؛ تكون أشعة الشمس متعامدة، فتنزل على رأس الشاخص فلا يكون له ظل عند الاستواء. فهناك ظل للزوال يختلف باختلاف الفصول وباختلاف مواقع الأرض من العالم، فننظر قدر ظل الزوال حينما زالت الشمس، فنحسب الظل الموجود وقت الزوال، ثم نضيفه إلى الظل الموجود وقت قياس الظل، فإذا صار ظل كل شيء مثله عدا ظل الزوال، فيكون هذا آخر وقت الظهر. إذاً: حينما تكون الشمس في كبد السماء فإما أن يكون للشيء ظل في الأرض موجود بالفعل، وذلك لعدم تعامد أشعة الشمس على الأرض، وإما ألا يكون له ظل، وآخر وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء مثله، فإن كان يوجد ظل للزوال أضيف إلى ظل الشاخص، وإن لم يكن له ظل عند الاستواء فنحسب ظله فقط. يقول: (ما لم تصفر الشمس) فهذا آخر وقت العصر الفضيل، ولماذا تكون الشمس مصفرة عند الشروق، وعند الغروب تكون محمرة؟ يقولون: في أول خروجها تختلط أشعتها بالرطوبة التي كانت في الليل، فتكوِّن هذه الرطوبة مع أشعة الشمس البيضاء هذه الإضاءة، هكذا يعللون، ولا ندري بحقيقة ذلك، فإذا أخذت الشمس ترتفع ذهبت رطوبة الجو، واكتمل ضوء الشمس وشعاعها، فصارت بيضاء نقية. إذاً: وقت العصر من نهاية وقت الظهر ما لم تصفر الشمس، وهذا هو الوقت الفضيل الذي ينبغي ألا تؤخر العصر عنه إلا لضرورة، وبعد اصفرارها يدخل وقت الاضطرار، والذي يصلي العصر بعد اصفرارها يصليها أداء باتفاق الجميع، فوقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع ركعة، ولكن الأفضل أن تصلي في الوقت الفضيل، وهو ما لم تصفر الشمس وتتغير، وقد جاء في الحديث: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) ، فالرجل يصلي العصر، ويدرك وقتها، ولما فاته من وقتها الفضيل أفضل من أهله وماله. إذاً: وقت الفضيلة للعصر، من بعد خروج وقت الظهر إلى أن تبدأ أشعة الشمس بالاصفرار، وما بعد الاصفرار فهو وقت ضروري.

وقت صلاة المغرب

وقت صلاة المغرب قوله: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) : العصر ينتهي وقته بغروب الشمس، ويقولون: كل صلاة يبدأ وقتها بنهاية ما قبلها إلا الظهر؛ لأن ما قبلها وهو الفجر ينتهي بطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس إلى زوال الشمس ليس من وقت الصبح ولا من وقت الظهر، ولهذا يقولون: إن أول الأوقات وقت الظهر، وأول ما نزل جبريل عليه السلام ليبين للنبي صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة إنما كان في صلاة الظهر، ويقولون: إن آدم أول ما نزل إلى الأرض صلى صلاة الظهر، فيقولون: إن الظهر هي أول التوقيت، فأول الأوقات الظهر، يليها العصر، ثم في نهياتها يليها المغرب، ثم في نهايتها يليها العشاء، ثم في نهايته يليه الصبح، وما بين الصبح والظهر فترة طويلة بين الوقتين. ونذكر حديث جبريل عليه السلام عندما بيَّن للرسول صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وذلك بعد ليلة الإسراء والمعراج إذ فرضت الصلاة، وفرضها الله على رسوله كفاحاً، ونعلم بالقصة عندما خففها من خمسين إلى خمس، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، لم يأته جبريل لصلاة الصبح، ولكن جاءه لصلاة الظهر، وجاءه في يومين متواليين، فصلى به في اليوم الأول الصلوات الخمس في أول وقتها، ثم من الغد صلى به الصلوات الخمس في آخر وقتها إلا المغرب فإنه صلاها في اليومين في وقت واحد، ولذا كان وقتها ضيقاً عند المالكية كما سيأتي في بيان وقتها. وثبت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عن وقت الصلاة، فقال: (صل معنا، فصلى من الغد الصلوات الخمس في أول أوقاتها، ومن بعد الغد صلى الصلوات الخمس في آخر وقتها، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: ما بين هذين وقت) . وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصلاة كتاب موقوت، وأشار القرآن إلى أوقات الصلاة كما في قوله تعالى: {أًقِمِ الصَلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، وجاءت السنة وبيّنت وفصلت الأوقات، وبيّن صلى الله عليه وسلم أول الوقت وآخره، وأخبر أن أفضل الأعمال إيمان بالله ثم الصلاة في أول وقتها. فالمغرب يمتد وقته ما لم يغب الشفق، ولكن الأفضل في المغرب أن يبادر به، وعند المالكية أن وقت المغرب لا يمتد إلى الشفق إلا عند الضرورة، وعندهم أن وقتها يخرج بالأذان والإقامة وصلاة ركعتين وصلاة الفريضة وصلاة ركعتين، وبهذا ينتهي وقت المغرب الاختياري؛ لأن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين في وقت واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم لما بيّن للأعرابي الأوقات صلى المغرب أيضاً في وقت واحد، وفي بعض الروايات أنه أخره إلى غياب الشفق وقال: (ما بين هذين وقت) . إذاً: السنة بينت أوقات الصلاة، وفي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (والمغرب ما لم يغب الشفق) ، والشفق عند الجمهور أنه الحمرة التي تكون عند غروب الشمس، وهي كالصفرة التي تكون قبيل طلوع الشمس، وكلها من آثار أشعة الشمس، فالاصفرار قبل طلوع الشمس، فأشعة الشمس تسبق إلينا قبل أن تبرز الشمس، والشفق هو: بقايا أشعة الشمس بعد أن غربت الشمس. إذاً: الشفق الحمرة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الشفق هو: البياض، والبياض يأتي بعد الحمرة، وبعض المفسرين والعلماء قال: لقد رقبت الشفق الأبيض، فإذا به قد يبقى إلى نصف الليل. إذاً: الشفق هو الحمرة، وسيأتي بيان دليله.

وقت صلاة العشاء

وقت صلاة العشاء قوله: (ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط) : وقت صلاة العشاء يبتدئ من غياب الشفق، ولكن الأفضل تأخيرها مثل الظهر في شدة الحر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) . وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة في أول وقتها، كما جاء في السنة إلا الظهر في شدة الحر فإنه يبرد بها، وإلا العشاء فالأفضل في وقتها التأخير، ودليله حديث أنه أخرها ذات ليلة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أخر العشاء يوماً ثم خرج وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا رآهم اجتمعوا عجل بالعشاء، وإذا رآهم تأخروا أخرها، لينتظر المتأخرين ليدركوا الصلاة معه. إذاً: وقت العشاء يبدأ من ذهاب الشفق الأحمر، ولكن الأفضل تأخيرها كما جاء في الحديث: (إلى نصف الليل الأوسط) . وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أخّر العشاء يوماً، وأعتم بها، حتى كانت تخفق رءوسهم من النعاس، ثم خرجوا صلوا معه ولم يتوضئوا كما في حديث ابن عباس، وتقدم إيراده في نواقض الوضوء، في مسألة النوم هل هو ناقض أو مظنة للنقض. فهم كانوا يجلسون في المسجد بعد المغرب، وينتظرون العشاء، وكان يطول الوقت بهم حتى تخفق رءوسهم من النعاس، وفرق بين النعاس وبين النوم، فخرج عليهم وهم في مجالسهم فقال: (ليس على وجه الأرض غيركم يعبد الله، وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فهو عليه الصلاة والسلام أخر العشاء أحياناً لبيان الأفضلية، وهديه عدم التأخير الكثير للعشاء، وهذا هو الحكم العام.

وقت صلاة الصبح

وقت صلاة الصبح قوله: (ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر مالم تطلع الشمس) . وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والفجر فجران كما قال صلى الله علي وسلم: (الفجر فجران: فجر يلوح في الأفق كذنب السرحان -أي: مرتفع عمودي مثل ذنب الذئب- وفجر ينتشر -كجناحي الطير- يمتد في الأفق) ، فالفجر الأول لا يُحل الصلاة، ولا يُحرم الطعام، وهو لحظات ويختفي، والفجر الثاني هو الذي يحل الصلاة، ويحرم الطعام على الصائم. قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره: الفجر الأول فيه آية من أعظم آيات القدرة الإلهية، وذلك أن الفجر الثاني مسبب عن اقتراب الشمس، فسبقت أشعتها حتى انفجر ضوء الفجر من ظلام الليل، فطلوع الفجر الصادق هو نهاية الليل، وهو أثر من آثار حركة الشمس وقربها منا، والشفق هو: بقايا حركة الشمس وذهابها عنا، فالفجر الثاني والشفق أثران من آثار الشمس، وهذا معقول في السببية، لكن الفجر الأول نور يمتد في الأفق، ومن أين يأتي هذا النور؟ هل هناك كوكب أضاء تلك اللحظة حتى ظهر هذا الفجر، ثم ذهب ذلك الكوكب؟ لا يوجد! وهل هو من القمر؟ لا يوجد قمر! وهل هو أثر من الشمس؟ لكن الشمس ما زالت بعيدة! قال: وهذا دليل على قدرة المولى سبحانه بأن يوجد المسبب بدون سبب، وليس السبب إلا أمراً معقولاً بالنسبة إلينا، والله سبحانه قادر على أن يوجد الشيء بلا أسباب، بل بمحض الإرادة والقدرة الإلهية، فليس هناك شمس، وهذا أثرها! ونحن نقرأ في أحوال الجنة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35-37] ، فالحور العين اللاتي في الجنة خلقهن الله من غير أبوين، فهن لسن من ذرية آدم وحواء، وإنما أنشأهن الله إنشاء من غير أب ولا أم. البشر من ذرية أبينا آدم وأمنا حواء كما قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، وخلق الله عيسى من مريم من غير أب، فهناك أسباب ومسببات، لكن الحور العين في الجنة خلقت بلا أب ولا أم، والطيور التي في الجنة ليست من نسل طيور، وكذلك اللحوم الموجودة، والفواكه الموجودة، لا نقول: إن الفواكه من غرس في الجنة، وإن الطيور الموجودة هناك يكون لها بيض وعشش ثم تفقس البيض عن طيور، بل ينشئها الله سبحانه وتعالى بدون أن يتوقف وجودها على سبب مادي. فكذلك الفجر الأول هو دليل على قدرة المولى سبحانه، ودليل على أنه قادر أن يوجد الشيء بدون مسببات مادية، وأما الفجر الصادق الذي به تحل الصلاة، وبه يحرم الأكل والشرب على الصائم. فيكون عند انتشار الضوء في آخر الليل، وذلك حين يتبين الخيط الأبيض وهو الفجر، من الخيط الأسود وهو الليل. قال المؤلف: [وله من حديث بريدة في العصر: (والشمس بيضاء نقية) ] . في الحديث الأول قال: (ما لم تصفر الشمس) ، وهنا ذكر مفهومه وهو: (والشمس بيضاء نقية) ، أي: ما دخلتها الصفرة ولا الحمرة. قال المؤلف: [ومن حديث أبي موسى: والشمس مرتفعة] . أي: لم تتضيف للغروب، وقد ذكرنا أن دائرة الشمس من شروقها إلى غروبها ثماني عشرة درجة، ووقت الزوال عند الدرجة التاسعة من الثماني عشرة، وما بين كبد السماء إلى الغروب تسع درجات، فحينما تزول الشمس من كبد السماء إلى جهة الغروب تكون أمامها تسع درجات، وبعد أربع درجات ونصف تكون الشمس في نصف ربع الدائرة العلوي، فوقت العصر حين تكون الشمس في نصف الربع الأعلى، وحينئذ تكون الشمس بيضاء نقية؛ لأنها لم تقترب جداً من جهة الغروب، وعندما تقترب من جهة الغروب تحمر أو تصفر.

أفضل أوقات العصر والعشاء

أفضل أوقات العصر والعشاء

صلاة العصر في أول وقتها

صلاة العصر في أول وقتها قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية) ] . قال الراوي: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بالمدينة، فينقلب أحدنا إلى رحله، وبعضهم كان رحله في العوالي، مثل أهل قباء، ومن عتبة مسجد قباء إلى باب السلام ثلاثة كيلو كما هو معروف، فيمشي هذه المسافة والشمس حية، بمعنى: لم يبدأ عليها التغير؛ لأن التغير بداية موتها أي: بداية غروبها، فمعنى قوله: والشمس حية، أي: على حقيقتها وسلامتها من التغير، قياساً أو تشبيهاً بالتغير الذي يطرأ على الإنسان بالمرض، ويؤدي به إلى الموت، والشمس حية أي: نقية قوية في ضوئها وحرارتها.

استحباب تأخير العشاء

استحباب تأخير العشاء قال: [ (وكان يستحب أن يؤخر من العشاء) ] . أي: وكان صلى الله عليه وسلم يستحب -وليس بواجب- أن يؤخر من العشاء، ولكن إذا كان المسجد له جماعة من المصلين ينتابونه من أماكن مختلفة، فينبغي على الإمام ألا يشق عليهم، إلا إذا كانوا أهل حي معين، وكانوا أفراداً مخصوصين، مثل أن يكونوا في بادية أو في منطقة أهلها قد اتفقوا فيما بينهم وتراضوا على أن يؤخروا العشاء؛ فلا مانع من ذلك؛ لأنه من حقهم، وقد رضوا بأن تؤخر العشاء. ولكن المساجد العامة مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن، فإنه ينتابه الناس من الآفاق، وربما تأتيه النسوة وقد تركن الأطفال في البيوت، ووراءهن أعمال كثيرة من تحضير العشاء وغير ذلك، فلا ينبغي تأخيرها حينئذٍ، إنما يستحب تأخيرها لمن كان وحده ولا يتعلق به حق الآخر، أو لمن كانوا جماعة وتواطئوا على ذلك، فلا مانع من أن يؤخروها، إذا حصل الاتفاق بينهم. أما المساجد العامة التي يأتيها عامة الناس وخواصهم، ويأتيها النساء والرجال، فلا ينبغي تأخيرها، بل تقديمها أول الوقت أنسب وأرفق لمصلحة العباد.

كراهة النوم قبل العشاء والحديث بعدها

كراهة النوم قبل العشاء والحديث بعدها قال: [ (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) ] . كان يكره النوم قبلها؛ أي: ما بين المغرب والعشاء، ويقولون: الصلاة في هذا الوقت هي صلاة الأوابين، وبعضهم يقول: صلاة الأوابين هي صلاة الضحى حين ترمض الفصال، أي: يشتد حر الرمل على الفصيل الصغير، فلا يستطيع أن يتحملها فيبرك. فيكره النوم قبل العشاء؛ لأنه قد يمتد به النوم إلى أن يطلع الفجر فتفوته العشاء، أو ينتبه في ثلث الليل الأخير، وهذا تأخير عن وقتها الفضيل، فيصليها في وقت الضرورة. وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الحديث بعدها يطيل السهر، وإطالة السهر تقلل النوم، وإذا حصل ذلك استمر به النوم حتى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، فدفعاً للمضرة كره النوم قبلها حفاظاً على العشاء، والحديث بعدها حفاظاً على الصبح حتى لا يغلبه النوم. وعلى أن يرتب وقته بالليل، ليضمن حفظ صلاته، فلو كان الإنسان متعباً مرهقاً ولم يجد فرصة للنوم إلا بعد المغرب، وأراد أن يغفو غفوة أو يستلقي أو يستريح، فعليه أن ينبه أهله أن يوقظوه عند أذان العشاء، وبالنسبة للكلام بعد العشاء، يقولون إنه لا ينبغي الكلام بعد العشاء إلا مع الضيف، والزوج مع زوجه، وطالب العلم في مدارسته، وأشياء معينة محدودة، وما عدا ذلك فيكره حفاظاً على الفجر.

مشروعية اتخاذ منبه ونحوه للإيقاظ للصلاة

مشروعية اتخاذ منبه ونحوه للإيقاظ للصلاة يجب أن ننتبه إلى ما نحن عليه اليوم، خصوصاً مع هذه الأجهزة المخترعة الجديدة التي لم تكن من قبل، وتستغرق منا أكثر من نصف الليل، أو إلى ثلث الليل، والناس حولها وهي تشغلهم وتلهيهم، فإذا ذهب أحدهم لينام لا يوقظه إلا حر الشمس، فهذا تفريط منه، لكن إذا اضطر الإنسان للسهر كأن جاءت مناسبة أو كان عنده مشكلة سهر لها، أو عنده ضيوف أو كان عنده مريض سهر عليه؛ فينبغي أن يعمل الاحتياط من أجل صلاة الصبح، مثل الساعات المنبهة التي فيها الجرس أو ساعة التلفون أو أي وسيلة من الوسائل التي توقظه لصلاة الصبح. وعمل هذه الاحتياطات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رجع مرة من بعض الغزوات، وعرس بآخر الليل في بعض الأودية، وقال: (من يكلأ لنا الصبح؟) فقال بلال: أنا يا رسول الله! والمعنى: من يحرسه ويوقظنا حينما يرى الفجر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم بأنهم في عودة من غزوة بعد سفر طويل، والتعب موجود، فيخشى أن يغلب عليهم النوم ولا يستيقظون من شدة التعب حتى يطلع الفجر ويخرج الوقت، فاتخذ وسيلة لحفظ الوقت بحسب ظروفهم. (فجلس بلال وقام يصلي ما شاء الله، ثم أناخ راحلته، وأسند ظهره عليها ووجهه إلى المشرق ليرى الفجر، فما كان منه إلا أن نام، وناموا جميعاً، وما أيقظهم إلا حر الشمس، ففزعوا وكانوا يتحاشون أن يوقظوا رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كان نائماً، مخافة أن يكون في حالة من تلقي الوحي، لكن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ يكبر بصوت مرتفع حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أن الشمس قد ارتفعت قال: اركبوا، حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم نزلوا فتوضئو وأمر بلالاً فنادى للصلاة ثم أقام فصلى بهم، ولما رأى استياء الناس قال: إن بهذا الوادي شيطاناً، فمن نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها، ثم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن بلالاً قام يصلي من الليل ما شاء الله ثم جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، ثم قال لـ بلال: أين الصبح يا بلال؟! قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم -أي: أنا واحد مثلكم- ثم قال: ماذا جرى عليك؟ فذكر له مثل ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله) . الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم مظنة أن يغلبهم النوم، لما لحقهم من مشقة السفر وعودتهم من الغزو وتأخرهم في النوم؛ أوكل من يوقظهم لصلاة الفجر، ولكن الله أراد شيئاً آخر؛ أراد أن يوقع ذلك بهم في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لنا ماذا نفعل إن وقع لنا مثل ذلك، فهل نصليها بعد وقتها؟ وهل نجتاز ذلك المكان لكونه فيه شيطان؟ إذاً: الشياطين في بيوت الناس كلهم. قال ابن عبد البر: الإخبار بأن الوادي فيه شيطان أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أخبره بذلك، أما نحن فقد يكون الشيطان معنا ولا ندري، وليس بلازم على من وقع عليه مثل ذلك في مكان أن يخرج منه، بل يصلي الصلاة حينما ذكرها أو قام عنها.

وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمدا

وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً هذا، وقد أطال ابن عبد البر البحث في الاستذكار في حوالى عشر صفحات في إقامة الدليل على أنه من كان في ذمته صلوات فائتة عليه، فيجب عليه إلزام أن يؤديها، وشنّع على ابن حزم في مخالفته في هذا، وقال: قد خالف مذهبه ومذهب شيخه داود، فإن من علماء الظاهرية من ذكر أن من اشتغل بأمر ففاتته الصلاة فعليه قضاؤها، وكذلك الحائض في بعض الحالات، وذكر حالات أوجب على أصحابها أن يقضوا ما فاتهم. قال: وهؤلاء تركوها عمداً، فعليهم القضاء، فقول ابن حزم: لا قضاء على من تركها عمداً مخالف لإجماع المسلمين، وقد خالف حتى مذهب شيخه بالذات، فلم يوافقه أي أحد، ثم قال: وادعى أن بعض السلف يوافقه على رأيه، وهذا خطأ، ولا يصح عن أحد من المسلمين ذلك، لا من الصحابة ولا من التابعين، فلا نعلم أحداً منهم قال: إن من ترك الصلاة عمداً لا يقضيها. وقد ذكر غير ابن عبد البر عن ابن عباس أنه سئل عمن ترك صلوات هل يقضيها أم لا؟ فقال: سبحان الله! النائم والناسي -وهما معذوران- يطالبان بقضائها، وهذا العاصي الآثم لا يطالب بالقضاء! أي: فالعقل لا يستسيغ ذلك. والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب المواقيت [2]

كتاب الصلاة - باب المواقيت [2] حددت الشريعة أوقات الصلوات، وكل الصلوات يستحب المبادرة بأدائها في أول وقتها إلا صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء إذا انتفت المشقة في تأخيرها، ويستحب إطالة القراءة في صلاة الفجر والتغليس بها، ويتعلق بما ذكر مناقشات وخلافات فصلها العلماء، ورجحوا بينها.

حديث رافع بن خديج بتعجيل وقت المغرب

حديث رافع بن خديج بتعجيل وقت المغرب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليُبصر مواقع نبله] . الله أكبر! هذه الرياضة، رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه من الشباب المشهورين بالرماية، وفي بعض الغزوات رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنه وأجاز غيره، فذهب إلى أبيه وبكى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز فلاناً ومنعني، وإني -والله- أصرعه، فتصارعا فصرعه، فأجازه، وكان قد قيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام: إن رافعاً الذي رددته رامٍ، فجيء به واختبر، فأجازه؛ لأنه رام، أي: متمرن على الرماية قبل أن يبلغ السن الذي يجيز له أن يشارك في القتال في سبيل الله. قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا -من الصلاة- وإنه ليبصر مواقع نبله) ، النبل هي السهام التي توضع في القوس ويرمى بها، وأين كان هذا؟ وهل كانوا يقاتلون؟ وهل كان حينئذٍ قتال في المدينة؟ وهل وقت القتال تنظر مواقع النبل؟ لا، فالنبل تصوب إلى العدو وتذهب، ولكنهم كانوا يتدربون. وتعرفون مسجد السبق في الباب الشامي، وهو الآن عند موقف النقل الجماعي قبل ثنية الوداع، فهذا المسجد بني في موضع السبق.

مشروعية السبق برمي النبل

مشروعية السبق برمي النبل والسبق عند العلماء هو المسابقة، ويبوب الفقهاء في مصنفاتهم (باب السبق والمناضلة) ، والسبق يكون بالخيل، والمناضلة تكون بالسهام، فكانوا يخرجون -ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وينصبون الهدف، ويتبارون أيهم يصيب أكثر. وتكون المسابقة بين شخص مقابل شخص، أو فريق مع فريق، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بفريقين متناضلين منهم بنو بياضة، فقال لبني بياضة: أنا معكم، فأمسك الفريق الثاني أن يرمي شيئاً، فقال: ما بالكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نناضل قوماً معهم رسول الله؟ فقال: ارموا وأنا معكم جميعاً) . وطريقة المناضلة أن يجعلوا هدفين: هدفاً لهذا الفريق، وهدفاً لهذا الفريق، ويكونان متساويين في المسافة وفي الارتفاع وفي المقدار، ثم يحدد الرمي في عشرة أسهم مثلاً، فمن يصب من العشرة أكثر من خصمه فهو السابق، فبعضهم يصيب العشرة كاملة، أو تسعة أو ثمانية، وبقدر ما يتفوق أحد الفريقين يكون له السبق. فكانوا يخرجون إلى ذلك المكان بعد العصر ويتسابقون -ويشترط العلماء لهذا شروطاً مذكورة في كتب الفقه- فكانوا يؤدون هذه الرياضة والرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً معهم، وأحياناً ليس معهم، فإذا أنهوا السبق وحان موعد صلاة المغرب صلوا، فإذا انصرفوا من صلاتهم يبصر أحدهم مواقع نبله، وذلك بعد الانصراف من صلاة المغرب مع بقاء ضوء النهار، قبل دخول شدة الظلام، فكان الواحد منهم ينظر موقع النبل، هل أصاب الهدف أو وقع يميناً أو يساراً. وهذا يدل على أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، فحديث رافع يبين لنا أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، حتى إنهم بعد أن ينصرفوا من صلاتها ليتمكن الواحد منهم من أن يرى مواقع النبل. وهذا الحديث يدل على مشروعية هذه الرياضة وهذه المسابقة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وبين الخيل المضمرة إلى الحيفاء وراء بئر عثمان، والسباق على الخيل والمناضلة على السهام من أسباب الاستعداد للجهاد، فكان صلى الله عليه وسلم يمرن الصحابة على كل ما يساعدهم على الجهاد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد صارع وحمل الأثقال وناضل بالسهام وسابق بالخيل.

مشروعية تعلم المصارعة وإتقان رياضة الدفاع عن النفس

مشروعية تعلم المصارعة وإتقان رياضة الدفاع عن النفس أما المصارعة فكانت مع ركانة قبل الهجرة، وكان ركانة لا يصرعه أحد، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا تسلم يا ركانة؟! قال: يا محمد! صارعني فإن غلبتني فلك شاة! فصارعه رسول الله عليه الصلاة والسلام فصرعه، فقال: واعجبا! والله ما أحد قبلك ألصق جنبي بالأرض، هذه شاة، أتعود يا محمد؟! قال: نعم، فصرعه الثانية، فأعطاه الشاة الثانية، قال: الآن الثالثة وهي النهاية، فعادا المرة الثالثة فصرعه فأخذ ثلاث شياه. فقال ركانة: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهل الغنم في ثلاث شياه في وقت واحد؟ إن قلت: واحدة أخذها الذئب، وواحدة هربت فلم أدركها، فماذا أقول في الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ركانة! لا أجمع عليك غبنين: غبن الانهزام وغبن الشياه، خذ شياهك فهي لك. فتعجب من شجاعته وقوته ثم من كرمه صلى الله عليه وسلم، قال: أتعجب من هذا يا ركانة؟! قال: إي والله يا محمد! قال: ألا أريك ما هو أعجب من ذلك؟ قال: بلى، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شجرة هناك فأشار إليها أن هلم إليّ، فجاءت تخط الأرض كالمحراث، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: عودي حيث كنت! فرجعت كما كانت؛ فأسلم ركانة) . أعتقد أن مهندسي الزراعة في العالم كله في الأراضي الباردة والحارة، لا يستطيعون أبداً أن يدركوا أو يكيفوا كيف انجذبت جذورها! وكيف جاءت تخط في أرض يابسة! ثم رجعت إلى مكانها وهي على حالها! كيف حصل هذا؟! هذا أمر غريب على العقل، ولكن المعجزة فوق إدراك العقل وتصوره. إذاً: صارع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصارعة من الإعداد للجهاد، فقد يكون القتال بالسلاح الأبيض، ومن شارع إلى شارع، ومن دار إلى دار، فيضطر المقاتل عندها إلى القتال باليد، وإن كان القتال الآن بالأسلحة الذرية وبالاقتصاد وبأشياء كثيرة؛ لكن قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَة} [الأنفال:60] ، يشمل كل قوة، ولا حد للاستطاعة ألبتة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على شباب يتبارون في حمل صخرة، فبعضهم يقدر على رفعها، وبعضهم يعجز، فقال: (أريكم؟ وحملها بين يديه ورفعها ووضعها) ، وهذا حمل الأثقال. وكذلك سابق عائشة فسبقته مرة وسبقها مرة، وكان مرة على ناقته القصواء فسبقها أعرابي فقال: (حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) . يهمنا أن الصحابة كانوا يخرجون من صلاة المغرب، وينظرون مواقع نبلهم، وعند العرب أن من اتصف بثلاث صفات سمي كاملاً وهي: أن يكتب بالقلم، ويجيد الرمي، ويحسن السباحة، فمن اجتمعت فيه تلك الخصال الثلاث قالوا: إنه من الكمل، أي: كملت صفة الرجولة فيه.

حكم تأخير صلاة العشاء إذا انتفت المشقة

حكم تأخير صلاة العشاء إذا انتفت المشقة قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) رواه مسلم] . قول عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) ، أعتم: أي: دخل في العتمة مثل أصبح، ومثل أمسى، أي: دخل في الصباح ودخل في المساء، والعتمة هي: ظلام الليل. وقولها: (ذات ليلة) أي: أن ذلك لم يكن مما يداوم عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ليلة من الليالي أعتم بالعشاء حتى ذهب عامة الليل، وبعضهم يقدر ذلك بنصف الليل، وبعضهم بثلثي الليل، إلى غير ذلك من التقديرات. ثم خرج على أصحابه، وقد كانوا ينتظرون خروجه ليصلي بهم صلاة العشاء، وفي رواية ابن عباس: حتى كانت تخفق رءوسنا بالنوم، فكانوا جالسين ينتظرون الصلاة، ومع طول الوقت، وعدم تعودهم على السهر؛ كانت تخفق رءوسهم بالنعاس، وهو من مقدمات النوم، ولما خرج عليهم صلوات الله وسلامه عليه وهم على تلك الحالة قال لهم: (إنه لوقتها) ، أي: هذا الوقت الذي جئتكم فيه هو وقت العشاء (لولا أن أشق على أمتي) .

مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة أمته

مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة أمته وقد ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في الشيء ويريده ولكنه يتركه مراعاة لمصلحة الأمة، سواء كان خوفاً من مغبة ذلك وما يترتب عليه، أو كان رفعاً للحرج وللمشقة، ومن ذلك قوله في السواك: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، فالأمر يقتضي الوجوب والإلزام، فلم يأمرهم أمر إيجاب وإلزام ولكن أمر توجيه وإرشاد. وكذلك من شفقته بالأمة عليه الصلاة والسلام أنه لما صلى بعض الناس بصلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولم يعلم بهم، وفي الليلة الثانية والثالثة كثر الناس حتى امتلأ المسجد بهم، فصلوا العشاء ولم يخرجوا، وبقوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج في الليالي السابقة ليصلي فيصلون بصلاته قيام الليل، فلما وجد المسجد مليئاً بالناس سأل عائشة فقال: (يا عائشة! ما بال الناس مجتمعون؟! ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى صلوها، ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى بصلاتك من قبلهم في الليالي الماضية، فقال: ارفعي حصيرتي، ولم يخرج تلك الليلة، ولما استبطئوا خروجه أخذوا الحصباء يرمون بها باب البيت -لينبهوه صلوات الله وسلامه عليه للخروج إليهم وكأنهم يقولون: نحن في انتظارك- فلم يخرج إلا في صلاة الفجر وقال: أما إنه لم يخف عليّ صنيعكم البارحة -أي: أنا بحمد الله لم أبت غافلاً ولم أكن نائماً، بل كنت أعلم بوجودكم- ولكن خشيت أن أخرج إليكم فأصلي بكم فتكتب عليكم فلا تستطيعوها) . فكان عدم خروجه إليهم مع أن هذا من في فعل الخير، حيث يصلون في مسجد رسول الله مقتدين برسول الله في شهر مبارك، ولكن لرأفة النبي بالأمة وشفقته عليهم خشي أن يخرج فيكتبها الله عليهم، وتصبح واجبة عليهم في الليل، كما أن الصيام واجب عليهم في النهار، فتلحقهم بذلك مشقة، وإذا لحقتهم مشقة فما كل الناس يستطيع أن يفعل ذلك. ولما عرج به صلى الله عليه وسلم وفرض الله عليه خمسين صلاة، مر بموسى عليه السلام وهو في السماء السادسة، فقال: (ماذا فرض الله عليك؟ قال: فرض عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فالتفت إلى جبريل يستشيره، فقال: نعم، فرجع به جبريل إلى ربه، وسأله التخفيف، فخفف عنه خمساً، ونزل إلى موسى، ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، وموسى يقول له: سله التخفيف، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك -وهم أشد من أمتك أبداناً وقوة- بأقل من ذلك، فلم يستطيعوا لهذا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فحينما انتهت إلى خمس، قال: لقد استحييت من كثرة مراجعتي ربي، فقال المولى له: يا محمد! هي خمس بالعدد وخمسون في الأجر) ؛ أي: لأن الحسنة بعشر أمثالها. الشاهد أن موسى نصحه وقال له: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من هذا فلم يستطيعوا، إذاً: التخفيف على الأمة هو الأولى، وكان من سنته ومنهجه صلى الله عليه وسلم -كما تقول أم المؤمنين عائشة - أنه ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي الحديث: (يسروا ولا تعسروا) .

إعتام النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء ليلة لبيان الجواز والفضيلة

إعتام النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء ليلة لبيان الجواز والفضيلة أعتم بهم ذات ليلة، وليس كل ليلة، أو كل أسبوع مرة، أو كل شهر مرة أو مرتين، بل ليلة ليبين الأفضل والجواز، وهذا في حق الأفراد لا في حق أئمة المساجد؛ لأن المساجد يأتي إليها أجناس الناس المختلفة قوة وضعفاً، كما في الحديث: (من أمّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) . إذاً: أعتم ذات ليلة ليبين الفضيلة، ولم يُعتم بعدها، واستقر الأمر على أن يصلي العشاء في أول وقتها، وفي بعض الروايات أنه قال: (إنه لا ينتظرها على وجه الأرض غيركم) ، يعني: يريد أن يخفف عنهم عناء السهر الذي سهروه، فأخبرهم بأن سهرهم هذا لا نظير له على وجه الأرض، أي: أنتم الذين خصكم الله بهذا الفضل، ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر صلاة كانتظاركم، ففرحوا بهذه الخصوصية والأفضلية، وهان عليهم ما مضى من سهر وانتظار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام أعتم ذات ليلة، وهل استمر على ذلك؟ لا، بل رجع إلى ما كان عليه من قبل، وهو صلاته بهم في أول الوقت، أو كما قال الراوي: (أما العشاء فكان يصليها أحياناً وأحياناً، إذا وجدهم اجتمعوا عجل، وإذا رأى منهم تأخيراً أخر) ، وذلك انتظاراً لمن لم يحضر حتى لا تفوته الجماعة.

شرح حديث تأخير صلاة الظهر وقت اشتداد الحر

شرح حديث تأخير صلاة الظهر وقت اشتداد الحر قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) متفق عليه] . هذا الحديث أخذ حيزاً كبيراً في كتب شروح الحديث، وكثُر الكلام والمناقشة حوله من جهتين: من جهة الحقيقة والمجاز في قوله: (من فيح جهنم) ، ومن جهة الفقه في قوله: (أبردوا) .

خلاف العلماء وأدلتهم في مسألة الإبراد بالظهر

خلاف العلماء وأدلتهم في مسألة الإبراد بالظهر ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها وقالت: يا رب! أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها في الصيف، وأشد ما تجدون من الزمهرير فهو من نفسها في الشتاء) . ومعنى قوله: (أكل بعضها بعضاً) ، أي: أن حرها وأوارها قد اشتد فطلبت من ربها أن يخفف عنها، فسمح لها بنفسين، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها، وأشد ما تجدون من البرد فمن نفسها، فالنار فيها حر وبرد! فيها الزمهرير وهو شدة البرد، وفيها النار والحميم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) ، أي: بصلاة الظهر، فهل الإبراد بصلاة الظهر أولى أو مراعاة فضيلة أول الوقت؟ جاء في الحديث: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم الصلاة على أول وقتها) ، وجاء الحديث الذي فيه مقال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) ، فهناك أحاديث متعادلة متقابلة. فالجمهور على أن الأفضل أن تكون جميع الصلوات في أول الوقت إلا الظهر في شدة الحر فيبرد بها، وإلا العشاء فتؤخر إلى ثلث الليل، فهاتان الفريضتان الأفضل فيهما التأخير، كما قال أحمد رحمه الله: كل الصلاة على أول وقتها أفضل إلا الظهر في الحر وإلا العشاء إلى ثلث الليل، أي: لمن لم يشق عليه ذلك. ومن العلماء من يرجح أن الظهر تصلى في أول وقتها، ولكن يعارضه هذا الحديث الصريح. والشافعي رحمه الله يقول: يُنظر لحال المصلين، فإذا كانوا يمشون في ظل، ويأتون إلى المسجد بلا مشقة عليهم، فإنهم يصلون الظهر في أول وقتها، وإن كانوا يمشون في الشمس، وفي شدة الحر فإن الأفضل أن يؤخروها. ومنهم من يقول: يختلف الحكم إذا كانوا يأتون من مكان بعيد إلى المسجد أو يأتون من قُرب المسجد، فيراعى حال المصلين بالنسبة لشدة الحر. فالقائلون بأن الظهر تؤخر نظروا إلى هذا الحديث، وهناك حديث آخر رواه مالك في الموطأ فيه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة حر الشمس والرمضاء على أكفنا وجباهنا، فلم يَشكُنا، أو: فلم يُشكِنا) أي: لم يسمع شكوانا، وأمرنا بالصلاة في أول وقتها. فهناك حديث الإبراد، وهناك حديث: (شكونا فلم يشكنا) ، فقالوا: إن حديث: (شكونا) ، ناسخ للإبراد وحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا) قاله صلى الله عليه وسلم في سفر. يرد عليهم بأن دعوى النسخ تحتاج إلى إثبات التاريخ، والذين يقولون بالإبراد استدلوا أيضاً بحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحضر الظهر، وأراد المؤذن أن يؤذن فقال له: (أبرد أبرد) أي: لا تؤذن الآن، ورجح الجمهور الإبراد بالظهر إذا كان يشق على الناس الحضور إلى المسجد وقت الحر، بألا يكون هناك ما يظلهم وكانت تلحقهم المشقة في مجيئهم إلى صلاة الظهر في وقت شدة الحر.

الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر

الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر فإن قيل: ما هي الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر؟ فالجواب: لأن شدة الحر تجعل الناس في قلق وعدم طمأنينة، وهذا ينافي المطلوب في الصلاة من توافر الطمأنينة ليفقه المصلي ما يقول، وليكون على خشوع بين يدي ربه في صلاته، فإذا كان في شدة الحر فهو قلق مضطرب منزعج، فلا يمكن أن يوفي الصلاة حقها في تلك الحالة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أبردوا) . وجاء في الأثر: ثلاث ساعات نُهينا عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا، وذكر منها: حينما تكون الشمس في كبد السماء حتى تزول، فقالوا: النهي عن الصلاة في ذلك الوقت؛ لأن النار تُسجر في ذلك الوقت. واستشكل بعض العلماء هذا فقال: إذا كانت النار تسجر في ذلك الوقت، فإنه أدعى إلى أن نصلي، ونسأل الله العفو والمغفرة، ونسأل الله السلامة من النار. وأجاب بعض العلماء عن ذلك فقال: إنّ كون النار تسجر في ذلك الوقت، إشعار بما يكون من المولى سبحانه من غضب، حتى جعل النار بتلك الحالة في ذلك الوقت، والسائل حينما يسأل يراعي حالة أو صفة المسئول، فلو كانت لك حاجة عند إنسان فإنك تراعي وقت رضاه، ووقت سماحته، ولا تسأله وقت غضبه وشدته، إنما تراعي وقت رضاه، ووقت رحمته، ووقت انبساطه، وهذا في حق المخلوق، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، لكن ينبغي أن تكون صلاتنا وسؤالنا في غير حال غضب المولى سبحانه، كما جاء في حديث الشفاعة، حينما يذهب أهل الموقف إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم، فكل منهم يعتذر ويقول: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) ، ولم يتقدم أحد منهم لطلب الشفاعة؛ ثم يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ادخر دعوته لذلك اليوم، فيشفع لهم. إذاً: شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا من أجل تلك الحالة؛ لأن الدعاء في ذلك الوقت ليس كالدعاء في حالة هدوئها، وعدم فيحها. يهمنا في الفقه أن الأفضل مراعاة حال المصلين في صلاة الظهر، كما هو مذهب مالك رحمه الله، ففي الشتاء نصلي الظهر في أول وقتها؛ لأنه ليس هناك دواع للإبراد بها. قالوا: الجواب عن حديث: (شكونا فلم يشكنا) ؛ لأنهم طلبوا التأخير إلى وقت طويل حتى تبرد الحصباء، وجاء في بعض الآثار: (شكونا فلم يشكنا، فكان أحدنا يسجد على طرف كمه، وعلى طرف ردائه، وكان أحدنا يأخذ القبضة من البطحاء يمسكها في يده طيلة ما هو قائم للقراءة والركوع، فإذا سجد بسطها ليسجد عليها) ، لأنها تكون قد بردت في يده في تلك المدة. فيكون قوله: (فلم يشكنا) أي: لأنهم طلبوا مدة أطول للإبراد، ولكن هذا في الواقع يحتاج إلى إثبات؛ لأنهم ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مدة معينة، بل شكوا إليه الحر فقط، وشكوى الحر تتضمن الانتظار حتى يذهب حرها، وحر الرمضاء لا يذهب إلا قريب العصر، فيكون فيه تأخير صلاة الظهر إلى حد بعيد.

حد الإبراد

حد الإبراد وقد ذكر البيهقي رحمه الله عن عمر بن عبد العزيز أنه لما كان أميراً على المدينة لبني أمية، كان يصلي الظهر في شدة الحر الساعة الثامنة على التوقيت الغروبي، أي: في وسط الوقت الذي بين أول وقت الظهر وأول وقت العصر، فبعض الناس يجعل ذلك حد الإبراد. وبعضهم يقول: هذا شيء كثير. وبعضهم يفرق بين الشخص في حد ذاته وبين مساجد الجماعة، فالمصلي المنفرد له أن يصلي الظهر في أول وقتها، أما مساجد الجماعة التي يرتادها الناس من بعيد، وتلحقهم بسبب ذلك مشقة الحر، فعلى الإمام أن يبرد بصلاة الظهر، هذا ما يتعلق بالناحية الفقهية.

معنى: إن شدة الحر من فيح جهنم

معنى: إن شدة الحر من فيح جهنم وقوله: (فإن شدة الحر من فيح جهنم) . الفيح: هو النفس والهواء، فزهم النار عُبر عنه بفيح جهنم، واختلف العلماء: هل فيح جهنم على الحقيقة أو على المجاز؟ جاء في بعض الروايات: أن الفرق بين نار الدنيا ونار الآخرة سبعون درجة، فنار جهنم أشد من نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كانت شدة الحر من فيح جهنم، فهل تنفست النار فعلاً على الحقيقة، فحصل شدة الحر في الصيف بسبب فيحها؟ وهل هذا الحر الذي نجده في الصيف هو فعلاً من نفسها أو من هوائها ووصل إلى الأرض، أو أن هذا على سبيل التشبيه، والمعنى: أن شدة الحر يشبه شدة حر جهنم؟ بعض العلماء يقول: الحديث على التشبيه، والبعض الآخر يقول: ما المانع أن يكون على الحقيقة! فالنار اشتكت فعلاً على الحقيقة، وخلق الله لها القدرة على النطق فاشتكت إلى ربها، كما ينطق الله يوم القيامة الأعضاء والجلود، كما قال الله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24] ، وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، وقال الله عن السماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، وقال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر} [سبأ:10] ، وقال: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فلا مانع من أن الله خلق في النار القدرة على النطق حتى اشتكت، أو أنه جعل عندها قوة التعبير، وعلم شكواها. فالمسألة دائرة في هذا بين الحقيقة والمجاز. والنووي رحمه الله يذكر أن كثيراً من العلماء حملوا الحديث على ظاهره، وذكر البيضاوي عن بعض العلماء أن الحديث على التشبيه وعلى المجاز وليس على الحقيقة؛ لأن فيح جهنم لو قيس بما نحن فيه من الحرارة لكان بعيداً كل البعد؛ لأن نار جهنم تزداد سبعين ضعفاً عن النار التي تكون في الأرض، ومهما اشتد الحر في وقت القيلولة فلن يصل إلى حد النار الموجودة في الدنيا، وهي واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: فالحديث -إذاً- على التشبيه. وابن عبد البر رحمه الله قد أطال الكلام في الاستذكار حول هذه المسألة، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إليه، ومما قاله في ذلك: لا مانع على قدرة الله أن يكون ذلك على الحقيقة، ولا أحد ينفي قدرة الله، ولكن الكلام في واقع الأمر، فهل قوله: (من فيح جهنم) على الحقيقة أو هو تشبيه بفيح جهنم؟ وبعضهم يقول: إن العرب إذا أرادت أن تضرب مثلاً لشيء تشبهه بأعلى ما يمكن فتقول مثلاً: فلان نار في طبعه، أي: أنه حار الطبع كالنار، فيمكن أن يشبه الشيء بأقصى ما يمكن من درجاته وبعده، ليُبين إلى أي حدٍ ومدى وصل في هذه الصفة. على كلٍ: فإن الجمهور على أن الإبراد تراعى فيه مصلحة المصلين، بدليل أن الحكم معلل بشدة الحر، فإذا كان في الشتاء فلا إبراد، وإذا كان أهل المسجد حوله، ولا يأتون من مكان بعيد، كأن يكون المسجد في وسط السوق، فيأتون من السوق إلى المسجد، والمسافة بينهما أمتار قليلة، فإذا سمعوا النداء خرجوا من حوانيتهم ودكاكينهم إلى المسجد، فليس هناك شدة حر، ولا فيح ولا مشقة، فيصلون الظهر في أول وقته، فيراعى في ذلك حالة المصلين، أما إذا كانوا يأتون من بعيد، وليس هناك ما يظلهم من الشمس أبردوا. وهناك من يقول: يراعى في ذلك المساجد العامة ولا يدخل في ذلك من يصلي منفرداً؛ لأن الفرد قد يصلي في مكان يكنه، إذا كان لا يتحمل مشقة الذهاب إلى المسجد، كأن يكون من أهل الأعذار، فيصلي في بيته فهذا لا يبرد بالظهر، ومثله من كان مع جماعة في موضع لا تلحقهم مشقة المسير إلى المسجد العام، والله تعالى أعلم.

الإسفار بصلاة الفجر والتغليس بها

الإسفار بصلاة الفجر والتغليس بها قال المؤلف: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] . تقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، و (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فكان من شأنه ومن سنته ومن منهجه وفعله المستمر أن ينفتل من صلاة الغداة -وهي الصبح- حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة؛ ومتى كان يبدأ صلاة الفجر إذا كان عند نهايتها بعد أن يقرأ الستين أو المائة يعرف الرجل جليسه؟ كان يبدأ بها في الغلس، أي: أول انبلاج الفجر. وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح) ، وفي رواية: (أسفروا) . أصبحوا بالصبح، أي: ادخلوا في الصبح، وقوله: أسفروا هو: من الإسفار، وهو النور، ومنه سمي السفر سفراً؛ لأنه يكشف وينير عن حقيقة الإنسان في سفره، فالإنسان في حالة إقامته قد تكون أخلاقه فاضلة، فعنده حلم وكرم ومساعدة وتسامح، لكن إذا كان في السفر تأتي المشقة والتعب، فبعض الناس لا يراعي إلا راحة نفسه، ولا يراعي الآخرين، فالسفر يسفر ويكشف عن حقيقة الأشخاص وطبائعهم؛ لأنه يُظهر الشخص على حقيقته، فهنا يقول رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا، أو أسفروا) ، وظاهره أن الصلاة يستحب تأخيرها! وهذا متعارض مع حديث: (كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه) ، مع أن قراءة النبي عليه الصلاة والسلام كانت بالستين إلى المائة، فأيهما أرجح؟ الشوكاني رحمه الله تكلم على حديث: (أصبحوا) وبين أنه في بعض طرقه ضعفاً، وذكر أنه لا ينهض لمعارضة ما هو أقوى منه، ويدل على صلاة الفجر وقت الغلس حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف من صلاة الصبح، ونسوة الأنصار في المسجد فلا يعرفن من الغلس) ، والغلس هو الظلام. إذاً: الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلس بالصبح أكثر وأقوى من حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ، ثم بعضهم يقول: إن حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ليس معناه: أخروا صلاة الصبح حتى يحصل الإسفار ويأتي الصبح، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يدخل في صلاة الصبح بغلس ويُطيل القراءة حتى لا يخرج منها إلا مسفراً أو مصبحاً، ولكن قد يكون في ذلك مشقة، وهو عليه الصلاة والسلام كان يراعي حالة من خلفه، فمن أمّ الناس فليخفف، ولكن ربما فعل ذلك مرة أو أمر بذلك لبيان الجواز، ولكنه داوم على ما هو الأفضل، فكان يغلس بها. وعلى هذا جمهور المسلمين وأكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، فعندهم أن صلاة الصبح تصلى من أول انفجار الفجر بغلس، والإمام أبو حنيفة رحمه الله أخذ بحديث رافع، ورأى أن تأخير الصبح إلى الإسفار أعظم للأجر وأفضل، فالمسألة دائرة بين أن نسفر بها أو نغلس بها، وأكثر الأحاديث على التغليس بها، وهو أن تصلى الصبح في أول وقتها بغلس، والله تعالى أعلم.

الوقت الاضطراري للفجر والعصر

الوقت الاضطراري للفجر والعصر قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) متفق عليه] . تقدم لنا في تحديد الأوقات أن صلاة الظهر حينما تزول الشمس عن كبد السماء إلى أن يصير ظل كل شيء مثله زيادة على ظل الزوال، ووقت العصر من أول ما يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، إلى تضيفها للمغيب. فالعصر له عدة أوقات، وقد ذكر النووي عن الشافعية أن للعصر أوقاتاً متعددة: وقت الفضيلة في أولها، ووقت الإباحة حينما يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الكراهية حينما تصفر الشمس. وهذا الحديث فيه بيان وقت الضرورة، وذلك لمن كان نائماً أو كان ناسياً أو اشتغل عنها، فأدرك من العصر ركعة بقراءتها وبركوعها وبسجدتيها قبيل غروب الشمس، وبعد أن أكمل الركعة غربت الشمس؛ فقد أدرك العصر، بمعنى أدرك وقتها، فإنه يُصلي بعد غروبها ثلاث ركعات تتمة للأربع، وهذا أضيق وقت للعصر. ويبحث الفقهاء لو أن الحائض طهرت قبل أن تغرب الشمس بما يسع ركعة، فهل تلزمها صلاة العصر أم لا؟ ولو أن الكافر أسلم قبل غروب الشمس بما يسع ركعة فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ ولو أن الصبي بلغ الحلم قبل غروب الشمس بركعة فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ يقولون: نعم؛ لأنه أدرك الوقت بالركعة، فعليه أن يصلي هذه الصلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وإذا كان الوقت قبل غروب الشمس بما يسع خمس ركعات، فأسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي، فإن على هؤلاء الثلاثة صلاة الظهر والعصر معاً؛ لأن وقت الظهر والعصر مشترك بينهما، فيدرك الظهر بأربع ركعات، والعصر بركعة، وكذلك لو حصل ذلك قبل الفجر بأربع ركعات، فإنه يلزمهم صلاة المغرب وصلاة العشاء، فيدركون المغرب بثلاث والعشاء بركعة. فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك الوقت، وتكون صلاته أداءً وليست قضاء، وكذلك من لزمته الصلاة قبل غروب الشمس بركعة فإن عليه أن يُصلي تلك الصلاة، وكذلك الحال في الصبح، فمن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فالحكم في ذلك واحد. الحديث هذا فيه مجالات من البحث الفقهي، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، وعند شروقها، وعند استوائها، كما في حديث: (ثلاثة أوقات نهينا عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا) ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فإنه سيصلي أثناء غروبها وبعد غروبها الثلاث الركعات الباقية، فيكون قد صلى عند غروبها، وكذلك من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فسيصلي الركعة الثانية في أثناء طلوعها، فيكون قد صلى في الوقت الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، ويجيبون عن ذلك بأن النهي متعلق بابتداء الصلاة بأن تُنشئ صلاة وتبتدأها في تلك اللحظات، أما أن تكون في صلاة ويدركك غروبها أو يُدركك شروقها؛ فليس داخلاً في النهي. قال: [ولـ مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه وقال: سجدة بدل ركعة، ثم قال: والسجدة إنما هي الركعة] . هذا طرف من هذا الحديث، ومن العلماء من يقول: من أدرك السجدة فقد أدرك الركعة، والسجدة جزء من الركعة، وبعضهم يقول: الركعة هي بكامل أركانها من القراءة والركوع والرفع والسجود والجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية، فهذه هي أركان الركعة، فيقولون: من أدرك السجدة -وهي جزء من الركعة- فقد أدرك الصلاة، يا سبحان الله! وهل يُدرك السجدة إلا من أدرك الركعة من أولها، فمن سجد فقط فلا تعتبر سجدة في حقه، ولا يصح أن يأتي عند غروب الشمس ويسجد! لا، بل سيأتي ويكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر معها من آية أو سورة قصيرة، ثم يركع، ثم يرفع، ثم يسجد. وهل المعتبر من أدرك الركعة قبل أن تغرب الشمس أو من أدرك تكبيرة الإحرام؟ في بعض الروايات أنه من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك الصلاة، إذاً: رواية (من أدرك السجدة) ، فيها أن إدراك الركعة إنما هو من أولها إلى آخرها، أي: ركعة كاملة بكامل أركانها، ولهذا جاءت هذه الرواية: (من أدرك السجدة) ، وليس المراد جزءاً من الركعة فقط، ولكن أدرك الركعة من أولها إلى السجدة قبل غروب الشمس عليه، بخلاف ما إذا كبر تكبيرة الإحرام فلما كان يقرأ الفاتحة غربت الشمس، فإنه في هذه الحال لم يدرك السجدة، أي: لم يدرك السجدة قبل غروبها على هذه الرواية. ولكن جاءت رواية فيها: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك الصلاة) ، وهذا هو وقت الضرورة، كأن يكون نائماً، ولم يستيقظ إلا في ذلك الوقت، أو امرأة كانت حائضاً ولم تطهر إلا في ذلك الوقت، أو الذين طرأ عليهم الوجوب والإلزام كالصبي إذا بلغ في ذلك الوقت، أو الكافر إذا أسلم في ذلك الوقت.

كتاب الصلاة - باب المواقيت [3]

كتاب الصلاة - باب المواقيت [3] نهى النبي صلى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في سبعة أوقات، وكان النهي في بعض هذه الأوقات أشد من البعض الآخر، ومع ذلك فقد أمر عليه الصلاة والسلام بصلاة تحية المسجد عموماً، فتعارض الأمر والنهي في حق من دخل المسجد في وقت من أوقات الكراهة، واختلف العلماء في الجمع بين الحديثين اختلافاً كبيراً.

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس) متفق عليه، ولفظ مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) ] . هذان الوقتان من عدة أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وهي سبعة أوقات: الوقت الأول: ما بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر، فلا يجوز للإنسان أن ينشئ صلاة من ذلك الوقت إلا ركعتي سنة الفجر، فلو أن إنساناً دخل المسجد بعد أذان الفجر، فإنه يصلي ركعتين سنة الصبح، ولا يحق له بعد صلاة هاتين الركعتين أن ينشئ تطوعاً حتى لو كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، حتى ولو كان الإمام سيؤخر الإقامة مدة طويلة، فلا يقل أحد: أصلي ركعتين ركعتين إلى أن تقام الصلاة، فإن ذلك لا يجوز. إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي: ما بين الأذان والإقامة في الفجر إلا ركعتي الفجر أي: سنة الصبح. الوقت الثاني: بعد الفراغ من صلاة الصبح إلى أول طلوع الشمس، فلا يصلي في هذا الوقت نافلة، إلا من فاتته سنة الفجر؛ فمن دخل المسجد والإمام يصلي الفجر، فإنه يدخل مع الإمام في الصلاة، ولا يفعل كما يفعل بعض الناس، فإن البعض إذا دخل والإمام يصلي أخذ وصلى سنة الصبح، ثم يدرك الإمام في الفريضة، وهذا هو ما يقول به بعض المذاهب، ويقولون: يجوز ذلك حتى لو فاتته ركعة أو جزء من الركعة الثانية، وهذا مخالف للسنة، فإذا دخل والإمام في الصلاة فإنه يدخل معه في الفريضة، وبعد أن يسلم الإمام يصلي السنة قبل أن تطلع الشمس. فمن لم يصل سنة الصبح صلاها إن شاء بعد الصلاة قبل طلوع الشمس، وإن شاء أخرها إلى بعد طلوع الشمس. إذاً: الوقت الثاني بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس إلا سنة الفجر لمن لم يدركها قبل الصلاة. الوقت الثالث: حينما يبدو طرف الشمس الأعلى عند الشروق، فيمسك عن الصلاة حتى يكتمل القرص ويرتفع قدر رمح. بمعنى: أنك ترى قرص الشمس مرتفعاً عن وجه الأرض بمقدار رمح، فيكون بين قرص الشمس والأرض قدر الرمح، وهو بمقدار قامة إنسان تقريباً، فإذا طلعت الشمس وارتفعت عن وجه الأرض قدر رمح فقد زالت الكراهة. الوقت الرابع: حينما تستوي الشمس في كبد السماء حتى تزول، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة، فإنه تجوز الصلاة في هذا الوقت، سواء كانت الفريضة أو النافلة، والفريضة على رأي الجمهور لا تصح إلا بعد تحقق الزوال، وقد حقق الإمام مالك رحمه الله ذلك في الموطأ بما لا مزيد عليه، ولكنهم أجازوا صلاة تحية المسجد للقادم يوم الجمعة سواء قبل أن يصعد الإمام أو بعد أن يصعد على المنبر ليخطب، فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل عند استواء الشمس في كبد السماء يوم الجمعة فله أن يصلي، وأما عدا يوم الجمعة فلا. الوقت الخامس: بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. الوقت السادس: عند تضيف الشمس للغروب، ونزول قرنها الأدنى عن النظر، فينتظر حتى يتكامل غروب قرص الشمس. الوقت السابع: لمن كان جالساً في المسجد يوم الجمعة، وجاء الإمام وصعد المنبر، فتمنع الصلاة حينئذٍ على من كان جالساً قبل صعود الإمام، أما القادم من الخارج بعد صعود الإمام أثناء الخطبة؛ فإن الأئمة الثلاثة يجيزون له الصلاة ومالك رحمه الله يكره له ذلك. والأمر دائر بين ترجيح الإصغاء والإنصات للخطيب أو الاشتغال بصلاة تحية المسجد، وقد جاء في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فرأى رجلاً دخل فجلس، فقطع الخطبة وقال له: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما، وتجوز فيهما) أي: اركعهما أداء لحق المسجد، وتجوز فيهما حتى لا تفوتك الخطبة. فهذه هي الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها، ولكن أشدها نهياً وأوضحها هو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وما بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس وأثناء الشروق، وكذلك حينما تكون الشمس في كبد السماء.

حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي

حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي وهنا يبحث عامة علماء الحديث قضية من أشد القضايا إشكالاً، وهي تعارض حديثين، هما حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فتعارض النصان في الظاهر. ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية، (صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص في الزمن أي: فيما بين العصر إلى الغروب. وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل- قال: (إذا أتى أحدكم المسجد) وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، وهذا خاص في الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً في الحديث الأول كان خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً في الأول، وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى. والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث خاص؛ حملنا الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما جاء قوله: (أن في أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم الزكاة، وسائمة وصف خاص، فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة شاة) بالسوم الموجود في الحديث الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص، فحملنا العام على الخاص، وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع النصوص. وهنا حديث: (لا صلاة بعد العصر) ، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى حديث تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى المسجد بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في الزمن بخصوص الوقت في الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً. لكن من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة) . إذاًَ: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص بالمخصص الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو محل النزاع. يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن نطلب مخصصاً من الخارج، قال: فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به من جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، مضمونه الأمر بالصلاة، فإذا تعارض الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد سنة بالإجماع، والنهي أقل ما يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم، فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل مندوباً. ومن هنا رجح ابن دقيق العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات كلها حتى تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة، كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فلو أن رجلاً صلى العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر، فعليه أن يصليها حين ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة) مراعاة للنهي عن الصلاة بعد العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات المنهي عن الصلاة فيها. فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ الجمهور بعمومه إلا ما خصه الدليل. والشافعي رحمه الله خصص النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما الجمهور فعمموا قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه وقال: أتصلي بعد العصر؟! وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد العصر إذا لم يتحر اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر: (لا تحروا اصفرار الشمس بالصلاة) ، فإذا صلى بعد العصر في أول الوقت صلاة ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية بيضاء نقية. ومعنى الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب اللاحق هو الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم، والسبب الملازم الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت كسوفها، لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت النهي، أما ذات السبب اللاحق فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة الإحرام وقت النهي؛ لأن الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.

الثلاثة الأوقات المنهي عن الصلاة ودفن الموتى فيها

الثلاثة الأوقات المنهي عن الصلاة ودفن الموتى فيها قال المؤلف: [وله عن عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب] . هذا الحديث مع أحاديث الباب تعتبر من باب تعارض الحديث، وللعلماء فيها مذاهب شتى، والنصان اللذان سمعناهما نستفيد منهما أن الأوقات المنهي عنها متفاوته في الكراهية. وقوله: (ثلاث ساعات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا) أول ساعة من هذه الساعات الثلاث هي: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، ثم: حين يقوم قائم الظهيرة. وقيام قائم الظهيرة هو عند استواء الشمس في كبد السماء، وكما يقول علماء الهندسة: تكون في زاوية قائمة، أي: ليست حادة ولا منفرجة، وقد جاء في بعض النصوص أنه حينما تكون الشمس متعامدة على رأسك كالرمح، أي تنزل أشعة الشمس مستقيمة من السماء إلى الأرض. وقوله: (حتى تزول عن كبد السماء) : معرفة زوالها لا نستطيع تحديده بالنظر إلى الشمس بذاتها، ولكن بالنظر إلى الظل؛ لأن الظل معاكس لوجود الشمس، فحينما تكون الشمس في المشرق يكون الظل إلى المغرب، وحينما تتحول الشمس من كبد السماء من نقطة الصفر إلى الغرب يتحول الظل إلى الشرق، فنحن نعرف متى تزول الشمس عن كبد السماء ومتى لا تزول بالنظر إلى الظل في الأرض. وقوله: (وحين تتضيف الشمس للغروب) أي: حتى تغرب. هذه الأوقات الثلاثة هي من الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها؛ ولكنها تميزت عن بقية الأوقات بالنهي عن الصلاة مع إضافة النهي عن قبر الموتى، ولهذا كانت هذه الأوقات الثلاثة أخص وأشد من غيرها. أما وقت ابتداء ظهور حاجب الشمس، أي: قرص الشمس الأعلى، إلى أن يكتمل ظهور قرص الشمس على وجه الأرض، ويرتفع عن سطح الأرض قدر رمح، وهو قدر قامة الإنسان تقريباً؛ فهذا الوقت يتفق الجميع بدون استثناء أنه لا تصح الصلاة فيه إلا وقت الضرورة الذي تقدم في حديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) ، فهو سيصلي الركعة الثانية أثناء طلوع قرص الشمس حتى ترتفع، وهذا هو الوقت الذي نهينا عن الصلاة فيه؛ لكن الصلاة في هذه الحالة ليست ابتداء ولا مستقلة، وإنما هي تابعة لدخوله في الصلاة قبل أن يبدأ قرص الشمس بالظهور. وذكر ابن عبد البر عن بعض الفقهاء أنه يمنع من صلاة الصبح في ذلك الوقت، لكن يحمل هذا المنع على ما إذا بدأ الصلاة عند ظهور قرص الشمس، أما إذا بدأ الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس فإنه يكمل صلاته، ولا يضره أن تطلع عليه الشمس وهو في الصلاة. أما الصلاة المطلقة عند بزوغ الشمس أو تضيفها للغروب، فلا يجوز باتفاق الجميع أن ينشئ صلاة في تلك الحالة إلا إذا كان سيصلي الصبح الفائتة أو العصر الفائتة.

حكم التنفل وقت الزوال يوم الجمعة وغيرها

حكم التنفل وقت الزوال يوم الجمعة وغيرها أما الصلاة عند الزوال فالجمهور على أنه ممنوع من الصلاة فيه حتى تزول، ويروي بعض المالكية عن مالك أنه لا يمنع من الصلاة في ذلك الوقت ولا يحبها، أي: لا يمنع من صلى في ذلك، ولا يحب أن يصلي الإنسان في ذلك الوقت. إذاً: مالك رحمه الله يوافق الجمهور في عدم استحبابها، ولكنه يخالفهم في عدم منعه منها، ويستدل المالكية لقول مالك بحديث التبكير إلى الجمعة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى ما تيسر له حتى يخرج الإمام) ، قالوا: والإمام لا يصعد المنبر إلا بعد دخول وقت الجمعة، ووقت الجمعة لا يكون إلا بعد زوال الشمس، فالقادم سيصلي حينما تكون الشمس في كبد السماء. والجمهور يقولون: نعم، في يوم الجمعة نوافق المالكية، فننهى عن الصلاة عندما يقوم قائم الظهيرة ما عدا يوم الجمعة؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن القادم يقدم فيصلي يوم الجمعة حتى يخرج الإمام، ودليله حديث: (وصلى ما تيسر له) ، قالوا: فيوم الجمعة مخصوص من بقية الأيام، ومالك يقول: ما دمتم خصصتم يوم الجمعة فبقية الأيام سواء. إذاً: الأوقات الثلاثة فيها وقتان يتفق الجمهور على أنه لا صلاة فيهما إلا في تلك الحالة الضرورية لمن أدرك من الصبح ركعة وسيتم الصلاة عند ظهور الشمس، أو من أدرك من العصر ركعة وسيتم العصر عند غروب الشمس، وما عدا ذلك فلا. بقي حينما تكون الشمس في كبد السماء، فـ مالك لا يمنع ولا يحب، والجمهور يوافقون مالكاً في يوم الجمعة خاصة؛ ويخالفونه فيما عداها. ويروى عن مالك أنه قال: لم أزل أرى أهل العلم في بلادنا يصلون وقت الزوال، ويحمل هذا على ما جاءت به النصوص الأخرى بأنه في يوم الجمعة فقط.

حكم التنفل في المسجد الحرام في أوقات النهي

حكم التنفل في المسجد الحرام في أوقات النهي ويستثنى من النهي الصلاة بعد العصر في مكة، لعموم الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، والجمهور قالوا: يجوز الطواف في كل لحظة، وتجوز ركعتا الطواف في كل لحظة، وقوله: (في أية ساعة شاء) ، هذه الساعة تشمل وقت الغروب، ووقت الشروق، ووقت قيام قائم الظهيرة. ولكن مالكاً رحمه الله يرى أنه من طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس، ومن طاف بعد العصر فيؤخر ركعتي الطواف إلى ما بعد غروب الشمس، والجمهور يجوزون ركعتي الطواف بعد الصبح وبعد العصر وعند الشروق وعند الغروب وعند قيام قائم الظهيرة، وبعض هذه الأوقات قصيرة وضيقة، لكن الإشكال في الأوقات الطويلة الواسعة.

تعارض حديث النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد

تعارض حديث النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) ، يعارضه في الظاهر حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) . فلو افترضنا أن إنساناً دخل المسجد فوجد لوحتين مكتوب في إحداهما: لا تجلس حتى تصلي، وفي الأخرى: لا صلاة بعد العصر، فإذا جاء في الضحى فإنه يعمل باللوحة الأولى التي فيها: لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهل اللوحة الثانية تعترضه؟ لا تعترضه؛ لأنه دخل وقت الضحى، والنهي إنما هو عن الصلاة بعد العصر، لا عن الصلاة وقت الضحى، فوجد الطلب يتوجه إليه بألا تجلس حتى تصلي ركعتين، فالطلب متوجه إليه بدون معارض، وكذلك الأمر لو دخل بعد الظهر قبل صلاة العصر، أو دخل بعد المغرب، أو دخل بعد العشاء، فسيجد طلب تحية المسجد قائماً، ولا يجد ما يعارضه. لكن لو دخل بعد العصر، فسيجد اللوحة الأولى تطالبه بألا يجلس حتى يصلي؛ لأن قوله: (إذا أتى أحدكم) مطلق في كل وقت، فيشمل بعد الظهر وبعد المغرب وبعد العصر، وسيجد اللوحة الثانية: (لا صلاة بعد العصر) ، أي: حتى تغرب الشمس، وقوله: (لا صلاة) ، يشمل كل صلاة حتى تحية المسجد، فماذا يفعل؟ هل يأخذ بحديث: (إذا أتى أحدكم) ؛ لأنه يشمل صلاة تحية المسجد في كل الأوقات حتى بعد العصر، أو يعمل باللوحة الثانية التي فيها: (لا صلاة بعد العصر) ، أي: حتى صلاة تحية المسجد.

اختلاف الفقهاء في الجمع بين الحديثين

اختلاف الفقهاء في الجمع بين الحديثين اختلف الأئمة رحمهم الله، فـ الشافعي رحمه الله يقول: قوله: (لا صلاة) عام شامل لكل الصلوات، ولكنه يصرف إلى الصلوات التي لا سبب لها، أما إذا كانت الصلاة لها سبب يقتضي إتيانها فليست داخلة في النهي، وتكون مستثناة من عموم الصلاة، فهو رحمه الله خصص عموم حديث: (لا صلاة) ، واستثنى من هذا العموم ذوات الأسباب، فكأنه يقول: لا نصلي بعد العصر إلا ذات السبب فنصليها لسببها. والجمهور يقولون: لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب. لعلنا الآن نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي الجمهور أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله: (لا صلاة بعد العصر) نكرة عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات منهي عنها بعد العصر. والشافعي قال: لا، فقوله: (لا صلاة) يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، لقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فـ الشافعي يقول: الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، والجمهور يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية المسجد. فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها ذات سبب، فيكون خصص عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص تحية المسجد من عموم قوله: (لا صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص عموم قوله: (إذا أتى) ، فإن الإتيان عام في جميع الأوقات، لكن نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى في كل وقت إلا بعد العصر. نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة بتحية المسجد، فأصليها بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون للشافعي: لا، نحن لا نستثني تحية المسجد من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا كان الأمر كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب الشافعي، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك صلاة تحية المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل سيقول له: وأنت لم صليت؟ فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن تابع الجمهور سيقول: أنا أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث: (إذا أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي! قوله: (لا صلاة) عام في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات الأسباب، فكل منهما له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب الحق؛ لأن هذا يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل منهما له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فماذا نفعل؟

قول ابن دقيق العيد في طريقة الجمع بينهما

قول ابن دقيق العيد في طريقة الجمع بينهما قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ما دام كل من الطرفين عنده نص يعمل به، ويخصص به عموم الآخر، وكل منهما له حق أن يخصص عموم الآخر؛ لأن الحديثين صحيحان، فينبغي أن نطلب مرجحاً لأحد الحديثين من الخارج، أي: اتركوا الحديثين في مكانهما، واتركوا اللوحتين المعلقتين، وابحثوا عن مرجح لأحد الجانبين. فالشافعية قالوا: حديث: (لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت منه بعض الأشياء، فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد العصر فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه صلاة قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في المائة أصبح تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد أن يصلي، فالجمهور يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً يضعف العموم، فكأن العموم حزمة تراخت قليلاً. فقال الشافعية: إذا كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج ذات السبب، فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً صلى العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا تصل؛ لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛ لأنها لا سبب لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن نخرجها من عموم الوقت المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض الصلوات الداخلة في عموم قوله: (لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل، وما خرج بنص مستقل لا يعترض به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها أو نسيها قد جاءت مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت بنص مستقل. وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد العام من عمومه فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه البعض بنص، فيبقى الباقي على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم السبت، ثم جئته يوم الجمعة وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم المتقدم تعطي كل واحد من الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق في الدرهم أو خرجوا من العموم؟ بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم داخلون في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني: خروج بعض أفراد العام لا يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي أخرج. الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في النهي، والآخرون يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا العموم إلا ما أخرجه نص مستقل. ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه، فالباقي من العموم متعارض مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً خارجياً لا من عند الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي. وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون يوماً، وهي ما عدا شهر رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد داخلاً في الأيام الأخر؟ نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام الأخر، لكن جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛ لأن الأمر هنا هو القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن صوم يومي العيد، وهما من ضمن الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح فيهما القضاء! ولكن نقول: الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما خرجا بنص خاص يحرم صومهما. قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب ينهى عن فعل، فأي الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟ القاعدة العامة عند العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ لأن الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل اتركوه كله. إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا لم يكن فرضاً عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو نافلة؟ نافلة بإجماع المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) .

مذهب الجمهور في الجمع بينهما

مذهب الجمهور في الجمع بينهما إذاً: عندنا تعارض بين طلب مسنون وبين نهي بالكلية، وأقل درجات النهي عند الأصوليين الكراهية، فإذا تعارضت اللوحتان لمن دخل المسجد بعد العصر، فإحداهما تقول: افعل سنة، والأخرى تقول: لا تفعل شيئاً، فأيهما أقوى في طلب الامتثال؟ هل يرتكب مكروهاً لفعل سنة؟ لا، ومن هنا رجح الجمهور أن النهي عن الصلاة بعد العصر يشمل جميع الصلوات، فلا تجوز صلاة ذات سبب أو غير ذات سبب في وقت الكراهة. ثم إننا نجد في السنة حديثاً فيه: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب) ، وفي نص آخر: (لا تحروا غروب الشمس بالصلاة) ، ولا تحروا أصلها: لا تتحروا، فإذا أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث: (ثلاث ساعات كان ينهانا عن الصلاة فيهن) ، فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان في عموم النهي، وهما أخص الأوقات الثلاثة لقوله: (لا تحروا) ، فهل يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب الشمس وشروقها؟ لخصوص الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها فقال: (إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى تستوي الشمس في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة مشهودة إلى بعد العصر) ، وفي رواية: (إلى أن تتضيف الشمس إلى الغروب) . إلى آخر الحديث. وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر يقول: أنا لا أنهى عن الصلاة مخافة من قوله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ، ويقول: أنا لا أنهى أحداً صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة طلوع الشمس أو غروبها. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى زيد بن خالد يصلي بعد العصر، فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى صلاته قال: لماذا تضربني يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال: نعم، أصلي ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد! إني لم أضرب عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بالصلاة غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان) ، وبين علة أخرى للنهي بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن قوماً يسجدون لها في ذلك الوقت) ، وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك الوقت، ومن مقاصد الشرع مخالفتهم. إذاًَ: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً للذريعة، حتى لا يصلي أحد عند الغروب.

تجويز بعض العلماء للصلاة بعد العصر والشمس بيضاء نقية

تجويز بعض العلماء للصلاة بعد العصر والشمس بيضاء نقية إذاً: من لم يتحر غروبها، وصلى بعد العصر والشمس بيضاء نقية، فإنه لم يتحر الصلاة عند غروبها، ولم تحصل منه المشابهة للكافرين، وقد أخذ بهذا المذهب الوسط ابن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة، فجوزوا الصلاة بعد العصر في أول الوقت قبل أن تتغير الشمس، وجوزوا الصلاة بعد الصبح في أول الوقت قبل بزوغ الشمس. واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين، وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما، فكانتا قضاءً في أول الأمر، وبعد ذلك لم يصلهما قضاء. وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً داوم عليه، فهذا من خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة: (أفنقضيهما إن فاتتا؟ فقال: لا) ، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما جاء في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل، فقال: (لست كهيئتكم) ، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث رءوا الهلال وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم) ، قال الراوي: كالمنكل بهم؛ لأنهم ما امتثلوا في أول الأمر. وعلى هذا قالوا: صلى النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم عليهما بعد ذلك، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة داوم عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته في ذلك الوقت من خصوصياته. واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح، فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت ركعتي سنة الصبح فصليتهما الآن، فسكت عنه) ، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا: فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه قضية عين ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو بالخيار: إن شاء صلاها بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ولا نقيس عليها غيرها كتحية المسجد وما شاكلها. أيها الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً بقضية الصوم ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا صلاة شاملة عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه الدليل، والدليل أخرج ما يلي: ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت، وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا: تجوز صلاة الجنازة عند قيام قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا خيف على الجنازة أن تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة الإنسان، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة، ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة، لكن هذه المسألة يكفينا منكم خمسين في المائة. [والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم الجمعة) ، وكذا لـ أبي داود عن أبي قتادة نحوه] . يوم الجمعة استثناه الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا عند الشروق ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.

كتاب الصلاة - باب المواقيت [4]

كتاب الصلاة - باب المواقيت [4] تحديد أوقات الصلوات من أهم المهمات، لا سيما وقت صلاة الفجر؛ لأن الفجر فجران، فجر كاذب، وفجر صادق، فلابد من التمييز بينهما، وقد بين عليه الصلاة والسلام الفرق بينهما، وشرح العلماء ذلك. ومن فوائد معرفة أوقات الصلوات أن يحرص على أداء الصلاة في أول وقتها، فإن ذلك من أفضل الأعمال عند الله تعالى.

حرمة منع أحد من الطواف وركعتيه متى شاء

حرمة منع أحد من الطواف وركعتيه متى شاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداًَ طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] . هذا من الأسلوب الرفيع، والبلاغة الواضحة، فيقول صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، وإذا كان الغرض عدم منع الناس من الطواف فكان يكفي أن يقول: لا تمنعوا أحداًَ يطوف بهذا البيت، وهذا يؤدي الغرض، لكن قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى ... ) . ويقولون: إن السبب هو مخافة أن يأتي بعض الملوك أو بعض الجبابرة أو بعض الأشخاص، فيمنع الناس من المطاف من أجل ذلك الشخص، وهذا كرهه العلماء إلا لمصلحة راجحة، مثل أن يخاف على حياة شخص كما يفعل الآن بعض الأحيان من الاتجاهات السياسية أو الاتجاهات الأمنية، والمصلحة تقتضي ذلك، لا لتعظيمه ولا لتوقيره دون الناس، فالبيت أعظم، لكن ولي الأمر هو المسئول عن ضمان هذه الشخصية التي دخلت الحرم في ضمانه وأمانه وتحت تصريحه بنفسه. إذاً: قوله: (لا تمنعوا أحداً طاف وصلى) هو على العموم، أي: بمقتضى قيامكم على البيت، لكن قال زيادة على هذا النهي عن منع الطائف والمصلي: (أية ساعة من ليل أو نهار) ، فما حاجة المجيء بهذه الجملة؟ وهي للعموم لا للخصوص؟ الجواب: لأن هناك بعض الأوقات قد نُهي عن الصلاة فيها، فرفع ذلك الحظر، ورفع النهي عن الصلاة في تلك الأوقات من ساعات الليل والنهار، أي: لا تمنعوا أحداً في أي وقت من الأوقات، ولو بعد العصر أو بعد الصبح. إذاً: مجيء هذه الجملة الأخيرة يستفاد منه أنه قد سبق النهي عن الصلاة في ساعات معينة، واستثنى منها صلاة ركعتي الطواف، وهذا الحديث من أوضح الأدلة على أن صلاة ما سوى ركعتي الطواف لا تجوز، وأما هذه فقد خرجت بنص مستقل، ولماذا؟ يقولون: لأن البيت يأتيه الناس في جميع الأوقات، وقد يأتي الرجل فيطوف ويذهب، وقد يأتي مع جماعة كذلك، فإذا منع الناس من الطواف والصلاة في أوقات معينة، فطاف بعضهم بعد العصر مثلاً وأرادوا أن يسافروا، فهل نحبسهم حتى تغرب الشمس وكل واحد منهم قد طاف ولم يبق عليه إلا الصلاة؟ لا. إذاً: لجواز الطواف في أية ساعة من ليل أو نهار أبيح للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي ساعة شاء من ليل أو نهار.

بيان معنى الشفق

بيان معنى الشفق [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفق الحمرة) رواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر] . هذا تفسير لحديث: (ووقت المغرب إذا غربت الشمس ما لم يغب الشفق) ، فما هو الشفق؟ اختلفوا في معنى الشفق لغة، فقيل: هو الحمرة الباقية إثر غروب الشمس، وقيل: هو بياض يكون بعد تلك الحمرة، فالجمهور على أن الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق دخل وقت صلاة العشاء، وقبل أن يغيب الشفق تصح صلاة المغرب أداء، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الشفق هو البياض الذي يكون بعد تلك الحمرة، ولذا ساق المؤلف هذا الحديث ليبين تعيين الشفق. وهل هذا التفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف على ابن عمر؟ هذه المسألة موضع اجتهاد واختلاف نظر، ولا يقال فيها: إن كان موقوفاً فله حكم الرفع؛ لأنه ليس أمراً غيبياً، وليس أمراً غير حسي، بل هو حسي ولغوي، لكن ولو كان موقوفاً على ابن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه من أهل اللسان، وهو أعرف به من غيره، والله تعالى أعلم.

الفجر فجران

الفجر فجران [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران: فجر يُحرم الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة -أي صلاة الصبح- ويحل فيه الطعام) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه] . ساق المؤلف رحمه الله تعالى في باب المواقيت حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفجر فجران) ، وقد تقدم بيان وقت صلاة الصبح، وأنه حينما ينفجر النهار من الليل، وتقدم حكم من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس. وهنا يبيّن المؤلف حقيقة الفجر الذي بطلوعه يدخل وقت الصلاة، ولما كان الفجر كلمة مشتركة بين مسميين؛ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كلاً منهما وحكمه، فقال: (الفجر فجران: فجر يحرم الطعام، ويحل الصلاة) أي: يحرم الطعام على الصائم، ويُحل الصلاة، أي: صلاة الصبح، (وفجر يحل الطعام ويحرم الصلاة) أي: صلاة فجر ذلك اليوم، بخلاف صلاة الليل أو الوتر أو نحو ذلك، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بين الفجرين بعلامة حسية لكل منهما، فأما الفجر الذي يُحل الطعام، ولا يُحل الصلاة فإنه يذهب مستطيراً في الأفق كذنب السرحان، والسرحان هو الذئب، وهذا الفجر يأتي قبل نهاية الليل، ويكون كالعمود الأبيض ممتداً من الأرض إلى السماء. وأما الفجر الثاني فبينه صلى الله عليه وسلم بكونه مستطيلاً كجناحي الطير، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه المسبحتين من اليمنى واليسرى بحذاء بعض ثم مد يديه يميناً ويساراً، والمسبحة هي التي تلي الإبهام، فقرن صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه ثم مد يديه، وهكذا يكون الفجر الذي تجوز فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام على الصائم، فهو يمتد في الأفق يميناً ويساراً، أما الأول فإنه يمتد من الأرض إلى السماء كالعمود، والفجر الأول يسميه الناس: الفجر الكاذب، ومعنى ذلك: أنه ليس فجراً حقيقاً يتوقف عليه الصوم والصلاة. قال الفخر الرازي في تفسيره: إن هذا الفجر الأول من أعظم الدلائل على قدرة الله، فإنه إيجاد موجود بلا سبب، وذلك أن الفجر الثاني عندما ينتشر في الأفق إنما هو أثر من آثار اقتراب الشمس منا، فإذا اقتربت الشمس منا انفجر الضوء من الظلام، وهو المعبر عنه في آية الصوم بالخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: فهذا الفجر الثاني مسبب عن سبب وهو ضوء الشمس، وكلما اقتربت الشمس منا كلما اشتد النور إلى أن تشرق الشمس على وجه الأرض، فالفجر الثاني مسبب عن سبب وهو الشمس، أما الفجر الأول فلا نعلم له سبباً! فهو موجود بإيجاد الله له بدون أي سبب، وبدون أن يتوقف على شيء ينشأ عنه. ولو تأملنا لوجدنا أشياء عديدة أنشأها الله سبحانه وتعالى بلا سبب، مثل حور الجنة، يقول سبحانه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فلم تكن لهن ولادة، ولم يكن هناك مبدأ آدم وحواء، ولكن الله سبحانه أنشأ الحور العين أكرمنا الله وإياكم بهن في الجنة. وينشئ أيضاً الولدان، وكذلك غرس الجنة ونعيمها وثمارها وأنهارها دون أن تكون متسببة عن غيرها، فأنهار الدنيا متسببة عن أمطار، فماء المطر ينزل من السماء فيجري ودياناً وأنهاراً، وكذلك حليب الدنيا وعسل الدنيا وغير ذلك، أما حليب الجنة وماء الجنة وعسل الجنة وخمر الجنة؛ فكل هذه ينشئها الله سبحانه دون سبب، وقد علمنا بانعدام جزء السبب لا كامل السبب في بعض أمور الدنيا، فخلق الله آدم من تراب، فخلط هذا التراب بماء فصار منه بشراً سوياً، بلا أب ولا أم، ثم خلق منه حواء، فهي امرأة جاءت من أب بلا أم، وأما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه رجل من امرأة بلا أب، وسائر البشر من أب وأم، وهي سنة الله في خلقه، قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] . إذاً: هذا الفجر الأول -كما أشار إليه هذا الإمام- آية وعلامة تحدث كل يوم، تدل على قدرة الله في إيجاد مسببات بلا أسباب، والذي يهمنا في الفقه أن هذا الفجر الأول لا يمنع الصائم من الطعام، ولا يُبيح للمصلي صلاة الصبح، ثم يأتي الفجر الثاني وهو على العكس من ذلك، يُحرم الطعام على الصائم، ويبيح الصلاة للمصلي، وبيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بينهما بأن الأول يمتد كذنب السرحان وهو الذئب، والثاني ينتشر في الأفق كجناحي الطير، والله تعالى أعلم. [وللحاكم من حديث جابر نحوه، وزاد في الذي يُحرم الطعام: (إنه يذهب مستطيلاً في الأفق) ، وفي الآخر: (إنه كذنب السرحان) ] . وهذا من البيان العملي لربط الأحكام بالمظاهر المعروفة للجميع، فصفة الفجر الأول أنه يذهب مستطيراً كذنب السرحان، وما أظن واحداً من العرب يجهل معنى السرحان، وصفة الفجر الثاني أنه يكون كجناحي الطير في الأفق، وذلك يكون في نهاية الليل وأول النهار.

أفضل الصلاة في أول وقتها

أفضل الصلاة في أول وقتها [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة في أول وقتها) رواه الترمذي والحاكم وصححاه، وأصله في الصحيحين] . جاءت الرواية: (في أول وقتها) ، وجاءت رواية أخرى: (على وقتها) ، والفرق بينهما: أن (في) ظرف للأفضلية، فتكون أفضل الأعمال الصلاة في أول الوقت، وعلى الرواية الثانية: (على وقتها) تكون الفضيلة ممتدة على كامل الوقت، ولكن جمهور العلماء يقولون: على: حرف استعلاء، وتكون قد اشتملت على الوقت كله، فقوله: (على وقتها) يفسره: في وقتها.

توجيه إجابة النبي عن أفضل الأعمال بأجوبة مختلفة

توجيه إجابة النبي عن أفضل الأعمال بأجوبة مختلفة يقول بعض العلماء: هذا الحديث فيه إشكال، وهو: كيف تكون الصلاة -وهي فرع عن الإيمان- أفضل الأعمال، وكان ينبغي أن يكون الإيمان أفضل الأعمال؛ لأنه الأساس؟ الجواب: لا حاجة إلى هذا الإشكال، فقد جاء الحديث الصريح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ، وسأله رجل آخر عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) ، وسأله آخر أيضاً فقال: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) ، لكن يرى بعض العلماء أن في هذا شبه تعارض، فالسؤال واحد والجواب مختلف! ولكن أجاب ابن دقيق العيد وغيره عن هذا فقال: ليس هناك اختلاف، وليس هناك تعارض، بل هذا مراعاة لحال السائل وما يصلح له، فرأى رجلاً لا يستطيع أن يكابد الجهاد، فهو ضعيف البنية، فلما سأل عن أفضل الأعمال أرشده لما يصلح له، فقال: (إيمان بالله ثم الصلاة على وقتها) ؛ لأنه مهما كان ضعيفاً، فإنه لا يعجز أن يصلي الصلوات على أول وقتها. ولما سأله الثاني وعرف أن له أبوين قال له: (إيمان بالله، ثم بر الوالدين) ، وليس المعنى: بر الوالدين مع ضياع الصلاة، فالصلاة كتاب موقوت، والصلاة أمرها معلوم من الدين بالضرورة، فالمعنى: أنه بعد الصلاة وبعد أداء الواجبات المفروضة فإن بر الوالدين من أفضل الأعمال، ولما رأى الثالث قوياً جلداً أرشده إلى أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله وهو الجهاد في سبيل الله؛ لأن حالته تناسب ذلك. وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع بعض أصحابه، فمر فتىً شاب قوي فقال رجل: (لو كان جلد هذا وشبابه في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى ليعف نفسه فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على زوجه وعلى أهله وأبويه فهو في سبيل الله ... ) إلى آخر الحديث، والشاهد: أن الناس يرون الجهاد أنسب للأقوياء.

مراعاة حال المستفتي دون الخروج عن السنة

مراعاة حال المستفتي دون الخروج عن السنة ومن هنا ينبغي على المفتي أن يراعي حالة المستفتي إذا سأله عن شيء عام، فينظر إلى حالته وما يناسبه، فإذا كان يناسبه الصلاة أرشده إليها، وإذا كان يناسبه الصيام أرشده إليه، إلى غير ذلك من الأعمال، ولكن لا ينبغي أن يخرج مراعاة لحال السائل عن حدود ما شرع الله، ويغير سنة رسول الله. وقد ذكر في تاريخ الأندلس أن ملكاً وقع على جارية له في نهار رمضان، فاستفتى بعض العلماء فقال له: لا كفارة لك في هذا الوطء إلا أن تصوم شهرين متتابعين، فقال له زملاؤه من العلماء: لم أمرته بصيام شهرين؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الذي قال: (هلكت وأهلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أتجد رقبة تعتقها؟ قال: والله لا أملك إلا هذه، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام! قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: والله! ما عندي ما أطعم أهلي، فقال: اجلس، فأتي بفرق من طعام فقال: أين السائل؟ خذ هذا فأطعمه أهلك) ، فالسنة -في كفارة من وطء في نهار رمضان- بدأت بعتق رقبة، ثم ثنت بصيام شهرين متتابعين، ثم ثلثت بإطعام ستين مسكيناً، وهذا المفتي لما سأله الملك قال: لا كفارة لك إلا صيام شهرين متتابعين. فقالوا له: لماذا غايرت الترتيب الذي جاء في السنة؟ قال: هذا ملك، ولديه الكثير من الجواري والعبيد، فلو قلت له: أعتق رقبة، لكان يمكنه أن يجامع في كل يوم في نهار رمضان، ويعتق رقبة، فهو نظر إلى حالته، ووجد أنه لا يردعه إلا الصوم، لكن قالوا له: ليس هذا عليك، بل عليك أن تخبره بعتق رقبة، وهذا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا يصح الاجتهاد المخالف للسنة. ونقول أيضاً: إن الخير في السنة، فلو كان ملكاً وأمكنه أن يعتق عن كل جماع رقبتين أو أكثر، فإنه أفضل من أن يصوم؛ لأنه -كما يقول الأصوليون- الخير المتعدي خير من الخير اللازم لصاحبه، فإذا أعتق الملك أمة وصارت حرة، فإن كل من تنجبه سيكونون أحراراً، فهو إذا أعتقها فكأنما أوجدها من العدم إلى الوجود، أي من الرق إلى الحرية، فيصير لها أحكام الأحرار، وكذلك العبد، حتى أنه يصير صالحاً للقضاء، وصالحاً للجهاد، وصالحاً للقيادة، وصالحاً للإمارة والولاية، فيكون هناك خير كثير، وكذلك الأمة تنجب لنا أحراراً، فإذا أعتق ثلاثين جارية، فإنه حرر ثلاثين رقبة، أما لو صام عشرين شهراً فما الذي سيعود على الناس من صومه؟ لن يعود على الناس من صومه شيء. إذاً: لا ينبغي في مراعاة حال السائل تجاوز ما سنه الله وشرعه وسنه رسول الله. وظن المفتي أن في ذلك المصلحة خطأ، بل المصلحة كل المصلحة في اتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر كما قال هذا المجتهد، لقال: صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة، ولكنه لم يقل هذا، بل قال: (أتجد رقبة؟ قال: لا أملك إلا رقبتي!) . إذاًَ: على المفتي أن يراعي حال المستفتي حينما يكون في الأمر سعة، ويكون هناك أنواع متعددة، فيرشده إلى ما يلائمه، وما يصلح مع حاله، كما سئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال: (الصلاة في أول على وقتها) وفي الحديث الآخر أجاب إجابة أخرى، فالسؤال واحد، وتنوعت الإجابة، وليس في هذا خلاف، وليس فيه تعارض، ولكن فيه مراعاة حال السائل وما يصلح له.

فضل الصلاة في أول الوقت

فضل الصلاة في أول الوقت نستفيد هذا الحديث: أن الصلاة في أول الوقت من أفضل الأعمال، والمؤلف أتى بهذا الحديث بعد بيان حديث: الفجرين، وتقدم حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) ، وبه أخذ الأحناف. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان نساء الأنصار يشهدن صلاة الفجر مع رسول الله متلفعات، ثم ينصرفن من الصلاة وما يعرفهن أحد من الغلس) فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبكر بصلاة الصبح، وقوله: (أصبحوا بالصبح) ، فعله مرة واحدة وتركه، وكان صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الصبح في أول وقتها، وقد ذكرنا أن أفضل صلاة الصبح إنما هو في أول وقتها، وجاء في الحديث: (إنه كان ينفتل من صلاة الصبح حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة) ، ولذا جمع بعض العلماء بين النصوص: بأنه كان يغلس بالصبح، ويطيل فيها القراءة، ولا يخرج منها إلا وقت الإسفار، وقد تقدم هذا المبحث. وجاء المؤلف بهذا الحديث هنا، بعد حديث: (الفجر فجران) ليبين أن أفضل صلاة الصبح في أول وقتها، والحديث عام في جميع الأوقات.

استثناء صلاة العشاء وصلاة الظهر وقت الحر من أفضلية أول الوقت

استثناء صلاة العشاء وصلاة الظهر وقت الحر من أفضلية أول الوقت ولا ننسى أن تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء أفضل، كما جاء في الحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) ، فالأفضل في الظهر عند شدة الحر تأخيرها عن أول وقتها، وذلك للذين يأتون من بعيد، ولا يجدون فيئاً يستظلون به إلى المسجد، وكذلك العشاء يستحب أن تؤخر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة إلى ثلث الليل، ثم خرج، وقد كانت رءوسهم تخفق فقال: (ما على وجه الأرض غيركم ينتظر هذه الصلاة، وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فأخر العشاء إلى ثلث الليل، وقال: (إنه لوقتها) وكان يحب ذلك، ولكن كان يُعجل بها حتى لا يشق على المصلين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة وفي نيته الإطالة ثم يخفف عندما يسمع بكاء الأطفال رحمة بقلوب الأمهات. وعلى هذا؛ فهذا الحديث عام، ولكن يخص منه ما جاءت النصوص بفضل تأخيرها عن أول وقتها، وهي صلاة الظهر إذا اشتد الحر، وصلاة العشاء لمن لم يشق عليه ذلك، والله تعالى أعلم.

تفضيل أول وقت الصلاة وأوسطه على آخره

تفضيل أول وقت الصلاة وأوسطه على آخره قال المؤلف: [وعن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) أخرجه الدارقطني بسند ضعيف جداً، وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه، دون الأوسط، وهو ضعيف أيضاً] . أبو محذورة هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وفي جعله مؤذناً قصة، وهي أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حنين واقترب من مكة نزل منزلاً، فخرج الصبيان من مكة لينظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك المنزل أذن مؤذن رسول الله للصلاة، فقام الصبيان يحاكون المؤذن، كما هي عادة الصبيان في تقليد الكبار أو في محاورتهم، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه أذان أبي محذورة، فقد كان متميزاً عن أذان الصبيان، فناداه، فلما جاء ذكر له الأذان، فقال: (اذهب فأنت مؤذن أهل مكة) ، ومن هنا نأخذ أن الغلام المميز يصح أذانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نصب هذا وهو غلام يحاكي أذان الكبار، وقد أعجبه صوته، وفيه أيضاً أن نتخير للأذان من كان حسن الصوت دونما تغنج، ودونما تكسر، حتى لا يخرج بأذانه عن اللائق بهذا الشعار العظيم. يقول رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله) ، وبصرف النظر عن ضعف السند، يقول العلماء: الفرق بين رضوان الله ورحمة الله وعفو الله: أن الرضوان أعلى الدرجات، كما قال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] ، والرحمة هي: سعة فضل من الله على العبد، والعفو لا يكون إلا عن تقصير، فكأن الصلاة آخر الوقت لا تكون إلا من مقصر، سواء كان هذا التقصير عن عذر فيعفى، أو كان عن إهمال أو عن انشغال فلا يعفى عن تقصيره، ولكنه يستحق العفو، فليسأل الله العفو، والحديث سنده ضعيف جداً، ولكن نقول: إنه في فضائل الأعمال، ولا يترتب عليه حلال وحرام، وإنما يبين فضيلة أول الوقت وأوسط الوقت على آخره، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة التطوع بعد طلوع الفجر

حكم صلاة التطوع بعد طلوع الفجر قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) أخرجه الخمسة إلا النسائي، وفي رواية عبد الرزاق: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر) ، ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص رضي الله عنه] . هذا بيان وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وتقدم أنها سبعة أوقات، وهذا الوقت من بعد طلوع الفجر حتى صلاة الصبح، ويستثنى من ذلك ركعتان، وما هما الركعتان؟ بينت الرواية الأخرى أنهما سنة الصبح، فإذا طلع الفجر وأذن المؤذن وانتظر الناس الإقامة؛ فما بين الأذان وإقامة الصلاة للصبح لا يجوز التنفل، لكن يجوز ركعتان فقط وهما ركعتا الفجر، أي: سنة الصبح، وما عدا ذلك لا يجوز، اللهم إلا ما جاء في حق من نام عن الصلاة أو نسيها فإنه يصليها حين يذكرها. وجاء عن كثير من العلماء ومنهم علي رضي الله تعالى عنه أن هذا الوقت يجوز فيه صلاة الوتر لمن نام عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت، ولم يكن قد أوتر، فله أن يوتر بعد طلوع الفجر قبل أن يصلي ركعتي الصبح ثم يصلي سنة الصبح، ثم يصلي الفريضة، فقد جاء عنه أنه خرج يوماً لصلاة الصبح فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فأشار إليه أن اصبر حتى أوتر. وجاء عن مالك رحمه الله أنه سئل عن صلاة الوتر في ذلك الوقت، فقال: لا بأس، لكن أكره أن يتعمد ذلك؛ لأن في بعض الروايات: (إذا طلع الفجر فلا وتر) . وعند الأحناف أن الوتر واجب، وهم يفرقون بين الواجب والفرض، فالفرض ما ثبت بنص قطعي من كتاب أو سنة متواترة، والواجب ما ثبت بغير ذلك، فهم يرون أن الوتر واجب، وأنه يقضى ولو بعد طلوع الشمس، وبعضهم يقول: إلى ما قبل الزوال، أي: لا يترك أبداً؛ لأن صلاة الوتر جاءت فيها نصوص شديدة، مثل حديث: (من لم يوتر فليس منا) ، وحديث: (أوتروا يا أهل القرآن! فمن لم يوتر فليس منا) إلى غير ذلك. إذاً: هذا الوقت من طلوع الفجر إلى صلاة الصبح لا صلاة نافلة فيه، اللهم إلا قضاء الصلاة الفائتة أو ركعتي الفجر أو الوتر لمن لم يكن أوتر إذا نام عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت.

حكم الصلاة بعد العصر

حكم الصلاة بعد العصر قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فسألته، فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن، فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا) أخرجه أحمد، ولـ أبي داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمعناه] . تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وقد علم الجميع ذلك، ثم رأت أم سلمة الحكيمة رضي الله تعالى عنها من النبي عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك. وأنا أسميها: الحكيمة لمواقف عديدة صدرت منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها بعد العصر فإذا به يصلي! وهي تعلم منه أنه (لا صلاة بعد العصر) ، فحملت ذلك منه على النسيان، فقالت لجارية عندها: قومي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولي له: كنت تنهى عن الصلاة بعد العصر، وها أنت تصلي بعد العصر، قالت: ثم تأخري عنه، يعني: ذكريه إن كان ناسياً، فاستمر صلى الله عليه وسلم في صلاته، ولما صلى الركعتين انقلب إليها يعلمها، فقال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر) ، ونحن نعلم أن للظهر سنة: ركعتين قبلها، وركعتين بعدها، أو أربعاً قبلها أو أربعاً بعدها. قال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني وفد عبد القيس بأموالهم -وفي رواية:- بإيمانهم، فشغلت بهم عنهما، فها أنا أصليهما) ، فبين صلى الله عليه وسلم سبب صلاته هاتين الركعتين بعد العصر، ففهمت أم المؤمنين أنه قضاهما؛ لأن سنة الظهر ينتهي وقتها بصلاة العصر؛ لأنها صلاة مرتبطة بالظهر، والسنن الرواتب مرتبطة بفريضتها، فأدركت أنه يقضيهما وليستا أداء، ولهذا قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ تعني: إذا فاتتا علينا نحن أيضاً، بأن انشغلنا عنهما، فهل نقضيهما أيضاً بعد العصر؟ فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا) ، ثم إنه داوم على هاتين الركعتين بعد العصر؛ فيقول الجمهور: من القواعد الأصولية أنه صلوات الله وسلامه عليه إذا أمر بشيء ولم يفعله فهذا من خصوصياته، أو نهى عن شيء وفعله فهو من خصوصياته، مثاله لما جاء أبو أيوب بطعام فيه من البقول، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بأكلها ولم يأكل هو منها، فعدم أكله منها وهي مطبوخة من خصوصياته، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: أميتوها طبخاً، يعني: تلك البقول التي تجعل في الطعام من بصل ومن ثوم ومن كراث ونحو ذلك، الشاهد أنه أمرهم أن يأكلوها، وامتنع هو، فكان امتناعه منها خاصاً به. وكذلك هنا نهى عن الصلاة بعد العصر وصلّاها، فكانت صلاته لها وقد نهى الناس عنها من خصوصياته، لكن قال بعض العلماء: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين كل يوم بعد العصر مع المداومة عليها مشكل، وليس هناك موجب للقضاء، وليس هناك ما يشرعها من جديد، فأجاب بعض العلماء بأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا بدأ عملاً داوم عليه ولا يقطعه. ومن أمثلة ما نهى عنه وكان يفعله لأنه من خصوصياته: الوصال في الصوم، فإنه نهى عن الوصال وواصل، فكان الوصال من خصائصه، ولذا عندما ألحوا عليه في وصالهم مثله، قال: (لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، ولا ينبغي الخوض بالعقل في هذا، والتساؤل ماذا كان يطعمه؟ وماذا كان يسقيه؟ وإذا أطعمه وسقاه فهل يكون ذلك وصال مع أنه يأكل ويشرب مما يطعمه ربنا ويسقيه أم ليس هناك وصال؟ نقول: لا، فالشهداء عند ربهم يرزقون، ونحن لا ندري كيف يرزقون، وماذا يرزقون، فكذلك صلى الله عليه وسلم يعطيه ربه قوة الطاعم والشارب، فيعطيه قوة، ويعطيه عوناً، ويعطيه ما شاء، وهذا لا دخل لنا فيه، قال: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، فنقول: نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم. إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هاتين الركعتين بعد العصر، وجاء عن زيد بن خالد أنه صلى بعد العصر ركعتين فرآه عمر، فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انتهى من صلاته، قال له: اضرب يا أمير المؤمنين! فهما ركعتان أصليهما ولن أتركهما، فقال: يا زيد! ما ضربتك عليهما إلا أني خشيت أن يصلي الناس بعد العصر فيتمادوا في صلاتهم حتى غروب الشمس، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس، فـ عمر كان يضرب من يصلي بعد العصر. وابن عمر كان يروي حديثاً: (لا تحروا بصلاتكم غروب الشمس) ، فـ ابن عمر كان يرى جواز الصلاة ما لم تصفر الشمس، وعمر كان يضرب الناس على الصلاة من أول الوقت سداً للذريعة، أي: مخافة أن يصلي هذا في أول الوقت، ثم يأتي الثاني وينظر إليه فيصلي، ويأتي الثالث بعده فيصلي، وهكذا يتوالى الناس بالصلاة بعد العصر مباشرة والشمس بيضاء، ثم تمتد صلاة الناس إلى غروب الشمس، وكل واحد يتابع الذي قبله، فـ عمر منع من ذلك سداً للذريعة. إذاً: يهمنا من هذا الحديث أنه لا صلاة بعد العصر كما تقدم البحث فيه، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر اعتبرها العلماء من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.

كتاب الصلاة - باب الأذان [1]

كتاب الصلاة - باب الأذان [1] الأذان من شعائر الإسلام العظام، فقد تضمن إعلان أصول الإسلام، ففيه تكبير الله وتعظيمه، والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وفيه الدعوة إلى عمود الإسلام وهو الصلاة، والترغيب فيها، وهذه الشعيرة العظيمة لها أحكام وآداب ينبغي العلم بها.

مشروعية الأذان

مشروعية الأذان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (طاف بي وأنا نائم رجل فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، فذكر الأذان -بتربيع التكبير من غير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة- قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق ... ) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة] . لاحظوا ترتيب المصنف في التبويب، فإنه بعدما أنهى أحاديث توقيت الصلوات الخمس، جاء بباب الأذان، فكأنه يقول: إذا دخل الوقت جاء الأذان، وإذا أذن جاءت الإقامة، وإذا أقام جاءت الصلاة، وهذه صفتها وكيفيتها. والأذان لغة: الإعلام، وكل كلمة وجدت فيها: الهمزة والذال والنون فاعلم أنها من مادة الأُذن، وفقه اللغة يقول: إن أصل وضع اللغة للمحسوس ثم يتفرع عنه إلى المعنوي، فالأُذن هي مادة أذن، وكلما سمعت بكلمة مركبة من هذه الحروف فاعلم بأن فيها إعلام. تقول: الآذن والمأذون، الآذن هو الذي يُلقي في أذن المستأذن الإذن بالدخول، وتقول: هذا مأذون وهذا آذن، أذنت لك في كذا، آذني في كذا، وقال الشاعر: (آذنتنا ببينها أسماء) . يعني: أعلمتنا وأنذرتنا، وهكذا أصل مادة الأذان من الأُذن؛ لأن المتكلم يلقي في أذن السامع ما يريد أن يلقيه، فكان الأذان إعلاماً، وهو في الشرع: إعلامٌ مخصوص بلفظ معين في وقت معين. وشرع الأذان بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانوا في بادئ ذي بدء يعلم بعضهم بعضاً بالوقت، فإذا مر إنسان على بيت آخر قال له: جاء الوقت، وهكذا يمر بعضهم على بعض، فيُعلم بعضهم بعضاً بدخول الوقت حتى يجتمعوا إلى المسجد، فإذا دخل الوقت يصلون. ثم اجتمعوا وتشاوروا ليروا وسيلة مناسبة ليعلموا بها دخول الوقت، فقال بعضهم: (نتخذ ناقوساً، فقال صلى الله عليه وسلم: الناقوس للنصارى، وقال بعضهم: ننفخ بوقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: البوق لليهود، وقال بعضهم: نوقد ناراً، فقال صلى الله عليه وسلم: النار للمجوس) ، وإيقاد النار إعلام سريع، فهو مثل البريد أو المواصلات، وكان يمكن أن يصل الخبر من الحجاز إلى العراق عن طريق النار في ربع ساعة، وقد كان الناس في الحالات الخطيرة الهامة، إذا كانوا ينتظرون جيشاً مغيراً أو ينتظرون قدوم أمر خطير؛ يجعلون المنارات على رءوس الجبال، وفيها موضع يوقد فيه النار، وتعلمون مدى سرعة الضوء، فسرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت، فإذا وصل الخبر المدينة أشعل صاحب المدينة النار في منارته، وهكذا الذي يليه، وليكن بينهما -مثلاً- مائتا كيلو، فإذا رأى النار فإنه حالاً حينما يرى ضوء النار من المدينة يشعل النار عنده، وحينما يشعل النار عنده يرى الآخر ضوءها ولو من بعد مائتا كيلو أو أكثر من ذلك فيشعلها، وهكذا حتى يصل الخبر بإشعال النار إلى بغداد مثلاً، وذلك قد يكون في نصف ساعة، وهذا أسرع من الطائرة، وأسرع من الصاروخ. المهم أنهم عرضوا وسائل الإعلام، وكلها أعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مشهورة عند كافرين، ونحن قد أُمرنا أن نخالفهم، لا أن نسير في ركابهم، بل لا نشابههم في شيء، فانصرفوا ولم يتفقوا على شيء، فجاء عبد الله بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم، ولم أكن بنائم) أي: هو في حالة بين كونه نائماً وغير نائم، وهذه حالة قد تعرض لبعض الأشخاص، فيرى بعض الأشياء وهو في أوائل النوم، ولم يتمكن النوم منه، ولم يكن مستقيظاً تمام الاستيقاظ، بل يكون في حالة بين بين، قال: (رأيت فيما يرى النائم، ولست بنائم، رجلاً عليه بردين أخضرين يحمل ناقوساً، فقلت: هل تبيع لنا هذا الناقوس؟ قال: وماذا تفعلون به؟ قلت: نعلم به للصلاة قال: ألا أدلك على غير ذلك؟ قال: بلى، فألقى عليه الأذان -كما هو معروف الآن- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون -وألقى عليه ألفاظ الإقامة-، فجاء عبد الله بن زيد إلى الرسول فأخبره بذلك، فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك) ، فالذي رأى الرؤيا، وشرع الأذان على يده لم يباشره، ولكن باشره من هو أولى منه. ومن هنا نأخذ أن تعيين المسئوليات يكون بحسب من يصلح لها، لا بحسب مراعاة شخص أو مناسبة أخرى، فهذا الذي رأى الرؤيا بالأذان ألقاه على بلال، وقام بلال ورفع الصوت به، فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه تلك الألفاظ جاء يجر رداءه وقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد رأيت مثل ما أسمع الآن فيما يرى النائم) ، وهكذا شرع الأذان برؤيا منام، وجاء على يدي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا نجعل الفقه في جانب، وننظر إلى هذا الواقع، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأذان -وهو أعظم شعار في العالم الإسلامي- يشرع بهذه الطريقة، فلم يوح به على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأته جبريل عليه السلام ويعلمه الأذان مباشرة أمام الناس كما جاءه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ وكل ذلك يجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا أمر الساعة، ثم ولى، فقال: (أعيدوه، فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) ، ونظير ذلك عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من الهجرة، عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله يأتيه الوحي، لكن عندما تلقاه الناس وشيعوه من قباء إلى المدينة، كل منهم يقول: هلم عندنا يا رسول الله! كان يقول: (دعوها فإنها مأمورة) -أي: الناقة التي يركبها- فكان يوحى إليه في الصغيرة والكبيرة ولكن هنا يقول عن ناقة عجماء: (إنها مأمورة) ولماذا هذا؟ لاشك أنه لحكمة عظيمة، أما موضوع الأذان فنقول -والله تعالى أعلم-: لقد جاء الأذان بإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعلت الشهادة برسالته قرينة بشهادة لا إله إلا الله، حيث يقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، فلما كان في الأذان تعظيم وتكريم للرسول صلى الله عليه وسلم باقتران اسمه مع اسم رب العالمين، وكان ذلك حظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شرع بواسطة أحد الناس وأفرادهم، فإنه يكون قاطعاً لألسنة أولئك المتربصين الذين يرمون سهام التشكيك في ضعاف الناس، فلو شرع على لسان النبي لقالوا: إن محمداً هو الذي جاء باسمه مع اسم الله، ولكن لما جاء بواسطة شخصين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يستطيع إنسان -مهما بلغ به التشكيك، ومهما بلغ به الحقد على الإسلام- أن يطعن في رسول الله بذلك، بل أتى به من أتى، ثم هو قرر أنها رؤيا حق، فتشريع الأذان ليس برؤيا من حيث هي، ولكن بتقريره صلى الله عليه وسلم أن تلك الرؤيا حق، أي: أن ألفاظ الأذان حق. فيكون مشروعاً، والسبب تلك الرؤيا، ثم التثبيت والتقرير منه صلى الله عليه وسلم.

حكم الأذان قبل دخول الوقت

حكم الأذان قبل دخول الوقت قال المصنف رحمه الله [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن بلالاً أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام) رواه أبو داود وضعفه] . هذا الحديث مما احتج به الإمام أبو حنيفة على أنه لا يجوز أذانٌ قبل الوقت، وبلال رضي الله تعالى عنه أذن، وكان هو المؤذن للصلاة، فإذا بأذانه وقع قبل تحقق طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى حيث أذن وينادي بصوت مرتفع: (ألا إن العبد قد نام) ، وهذه صفة العبودية لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأن بلالاً قد أعتق؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه وهو في مكة وأعتقه، فهو عتيق لـ أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يهاجر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. (ألا إن العبد قد نام) ، وإذا كان قد نام فيكون قد غفل عن تعيين الوقت، والأذان في الوقت بدقة، فرجع ليعلم الناس بهذا؛ لأن أذانه سيغر من يصلي في البيوت، ومن يريد الصيام عن الطعام، فلما يعلموا بأنه قد نام، وأن الأذان الأول جاء في غير وقته؛ يستطيع الصائم أن يأكل، ويعيد الذي صلى صلاته؛ لأنها وقعت قبل الوقت. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: هذا بلال أذن قبل الوقت، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلم عن نفسه بأنه قد نام. إذاً: بلال ما كان يؤذن إلا في الوقت، ولكن السنة أثبتت أن بلالاً كان يؤذن قبل الوقت، والذي يؤذن في الوقت إنما هو ابن أم مكتوم.

اختلاف العلماء في الأذان للجمعة قبل الزوال

اختلاف العلماء في الأذان للجمعة قبل الزوال أخذ الجمهور من هذا الحديث: أنه لا يجوز الأذان للصلاة إعلاماً بدخول الوقت قبل أن يدخل الوقت، وهذا في جميع الأوقات الخمسة ما عدا الجمعة، فإنهم اختلفوا في جواز الأذان لها قبل دخول الوقت، فالأئمة الثلاثة يقولون: لا يؤذن للجمعة إلا بعد دخول وقت صلاة الظهر، وهو: زوال الشمس عن كبد السماء، ومالك رحمه الله يذكر في الموطأ: أن جعفراً كان له طنفسة عند جدار المسجد الغربي، فإذا غطاه الظل أذّن المؤذن وبدأ في صلاة الجمعة، ومعلوم أن الظل أو الفيء لا يكون إلى جهة المشرق إلا بعد زوال الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب؛ لأن الظل عكس الشمس، إذا كانت الشمس في المشرق فالظل يكون إلى المغرب، وإذا كانت في المغرب فالظل يكون إلى المشرق، فنص مالك رحمه الله: أنه لا يجوز النداء للجمعة إلا كما يجوز للظهر، وهذا ما عليه المذاهب الثلاثة. أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يجوّز صلاة الجمعة قبل الزوال، ولهذا يجيز الأذان لها قبل ذلك، ويقول: الجمعة عيد، وتصح صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس وقت الضحى إلى قبل الزوال، فالأمر عند أحمد متسع، ولكن المنصوص عن أحمد: أن المستحب ألا تكون الجمعة إلا بعد الزوال. إذاً: مذهب أحمد جواز إيقاع صلاة الجمعة قبل الزوال، ولكن المستحب عنده ألا تكون إلا بعد الزوال، وبهذا يتفق مع الجمهور، والله تعالى أعلم.

مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن

مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) متفق عليه] . هذا الحديث -يا إخوان- يستوجب وقفة طويلاً؛ وذلك لهذه السنة النبوية الشريفة: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، والمثلية هنا ليست في الهيئة والكيف، ولكن في اللفظ فقط؛ لأن المؤذن يقول بصوت مرتفع ليسمع الآخرين، ولكن نحن إذا كنا في المسجد أو في الطريق أو في البيت أو في أي مكان إنما نحكي قول المؤذن لأنفسنا لا للغير؛ لأننا لا ننادي أحداً يأتي إلينا، وهذا ملفت للنظر! أنا أسمع المؤذن وأعي ما قال، فإذا قال: الله أكبر، أدركت معنى ذلك، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أدركت كذلك، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، كل هذه معانٍ أنا أدركها، فلماذا أقول بلساني وأسمع نفسي أو من بجواري هذا القول؟ نتأمل ذلك من جانبين: الجانب الأول: معاني الأذان، نجد الأذان قد جمع قواعد التوحيد وأصوله، ونظير ذلك التلبية في الحج، فالتلبية إعلان برفع الصوت، وهي شعار الحج، والأذان نداء برفع الصوت وهو شعار الإسلام، وإذا أخذت اللفظ الأول: (الله أكبر الله أكبر) فإنك تستشعر عظمة الله، وأنه أكبر من كل كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك. وتأتي بالشهادتين تجدد العهد مع الله أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وتجدد العهد بأنك تشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان يجزئ التلفظ بهما في العمر مرة واحدة، فيدخل الإنسان بهما الإسلام، ولكن تجديدهما أفضل الذكر وأقرب القربات إلى الله سبحانه وتعالى. فإذا سمعت (حي على الصلاة) فهو نداء يناديك باسم الله الأكبر، و (حي) بمعنى: أقبل على الصلاة التي هي عماد دينك، وهي حصن لك، تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الحياة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] . و (حي على الفلاح) تشعرك بفلاحك في الدنيا والآخرة، و (الله أكبر) حتى لا يشغلك عنها شيء، (لا إله إلا الله) . فإذا تأملنا معاني هذه الألفاظ تحتم على السامع أن يقولها بلسانه ويسمع نفسه، لتكون عملياً تطرق القلب، وتملأ السمع، فيكون في حالة الأذان متوجهاً إلى الله سبحانه. الجانب الثاني: المؤذن يؤذن وأنت في شغل، ففي الفجر وأنت في نوم، وفي الظهر وأنت في القيلولة، وفي العصر وأنت في العمل، وفي المغرب وأنت في عملٍ أو على طعام، وكذا في العشاء، فكل أوقات النداء أوقات شغلٍ، فإذا سمعت (الله أكبر) وكنت في نومك أو في عملك عرفت أن الله أكبر، ويجب أن تقوم وتنهض وتجيب حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإذا كنت في عملك في النهار مشتغل في متجرك، أو مشتغل في مصنعك، أو مشتغل في عمل بيتك، مهما عظم هذا العمل، وتسمع (الله أكبر) ؛ علمت بأن الله أكبر مما في يدك، ومما يشغلك عن أداء الصلاة، فمن أجاب هذا النداء تهيأ له. وتوقيت الصلوات مرتبط مع تلك الحركة الكونية للشمس، وهذا الضوء الذي ينفجر من ظلام الليل آية من آيات الله، ثم إذا بالشمس تدور حتى تصل إلى كبد السماء، ثم تتحول إلى الغروب، ثم تتضيف إلى الغروب، ثم هي تغرب من هذا الكون عن هذا الجهة وتمضي في سبيلها، حركات يتغير من أجلها الكون بأسره! وإذا تأمل الإنسان هذا، وكان خالي الذهن، وجلس في عراء من الأرض، وعند نهاية الليل وعند إقبال النهار، يتأمل في هذا الكون ليل يمضي، وفجر يأتي، وحركة لا يقدر عليها إلا القوي المتعال، فيستدل بتفكره في هذه الحركة الكونية على عظمة الله وقدرة الله، فإذا سمع المؤذن يقول: الله أكبر، فكأنه يقول له: إن الذي يأتي بهذه الحركة، ويغير مجرى الزمن، ويغير أوضاع الكون هو الله، فيمتلأ قلبه إيماناً بالله. وهكذا تتعلق أوقات الصلوات الخمس بتغير أحوال الزمن وبمسيرة الشمس، وكل حركة في ذلك تنادي بأن الله أكبر. إذاً: الأذان ليس مجرد كلمات تطرق السمع، ولكنها معانٍ جليلة، تعلقت بأحداث كونية عجيبة، ولهذا جاءت السنة النبوية بأن تصغي إليه، وتردده، فإذا كنت تعمل بيدك وأذنك مع المؤذن ولسانك يحكي قوله فما يفرغ المؤذن من أذانه حتى تكون قد استخلصت نفسك مما أنت فيه، وجمعت شعورك وإحساسك إلى معاني هذا النداء، فتنفض يدك مما أنت فيه، وتذهب وتتوضأ وتأتي إلى بيت الله لأداء الصلاة. فقوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول) ، ليست المسألة بالعبارات، وليست المسألة ذكر كلمات، ولكن لتعيش بوجدانك وروحانيتك وإحساسك وشعورك مع هذا النشيد الأعلى: الله أكبر، لا إله إلا الله.

ترديد الأذان لمن سمع مؤذنين في وقت واحد

ترديد الأذان لمن سمع مؤذنين في وقت واحد وهنا مباحث فقهية: إذا كنت تسمع أذاناً واحداً فإنك تقول مثل ما يقول وتخرج من العهدة، وإذا كان هناك أذانان، سواءً في مسجد واحد يأذنان معاً أو متواليين أو في عدة مساجد وتسمع أذان كل مسجد عقب الأخر هل تكتفي بإجابة المؤذن الأول فقط أو تردد مع كل مؤذن الأذان كل ما سمعت ذلك؟ يوجد قاعدة أصولية: إذا تعدد السبب هل يأتي المسبب أم لا؟ هناك حالتان: - حالة يتعين فيها الإتيان بالمسبب في كل مرة. - وحالة يجزئ فيها مرةً واحده. فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (آمين، آمين، آمين) حينما صعد المنبر، فقالها ثلاث مرات في ثلاث درجات، وسئل عن ذلك فكان مما قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك، قل: آمين) ، فقالوا: إن تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره متعين، فهذا متعدد السبب، ويتعين إيجاد المسبب عند وجوده، فكلما سمعت ذكره صلوات الله وسلامه عليه تعين عليك أن تصلي وتسلم عليه. وهناك من الأمور ما يتعدد ويتكرر ويجزئ عنها شيء واحد مرة واحدة، كما في نواقض الوضوء، لو أن إنساناً كان على وضوء ثم أحدث ما ينقض الوضوء ثم أحدث حدثاً آخر ثم أحدث حدثاً آخر، فإنه يجزئ عن ذلك كله وضوء واحد؛ لأن الأحداث لا تجدد الحدث عند الإنسان، الحدث هو واحد وإن تعددت أسبابه، فيكفي لرفعه وضوء واحد، وكذلك الغسل إذا لم يغتسل للحدث الأول ولا للثاني فإنه يجزئ عنه غسل واحد. فهل الأمر يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟ فهنا قال: (إذا سمعتم فقولوا) ، قد سمعنا الأول وقلنا مثله، فهل نقول مثل المؤذن الثاني بالأمر الأول؟ أكثر العلماء أنه كلما سمعت مؤذناً يؤذن فعليك أن تقول كما يقول، وهناك من يقول: تكفي المرة الأولى، ولكن الأول أصح.

حكم ترديد الأذان أثناء الصلاة

حكم ترديد الأذان أثناء الصلاة وهل تقول كما يقول المؤذن وأنت في صلاة؟ بعض العلماء يقول: نعم؛ لأن الأذان كله ذكر لله، وأنت في الصلاة تذكر الله سبحانه وتعالى، وعند (حي على الصلاة) تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وهناك من يعارض إذا كنت في صلاة وسمعت المؤذن. والبعض يقول: إن في الصلاة لشغل، فلا تجبه وأنت في الصلاة، وبعضهم يقول: يجوز ذلك في النافلة ولا يجوز في الفريضة؛ لأنه يتسامح في النوافل مالا يتسامح في الفرائض، والله تعالى أعلم. واختلف الفقهاء في مسألة: هل تقول كما يقول مقيم الصلاة حين يشرع في إقامتها أو أن ذلك خاص في الأذان فقط؟

ما يقول السامع للأذان عند الحيعلتين؟

ما يقول السامع للأذان عند الحيعلتين؟ [ولـ مسلم عن عمر رضي الله عنه في فضل القول كما يقول المؤذن كلمةً كلمةً سوى الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله] . هذا استثناء في ترديد الأذان، فحينما يقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) تحكي ما يقول، وإذا جاء إلى الحيعلة وقال: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهل تحكي هذه العبارة بلفظها؟ هناك من يقول: لا تحكيها، ولكن تقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ولماذا؟ قالوا: لأن قولك: حي على الصلاة نداء لغيرك ليحضر إلى الصلاة وأنت ما ناديت أحداً، و (حي على الفلاح) معنى خارج عن معنى الأذان المتعلق بالصلاة، فيقولون: في هذه الحالة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتشعر نفسك بأنه لا حول ولا قوة لك على إجابة نداء المؤذن إلا بالله، هو يناديك وأنت تقول: نعم أستعين بالله على إجابتك، لا حول لي ولا قدرة لي ولا قول لي على أن أجيبك إلا بالله سبحانه وتعالى. وهذا إشعار بالضعف والعجز، واستكانة بين يدي الله حتى يعينك على إجابة المنادي: (حي على الصلاة) . وبعض العلماء يقول: تقول الحيعلتين، وتعقبهما بقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله. يعني: تجمع بين اللفظين فتقول: (حي على الصلاة حي على الصلاة) لا حول ولا قوة إلا بالله. والعلماء يقولون في معنى الحوقلة: لا حول عن معصية، ولا قدرة على طاعة إلا بالله، وهذا عين التوحيد؛ لأن الإنسان ضعيف بالنسبة للمعصية، فالنفس والهوى والشيطان وميول الرغبات كل ذلك عوامل تدعوه إلى المعصية، فكيف يصد هذه العوامل المجتمعة إلا بالله سبحانه وتعالى، وكذلك فعل الطاعة لا تقدر عليها إلا بالله. قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] أي: ليست بهينة، وهذه الكبيرة كيف تؤديها؟ بقوة من الله سبحانه {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] هم خاشعون لله، ومن كان خاشعاً لله كان له عون من الله سبحانه وتعالى. إذاً: عند الأذان تحكي ألفاظه، وعند الحيعلتين هناك من يقول: لا حاجة أن تذكرهما؛ لأن معناهما لا يتحقق عندك، وتقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الكلمة أعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش ليلة الإسراء، كما أعطي فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سرا

مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً هذا الحديث من أعظم الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، إلى هنا أكتفى المؤلف وتتمة الحديث: (ثم صلوا عليّ وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبدٍ واحد، أرجو الله أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) . السنة بعد أن ينتهي سامع الأذان من حكاية المؤذن أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم سراً كما حكى ألفاظ المؤذن، وكذلك المؤذن حينما يفرغ من الأذان بصوته العالي الذي ينادي به الناس، يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سراً ليكون ممتثلاً، وكما يقول السامع للأذان ذلك، كذلك أيضاً المؤذن، ويقول -ما علمنا صلى الله عليه وسلم- مثل السامع: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة) . وفي هذا الحديث ما ينبغي التنبيه على أن بعض الجهات أخذ من هذا الحديث الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان بصوت مرتفع كألفاظ الأذان! وأدخلوا الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان بناءً على ذلك! قالوا: فالمؤذن يصلي عليه كما كان يؤذن لقوله: (فصلوا علي) ، فنقول: التشريع صحيح، ولكن الكيف خطأ، ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان الخلفاء الراشدون، ولا المؤذنون لهم يصلون على النبي عقب الأذان بارتفاع الصوت، وهذا جعل بعض الجهال يظنون إلى اليوم أنها ضمن الأذان وضمن ألفاظه. وهذا لا ينبغي. قال ابن الحاج في المدخل: لا شك أن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشر مرات) ، واحدة منك يا عبد يا مسكين تقابل بعشر مرات من رب العالمين! أي فضل أعظم من هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تأتي بها إلا في المواضع التي شرعت فيه، وما شرعت الصلاة والسلام على رسول الله عقب الأذان بصوت مرتفع كالأذان، فقال رحمه الله -وهو الحق-: نعلم أن هناك مواطن لا يجوز الدعاء فيها، حتى أعظم القربات، فالقرآن هو أعظم القربات فبكل حرف منه عشر حسنات، ومع ذلك نهينا عن قراءة القرآن في الركوع وفي السجود، مع أن الإنسان أقرب ما يكون من الله وهو ساجد، ومنعت هذه في تلك، فكل شيء مكانه، ولا ينبغي الابتداع، ولا ينبغي إيجاد ما لم يوجد من قبل، وكما قال مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) . والله تعالى أعلم.

مشروعية الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالوسيلة

مشروعية الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالوسيلة وقوله: (ثم سلوا لي الوسيلة) ، بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها منزلة في الجنة رفيعة لا تنبغي إلا لعبد واحد بلا مشاركة، ويقول صلى الله عليه وسلم (أرجو أن أكون أنا هو) . يا سبحان الله! ومن يتقدم عليه إليها؟ ومن هو أحق بها منه؟ لا أحد، ولكن هذا تواضع منه مع رب العزة، ولم يأتل على الله بأنه صاحبها، ولكنه حسن الظن بالله، والتواضع بين يدي الله، وإن كان يعلم أنه أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأنها لا تنبغي لغيره، ولكن تأدباً مع الله واحتراماً لقدرة الله وعطائه وحكم إرادته المطلقة، قال: (أرجو) ، وهذا الرجاء حقيقة، ولن تكون إلا له. والمقام الرفيع الذي وعده هو الشفاعة العظمى حينما يحشر الناس جميعاً في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، ويلجم الناس العرق، ولم يكن بين الشمس وبين رءوسهم إلا قدر ميل. قيل: ميل المرود الذي للمكحلة، وقيل: ميل المسافة، ومهما يكن من شيء فالشمس الآن في الصيف بيننا وبينها بلايين الأميال ومع ذلك يتضرر الإنسان من حرارتها، فإذا كانت يوم القيامة بقدر ميل واحد. أي: كيلو ونصف فكيف يكون الحال؟ (فيضج الناس، ويقولون: ألا ترون ما نحن فيه، ألا تطلبون من يشفع لنا عند ربنا، ليأتي لفصل القضاء، فيقولون: ومن يشفع لنا؟ قالوا: اذهبوا إلى نوح أبي البشر فيذهبون إلى نوح فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، وإني قد دعوتي على قومي دعوةً أغرقتهم، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمان، فيأتون إلى إبراهيم ويعتذر لهم أيضاً، ويقول: أذهبوا إلى موسى كليم الله، فيذهبون إلى موسى ويعتذر، ويقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيأتون إليه ويعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهبون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها، أنا لها، ويذهب حتى يسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد وتسابيح لم يكن يعلمها من قبل) ، وهذا مثل الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فما استأثر سبحانه به في علم الغيب عنده يلهمه رسوله في ذلك الوقت، (فيسبح الله ساجداً إلى ما شاء الله حتى يقول له المولى سبحانه: يا محمد! ارفع رأسك، وشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) ، وهذه الشفاعة العظمى التي شملت الأمم جميعها بما فيهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون. ثم تتوالى الشفاعات بعد ذلك، وهي سبعة أنواع، يشفع في قوم استحقوا النار ولم يدخولها، ويشفع في قوم لترتفع درجاتهم في الجنة، ويشفع في أناس دخلوا النار فعلاً فيخرجون منها، إلى غير ذلك من أنواع الشفاعات. في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أن مستمع المؤذن يقول كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله له الوسيلة والمقام المحمود، فمن فعل ذلك كان له وعد عند رسول الله بالشفاعة ووعده صادق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مشروعية اتخاذ المؤذن

مشروعية اتخاذ المؤذن قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. ] هذا الصحابي كان في وفد، وكان أصغرهم سناً، وكان بالغاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، ويقولون: إنه كان يمر عليه الوفود فيتلقاهم في الطريق فيسمع منهم القرآن، ويحفظ منهم ما سمعوا من رسول الله، فكان قد جمع بعض السور الصغار من القرآن الكريم، وهذا لا يتنافى مع حديث: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ، فهذا إذا تعدد القراء نظرنا من هو أقرأ وأحسن تلاوة، في تجويده وإخراج الحروف من مخارجها، وإعطاء الحروف حقها، والمد والإدغام ونحو ذلك، ويكون أحفظ من الآخرين، فإذا تساووا في ذلك نظرنا من هو أقرؤهم، وقدمناه للإمامة، مع توافر الشروط الأخرى، وهي: أن يكون تقياً ورعاً يعرف حق هذا المقام العظيم بين يدي الله، كما جاء في الحديث -وهو مكتوب عندكم في المحراب هناك-: (تخيروا أئمتكم فإنهم وافدوكم إلى الله) ، فالإمام يتقدم القوم ويسأل الله: اهدنا الصراط المستقيم، يسأل لنفسه ولمن معه، فينبغي تخير الإمام، قال ابن الحاجب: كان في المغرب لا يقدم للإمامة إلا من شهد له أهل القرية بصلاحه وأفضليته على الجميع، أما في بعض البلدان الأخرى -وقد سماها ولا أريد أن أسميها- فإن الإمامة عندهم مرهونة بالنقود، وقد يتولاها من هو كذا وكذا! وهنا قوله: (اجعلني إمام قومي) ، كيف يطلب الإمامة وهي ولاية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب ولايةً أو إمارةً لا نعطيه إياها) ؟ قالوا: إذا علم الإنسان من نفسه الاستطاعة بالقيام بحق الولاية، وإنها ستضيع إذا أسندت إلى غيره لعدم وجود الأكفاء، فيتعين عليه أن يتقدم لحفظها لا لحظ نفسه، واستدلوا بقصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما عبر الرؤيا للملك، وذكر له الأمر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، وهذه ولاية على الأرزاق {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] أي: عندي الأهلية، ولو تركت لغيره لضاعت، فكان من حقه أن يتقدم لطلب الولاية لحفظها، وهكذا القضاء والإفتاء والأذان والإمامة وكل عمل ديني محض. وقوله هنا: (واقتد بأضعفهم) ، كيف يقتدي بأضعفهم والمأمومون يقتدون به هو؟ المعنى: أنك ستكون إماماً، فلا تجعل السلطة والاختيار لك في أن تفعل ما شئت، وتطيل عليهم، بل اقتد بأضعف من يصلي وراءك، فليكن أضعف المأمومين هو القدوة لك، فلا تثقل عليه ولا تؤذيه بالإطالة، إنما عليك أن تراعي حال المأمومين. وقد عرفنا قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد جاء في حقه أنه: (أعرفكم بالحلال والحرام) ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في المسجد الشريف، ثم يذهب ليصلي بأهل قباء العشاء، فدخل ذات ليلة في صلاة العشاء، وكان رجل يعمل طيلة نهاره في بستانه فدخل في الصلاة معه فإذا بـ معاذ بعد أن قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آمين يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، وشرع في أول البقرة، فقال الرجل في نفسه: والله! لن يقف حتى يختمها، فانعزل عنه، وصلى منفرداً، ورجع إلى بيته، وفي بعض الروايات أنه حينما أتى إلى المسجد أرسل نواضحه وتركها تمضي إلى البيت، ودخل في الصلاة وهو لا يدري: هل ستذهب إلى البيت أو لا؟ وهو طول النهار يعمل، فهو متعب، فإذا قام وراء الإمام الذي يشرع في الأولى بالبقرة، فربما الركعة الثانية يقرأ فيها بآل عمران! ومتى ينتهي؟! فاختصر الطريق من قريب، وصلى وذهب إلى بيته، وعلم معاذ بذلك، فقال: إنه رجل منافق، ما صبر على الصلاة! والمنافقون يأتون الصلاة وهم كسالى، فبلغ الرجل مقالة معاذ في حقه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى من معاذ؛ لأنه رماه بالنفاق، وقد فعل كذا وكذا، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أفتان أنت يا معاذ؟!) ، سبحان الله! رجل يقرأ بالبقرة في ركعة ويقول له: أنت فتان! إنه اجتهد، وغلب جهة العاطفة، وهو كان حديث عهد بالصلاة خلف رسول الله، وحديث عهد بسماع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عهد بصلاة أمهم فيها رسول الله، وتلك حالة روحية تجعل عندهم انفتاح وانفساح وقدرة على إطالة القيام ولو الليل كله، ولكن غيره ليس مثله، فقال له: (أفتان أنت؟) ، ولماذا؟ وأين الفتنة؟ تطويلك هذا يؤدي إلى ترك الجماعة وتفرق الناس، وستكره الناس للصلاة، وهذه أعظم فتنة، أين أنت من {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وذكر له سوراً قصاراً من المفصل. فقوله: (واقتد بأضعفهم) ، سواءً كان لكبر سن أو كان لمرض أو لاشتغال، فيجب أن تراعي المصلين الذين خلفك، وتقتدي بأضعفهم، وتراعي ما يستطيعه من الإطالة والقيام والقراءة. وقوله: (واتخذ مؤذناً) ، فيه أدب التعيين، ما كل إنسان يأتي يؤذن، إنما يكون المؤذن مرتب من المسئول؛ لأن الأذان إعلام لأداء الصلاة لله، وهذا عمل رسمي، فلا ينبغي لكل من هب ودب أن يأتي ويؤذن، هل ندري من يحسن الأذان أم لا؟ هل ندري أمانته واستقامته أم لا؟ لا ينبغي لأي إنسان أن يقدم على الأذان إلا بإذن مأذون من الإمام أو من ولي الأمر، اللهم إلا المساجد العامة التي على الطرقات، وليس لها مؤذن خاص، ولا إمام خاص، وبينت على الطريق لمن تحضره الصلاة فيصلي؛ فلا مانع لمن حضر الوقت وهو حاضر أن يؤذن، وكذلك من حضر الصلاة أم بالناس، ولو تعددت الجماعات في هذه المساجد فلا مانع. أما المساجد المقيمة عند أحياء عامة، وثابت أهلها وسكانها؛ فلا ينبغي أن يؤذن مؤذن إلا مأذون له، ولا يؤم الناس إلا معين فيها، ولا يجوز إعادة الجماعات في تلك المساجد مرتين أبداً.

جواز إعطاء المؤذن أجرا على سبيل الهبة والعطاء لتفرغه

جواز إعطاء المؤذن أجراً على سبيل الهبة والعطاء لتفرغه وقوله: (لا يأخذ على أذانه أجراً) ، هذا هو الأكمل والأفضل فمن يعمل القربة، ويجب عليه أن يحسن النية، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا اتخذ بمعنى: كلف، والاتخاذ تكليف، والتكليف فيه التزام، والالتزام فيه شغل عن واجبه وواجب أهله، فماذا يفعل؟ قالوا: لا يعطى أجراً بعقد إجارة، ولكن يعطى بنية الهبة، ومن باب العطاء، ولا مانع من ذلك، وعلى هذا أجاز العلماء إعطاء المؤذن والإمام وكل من كان عمله قربة في الإسلام، فيأخذ لا على عقد المؤاجرة، ولكن على سبيل الهبة والعطاء، وعلى سبيل الرزق من بيت مال المسلمين، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصلاة - باب الأذان [2]

كتاب الصلاة - باب الأذان [2] يشرع اتخاذ إمام ومؤذن لكل مسجد تقام فيه جماعة، ويختص كل منهما باختصاصات، وهذا يدل على مشروعية توزيع الاختصاصات في الإسلام، فالإسلام دين ينظم الأمور ويرتبها على أحسن وجه، وقد جاءت السنة ببيان كثير من آداب المؤذن حتى يقوم باختصاصه على أكمل وجه.

حكمة الأذان

حكمة الأذان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) الحديث أخرجه السبعة] . هذا الحديث تكملته: (وليؤمكم أقرؤكم) ولنبين رأي من يقول: إن هذه صيغة أمر: (وليؤذن لكم أحدكم) ، واعتبر الأذان واجباً من الواجبات، وتقدمت معنا هذه المسألة: هل الأذان حق للإعلام بدخول الوقت أو حق للصلاة؟ على القول بأنه إعلامٌ لدخول الوقت، فإذا كان القوم مجتمعين أو كانوا قد سمعوا أذاناً من مسجد آخر، فإنه يكفيهم؛ لأنهم قد علموا بدخول الوقت، وإذا كان الإعلام للصلاة، فإنهم يؤذنون للصلاة، ولو سمعوا أذان مسجد آخر. وأعتقد أن الراجح كون الأذان للصلاة، وليس للوقت، أو هو لهما معاً، وكونه للصلاة أرجح، لقضية تعريس النبي صلى الله عليه وسلم وانتباههم بعد ارتفاع الشمس، وفي الرواية الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأذن، وكونه أذن بعد خروج الوقت يرجح أن ذلك للصلاة، وإن كانوا يقولون: الإقامة للصلاة آكد من الأذان، فهنا قال: (وليؤذن لكم أحدكم) ، صيغة أمر تقتضي وجوب الأذان، وهذا الأمر لهم كان حين عودتهم إلى ديارهم وهم في السفر، وكذلك الحال في الحضر، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا غزوة ومر بقوم ولم يعلم عن حالهم: أهم مسلمون أو من المشركين؛ فإنه ينتظر إلى وقت الصلاة، فإذا سمع أذاناً علم أنهم مسلمون، ولم يغر عليهم، وكان غالباً ما ينشئ الإغارة بعد طلوع الفجر أول النهار، فكان ينتظر أن يسمع منهم أذان الفجر، فإن هم أذنوا علم أنهم مسلمون، فجنب عنهم، وإن لم يؤذنوا علم أنهم غير مسلمين؛ لأنهم لم يقيموا شعار الإسلام. قال مالك رحمه الله: إذا ترك أهل قرية الأذان قوتلوا عليه، حتى ولو كنا نعلم أنهم مسلمون، ويصلون، ويصومون، لكنهم تكاسلوا عن الأذان للصلوات واكتفوا بالإقامة، فإنهم يقاتلون حتى يؤذنوا؛ لأن الأذان أصبح شعار من شعارات الإسلام، كما يقال عن التراويح: إنها سنة رمضان، وشعار المسلمين في رمضان، فمن عطلها في المساجد فهو مخطئ وعلى أهل القرية إحياء قيام التراويح في المساجد، وإن كانت في البيت هي أفضل منها في المسجد، لكن إقامتها في المساجد شعار من شعارات الإسلام؛ فينبغي أن يحافظ عليه، ولا يجوز تعطيلها، والله تعالى أعظم.

الترسل في الأذان والحدر في الإقامة

الترسل في الأذان والحدر في الإقامة قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله) الحديث رواه الترمذي وضعفه] . هذه التعليمات في هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية الأداء للأذان والإقامة، قد تعلم المؤذن ألفاظ الأذان والإقامة، ولكن كيف تكون صيغة الأداء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (إذا أذنت فترسل) ، كما يقال لشخص يمشي: على رسلك، كما في قصة البعير الذي هاج على صاحبه، ولما ذهبوا عنده رأى أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن البعير هائج داخل البستان، فقال لرسول صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا رسول الله! فإن البعير هائج، وتقدم صلى الله عليه وسلم إلى البعير الهائج في البستان، وكانت المفاهمة كما تقدم بيان ذلك مراراً. فترسل. أي: تمهل واجعل بين كل جملة وجملة فراغاً. بينما قال في الإقامة: فاحدر، والحدر هو كما تقول: انحدر السيل. أي: أسرع، والانحدار: الانصباب من علو إلى أسفل، ويكون في ذلك إسراع. وما الفرق بين الأذان والإقامة؟ كما يقال: لكل مقام مقال، وهذا هو سر البلاغة، الأذان هو إعلام للغائب بدخول الوقت، والغائب مختلف البعد فيحتاج إلى تطويل في الأذان حتى يعلم أكثر عدد ممكن من الناس؛ لأنه لو أتى بألفاظ الأذان في دقيقتين يكون قد انتهى ومن لم ينتبه لم يسمع شيئاً، بخلاف ما إذا لو أتى بالأذان في ربع ساعة مثلاً، ومن العجب ما حكاه بعض العلماء من البدع أن بعض القرى كانت تحتم على المؤذن أن يستغرق نصف ساعة في أذانه! وهذا تطويل أكثر من اللازم، وقد يؤخر الصلاة عن أول وقتها. فترسل. أي: أنك لا تسرع في أداء ألفاظ الأذان فتفوت على الكثيرين السماع، فتمهل في الأذان وترسل بحيث أن الأذان يأخذ وقتاً أوسع، لإبلاغ البعيدين، فيكون فيه فرصة أوسع لتعميم البلاغ والنداء للمصلين. أما الإقامة فهم موجودون، ولا ينادي بعيداً، إنما هو يعلم الحاضرين بأن الإمام قد حضر، وأنه قد تهيأ وقام في محرابه، ولم يبق إلا أن تقوموا للصلاة اقتداء بالإمام، فالإقامة إشعار بأن الإمام قد حضر، وأن الصلاة ستقام الآن. إذاً: لا في حاجة إلى الترسل فيها، ولا حاجة إلى الإطالة فيها، إنما هي مجرد إشعار بقرب شروع الإمام في أداء الصلاة ليتهيئوا إلى القيام، وإلى تعديل الصفوف، كما هي السنة، وكان بعضهم يقوم إذا رأى الإمام، ومنهم من يقوم حتى يقول المقيم: قد قامت الصلاة، وبعضهم يقول: إن السنة في القيام للصلاة حينما يشرع المؤذن في الإقامة. أي: يقوم حينما يسمع قول المؤذن: قد قامت الصلاة، فلا يبادر بالقيام حينما يسمع المؤذن يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، إنما ينتظر حتى يصل إلى قوله: (قد قامت الصلاة) فينهض ويقوم، والبعض يقول: هذا بحسب حالات الأشخاص، فهناك إنسان خفيف البنية سريع الحركة بمجرد أن يسمع الإقامة يكون قد نهض، ولا ينهض بعجلة وبخفة؛ لأن المقام مقام طمأنينة وسكينة، ولهذا السنة لمن سمع الإقامة وهو خارج المسجد ما جاء في الحديث: (فائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم، فاقضوا أو فائتموا) ، ولا ينبغي الإسراع للصلاة لمن سمع الإقامة؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، وهو مذهب للخشوع والخضوع. فإذا سمع الإنسان وهو في المسجد المقيم نهض إذا كان ثقيل الحركة كبير السن، ضعيف البنية، لو أنه انتظر حتى يقول: قد قامت الصلاة، ولربما كبر الإمام تكبيرة الإحرام وهو لم ينهض بعد، فهو أعلم بحالته، وتقدير ظروفه، وبالوقت الذي يبدأ بالقيام فيه حتى يكون قائماً مستوياً حينما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام. فقوله: (يا بلال! إذا أذنت فترسل) ، أي: تمهل، لا تسرع وتتعجل، (وإذا أقمت فاحدر) أي: فأسرع، وليكن هناك فرق بين أداء الأذان وبين أداء الإقامة؛ لأن لكل واحد منهما مهمة تتناسب مع كيفية الأداء، فالأذان نداء إلى البعيدين، فيحتاج إلى ترسل وإعطاء فرصة أكثر، والإقامة إعلام للحاضرين فلا حاجة إلى زيادة الوقت. وقوله: (واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله) ، هذا تحديد بواقع الحال، بحيث أن الإنسان لو كان على طعام وأذن المؤذن فلو أنه عجل بالإقامة لكان هذا الآكل بين أحد أمرين: إما أن يقضي حاجته ونهمه من طعامه فتفوته تكبيرة الإحرام وقد تفوته الركعة الأولى، وإما أن يترك الطعام ونفسه متعلقة به، وهذا يشوش عليه صلاته، كما جاء في الأثر: (إذا قدم العَشاء، وقامت العِشاء، فقدموا العَشاء على العِشاء) ، قالوا: هذا لمن كان جائعاً ونفسه متعلقة بالطعام، وأما إذا كان شبعان ولا يهمه أن يقدم العشاء أو يؤخر، فيقدم صلاة العشاء من باب أولى. فهنا جعل صلى الله عليه وسلم بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، وقد يقول إنسان: الناس يتفاوتون في طبيعة الأكل، فهناك من يأكل على تمهل فيتم المضغ للأكل ويشرب الماء، وهناك من يعجل، والعامة تقول: إذا أكلت فكل أكل الجمال، وإذا كذا فافعل فعل الرجال، يعني: لا تكن مثل بعض الناس أو صنف من الناس يستغرق الساعة والساعة والنصف في تناول الطعام، حديث وكلام وسمر وإلى آخره، لا، بل طبيعة وسط الناس. وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقيم المقيم فيذهب أحدهم إلى الخلاء، ويقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي ويدرك النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى، وقد يؤذن المؤذن فيذهب الذاهب إلى قضاء حاجته ويتوضأ وما قد قامت الصلاة. وتقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم، في صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم تأخروا أخر، مراعاة لظروف الناس، فإذا تعود جماعة مسجد معين أو قرية معينة شيئاً؛ روعي ظروف هؤلاء الجماعة، أما التشريع العام فأقل ما يكون بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الإنسان العادي من طعامه، والله تعالى أعلم.

استحباب الأذان على وضوء

استحباب الأذان على وضوء قال المصنف رحمه الله: [وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم قال: (لا يؤذن إلا متوضئ) وضعفه أيضاً] . هذا الحديث من أحكام الأذان، وهذه الصيغة صيغة الحصر، (لا وإلا) من أقوى صيغ الحصر، كأنه ينفي أذان غير المتوضئ، ولا يأذن لغير متوضئ، فمفهوم ذلك أن غير المتوضئ لا يؤذن، ولكنهم مجمعون -لضعف هذا الحديث- على أنه لو أذن غير المتوضئ فإن الأذان صحيح ولا يعاد، بخلاف الجنب، فإنهم يختلفون فيه: فمنهم من يقول: يصح أيضاً ولا يعاد، ومنهم من يقول: لا يصح الأذان مع الجنابة، ويقولون: الأمر هنا تعليم وإرشاد؛ لأن المؤذن بعد الأذان إنما ينتظر في المسجد، وينتظر مجيء الإمام ليقيم الصلاة، ويصلي مع الناس، ولا ينادي الناس للصلاة ويخرج ليتوضأ، فنحن لا نعرف متى يرجع، ولا ننتظر حتى يأتي، ومن أذن فهو يقيم، فهذا تعليم وإرشاد بحيث يكون متهيئاً للصلاة، لا يضطر إلى أن يخرج بعد أن يؤذن من المسجد ليتوضأ. وقالوا: ونظير هذا أن من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، قالوا: حمل الميت ليس حدثاً يوجب الوضوء، ولكنه من باب الإرشاد، بحيث أنه إذا حمل الميت وجاء ووضعه سواءً كان في المسجد أو كان عند المقبرة على خلاف في ذلك، وقاموا للصلاة عليه؛ فلا يحتاج إلى الوضوء فيحمله ثم يتخلى عنه عند الصلاة عليه! ولذا ينبغي أن يكون متوضئاً متهيئاً للصلاة عليه، أما إذا حملها وهو غير متوضئ فإن الناس يصلون عليه وهو لا يستطيع أن يصلي عليه، فيكون ذلك قصوراً منه، فوت على نفسه ثواب الصلاة على الجنازة، ويكون في صورة غير لائقة. قالوا: وكذلك هنا: (لا يؤذن إلا متوضئ) ، فأجمعوا واتفقوا على أن المؤذن إذا أذن وهو على غير وضوء على حدث أصغر؛ فإن الأذان لا يعاد، واختلفوا لو كان جنباً، وفيما إذا أذن صبي دون البلوغ، وفيما لو أذنت امرأة، وفيما لو أذن غير مسلم، قيل: يعاد الأذان، ولا يعتد بأذان هؤلاء الأشخاص. وبهذه المناسبة يتفقون أنه يجوز لو كان هناك خطيب للجمعة وإمام للصلاة، فلا مانع، وتصح الجمعة بخطيب على حده وإمام على حده، فيمكن أن يكون الخطيب غير إمام، وأن يكون الإمام غير الخطيب، فلو خطب وهو غير متوضئ لا تعاد الخطبة؛ لأنها مجرد ذكر وموعظة بخلاف الإمام، فلابد أن يكون على طهارة كاملة من الحدثين، فالمؤذن والخطيب يصح عملهما ولو كانا غير متوضئين، أما الجنابة فلا.

المؤذن أحق بالإقامة

المؤذن أحق بالإقامة قال المصنف رحمه الله: [وروى زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أذن فهو يقيم) وضعفه أيضاً] . هذا أيضاً من باب التعاليم والآداب في الأذان، من أذن فهو يقيم، وهذه الحكمة واضحة عندما نكون جالسين في المسجد ونسمع المؤذن، وعلمنا بدخول الوقت، ومن أراد أن يتنفل نافلة قبلية تنفل، ثم بعد ذلك سمعنا إنساناً آخر يقيم الصلاة فإنه يلتبس علينا: هل هذه إقامة الصلاة بعد الأذان الذي سمعناه أم هو أذان في مسجد آخر؟ أما إذا كان نفس المؤذن هو الذي يقيم فإننا قد علمنا من هو بأذانه الأول عندما دخل الوقت. ويمكن أن يكون للإقامة شخص آخر فيكون أدعى لمعرفة الإقامة أن الأول أذان والثاني إقامة، وسيأتي عن عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان تطلع أن يكون مؤذناً؛ لأنه هو صاحب القضية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قم فأمله على بلال فإنه أندى منك صوتاً قال: اجعلني أقيم. قال: أقم) ، ويقولون: هذه الرواية وإن كان فيها ما فيها، فهي أول مرة استجابة لطلبه وتطييب لخاطره، ولكن بعد ذلك الذي يؤذن هو الذي يقيم، واتفقوا أنه إذا أذن إنسان وأقام آخر وصلوا الصلاة بتلك الإقامة أن الإقامة صحيحة، ولا تحتاج إلى إعادة. مثلاً: المؤذن كان له عذر ولم يستطع أن يقيم الصلاة، فأناب غيره ليقيمها، حتى الإمام يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن أو أي أحد من الحاضرين يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن، ثم إذا حضر المؤذن فلا حاجة إلى إعادة الإقامة من المؤذن؛ لأنه سقط حقه في غيبته أو في عدم تقدمه ابتداءً. إذاً: الأولى والسنة أن من أذن فهو يقيم، ولو قدر أنهم قدموا شخصاً آخر ليقيم الصلاة؛ لأن المؤذن كان على غير وضوء أو انتقض وضوءه فذهب ليتوضأ، وغاب علينا وأراد الإمام وهو أملك بالإقامة أن يقيم الصلاة؛ فإنه يقدم شخصاً من الحاضرين ليقيم الصلاة في غيبة المؤذن الذي كان له حق الإقامة، ثم لا تقام الإقامة بعد حضوره.

حكم إقامة الصلاة لغير المؤذن

حكم إقامة الصلاة لغير المؤذن قال المصنف رحمه الله: [ولـ أبي داود من حديث عبد الله بن زيد أنه قال: (أنا رأيته) ، يعني: الأذان (وأنا كنت أريده) ، قال: (أقم أنت) وفيه ضعف أيضاً] . هكذا رواية عبد الله بن زيد أنه لما رأى ألفاظ الأذان في المنام أو كما يقول الأحناف: تلقاه عن ملك، على الخلاف في الرواية؛ لأن رواية عبد الله بن زيد فيها: (رأيت كأني وأنا في النوم أقول: نائم ولست بنائم) . يعني: بين المنام واليقظة، في حالة بين وبين، فالأحناف حملوا هذه الحالة على أن الرجل الذي رآه عبد الله بن زيد لابساً حلة خضراء ويحمل كذا وكذا أنه ملك نزل ليعلم عبد الله ألفاظ الأذان، وسواءً كان ملكاً أو كانت رؤيا منام، فالرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة، فلما أجرى الله سبحانه وتعالى هذه السنة على يده، وأراه إياها، رأى أن لنفسه حقاً فيها، وقال: (كنت أريده) ، أي: كنت أريد الأذان؛ لأنه شرف عظيم وفضل كبير، وقد قال عمر: لولا الإمامة لكنت مؤذناً، أو لو كنت أستطيع الأذان لأذنت، فالمؤذن يشهد له كل من سمع صوته من شجر وحجر ومدر، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً، ويوجد آثار كثيرة في فضل المؤذنين. فكان يريده لنفسه لأنه الذي رآه، ولكن كونه الذي رآه شيء، وموضوع الأذان شيء آخر، فموضوع الأذان إعلام، والأحق بالإعلام من كان أندى صوتاً، أما كونك رأيته وصوتك دون صوت بلال في ارتفاع الصوت أو النداوة أو القبول أو الصيغة وحسن إصغاء الناس إليها فهذا أدعى لأن يتولى هو الأذان؛ لأنها صفات ذاتية في الأذان، وكونك أنت رأيته يكفيك شرفاً وفضلاً، أما أداء الأذان بذاته فنحن نريد الإعلام، والإعلام أحق به من كان أندى صوتاً، وهذا من وضع الشيء في موضعه، لكن من حقه أن يتطلع، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أقم أنت) ، يعني: نحن جعلنا الأذان لـ بلال لأنه أندى منك صوتاً، وهذا هو الوصف المناسب للحكم، وأما أنت لكونك رأيته وتتطلع إليه فأقم، والإقامة شريكة الأذان، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها أذاناً في قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، وهما الأذان والإقامة، والإقامة تكون بألفاظ الأذان. إذاً: من أذن فهو يقيم، وعبد الله بن زيد تطلع للأذان فجعله عليه الصلاة والسلام أن يقيم وبلال يأذن، ومن هنا قالوا: لو أقام غير المؤذن صحت الإقامة ولا تعاد.

المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة

المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة) ، رواه ابن عدي وضعفه، وللبيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله] . هذا يمكن أن نسميه توزيع المسئولية وتوزيع الاختصاصات، نحن نعلم بأن الإمام من حيث هو أعلى منزلة من المؤذن، الأجر لا نتكلم عليه هنا، لكن المنزلة في الدين أو المنزلة في الناس فإن الإمام أعلى منزلة من المؤذن، ولهذا يقولون: النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يؤمون الناس في الصلاة ولم يكونوا مؤذنين. فالمؤذن أدنى مرتبة من الإمام، ولكن كما في الحديث: (المؤذن مؤتمن، والإمام ضامن) ، فهم أمناء على الوقت؛ لأنهم مع التكرار والتعود أصبحوا يعرفون الوقت بسرعة ولو لم تكن هناك آلة، ولو لم تكن هناك وسيلة لقياس الزمن، مع أن مقاييس الزمن معروفة من قبل بالظل، فإذا كان المؤذن كل يوم خمس مرات يتتبع الأوقات، يتتبع طلوع الفجر، ويتتبع زوال الشمس، ويتتبع ظل كل شيء مثله، ويتتبع الغروب، ويتتبع غياب الشفق، في كل الأوقات الخمسة؛ فهذا أنه بعد شهر يصير هذا شيء جبلي عنده، حتى لو نظر إلى الأفق ونظر إلى الساعة فاختلفا فإنه يقدم الأفق على الساعة. وكان الأفق أضبط عنده من الساعة. إذاً: المؤذن أمين على الوقت. ومن هنا: إذا سمعنا المؤذن يؤذن لا نحتاج إلى بينة على دخول الوقت، وعلى صحة الصلاة، وعلى الإمساك في الصيام، وعلى الإفطار في رمضان؛ لأننا نكون جالسين في المسجد، وما رأينا هل الشمس غربت أو لم تغرب ما ندري، حتى الساعة في أيدي الناس هذه تقدم دقيقتين وهذه خمس وهذه تؤخر، وهذه كذا، لكن حينما نسمع المؤذن نلغي هذه الساعات التي تقدم والتي تؤخر، وما نسأل فيها، وعندنا المؤذن أمين على صيامنا بوقت دخول الفطر، وكل الذين في المسجد من آلاف مؤلفة، ومن في البيوت من حريم ورجال وصغير وكبير يأتمنون المؤذن على دخول الوقت، ويأتمنونه على الإفطار. وبعض العلماء يذكر هنا مسألة أصولية وهي: أن قبول خبر المؤذن وائتمان المؤذن على الوقت، وترتيب الأحكام الشرعية من صلاة وإمساك وإفطار على أذانه؛ يعتبر أقوى دليل على قبول خبر الواحد؛ لأن المؤذن شخص واحد، والأمة كلها تقبل خبره، وتعمل به، فتؤدي الصلاة والصلاة لا تؤدى إلا في وقتها، ويمسك عن الطعام من أجل الصيام فيحرم ما أحل الله، ويفطر ويأكل ويستحل ما كان حراماً، وكل ذلك بخبر الواحد، فقالوا: إن قبول المؤذن في إخباره عن الوقت وائتمانه عليه أقوى دليل في قبول خبر الواحد عند الأصوليين، والله تعالى أعلم.

مشروعية توزيع الاختصاصات وترتيب الأمور

مشروعية توزيع الاختصاصات وترتيب الأمور هنا المؤذن أملك بالأذان، وأمين على الوقت، والإمام أملك بالإقامة، فالإمام هو الذي يرى أن نقيم الصلاة الآن أم ننتظر بعض الناس المتأخرين قد يرى أن نقدم الإقامة إذا كان في المسجد جماعة من النسوة معهن الأطفال، وسمع الصراخ، والصياح أو هناك شيء حدث ويحتاجون إلى أن يعجلوا الصلاة. إذاً: الإمام الذي يملك أن نقيم الآن أو نتأخر، نتعجل بالإقامة في أول وقتها أو نؤخرها. ويقولون: إذا اختلف الإمام والمؤذن في الوقت، فقال الإمام للمؤذن: قم فأذن، قال: لا، الوقت ما جاء، هل نأخذ بكلام المؤذن أم بكلام الإمام؟ المؤذن؛ لأن هذا اختصاصه، والإمام ما هو ضابط للوقت كضبط المؤذن، ولو أنهم اتفقوا وأذن المؤذن ثم بعد فترة قال الإمام: يا مؤذن! أقم الصلاة، قال: لا، انتظر، نأخذ بكلام الإمام؛ لأن الإمام أملك بالإقامة، كما أن المؤذن أملك بالوقت، وهذا نسميه توزيع الاختصاص، حتى لو كنا في عمل دنيوي فهناك ذوي اختصاص في جانب من الجوانب، فينبغي أن نقدم من كان اختصاصه في هذا الموضوع ولا نحابي في ذلك. وفي السنة النبوية: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضكم زيد، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وقال لـ ابن العباس: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فإذا اختلفوا في فريضة من الميراث فالمقدم رأي زيد، بالرغم أن فيهم أبو بكر وعمر، وهم أفضل منه، لكن هو مختص بذلك، وكذلك لو اختلفوا وتنازعوا في حلال أو حرام فرأي معاذ مرجح. ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي البناية الثانية، وكان ذلك بعد عودته من خيبر، وكان المسجد الأول (60×70) ذراعاً، وكان من جذوع النخل كما تعلمون، وكثر الناس، فأراد أن يوسع المسجد إلى أن صار (100×100) ، وكان هناك رجل من بني حنيفة وفد إلى المدينة، فرأى رجلاً من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله فقال: أرني وأخذ منه المسحاة، وأخذ يخلط الطين، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر فقال: دعه لهذا العمل فإنه أعرف به منك، وهذا إسناد العمل للمختص فيه. فلو جاءنا مهندس معماري وعنده مشروع زراعي، وعنده رجل خبير في الزراعة بدون دراسة، فهل يقدم المهندس المعماري أو الفلاح الخبير المجرب عشرين أو ثلاثين سنة؟ الفلاح الذي اكتسب الخبرة والتجارب، وكذلك العكس لو عنده مشروع معماري، وجاءنا مهندس زراعي، وجاء معلم من المعلمين العاديين واختلفوا، وكل له وجهة نظر فمن نقدم؟ نقدم المعلم الذي له تجارب عشرين ثلاثين أربعين سنة في البنيان، وهذا مهندس زراعي تخصصه في الزراعة. إذاً: توزيع الاختصاصات من صميم الإسلام، كذلك التخصص في مادة دنيوياً أو أخروياً إلا أن تخصص المادة العلمية اليوم فيه جوانب سلبية، فالطالب درس الابتدائي والمتوسطة والثانوي على قدر في العلوم، وجاء إلى الكلية ودرس منهج الكلية، والكلية قد تكون نظرية كالجامعة الإسلامية، لأن دروسها كلها نظرية، وليست عملية، وقد تكون عملية، مثل: كلية هندسة، كلية طب، مكنيكا، كهرباء، فهذه أشياء عملية، فهو يدرس ويطبق بالعمل، فإذا كانت هذه الحالة، ودرس المنهج العام ثم أراد أن يتخصص في فن من الفنون أو علم من العلوم ففي الجامعة الإسلامية -مثلاً- كلية الشريعة، فيها أصول وفقه وتفسير وحديث ومصطلح، فأراد أن يتخصص في مادة من تلك المواد الرئيسية بخلاف المواد الفرعية. مثل: النحو والصرف والبلاغة، فهي في كلية الشريعة فرعية وليست أصلية، ولا يقبل من خريج الشريعة أن يتخصص في اللغة؛ لأن اللغة أساسية في كلية اللغة، وأما الحديث والتوحيد والتفسير فهي علوم فرعية في كلية اللغة، وهكذا. إذاً: لكل كلية منهجها ودروسها الأساسية والتكميلية، فإذا كان الطالب في كلية الشريعة وأراد الماجستير في أصول الفقه فهذا من حقه، والناحية السلبية هي أن يكرس جهده كله في أصول الفقه ويكون ذلك على حساب المواد الأخرى من فقه وحديث وتفسير، فلا يكون مبرزاً في بقية المواد كما هو مبرز في مادة الأصول، وهذه ناحية سلبية بالنسبة للمواد الأخرى، وحينما كان عدد الطلاب محدوداً كان يتعين على كل متخرج أن يكون مبرزاً في جميع المواد التي في الكلية، ولما كثر المتخرجون وازداد العدد فلا مانع أن نخصص هذا في الأصول، ونخصص هذا في الفقه، ونخصص هذا في الحديث، ومن مجموع المتخصصين يكون عندنا منهج تخصصي في مواد الكلية كلها. وينبغي على الطالب في ذاته إن اختار مادة يتخصص فيها ألا يغفل، بقية المواد؛ لأنه كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلوم أقران. فالأصولي لا يستغني عن الفقه للتشبيه والتمثيل والبيان، والفقيه لا يستغني عن أصول الفقه ليبني ويستنبط على أصول الأحكام، وكل منهما لا يستغني عن الحديث؛ لأنه مرجع لاستنباط الأحكام، وكذلك التفسير. إذاً: المؤذن أملك بالوقت، والإمام أملك بالإقامة، وهذا من توزيع الاختصاصات، فكل في حده، وكل في مجاله، والله تعالى أعلم.

الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة

الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) رواه النسائي وصححه ابن خزيمة] . هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، وهل هذا أسلوب حصر كالأساليب المتقدمة أو خبر عار عن الحصر؟ لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، هل تعرض لأوقات أخرى؟ ما تعرض لها. إذاً: هذا إخبار بالنسبة لموضوع الباب، وهو الأذان والإقامة، وهناك مواطن كثيرة جداً يستجاب فيها الدعاء، كالساعة التي في يوم الجمعة عند صعود الإمام إلى المنبر إلى الفراغ من الخطبة والصلاة، وفي الثلث الأخير من الليل، ودعاء المظلوم، وفي حالة عمل الخير وعمل البر، وعقب ختم القرآن، فلكل ختمة دعوة مستجابة، ويوم عرفة، وليلة الجمعة، وليلة العيدين، وكل هذه مواطن يستجاب فيها الدعاء، ولكن المؤلف هنا أتى بما يتعلق بالأذان والإقامة.

الدعاء بعد الأذان

الدعاء بعد الأذان قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) أخرجه الأربعة] . هذا تتمة الحديث المتقدم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلو الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) ، فهنا يعطينا الصيغة التي بها نسأل الله الوسيلة له صلى الله عليه وسلم، (من قال حين يسمع الأذان) ، أي: وقال مثلما يقول المؤذن وصلى علي ثم قال: (اللهم! رب هذه الدعوة) ، الدعوة إلى الصلاة، أنت تدعو: حي على الصلاة والفلاح فهذه دعوة تامة. (والصلاة القائمة) ، هذه الصلاة عماد الدين، ومكانتها عند الله عظيمة. (آت محمداً) ، في هذا الحديث لفظ محمد مجرد عن السيادة، وبعض العلماء ينظر بعمق ويقول: نحن نسأل له، والمسئول له يجب أن يكون في مقام التواضع مع المسئول، فهل عندما نسأل له الوسيلة نسيده ونعظمه وهو سيد وعظيم أم أن المناسب للمقام -مع تكريم النبي صلى الله عليه وسلم- أن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (آت محمداً الوسيلة) ؟ المناسب الثاني، وحينما يكون المقام مقام تكريم وتعظيم فلا بأس بذكر السيادة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وسيد العالمين وسيد الثقلين أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم. لا مانع من ذلك لكن هنا: (آت محمداً الوسيلة) ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنها منزلة رفيعة في الجنة لا تنبغي إلا لشخص واحد، قال: (وأرجو أن أكون أنا هو) . إذاً: هذه الصيغة التي نسأل الله له بها الوسيلة. الدعوة التامة بكل أركانها، وتامة بكل تشريعاتها، لا نقص فيها أبداً، في هيئتها في أدائها في مهمتها، وما يعود على الإنسان منها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الدهر. (الوسيلة) ، أي: تلك المنزلة الرفيعة. (والمقام المحمود الذي وعدته) ، المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى حينما يعتذر عنها جميع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ويتقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشفع لهم عند رب العزة سبحانه، حتى يأتي لفصل القضاء، فتكون شفاعة شاملة للأمم مع أنبيائهم، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون صلوات الله وسلامه عليه. قال: (حلت له شفاعتي) ، هذا وعد منه صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك استحق شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونسأل الله حسن الختام بحسن ختام هذا الحديث الذي فيه إرهاص بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم جميعاً بشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [1]

كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [1] من شروط الصلاة: طهارة البدن واللباس والمكان الذي تصلي فيه، ويجوز الصلاة بالنعلين الطاهرتين إذا لم يكن هناك مانع مثل أن يكون المسجد مفروشاً ويخشى تضرر الفراش بالنعال، أو إذا كانت الصلاة بالنعال ستسبب فتنة وخلافاً.

مسائل في الصلاة

مسائل في الصلاة

طهارة النعلين من الأذى والمراد به

طهارة النعلين من الأذى والمراد به الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب) أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان] . تقدم شيء من الكلام على الصلاة في النعلين، وجاء المؤلف رحمه الله تعالى تبعاً لذلك بهذا الحديث، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فطهورهما التراب) ، والحديث المتقدم هو: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإذا رأى أذى أو قذراً فليمسحهما في التراب وليصل فيهما) ، وهما دليلان على طهارة النعل بالمسح بالتراب. والأذى والقذر حمله بعض العلماء على النجاسة، والتحقيق أنهما أعم من كونهما نجسين، قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى من الطاهر المستقذر، كما يقولون عن الطين الذي في الطريق: هو أذى مع أنه طاهر. وقال الشافعي رحمه الله: اليابس من القذى أو الأذى أو ما هو أخص كالنجاسة يطهر إذا ذهبت منه العين، وذهب اللون، وذهبت الرائحة. أما إذا كان النعل به أذى أو قذى -على المعنى الأعم أو المعنى الأخص- رطباً فيقول الشافعي رحمه الله: لا يطهره إلا الماء. وجاء عن مالك رحمه الله تعالى أن الحديث محمول على ما يستقذر في اليابسات، فإذا مر على يابس مستقذر وعلق شيء منه، فإنه إذا مر على يابس آخر طهره، كما جاء في إطالة ذيل ثوب المرأة، فإن اليابس الآخر الطاهر سيستخلص ما علق بذيل المرأة من الأذى أو القذى اليابس، ولن يبقى شيء هناك. وقد حكى مالك رحمه الله الإجماع على أن النجاسة لا تطهر إلا بالماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي يقول: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة لأن النجاسة عنده حكم ظاهر المراد إزالة عينها، والجمهور أنه تعبدي، ولا يستعمل في إزالة النجاسة إلا الماء، ومن هنا قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى أو القذى هو كل طاهر مستقذر. ويقول الآخرون: لو أن إنساناً لم يلبس النعل، ومشى حافياً، ووطئ الأذى أو القذى، وكان في هذا الأذى أو في هذا القذى نجاسة، فهل تطهر قدمه بدلكها في التراب، أم يتعين عليه غسلها؟ قالوا: إن النجاسة في الثوب والبدن لا يزيلها إلا غسلها بالماء، وكذلك النجاسة إذا كانت معروفة بالحواس، فإما أن تعرف بالرؤية بلونها، أو بالشم برائحتها، أو بالجرم بالعين، فلا بد من إزالة عينها وإزالة رائحتها وإزالة لونها، وإلا فلا يصح أن يصلي بهذه النعل.

حكم الصلاة في النعلين

حكم الصلاة في النعلين هذا الموضوع يهم في الدرجة الأولى طلبة العلم؛ لأن العامة لا يصلون في النعلين تحرجاً، والذي يفعل ذلك -خاصة في هذه الآونة- هم بعض الإخوة طلبة العلم؛ لحديث: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، وفيها أمر بالصلاة في النعلين. وأنبه إلى الرجوع في هذا إلى معالم السنن، وإلى شرح السنة، أو إلى سنن أبي داود، أو إلى سنن الترمذي، أو إلى فتح الباري، أو إلى شرح ابن دقيق العيد للعمدة فسنجد حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ فقال: نعم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شاء فليصل في نعليه، ومن شاء فليخلعهما) ، وعلقوا على ذلك لأن هذا ناسخ للأمر الذي جاء في حديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، قالوا: (فليصل) هنا أمر، نسخه عن الوجوب قوله: (إن شاء) . قال ابن دقيق العيد في مبحث دقيق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد) ، وكذلك ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، حيث كان في فتح مكة -وقيل: بالمدينة- فقرأ بأول سورة المؤمنون، وأخذته كحة فاختصر القراءة، وقد أمره جبريل أن يخلع نعليه فخلعهما، فخلعوا نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على خلع نعلكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: أما إنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتهما) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر. إلخ) ، فهذا تتمة لحديث جبريل عليه السلام. قال بعض العلماء: جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد أن دخل في الصلاة، وفي رواية من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه جعلهما عن يساره، ثم قال: (إذا خلع أحدكم نعليه وصلى فلا يجعلهما عن يمينه، ولا عن يساره فيؤذي بهما جاره) ، وفي بعض الروايات: (لا يجعلهما عن يمينه ولا عن يساره فتقع عن يمين جاره) ، وعلّق على ذلك الخطابي بأن هذا من باب احترام الجوار، واحترام الصلاة. لذا ينبغي أن يجعل الإنسان في الجانب الأيمن أفضل النعلين. قال صلى الله عليه وسلم: (وليجعلهما بين قدميه) ، فهذه هي السنة في وضع النعلين، فإذا كان يريد ابتداءً أن يصلي، ويريد أن يضع النعلين فلا يضعهما عن يمينه؛ لأن هذا -كما يقال- ليس من الاحترام الكامل، ولا عن يساره فيأتي أحد فيصلي بجواره فتكون نعليه عن يمين هذا المصلي فيؤذيه بها، ولا تلقاء وجهه؛ لأنه إذا سجد ستكون أمامه، فيكون هذا المنظر غير لائق بالصلاة، ولكن ليجعلهما بين قدميه. قالوا: هناك جزء مضى من الصلاة قبل أن يخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل وأخبره بالأذى، فلو قدرنا أن الأذى كناية عن النجاسة فكيف يُقَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوقع جزءاً من صلاته وهو متلبس بنجاسة، وكان الأولى أو الأنسب أو المتوقع أن يبادر جبريل عليه السلام فيخبره قبل أن يدخل في الصلاة بتلك النجاسة؛ لأن الأكمل في حقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أطهر وأبعد من هذا كله؟ قالوا: كلمة (أذى) لا تحمل على النجاسة؛ لأنها لو كانت نجاسة لكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر صلى بنجاسة، وهذا لا يليق، ولا تصح الصلاة به، وكذا قال البيهقي في السنن: يحتمل قوله: (قذى أو أذى) أنه طاهر يستقذره الناس، أو طاهر مستقذر. قال ابن دقيق العيد: قوله في الحديث: (فليحتهما، وليصل فيهما) ليس دليلاً على استحباب الصلاة في النعلين، وإنما هو إباحة بمعنى الرخصة، وقال: أما كونه مستحباً فليس بوارد؛ لأنه ليس من الزينة التي أمرنا بأخذها عند المساجد في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، فإن كان داخلاً في معنى الزينة فهو مطلوب ومستحب، ولكن النعل يلامس الأرض، ويخالط الأذى والقذى، فيضعفه ذلك عن منزلة الاستحباب، ولا يدخل في الآية. وقال: إن إزالة النجاسة هي المرتبة الأولى في التشريع؛ لأنها من درء المفاسد، ودرء المفاسد إنما هو في الضروريات كما يقال، وأخذ الزينة هو الدرجة الثانية، والتشريع يدور حول درء المفاسد وجلب المصالح من التحسينيات والكماليات إلى كل ركن في الإسلام. والاستحسان يدخل في جميع العبادات، وهو الترقي بتلك العبادة، فمن باب الاستحسان أخذ الزينة، وكمال اللباس، والعناية بالنظافة، وطهارة الثياب والمكان طهارة كاملة، وقد جاء في الحديث: (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته) ، وكذلك أن يغتسل، وأن يتطيب، فهذا استحباب، والأصل هو صلاة الجمعة. فدرء المفاسد بتجنب النجاسات هو درجة أعلى، وأشد طلباً من درجة الاستحسان والكمال، فالحفاظ على ترك النجاسة أولى في التشريع وأهم من الحفاظ على الزينة في اللباس. قال: فليس هناك داعٍ إلى الصلاة في النعلين، إلا إذا كان داخلاً في عموم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، وهذه هي الدرجة الثانية في التشريع، وتجنب النجاسة هي الدرجة الأولى في التشريع. قال: وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على استحباب الصلاة في النعلين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قال: (إن شئت فاخلعها، وإن شئت فصل فيهما) . ونحن في هذه المسألة بحاجة إلى التوسع والاستقصاء؛ لما يحدث فيها من أخذ وعطاء مع بعض الإخوة الغيورين على السنة، وهم يقولون: إن التعليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم) . فما دام ان ابن دقيق العيد يقول: الصلاة في النعلين ليست مستحبة، وغيره يقول: هي مسنونة -كما قال الشوكاني الذي جمع كل هذه الأقوال التي أشرت إلى مراجعها، وانتهى إلى أن الأصل المشروعية- فنقول: الأصل جواز الصلاة في النعلين، وهي مشروعة، ولكن مع التحفظ من وجود أذى أو قذى، ولو كان لابس الخفين وفوق الخفين نعلان يباشر بهما الأرض فإنه يصلي بالخفين ولا غبار على ذلك، ولا أحد ينكر عليه. أما النعلان اللذان يباشر بهما الطريق، ويدخل بهما بيت الخلاء فإنه قد يتساهل في نظافتهما، ولا يكفي أن ينظر فيهما ويحتهما في التراب، فهل هو بهذا الحت قد طهرهما؟ فالأئمة رحمهم الله اختلفوا في تحقيق المناط في تطهير النعلين بالحت حتى ذهاب عينها وذهاب لونها وذهاب رائحتها، وهناك من يقول: هذا في اليابسات وهناك من يقول: يحتمل أن يكون هذا في الطاهر المستقذر. فالأحوط أنه لا حاجة إلى الإصرار على الصلاة في النعلين، مادام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى منتعلاً وصلى حافياً، أي: صلى على كلتا الحالتين. ولو أن إنساناً في سفر نزل في أرض فلاة وهو بنعليه، فنظر فيهما فلم يجد فيهما أذى ولا قذى، ولا يستطيع أن يصلي على الحصباء؛ لأنه يتأذى من ذلك فنقول: يصلي في نعليه لهذه الحاجة، ولا مانع من ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فليخلعهما. فالصلاة في النعلين رخصة يباح فعلها، والرخصة معللة بقوله: (خالفوا اليهود) ، فهل نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أشرنا أنها لا تدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه ليس هناك الأمر المطلق بالصلاة في الخف، وإنما لعلة بذاتها، والذي يهمنا الآن هو تنبيه الإخوة ألا يجعلوا هذه المسألة مثار خلاف ونزاع بينهم. ومن الحكمة النبوية الكريمة أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يترك الأمر الذي يحبه ويتقرب بفعله لما يترتب عليه من مفاسد أخرى، ومن ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعلى عنها عندما سألته أن يدخلها الكعبة لتصلي فيها، فأخذ بيدها وقال: (صلي في الحجر؛ فإنه من البيت) ، وذكر أن قومها قصرت بهم النفقة عن إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فتركوا من البيت جزءاً حجروا عليه حتى لا يضيع في المسح، ثم قالت: ما بال الباب مرتفعاً؟ قال: (ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا حداثة قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولأقمتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب للداخل، وباب للخارج، وسويتهما بالأرض) ، فهو رغب أن يجعل الكعبة على تلك الحالة، ولكن ترك ذلك مراعياً ما يترتب عليه من رد الفعل في نفوس قريش؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بشرك. وكذلك لما شرب من بئر زمزم قال للسقاة: (انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم) ، فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه، ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا بالأدل فيسغلبون السقاة على زمزم. فكان صلى الله عليه وسلم يترك الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا يسميه علماء الأصول سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام، والأصل فيه من كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، فلو أنكم سببتم أصنامهم فهذا ليس فيه مانع، وهي تستحق ذلك، ولكن إن فعلتم ذلك فنتيجة ذلك أن يسبوا الله، فلو أنكم سببتم آلهتهم سبوا إلهكم. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ قال: نعم. يسب أبا الرجل فيسب أباه) ، فهو السبب في سب أبيه. وأذكر قصة لشخص أشهد الله أني أراه على الفطرة، وهو إنسان فيه خير كثير، وكانت مخالطته للناس قليلة، وكان يحافظ على الصلوات جماعة، وكان يلبس نعلين كبيرتين ويصلي بهما، وكان معه عصا منحنية يتوكأ عليها، ففي يوم من الأيام في صلاة العصر صلى بجانبي، وعكس ا

حكم الكلام في الصلاة

حكم الكلام في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم] . هذا من بيان شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة إذا وقع فيها كلام الناس، ويراد بكلام الناس الكلام الذي منشأه من الناس، وإلا فالناس يتكلمون بالتسبيح والتكبير وغير ذلك مما أصله من التشريع، بأن يكون نصاً قرآنياً، أو حديثاً نبوياً، فإذا قرأ الإنسان القرآن فهذا كلامه، والأصل فيه أنه كلام المولى سبحانه، وهذه قضية عقدية لها مكانها. ونعلم جميعاً أنه إذا قال إنسان: (اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم) فهذا ليس من كلام الناس؛ لأن الله أمر بأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت الصيغ فالأولى أن يتحرى الإنسان الصيغ الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنواع الصلاة الإبراهيمية في تشهد الصلاة. فكلام الناس هو ما أنشأه الناس من عندهم، وإذا جئنا إلى بعض المواطن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المصلي في سجوده أن يجتهد في الدعاء، فقال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء) ، فالدعاء قد يكون من كتاب أو سنة، وقد يكون من كلام الإنسان يسأل الله حاجة له خاصة، فيقول: اللهم! اشف ولدي اللهم! نجح ولدي، اللهم! رد علي غائبي بخير. فهذا كلام الإنسان في مصلحته الشخصية، وعموم الدعاء مطلوب ومشروع، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى ورغب الإنسان أن يدعو الله في السجود. قال بعض العلماء: يجوز أن تدعو الله بما ورد في الكتاب على تأويل الدعاء، لا على تأويل التلاوة، فتقول -مثلاً-: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ... ) ، (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين) . فهذه ألفاظ دعوات يأخذها الإنسان من الكتاب، ويتكلم بها لا على أنها تلاوة، ولكن على أنها دعاء وطلب. ولهذا فإن الجنب والحائض إذا أتيا بهذه الألفاظ من الأدعية من الكتاب وهما لا يريدان تلاوة، وإنما يريدان التعبد بالدعاء بهذه الألفاظ فلا مانع، وإن كان الجنب والحائض يمنعان من تلاوة القرآن، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا، ولا حرفاً واحداً) . فكلام الناس المراد به ما عدا ما شرعه النبي عليه صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن المصلي يحمد الله، سواءٌ كان في الفاتحة، أم عند الرفع من الركوع، والتسبيح يكون في الركوع وفي السجود، وهذا من كلامه، فيسبح الله ويحمد الله. والمنهي عنه في الصلاة هو ما يبينه الحديث الذي يأتي بعده: (يكلم أحدنا صاحبه في حاجته) ، كأن يقول: أين كنت أمس؟! وكيف حال المريض الذي كان عندكم؟! وما هو السعر اليوم في السوق؟ وهل فلان أتى أم لم يأت؟ فكلام الناس هذا الذي في مصلحة الناس لا دخل له في العبادة، ولا يجوز في الصلاة. وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير ... ) إلخ.

الدعاء بما لم يرد

الدعاء بما لم يرد مسألة: هل للمصلي أن يسأل الله في قنوته أو في سجوده بما أراد، أو يتقيد بما هو وارد؟ بعض المالكية يقول: ما هو مشروع في العبادة يتقيد به، كالقنوت في الصلاة، والقنوت في النوازل، فينبغي أن يتقيد القانت بما ورد من الدعاء في تلك المناسبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل من كلام الناس شيئاً؛ لأن القنوت عبادة. وهناك من يقول: ما دام الباب باب دعاء فله أن يدعو بالمناسب، والرسول صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وقد سماهم بأعيانهم كما في قصة أصحاب الرجيع، وهم القراء الذين استشهدوا. مسألة: إذا كان في الصلاة فهل له أن يتكلم بالقرآن مخاطباً لإنسان سأله عن شيء، أو استفسر عن شيء، أو رأى شيئاً ويريد أن ينبه عليه فتلا آية من كتاب الله ليدل على المطلوب؟ الجمهور يقولون: لا. لأن هذا يخرج القرآن إلى كلام الناس فيجيب به الآخرين. وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان في صلاة النافلة يأذن بالتنحنح، أو يرد السلام بإشارة اليد. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) يدل على أنه لا ينبغي لإنسان وهو في الصلاة أن يتكلم بكلام الناس، ولو فعل بطلت صلاته، ولو كان حرفاً واحداً يؤدي معنى. فلو أن إنساناً وقف بجوارك وقال: أجاء زيد؟ فقلت: (لا) فهذا حرف، لكن هذا الحرف يتضمن نفي جملة، أي: لم يأت. لأن النفي هنا راجع إلى جملة المجيء، وأنت تقول: (لا) ، فـ (لا) وحدها ليست كلمة، كما قال ابن مالك في الألفية: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم فكلمة (استقم) هي كلمة واحدة، وهو يقول: كلامنا لفظ مفيد. ويقول النحاة: لفظ مركب. والإفادة حصلت بكلمة (استقم) ؛ لأن المعنى: (استقم أنت) ، فهي كلمة متضمنة جملة كاملة. وكذلك الحروف المستعملة في المعاني، نحو: يا زيد فـ (يا) تقوم مقام الفعل: (أناديك) ، فكذلك إذا حصل كلام ولو بحرف واحد يؤدي معنى يحسن السكوت عليه فحينئذٍ تبطل الصلاة.

نسخ جواز الكلام في الصلاة

نسخ جواز الكلام في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وعن زيد بن أرقم أنه قال: (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . هذا الحديث يشعر بأن الصلاة مرت بأطوار، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الصلاة مرت بثلاث حالات، منها الإعلام بها، فكان يعلم أحدهم صاحبه بالصلاة، فهذا الطور الأول، ثم جاء الأذان بعد ذلك. وكان الرجل المسبوق يأتي فيسأل من في الصف: كم صليتم؟ فيشير بأصابعه ولا يتكلم: صلينا ركعة أو صلينا اثنتين، فيصلي المسبوق ما فاته بسرعة، ثم يلحق الإمام في الركعة التي هو فيها، ويتساوى معه في عدد الركعات، فإذا أتم الإمام صلاته يكون هو أيضاً قد أتم؛ لأنه أتى بما سبق به أول ما جاء، فإذا سلم الإمام سلم معه؛ لأنه أتى بما نقص عليه قبل أن يتابع الإمام. فجاء معاذ بن جبل وقال: والله لا أجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة في الصلاة إلا تابعته عليها. فجاء ذات مرة وقد فاته من الصلاة شيء، فدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، ولم يأت بشيء قبل، ولم يسأل أحداً، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم علم ما الذي فاته من صلاته، فقام يقضي ما فاته، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل من معاذ فقال لهم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاقضوها) . فكان الواحد منهم يكلم صاحبه في الصلاة بحاجته، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] . ونص الآية الكريمة فيه عطف الخاص على العام، وهذا يستدعي الاهتمام بهذا الخاص على أفراد عمومه، ومثله قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، فجبريل داخل في عموم (ملائكته) ، ولكن عطف جبريل على عموم الملائكة يدل على خصوصية جبريل عليه السلام؛ لأن اليهود لما سألوا: من الذي يأتيك بالوحي يا محمد؟! قال: (جبريل) . قالوا: هذا عدونا من الملائكة؛ لأنه يأتي بالعذاب، وأما ميكائيل فهو صديقنا؛ لأنه يأتي بالأرزاق. فهم أبدوا عداوة لجبريل بخصوصه، فجاءت الآية الكريمة ترد عليهم: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، وخص جبريل الذي يتخذونه عدواً، فيكون عطف جبريل عليه الصلاة والسلام على عموم الملائكة لأمر أثاره اليهود بخصوصه هو. وهنا كذلك قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، والصلوات خمس صلوات، والوسطى منها بلا شك، فخص الوسطى من تلك الصلوات بالحث عليها بذاتها، فتكون موضع عناية ورعاية أكثر من عموم الصلوات الداخلة في اللفظ العام: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] .

اختلاف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى

اختلاف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد الصلاة الوسطى، فـ مالك رحمه الله يقول: هي صلاة الصبح. وقال بعضهم: كل الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى؛ لأن الوسطية في الصلوات نسبية. ولكن لو قلنا: الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى فمعناه أن الصلوات الخمس كلها صلوات وسطى، ونحن عندنا الوسطى واحدة فقط كما في هذه الآية؛ لأنه تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، ثم خص واحدة من تلك الصلوات وجعلها الوسطى. فـ مالك رحمه الله قال: إنها صلاة الصبح. والجمهور يقولون: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. فما موجب تخصيص مالك لصلاة الصبح؟ وما موجب تخصيص الجمهور لصلاة العصر؟ أما مالك رحمه الله فإنه نظر إلى شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الصبح، وقوله: (لقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، فأحرق على أناس بيوتهم) ، وهم: الذين لم يشهدوا صلاة الصبح. وأي اهتمام أكثر من هذا، فهو قد هم أن يحرق البيوت على من فيها لأنهم لم يصلوا الصبح، ولكن البيوت فيها النساء، وليست الجماعة واجبة عليهن، والبيوت فيها الصبيان وليست عليهم الفريضة، فكونه يقول: (لقد هممت) والرسول صلى الله عليه وسلم ما يهم بأمر إلا وهو مهتم بشأنه يدل على عظم قدر صلاة الصبح. قال مالك: هذا الاهتمام أشد ما سمع؛ لأنه في سبيل أن يحرق على الناس بيوتهم، وفيهم من ليس مكلفاً بالصلاة. وقال أيضاً: صلاة الصبح هي وقت نوم وغفلة، وكثير من الناس قد يغلبه النوم فيها، ويضيع صلاة الصبح، فيكون هذا الحث عليها. أما الجمهور فقالوا: صلاة العصر وقد جاءت نصوص كثرة تبين ذلك منها: حديث غزوة الأحزاب لما شغلوا بالعدو -ولم تكن قد شرعت صلاة الخوف- حتى دخل الليل، فـ عمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله -يا رسول الله- ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! ما صليتها) ، ثم دعا على المشركين فقال: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فالصلاة الوسطى التي شغلوهم عنها هي صلاة العصر، وبعد ذلك صلى المغرب والعشاء، وهما تشتركان في الوقت، فالتي فاتهم وقتها هي صلاة العصر، فسماها صلى الله عليه وسلم بأنها صلاة العصر. وجاء بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها طلبت من زيد أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا وصلت إلى هذه الآية الكريمة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فآذني -تعني: أعلمني وأخبرني أنك وصلت- فلما وصل أخبرها، فقالت: اكتب: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) ، وهذا تفسير منها للآية، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حاشاها أن تزيد كلمة في كتاب الله، ولكن كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يجعلون بعض الألفاظ شارحة أو مفسرة لمعنى غامض أو هامٍّ على هامش المصحف، فكتب على هامش المصحف: (الصلاة الوسطى) ؛ لأن الصلاة الوسطى ما جاءت في القراءة، ولا ثبتت قراءة في كتاب الله، لكنها أملتها عليه كأنه من باب الشرح، وتكون في حافة المصحف. ولهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما أتاه من يشتكو إليه اختلاف القراء في القراءات جمع القراء، وجمع الكتاب، وكتب المصحف الإمام، فطلب الصحف التي كانت عند أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم انتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم كانت عند حفصة ابنة عمر رضي الله تعالى عن الجميع، فاستعارها منها لينقل المصحف على رسم واحد، وأمر كل من كان عنده مصحف كتبه لنفسه أن يحرقه، حتى لا يطول الزمن ويدخل ما كان في الهوامش في صلب القرآن، فأحرق الجميع ما كان بأيديهم، واكتفوا بالمصحف الإمام الذي قرئ على عثمان رضي الله تعالى عنه، وأصبح المصحف الذي يرجع إليه العالم الإسلامي، وجعله خمس نسخ، وأرسل كل نسخة إلى مصر من الأمصار ومعها قارئ يقرئ الناس، فأخذوا القرآن سماعاً ووجادة. فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أملت على الكاتب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولم ينكر الكاتب، ولم ينكر عليها من سمع بذلك. فالجمهور على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لما قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، ولقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عند إرادتها كتابة مصحف لها. وقال الجمهور: إن جميع أوقات الصلاة تأتي عند فراغ الناس إلا العصر، فصلاة الصبح يكون الناس فيها فارغين من الأعمال، وما على الإنسان إلا أن يصلي ثم يرجع لينام كما شاء، وصلاة الظهر تأتي عند القيلولة والناس قد ملوا من العمل وجاؤوا إلى بيوتهم للقيلولة وللغداء والراحة، فهم في فراغ، والمغرب يكون عند انتهاء النهار وأول الليل، فيأوي الناس إلى بيوتهم وهم فارغون، وكذلك في العشاء يكونون في بيوتهم فارغين، فجميع الصلوات الخمس تأتي أوقاتها عند فراغ الناس من العمل إلا العصر، فهي في وقت شدة العمل، أو هي في أوسط أوقات العمل. وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب الذاهب إلى بني عوف فيجدهم يصلون العصر. قال الشراح: كانوا يؤخرون العصر في المدينة؛ لأنهم أصحاب فلاحة وأعمال، فكانوا يقيلون، فإذا قاموا من القيلولة استأنفوا العمل، فيأتي وقت العصر وهم في وسط عملهم، فإن تركوا العمل في أول وقت الصلاة وصلوا تكون العودة إلى العمل ثقيلة، ولكنهم يتمادون في العمل شيئاً ما حتى يذهب شيء من أول الوقت، ثم يصلون العصر ولا يعودون إلى العمل. فكان يأتي وقت العصر والناس في شدة عملهم، ولهذا كانوا يشغلون عنها، وكانوا يؤخرونها، وكانت أعمالهم تعوقهم عنها، فجاء التنبيه عليها؛ لأنها في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأن أشغال الناس تكون في وقتها أشد ما تكون. والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2]

كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2] من كان يصلي وأراد أن ينبه الإمام على خطأ، أو ينبه أحداً على أي أمر فله أن يسبح إن كان رجلاً وأما المرأة فتصفق. ويجوز للمصلي أن ينحنح في الصلاة للحاجة، وأن يرد السلام بالإشارة، وأن يحمل صبياً إذا احتاج إلى حمله، وأن يبكي، وأن يقتل الحية والعقرب وكل هذا من سماحة الشريعة وتيسيرها.

أفعال يجوز فعلها في الصلاة

أفعال يجوز فعلها في الصلاة

تسبيح الرجال وتصفيق النساء إذا حدث شيء في الصلاة

تسبيح الرجال وتصفيق النساء إذا حدث شيء في الصلاة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) متفق عليه، زاد مسلم: (في الصلاة) ] . تقدم الكلام على النهي عن الكلام في الصلاة، كما بيناه في سبب نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، وجاء النص: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) . والقنوت له معان فوق عشرة، منها السكوت، ومنها الخشوع، ومنها دوام العبادة، ومنها خشية الله، وكل هذه من معاني القنوت. وأتى المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب بعدة نصوص لبعض الصور التي قد تطرأ على المصلي فيحتاج إلى أن يتكلم، وهو منهي عن الكلام أثناء الصلاة، فماذا يفعل؟! فأورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ، والمعنى: أن المصلي إذا نابه شيء وأراد أن ينبه عليه، ولا يستطيع أن يقول: يا فلان! احذر كذا، أو يا فلان! افعل كذا، أو إذا كان مأموماً وسها إمامه، فهو لا يستطيع أن يقول: يا إمام! أنت سهوت فتركت ركعة، أو أنت قمت من الركعة الثانية، ولو قال هذا بطلت صلاته؛ لأنه مأمور بالسكوت، منهي عن الكلام، فإن له أن ينبه الإمام بأن يسبح فيقول: سبحان الله. وكذلك إذا كان إنسان في صلاته، وأمامه إنسان يريد أن يكلمه، فحينما همّ بالانصراف قال: (سبحان الله) فلفت نظره لذلك، فجلس ينتظر ما وراء قوله: سبحان الله. وفي بعض الحالات قد يضطر الإنسان أن يخرج من الصلاة للضرورة، كإنسان يصلي وطفل أمامه، وأمام الطفل شيء خطير، كنار تلهب، أو كهرباء، أو شيء آخر، وخشي على الطفل أن يهلك، فله أن يخرج من صلاته وينقذ الطفل، وآخرون يقولون: لا. لكن يبقى في صلاته ويسعى ويأخذ الطفل ويبعده، وله أن يسبح ليسمع أحداً قريباً فينتبه لهذا التسبيح، ويدرك الغلام. فالرجل إذا نابه شيء في صلاته يقول: سبحان الله. وهذا هو (التسبيح) من باب النحت، والتحميد قول: (الحمد لله) ، والتهليل: (لا إله إلا الله) ، والتكبير: (الله أكبر) ، والحوقلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فهذه كلمات نحتت، وهي تدل على جمل كاملة، فالتسبيح للرجال، فإذا نابه شيء قال: (سبحان الله) ؛ لينبه غيره، والإمام إذا سمع المأمومين يقولون: (سبحان الله) . وكان على شك رجع إلى صوابه وإلى يقينه، واستفاد من قولهم: (سبحان الله) . أما المرأة إذا نابها شيء فلكون صوتها لا ينبغي أن يرتفع، ولا ينبغي أن يسمعه الأجانب فإنها تصفق، ولا تصفق كما تصفق في اللعب، وإنما قالوا: بإصبعين من يمينها على يسراها، وهل ذلك في باطن الكف أم في ظاهره؟ بعضهم يقول: في باطن الكف والغرض من هذا التنبيه، فبإصبعين من كفها الأيمن تضرب كفها الأيسر مرتين أو ثلاثاً أو أكثر حتى تنبه من تريد أن تنبهه. فنحن نهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت عندما نزل قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: خاشعين صامتين لا تتكلمون. فلو أن إنساناً تكلم سهواً أو جهلاً فماذا يكون الحكم؟ الجواب: إن كان ناسياً فلا شيء عليه عند الأكثر؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) . وإذا تكلم جاهلاً بالحكم فبعضهم يجعل الجهل كالنسيان، وبعضهم يقول: الجاهل لا يعذر؛ لأن هذه أمور تعرف من الدين بالضرورة، ودليل القائل بأن الجاهل كالناسي حديث معاوية بن الحكم لما عطس بجواره رجل، فقال: يرحمك الله. ولما أنهى صلى الله عليه وسلم صلاته دعاه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن) ، فهو قالها جهلاً، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته، مع أنه تكلم جاهلاً. والآخرون يقولون: هذا كان في أول التشريع، وما كان يعلم الجميع حكم هذا، وهو لم يعلم حكم ذلك، وخاصة الذين ذهبوا إلى الحبشة، وكان النهي عن الكلام في الصلاة في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة علموا بذلك. فالمؤلف رحمه الله بيّن لنا أن المصلي لا يحق له أن يتكلم، وأنه يلزمه أن يسكت، ثم ذكر عدة نصوص لعدة حالات، وهذا من حسن التأليف.

البكاء في الصلاة

البكاء في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) ] . هذا الصحابي الجليل يروي لنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل، أي: القدر الكبير الذي يغلي. والأزيز من أسماء الأصوات، كما تقول: خرير الماء، وتقول: صفير الطيور، وزقزقة العصافير، وصلصلة الجرس، وغليان الماء. والألفاظ التي فيها تكرار الحروف تدل على حركة، أو على صوت، قالوا: الأزيز هو: صوت يكون داخل الصدر لانفعال الإنسان، ولا يكون باللسان ولا بالهمهمة، إنما يكون لانفعال داخلي في صدر الإنسان، وسبب ذلك هو انفعال نفسي، كأنه يريد البكاء ويحبس بكاءه، فهو صوت في جوف الإنسان وفي صدره. فهو صوت يعيه السامع، فهل هذا كلام مما نهي عنه، أم أنه خارج عن حد الكلام فلا يبطل الصلاة؟ قالوا: إن البكاء بالعين بدون التلفظ باللسان، والأزيز في الصدر بدون حرف يخرج منه لا يبطل الصلاة، وهي حالة -كما يقولون- روحية تغلب على صاحبها ولا يمكلها، وتتحكم هي فيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت: إنّ أبا بكر رجل أسيف لا يتمالك عينيه أن يقوم مقامك، فقال: مروا أبا بكر، فإنكن صواحب يوسف) . فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لها نظر بعيد جداً، وله أثره في الخلافة؛ فقيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه إماماً بالناس بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مرضه يدل على أن الذي سيتولى الصلاة بعده هو الذي سينيبه صلى الله عليه وسلم ويستخلفه بعده، وإن لينص عليه، وهذه واحدة. والثانية: إذا كان لك شخص عزيز كريم في عمل، فسافرت ورجعت ووجدت إنساناً غيره في هذا العمل فحالاً تتساءل بلهفه: أين فلان؟ وتخاف أن يكون وجود فلان هذا كناية عن وفاة الأول، وهذا قام مقامه، فالقلب يتأثر حينما يرى شخصاًآخر يقوم مقام من تعلق قلبه به، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها حسبت حسابين: الأول: حسبت أن يحزن الناس حين يرون أبا بكر قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نوع من التشاؤم، وأي مسلم يجد شخصاً في مكان رسول الله يتأثر ويتألم؛ لأنه لا يريد أن يغيب رسول الله عن هذا المقام. والثاني: أدركت أم المؤمنين عائشة أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس مقدمة لاستخلافه، ولذلك لما اجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السقيفة صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أيها الحاضرون! هذا أبو عبيدة، وهذا عمر، فاختاروا من شئتم، وبايعوا له ولا تختلفوا، فقال عمر: سبحان الله! ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا بالصلاة، ولا نرتضيك لدنيانا! مد يدك لأبايعك فبايعه، فكان أمره صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس فيه إشارة إلى أنه هو الذي سيتولى الأمر من بعده. فإذا كان الأمر كذلك فأم المؤمنين عائشة خافت إذا أمر رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس، أن يقال: هي التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم أباها؟ ولا تسلم من التهمة، وحفصة موجودة، وعائشة موجودة، وهذه بنت عمر وهذه بنت أبي بكر، فأقل شيء أن يقال: هي التي من وراء هذا، وهي التي سعت، وهي السبب، فلما كان هذا الاتهام وهذا التساؤل محتملاً -وهو خطير حين تتهم أنها هي وراء اختيار أبيها- أعلنت للناس عند رسول الله قولها له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء، فكأنها تقول: لا يصلح لذلك، فإذا حصل ذلك تقول: أنا ليس لي ذنب، كان رأيي من قبل أنه لا يصلح لهذا. ومن هنا ندرك معنى قوله: (إنكن صواحب يوسف) ، فما الذي جاء بصواحب يوسف إلى هنا؟ والجواب: لأنهن أخفين شيئاً وأظهرن شيئاً آخر، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصد عائشة وأنها تريد أن تدفع عن نفسها شبهة التهمة بأن لها سبباً في تقديم أبي بكر على غيره. والشاهد من هذا قول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء) ، فالبكاء لا يبطل الصلاة، والبكاء والأزيز يكون في حالة الخشوع، وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد يكون في الصلاة، وقد يكون خارج الصلاة، وهي منح يمنحها الله سبحانه وتعالى للمؤمن الصادق، ومن علامات ليلة القدر رقة القلب، كما قالت عائشة: ألا تجد في نفسك أحياناً رقة القلب ودمعة العين؟ فذاك إذا صافحك جبريل، فأحياناً الإنسان يحس برقة قلبه، وتدمع عينه ولا يعرف السبب، وقد يكون عقب قراءة آية، أو عقب تأمل في موقف، غير ذلك، وقد يكون لمجرد انطلاقه بروحه في عالم ملكوت المولى سبحانه، فيجد عالماً بعيداً يرقق قلبه، ويدر دمعته. فالإنسان قد يعرض له ما يرقق طبعه، ويزيد قوة روحه، فتحصل له هذه الحالة، فقد يبكي ويفرج عن نفسه، وقد يكتم البكاء، قال ابن تيمية رحمه الله: القوي الذي يكظم ذلك، ويقدر على نفسه، بخلاف هؤلاء الذين يصيحون ويصرعون، ويقولون: المخلص المكثر من العبادات قد يحدث له حالة صرع وغيبوبة مع الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لضعفه، وقوي الشخصية هو الذي يتحمل هذه النفحة، ويتحمل هذا الانفعال، ويتماسك. فأزيز صدره صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لشدة خشوعه بين يدي الله، ولذة مناجاته لله، فإذا حصل مثل هذا للإنسان وهو في صلاته لا يبطلها، والله تعالى أعلم.

التنحنح في الصلاة للحاجة

التنحنح في الصلاة للحاجة قال رحمه الله تعالى: [وعن علي قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي. رواه النسائي وابن ماجة] . قوله: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، أي: إذا جئته وهو في حجرة عائشة واستأذنته للدخول، فكان له مدخلان، فعند مدخل يقول: ادخل، إذا لم يكن في الصلاة، وعند مدخل يتنحنح إذا كان في الصلاة، ولا يمكن أن يقول: ادخل، فقد أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وبعض الناس يمثل النحنحة بصفارة الإنذار، فالتنحنح صوت يخرج من الحلق بدون حروف أو كلمات، فإذا تنحنح المصلي، لم ينطق بكلمة، وإنما أسمع صوتاً أخرجه من الحلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنحنح يعرف علي رضي الله تعالى عنه أنه في الصلاة، فيعلم أن الرسول أذن له بالدخول. والتنحنح في الصلاة لا يبطلها، ولو كان يبطلها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: هذا في النافلة، أما في الفريضة فلا؛ لأن النحنحة ربما تخرج حرفاً دون قصد، مثل: (أح أح) فيخرج الهمزة والحاء، فقالوا: لا يجوز التنحنح في الفريضة، وقالوا: كان علي رضي الله تعالى عنه لا يذهب يستأذن على رسول الله إلا وهو في بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته النافلة، ولو كان في المسجد لم يستأذن عليه علي؛ فإن المسجد بيت الله، وكل الناس يدخلون المسجد بلا استئذان، كما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا أردت أن تدخل على ربك بلا استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ وضوءك، واستقبل القبلة، وقم في محرابك، وكبر للصلاة) ، فعندما تدخل المسجد تقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وتدخل وتقوم في محرابك، وتخاطب ربك بلا ترجمان، وكم في الصف الواحد من ألسنة متعددة؟ وكلهم يناجي ربه بلسانه! فحديث علي رضي الله تعالى عنه يدل أن هذا الاستئذان كان في البيت، وهو يصلي النافلة، وهل يجوز ذلك في الفريضة أم لا؟ قيل: في الفريضة لا، والحاجة لا تدعو إلى ذلك في الفريضة، ولكن تدعو إلى ذلك في النافلة في البيت. ولو قدر أن مريضاً أو خائفاً أو غيرهما ممن تصح له الصلاة في بيته، كان يصلي فرضه فاستأذن عليه إنسان، فهل يتنحنح في الفريضة كما تنحنح رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة؟ الذين يفرقون بينهما يقولون: النافلة يغفر فيها ما لا يغفر في الفريضة، بدليل أن المسافر يتنفل على راحلته، ويومئ حيث ما توجهت به، بخلاف الفريضة فلابد أن ينزل إلى الأرض ويركع ويسجد وهو على الأرض، ويكون مستقبل القبلة، ففرق بين الفريضة وبين النافلة، والله تعالى أعلم.

رد المصلي للسلام بالإشارة

رد المصلي للسلام بالإشارة قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لـ بلال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا وبسط كفه. أخرجه أبو داود والترمذي وصححه] . في قوله: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليكم السلام؟ قال: (يقول هكذا وبسط كفه) . اختلف أهل العلم: هل بسطه كان إلى الأعلى، أم بغير ذلك؟ فبعضهم يقول: يقبض أصابعه ويمد السبابة، وبعضهم يقول: يمد الكف كاملاً، وهو دليل على جواز رد السلام بالإشارة. ويقول بعض العلماء: هذا الرد كان قبل النهي عن الكلام؛ لأن الرد بالإشارة كالكلام، فكأنك تتكلم. والآخرون يقولون: إن الحركة باليد ليست كلاماً، والنهي عن الكلام في الصلاة المراد به كلام الناس في الصلاة. وقالوا: هذه الحركة كانت قبل الهجرة، وقبل أن يسافروا ويهاجروا إلى الحبشة، فقد جاءت الأخبار بأن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في مكة يسلمون على المصلين ويردون عليهم السلام، وهذا يدخل في عموم قول الراوي: (كان أحدنا يحدث صاحبه بحاجته وهو في الصلاة، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) . قالوا: قوله: نهينا عن الكلام، أي: بعد الهجرة في المدينة، وكان تكليم بعضهم لبعض في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فكانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ويرد عليهم السلام بالقول؛ لأنهم لم ينهوا عن الكلام في الصلاة، فهاجر بعض الصحابة إلى الحبشة، فلما رجع أحدهم من الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه فلم يرد عليه، قال: فجمعت الماضي والحاضر -يعني: أخذت أفكر في تاريخي الإسلامي وفيما مضى وفي حاضري- فظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرد عليه سخطة عليه، وما علم أنهم قد نهوا عن الكلام، فاشتد الحال عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وفرغ من الصلاة رد عليه السلام، وقال له: (إن في الصلاة لشغلاً) ، يعني: كنت مشغولاً بصلاتي عن أن أرد عليك السلام. فاستدلوا بحديث: (إن في الصلاة لشغلاً) ، بأن من سُلم عليه وهو في الفريضة لا يرد، وإذا أنهى صلاته رد السلام على من سلم عليه، أما في النافلة فيبسط اليد. وبعضهم يقول: إن النهي عن الكلام وقع في مكة أيضاً؛ لأنه في بعض روايات الرواية المتقدمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رد السلام بعد الصلاة، قال له الصحابي: ماذا حدث يا رسول الله؟ قال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وقد أحدث من أمره أنه نهانا عن الكلام في الصلاة) ، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في مسألة من سلم عليه وهو يصلي، ففي هذا الحديث أنه كان يبسط كفه، وفي الحديث الآخر: (إن في الصلاة لشغلاً) ، ورد على المسلِّم بعد أن فرغ من صلاته، فجمعوا بين الحديثين وقالوا: حديث: (إن في الصلاة لشغلاً) يحمل على ما إذا كانت فريضة، فلا يرد ولا يبسط كفه، وإذا فرغ من صلاته رد السلام على من سلم عليه، وإذا كان في نافلة رد بالإشارة وبسط كفه لمن سلم عليه، والله تعالى أعلم.

حمل المصلي للصبي للحاجة

حمل المصلي للصبي للحاجة قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. متفق عليه، ولـ مسلم: (وهو يؤم الناس في المسجد) ] . حديث أمامة بنت زينب -كما يقول ابن دقيق العيد - فيه إشكالات، وأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو جدها، وأبوها أبو العاص بن الربيع زوج زينب، وهو ابن أخت خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة هي التي خطبت زينب لابن أختها، فتزوج ابن خالته. وكان صلى الله عليه وسلم يحب أمامة حباً جماً، حتى إنه أتى بقلادة فقال: (لأعطينها لأحب أهلي إلي) فقالوا: لمن يعطيها؟ فقال بعضهم: مَنْ غير الصديقة بنت الصديق؟ فإذا به صلى الله عليه وسلم يدعو بـ أمامة فألبسها إياها. وفي هذا الحديث أنها تعلقت به صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فمتى كان هذا، وفي أي صلاة؟ أكثر الروايات على أنها في صلاة الظهر أو العصر في المدينة، وبعض الناس يقول: كان هذا قبل الهجرة عند إباحة الكلام وإباحة الحركة. لكن واقع التاريخ يرده؛ فـ زينب رضي الله تعالى عنها أُسر زوجها أبو العاص يوم بدر، ولما جاء فكاك الأسارى، أرسلت زينب رضي الله عنها بقلادة لها لتفدي زوجها، وتلك القلادة كانت لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، وقد أهدتها إليها ليلة زواجها بابن أختها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة ذكرته بـ خديجة، وأخذته العاطفة، فقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تردوا إليها قلادتها وأسيرها فعلتم) ، فقال: (إن رأيتم) ، ولم يلزم؛ لأن الأسارى حق للمقاتلين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يبطل حقاً لحق آخر، وقد روي أن العباس لما أخذ أسيراً يوم بدر قال الأنصار: ائذن لنا -يا رسول الله- أن نفكه بلا فداء. فقال: (لا؛ والله، ولا درهماً واحداً) ، وقد كان قادراً على أن يدفع الفداء. فرد المسلمون لـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادتها، وأطلقوا العاص بن الربيع، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل إليَّ ابنتي زينب) ، فقال: سأرسلها إليك، وأرسل صلى الله عليه وسلم رجلين ينتظرانها في التنعيم، فجاءت إليهما، وردوها إلى المدينة، وكانت أمامة معها. فـ زينب ما جاءت بـ أمامة معها إلا بعد الهجرة. فهذا العمل كان بعد النهي عن الكلام، وبعد أن منعت الحركة في الصلاة، فكيف يحمل طفلة معه؟ وكيف تحرك هذه الحركات؟ ثم من ناحية أخرى تلك طفلة ليست بالغة، وليست في حد التمييز، فكيف حملها مع أنه لا يؤمن أن يحدث منها شيء ينزل على رسول الله وهو يصلي؟ فالإشكالات متعددة. فمن العلماء من يقول: إن هذا الأمر قد نسخ بالأمر بالسكوت والنهي عن الكلام. لكن قيل: كيف ينسخ قبل أن يقع؟ لأنه وقع في المدينة، وقيل: إن هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فالله أعلمه أن أمامة لن تحدث شيئاً حتى تنتهي الصلاة، لكن قال قوم آخرون: الخصوصيات تحتاج إلى دليل. وأشكل على الشافعية وغيرهم الحركة إذا سجد، وإذا قام وهو حاملها، والحركات المتوالية تبطل الصلاة، فعندهم ثلاث حركات متواليات تبطل الصلاة، فأجاب بعضهم بأن أمامة كانت تتعلق هي برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها جاءته وهو ساجد، فلما أراد القيام تعلقت به وهو لم يحملها، فلما أراد أن يسجد وضعها، فكانت منه حركة واحدة في كل ركعة. وأجيب عن ذلك بأنه جاء في رواية: (كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فخرج علينا حاملاً أمامة بنت زينب، فصف وصففنا وراءه وصلى بنا) ، فهي لم تتعلق به، بل هو الذي أتى يحملها معه من البيت، فهو الذي يضعها، وهو الذي يحملها. وقال بعض العلماء: هذه حالة لضرورة، إذ لم يجد من يكفيه مؤنة حفظها ورعايتها في البيت، وهو جدها وولي أمرها، فاضطر أن يحافظ عليها، فحملها معه وأتى بهذه الحركات، والضرورة مبيحة للمحظور. يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: كل ذلك يمكن أن يرد، وليس لنا إلا التسليم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو كان واحد منا عنده طفلة فهل هي كـ أمامة بنت زينب؟ أي: هل له أن يعاملها معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت زينب؟ وهل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أو بغيرها مرة أخرى؟ الجواب أنه حدث مع الحسن والحسين في البيت، فقد سجد صلى الله عليه وسلم وجاء الحسن وامتطى ظهره، وانتظر صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى نزل، فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (إن ابني قد ارتحلني -يعني: اعتبرني راحلة له- فكرهت أن أعجله عن حاجته) ، لكن في الفريضة لم يأت هذا. وأما هل جاء عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ذلك فأنا لم أقف على شيء من هذا. فلم يبق عندنا إلا وجه واحد، وهو أنه من كان معه طفل، وكانت هناك حاجة ماسة لحمله، واقتضت الضرورة أن يحفظه، ولو تركه لذهب يميناً ويساراً، وربما خرج من باب المسجد إلى الشوارع وهي مليئة بالسيارات فحينئذ له أن يحمله في صلاته. وقد قال بعض العلماء: ورد النهي عن استصحاب الصغار إلى المساجد، فكيف جاء بـ أمامة بنفسه؟ قالوا: نعم، ينبغي أن تصان المساجد عن الصبيان والمجانين، فلا تأتي وتترك الصبي يلعب في المسجد. ولقد شاهدنا أطفالاً صغاراً لا يعرفون شيئاً، وأهلهم يأتون بهم ويتركونهم، فيجعلون المسجد ملعباً. فيمنع الأطفال من اللعب في المساجد، أما إذا جاء رجل ولزم طفله فلا مانع، لكن أن يأتي به ويتركه يعبث بالمصاحف، أو يلعب، أو يؤذي الآخرين، أو يصيح ويبكي، فهذا يمنع. وعلى هذا لو أن الإنسان كان في حالة اضطرار، وليس عنده في البيت أحد، وعنده ولد وليس عنده من يرعاه، فإن تركه وأغلق الباب خاف عليه أن يحدث شيئاً، فله أن يأخذه معه إلى المسجد. وإذا جاء إلى المسجد فهو أمام أحد أمرين، إما أن يقبضه بيده، وإما أن يتركه عرضة للخطر. فنقول له: عامله كمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أمامة. بقيت مسألة الاحتراز من نجاسة الطفل، فبعضهم قال: إن من خصوصيته صلى الله عليه وسلم أن الله أعلمه بأنها لن تحدث شيئاً، ولن تفسد صلاته. وبعضهم يقول: إن ثياب الأطفال محمولة على الطهارة ما لم تشاهد فيها النجاسة. وبعضهم قال: كان من عادة أهل المدينة أن ينظفوا الأطفال في أوقات معينة، فلعله حمل أمامة بعد تنظيفها، وقد ذكروا أشياء كلها للاحتراز من أن يوجد شيء يعارض الصلاة. والواجب على الأم وعلى الأب، وعلى كل من يصحب طفلاً معه إلى المسجد أن يحتاط مع هذا الطفل فيما لو أحدث شيئاً، حتى لا يلوث المسجد، فالطفل ليس بعاقل، وليس له تمييز، فقد يحدث منه ما يحدث، فينجس المسجد، أو ينجس ملابس الأم فيفسد عليها صلاتها، فإذا ألبسه الحافظة وأدله المسجد للضرورة فلا بأس. وقد عقدت لجان لمعالجة هذه القضية، حتى إنه في بعض الاجتماعات اقترح مدير الشرطة أن تجعل استراحات على أبواب المساجد، فكل أم تجيء بطفلها تضعه في الاستراحة، وبعد أن تنتهي من الصلاة تأخذ طفلها وتذهب. ولكن أي أم ستترك طفلها في الاستراحة؟ وأي أم ستضمن راحة ولدها فيها؟ ، فكان هذا حلاً غير عملي. ولكن الحل العملي هو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أمامة بنت زينب. وقد يقال: لماذا نسبها الراوي إلى أمها فقال: أمامة بنت زينب، ولماذا لم ينسبها إلى أبيها؟ والجواب: ذلك لبيان عاطفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فـ أمامة هي بنت زينب بنت رسول الله فهو جدها، وهو مسئول عنها، أما لو قال: أمامة بنت أبي العاص فإنه سيقال: من هو أبو العاص؟ فيطول الشرح حتى نعلم أنها بنت زينب بنت رسول الله، فاختصاراً قال: بنت زينب. ومن النسبة إلى الأم ما تذكره كتب الأدب أن محمد بن الحنفية والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كانا أخوان لأب، فأبوهما علي، ومحمد أمه من بني حنيفة، والحسن أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنهما خرجا إلى السوق، وكان بينهما ما قد يقع بين الإخوان في الأسواق، فرجعا متغاضبين، وذهب كل إلى بيته، فإذا بـ محمد رضي الله تعالى عنه يأخذ قصاصة من الورق ويكتب فيها: (من محمد بن الحنفية -ولم يقل: ابن علي - إلى الحسن بن فاطمة بنت رسول الله -وانظر إلى هذا! فقد أبرز نسب الحسن إلى رسول الله تكريماً للحسن، وليبني عليه ما يأتي بعده- قال: أما بعد: فقد علمت ما كان بيني وبينك، ولقد هممت أن آتيك إلى بيتك لأستسمحك وأسترضيك، ولكن كرهت أن يكون لي فضل السبق عليك وأنت ابن بنت رسول الله -يعني: أنا ابن الحنفية، أبي وأبوك واحد، لكن أمينا مختلفتان، فلا ينبغي أن يكون لي فضل عليك- قال: فإذا وصلك كتابي فخذ عليك ثيابك، وشد نعليك، وائتني في البيت؛ ليكون لك الفضل عليّ. فانظر كيف كانوا يؤثرون على أنفسهم حتى في مكارم الأخلاق! وهكذا أبرز نسبة الحسن إلى رس

الحركة والكلام لمصلحة الصلاة

الحركة والكلام لمصلحة الصلاة قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب) أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان] . جاء المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث لبيان شروط الصلاة، فمن شروط الصلاة ستر العورة واستقبال القبلة، وفي حديث أمامة حصلت حركات من حملها، ولكنها حركات لا تبطل الصلاة. وأما الكلام في الصلاة فخلاصة ما يقوله الفقهاء أنه ينقسم إلى قسمين: كلام لصحتها، وكلام لا علاقة له بصحتها، قالوا: إن الكلام لصحة الصلاة مع الإمام جائز في بعض الأحوال، كما جاء في سهوه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين عندما قال: (أصدق ذو اليدين؟) وقال هذا بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فسكت القوم مخافة أن يكون حدث في دين الله شيء، فتكلم ذو اليدين -وكان رجلاً في يديه طول- فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ -يعني: هل الصلاة قصرت من أربع إلى ركعتين أم أنت نسيت الركعتين الباقيتين؟ - فقال: (كل ذلك لم يكن، فقال: بعض ذلك قد كان!) . وهذه الجملة المناطقة الآن يبنون عليها قواعدهم، فقوله: (كل ذلك) يقولون فيه: هذه صورة كلية، وجاء النفي فيكون النفي للجميع، يعني: ما قَصرت ولا نسيت، ونقيضها -كما يقولون- الجزئية الموجبة، فقوله: (بعض ذلك قد كان) ، يعني: بعض ذلك حصل. فالتفت إلى الصحابة وقال: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم) . فحصل كلام من ذي اليدين، وكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام من المصلين، فتوجه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وأتى بالركعتين، ثم أتى بسجود السهو، وتمت الصلاة. قالوا: إذا كان في مثل هذه الصورة فلا يبطل الصلاة، والحركة إذا كانت لمصلحة الصلاة لا تبطلها، وجاء في الحديث: (أفضل خطوة يخطوها المسلم أن يخطو إلى الصف أمامه ليتمه) ، فإذا وجدت فرجة أمامك فاخط خطوة إلى الصف، وسد الفرجة التي فيه. وهنا قال: (اقتلوا الأسودين: الحية والعقرب) ، وقتل الحية والعقرب لابد له -قطعاً- من الحركات، ولو كانا مقيدين فستأخذ آلة تضربها بها، فأخذك الآلة وضربك إياها حركة، مع أنها إذا شعرت بك لن تستلم لك، بل ستهرب يميناً ويساراً، وتتبعها حتى تقتلها، وأنت في الصلاة، فترجع إلى موقعك. فهذه الحركات لمصلحة الصلاة؛ لأنك لا تستطيع أن تصلي والحية جوارك، فمن مصلحتك ومصلحة الصلاة أن تقتلها. وقالوا أيضاً: لو أن الإنسان في صلاة، ورأى الأسد مقبلاً عليه، فله أن يشرد، ولكن أين ذهب فالأسد سيسبقه، فقالوا: إذا وجد شجرة صعد عليها، وهو في كل ذلك لا يتكلم، ويكمل صلاته فوق الشجرة إيماءً. ولو كان عدوك جاءك وأنت تصلي وقد سل سيفه ليقتلك، فلك أن تسل سيفك وتسايفه وأنت تصلي، وهكذا لو كنت تصلي فجاء إنسان وخطف متاعك، فلا تستسلم وتقول: أنا أصلي فسأدعه يذهب لا، بل اتبعه واجر وراءه حيثما سار، وبعد أن تأخذ متاعك أكمل صلاتك في مكانك هناك، ولا حاجة أن ترجع إلى المكان الأول؛ لأنه يكون عملاً زائداً على مصلحة الصلاة. فهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقتل الحية والعقرب في الصلاة، وقتل الحية والعقرب يستلزم الحركة، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب سترة المصلي

كتاب الصلاة - باب سترة المصلي من سنن الصلاة وآدابها اتخاذ السترة للمصلي إذا كان إماماً أو منفرداً، وهي من أسباب الخشوع في الصلاة، وبها يصون المصلي صلاته من أن تقطع بمرور أحد بين يديه، وفي السترة أحكام كثيرة في صفتها، ومقدار ما يكون بين المصلي وسترته، وحكم من مر بين يديه، وغير ذلك، وقد بين العلماء رحمهم الله ذلك، وشرحوا الأحاديث الواردة فيها، واختلفوا في بعض مسائلها.

شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه.

شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) متفق عليه، واللفظ للبخاري، ووقع في البزار من وجه آخر: (أربعين خريفاً) ] . هذا باب: سترة المصلي، والسترة ما يستر الإنسان أو الشيء ويغيبه عن النظر، والاستتار هو: اتخاذ السترة بينه وبين من يريد أن يختفي عنه، وقد يكون هذا الساتر مستوراً من باب المعجزة كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45] ، وفي كتاب: البلاغة الواضحة أن هذا مفعول بمعنى فاعل، أي: مستوراً بمعنى ساتر، وهذا خطأ، بل هو على الحقيقة؛ لأن من شأن الحجاب أن يستر، والمعجزة في أن هذا الحجاب الذي يحجب ما وراءه هو بنفسه مستور، فإن أم جميل زوجة أبي لهب لما نزلت السورة الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ؛ جاءت وفي يدها فهر، وهي تولول غيظاً، وكان صلى الله عليه وسلم جالساً بجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! لقد جاءت فلانة وفي يدها فهر -يعني: حجر مستطيل- وإني أخشى عليك منها، قال: (لا عليك، سأقرأ قرآناً يحجبني الله عنها) ، فقرأ قرآناً فجاءت هذه المرأة ووقفت على أبي بكر وقالت: أين صاحبك؟! وهو جالس بجانبه، لكن حجبه الله بحجاب، وهذا الحجاب مستور عنها، ولو كان الحجاب بائناً لكشفت ما وراء الحجاب وتطلعت، لكنه مستور عنها، فهو ساتر مستور، وهو حجاب مستور على الحقيقة، وهو وجه الإعجاز، فقال: ما شأنك؟! قالت: لقد هجاني؛ لأنها اعتبرت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، وقوله فيها: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] هجاء، أي: مذمة، فقال لها: أما إن صاحبي ليس بهجاء، فقالت: أنت مصدق، ومضت في سبيلها. قالوا: وكذلك ليلة الهجرة قرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فحجبه الله عن الفتية. وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها (أنها اتخذت سترة فيها تصاوير، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى التصاوير في تلك السترة لم يدخل بيتها، ورأت في وجهه الغضب، فأماطتها، وقطعتها ذيولاً للوسائد) . فأصل السترة في اللغة هو: ما يستر غيره، لكن السترة لا تغطي المصلي هنا، ولكن هي: ما يتخذه المصلي بين يديه في صلاته. وبعض العلماء يقول: معنى السترة في اللغة موجود في سترة المصلي؛ لأن الغرض من وضعها ستر النظر أثناء القيام عن التعدي إلى بعيد فينشغل المصلي، فشرعت السترة ليكون نظره وهو قائم عند سترته، وقالوا: إذا ركع كان نظره عند أطراف قدميه، وإذا سجد كان نظره إلى أرنبة أنفه، وإذا جلس في التشهد كان نظره ما بين سترته وركبتيه، ويقولون: حُدَّ النظر من أجل ألا يتطلع يميناً ويساراً؛ لأن هذا مخل بالخشوع والخضوع في الصلاة. وقد جاء أن الذي يتخذه المصلي أمامه بين يديه يحتجر به المكان الذي يصلي فيه، ويصبح من حقه هو، وسموا هذه العلامة أو هذا الحد الفاصل سترة؛ لأنها تمنع المار أن يقتحم على المصلي حماه، وهل العلة من اتخاذها هو منع التشويش على المصلي، أو هو فصله عن القبلة مؤقتاً، أو غير ذلك؟ الله تعالى أعلم. والمؤلف رحمه الله أورد هذه الأحاديث في هذا الباب، ورتبها ترتيباً حسناً، وهذا يدل على فقه المؤلف رحمه الله، فبعد أن ذكر أحكامها، والأمر بها، والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وما يقطع الصلاة، ذكر في الأخير حديث: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) ، فكأنه أورد تلك النصوص ليبين كراهية الصلاة بدون سترة، والمنع من المرور بين يدي المصلي، وبين أخيراً علاقة المرور بصحة الصلاة. والمتأمل في عموم النصوص الواردة في سترة المصلي يجدها تدور على: السترة، وعلى المار بين يدي المصلي، وعلى المصلي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فلا يترك أحداً يمر بين يديه) ، فهذا خطاب للمصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار ... ) خطاب للمار، فجاءت النصوص تارة للمصلي، وتارة للمار، وجاءت أيضاً في صفة السترة، وفي مقدارها، فهي مثل مؤخرة الرحل، وبين الفقهاء رحمهم الله كم يكون بين المصلي وسترته، وإذا لم يجد مثل مؤخرة الرحل فماذا يفعل؟ قالوا: يخط خطاً، وكيف يكون الخط؟ هل يكون مستقيماً معترضاً، أو مستطيلاً إلى جهة القبلة، أو منثنياً كالمحراب؟ كل ذلك بينه الفقهاء رحمهم الله على خلاف عندهم في بعض المسائل مثل مشروعية الخط. هذه هي جوانب مبحث السترة للمصلي، ولم يقل أحد من العلماء باشتراط السترة لصحة الصلاة، قال ابن عبد البر: اتفقوا أنه ينبغي للمصلي أن يتخذ سترة، ولم يقل أحد ببطلان الصلاة بدون سترة إلا أقوالاً شاذة خارجة وبعيدة عن مذاهب الأئمة الأربعة، وعلماء الحديث قاطبة.

التشديد في المرور بين يدي المصلي

التشديد في المرور بين يدي المصلي مالك رحمه الله عقد في الموطأ باباً بعنوان: التشديد في المرور بين يدي المصلي، فكان عنواناً مطابقاً للحديث فعلاً، ثم جاء بباب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ما من عزيمة إلا ومعها رخصة غالباً لبعض الظروف، مثل أن يكون المصلي مفرطاً ويكون الإثم عليه، كأن يصلي في ممر المشاة، فيكون عرض نفسه للمرور بين يديه بدون سبب، فهو المتسبب، وقد يكون الإثم من جهة المار، وذلك إذا كانت له سعة للابتعاد عن يدي المصلي، فتعمد المرور فهو آثم، وعلى هذا فكل من المصلي والمار مخاطب ومحذر من أن يفرط في أمر السترة. والنصوص المذكورة في الباب تدور على: حكم اتخاذ السترة، وعلاقة ذلك بالمصلي، وعلاقة ذلك بالمار، ونوعية وكيفية السترة. نرجع إلى الحديث الأول: (لو يعلم المار) ، قوله: (لو يعلم) : كأنه لا يعلم قبل ذلك، فهو أمر غيب، والمراد: لو يعلم الإثم، وقوله: (بين يديه) : عبارة عن الاقتراب منه، فلو كنا في مكاننا هذا نصلي، وجاء إنسان عند الأروقة الموجودة بعيداً، وبيننا وبينه حوالى خمسين أو ستين متراً، ومر من هناك، فهل نقول: إنه مر بين أيدينا؟! العرف ينفي ذلك، لكن إذا كنت أصلي هنا، ومر إنسان بيني وبين القارئ فنقول: مر بين أيدينا، فنرجع إلى العرف لمعرفة حد بين يديه، وقال البعض: ثلاثة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، وبعضهم قال: رمية الحجر، لكن رمية الحجر هذه بعيدة! والمار بين يدي المصلي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون للمصلي سترة؛ فيتحقق مروره بين يديه إذا مر ما بين السترة والمصلي، أما إذا مر من وراء السترة فلم يمر بين يدي المصلي؛ لأن السترة حددت موقع المصلي وحمى مكانه، وحمى مكانه أصبح من اختصاصه إلى أن يفرغ من صلاته، وعند ذلك يرتفع الاختصاص إلى غيره. وقوله: (ماذا عليه) ، يقول بعض العلماء: أي: من الإثم، وابن حجر قال متعقباً صاحب عمدة الأحكام: لفظة: (من الإثم) لم تذكر في كل نسخ البخاري، فهي ليست فيه، ولكن لابد من تقدير الإثم، لكون الحديث زاجراً عن المرور. وقوله: (لكان -أي: الحال والشأن- أن يقف -أي: ولا يمشي تلك الخطوة- أربعين ... ) أربعين ماذا؟ يقولون: لم يأت تمييز العدد هنا في الصحيحين، وجاء في رواية أن الراوي قال: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين خريفاً، والخريف هو أحد فصول السنة الأربعة، وهي: صيف وشتاء وخريف وربيع، قالوا: فالخريف كناية عن سنة كاملة، وهل يمكن أن يقف سنة فضلاً عن شهر أو يوم؟! مدة الصلاة لا تتجاوز سبع دقائق أو ست دقائق، وصلاة الجماعة من تكبير الإمام إلى أن ينتهي من الصلاة لا تزيد عن عشر دقائق. إذاً: هذا من باب -كما قال مالك -: التشديد والتغليظ في النهي، وكل إنسان حينما يقارن بين وقوفه أربعين يوماً -على أقل تقدير- وبين الإثم الذي يلحقه يستهين بأربعين يوماً حتى لا يلحقه إثم أكبر من ذلك، فما بالك إذا لم يستغرق الوقت أربعين دقيقة؟! فلأن يقف أحسن له بكثير، وهذا يهون عليه الوقوف حتى يفرغ المصلي من صلاته. وقوله: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه) ، وإذا كان لا يعلم هل يعذر بالجهل؟ قالوا: نعم، ولكن على المصلي أن يدفعه كدفع الصائل، يبدأ بالأسهل فالأسهل، قال البعض: حتى لو حرك عينه، ولو حرك رأسه، بأي شيء ينبهه، فإذا لم ينتبه مد يده، وإلى أي مدى؟ قالوا: مقدار ما تصل اليد، لا أن يكون بينه وبين المار متران، أو قدر مكان سجوده عدة مرات، فيخطو إليه ليرده!! فهذا ليس له حق فيه؛ لأنه لم يحتجر تلك المسافة، وإنما احتجر بالسترة لو كانت موجودة نحو ثلاثة أذرع فقط، ولذا قالوا: لو أن المار سبق وغلب وأدركه لا يحق له أن يرده مرة أخرى من حيث أتى؛ لأن هذا سيكون مروراً ثانياً، فإذا مر المرة الأولى ولم يدركه ولم يحجزه عن المرور؛ فيتركه يمضي ولا يرده. وجاء عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن عمراً مر بين يدي رسول الله وهو يصلي فرده فرجع، فجاءت ابنتها زينب تمر بين يديه فمنعها فلم تمتنع، فمنعها فلم تمتنع، ثم غلبته وتعدته، فلما صلى قال: (هن الأغلب) ، ففرق بين الجارية وبين الغلام، فهو استحى ورجع، وهذه تعدته. وقد جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه) ، وهذا يشمل الإنسان وغيره، فالمصلي يمنع حتى الحيوان من المرور بين يديه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فجاءت عنز -أو عناق- وأرادت أن تمر بين يديه، فأخذ يضايقها حتى ألصق منكبه بالجدار ومشت من ورائه، ولم تمر بين يديه) فكان لا يدع أحداً يمر بين يديه. وقوله في الحديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي) ، هل هذا لكل مصل مطلقاً أم من اتخذ سترة فقط؟ قالوا: هو للمصلي الذي اتخذ سترة، فلا يمر بين السترة وبين المصلي، أما مصل لم يتخذ سترة، فقد فرط في حق نفسه، والمار إذا كان يعلم النهي فتعمد المرور بين يديه في أقل من الثلاثة الأذرع؛ فكلاهما آثم، المصلي آثم لتقصيره في عدم اتخاذ السترة، والمار آثم لتعمده المرور بين يديه وعنده مندوحة أخرى، بخلاف ما إذا كانت ليست له مندوحة فيجوز له المرور. وقوله: (لكان أن يقف) أي: لكان الحال والشأن أنه لو وقف أربعين يوماً، أو شهراً، أو خريفاً -كما في بعض الروايات-؛ أهون له وأخف عليه من إثم مروره، فلو انتظر أربعين دقيقة لانتهت المسألة، وانتهى المصلي من صلاته، وخرج من تلك المسئولية. وهذا عام في كل مصل، وفي كل مكان، وفي كل زمان، لكنهم يقولون: يستثنى من ذلك المار بين يدي المصلي في المسجد الحرام، وبعضهم يقول: في مكة كلها، وبعضهم يقول: في حدود الحرم كله، ولكن النص قد جاء في المسجد الحرام فقط، فجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الحرام، والناس يمرون بين يديه، ولم يمنع أحداً، وعلل الفقهاء ذلك بأن المساجد غير المسجد الحرام الصفوف فيها منتظمة معتدلة، فيمكن للإنسان أن يذهب من طرف بعيد عن تجاه المصلي ويمشي، لكن في المسجد الحرام الصف حلقة مستديرة، فإذا كان المصلي داخل الحلقة فمن أين يخرج؟ لن يخرج إلا إذا مر بين يدي بعض المصلين فلا يتأتى المنع، ويتعذر المنع، فأبيح وخفف في ذلك.

شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل)

شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل) قال رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل) أخرجه مسلم] . هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن سترة المصلي) ، لم يبين في الرواية صيغة السؤال عن السترة، هل هو عن حكمها، أو بعدها، أو شرطها، أو شكلها؟ لم يبين في الرواية شيء من ذلك، ولكن الجواب يوحي بنوعية السؤال، فإنه سئل عن سترة المصلي، ولم يقل: تكون بعيدة أو قريبة، ولم يقل: هي واجبة أو مندوبة، ولكن قال: (مثل مؤخرة الرحل) ، والرحل له خشبتان: خشبة من الأمام، وخشبة من الخلف، وليست متينة كثيراً، وليست طويلة، يقول العلماء: مؤخرة الرحل قريبة من عظم الذراع، والذراع من المرفق إلى طرف الأنامل، وعظم الذراع من الكوع إلى المرفق، فالسترة تكون واضحة بارزة للمار مثل مؤخرة الرحل، فالسؤال كان عن حجمها، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن تحمل العنزة بين يديه، فكان إذا خرج إلى المصلى في العيد، أو كان في السفر وحضرت الصلاة؛ غرزت العنزة في الأرض، فيصلي إليها، والعنزة: نوع من العصي في طرفها قطعة من الحديد، ولذلك يمكن أن تخترق الأرض، فكانت تغرس في الأرض، وتكون قائمة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. فأقل ما يكون في السترة مثل مؤخرة الرحل، فإن وجد مثل هذا القدر في المتن وفي الطول فهذا المطلوب، فإن لم يجد مثل ذلك فسيأتي بيان ما الذي ينوب عن مؤخرة الرحل. تنبيه: لا ينبغي للمصلي أن يصمد إلى السترة ويجعلها بين عينيه ويسجد إليها، ولكن يجعلها مائلة إلى أحد الجانبين يميناً أو يساراً، لحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فلا يعمد إليه عمداً، ولكن يجعله عن يساره أو عن يمينه) ، ولفظ الحديث قدم اليسار على اليمين، مع أن اليمين أفضل، وكان ومن حقه التقديم، ولكن السترة بالنسبة للمصلي كأنها إمام له، والواحد إذا صلى مع الإمام يكون موقفه عن يمينه، والإمام عن يساره، فيجعل السترة موقع الإمام. واعلم أن الإمام في الجماعة سترة للمأمومين وراءه. فينبغي للمصلي ألا يعمد إلى السترة فيكون في صورة من يسجد لغير الله، ومن هنا كره العلماء أن يتخذ المصلي سترة من إنسان جالس أو حيوان؛ لأنه إذا سجد والإنسان بين يديه فكأنه يسجد لمخلوق، وكذلك الحيوان، اللهم إلا إذا كان في السفر، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينيخ راحلته، ويصلي إليها، ويجعلها سترة له من الناس، والله تعالى أعلم. وهذا الحديث الذي فيه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السترة كان في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع، يعني في آخر الأمر، ولم يأت ما ينسخ ذلك، فمشروعية السترة باقية، وما سمعنا بحديث ينسخها.

شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم)

شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) قال رحمه الله: [وعن سبرة بن معبد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) أخرجه الحاكم] . قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة) ليس معناه: أن يتخفى عن الأنظار؛ لأنه قال: ولو بسهم، والسهم لا يخفي الإنسان عن الأنظار، فالمعنى أن يتخذ سترة، (ولو بسهم) ، والسهم ليس كبيراً، وليس متيناً كمؤخرة الرحل، فالغرض من ذلك ما يشعر المار بحرمة المصلي ولو بسهم يغرسه أمامه، وكانت تغرس الحربة أو العنزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحربة والعنزة متقاربان، إلا أن الحربة هي أداة قتال وهي أَحَدّ، والعنزة أداة اتكاء يتوكأ عليها. وقوله: (ليستتر) من صيغ الأوامر، فإن الفعل المضارع مع لام الأمر صيغة من صيغ الأوامر، ومن هنا أخذ من أخذ أن السترة للمصلي واجبة، ويتعين على كل مصل أن يصلي إلى سترة، فإذا خالف هذا الأمر فكأنه خالف في الطهارة، أو خالف في ستر العورة، أو خالف في استقبال القبلة، ويحكم على صلاته بالبطلان، ولكن من فقه المؤلف رحمه الله أن أعقب ذلك بحديث: (لا يقطع صلاة المرء شيء) ، وهذا يدل على أن السترة ليست بشرط.

شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم.

شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقطع صلاة الرجل المسلم -إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل- المرأة والحمار والكلب الأسود. الحديث، وفيه: الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم] . قطع الصلاة بمعنى إبطالها؛ ولذا قال بعض العلماء: لا يقطع الصلاة إلا الحدث، فمن اعتبر السترة واجبة، قال: من لم يتخذ سترة ومر بين يديه أحد هذه الثلاث، بطلت صلاته، فإذا كان مرور هذه الثلاث بين يدي المصلي الذي لم يتخذ سترة تبطل صلاته، فهل مرور غيرها يقطع الصلاة؟ فلو مر رجل، أو ذئب، فهل تبطل الصلاة؟ التنصيص على هذه الثلاث يخصها، ويرفع الحكم عما عداها، وقد تكلموا على هذا الحديث، وأول من تكلم عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. فقالت: رحم الله فلاناً -تعني: الراوي- ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير!! وذلك لأنه روى حديث: (يقطع صلاة المرء المسلم: المرأة والكلب والحمار) ، فقالت: رحمه الله! ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير، لقد رأيتني أنام معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وكان يطيل القراءة، فأمد قدمي -أي: بين يديه- فإذا أراد أن يسجد غمزني، فكففتهما ليسجد، قالوا: فهي امرأة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقطع صلاته صلى الله عليه وسلم. أجاب الآخرون وقالوا: النص جاء في المرور وليس في النوم، فقال الأولون: أخبرونا ما علة تخصيص المرأة عن الرجل؟ قالوا: الفتنة، قالوا: وأي فتنة أشد: امرأة تمر في لحظة أم امرأة نائمة مستلقية أمامه؟ أيهما أدخل في باب الفتنة؟ النائمة، فقد تتقلب يميناً وشمالاً، قالوا: لا، هذه زوجة، قال الأولون: فالرجل يشغل بزوجته أكثر من الأجنبية، وهو قد يطمع في الأجنبية، لكن نظره وفكره دائماً متجه للزوجة، وقال بعضهم: هذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: أين التخصيص؟ فخرجت المرأة بنفسها، وخرج معها سائر النساء. كذلك قطع الصلاة بالحمار، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت على حمار أتان -الحمار اسم الجنس، والأتان هي أنثى الحمير- والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى الظهر أو العصر؛ فمررت بالأتان بين يدي بعض الصف، ثم نزلت فصففت معهم، وتركت الأتان ترعى، فلم ينكر علي أحد) ، وكان سن ابن عباس في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة؛ لأنه قال: وقد ناهزت الاحتلام، قالوا: وهذا السن سن إدراك وتمييز، ولو كان هناك إنكار لأنكر عليه؛ لأنه يدرك ذلك، فمروره بالحمار بين يدي بعض الصف ولم يقطع صلاتهم؛ دليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، لكن قالوا: إن مروره بين الصفوف ليس مروراً بين يدي المصلين بدون السترة؛ لأن المصلين سترتهم سترة الإمام، أو الإمام بنفسه سترة لهم، ومن هنا قال مالك رحمه الله: إذا احتاج الإنسان أن يمر بين يدي الصفوف في صلاة الجماعة فلا مانع، وأكره ذلك لغير حاجة. إذاً: من كان يريد أن يذهب لحاجته وقت صلاة الجماعة فيتجنب المرور بين الصفوف، وإذا لم يجد مكاناً إلا بين الصفوف فلا مانع؛ لأن كل من وراء الإمام سترته سترة الإمام أو الإمام بنفسه سترة لهم. الشاهد أن من العلماء من أجاب عن قطع الحمار للصلاة بحديث ابن عباس، وأجاب الآخرون عنهم بما ذكرنا. أما الكلب فلم يأت ما يعارضه كما جاء في المرأة وفي الحمار، فيبقى على الخبر، لكنه وصف بالأسود، وجاءت الروايات بأن الكلب الأسود شيطان، ومن العجيب أن بعضهم يفرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغير المأذون في اقتنائه! والصواب أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، كما في النص، ولم يأت ما يخرجه مثل المرأة والحمار. فهذا ما يتعلق بإبطال الصلاة وقطعها بمرور هذه الثلاث، ولا ينبغي للمصلي أن يفرط في اتخاذ السترة، ولا ينبغي للمار أن يتعدى على حرمة المصلي. ثم قال المؤلف رحمه الله: [وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب، ولـ أبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه دون آخره، وقيد المرأة بالحائض] . (قيد المرأة) أي: في حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم: المرأة والحمار والكلب) ، وهذه الزيادة قيدت المرأة بكونها حائضاً، ويقول الأصوليون: هذا وصف مناسب، فإذا اعتبرت الحيضة بالنسبة للمرأة كان اعتباراً مناسباً، ولكن سيأتي ما يهدم هذا كله.

شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس.

شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) متفق عليه، وفي رواية (فإن معه القرين) ] . حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه موجه للمصلي. وفي هذا الحديث إشكالات، فلو اتخذ المصلي سترة، وأراد إنسان أن يمر بين يديه، فقال في الحديث: (فليدفعه) أي: فليمنعه، وبأي صفة؟ رأينا في هذا المسجد النبوي الشريف بعض الأشخاص يصلي وكأنه يحمل وعاء غيظ وحقد، فإذا مر إنسان بين يديه فإذا به بكل قواه يدفعه! وهذا خطأ، يقول العلماء: دفع المار كدفع الصائل من إنسان أو حيوان ضعيف يدفع بالأسهل، فإن لم يندفع اشتد دفعه، فمثلاً: طفل صغير قام وهجم عليك، فتستطيع أن تدفعه بيدك برفق، فإذا أخذت عصاً غليظة وضربته لأنه صائل عليك فأصيب فأنت ضامن، فيجب عليك أن تتدرج في الدفع، فتشير إليه أو تدفعه برفق، فإن امتنع من هذا الدفع أو الإشارة زدت، فإن امتنع بعد هذا فيجوز أن تصل إلى حد المقاتلة. وفي الحديث قال: (فليمنعه) ، وفي رواية: (فلا يتركه) ، وفي أخرى: (فلا يدعه) كما في الموطأ. وقوله: (فإن أبى) أي: أشرت إليه فلم يبال، مددت يدك فنفضها، مسكت بثوبه فنفض يدك، وأصبح معانداً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أبى فليقاتله) ، والمقاتلة قد تطلق على مجرد الخصومة، فلو رأيت اثنين يتنازعان كلاماً بينهما، تقول: هما يتقاتلان، وليس معنى (يقاتله) أن يحمل السلاح والترس والدرع ويقاتله من أجل المرور!! لا، بل (يقاتله) بمعنى: يدفعه بطريقة شديدة أكثر فأكثر؛ ولذا يقولون: لو اقتضى درأ المار إلى عمل كثير، كأن يمشي خطوات، ونحو ذلك مما يخرجه عن الصلاة، فإن هذا الفعل أشد خطراً من مجرد المرور، فقد يؤدي هذا إلى بطلان صلاته هو، وهناك من قال: يقاتله ولو أدى إلى موته!! فلو قاتله وقتله! فما الحكم؟ يقول الشافعي رحمه الله تعالى: عليه الدية في ماله، وبعض الشافعية يقولون: الدية على العاقلة؛ لأنه فعل فعلاً مأذوناً له فيه، والجمهور يقولون: لا يجوز أن يصل الحال إلى قتل المار، فإن أصيب بتلف فهناك من يقول: دمه هدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يقاتله، وهناك من يقول: ما أراد بالمقاتلة أن تقتله أو تصل به إلى حد الإتلاف، إنما أراد المنع بدليل ما سيأتي: (ادرءوا ما استطعتم) ، فإذا لم تستطع أن ترده تركته، وقد أديت ما عليك، وكان الإثم عليه هو. وقوله: (إنما هو شيطان) قالوا: مادة (شطن) بمعنى: بعد، أي: فهو بعد عن الاستجابة إليك، وبعد عن الاتباع للسنة، وبعد عن احترام المصلي في صلاته، فشيطنته عصيانه للأوامر، ورواية: (فإن معه القرين) تبين أنه ليس شيطاناً حقيقياً. يروى (أنه صلى الله عليه وسلم رأى شاباً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة) ؛ لأن كلاً منهما متعص على الثاني، هي متعصية أن تقر له، وهو متعص عليها إلا أن يأخذها. إذاً: كلمة (شيطان) قد تطلق على الشيطان حقيقة، وقد تطلق على شيء آخر، ومن الإنس شياطين كما قال: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] ، فقوله: (إنما هو شيطان) بيان أنه مخالف، وفعله في ظاهره فعل الشياطين، وقد يكون معه يؤزه ويدفعه ويغريه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا.

شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن فليخط خطاً، ثم لا يضره من مر بين يديه) أخرجه أحمد وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن] . يبين هنا صلى الله عليه وسلم أن على المصلي أن يتخذ شيئاً أمامه، فإن لم يجد شيئاً، لا عصاً ولا سهماً، فليخط خطاً، وأكثر الأئمة لم يقر الخط؛ لأنه لم يثبت عنده، ولم يصح الحديث فيه، لكن أحمد رحمه الله صحح الحديث وقال: من لم يجد شيئاً يستره من الناس فإنه يخط خطاً أمامه. ثم اختلفوا في الخط هل يكون بالطول كالعصا التي يضعها بطولها أمامه أو يكون الخط معترضاً؟ أما العصا فتكون معترضة يميناً ويساراً؛ لأنه إذا جعلها بالطول ستأخذ حيزاً كبيراً تشغل الناس، وكذلك الخط، كما لو كانت عصاً يلقيها بين يديه، وقيل: يخطه من موضع سجوده إلى الأمام بطول ذراع، وقيل: يخطه مستديراً كهيئة المحراب. وقالوا: إذا كان في أرض رمل جمع شيئاً من التراب أمامه، أو جعل أي شيء يشعر المار، والنووي رحمه الله في المجموع يقول: لو صلى على خمرة -وهي: السجادة المعروفة الآن- فإن نهايتها بمثابة السترة له؛ لأنها موضع صلاته وموضع سجوده، وما عداها مما وراءها ليس ملكاً له، وهو لم يقصد أن يحجر ما وراء مساحة السجادة، والسجادة من القدمين إلى السجود. هذا الحديث بيان لنوعية السترة، فهي إما عنزة، وإما مؤخرة الرحل، وإما سهم، وإما عصا، وإما أن يخط خطاً، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يستتر براحلته في السفر خاصة. وقوله: (ثم لا يضره من مر بين يديه) أي: إذا استتر بعنزة، أو بعصا، أو بمؤخرة الرحل، أو بالخط؛ فلا يضره من مر بعد السترة، ولا يتعرض له بالمنع.

شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء)

شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف] . وإن كان الحديث ضعيفاً فعليه عمل الجميع، وهذا من حسن ترتيب المؤلف وتنسيقه، فإنه ساق لنا أحكام السترة، والتشديد في المرور، والتأكيد على اتخاذها، ثم بين أنه لا يقطع صلاة المرء شيء، لا امرأة ولا كلب ولا حمار ولا شيء، ولكن (وادرءوا ما استطعتم) ، فإذا كنت تصلي وأنت متخذ سترة، أو لم تتخذ سترة، أو اتخذت سترة وبعدت عنها -وهذه مخالفة منك أنت-؛ فأراد إنسان أن يمر في موضع لا يجوز له المرور فيه، فادفعه ما استطعت، فإذا غلبك ومر فلا عليك، فالإثم عليه هو، أما أنت فقد اتخذت السترة، ودرأت ما استطعت. والناس يختلفون في ذلك، يقول الزهري: لو مر بين يدي مسكين تساهلت وتركته، ولو مر بين يدي جبار متعنت لمنعته، أي: ينظر إلى حالة الناس، فالغافل يتساهل معه، أما المتعمد للعصيان فلا يتساهل معه، لكن لا تصل إلى حد القتال بحيث تخرج عن حدود الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [1]

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [1] الخشوع لب الصلاة وروحها، فلا يعرف عظمة الصلاة من لم يذق الخشوع فيها، وعلى قدر الخشوع يكون الأجر، ولما كان الخشوع بهذه المنزلة فإن الشارع الحكيم قد أحاط الصلاة بسياج منيع من الأحكام التي غايتها وفائدتها الحفاظ على المصلي من كل ما يشغله عن الصلاة حتى لا يضيع عليه الخشوع.

ما ينافي الخشوع في الصلاة

ما ينافي الخشوع في الصلاة

الاختصار في الصلاة ومعناه

الاختصار في الصلاة ومعناه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم، ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته. وفي البخاري عن عائشة: (أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم) ] . بدأ المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب العظيم بهذا الحديث الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل -وكذلك المرأة- أن يصلي مختصراً، والمؤلف شرح كلمة (مختصراً) ، وهي مأخوذة من الخاصرة، والخاصرة فوق الحقو، وهو العظم، ويسمى بالحوض فوق ملتقى الفخذ بالظهر، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذه الهيئة -كما سيأتي فيما بعد- (في الصلاة) ، وجاء التعليل بأن ذلك من فعل اليهود، فيقفون في صلاتهم مختصرين. وبعضهم يفسر الاختصار في الصلاة: بأنه الاختصار في القراءة، وهو أن يأخذ من بعض السور بعض الآيات مختصراً السورة. وبعضهم فسر الاختصار بأن يختصر الصلاة، فلا يعطيها حقها من القراءة والطمأنينة في الركوع والسجود، بل يقتصر على أقل ما يجزئ، وهو الطمأنينة فحسب في الركوع وفي السجود وغير ذلك، بخلاف من يطيل ركوعه ويطيل سجوده، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، فقد أطال سجوده صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي حتى قالت عائشة: (خشيت أن يكون قد قبض) أي: مات. وجاء في الحديث الآخر: (يقرأ في الركعة الأولى البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك، إلى آخر الصلاة) ، وهذا في النافلة؛ لأنه في الفريضة يؤم الناس، فيراعي الضعيف والمريض وذا الحاجة، فمن بعض معاني الاختصار اختصار الصلاة بعدم إيفائها حقوقها. ومن معاني الاختصار أن يقرأ بعض الآيات من بعض السور. وبالمناسبة فإنه قد ورد عن مالك رحمه الله أنه قال: أحب إليّ أن يقرأ سورة كاملة -ولو من قصار المفصل- من أن يقرأ نظيرها عدة مرات من سورة طويلة. يعني أنه لو قرأ صفحة كاملة من سورة البقرة، أو آل عمران، أو يس، فخير من ذلك أن يقرأ سورة كاملة مثل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، أو {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل:1] ، أو {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، فإن هذا أحب عنده من أن يقرأ صفحة كاملة من سورة طويلة دون أن يكملها. والسبب في ذلك أن من تأمل أسلوب القرآن ومنهجه، وأدرك المعاني المرتبطة يجد كل سورة من قصار السور تنفرد بوحدة موضوعها، بخلاف السور الطوال، فإنها تتعدد فيها المواضيع، فإذا جئت إلى سورة (اقرأ) وجدت أنها تتحدث عن بداية الرسالة بالقراءة والتعليم، وإذا جئت إلى سورة (إنا أنزلناه) فإنها تتحدث عن القرآن، وعن نزوله، وإذا جئت إلى سورة (البينة) وجدت فيها إقامة الدليل والحجة على المشركين وأهل الكتاب، وإذا جئت إلى سورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وجدت موضوعها يتحدث عن ذات الله ووحدانيته سبحانه، وكذلك (المعوذتان) تجد كل واحدة موضوعة للاستعاذة من أشياء مخصصة. أما البقرة وآل عمران وبقية السور الطوال فتجد فيها عدة قصص، وكل قصة مستقلة بذاتها، وتجد في سورة البقرة مواضيع عديدة، كأول خلق الكائنات، وتقسيم الناس إلى مؤمنين ومنافقين وكفار، ثم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده بإقامة الأدلة بخلق السموات والأرض، ثم الكلام على بني إسرائيل، ثم آدم، ثم إبراهيم، إلى غير ذلك من أشياء عديدة، ومواضيع متعددة، فلربما أخذ الموضوع الواحد صفحة كاملة أو أكثر، وينبغي على كل قارئ -سواءٌ أكان وحده، أم إماماً في الصلاة- إذا قرأ من بعض السورة الطوال أن يأخذ موضعاً مكتملاً فيقرأه، ولا يبتر الموضوع ويركع، فإذا لم يمكن ذلك، أو كان يطول ذلك على المصلين فليقرأ من قصار السور. فمن معاني الاختصار: الاقتصار على بعض الآيات من بعض السور، وكذا الاختصار في الصلاة بإنقاص بعض واجباتها، والاختصار حساً، وهو وضع اليدين على الخاصرة، وماذا في وضع اليد في الخاصرة؟ قالوا: لأن ذلك من فعل اليهود في صلاتهم، ولا ينبغي أن نتشبه باليهود في عباداتنا. وهناك معنىً آخر، وهو أنك لو تأملت في نفسك إذا كنت في خلوة، أو في حالة ما، ووجدت نفسك مباشرة تضع يدك على خاصرتك، فإن ذلك -غالباً- لا يكون إلا في حالة الإعجاب، والنظر بتوسع فيما أعجبك، ففيها شيء من الفخر أو الاعتزاز أو التكبر، وهذا يتنافى مع الخشوع في الصلاة، والله تعالى أعلم.

الصلاة بحضرة الطعام وما في معنى ذلك

الصلاة بحضرة الطعام وما في معنى ذلك قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قدم العشاء فابدأوا به قبل أن تصلوا المغرب) ، متفق عليه] . في الحديث الأول النهي عن الاختصار في الصلاة أثناء أدائها، والحديث الثاني موضوعه قبل الدخول في الصلاة، وفيهما المحافظة على الخشوع في الصلاة، ففي هذا الحديث أنه إذا قدم العشاء قبل المغرب فلنبدأ بالعشاء، مع أن المغرب وقته ضيق! وفي اللفظ الآخر: (إذا قدم العشاء والعشاء فابدأوا بالعشاء) ، فجيء بلفظ (العشاء) بدلاً من المغرب، ومهما تكن من تسمية فإنهم يقولون: إذا قدم الطعام تطلعت إليه النفس، فإذا تركه وانصرف إلى الصلاة كانت نفسه مع الطعام، وهذا يشوش عليه. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتناول طعامه، وكان بجانبه شواء تشم رائحته، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فقال: اصبر حتى ننال من هذا الشواء؛ فلا تتعلق به نفوسنا في الصلاة. وهنا بعض المباحث الفقهية، فمن ذلك أنه لو ضاق الوقت، وقدم الطعام فهل نقدم الطعام ولو خرج الوقت؟ هناك من يقول: نعم، كالظاهرية، وهناك من يقول: يجب تقديم حرمة الوقت. وهناك من يقول: هذا للصائم؛ لأنه طيلة نهاره صائم جائع ينتظر الطعام ويرقب المغرب، فإذا قدم طعامه فليتناول من طعامه قبل أن يصلي المغرب، وهذه كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتناولون الإفطار بعد الأذان وقبل الصلاة، فيتناولون تمرات مع شيء من الماء، كما يُفعل الآن في المسجد النبوي ولله الحمد؛ لأن الإنسان مع طول الوقت يتطلع وينتظر، فلابد أن يأكل ما يكسر هذا التطلع والانتظار، لاسيما بالمادة الحلوة، ولذا قالوا: من الحكمة أن يكون الإفطار على تمر ورطب؛ لأن الحلاوة تدفع شره الجوع عن المعدة، وتجعلها تكتفي بأقل مما لو لم يسبق إليها بالحلوى. فتقديم العشاء على المغرب كان رفعاً للتشويش، أما إذا كان شبعان وقُدِّم العشاء وأقيمت صلاة المغرب فيبقى في حقه أن يُقدم المغرب؛ لأفضلية أول الوقت؛ لأن العلة منسية؛ إذ إنه قد شبع من هذا الطعام، أو في غنى عنه. فالحكم مختص بالجائع الذي يتشوش خاطره بترك الطعام إذا قّدم الصلاة، والله تعالى أعلم. وليس الأمر قاصراً على المغرب وعلى العشاء، بل كل أوقات الصلوات في ذلك سواء، ويمكن أن يقال أيضاً: إن ذلك يكون كذلك في حالة ما إذا كان هناك أمر هام ينشغل به المصلي، كمن عنده موعد مع إنسان في مكالمة هاتفية مهمة، وأقيمت الصلاة، وبقي من الوقت دقائق على موعد المكالمة، أو على مجيء الرسول بهذا الأمر، وإذا دخل في الصلاة يخشى أن يرن الجرس، أو إن دخل في الصلاة، يخشى أن يأتي الرسول فلا يجده. فلو أخرت الصلاة إلى الفترة القريبة التي لا تفوّت عليك وقت الصلاة حتى تُصلي وأنت مطمئن الخاطر مستريح البال فإنه يمكن أن يقاس هذا على علة رفع التشويش الكائنة في غير الطعام، مع غير المغرب والعشاء.

مسح الحصى عن الوجه في الصلاة

مسح الحصى عن الوجه في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه) ، رواه الخمسة بإسناد صحيح، وزاد أحمد: (واحدة أو دع) ] . هذا الحكم -أيضاً- يدور في فلك الخشوع أثناء الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه) ، فما علاقة مسح الحصى بمواجهة الرحمة؟ قالوا: لأن الإنسان في صلاته مقبل على الله سبحانه بمناجاته، مستحضر عظمة الله، مستحضر من يخاطب، ومقابل ذلك أن يكون الرحمات تواجهه، فإذا ما أخذ يمسح الحصى فكأنه انصرف عن مصدر الرحمات فانقطعت عنه. ولكن قد تكون ضرورة، وبعضهم يقول: لا تمسح الحصى، واسجد على ما أمامك؛ لأن الحصى الذي يواجهك يحب أن تسجد عليه. ويقولون: إن الحصاة التي يخرجها الإنسان من المسجد تخاصمه يوم القيامة، فتقول: لمَ أخرجتني من محل العبادات إلى محل القاذورات؟ ومن هنا يقول بعض العلماء: لا يجوز رمي الجمار بجمار تلتقط من المسجد؛ لأن الحصى التي في المسجد تستقر وتطمئن وتصغي وتدرك العبادة التي تسمعها، فهي تستأنس بها. وجاء في هذا شاهد العيان الذي شهده آلاف الناس، في المسجد النبوي الشريف حينما كان صلى الله عليه وسلم يخطب متكئاً على جدع نخلة، فصُنع المنبر، فأول ما تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مستأنساً مستشعراً لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمة ما يُلقى من قوله، والله سبحانه قادر على أن يجعل في الجماد حساً، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهو نوع من التسبيح لا تدركونه، بل هو فوق حواسكم وفلا تفقهونه، فيحن الجذع ويسمع حنينه كل من في المسجد كحنين العُشراء، والناقة العشراء يكون في حنينها نوع من اللطف أو العاطفة حتى نزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر وضم الجذع فسكن، ثم خيره فقال: (إن شئت أخذتك وغرستك فأورقت وأينعت وأثمرت -يعني: ترجع إلى شبابك- وإن شئت: صبرت، وكنت من غرس الجنة) ، فانظر إلى قدرة الله تعالى، حيث خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الجماد، لكن الله جعل هذا الجماد يدرك الخطاب والجواب، فقال (أكون من غرس الجنة) . فهذا الجدع تأثر بمدة قيام الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً عليه سبع سنوات؛ لأن المنبر صنع في السنة الثامنة، فلما تحول عنه افتقده. لذا قالوا: من المعاني في النهي عن مسح الحصى أنها تحب أن تسجد عليها، وتشاركك في السجود، وكذلك ما جاء في النهي عن كفت الشعر، فقد جاء عن بعض السلف: إن الشعر يحب أن يسجد معك. أو قال: أطلقه ليسجد معك. أي: كما يسجد الوجه على الجبهة، فكذلك الشعر الذي في الرأس -في الجمة- يسجد مع صاحبه. ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يمسح الحصى، اللهم إلا إذا كان شيئاً لا يستطيع أن يمكن جبهته منه، فهناك نوع من الحصى المصنوع المكسر مثل أطراف المسامير والإبر، فيصعب السجود عليه، فإن استطاع أن يسويه بحيث يمكن أن يسجد عليه فذاك، وإلا أزاله، أما إذا كان رملاً، أو كانت صخرة، أو كان شيئاً أملساً يمكن أن يسجد عليه فلا حاجة لمسحه وإزالته، كما قال أبو الدرداء، أو أبو ذر: لأن أدع ذلك خير لي من الدنيا وما فيها. وإذا كان هذا في النهي عن مسح الحصى فكيف بالذي ينظر في الساعة، ويضبطها، ويفعل غير ذلك، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يكفت الرجل ثوبه في الصلاة، فأين الخشوع عند هذا الصنف؟! وأين إدراك ما يُقرأ؟ فهذا حاله كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) ، ولن يتذوق إنسان طعم الصلاة وحلاوة المناجاة إلا إذا كان الخشوع متوافراً، وإلا كان كمريض يشرب الشهد فلا يشعر بطعمه، وبالله تعالى التوفيق.

الالتفات في الصلاة

الالتفات في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) . رواه البخاري، وللترمذي -وصححه-: (إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع) ] . يسوق لنا المؤلف رحمه الله في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ما يتعلق بالالتفات في الصلاة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان) ، وجاء أيضاً عن أبي ذر أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، وسألته عن الالتفات في الصلاة فقال: إنما هو هلكة، فإن كان ولا بد ففي النافلة) . فقول أم المؤمنين عائشة -زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (سألت رسول الله عن الالتفات في الصلاة ... ) فيه بيان أن الالتفات لا يكون إلا عن شغل يُشغله عن الصلاة، وهذا يتنافى مع الخشوع الذي عقد المؤلف الباب من أجله، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الالتفات إنما هو اختلاس، والاختلاس: هو أخذ المال خفية، كشخص يعمل في محل، وتحت يده صندوق المبيعات أو الأمانات، فيختلس -أي: يأخذ- من المال خفية دون أن يعلم به صاحب المال، ولكنه -كما يقال- أمر خفي في بدايته ظاهر في نهايته، بخلاف الاغتصاب، فالغصب ظاهر في أوله ظاهر في آخره؛ لأن الغاصب لا يبالي، فيأخذ جهاراً اقتداراً، أما المختلس فهو يخشى السلطة، ويخشى صاحب المال، فيأخذ المال خلسة. وهكذا الشيطان، يأتي للإنسان ويحمله على الالتفات بأي صورة، فيورد عليه صورة عدو، ويورد عليه صورة طلب حاجة، ويسمع أدنى صوت بجانبه، يميناً أو يساراً، ولخلو ذهنه أو فراغ قلبه عن الشغل بالصلاة يستهويه، أو يلتفت ليعرف مصدر هذا الصوت، أما إذا كان خاشعاً في صلاته مشتغلاً بما يتلفظ به، معظماً لمن يناجي، ولمن هو قائم بين يديه، فإنه لا يبالي بتلك الأصوات، أو بتلك الحركات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: عما سواها. ومن هنا كان الالتفات انشغالاً عن الصلاة، وكونه اختلاساً فالاختلاس ينقص المال، فإذا كان كل يوم يأخذ المؤتمن من المال درهماً فإنه بعد عدة أيام، وبعد عدة شهور، وبعد عدة سنوات، سيكون قد حصل في المال نقص كثير، وهكذا الصلاة التي يلتفت فيها الإنسان، فإنه قد أنقص منها بقدر التفاته، فتكون الصلاة قد نقصت، كما أن رأس المال عند المؤتمن عليه قد نقص، والمختلس قد يختلس شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، وكذلك الشيطان، فقد يختلس من الإنسان في صلاته بالتفاته شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، سواءٌ أكان في نوع الالتفات ومدى انحرافه، أم كان في كثرته ومداومته عليه، فكل ذلك نقص يقع على الصلاة. وكون الالتفات اختلاساً ناحية تربوية، وناحية معنوية فيما ينقص من الصلاة، لكن الفقهاء يبحثون عن صحة الصلاة وعدم صحتها، فيقولون: الالتفات إما أن يكون جزئياً، أو كلياً ومعنى (جزئياً) : أن يلتفت بعنقه قليلاً وصدرُهُ لا يزال إلى القبلة، ويسمى هذا الالتفات التفاتاً جزئياً، أما إذا التفت بكليته وصدره، فبعد أن كان إلى القبلة، ذهب إلى اليمين، وانحرف بصدره عن القبلة فهذا التفات كلي، فيقولون: إن الالتفات الكلي مبطل للصلاة؛ لأنه يُفقد الصلاة شرطاً من شروط صحتها في لحظة منها، وهو شرط استقبال القبلة، وهذا في الأمور العادية والاختيار، أما إذا كان في حال الضرورة، فالضرورات لها أحكامها، كمن كان في صلاة الخوف وهو يجري، أو كان يفر من عدو وهو في الصلاة، فهو سينحرف عن القبلة قطعاً، أو كان في حالة قتل العقرب أو الحية أثناء الصلاة، فهو سينحرف عن الصلاة انحرافاً كلياً قطعاً، لكن هذه حالات اضطرارية، والضرورات تبيح المحظورات، والبحث إنما هو في الأمور العادية الاختيارية. أما إذا صلى في جوف الكعبة فجعل الباب خلفه، وصلى إلى الجدار المقابل للباب، ثم إذا به ينحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين ثم انحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين -أي: إلى الجدار الثالث- فكل ذلك لا يبطل الصلاة من جهة الالتفات أو الانحراف؛ لأنه بانحرافه لم يخرج عن استقبال الكعبة، وهذا إذا كان يصلي داخل جوف الكعبة. أما ما عدا ذلك فنرجع إلى الحالة والصورة التي بسببها التفت التفاتاً كلياً لنعرف هل هي حالة مشروعة ومرخص له فيها؟ فإذا كانت كذلك فلا تبطل الصلاة، أما إذا كان عبثاً وغفلة وسهواً منه فإن كان التفاتاً كلياً بطلت صلاته، وإن كان التفاتاً جزئياً لم تبطل الصلاة. وأما كون الالتفات في الصلاة هلكة فلأن الاختلاس ينقص من أجر صلاته، والنقص من الأجر هلكة، فنقص مع نقص مع نقص سينتهي إلى نقص كثير يؤدي إلى الهلاك، أو أن الالتفات الجزئي قد يجعله يتعود ذلك، ثم يأتي منه التفات كلي دون أن يشعر، ويرجع ويستمر في صلاته وتكون صلاته باطلة، فتكون الهلكة. ويهمنا أن الالتفات في الصلاة ينافي الخشوع، ثم قال في هذا الحديث: (فإن كان ولا بد -أي: إن اضطر إلى الالتفات- ففي النافلة) . ومثال هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، إذ إنهم لما خرجوا -وقبل أن يصلوا إلى الموقعة- عرسوا في الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يحرس لنا الوادي؟) ، أي: الذي فيه العدو، فقام رجل وقال: أنا يا رسول الله فقال: (خذ عليك سلاحك، وخذ جوادك) فذهب، ثم طلع الفجر والناس ينتظرون أن يرجع هذا الفارس بالخبر فما رجع، فطال عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى جهة الوادي يتطلع إلى مجيء هذا الفارس، فقالوا: هذه نافلة كان يصليها صلى الله عليه وسلم، وكان يلتفت ويتطلع إلى الفارس إلى أن أذن الفجر، وصلى سنة الصبح وكان يلتفت، ثم فرغ وقال: (هل أحد منكم رأى فارسنا البارحة؟ قالوا: لا) ، فانتظروا قليلاً، ثم قاموا إلى الصلاة فجاء الفارس، فأخبره الخبر بأنهم جاءوا بإبلهم وغنمهم ونسائهم وأطفالهم، فقال (هل نزلت عن جوادك؟ قال: والله -يا رسول الله! - ما نزلت إلا لأتوضأ أو أصلي، قال: لا عليك أن تفعل فيما بعد) ، يعني: عملك هذه الليلة يكفيك، وليس معنى ذلك أنه يترك العمل بالتكاليف، فقد جاء نظير ذلك في حق عثمان رضي الله تعالى عنه حين جهز جيش العسرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ، يعني: هذا العمل يكفيك، فيكفيك من الأجر ما تقر به عينك في الجنة وليس معنى ذلك أنه إذا حصل على ما يكفيه يترك الواجبات فالمهم أنه إن كان ولا بد فيكون الالتفات في النافلة، ولهذا قالوا: يعتفر في أحكام النوافل ما لا يعتفر في أحكام الفرائض. فهذا ما يتعلق بالالتفات في الصلاة.

البصاق في الصلاة وحكمه

البصاق في الصلاة وحكمه

علة النهي عن البصق في الصلاة

علة النهي عن البصق في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن يمينيه، ولكن عن شماله تحت قدمه) ، متفق عليه. وفي رواية: (أو تحت قدمه) ] . في هذا الحديث النبوي الشريف -مع الحث على الخشوع في الصلاة- آداب أخوية واجتماعية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ، وانظر إلى قوله: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن) ، فإنه كان يمكنه أن يقول: لا يبصقن أحدكم في الصلاة قبل وجهه؛ فإنه يناجي ربه. فقال: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ليوقظ في الإنسان هذا المعنى العظيم، وهو حقيقة عمله. فهو في صلاته يناجي ربه، والمناجاة أخص من الحديث؛ لأنها بين الصديق والصديق، ولأنها مما يحرص المتناجون أو المتناجيان على الحفاظ عليه، كما بين سبحانه في فوارق الحديث بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] . وكما في قصة أبناء يعقوب إذا قال تعالى عنهم: {خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف:80] ، أي: يناجي بعضهم بعضاً يدبرون أو يتآمرون كيف يفعلون إذ أخذ منهم أخوهم. فليست المناجاة أمراً علنياً ولذلك إذا كان المجتمعون ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر؛ لأن ذلك يحزنه، حيث يقول في نفسه: ماذا يقولون؟ وفي أي شيء يتناجون؟ وعن أي إنسان؟ فإذا كانوا أربعة فلا بأس أن يتناجى اثنان، والثالث والرابع يستمران في حديثهما. فالمصلي في تلك الحالة يناجي ربه؛ لأنه يخاطب ربه سبحانه بحديث النجوى، وليس بحديث الجهر والإعلان، وكلما كان الحديث ذا أهمية أخذ طريق النجوى، سواءٌ أكان بين الصديقين، أم بين الشريكين، أم بين المهتمين بأمر خطير يخفونه عن الناس، وإذا تفاهموا فيه تفاهموا بالنجوى، ولهذا قال الحسن أو ابن المبارك: إذا أردت أن تدخل على الله بغير استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ الوضوء، وأتِ المسجد واستقبل القبلة، وكبر للصلاة فإنك تخاطب المولى سبحانه بلا ترجمان بينك وبينه، وبأي لسان يفهم عنك. وكذلك كل إنسان عندما يدخل في صلاته يقول: (الله أكبر) ، ثم يأتي بسورة الفاتحة بما فيها من المعاني المعروفة للجميع، فهو يناجي ربه إلى أن يقول: (إياك) أي: دون سواك (نعبد) ، (وإياك) أي: دون سواك (نستعين) ، ثم يقول: (اهدنا) ، ففي هذه الحالة يجب أن يستشعر عظمة من يناجي، ويستشعر أنه يستقبل ربه، كما جاء في بعض الروايات: (فإن الله تجاه وجهه) ، وجاء أيضاً في بعض الروايات: (إن المصلي إذا أقبل على الله أقبل الله عليه) ، فإذا أعرض أعرض عنه، وهذا من آفات الالتفات كما يقولون، ومن الجفوة، فإذا كنت تكلم إنساناً، والتفت عنه، فإن هذا ليس من الأدب، فالالتفات مخلٌ بالأدب، ومتنافٍ مع الخشوع، وكذلك هنا، فإذا كان يناجي ربه ثم غلبه البصاق فلا يبصقن تجاه وجهه؛ لأن الله تجاه وجهك، فأنت تناجي ربك، وما دمت مقبلاً على الله، فالله مقبل عليك. وهذا من الآداب الرفيعة، وإن كنا لا ندرك ولا نحس، ولكن نؤمن، ونوقن بما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم فقال: (فلا يبصقن تجاه وجه، ولا عن يمينه) ، وجاء في بعض الروايات التعليل لهذا؛ بأن تجاه وجهه رب العالمين يناجيه، وعن يمينه ملك الحسنات، فلا يبصق عن اليمين فيؤذي الملك، ولا يبصق أمامه؛ لأنه إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى. وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسلمت) احتراماً للقبلة في غير الصلاة، وخشوعاً في الصلاة أثناء الصلاة. ثم بين صلى الله عليه وسلم ما نفعل إذا عرض لنا البصاق ونحن في صلاة -فإن الالتفات منهي عنه، والبصق تجاه القبلة منهي عنه- فقال (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فإذا كان عن يساره وتحت قدمه فستكون التفاتة جزئية؛ لأن قدمه بجواره، وفيه تعظيم للقدم اليمنى، فيكون البصق تحت القدم اليسرى.

حكم البصق في المسجد عن اليسار تحت القدم

حكم البصق في المسجد عن اليسار تحت القدم وقد جاء في حديث آخر: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، وهذا لا يتعارض مع البصق تحت قدمه اليسرى في المسجد؛ لأن البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، فإذا بصق تحت قدمه اليسرى ودفنها فقد كفّر عن خطيئته وتجنب تجاه القبلة واليمين، ولكن هذا إذا كان المسجد تراباً ويمكنه أن يدفنها. وإذا أمكن أن يتجنب البصاق في المسجد -ولو تحت قدمه- كان أولى، ولا يقل: لا بأس فهي خطيئة مكفرة، فبما أنها خطيئة تحتاج إلى تكفير فالأولى تركها، فقد جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ طرف ردائه بيديه، وبصق في طرف الثوب، ثم طبق الثوب وحكها) ، ليتشربها الثوب بدلاً من أن تكون في أرض المسجد. وفي بعض الروايات: (لا يبصق أحدكم في المسجد فيؤذي بها أخاه المسلم في بدنه أو ثوبه) ، حتى لو دفنها فقد يأتي إنسان يجلس يتحرك فوقها، فيمكن أن تصل إليه فتؤذيه في ثوبه، وإذا كان بالإمكان تلافي هذه الخطيئة، فلا داعي لإيقاعها أصلاً، حتى لا نذهب ونبحث عن كفارتها. وكل ذلك مراعاة لطبيعة المسجد في أول أمره، وقد مكث المسجد طويلاً وأرضه الحصباء، بل كانت طيناً، فقد جاء في حديث ليلة القدر: (رأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، فأمطرت السماء وكان سقف المسجد من السعف والجريد، كما جاء عن بعض الصحابة قوله: (فوكف السقف إلى الأرض، ولقد رأيت الطين على أرنبة أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وبعد هذه الحادثة تعذرت الصلاة في الأرض التي فيها طين، فذهب كل رجل وجاء بالحصباء في طرف ردائه، وفرشها في محل صلاته وصلى عليها، وكثر هذا العمل، ففرش المسجد بالحصباء بأطراف أرديتهم، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) . ويمكن أن نقول: هذا عمل جماعي في مصلحة عامة، وفي مثل هذه الحالة ينبغي على المقيم من الرعية أن يساهم، ولا ينتظر من المسئولين أن يقوموا بكل شيء؛ إذ قد لا يستطيعون، أما إذا كانوا يستطيعون، وفي بيت المال ما يكفي لذلك، فعليهم أن يفعلوا، وهذه مهمتهم؛ لما لديهم من الإمكانيات في ذلك، أما في حالة عجزهم، أو إمكان إنجازه من قبل الرعية المقيمين، وتوفير ما في بيت المال لغيره فإن علينا أن نتعاون.

حكم البصاق في المساجد المفروشة

حكم البصاق في المساجد المفروشة وإذا كان الوضع كما هو الآن في عموم المساجد، حيث تكون أرض المسجد خرسانة، أو بلاطاً، أو رخاماً، أو فراشاً، فلا يتأتى للإنسان -إذا كان يصلي على رخام مثل الزجاج- أن يبصق عن يساره تحت قدمه، ولا يمكن أن يدفنها في الرخام وفي هذه الحالة يرجع إلى طرف ثيابه، فإن كانت ثيابه بيضاء ونظيفة فيتعين عليه أن يكون في جيبه منديل، وهذا مما تدعو إليه حياتنا العامة الآن. كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: (يحدث للناس أحكام بقدر ما أحدثوا) وهو قالها فيما يتعلق بالجنايات، ونحن نقول الآن: يحدث للناس تغيير في الأحكام بسبب ما حصل من تغير الأحوال بمرور الزمن وأحوال الحياة. فهذا حديث صريح: (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فهل يمكن أن نطبق هذا الحديث كما يفعل بعض الإخوة الذين يتمسكون بتطبيق حرفية الأحاديث. الجواب: لا. ومن هنا ننتقل إلى ما كنا فيه من الصلاة في النعال، فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق تجاه القبلة لعلة محددة، وعن يمينه لعلة معينة، وأباح عن اليسار، وأن يدفنها حتى لا يؤذي بها فإنه إذا كانت صلاته في النعلين -بما يعلق فيهما- ستؤذي غيره فحينئذٍ نقول: لا تصل في النعال. أما لو كانوا في سفر ونزلوا في الخلاء، والأرض ليست لينة أو ناعمة، وإذا خلع النعلين لا يستطيع أن يقف باطمئنان واستقرار، وكانت النعلان طاهرتين فإنه يصلي فيهما؛ لأنه مشروع، ولم يتعارض مع مصالح أخرى، فقوله: (عن يساره وتحت قدمه) كان يتناسب مع ذاك الوقت، أما الآن فقد حدث ما يتعارض مع ذلك. فلا نستطيع أن نطبق الحديث، ونحن لا نرد الحديث، ولكن نعجز عن تطبيقه؛ لأن تطبيقه في الرخام غير ممكن، وتطبيقه على مثل الفراش اليوم غير ممكن، فلا نتمسك بحرفية الحديث مستدلين بقوله: (عن يساره تحت قدمه) ، وهذا -كما أشرت- يربي الذوق، والذوق في الأخلاق إحساس وسمو، يتفاوت الناس فيه كما بين السماء والأرض. فانظر إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إذ يقول: منذ أسلمت ما بصقت تجاه القبلة قط، لا في صلاة ولا في غيرها. فما هو الذي منعه؟ إن معاذاً كان كأنه يستشعر عظمة الكعبة وحرمتها عند الله، ولو كانت بعيدة لكنه تجاهها، ونحن نجزم بأن البصاق في غير اتجاه القبلة أولى من البصاق في اتجاه القبلة، ونحس بمعنى لا نستطيع أن نعبر عنه. وكنا نرى بعض الأشخاص في المسجد النبوي في أوائل الثمانينات -ولم تكن الكهرباء قد عمت البيوت، وكان المسجد النبوي هو المقيل للناس، خاصة في رمضان- فيأتون المسجد النبوي من أجل التبريد؛ فقد كانت فيه مراوح، فربما تجد إنساناً ينام ماداً قدميه إلى القبلة، وبيننا وبين الكعبة أكثر من أربعمائة كيلو، فكنا نرى بعض الأشخاص إذا وجد إنساناً نائماً حول رجليه عن القبلة إلى الجهة الثانية، فالنائم يقوم ويقول: ما هذا؟! فيقال له: كيف تمد رجليك تجاه الكعبة! فيقول: الكعبة بعيدة، ولكن الشخص الذي أيقظه في عاطفته أن نوم هذا الشخص ماداً قدميه إلى الكعبة فيه إهانة للكعبة، مع أن النوم مع مد القدمين إلى الكعبة جائز، فالميت عند الاحتضار نوجهه، ونجعل قدميه إلى الكعبة ورأسه إلى الشمال، فالمصلي -في حياته- إذا مرض ولم يستطع أن يصلي قائماً ولا جالساً فليصلِّ نائماً مستلقياً على ظهره ماداً قدميه إلى القبلة؛ لأنه إذا أحس بالعافية وجلس فسيكون وجهه إلى القبلة، لكن لو كان العكس فجعلنا رأسه إلى القبلة، ونشط وتعافى وجلس فسيكون مستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة. فأقول: هذه عاطفة عند الناس، والخطأ والصواب شيء آخر، ويكفينا في هذا نموذج من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه حين قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسمت في صلاة ولا في غيرها) . فمن الذي نهاه عن هذا؟! وأين النص الذي منعه أن يبصق جهة القبلة؟ إنه إحساس عاطفي تقديراً للكعبة المشرفة.

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [2]

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [2] إن للصلاة مكانة عظيمة في دين الإسلام، ولذلك عظمها الشرع، وأحاطها بسور منيع من الأوامر والنواهي التي تحافظ عليها وتزيل كل ما يشوش على المسلم صلاته أثناء وقبل أدائها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بتمزيق القرام الذي كانت علقته في الجدار؛ لأنه شغل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، واستبدل بخميصته المهداة إليه غيرها؛ لأن فيها تصاوير شغلته عن الصلاة، وأيضاً نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يرفع بصره إلى السماء أثناء الصلاة؛ لأن ذلك ينافي الخشوع، والمسلم مطالب بالخشوع في صلاته.

أحكام متعلقة بالصلاة

أحكام متعلقة بالصلاة

احترام القبلة واليمين في الصلاة

احترام القبلة واليمين في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أنس - قال: (كان قرام لـ عائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري] . تقدم ما يتعلق باحترام القبلة واليمين، وتقدم كيف يكون وضع النعلين، حيث نهى صلى الله عليه وسلم المصلي إذا خلع نعليه أن يجعلهما قبالة وجهه، أو أن يجعلهما عن يمينه، وأما لماذا لا يجعلهما قبالة وجهه، ولا عن يمينه فقد قالوا: إذا جعلهما قبالة وجهه وسجد فكأنه ساجد للنعلين. مع أنهما ليستاً صنماً، ولا معبوداً من دون الله! ولكن الصورة والهيئة لابد أن يكون فيها ذوق وعاطفة وأدب مع الله سبحانه وتعالى. وأما النهي عن جعلهما عن يمينه فلقوله: (ولا عن يمينه فيؤذي بهما جاره) ؛ لأن موقفه في الصف من جهة اليمين بجوار من هو على يمينه، وإذا كان هو في الصف الثاني من جهة أخرى وجاء من جهة اليمين فيكون جاره في الصف عن يساره. فلا يجعلها عن يساره أيضاً؛ لاحتمال أن يأتي إنسان ويقف بجواره، فتكون عن يمينه فيؤذيه بها. قال صلى الله عليه وسلم: (ولكن بين قدميه) ، فحينما يقف يجعلها بين قدميه، فلو سجد فبين قدميه، ولو جلس للتشهد فبين ساقيه، فلن يؤذي بها أحداً. فلا يجعلها تجاه وجه، ولا يجعلها عن يمينه، ولا يجعلها عن يساره إن توقع مجيء أحد يصلي بجواره، وكل ذلك لئلا يؤذي بها غيره. وكذلك البصاق، فلا يؤذ به غيره، ولا يجعله تجاه القبلة؛ فإن ذلك من الجفاء، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزل إمام قوم بسبب بصاقه إلى القبلة، فقد دخل مسجد قوم فرأى بصاقاً في جدار المسجد، فأخذ حجراً -وفي رواية: بيده- فحتها، وفي رواية: (أنه رأى الإمام يبصق تجاه وجهه، فلما أنهى الصلاة قال: لا يؤمنكم هذا بعد اليوم) ، فعزله عن الإمامة لأنه ما عنده أدب، وفعل ما لا يليق، فإحساسه ووجدانه بالأمور المعنوية مفقود، فنهى عن الصلاة وراءه وعزله لكونه بصق في الصلاة تجاه القبلة، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم حتها بيده الشريفة. فقوله في الرواية الأخرى: (حتها بيده) قال بعض الشراح: أي: بدون حجر. والصواب أنه حتها بحجر في يده، وهي صورة واحدة على الروايتين، فتولى صلى الله عليه وسلم حتها بيده وفيها الحجر، ولم يوكل ذلك لأحدٍ ممن معه، وكان يمكن أن يقول: يا فلان! حتها. ويكون هو الآمر بحتها، ولكن لعظمة أمرها وتولى هو صلى الله عليه وسلم حتها بنفسه تأكيداً على ذلك.

إزالة كل ما يشغل عن الصلاة

إزالة كل ما يشغل عن الصلاة وأما حديث عائشة الذي بين أيدينا ففيه أنه ينبغي على المصلي أن يزيل أو يمنع ما يشغله في صلاته، سواءٌ أكان قبل الدخول فيها، أو بعد أن دخل فيها، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سترت سهوة بيتها بقرام والقرام: نوع من القماش مثل الستارة فيه تصاوير، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع بصره على هذا القرام بعد الدخول في الصلاة نظر إلى تصاويره فشغلته، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: (أميطي عنا قرامك) ، وفي بعض الروايات: (أن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت عدم رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القرام في مكانه، فأخذته) ، والرواية الأخرى تُصرَّح بأمره صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) ، ومن هنا قالوا: لا ينبغي أن يكون أمام المصلي ما يشغله إذا نظر فيه. وجاء مثل هذا في بعض الأحاديث الأخرى، كما في صحيح البخاري في أنبجانية أبي جهم، والأنبجانية مثل الجبة، أهداها أبو جهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو جهم هو الذي استشارت المرأة فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما أبو جهم فضرابٌ للنساء) ، أو: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأهدى هذه الأنبجانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه يقبل الهدية، وهذه من العلامات التي حرص عليها سلمان الفارسي، ليعرف من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في كتبهم: (لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة) ، وقصته طويلة، فقد بُيع واشتُري، وخلّص نفسه، حتى وصل إلى المدينة في ملك رجل يهودي، وسمع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وخروج الأوس والخزرج لاستقباله، فقال: الآن أتأكد، فأخذ شيئاً من الرطب وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك وعلى أصحابك، فأزاحها إلى إخوانه وقال: (كلوا أنتم، أما أنا فلا تحل لي الصدقة) ، فعقد سلمان بيده واحدة، وكان هذا في قباء، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. جاء سلمان بطبق آخر وقال: يا رسول الله! هذا شيء من الرطب ادخرته أقدمه هدية لك. فأخذ وأكل، وأطعم أصحابه، فقال: هذه الثانية، فلما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذه الثانية، كشف عن كتفيه الشريفين وقال: (يا سلمان! انظر الثالثة) ، فاستدار سلمان ونظر فوجد خاتم النبوة فأهوى عليه وقبله. وبالمناسبة، فقد كان أحد اليهود يعرف حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه، ولما جاء عرفه بكل الأوصاف، وقال: إلا واحدة ما استطعت أن أتحققها، فعرض عليه قرضاً -ديناً- فأخذه صلى الله عليه وسلم إلى أجل، فجاء قبل حلول الأجل وقال: يا محمد! أعطني ديني. وكان النبي صلى الله عليه وسلم معسراً، فقال: أما إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل، وأخذ يجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه التي في عنقه ويردد كلامه، فسلَّ عمر السيف وقال: يا عدو الله! تخاطب رسول الله بهذه الصفة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! كنت أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب؛ لأنه صاحب حق) ، فلما سمع ذلك أخذ الرجل عمر وقال: والله ما أردت إهانة محمد، ولكني عرفت صفاته كلها -التي عندنا- إلا هذه، وهي عفوه عمن أساء إليه، ولقد أسأت إليه فإذا به كما سمعت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فـ أبو جهم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنبجانية فلبسها، وقام يصلي فإذا فيها تصاوير، فلما أنهى صلاته خلعها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بخميصة أبي جهم) ، فما معنى قوله: اذهبوا بخميصة أبي جهم هذه التي أهداها إليّ، وائتوني بخميصته التي يلبسها؟ ولماذا يستبدل؟ ولماذا لم يرد الهدية إذا لم تكن أعجبته؟! قالوا: لأن أبا جهم ما أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا محبة له، فإذا رد هديته عليه، فكيف يكون الحال؟ وماذا سيقول أبو جهم؟! فلعله يقول: ردها لسخطة عليّ، أو لإساءة مني، أو لتقصير في حقه. فلكي يرفع عن أبي جهم تلك الظنون. قال: (ائتوني بخميصته) ، فيكون طلب الخميصة الخاصة بـ أبي جهم مقابل رد الخميصة التي أهداها إليه وردها عليه، أي: لئلا يقال: لم يقبل هديتك يا أبا جهم! . ولذلك يقول العلماء: لا ينبغي للإنسان أن ينصب أمام وجهه -وهو في الصلاة- ما يشغله، وكذلك لا يصلي على شيء فيه ما يشغله، وأكدوا على التصاوير، وعلى الصليب، وعلى الأشياء الأخرى اللافتة للنظر. وذكروا في ذلك أنه لو أن في البساط الذي تصلي عليه صورة أتصح الصلاة عليها أم لا؟ فذكر النووي رحمه الله أنه تصح الصلاة عليها؛ لأن الصورة في البساط ممتهنة؛ لأنها توطأ بالقدمين، ولكن لا يتعمد وضع الجبهة في السجود على الصورة، وكذلك الصليب، فقد توجد الصلبان في بعض الصناعات، ولكن يصلى؛ لأن الصليب ممتهن، لكن لا يتعمد أن يجعل جبهته في السجود على صليب من الصلبان التي في الفراش. وأما موضوع الصور فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما جاء لعن المصورين، وكان القرام فيه صور قالت: (فأخذته فشققته فجعلته وسائد) أي: (مخدات) ، قالوا في ذلك: لأن القرام إذا كان طوله مترين أو ثلاثة ربما تكون فيه الصورة كاملة، فإذا ما قُطِّع تقطعت أشكال الصور، ولم يبق إلا أجزاء مختلفة، وتكون في الوسائد ممتهنة، بخلاف المعلقة؛ إذ إنها تكون للجمال، وتكون للزينة، وتكون للتكريم، وتكون لغير ذلك، فإذا ما قطعت تقطعت الصورة إلى أجزاء، وخرجت عن محظور قوله: (من صور صورة أمر يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، فإذا قطعت لم تُعد صورة، فقطعة فيها رأس، وقطعة فيها أرجل، وقطعة فيها صدر، فالرأس وحده لا ينفخ فيه روح، والأرجل وحدها لا ينفخ فيها الروح، والصدر وحده لا ينفخ فيه الروح، ومن هنا قال العلماء: جزء الصورة للحاجة لا بأس به. ونحن الآن وجدنا الاضطرار إلى جزء الصورة في البطاقة الشخصية حفاظاً على الأمن، والبطاقة الشخصية لها أصل في تاريخ الإسلام؛ لأننا وجدنا في غزوة الأحزاب أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة فقال: اذهب فأتني بخبر القوم فذهب ودخل في القوم، فإذا بـ أبي سفيان ينادي في عسكره: ليعرف كلٌ منكم جليسه، أي: حتى لا يدخل فيكم من ليس منكم فيكتشف أسراركم يقول حذيفة: فبادرت من بجانبي وقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. وسكت ولم يسألني. فقوله: (فمن أنت) هو التعريف بالبطاقة الشخصية التي فيها اسمه، واسم أبويه، وميلاده، ومكان الميلاد، ورقمه الخاص الذي تحمله البطاقة، فـ (من أنت) تتضمن هذا كله. فأساس البحث في الصورة هل هو في ذات الجسم الذي له ظل، كالتماثيل المشخصة، أو ما كان بالريشة؟ ومن أراد التفصيل الوافي في هذه المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار يجد ما يتعلق باللباس، والصور ونوعها، والتحريم والرخصة في ذلك، ويهمنا في بابنا هذا الحث على الخشوع في الصلاة، فلا ينبغي للإنسان أن يصلي في ثوب يكون فيه من الألوان أو الرسوم ما يشغل باله، ويلفت نظره عن خشوعه في الصلاة، والله تعالى أعلم.

النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم) ، رواه مسلم] . يذكر المصنف رحمه الله تعالى في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) هذا الحديث، وفيه النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة. قوله (لينتهين أقوام) (ينتهين) ، أي: يمتنعن. (أقوام) : جمع قوم، وهو خاص بجماعة الرجال وضعاً، ويدخل فيه النسوة تبعاً، ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات للقوم، وقوله: (لينتهين أقوم) يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان عن أذية فلان فـ (بنو فلان) تشمل مجموعهم، وأفرادهم ضمناً. قوله: (لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، جاء هنا بلفظ: (في الصلاة) ، والحديث جاء تارة مطلقاً وفيه: (عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، وجاء هنا مقيداً بكونه في الصلاة، وهذه الرواية: (في الصلاة) هي المناسبة لإيراد هذا الحديث في باب الحث على الخشوع في الصلاة. والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه -غالباً- الانصراف عن معنى الصلاة؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه، وإما أن يكون للتأمل، كمن كان في الليل يتأمل زينة السماء بهذه الكواكب، ويفكر في قدرة الله وفي مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج عن مناجاة ربه إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين المناجي -وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة- وبين من يفكر في مصنوعات الله وفي قدرته سبحانه وتعالى. وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، فهذا ذكر مستقل، ثم قال في التفكر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] ، فجعله قسيماً للذكر. فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في الآيات والقدرة الكائنة في هذا الخلق العظيم، وقالوا: من أدب الصلاة ألا يتعدى بصر المصلي سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حسه وحواسه لتتجاوب مع لسانه ومع قلبه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى. وفي رفع البصر إلى السماء جاء هذا الوعيد الشديد: (أو لا ترجع إليهم) ، يعني تخطف أبصارهم، وهذا وعيد شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، ومن هنا قال من قال: إن نظر المصلي إلى السماء في الصلاة يبطلها؛ لأنه عمل خارج عن موضعها، وجاء الوعيد الشديد في حقه. فلا يجوز لإنسان أن يفعل ذلك، وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة وفي غير الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة، لا يفعله حياءً من الله، وكما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من الله وتعظيماً لوجه الله فلذلك هنا. ولكن قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] يدل على أن ذلك غير ممنوع؛ إذ لا يكون التفكر إلا بالرؤية التي يعملها الإنسان في ذهنه لنقل الصورة التي يراها بعينيه، والقرآن الكريم يسجل لنا قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، فكان صلى الله عليه وسلم يتطلع وينتظر أن الله سبحانه وتعالى يوليه إلى استقباله الكعبة، ليستقل عن اليهود، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] ، وكانوا يقولون: عجباً له يعيب ديننا ويستقبل قبلتنا! فكان يتطلع صلى الله عليه وسلم إلى الاستقلال الكلي. ولهذا جاءت النصوص في أن المسلم لا يحق له التشبه باليهود والنصارى في عباداتهم ومعاملاتهم، أي: الخاصة بهم، بخلاف التعامل المشترك كالبيع والشراء وتبادل المنافع، فهذا أمر تقتضيه الحياة، وليس من التشبه المحرم، ومما يدل على جواز التعامل مع اليهود والنصارى أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهونة عند يهودي، في آصع من طعام، فهل كان المهاجرون والأنصار عاجزين عن أن يقدموا لرسول الله آصعاً من طعام؟ لا والله، لقد حكّموه في أموالهم وفي أنفسهم، حتى في حقوقهم الأدبية، ولما جاء إلى قباء قال: (مالي لا أرى فلان بن فلان؟ قالوا: بينه وبين القوم ثأر لا يستطيع أن يأتي) ، وبعد فترة في منتصف الليل إذا به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أبا فلان! كيف جئت وبينك وبين القوم كذا وكذا؟ قال: يا رسول الله! ما كان لي أن أسمع بمجيئك وأقعد عنك، فقال لبني عوف: أجيروه) ، فإذا أجاروه أصبح آمناً يأتي في كل وقت، (قالوا: أجره أنت يا رسول الله!) ، فهذه حقوقهم الخاصة يحكمونه فيها، ويتنازلون عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل -يا ترى- كانوا عاجزين عن أن يقدموا آصعاً من طعامٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدون رهن؟ ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أنه لما جاء النهي، وجاء التحذير من اليهود، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) فهم من ذلك المقاطعة الكلية، حتى في الأمور الدنيوية، فتأتي هذه الحادثة لتدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم في البيع والشراء، وهكذا الدنيا اليوم، فيها أسواق عالمية، أوروبية وأمريكية، وأسواق الشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والشرق الأدنى، وأسواق عالمية تتبادل فيها السلع بين الدول، فهذه أمور تعامل أو معاملات لا غبار عليها، وتقتضيها الحياة، كما قيل: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم فالتعاون من هذا القبيل لا شيء فيه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ابتغاء تحويله إلى قبلة مستقلة للمسلمين، وكان تحوله إلى الكعبة بعد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] . فالنهي هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام) جاء مطلقاً بلا قيد، وجاء مقيداً بالصلاة، والقاعدة عند الأصوليين أنه إذا جاء حديث في قضية مطلقاً، وجاء حديث في عين القضية مقيداً حُمل المطلق على المقيد. كما يمثّل الأصوليون بالكفارة في القتل والكفارة في الظهار، فإن عتق الرقبة في الطهارة جاء غير مقيد بالإيمان، وجاء هناك مقيداً بالإيمان، فحُمل عتق الرقبة في جميع الكفارات على قيد الإيمان، ولا تجزئ رقبة في كفارة إلا بقيد الإيمان، وهنا كذلك، ففي هذا الحديث: (في الصلاة) ، فيحمل عموم النهي بغير القيد على ما جاء في هذا القيد، ومن رفع بصره إلى السماء في غير الصلاة لا يكون داخلاً في هذا النهي، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [3]

كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [3] إن الإسلام دين الآداب والأخلاق، وهناك جملة من الآداب التي تتعلق بالمسلم أثناء أدائه للصلاة، وهذه الآداب إنما شرعت للمحافظة على الصلاة والخشوع فيها، ومن ذلك أن المسلم إذا أراد وبين يديه طعام فيشرع له في هذه الحالة أن يؤخر الصلاة إذا كان في الوقت متسع، فيبدأ بالطعام، ثم يؤدي الصلاة بعد ذلك باطمئنان وخشوع، غير منشغل بالطعام، وأيضاً إذا كان يدافع الأخبثان فيشرع له البدء بقضاء الحاجة، ويُلحق بالطعام وبالأخبثين كل ما من شأنه التشويش على المصلي مع إمكانية إزالته؛ لأنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها.

مسائل متعلقة بالصلاة

مسائل متعلقة بالصلاة

حكم الصلاة بحضرة الطعام وما في معناه

حكم الصلاة بحضرة الطعام وما في معناه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله -أي: لـ مسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) ] . تقدم نظير ذلك في الجزء الأول، ولربما كان من الأنسب ضم هذا الحديث إلى الحديث المتقدم: (إذا قدم العشاء وحضر المغرب فابدأوا بالعشاء) ، وعلل العلماء ذلك بأنه إذا كان العَشاءُ موجوداً، وانصرف إلى الصلاة فربما انشغل ذهنه وباله، أو تطلعت نفسه إلى الطعام، فيكون تشويشاً في خاطره، وقد ذُكر عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تناول طعام العشاء فإذا به يشم رائحة شواء -لحم يشوى-، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال: اصبر حتى ننال من هذا الشواء، حتى لا تتعلق نفوسنا به ونحن في الصلاة. في قوله: (لا صلاة) هل تكون (لا) نافية أو ناهية؟ فإذا قلنا: نافية فإنها تنفي الصلاة، وإذا صلى تكون الصلاة قد وجدت لا أنها انتفت! لكن الذين يقولون: إنها نافية لا يقصدون نفي الماهية، ولكن يقصدون نفي صفة تتعلق بها، أي: لا صلاة كاملة. أو: لا صلاة مستوفاة، أو: لا صلاة مقبولة، فيأتون بصفة يمكن أن تتوجه لا النافية عليها، فتقع الماهية بدون تلك الصفة. ولكن الذين يقولون: (لا) ناهية، يقولون: النهي موجه للمخاطب المكلف، فقد نهاه أن يفعل، فإن امتثل، امتثل النص، وإن لم يمتثل أوقع المنهي عنه ويتحمل مسئوليته. والجمهور على أن قوله: (لا صلاة) نهي، فلا ينبغي للمصلي أن يصلي وهو على إحدى هاتين الحالتين. قوله: (لا صلاة بحضرة طعام) أي: إذا وضع الطعام، وأقيمت الصلاة، والطعام موجود في محل الصلاة، فلا صلاة بحضرة هذا الطعام؛ لأنه ينشغل به عن الصلاة. وإذا حضر الطعام، وكان الطعام -كما يقولون الآن- في غرفة الطعام فهل تكون الصلاة بحضرة طعام؟ قالوا: هو كذلك، على معنى (إذا قدم العشاء والمغرب فقدموا العشاء) ، فالسبب في النهي هنا هو عين السبب في النهي هناك. ولكن -كما أشرنا سابقاً- الفقهاء رحمهم الله يبحثون في الإجزاء وعدم الإجزاء، والصحة وعدم الصحة، والآخرون ينظرون إلى شيء آخر زيادة على ذلك، وهو كمال الصلاة خشوعاً، وكمال الصلاة في الخضوع فيها، وفي استحضار القلب، وفي عدم التشويش فيها، وفي عدم الموانع التي تؤثر على الصلاة، فإذا صلى والطعام حاضراً فهل الصلاة باطلة أو صحيحة؟ وإذا كان النهي مرتبطاً بالعلة، فإنه إذ حضر الطعام وأنا شبعان، أو حضر الطعام عند أن قمت من طعام آخر فعلة النهي غير موجودة، فهل تكون الصلاة صحيحة أو باطلة؟ قالوا: لا، ليست باطلة؛ لأن النهي متعلق بالتعليل. فلا صلاة لمن هو في حاجة إلى الطعام، كأن يأتي وقت الإفطار وهو جائع، وكالقادم من السفر الذي لم يجد الطعام، فمن كان وجود الطعام سيشوش عليه أثناء صلاته، ويذهب خشوعه فلا يصل، إلا إذا ضاق الوقت، فلو قُدِّم الطعام في آخر الوقت ولم يكن صلى، فهو بين أحد أمرين: إن أكل خرج الوقت، وإن صلى فهو مشوش، فماذا يفعل؟ والجواب: أن التشويش متفاوت، واجتناب التشويش ليس من صلب وأركان الصلاة، وإنما هو من تحسين وتكميل الصلاة بتوفير الخشوع والخضوع. فهو من المحسنات، ولا ينبغي إضاعة الضروري من أجل تحصيل التحسين، فإذا ضاع رأس المال فكيف تبحث عن الربح؟ فإذا ضاق الوقت وقُدِّم الطعام فقد تعارض هنا تحقيق إتيان الصلاة المفروضة عليه مع تحصيل تحسينها بالخشوع والخضوع. يقول ابن دقيق العيد -وهي قاعدة عجيبة جداً-: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال حكمنا بإبطال الفرع؛ لأنه سيبطل أصله. والخشوع في الصلاة فرع عن الصلاة، فإذا قمنا بالحفاظ على الفرع سنضيع الأصل، فهذا الفرع يصبح ملغياً باطلاً، ونحافظ على الأصل. وهذه القاعدة لها أصل في كتاب الله، ومعمول بها عند عوام الناس، أما أصلها في كتاب الله فهي قضية الخضر -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لقيا غلاماً فقتله، فموسى عليه السلام لم يتحمّل، فهذا على جانب من التشريع، وهذا على جانب آخر، فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] . فقال: يا موسى! قلت لك أول الأمر يجب أن تصبر، ثم بين له بعد قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] ، فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80] . فالغلام فرع بالنسبة للأبوين، وهذا الفرع يخشى منه أن يبطل الأصل وهو الأبوان بأن يرهقهما طغياناً وكفراً، والكفر هلاك، فقام الخضر وأتلف الفرع، وأبقى الأصل سليماً، ثم بيّن لموسى ذلك فقال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:81] ، فما دام الأصل باقياً فإنه يأتي بفروع كثيرة. والعامة تقول: إن بقي العود فالجثة تعود، أي: إذ مرض إنسان مرضاً شديداً، وكان بوزن أربعة، وصار مثل العود، فمادام العود باقياً فالجثة التي راحت تعود. وكذلك المزارع حينما تكون عنده شجرة، حملت من الثمر ما يكسر الجريد ويفسد الثمر، أو يكسر الأغصان ويفسد الثمرة -والفاكهة ثمرة عن الشجرة-، فيجيء الفلاح بطبيعة الحال وبفطرته فيقطع من الثمرة هذه -وهي خضرة- حتى تخف الثمرة على الأغصان، ولا تنكسر فتفسد الشجرة، وتفسد الثمرة، فهو أتلف بعض الفرع إبقاءً على الأصل. وهكذا هنا، فإذا قُدِّم الطعام وكان الوقت ضيقاً فإن أكل خرج الوقت، فحينئذٍ تعارض الأصل مع تحصيل الفرع، والفرع إذا حصلناه كانت النتيجة إضاعة وإبطال الأصل، فيحكم على الفرع بالبطلان، ونقول: يصلي مهما كانت حالته، فيصلي بقدر ما استطاع، ثم يرجع إلى طعامه، وهذه ناحية. الناحية الثانية قوله: (ولا هو -أي: المصلي- يدافعه الأخبثان) ، المدافعة: مفاعلة من الدفع، فهذا يدفع يميناً وهذا يدفع يساراً، كما إذا كان شخص داخل غرفة وآخر خارجها، فهذا يدفع الباب من أجل أن يفتح ويدخل، وهذا يدفع الباب من أجل أن يرده، فهناك مدافعة، ومثله لمشادة والمخاصمة، ففيها طرفان متضادان، فهنا المصلي طرف في المدافعة، والأخبثان طرف آخر، وقد فسر الأخبثان بقوله: (حاقن، أو حاقب) ، فإذ كان يحس بالحاجة إلى تفريغ البول أو الفضلات، فإن الله تعالى جعل عضلات للمحلين تسمى العاصرة، أو الحافظة، أو القابضة، فتنقبض حتى لا يخرج شيء، وعند الحاجة للإخراج إذا امتلأ محل التجمع تشعر هذه العضلة بحاجة الإنسان إلى التفريغ، فترتخي وتفتح الطريق، ويخرج ما كان داخله، فحينما يحس الجهاز من الداخل بالامتلاء، فطبيعة تكوين الإنسان تقوم بالتفريغ، وكما يقولون: تُعطى الإشارات إلى تلك العضلة لترتخي ولتسهل الطريق للإخراج، فالإنسان بدوره قد يدافع هذا الغرض، ويبقى الأخبث يدفع للخروج، والإنسان يشتد على عضلته للمنع من الخروج، فهذا يدافع ليخرج، وهذا يدافع ليبقي الداخل في محله. وإذا حصلت هذه المدافعة، فهل يكون هناك خشوع؟! فهو في معركة، وهو في حالة غير طبيعية، والقاعدة عند الأطباء أنه لا ينبغي تأخير الإفراغ عن وقت حاجته، ويذكرون مضاره في الغشاء المخاطي أو غيره، والصداع الذي يترتب على الإمساك أو حصر البول. وهذا أمر جبلي في حياة الإنسان، فإن أحس قبل الدخول في الصلاة ببوادر ارتخاء العضلة، وببوادر الدفع للخروج -وهذا أمر طبيعي- فلا ينبغي أن يضغط على نفسه تكاسلاً عن الإفراغ والوضوء، فيقول: أصلي أولاً وبعد ذلك أذهب لقضاء الحاجة، فلا يجوز ذلك؛ لأنه معه سعة الوقت، وعنده حاجة تعود عليه بالمضرة، وتعطل عليه الغرض من الصلاة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، ومدافعته مع أخبثيه تلهيه عن ذكر الله سبحانه. فعليه أن يستجيب، وأن يفرغ ويخرج أحد الأخبثين، أو كليهما معاً، ثم بعد ذلك يجدد وضوءه، ويدخل في الصلاة بدون مدافعة، وهنا يستطيع أن يتذكر، ويستطيع أن يتأمل، ويستطيع أن يحس بالخضوع بين يدي الله سبحانه.

حكم قضاء الحاجة عند ضيق الوقت

حكم قضاء الحاجة عند ضيق الوقت بقيت مسألة، وهي إذا ضاق الوقت ودافعه الأخبثان، إذ الجوع يمكن الصبر عليه، بخلاف المدافعة. قالوا: إن كان باستطاعته أن يؤدي الصلاة -ولو بالتخفيف- قبل أن يخرج الوقت صلى، ونرجع إلى قاعدة التحسين والتأصيل، وإن وجد في نفسه أنه لا يستطيع فلا يصل، وعليه أن يقضي حاجته ولو خرج الوقت؛ لأنه إن لم يفعل آذى نفسه، وربما حدث منه في صلاته ما لا ينبغي، وتفسد عليه الصلاة، ويكون لا هو حصل هذا، ولا حصل على ذاك. وقوله: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، العلة التي يشترك فيها حضور الطعام ومدافعة الأخبثين هي التشويش، فإبعاداً وتخلصاً من دواعي التشويش عليه وهو في الصلاة يقدمان على الصلاة. فإذا وجد شيء آخر من طبيعته أن يشوش على المصلي فهل يدخل في الصلاة وهذا المشوش موجود، أم أنه له أن يزيله عنه، ويدخل في الصلاة وهو مطمئن، وذلك في سعة الوقت؟ والجواب أن له أن يقضي على سبب التشويش، ونستطيع أن نقول: يوجد نص في هذا، وإن لم أجد من ذكر ذلك، ولكنَّه ينطبق على ما نحن فيه، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج للصلاة، وأقيمت الصلاة، وكبر في الصلاة) ، فتذكر أنه نسي شيئاً وهو في هذه الحالة حين استقبل القبلة، وقام الناس، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف، ويشير إليهم: مكانكم، ويدخل البيت مسرعاً، ثم يرجع ويدخل في الصلاة ويصلي، ثم قال لهم: (جاءني مال من كذا وقسمته، ونيست ثلاثة دارهم لم أقسمها، فأسرعت بتقسيمها قبل أن أدخل في الصلاة) ، يعني: لو خطرت له صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فستشوش عليه، فترك الدخول في الصلاة، وذهب وأمر بتصريفها؛ لأنها لو عرضت له في الصلاة يكون كأنه ادخر شيئاً كان ينبغي أن يصرفه، وهذا يشوش عليه صلى الله عليه وسلم. ونحن نقول كذلك: لو أن امرأة في بيتها، وضعت إناءً على الموقد، ثم قامت وتوضأت وتهيأت، وأرادت أن تصلي، فتذكرت الإناء الموجود على الموقد، وعلمت إنها إن صلت تخشى من أن يحدث شيء بسبب هذا الإناء على الموقد، بأن كان السائل فيه قليلاً، أو كانت النار شديدة، فهل تدخل في الصلاة وذهنها مع الموقد وما عليه، أم تذهب إلى الموقد وتوقفه، أو تنزل الإناء، أو تتصرف بما يطمئن نفسها؟ وكذلك الإنسان إذا نسي هل أقفل الباب أم لا، أو كان الماء في الخزان فلم يدر، هل يفيض أو لا يفيض. فأي شيء يتذكره الإنسان قبل الدخول في الصلاة، فلو دخل في صلاته على تلك الحالة فسيشغل باله حتى يفرغ منها فإنه يذهب إليه وينهي أمره. فعليه أن يزيل أي شاغل موجود يمكن أن يشوش عليه الصلاة، وهذا نأخذه من عموم العلة والحكمة في النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقضاء: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، فالغضب صفة نفسية، فإذا كان حزيناً، أو مشغول البال، أو جائعاً، أو عطشان فلا يقضي؛ لأن القضاء يحتاج إلى صفاء الذهن واستغراق الفكر، واستخراج المعدوم من الموجود. فيحتاج إلى أن يكون مستقراً هادئاً؛ لأن كل هذه الأشياء ستشوش على فكره وتمنعه من الاستغراق في التفكير في أمر القضية. فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القضاء حالة الغضب، والفقهاء قاسوا عليها كل ما يشاكلها في العلة، فالغضب من الشيطان، والغضب يحمله على الإسراع في الحكم، والغضب يحمله على ألاَّ يجمع أطراف القضية، فهذا سيشوش على فكره، ويمنعه من إمعان النظر في القضية التي أمامه والنظر في أقوال الخصمين والمقارنة بينها وخضها -كما يقولون- حتى يخرج الزبدة من النزاع، فألحقوا به كل ما شوش على الفكر. فكذلك هنا، فالحديث جاء في حضرة الطعام) ، وجاء في حالة مدافعة الأخبثين، فإذا كان كذلك ونقول: لو أن إنساناً -عافنا الله وإياكم- آلمته بطنه، وأرسل لشراء دواء من الصيدلية، فإن دخل في الصلاة فالألم لا يمكنه من الاطمئنان في الصلاة، فينتظر حتى يأتي الدواء ويتناوله. فنستطيع أن نقول بصفة عامة: كل ما يطرأ على الشخص قبل دخوله في الصلاة فإنه ينبغي عليه أن يزيل هذا الشيء، حتى يدخل في الصلاة باستقرار وطمأنينة، ويستطيع أن يؤديها بخشوع كما أمر في ذلك، والله تعالى أعلم.

التثاؤب في الصلاة

التثاؤب في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) رواه مسلم والترمذي، وزاد: (في الصلاة) ] . هذه الحالة -كما يقولون-: لا إرادية؛ لأنها ربما تأتي تقليداً -أي: بدون شعور- وفي هذا حكايات كثيرة، بدليل أنك لو جلست عند جماعة يتثاءبون تثاءب معهم، والتثاؤب غالباً يكون من آثار ترنق النوم في العين، فبوادر النوم تأتي بالتثاؤب، وهناك التثاؤب والعطاس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم التفرقة بينهما فقال: (العطاس من الرحمن، والتثاؤب من الشيطان) ، كما ذكر ذلك البخاري في (الأدب المفرد) ، والله تعالى أعلم.

آداب التثاؤب والعطاس

آداب التثاؤب والعطاس بين صلى الله عليه وسلم أن للعطاس آداباً وحقوقاً فقال: (إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمته) ، أو: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) . فحق على المسلم إذا عطس أن يقول: (الحمد لله) ، فيقول له السامع: (يرحمك الله) ، وذكروا في مناسبة قوله: (الحمد لله) أن العطاس قد يطرد الداء من البدن، وقالوا: إن العطاس بمثابة الزلزال يعتري جسم الإنسان، وقد يحدث عاهة فيه، ولهذا ينصح الأطباء من عطس بأنه لا يحرف عنقه يميناً ولا يساراً؛ لأنه في هذا الانحراف مع الانتفاضة ربما تختل فقرات العنق، أما التثاؤب فهو العلامة الكبيرة للكسل والنوم، فإذا كان في الصلاة وتثاءب، فهل هو ممعن الفكر في صلاته، أم أنه أخذ قناة النوم فهو ماشٍ في طريقه إليه، وهذا يتنافى مع الخشوع، والتعليم العام منه صلى الله عليه وسلم لما قال: (التثاؤب من الشيطان) ؛ لأنه هو الذي يحركه في الإنسان، وبعض الروايات: (فلا يقول: هاه هاه؛ فإن الشيطان يضحك عليه) ، وفي بعض الروايات فيها: (إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل في فيه) أي: عند التثاؤب لا يفتح فاه مثل التمساح؛ لأن هذه هيئة غير لائقة، لاسيما أمام الناس. فالتثاؤب من الشيطان، وأمر صلى الله عليه وسلم المتثائب أن يكظم ما استطاع، وجاء النهي بقيد (في الصلاة) ، وجاء أيضاً عاماً، فيحمل المطلق على المقيد، كما تقدم في رفع البصر إلى السماء مطلقاً ومقيداً في الصلاة. وإلى هنا يكون المؤلف رحمه الله أتى بأكثر الأحاديث الدالة على اجتناب ما يحول دون الخشوع في الصلاة، وعلى الإنسان أن يتحاشى كل ما من شأنه أن يضيع الخشوع في الصلاة، سواءٌ أكان مما يقع قبل الدخول في الصلاة، فيتحاشاه قبل أن يدخل فيها ليدخل مطئمناً، أم كان أثناء وجوده وقيامه في الصلاة، كرفع البصر، وما يتعلق بالأمور التي تقع أو تعرض للإنسان وهو في صلاته بالفعل وإلى هنا انتهى المؤلف من هذا الباب.

الخشوع في الصلاة

الخشوع في الصلاة نرجع إلى عنوان هذا الباب: (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ، يقول بعض العلماء: هل الخشوع في الصلاة من أركان الصلاة، أم من تحسيناتها؟ والجواب: قد علمنا أن الخشوع من تحسينات الصلاة، فلابد أن يخطر ببال الإنسان شيء وهو في الصلاة، وهذا ضروري لكل إنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا أذن المؤذن فلا يخرج الإنسان من المسجد إلا إذا كان على قصد العودة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن خرج الشيطان وله ضراط -أي: يجري ويسرع حتى لا يسمع ألفاظ الأذان- فإذا ما فرغ المؤذن من الأذان رجع إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة أسرع وخرج، فإذا انتهت الإقامة رجع وأخذ يوسوس للمصلي، حتى يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لأشياء لم يكن ذاكراً لها، ليشغله عن الصلاة) .

طرف من أحوال الناس في الصلاة

طرف من أحوال الناس في الصلاة يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله أن رجلاً جاء وقال: يا إمام! أنا دفنت مالاً ونسيت، فماذا أفعل؟ وكيف أهتدي إليه؟ قال: إذا جاء ثلث الليل الأخير فتوضأ وصلِّ ركعتين، ولا تحدث نفسك فيهما بشيء، ومن الغد تأتيني ففعل الرجل بنصيحة الإمام، وفي السجدة الأخيرة آخر لحظة عجز عنه الشيطان، فجاءه وقال له: أنسيت المال الذي أنت دافنه؟! هو في المحل الفلاني، فاذهب وخذه قبل أن يضيع عليك، فعجّل الصلاة وذهب مباشرة إلى المال واستخرجه، وجاء إلى أبي حنيفة قائلاً: جزاك الله خيراً وجدت مالي، فتعجب الحاضرون وقالوا للإمام: ما علاقة صلاته ركعتين بالدلالة على ماله؟! فقال: أنا لم أدله، ولا أعلم الغيب، ولكن أعرف أنه إذا أخذ يصلي في ركعتين من هذا النوع، فهما هلكة على الشيطان، ولا يمكن أن يمكنه من ذلك، فحاول معه فطرده، حتى جاءه عن طريق حاجته فأصغى إليه، فدله عليها فذهب وأخذها. ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار في هذا الموضوع عن عمر بدون ذكر السند- أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. وأعتقد أن هذا بين بين، فتجهيز الجيش ليس بالأمر الهين، لكن لعله كان يخطر على باله تساؤلات، فإنه مسئول عن جيش مرسل للقتال، فلا يمكن يسلم عقل عمر في نوم ولا في يقظة، فهل إنسان مسئول يرسل جيشاً إلى عدو يزيد أضعافاً على عدد جيشه وقوته وينساه، ويغفل عنه! فما هذا بصحيح. فلا بد أن يكون على باله، فإذا قام في الصلاة فلابد أن يخطر على باله، فهل ما يخطر على بال الإنسان وهو في الصلاة يبطل الصلاة؟ بإجماع المسلمين لا يبطلها، ولكن بعض المصلين -مع الأسف- إذا كبر في الصلاة إذا به يجري عمليات حسابية، ولقاءات مع أشخاص، ويستعيد ذكريات أعوام ماضية، أو يفكر في مشاريع مستقبلة، ولا يدري إلا وقد سلّم الإمام فيسلّم معه. وقد سئل الشيخ ابن الصلاح -غفر الله له- عن بعض الأئمة أنه سها في الصلاة، فاختلف هو والمصلون، وكان هناك شخص يتوسمون فيه العقل والسمت، فرجعوا إليه فقال: والله ما أدري، أنا كل يوم حين أكبر آخذ في طريقي إلى الشام، وأنزل في المحل الفلاني، ثم المحل الفلاني، ثم نبيع ثم نرجع، وكل مرة أصل إلى هنا وأعود والإمام في السلام، أما هذه المرة فقد سلّم الإمام وأنا في نصف الطريق. فمثل هذا ماذا نقول في صلاته؟ (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها) . والكلام في هذا الباب قد يثقل على الناس، ويخيفهم على صلاتهم، ولكن لنعلم أن هذا من تتمة وكمال الصلاة، وكما ذكرت سابقاً فالناس في هذا يتفاوتون كما بين الثرى والثريا، فهناك شخص تسبح به روحه حتى إنه لا يرى ولا يسمع إلا ما يقول بين يدي الله، مثل ذلك الذي قيل له: كيف تصلي يا فلان؟ قال: أجعل الكعبة أمامي، وملك الموت ورائي، والجنة عن يمني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، وأرى أنها آخر صلاتي من الدنيا. فهذا الذي يكون على هذا الحال في صلاته هل هو مثل الذي يذهب ويأتي في طريق الشام ويبيع ويشتري؟ لا يستوون. ونختم هذا البحث بالحديث الصحيح الذي يدل على أن العبد إذا صلى، وأدّى الصلاة موفورة أركانها، وشروطها، ولوازمها، وصعدت إلى السماء ولها طيب، وفتحت لها أبواب السماء، وقالت: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضعيها في أركانها، وفي واجباتها، وفي سننها، لُفّت كما يلف الثوب، وسدت دونها أبواب السماء، وردت وألقي بها في وجه صاحبها) . وفرق بعيد جداً بين هذه الصلاة وتلك الصلاة، ولهذا نقول مرة أخرى: إن نوافل العبادات ضمان للنقص في الأركان، وكل فريضة لها نوافلها، وجاء في الحديث: (أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة) ، فأول ما ينظر فيه من العبادات الصلاة، وفي الحقوق والمعاملات الدماء، فإذا نُظر في صلاة العبد فكانت وافية وكاملة قبلت وقبل معها غيرها، وحمل عليها، وإذا كان فيها نقص يقول المولى سبحانه: انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم. فيقول: اجبروا نقص فريضته من نافلته، وهذا من واسع فضل الله سبحانه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما زاد في هذا الخبر: (وكذلك بقية العبادات، أو بقية الأعمال) .

كتاب الصلاة - باب المساجد [1]

كتاب الصلاة - باب المساجد [1] إن للمساجد في الإسلام أهمية عظيمة، فلذلك حث الإسلام على بنائها وتكريمها وتنظيفها، ومن نظر في المصادر التاريخية فسيجد أن للمساجد تاريخاً عظيماً، فأول بيت وضع للناس هو الكعبة المشرفة، وقد قام بتجديد بنائها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأُمرا بتطهيرها، وكذلك جدد بناء بيت المقدس داود عليه السلام بأمر من الله، وهكذا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، فهذا حال الأنبياء مع المساجد، ولقد كانت المساجد في بداية الإسلام مركزاً للقيادة والعلم، ومنها انطلقت الدعوة، وعن طريقها عُرف الإسلام وانتشر.

المساجد وأحكامها

المساجد وأحكامها

الأمر ببناء المساجد في الدور

الأمر ببناء المساجد في الدور الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحح إرساله] . والمساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: هو موضع السجود، بوزن (مفعِل) بكسر العين، أي: الجيم من الكلمة، واصطلح العلماء على تقسيم المساجد إلى قسمين: مسجد، وجامع، فالجامع ما تقام فيه الجمعة لتجمع المسلمين، والمسجد ما تقام فيه الصلوات الخمس، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وهذا لغة وشرعاً. والمساجد عند الفقهاء إنما يقصد بها ما أقيم بناؤها للصلوات الخمس، وللمساجد تاريخ طويل عريق يجب على المسلمين العناية به، وهذا الحديث الأول منطلق للتحدث عن المسجد، ثم عن رسالة المسجد. تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أمر -والأمر للوجوب- رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور) . الدور: جمع دار والدار قد تطلق على محل سكنى الإنسان بأهله، وتطلق على الضواحي والناحية، فتقول: هذه ديار بني فلان. أي: محل سكناهم، ويقول العلماء: إن المراد ببناء المساجد في الدور يحتمل الأمرين، فيحتمل أن الإنسان يجعل له مسجداً في بيته في داره يصلي فيه النافلة، ويصلي أهله فيه الفرائض ويستدلون بما جاء عن أم ورقة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها، ثم قال: أين تريدين أن أصلي لكم؟) ، وكذلك عتبان بن مالك حين اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن بينه وبين المسجد وادياً، وقد يتعذر عليه المشي ليلاً، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مسجداً. وفي هذين الأثرين دلالات واسعة، ومنها اتخاذ المسجد لأهل البيت، وقد يقال: لماذا هذا مع أن البيت كله يكون صالحاً للصلاة، ما عدا الأماكن الممنوعة الصلاة فيها؟ يقول العلماء: إن وجود الإنسان في المسجد العام يجعل عنده إحساساً بأنه يقوم في مكان مخصص للعبادة، فيكون أجمع لحسه وشعوره في أداء صلاته، ونحن نحس من أنفسنا ذلك حينما نكون في البيت ونصلي -مثلاً- النافلة، وحينما نأتي إلى المسجد ونصلي فيه، فإن إحساسنا بصلاتنا في المسجد غير إحساسنا بصلاتنا في بيوتنا، وهكذا لو دخلت غرفة النوم للصلاة فليس الحال كما لو صليت في فناء البيت، بخلاف ما لو صليت في المجلس العام لاستقبال الضيوف؛ لأن لكل مكان إيحاءاته، ومن هنا قالوا: ينبغي أن يخصص الإنسان في بيته مكاناً لصلاته حتى يجد شعوراً بأداء الواجب وإحساساً بوقوفه بين يدي ربه. ويحتمل أن المراد أن تبنى المساجد في الدور -أي: في الضواحي والناحية من البلد-، لكي يتجمع أهل كل ضاحية في مسجدهم للصلوات الخمس، بخلاف الجمعة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما مُصِّرتْ الأمصار كتب إلى أبي موسى الأشعري في البصرة، وكتب إلى عمرو بن العاص في مصر، وكتب إلى عماله أن: ابن مساجد للقبائل. أي: ابن لكل قبيلة في منزلها مسجداً يصلون فيه الصلوات الخمس، وابن مسجداً في المدينة، فإذا كان يوم الجمعة اجتمع الجميع في هذا المسجد -أي: مسجد المدينة-، ولا تتفرقوا.

تنظيف المساجد وتطييبها

تنظيف المساجد وتطييبها جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر ببناء المساجد، وذلك لأهمية المسجد، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله، ثم جعل لهذه المساجد حقوقاً، منها أن تنظف من كل القاذورات، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (تعرض علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، فلو رأيت قذاةً في المسجد، كريش طائر، أو نواة، أو شيئاً مما يستقذر وأخرجته من المسجد كتب لك بذلك أجر، وهذا من حق المسجد علينا؛ لأننا لا نرضى بالقذاة في بيوتنا، فلا ترضى بقذاةً في مجلسك، ولا في غرفة نومك، ولا وفي مطبخك، ولا في غير ذلك، فلابد أن تنظف المساجد من كل قذاة. قولها: (وأن تطيب) التطييب: هو تفعيل من الطيب، سواءٌ أكان دهناً، أم كان دخاناً من الأخشاب ذات الروائح العطرية، كالعود ونحو ذلك. وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اسمه: نعيم المجمر، كما ساق ذلك مالك رحمه الله في الموطأ، وكانت مهمة هذا الرجل أن يأتي بالمجمرة وبالطيب ليطيب المسجد، وكانت هذه سنة وعادة في المسجد النبوي إلى عهد قريب، بل وإلى الآن أحياناً، وكانت هناك مخصصات من العود للمسجد في السنة، ففي يوم الجمعة وليلة الإثنين يؤتى بالمجامر وبالعود، وتطيب نواحي وأروقة المسجد، وكان هذا في عهد قريب في أوائل قيام الدولة السعودية، فكان يأتي الأمير في رمضان، ويصلي التراويح مع الناس، ويأتي معه بالمجامر وبالعود، وبالقهوة للمصلين، وكانوا يطيلون الجلوس بين كل أربع ترويحات. وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة فحتها بحجر، أو بيده صلى الله عليه وسلم، وعزل إمامهم أن يصلي بهم مرة ثانية لأنه لم يحترم طهارة المسجد ونظافته وتطييبه. فمن حقوق المساجد أن تنظف وتطيب، وجاءت الآثار بأنه منع أن يبول إنسان على جدار المسجد من الخارج تكريماً لجدار المسجد، مع أنه لن يصل أثر البول إلى الداخل. وينبغي أن يعتنى بإقامة دورات المياه على أبواب المساجد ليكون ذلك أيسر على المصلين، خاصة الغرباء، ويمكن أن يستدل لذلك -أيضاً- بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حين حانت صلاة العصر فطلب الناس ماءً فلم يجدوا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء فأتي بشن -وقيل: بقدح وقيل: بغير ذلك- فيه ماء قليل، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم فيه ودعا الله، يقول أنس: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأوا عن آخرهم. وقد تكررت -أي: في ذلك اليوم- هذه الحادثة -أي: الوضوء عند المسجد- بتكرار العدد الذي كان موجوداً، فبعض الروايات أن العدد: سبعون، وبعضها ثمانون، وبعضها ثلاثمائة، وبعضهم يقول: ولو كنا ألفاً لكفانا. فطلب الماء عند المسجد ييسر للمصلين مهمة الطهارة، ومهمة أداء الصلاة في المساجد. ولا يبعد إذا قلنا: إن من التهيئة أن يوفر لرواد المساجد كل ما يمكن أن يوفر لهم الراحة، وييسر لهم الطمأنينة -كما هو الحال الآن بحمد الله- من التبريد، أو التدفئة إذا أمكن ذلك، وكذلك الفرش الميسرة، والمصاحف، والماء الذي يشرب منه العطشان، ولو أمكن أيضاً أن يكون في جوانب المسجد المكتبات أو الكتب، فلو أراد طالب العلم كتاباً أو مصحفاً يكون كل ذلك ممكناً ميسراً.

جوانب مهمة في قضية المساجد

جوانب مهمة في قضية المساجد

العناية بالمساجد

العناية بالمساجد والبحث في المساجد يتناولها من عدة جوانب: الجانب الأول: في تاريخها، والجانب الثاني: في مهمتها ورسالتها وآثارها، والجانب الثالث: في فضل بنائها والعناية بها. أما العناية بها فقد كانت امرأة تقم المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمرضت، فانقطعت عن عملها، فسأل عنها صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها مريضة أو: محتضرة. قال: إذا ماتت فآذنوني. فتوفيت ليلاً، فكرهوا أن يشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فجهزوها ودفنوها، فلما أصبح سأل عنها: ما شأنها؟ قالوا: توفيت البارحة ودفناها. قال: ألم آمركم أن تؤاذنوني؟ قالوا: يا رسول الله! توفيت بالليل، وكرهنا أن نشق عليك. قال: دلوني على قبرها فذهب إلى البقيع ووقف على قبرها وصلى عليها، فلماذا كانت تلك الصلاة؟! ولماذا كانت تلك العناية؟! إنها لعنايتها بالمسجد بنظافته، فإنها كانت تقمه، أي: تجمع القمامة منه.

تاريخ المساجد العريق

تاريخ المساجد العريق أما تاريخ المسجد فهو تاريخ عريق، وكل من كتب عن المساجد فإنه يبدأ بمساجد بلده، فأهل القاهرة يذكرون مساجد: عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون، الشافعي، والليث وغيرهم، وأهل المغرب يذكرون جامع قرطبة، وجامع الزيتونة وغيرها وهكذا، ولكن المنصفين منهم إنما يكتبون عن المساجد الثلاثة أولاً، كما فعل الزركشي في كتابه (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ، فذكر المشهور منها، وأفرد المساجد الثلاثة بأبوب مستقلة، أي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي الشريف. والمتأمل في تاريخ المساجد -كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض الناس يقول: أول مسجد. ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل: الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ، فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها، ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] . وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي. وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها، وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف المساجد الثلاثة.

تجديد إبراهيم لبناء الكعبة

تجديد إبراهيم لبناء الكعبة قلنا: إن الله هو الذي أرى إبراهيم مكان البيت وبوأه له، ولما أراد الله بناء البيت -أي: الكعبة- وأمر إبراهيم بذلك قال: يا رب! وأين أبني؟ قال: حيث ترى السحاب فخط عليها فجاءت سحابة وقت الزوال على سمك الكعبة طولاً وعرضاً، فخط على ظلها، ثم بدأ بالحفر حتى وصل إلى القواعد، وهناك رفع القواعد، وفي تحديد شخص الذي وضع تلك القواعد ابتداءً تذكر كتب التاريخ أخباراً عديدة، ويهمنا الخبر القرآني في هذا التاريخ الإبراهيمي. وهنا لمحة قرآنية فيما يتعلق بإقامة المسجد وبنائه، وما يتعلق بتنظيفه وتطييبه، وأن العناية بالصيانة أشد من العناية بالبناية، فنجد في البناية قوله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ} [البقرة:127] ، فأسند رفع القواعد إلى إبراهيم، وجاء ذكر إسماعيل كالمساعد لإبراهيم، وأما في العناية والصيانة فنجد قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة:125] ، فإسناد البناية ابتداءً كان إلى إبراهيم، فكأن إبراهيم مكلفاً بها، وتكليف إسماعيل يأتي بعد تكليف إبراهيم، أما في الصيانة والتطهير والعناية فتسند ابتداءً لإبراهيم وإسماعيل، فقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] . وهكذا قام إبراهيم عليه السلام بما أمره الله ومعه إسماعيل، ونعلم جميعاً المعجزة الأبدية فيما كان من شأن إبراهيم وإسماعيل، فهما رجلان -فقط- يقومان ببناء بيت ارتفاعه نحو عشرين ذراعاً، فيأتي الحجر ويكون بمثابة المصعد الذي يضع عليه إسماعيل الحجر، ويرتفع الحجر بحجر البناء إلى أن تم هذا البناء، ويبقى في مقام إبراهيم آية. يقول الفخر الرازي: إن الآية في مقام إبراهيم الذي كان يقوم عليه في البناء معجزة أبدية؛ لأن قدماه عليه الصلاة والسلام -حينما كان يقوم عليه- غاصتا في الحجر فيا للعجب! حجر أصم صلب تغوص فيه قدمان من دم ولحم فسمى ذلك آية؛ لأن الحجر فيه آيات، وليست آية واحدة، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97] ، فما هي الآيات؟ قال: الحجر الأصم؛ لأن منه جزءاً -وهو موضع القدمين- غاصت القدمان فيه، وبقية أجزاء الحجر ما زالت على صلابتها وقوتها، فليونة الجزء الذي تحت قدمه آية، وبقاء الجزء الآخر على صلابته آية، وفي عمله في رفع حجارة البناء آية. فبناه إبراهيم وأسماعيل وعناية الله معهما بما أوحى إلى هذا الحجر، وبما سخر وأعطى من قوة حركة لا يعلمها إلا الله، ولا يهبها إلا هو سبحانه، وهكذا كان بناء البيت وأول تاريخه، فهو أول عمران في الأرض، ثم جدده إبراهيم عليه السلام.

تاريخ بيت المقدس وتجديد بنائه

تاريخ بيت المقدس وتجديد بنائه ويلي المسجد الحرام في الوجود التاريخي بيت المقدس، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول المساجد فذكر أمر البيت، قيل: ثم ماذا؟ قال: بيت المقدس؟ قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً. فبعضهم يأتي بالتاريخ، ويقول: إن سليمان وداود كانا بعد إبراهيم عليهم السلام بزمن طويل أكثر من أربعين عاماً! ويهمنا أنه كان بعد البيت الحرام بأربعين عاماً كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أما داود وسليمان فهما مجددان أيضاً، وقد حدد الله مكان بيت المقدس لنبي الله داود حينما أوحى إليه أن ابنِ لي بيتاً. قال: وأين -يا رب- أبنيه؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه فرأى فارساً على فرسه شاهراً سيفه، في مكان لرجل من بني إسرائيل، فاستدعاه وطلب منه أن يبيعه المكان، فقدم إليه مائة ألف، فقال: بعتك. ثم قال الرجل: يا نبي الله! أستنصحك -والدين النصيحة-: الثمن خير أم الأرض؟ قال: الأرض خير من الثمن. قال: أقلني بيعي. قال: اشتري من جديد. قال: مائتي ألف. قال: بعتك. ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: بل الأرض. قال: أقلني وتكرر ذلك خمس مرات، ووصلت المساومة إلى خمسمائة ألف، وبعد الخامسة استنصحه أيضاً، واستقاله فأقاله، ثم قال له نبي الله داود: اختر أنت ما تريد، وسمِّ ما شئت أدفعه إليك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم. قال: تملأه لي نعماً إبلاً وبقراً وغنماً. قال: أفعل. ونادى في بني إسرائيل أن يملأوه له كما قال، فعدوا على الرجل ليلاً وأرادوا أن يقتلوه ويأخذوا الأرض، فأصبح الرجل وذهب إلى نبي الله داود، فقال: يا رسول الله! غصباً أم شراء ورضىً؟ قال: بل شراءً ورضىً. قال: إن بني إسرائيل أرادوا قتلي وأخذي. قال: لا. فعرف مكان المسجد الذي أراده الله، وبنى بيت المقدس حيث رأى الفارس المعلم شاهراً سيفه. فكان تحديد بيت المقدس من الله، وكان بناؤه على يد نبي من أنبياء الله.

بناء المسجد النبوي واختيار موقعه

بناء المسجد النبوي واختيار موقعه وأما ثالث المساجد فحين قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل بقباء، وليست قباء هي محل النزول، وإنما كانت بمثابة المهلة، أو الاستقبال، أو التروي والتأني، ثم أخذ في طريقه إلى المدينة، وكان الطريق من بطن الوادي، وليس الطريق الموجود حالياً؛ لأن هذا أنشئ قريباً، وكانت قبائل المدينة من الأوس والخزرج تمتد من قباء إلى جهة الغابة، إلى رومة -بئر عثمان رضي الله تعالى عنه، فما مر بحي من الأحياء بين قباء والمدينة إلا كان أهل ذلك الحي في أهبة الاستعداد على الطريق، فيأخذون بزمام راحلته ويقولون: هلم إلينا يا رسول الله، هلم انزل عندنا، هلم إلى العدد والمنعة، والعدد والمنعة هما سر بيعة العقبة الثانية، وفيها أنه يأتي إليهم في المدينة فيحمونه ويمنعونه مما يحمون ويمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فقولهم: هلم إلى العدد والمنعة أي: إلى البيعة التي بايعناك عليها، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يجيبهم برفق ويقول: خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة. وكانت كل قبيلة تقف هذا الموقف الشريف الكريم، ويجيبها بهذا الجواب اللين الرحيم، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في مكان المسجد أو بجواره، وبركت، فلم ينزل عنها أول الأمر، ثم قامت -وهو عليها- فدارت واستدارت والتفتت، ثم رجعت إلى المكان الأول وأناخت فيه، ومدت عنقها وحركت صدرها بمعنى أنها لن تقوم، وأن هذا هو المكان المعين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو المنزل إن شاء الله) ، ونزل عنها، وكان هناك بيت أبي أيوب فنزل فيه. والكلام عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة نزوله، حيث أخبر أن الناقة مأمورة، فإنه نبي يوحى إليه، وجاء بدين إلى وطن جديد، وإلى أمة كانت مختلفة فيما بينها، فترك أمره إلى ناقة عجماء وقال: إنها مأمورة، فكيف يفعل هذا؟ والجواب: أن هذا هو الحكمة النبوية؛ فإنه قدم المدينة وكان الأوس والخزرج في المدينة كفرسي رهان، وقد استمرت الحرب بينهما مائة سنة، وما وضعت أوزارها إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات فقط، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الحيان متنافسين على الخير، وكانا متنافسين -قبل ذلك- على الشر في القتال. فهداهم الله إلى الإسلام، واتحدوا على دين واحد، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم بناء على بيعتهم وعلى ما تعاهدوا عليه، فلو أن الأمر كان له والاختيار من عنده وجاء ونزل عليهم فإما أن يكون نزوله على الأوس فهو على حساب الخزرج، أو أن يكون نزوله على الخزرج فيكون على حساب الأوس، ومن نزل عندهم سيعتزون بذلك ويفتخرون به على غيرهم، وتكون الحزازة في نفوس الآخرين والحسرة على ما فاتهم، وناله غيرهم، وهم في المنافسة سواء، وحينئذ تكون النفوس غير راضية أو غير طيبة، فيجد الشيطان مدخلاً لمنافسات أخرى، فإذا ما ترك أمره لغيره، لاسيما لناقة عجماء، وقال: إنها مأمورة فقد سد على الشيطان باب شر؛ لأن الذي يأمر الحيوان هو الخالق سبحانه، فمضت حيث أراد الله، ونزلت حيث أمرها الله. فإذا نزلت عند هذا الحي من العرب أو ذاك، سواءٌ أكانوا أوساً أم خزرجاً فهل يعترض أحد أو يجد في نفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟! والجواب: لأنه لم يختر طريقاً على طريق، وإنما الناقة المأمورة، والآمر لها هو الله. فبهذه الطريقة قضي على المنافسة، وقضي على المشاحة، وخرج صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف بحكمة. وأما الحي الذي نزل فيه، فقد اجتمعوا عليه، وكل أهل بيت يقولون: عندنا يا رسول الله! وكل يقول: هذا بيتي، هذا بيتي. فعند من ينزل؟ وعلى حساب من؟ والواقع أنه هنا أيضاً لم يكن له اختيار، فقد نظر إلى ناقته فوجد الناقة عارية عن الرحل، فسأل: أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته. فقال: المرء مع رحله فانتهت أيضاً مشكلة البيوت في الحي الواحد. ونزل صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، وكانت أمام البيت ساحة ونخيل وماء، فقال: لمن هذا النخيل؟ قالوا: لـ سعد وسهيل يتيمان عند أبي عتبان أو عند غيره، فاستدعاه فقال: ثامنيِّ على هذه الأرض. قال: يا رسول الله! إنها لأيتام في حجري، وهي لك بلا ثمن، وأنا أعوضهم عنها أرضاً خيراً منها ثمناً. قال: لابد أن تثامنني عليها. وتمت المثامنة بعشرين ديناراً، ودفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فشرع صلى الله عليه وسلم -حالاً في قطع- النخيل، وتسوية الأرض، وإقامة المسجد، فأقيم لأول مرة على جذوع من نخل، ويمكن أن يُعرف حد المسجد الأول بالحد الموجود الآن، فسعى خلف الروضة أعمدة فيها خطوط مستطيلة مذهبة، وفي وسطها مثل الورد أو الزهرة، وتمتد بعد المنبر إلى الغرب سارية واحدة إلى الحجرة الشريفة، فهذا هو حد المسجد النبوي الأول. ثم بعد ذلك -بعد العودة من خيبر، في السنة السابعة- جدد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد بزيادة أخرى، ثم في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، وهكذا إلى أن وصل المسجد إلى ما هو عليه الآن. وأردنا بهذه المقدمة أن نبين أن الله سبحانه وتعالى أولى المساجد عناية، وأن أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام أو الكعبة المشرفة، وبتحديد وبيان من الله لإبراهيم، وبناه الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل، ثم بيت المقدس أيضاً بعناية من الله، وبناه نبي الله داود، ثم المسجد النبوي الشريف، وبناه وشارك في بنائه صلى الله عليه وسلم، ثم تسابق الملوك والسلاطين في أن ينال الواحد منهم شرف عمارة أو تجهيز أو إصلاح أو غير ذلك في المسجد النبوي. أما مهمة المساجد في الإسلام فهي عظيمة، ويتضح لنا ذلك من مهمة أهم المساجد في الإسلام، أو أول مسجد بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولية هنا هي الأحقية، أما الأولوية الزمنية فقطعاً كانت لمسجد قباء، والأولية الأحقية لهذا المسجد النبوي الشريف، وقد ورد في فضل مسجد قباء: (من تطهر في بيته، وأتى مسجد قباء وصلى صلاة -أو: وصلى ركعتين- كانت له كأجر عمرة) ، وخص المسجد النبوي بحديث: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة -أو خير من ألف صلاة- إلا في المسجد الحرام) ، فهو المعبد الذي تتضاعف فيه الصلاة إلى ألف صلاة، والألف صلاة تعدل صلاة عدة شهور، وإن شئت فاقسم الألف على خمسة، ثم اقسمها على ثلاثين، لتعرف كم تعدل الصلاة الواحدة من شهور. والذي يهمنا أن المضاعفة ذاتية وليست عددية، بمعنى أنه لو أن إنساناً عليه صلاتان فائتتان، وصلى صلاة الفريضة في المسجد النبوي لصلاة يومه، وكانت تعدل ألف صلاة فإنها لا تسقط الفريضتين اللتين في ذمته لله؛ لأن الصلاة التي وصلت إلى الألف إنما هو في ذاتها، وفي ثوابها، وفي نورها، وفي بركتها، أما إجزاؤها عن صلوات أخرى فلا.

توسعة المسجد النبوي ومضاعفة الأجر فيها كبقية المسجد

توسعة المسجد النبوي ومضاعفة الأجر فيها كبقية المسجد هنا بحث للمتقدمين والمتأخرين في مسألة مهمة جداً، وهي قديمة متجددة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) كان قبل الزيادات التي زادها غيره صلى الله عليه وسلم من بعده، وأول الزيادات زيادة عمر، ولها قصة طويلة. فإنه لما أراد عمر أن يزيد في المسجد ندب الناس، وقال: لقد ضاق المسجد بالمصلين، ونريد أن نوسع في المسجد للناس، فجاء إلى العباس، وكانت بيوت العباس في جهة الغرب، وكذلك خالد بن الوليد، وكانت ديار آل عمر في القبلة، وبقايا حجرة حفصة رضي الله تعالى عنها مقابلة لحجرة عائشة، وكانتا تتبادلان الحديث من كوة -أي: من طاقة- في الجدار، وتتناولان الحاجة بأيديهما لقرب ما بينهما. ولما توفي عمر رضي الله عنه اشترى أمير المدينة الأول لبني أمية دار عمر، وجعلها سكناً له، ثم رأى المؤذن ينظر إلى بيته فترك السكنى، وجعلها دار الإمارة، ثم جعلها دار القضاء، وكانت في محل المحكمة الأولى بجانب مكتبة المدينة، وهي المكتبة التي كانت في القبلة. فأول من زاد في المسجد عمر رضي الله تعالى عنه، فزاد من القبلة ومن الغرب، ولما أراد الزيادة من الغرب كانت هناك دور للعباس، فأتاه وقال: نريد بيتك نوسع به المسجد. قال: لا. وقال: لابد؛ لأن المسجد فيه الحجرات، ولا يمكن أن نمسها، ولابد أن نتوسع إلى الغرب. فامتنع عليه، وقال: ألأنك أمير المؤمنين تغصبني؟! قال: لا أغصبك، واختر من نحتكم إليه. فاختار أُبي بن كعب، فذهبا إليه، فقال: هلم يا أمير المؤمنين. قال: ما جئتك أميراً للمؤمنين، جئتك متقاضياً مع العباس، فقال: ما أمرك؟ قال: كذا وكذا وكذا. وذكر له أنه قال للعباس: أعطني بيتك، أقطعك أرضاً أو أبني لك بيتاً، أو أعطيك من بيت المال ما يرضيك. فامتنع العباس عن كل ذلك، فقال له أُبي: ألا أخبرك؟ وذكر له قصة داود عليه السلام في بناء بيت المقدس ومساومته للرجل، فقال عمر: والله ما أردته لنفسي، وإنما أردته للمسلمين، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التوسعة ما فكرت في توسعته. فلما خرجوا قال له العباس: يا عمر! أنتهيت؟ قال: نعم. قال: ألك عندي شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء. قال: البيت لوجه الله، وأدخله عمر ووسع فيه. وحينما وسع عمر المسجد وأدخل فيه دار العباس، وجزءاً من جهة القبلة في حدود بيت عمر، رأى عمر بعض الناس يتجنب الصلاة في تلك الزيادة، فوقف خطيباً وقال: إني لأرى كذا وكذا وكذا، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: الشامل لتلك الزيادة-، وهي ضمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة) ، إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -وفي بعض الروايات: إلى صنعاء-، وليس بمعقول أن المسجد سيمتد إلى صنعاء، ولكن من باب المبالغة والتأكيد. ومن هنا علمنا أن كل زيادة أضيفت إلى المسجد النبوي في أي زمان كان فإن المسجد النبوي يتناولها، وفضيلة المسجد من أول ما بني تشملها، وهي الأجر بألف صلاة.

حال المساجد في صدر الإسلام

حال المساجد في صدر الإسلام المسجد معبد تتضاعف فيه الصلاة، والمضاعفة شاملة لكل الزيادات، وكان المعهد الأول والجامعة الأولى في كل علوم الدين والدنيا، وكان -كما يقول بعض الكتاب- المدرس الأول هو جبريل عليه السلام، فالآن في نظم الجامعات، كل مادة لها مدرس أول صاحب كرسي، وهو المسئول عن تلك المادة، فمادة الفقه أو مادة الحديث التوحيد أو الأصول يكون لها عدة أشخاص يدرسون المادة لكثرة الفصول والطلاب، ولابد في كل مادة من مدرس أول، مسئول عنها، فإذا اختلف مدرسوها في جزئية يكون هو المرجع فيها. فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس، وبعده تلاميذه كـ عطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر الليث بن سعد، وفي البصرة الحسن البصري، وفي العالم كله انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى. وكان المسجد -أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المرة الثالثة قال: (ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره أبو هريرة فقال: صدقك وهو كذوب، ثم قال: أتدري من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ فقال: لا. قال: ذاك شيطان) . والكاذب قد يصدق، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يقسم ذلك المال. ويقول بعض الكتاب أيضاً: لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه: (إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة) ، فلما نقض بنو قريظة العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان هنا؟ قالوا: نعم. والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين، قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم. قال: حكمت فيهم. بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات السبع-) ، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه. وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها، وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص، جامعة ترتب فيه الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة، وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم فيها حظ كبير. إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة، فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل. إلخ. وكانت المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم. ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض. ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها

فضل طلب العلم في المساجد، وفضله في المسجد النبوي

فضل طلب العلم في المساجد، وفضله في المسجد النبوي ليعلم الجميع أن طلب العلم في المساجد محاط بالبركة؛ لأن الإنسان إذا جلس في بيت من بيوت الله، وتذكر عظمة المكان، وسمع الشيخ يقول: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم. كان على استعداد أكثر لاستقبال المعلومات، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي الشريف بطلب العلم، فقال فيه: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يُعلِّمُه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) فخص المسجد النبوي الشريف؛ لأن المسجد النبوي كان مقراً لقيادة الإسلام، فكانت تعقد فيه الألوية للسرايا، وكانت تعقد فيه ألوية الجيوش، وكان يعقد فيه عهد الصلح. وقد نص القرآن الكريم على أن طلب العلم قسيم للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] ، فالذين ينفرون يجب أن ينقسموا قسمين: قسم في سبيل الله للقتال، وقسم لحلق العلم والتعلم لينذروا قومهم، وليعلموا قومهم، ومن هنا أخبر صلى الله عليه وسلم عن مسجده -حيث كان مقراً للقيادة وتوجيه الجيوش وعقد الصلح- بأن طلب العلم فيه كالجهاد في سبيل الله، ولقد جربنا ولمسنا مدى البركة في هذا المسجد، سواءٌ أكان في الطلب أم في غيره، والله أسأل أن يعيد المساجد إلى رسالتها، وأن يعيد المسلمين إلى بيوت ربهم. وبالله تعالى التوفيق

كتاب الصلاة - باب المساجد [2]

كتاب الصلاة - باب المساجد [2] إن الإسلام قائم على أساس إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ولما كان أهل الكتاب قد انحرفوا في هذا الباب فبنوا المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وأخل كثير منهم بمبدأ الإخلاص، شدد الإسلام في ذلك خشية على أتباعه من أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فشدد في تحريم اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وحذر منه أشد التحذير، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد، فلا يجتمع في الإسلام قبر ومسجد أبداً، وإن وجد ذلك فلابد من هدم أحدهما، فيهدم الطارئ ويكون الحكم للسابق.

تابع أحكام المساجد

تابع أحكام المساجد

حكم اتخاذ القبور مساجد

حكم اتخاذ القبور مساجد قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه، وزاد مسلم: (والنصارى) . ولهما من حديث عائشة: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً) ، وفيه: (أولئك شرار الخلق) ] . أن ذكر المؤلف رحمه الله الأمر ببناء المساجد في الدور ذكر بعض المخالفات المنكرة المتعلقة بتشييد المساجد، ثم ذكر بعد ذلك بعض الأحكام التي تتعلق بحرمة المسجد. ثم جاء بعد ذلك بالتحذير مما كان من الأمم قبلنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وزاد مسلم: (والنصارى) . الطرد، وفي هذا الأمر ينظر في الفعل واستحقاق فاعله اللعن، وينظر في لعن المعين كيهودي أو نصراني وهو ما زال على قيد الحياة. قالوا: اللعن لا يتأتى إلا إجمالاً، فتقول: لعن الله الكافرين، والمشركين، واليهود، والنصارى، والمجرمين، والظالمين، والطغاة، أما الشخص المعين فلا يجوز لك أن تلعنه، ولو كان كافراً مشهراً كفره، أو ظالماً معلناً ظلمه؛ لأن اللعن بالوصف يعم، ولا يتقيد بشخص، فما دام الوصف موجوداً توجه إليه، أما الشخص بذاته فقد يتوب الله عليه، وأنت قد عينته فألحقت به اللعنة، وقد يتوب عن موجبها، فتكون وصمته بذلك، والله سبحانه وتعالى قد تاب عليه مما كان فيه. أما إذا مات على ذلك الحال -على الكفر خاصة- فهو كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] ، فمن مات على الإسلام -مهما كانت حالته، من تقصير أو عدم أداء لواجب- لا يجوز لعنه؛ لأن أمره مفوض إلى الله وما دام أمره لله، فلا نتدخل نحن في ذلك، ولا نحكم عليه بخير ولا بشر، نعم نحكم بأنه كان على وصف كذا، أما مصيره في الآخرة فليس لنا ذلك. فهنا اللعن على جملة اليهود، وعلى جملة النصارى جاء مسبباً، بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا -أي: ابتدعوا، وابتكروا، وفعلوا- قبور أنبيائهم مساجد -وتأتي التتمة- وصالحيهم) .

إشكال وجواب

إشكال وجواب وهنا إشكال يرد على قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم) ، فالأنبياء: جمع نبي، أما اليهود فقد جاءتهم رسل وأنبياء، ولكنهم كانوا يكذبونهم ويكفرون بهم ويقتلونهم، كما قال تعالى:: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] يعني: أن اليهود أتتهم رسل عديدة، أما النصارى فلم يأتهم إلا رسول واحد، وهو عيسى عليه السلام، فما هو التوجيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا قبور أنبيائهم) بالجمع، وكيف يصدق على النصارى؟ قيل: هذا اللفظ صادق على واحد لا بعينه، فهو دائر بينهما، وهو يصدق على اليهود، فيكفي ذلك. وقيل: إن مجموع أنبياء اليهود، أو أنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى؛ لأن النصارى مكلفون بالإيمان بالنبي الذي أتاهم -وهو عيسى عليه السلام- وبالأنبياء الذين جاؤوا من قبل، فأنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى، كما أن الإسلام أمر المسلم أن يعلن إيمانه بجميع الرسل، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، ولهذا كان الحكم في الإسلام أن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل؛ لأن أمرهم واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء آبناء علات، ديننا واحد) ، والعلات: جمع علة، وهي الزوجة بعد الزوجة، أي: إن الرجل يكون تحته عدة نسوة، وتأتي كل امرأة بولد، فهؤلاء الأولاد أبناء علات والأب واحد، وهذا التشبيه منه صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسل وإن تعددوا في أممهم فإن مرجعهم واحد، وهو الوحي من الله واصطفاء الله إياهم، وهم رسل الله سبحانه جل جلاله. فقالوا في قوله:: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم) الجمع في الأنبياء يعم اليهود بالواقع والمطابقة، ويشمل النصارى بالعقيدة واللازم؛ لأنه يلزمهم الإيمان بجميع أنبياء بني إسرائيل، وجاء الأمر إلينا، وألزمنا بالإيمان بجميع رسل الله من علمنا ومن لم نعلم، قال تعالى عن الأنبياء: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، فنحن نؤمن بكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولو لم نعلمه. قوله: (اتخذوا قبور) القبور: جمع قبر. قوله: (مساجد) معناها: أن القبر قد وجد، ثم جاءوا إلى هذا القبر واتخذوه مسجداً، وعلى هذا يقول العلماء -في حكم المسجد مع القبر-: الحكم للأسبق، فاليهود لعنوا لأنهم جاءوا إلى القبور واتخذوها مساجد، أما لو كان المسجد موجوداً، ثم جيء إلى المسجد واتخذ فيه القبر، فيكون المسجد هو الأسبق، والحق له، ولا حق للقبر.

الغلو في تعظيم الصالحين طريق إلى الشرك

الغلو في تعظيم الصالحين طريق إلى الشرك قالوا: ما اتخذ اليهود قبور أنبيائهم إلا تعظيماً لهم، وتعظيم الأنبياء باتخاذ القبور مساجد سيؤدي إلى الانحراف في العقيدة، وقالوا: إن أول ما أشرك بالله إنما كان بسبب الغلو في الصالحين، كما حصل في يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين، فجاء الشيطان إلى أبناء أولئك الناس، وقال لهم: إن آباءكم وأجدادكم كانوا رجالاً صالحين، ولهم عليكم حق، فعليكم أن تدعوا لهم، فكانوا يدعون لهم، ثم جاء إلى الجيل الثاني وقال: لا يكفي هذا الدعاء، إنما عليكم أن تشركوهم في العبادة. ففعلوا، فقال: إنكم لم تفعلوا مثل من كان قبلكم. فقالوا: كيف نفعل؟ قال: مثلوا لهم تماثيل واجعلوها في مساجدكم، حتى إذا رأيتموهم نشطتم في العبادة وعبدتم الله كما كانوا يعبدونه، ففعلوا على حسن النية، وتركهم، حتى جاء جيل ثالث فقال لهم: أنتم عاصون لآبائكم؛ لأن آباءكم ما صوروا هذه التماثيل للناس الصالحين في المسجد إلا ليجعلوا لها جزءاً من صلاتهم، فعليكم أن تجعلوا لها جزءاً من الصلاة، فجعلوا لها جزءاً من الصلاة مع صلاتهم لله سبحانه، ثم تركهم على هذا الشرك الأولى، وهو أول افتراقهم عن الصراط السوي، فجاء بعد ذلك وقال للأجيال بعدهم: أنتم تكلفون أنفسكم شططاً، فلماذا تتكلفون وتأتون إلى المعابد؟! خذوا هذه التماثيل واجعلوها في بيوتكم، وكل قبيلة تجعل لها تمثالاً، وكل أسرة تجعل لها تمثالاً، وتؤدي حقها في بيتها، ولا حاجة إلى المجيء هنا، فاتخذت القبائل الأصنام، واتخذت الأسر الأصنام، وانصرفت العبادة كلها للأصنام من دون الله، أي أن الشيطان صبر في دعوته على أربعة أجيال في أربعة قرون، وأخذ يحولهم ويزحزهم حتى ذهبوا عن الطريق السوي. فمن هنا كان اتخاذ القبور مساجد ذريعة إلى الشرك والوقوع فيه، ومن هنا نعلم سبب النهي عن الصلاة في المقابر، وتقدم لنا أن المقابر من المواطن السبعة التي نهي عن الصلاة فيها، اللهم إلا صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع، وليس فيها سجود، أما الصلوات الخمس أو النوافل فإنك إذا جئت عند القبر، واستقبلته وركعت وسجدت في أصله، فما كان للمشاهد إلا أن يقول: إنه يركع ويسجد للذي أمامه، فتكون صورة شرك، ولو لم يكن الشخص يقصد الشرك، كما نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تكون حينئذ بين قرني شيطان، فإن الشيطان عند شروقها وعند غروبها يأتي ويستقبلها بقرنيه، وهناك عباد للشمس يسجدون لها عند الشروق، ويسجدون لها عند الغروب، فيُرى الشيطان وقد قرن قرنيه بالشمس، فيوهم أتباعه وجنوده أن أولئك الذين يسجدون للشمس إنما يسجدون له هو، وهذا تدليس منه وإيهام. ويتفق العلماء على أن النهي في هذه المسائل إنما هو لسد الذريعة، ولحماية جناب التوحيد، كما يقول السلف رحمهم الله.

حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها قبور

حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها قبور بقي عندنا حكم ما لو جئنا إلى مسجد ووجدنا فيه قبراً. في هذه الحالة: إذا وجد القبر أولاً ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه. أما إذا كان المسجد أولاً، وجاء صاحب المسجد وأوصى أن يدفن فيه، أو دفن فيه أباه، أو دفن شخصاً عزيزاً عليه، فالمسجد سابق، والدفن فيه لاحق، ثم ينظر إلى هذا القبر الذي دخل على المسجد أين موقعه من المصلين؟ فإن كان في قبلة المصلين مباشرة فلا تصح الصلاة إليه، وإن كان في مؤخرة المسجد والسجود بعيد عنه فالصلاة صحيحة، وإن وجد مسجد آخر فهو أولى، وإن كان القبر عن يمين المصلين أو عن يسار المصلين وليس هناك استقبال للقبر فالصلاة صحيحة، فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد. فإذا كان ذلك في قبور الأنبياء والمرسلين إلى أممهم، فكيف بقبور غيرهم، فإن النهي عن اتخاذها مساجد من باب أولى، واستحقاقهم اللعن بذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم إلا تعليماً للأمة، فمعنى ذلك أن اللعن لليهود والنصارى بسبب فعلهم، والتعليم لنا، وإلا لما كانت هناك فائدة من هذا الإخبار. وهنا مأخذ دقيق جداً، يبدو لي أنه أقوى دليل في هذا الموضوع، ولو لم يأت هذا الحديث، فإننا نقرأ في صلاتنا سورة الفاتحة، وبعد المقدمة والثناء على الله سبحانه والإقرار له بالربوبية والإقرار بعبوديتنا له واستعانتنا به نتوجه بطلب هو أعز ما يكون على الإنسان في حياته، فنقول: {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] والهداية ضد الضلال، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثم جاء التفصيل نوعاً ما: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وقد جاء بيان الذين أنعم عليهم بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] . فقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] يعتبر كافياً في بيان الحق الذي يجب على المسلم لزومه، ولكن لشدة الحاجة إلى الإيضاح والتأكيد على البعد عن الباطل بين سبحانه الطريق المخالف للحق، فقال سبحانه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فكأن الاستقامة أو الهداية إلى الاستقامة إنما هي طريق معتدل بين طرفين مختلفين هما: فريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين. ومن هنا نعلم أن من وافق كلتا الطريقتين، أو أحد الفريقين فيما كان من خصوصياته فقد جانب الصراط المستقيم، ولحق بأولئك الذين وافقهم أو تابعهم، أي: في الجزئية التي تابعهم فيها، فكل من بنى على قبر مسجداً فهو بهذا النص الكريم لم يتبع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، ولكن اتبع أحد الطريقين: إما المغضوب عليهم، وإما الضالين. ويقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم فهو مغضوب عليه، وكل من عمل بغير علم فهو ضال، ولهذا خصّ اليهود بالغضب، والغضب أشد من الضلال؛ لأن الضلال قد يكون لجهالة، وقد يكون لعذر، والضال قابل للتعليم، وقابل للرجوع، وقابل للهداية، أما المغضوب عليه فقد انتهى أمره بما هو فيه من الخطأ والإصرار على ما هو عليه.

الفضيلة وسط بين رذيلتين

الفضيلة وسط بين رذيلتين وعلماء الأخلاق يقولون: إن الفضيلة وسط بين طرفين، وهذا في جميع الأمور، فإذا جئت في الإسلام فالصراط المستقيم وسط بين الإفراط والتفريط، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يفرط أو يقصر، أو أن يزيد فيما شرع الله، ولما جاء النفر الثلاثة إلى أم المؤمنين عائشة، وسألوها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وأخبرتهم أنه ينام ويقوم، ويفطر ويصوم تقاّلوا ذلك، وقالوا: عبد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأين نحن؟ فقال أحدهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر. وقال الثاني: وأما أنا فسأقوم الليل ولا أنام وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فصعد إلى المنبر، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فهذا إفراط في العبادة، والإفراط في العبادة ينقطع بصاحبه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) . فإذا ركبت جوادك تريد مكة أو نحوها، فأجهدت الجواد بأقصى قوته، فسيتعب ويهلك، فلا أنت قطعت مرحلة سفرك، ولا أنت أبقيت على جوادك، ولكن إذا أخذته بالرفق، ومشيت بقدر استطاعته، وإذا وجدت مرعى تركت له الفرصة ليشبع، وإذا وجدت ماء سقيته، وإذا شعرت بشدة الحر آويته إلى الظل، فإنك تستطيع أن تواصل السير عليه، ولو مشيت به الأرض كلها؛ لأنك تأخذه على طاقته. ولما جاء الأعرابي وسأل عن الصلاة وسأل عن الصيام قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح إن صدق. فالفضيلة وسط بين الطرفين، لا أن يقصر فيما وجب عليه، ولا أن يزيد فيما لم يكلف به كما في الحديث: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فلن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) . فالفضيلة وسط بين طرفين، فالبخل والتبذير طرفان مذمومان، والكرم وسط بينهما، فالكريم ليس ببخيل ممسك، وليس بمبذر متلف، ولكنه في وسط، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] فهذه هي الوسطية في هذا الباب. وكذلك الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فليس الشجاع بجبان يمتنع عن المصارعة والمقاتلة، وليس بمتهور إذا جاء إلى القتال يرمي بنفسه، ولا يدري من أين المخرج، وكذلك في العبادات، فالتوسط: عدم الإفراط والتفريط فاليهود فرطوا لأنهم قصروا في أمور العبادات واحتالوا على المحرم، كما في عملهم في يوم السبت، فلما حرموا على أنفسهم يوم السبت امتحنهم الله، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فما استطاعوا أن يصبروا، فاحتالوا وألقوا الشباك يوم الجمعة، فعلقت فيها الحيتان يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، وقالوا: نحن في السبت لم نعمل شيئاً، وكنا في بيوتنا. وكذلك لما حرم الله عليهم بعض الشحوم أخذوها فجملوها وأذابوها، فباعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: نحن لم نأكل الشحم. ففرطوا في العبادات. وانظر أيضاً إلى ما قالوه في عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاءت به مريم عليها السلام، قومها تحمله كما قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:27-28] ، فانظر إلى أي حد ذهبوا، بينما النصارى قالوا: هو ابن الله، هو ثالث ثلاثة. فأي فرق بين القولين؟ فبينهما ما بين السماء السابعة وتحت الثرى. والإسلام قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولذا فـ النجاشي لما سمع ذلك من جعفر الطيار في الهجرة إلى الحبشة الأولى هبط إلى الأرض، وأخذ قشة من الأرض وقال: ما زاد صاحبكم على ما جاء في عيسى ولا مثل هذه القشة. فالإفراط والتفريط متغايران، فاليهود أخذوا جانب التفريط، والنصارى أخذوا جانب الإفراط. والتوسط في العبادة إنما هو في الإسلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا} [الجمعة:9-10] ، فساعة الذكر تذهب إليها، وساعة عمل الدنيا تذهب إليها. ثم إن الإنسان يتكون من مادة وروح، والمادة هي الجسم، وهو بيت تسكنه الروح، وكل له غذاؤه، فالجسم يحتاج إلى الطعام والشراب؛ لأنه من الأرض ومن مادتها، ويخلد إليها، والروح تحتاج إلى العبادة والذكر؛ لأنها نورانية تسموا إلى الملأ الأعلى، وغذاؤها العبادة، وفمن غلب جانب المادة على الروح ففيه شبه من اليهود، ومن غلب جانب الروح على المادة ففيه شبه من النصارى.

وصف الصحابة في التوراة والإنجيل قائم على وسطيتهم بين الإفراط والتفريط

وصف الصحابة في التوراة والإنجيل قائم على وسطيتهم بين الإفراط والتفريط نجد القرآن الكريم يصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به في التوراة والإنجيل- لأهل التوراة والإنجيل، وذلك الوصف قائم على أساس هذا المبدأ، وأن النصارى مفرطون واليهود مقصرون. قال الله سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] ، ثم قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] . فانظر إلى هذا الوصف: (ركعاً سجداً) ، فهل اليهود ركع سجد؟ وقال الله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وهل اليهود يبتغون ما عند الله، أو يبتغون الدنيا؟ وقال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) بخلاف القترة والغبرة على وجوه اليهود عياذاً بالله. وقال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أي: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (فِي التَّوْرَاةِ) ، والتوراة لليهود؛ ليعلموا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كمثلهم. قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] والإنجيل للنصارى. {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . فانظروا إلى هذا المثل، هل هو مثل عبادة، أم مثل عمل واستثمار وإنتاج؟ إنه عمل واستثمار وإنتاج، فهو زرع يخرج شطأه يؤازر بعضه بعضاً، فيعجب الزراع ويبتهج به الزارع إذا رآه؛ لأن النصارى أهملوا أمور الدنيا وأمعنوا في أمور الروح كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] . فالنصارى ذهبوا في الرهبانية، وتركوا الدنيا، فجاء مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بالعمل الدائب، والإثمار والإنتاج، ليردهم عما هم عليه، وجاء في حق اليهود أن مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما قاله تعالى عنهم: {رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] ، وهذان مثلان يبينان أن كلتا الأمتين قد غايرت الطريق فأفرطت في جانب، وفرطت في جانب آخر، وعلى هذا جاء في هذا الحديث أن اليهود لعنهم الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وكان ذلك سبباً في التوصل إلى عبادة غير الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب المساجد [3]

كتاب الصلاة - باب المساجد [3] إن المساجد معظمة ومحترمة عند المسلمين، فلا يجوز للمشركين دخولها إلا لحاجة وبإذن من المسلمين، وهذا على رأي بعض العلماء، وأما المسجد الحرام فلا يجوز لغير المسلمين دخوله أبداً، وما ذلك إلا لعظمته عند الله، وهناك آداب خاصة بالمساجد منها: أن لا يُنشد فيها الشعر إلا ما كان مباحاً ولغرض شرعي، وأنه لا يجوز إنشاد الضالة في المساجد، فإن المساجد لم تجعل لذلك.

تابع أحكام المساجد

تابع أحكام المساجد

حكم دخول الكافر إلى المسجد

حكم دخول الكافر إلى المسجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد. الحديث) متفق عليه] . هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال، وكان سيداً من سادات وادي بني حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد. فلما ربط في سارية من سواري المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة؟ فيقول -وهو في الأسر-: يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ، فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر. فكان يقول: إن ترد مالاً -يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى. وإن تمنن -أي: تطلق سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-، وإن قتلت قتلت ذا دم. أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به، فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه الحالة ثلاثة أيام. ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة. فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق. فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق. ثم قال: يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟ قال: امض وأكمل عمرتك. فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات. فكتب إليه أن: اسمح بالميرة لمكة. فسمح بها. ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب في معى واحد) ، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله) ، وببركة (باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن السبع الشياه. ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء الناس، فقد قيل له: يا ثمامة! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال: لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف. أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً حينئذ أسلمت. ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم، ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي: زوجها- وقد أجرته. فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع -وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم. قال: والله ما علمت بذلك إلا كما علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث: (يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم) . ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة -والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال: أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون أي دافع آخر.

حكم دخول غير المسلمين إلى المسجد

حكم دخول غير المسلمين إلى المسجد والناحية الفقهية في هذا الباب -باب المساجد- ظاهرة في قوله: فجاءت -أي الخيل- برجل أي: جاءت به أسيراً، فهو ليس مسلماً، ودخل المسجد، فما حكم دخول غير المسلمين المساجد؟ هذه مسألة -كما يقولون- فيها قليل من التطويل، وأخونا الشيخ عبد الله ولد والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه -في الآونة الأخيرة- جمع رسالة صغيرة في هذه المسألة. ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان تكلم عنها عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ، والمسألة تتلخص في الآتي: يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، والمشركون جنس معين، وهم أهل الأوثان، بخلاف أهل الكتاب. وقال تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] ، فجعل مالك رحمه الله أصل المسألة في المشركين، وقاس عليها أهل الكتاب: يهوداً ونصارى، وأخذ المسجد الحرام كأصل، وقاس عليه جميع مساجد العالم، فقال مالك: لا يدخل كافر مطلقاً -سواءٌ أكان مشركاً، أم وثنياً، أم كتابياً يهوياً أو نصرانياً، أم بوذياً- أي مسجد من المساجد نصاً وقياساً. والإمام أبو حنيفة رحمه الله جعل المسألة خاصة بالمشركين وبالمسجد الحرام فقط على نص الآية. والشافعي وأحمد رحمهما الله جعلاها في عموم الكفار، وبخصوص المسجد الحرام. فهذا خلاصة خلاف الأئمة رحمهم الله، وإذا جئنا إلى قصة ثمامة نجد أنه رجل مشرك أدخل المسجد، وربط في السارية، فهذا ينقض على مالك اعتبار عموم المساجد بالمسجد الحرام؛ لأنه قال: جميع المساجد يمنع منها جميع الكفار والمشركين فهذا مشرك دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعميم في المساجد ينقضه دخول ثمامة. وهنا أيضاً دليل آخر، وذلك لما جاء وفد ثقيف، ووفد ثقيف من الطائف وكانوا مشركين، جاءوا في السنة التاسعة من الهجرة -عام الوفود-، ونحن نعلم ما فعلت ثقيف برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم إلى الطائف سنة تسع من البعثة، فأساءوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جاءوا سنة تسع من الهجرة -عام الوفود- أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبنى لهم خياماً في المسجد، وكان ذلك في رمضان، وكانوا يرون الناس يصلون، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على خدماتهم، وكانوا من شدة خوفهم لا يأكلون طعاماً جيء به إليهم حتى يأكل الذي جاء به منه أمامهم، وكان صلى الله عليه وسلم -من مكارم أخلاقه وحسن ضيافته- يأتيهم بعد العشاء، ويقف على خيمتهم، ويتحدث معهم في أيام العرب وفي أحاديثهم، ويراوح بين قدميه، فمرة يقف على اليمين، فلما يطول القيام قليلاً يريحها، ويقف على اليسار من طول ما يقف عند خيمتهم متحدثاً معهم. فهذا وفد من المشركين نزل في المسجد النبوي. وأما غير المشركين فأهل نجران، وليسوا وثنيين، ولما جاءوا المدينة جاءوا إلى المسجد، ولما جاءوا وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة قالوا: أمهلنا إلى الغد. فكان فيهم السيد العاقب، فقال لهم: والله ما باهلت أمة نبياً إلا أخذوا عن آخرهم، ولو باهلتموه والله لن يبقى حتى الطير يطير في بلادكم، فأصبحوا وقالوا: يا محمد! نعتذر عن المباهلة، ونحن على السمع والطاعة لك، واتركنا على ما نحن عليه، وابعث معنا رجلاً أميناً يحكم بيننا في أموالنا إذا اختلفنا فيها. قال: نعم. لأبعثن معكم رجلاً أميناً. يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فبت أتطلع. أي: لينال شرف هذا الوصف ويبعث معهم، ولكن دعا بأمين هذه الأمة أبي عبيدة، فهؤلاء نزلوا في المسجد. وعلى هذا يكون القول الراجح أنه لا يسمح لغير مسلم، أو لا يحق لغير مسلم أن يدخل المسجد بسلطة، وبنوع من التحكم، أما أن يدخل بأمان من المسلمين، وبعهد من ولي أمر المسلمين لحاجة نحن نحتاجه فيها، أو هو يحتاج إلينا فيها، كما كان اليهود يدخلون المسجد ويتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستفتونه فلا مانع. فغير المسلم يدخل المسجد للحاجة، فحاجته في التقاضي والقاضي في المسجد، أو الاستفتاء والمفتي في المسجد، أو للماء والماء في المسجد، أو لحاجة المسجد إليه لعمارة، أو لتدارك أمر ما، فحينئذ يسمح له بالدخول. والقضية تدور حول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، وبعض علماء اللغة يفرق بين (نَجَس) و (نَجِس) فيقول: نجَس (بالفتح) : نجاسة اعتقاد، ونجِس (بالكسر) : نجاسة مادية، كالبول والعذرة، فهنا نجس المشركين في اعتقادهم، وكان بعض السلف -كـ الحسن - يقول: من صافح مشركاً فليتوضأ؛ لأنهم نجس. ولكن يستدل الجمهور على أن نجس المشركين نجس اعتقاد بأنه لو أخذت سبية من العرب، وكانت تلك السبية على دين قومها. فإذا لامسها السيد فهل لامس نجاسة؟ وقد كانوا يضاجعونهن، وكانوا يستمتعون منهن بملك اليمين، ولم يُؤمر أحد منهم أن يغسل ما لامس النجس، فهو على التحقيق نجَس اعتقاد. وبعضهم يقول: (نجَس) باعتبار الشرع؛ لأنهم كانوا يصيبون الجنابة ولا يغتسلون، فالنجاسة نجاسة معنوية، أو نجاسة حكمية، وليست حقيقة مادية. والذي يهمنا في هذا أنه لا يُمكَّن غير المسلم من دخول المسجد لغير حاجة. وهنا قضية محزنة مؤسفة، ففي بعض البلاد أصبحت بعض المساجد متاحف أثرية، فهجرت الصلاة فيها، وأصبح السُّواح يرتادونها على أنها آثار، فهل تدخل في هذا المعنى أم لا؟ الله تعالى أعلم، والواقع أن هذا تقصير من المسلمين.

صحة صلاة المسلم في الكنيسة والبيعة دون بيت النار

صحة صلاة المسلم في الكنيسة والبيعة دون بيت النار وهناك مسألة في المقابل تهمنا في الفقه، وهي أنه إذا كان غير المسلم لا يدخل المسجد إلا لحاجة، فهل يدخل المسلم الكنيسة ويصلي فيها أم لا؟ يتفق العلماء على أن المسلم إذا دخل كنيسة أو بيعة -بخلاف بيت النار؛ لأن بيت النار يعبدون النار فيه- وحانت الصلاة، وأراد أن يصلي فله أن يصلي في تلك الكنيسة ما لم ير نجاسة؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تتحقق النجاسة، وهذه قاعدة إسلامية، وعند أهل الكتاب الأصل النجاسة ما لم تتحقق الطهارة. ولكن إذا كان في الكنيسة تماثيل وصور، كالتي ذكرتها أم سلمة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصح الصلاة هناك، لا لكونها كنيسة، ولكن لكونها فيها التماثيل والصور. ويذكر البخاري رحمه الله في قصة عمر لما ذهب إلى الشام أنه حينما حوصر أهل الشام واشتد الحصار عليهم أرادوا أن ينزلوا على الصلح -وقيل: كان نصفها صلحاً، ونصفها عنوة. وقيل: كلها عنوة. وقيل: كلها صلح- فكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر إنا نريد أن ننزل على الصلح، ولكن تكون أنت طرفاً فيه. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه، هو وغلام معه فقط، وكان يتعاقب الركوب مع الغلام، فمرحلة يركب هو ويمشي الغلام، ومرحلة يمشي هو ويركب الغلام، إلى أن اقتربا من دمشق، وكان قميصه مرقعاً، فقالوا: لا يليق بك أن تدخل على الروم بهذا القميص فيقولون: هذا أميركم بهذه الثياب! وهذا قميص تلبسه. فنظر فيه فلم يقبله، وقال: ردوا علي فميصي، قالوا له: تمهل. دعنا نغسله. فغسلوه وردوه عليه، ولما جاء ودخل على الروم عرفوه بشكله وبوضعه فقالوا: والله هو هذا الذي نجده في كتبنا. وتمت المفاوضة على الصلح، فجاء رجل من ذوي القسطنطين، وقال لـ عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت لك طعاماً وأريد أن تحضره فحضر، ثم دخل الكنيسة، ثم قال: أريد أن أصلي. فقال: صل مكانك. قال: لو صليت في الكنيسة لانتزعها منكم المسلمون وكان في عهد الصلح ألا تنقض لهم كنيسة، ولا تؤخذ أموالها، ولا يتعرض لصلبانهم، وأحوالهم تبقى على ما هي عليه، واشترط عليهم شروطاً وحقوقاً للمسلمين. فقال: لو صليت هنا لجاء المسلمون من بعدي وقالوا: هذا مصلى عمر فينتزعونه منكم، فينقضون الصلح، وجاء عند العتبة وصلى. ثم جاء ابن عمر، وجاء عمر بن عبد العزيز وغيرهما وقالوا: إذا كان فيها التماثيل أو الصور فلا تجوز الصلاة فيها، وإذا كانت خالية من تلك الموانع فلا مانع ما لم توجد فيها نجاسة أو موانع وعوارض أخرى. وكما ربط ثمامة وهو مشرك ربط أبو لبابة نفسه وهو مسلم، فحين ذهب إلى بني قريظة سألوه عما سيفعل بهم، فأشار بيده إلى حلقه، أي: الذبح، ثم قال لنفسه: والله لقد علمت أني خنت الله ورسوله، فرجع وربط نفسه في سارية المسجد. فالمسجد: معتقل للأسارى وسجن للمخطئين، فأدى رسالة بجانب المعبد، وبجانب المعهد؛ لأنه على رءوس الأشهاد وتحت أنظارهم، فاتسع نطاق رسالة المسجد إلى خطوة أخرى.

الشعر وإنشاده في المسجد

الشعر وإنشاده في المسجد قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه مرّ بـ حسان ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أُنشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك) متفق عليه] . يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم، وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو خير منك. والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لـ عمر جواب، والحقُ يسكت. وما هو الإنشاد الذي كان ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء، أو هو شعر معين؟! لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا يلحقك من ذلك شيء. قال: اهجهم. فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام. فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً: ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين، وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء. وهذا -كما يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، وعلى هذا فـ حسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك) ، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء. إذاً فلا نقول: كل شعر ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به. وربما يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول أليس هذا غزل في سعاد؟! يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وذكر صفات الناقة، وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد) عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت. وتقول: الشباب قوة غريزة وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء المسلمين. فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى نفس فممنوع، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة. وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق الدنيا فليذهب إلى الرحبة. وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه شعراً. والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح. والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية، والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً. وبالله تعالى التوفيق.

حكم إنشاد الضالة في المسجد

حكم إنشاد الضالة في المسجد قال رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع رجلاً ينشد الضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا) رواه مسلم] . هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها الله عليك. والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه. ولم يقل: امنعوه. ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا ردّها الله عليك) ، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة، صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة. ثم قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك، إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من إنشادها في المسجد. والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال: الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد. ثم قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟! قالوا: يقف على باب المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي ضالتي أو: ضل علي كذا. فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد. ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك) أي: لم تبن للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية. ونظير ذلك ما فعله الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ بالماء. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه) ، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله) ، (أستغفر الله) ، (الحمد لله) ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] . فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، فالله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟! ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) .

حكم مذاكرة العلوم الدنيوية في المساجد

حكم مذاكرة العلوم الدنيوية في المساجد وفي واقع الحياة عندنا نشاهد في أواخر السنوات الدراسية أن الطلاب يكثرون في المساجد، ويعمرونها مع الصلوات، فكل معه دفاتره، وكل معه كتبه جماعات جماعات، فلا نقول: هذه أمور الدنيا، ولا ينبغي أن يشغلوا المساجد بذلك: لا والله؛ فكل العلوم -أياً كانت- إذا كانت في يد المسلمين فهي تخدم الإسلام. فعلم الذرة والطاقة النووية، وعلم الفضاء، والغوص في المحيطات، والجيولوجيا في بطن الأرض، وكل ذلك حين يكون في يد المسلم، إنما هو خدمة للإسلام؛ لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] . ونقول أيضاً: تلك القوى الفتاكة إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل، أما إذا كانت في يد الكافر فهي كالسيف في يد الأحمق. ففي قضية كوبا حصل أنه نصبت روسيا فيها صواريخ، وكان كنيدي هو رئيس الولايات المتحدة، فأنذر إن لم تفكك هذه الصواريخ في ست ساعات فإن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لاستعمال السلاح بقدر ما في طاقتها لتدميرها، فماذا قال خروشوف -؟ قال: إن هذا شاب متهور قد يفعلها. وبادر بتفكيك تلك الصواريخ من كوبا. والذي يهمنا قول هذا العسكري في حق الآخر: شاب متهور. فالقوة مهما كانت في أي علم إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل لا يستعمله إلا في موضعه، وتلك القوة في يد الكافر كالسيف في يد الأحمق لا نأمن فيمن يستعملها. وهكذا إذا كان أبناؤنا الطلاب في أي حالة من الحالات يدرسون، وفي المساجد أياً كانت، فقد يجدون من الرفقة في المسجد ما لا يجدونه في البيت، وقد تكون في البيت مشاكل وأصوات ومشاغل، لكن في المسجد يوجد الهدوء وتوجد الراحة، وربما كانت مكيفة، وربما كان فيها الماء مبرداً، وقد لا يجد ذلك في بيته. وقد لاحظنا في عهد قديم قبل تعميم الكهرباء في المدينة أن سبعين إلى تسعين في المائة من العمال في المدينة وفي رمضان يأتون للنوم في المسجد؛ لأنه كان مكيفاً بالمراوح، وكان ألطف مما يوجد في بيوتهم. فالمساجد تكون مأوى الجميع، وتكون مرفقاً عاماً، فإذا كانت مذاكرتهم لا تشويش فيها ولا تضييق على المصلين، وإذا أقيمت الصلاة قاموا في صفوفهم وصلوا، لا أنهم عند الإقامة يتسربون من الأبواب إلى بيوتهم، وكأنهم لا يعرفون الصلاة، فإذا أتوا إلى المساجد لأداء الصلوات، وجلسوا لمذاكرة دروسهم في هندسة أو رياضيات أو جغرافيا، أو أي شيء فهم كمن يذاكر الفقه والحديث والتوحيد؛ لأن الكل يلتقي على خدمة هذا الدين، وخدمة الإنسان المسلم. إذاً فإنشاد الضالة في المسجد لا ينبغي؛ لأنها مصلحة خاصة بصاحبها، وفيه تشويش على المسلمين، ولم تبن المساجد لذلك. والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب المساجد [4]

كتاب الصلاة - باب المساجد [4] الإسلام دين الخلق، فما تكاد تجد أمراً من الأمور إلا وله آداب وأحكام، وبيان لما يجوز فعله فيه وما لا يجوز، ومن ذلك المساجد، فمن آدابها: أن لا تتخذ مكاناً للبيع والشراء، فلا يجوز عقد البيع والشراء فيها، كما لا يشرع إقامة الحدود في المساجد، ولا بأس بإقامتها بجوار المساجد؛ للجمع الذي يكون عند المسجد، فتكون على مرأى ومسمع من الناس، فتعم الفضيلة وتقل الرذيلة.

تابع أحكام المساجد

تابع أحكام المساجد

حكم البيع والشراء في المساجد

حكم البيع والشراء في المساجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: وعن أبي هريرة رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي، وحسنه] . هذا الحديث مع الذي قبله من باب واحد، فهناك ينشد الضالة لاسترجاع ما ضاع منه، وهنا يتعاطى البيع والشراء، وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من أراد سوق الدنيا فليخرج، ومن أراد سوق الآخرة فهنا. فلم تبن المساجد لتنقلب أسواقاً للبيع والشراء، وكما قيل: الأسواق مساكن الشياطين، كما أن المساجد مساكن الملائكة؛ لأن الأسواق غالباً يوجد فيها الضجيج، ويوجد فيها التدليس، ويوجد فيها الأيمان المروجة للسلعة، وتوجد فيها مخالفات كثيرة، إلا من عصم الله، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب أمام التجار، والذين يتخذون المساجد مكاناً للبيع والشراء. ويقال للمبتاع والمشتري في المسجد: لا أربح الله تجارتك. وقد يقول بعضهم: إن قول: (لا أربح الله تجارتك) إنما يقال لمن اتخذ ذلك عادة، أما إذا تبايعا في سلعة بينهما، وليس من عادتهما التبايع في المسجد فهل يتسامح معهما؟! والجواب: لا؛ لأن الحديث سدّ الباب، فإن تبايعا اليوم في قلم، ففي الغد سيتبايعان في الساعة، وبعده في الكتاب وهكذا، فيتسرب البيع والشراء إلى المساجد. فقوله صلى الله عليه وسلم: (فقولوا له) أي: أسمعوه لا أن تقولوها سراً؛ لينزجر بذلك، وإذا علم البائع الذي يريد الربح أنه إذا عقد عقد بيع في المسجد قيل له: لا أربح الله تجارتك فإنه لن يقدم على مثل هذا العقد، المدعو عليه بمحق الربح؛ فإنه -ولو ربح- لا خير فيه، كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] فكذلك هذا العقد، وإن كان فيه ربح فهو ممحوق؛ لأنه منهي عنه. وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله، ويفسحون لنا المجال نوعاً ما، فلو أن إنساناً اشترى من إنسان سلعة، وكان الثمن مؤجلاً، فوجد الثمن عند المشتري، ولقي البائع في المسجد، فهل يجوز له أن يقول: خذ ثمن سلعتك الذي عندي. أم لا يجوز؟ والجواب: لأن عقد البيع قد مضى، وهنا سداد الدين، وسداد الدين -إن أخلص في النية- عبادة؛ لأنه يخرج من عهدة المطالبة بالدين، فلا مانع من ذلك. ومثل هذا أيضاً رد الوديعة، فلو أن إنساناً أودع إنساناً آخر وديعة، وأراد المستودَع أن يسافر، وتعذر عليه لقاء صاحب الوديعة إلا في المسجد، فأتى بالوديعة معه ولقي صاحبه، وقال: خذ وديعتك. فإني مسافر فلا إشكال في هذا؛ لأن المنهي عنه إنما هو التبايع، سواءٌ أكان لمرة واحدة نادرة، أم مراراً قليلة أو كثيرة.

حكم عمل المعتكف صاحب الصنعة داخل المسجد

حكم عمل المعتكف صاحب الصنعة داخل المسجد وهنا مسألة قد يثيرها بعض العلماء، تجدونها في مبحث الاعتكاف، وهي إذا لم يكن للمعتكف رأس مال، وإنما يعيش من صنعته، أو بيعه وشرائه، فهل يجوز له -وهو معتكف- أن يزاول مهنة البيع والشراء، أو يخرج إلى الخارج ويبيع ويشتري ثم يأتي إلى مسجده، أو إلى معتكفه؟ فبعضهم يقول: لا مانع إذا كان في طرف من المسجد. والجمهور يقولون: لا؛ لأن الحديث لم يفصل. فإذا كان صاحب صنعة لا يبيع ولا يشتري، ومنها عيشه، ويمكن أن يجمع بين الأمرين حاجته في معيشته، وعبادته في اعتكافه، فبعضهم -كالأحناف أو غيرهم- قالوا: يجوز له إن لم تكن صنعته تقذر المسجد، أو تضيق على الناس، ومثلوا بنسخ الكتب، إذ نعلم جميعاً أنه لم تكن في السابق مطابع، ولكن كانوا يعولون على نسخ الكتاب بأيديهم، فإذا كان الشخص وراقاً، ومشهوراً بخطه، وبكتابته للكتب، واعتكف يكون في معتكفه، وعنده حبره وقلمه وأوراقه، فله أن ينسخ وهو في محله، فإنه لا يقذر المسجد، ولا يضيق على المصلين، ولا يشوش عليهم، فمثل هذا قالوا: لا مانع في حقه؛ لأنه يجمع بين الحسنيين، ولا يضر، ولا يترتب عليه أذى. وبعضهم قال: هذه الصناعة تابعة للبيع والشراء؛ لأنه يبيع خبرته في كتابته لمن يكتب له. ويقال: إن كان ذا ضرورة، وليست له مهنة، فلا ينبغي أن يحرم، ما دام يؤدي هذا العمل بعيداً عن التشويش على الناس، ونحن الآن، لو وجدنا طالب علم، جالساً في جانب، أو عند سارية، وعنده مخطوطة يريد أن ينسخ منها، أو ينقل منها فلا غبار في ذلك. فهذا ما يتعلق بمسألة النهي عن البيع والشراء في المسجد، فعلى كل من سمع أو رأى من يبيع أو يبتاع في المسجد: أن يجابهه بهذه الكلمة (لا أربح الله تجارتك) ؛ لينزجر عن ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم إقامة الحدود في المساجد

حكم إقامة الحدود في المساجد قال رحمه الله تعالى: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف] . إقامة الحدود من أعظم شعائر الله، وفي بعض الآثار: (إقامة حد في الأرض خير من مطر عشرين -أو ستين- عاماً) ، فإقامة الحدود منزل للبركة والرحمة؛ لأنه تطبيق لشرع الله، والحدود -كما يقولون- منها ما هو محض حق لله، ومنها ما هو محض حق للعبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد وربه، كما في السرقة وفي الزنا وفي القذف، وفي شرب الخمر، فكل ذلك عقوبته حد، سواءٌ أكانت الحدود فيها جلداً، كالخمر، وزنا البكر، أو إتلافاً، كالرجم والقطع والقود، والقود حق للإنسان، بمعنى أنه إذا اعتدى إنسان على إنسان -سواءٌ في جراح، أم في نفس- فإن من حق المجني عليه أن يقتاد، أو يقتص من الجاني، وسواء في العضو، أم في النفس، فالحدود على ذاك التقسيم جلد، أو إتلاف، ومهما كانت فلا يقام الحد بالجلد أو بالقطع في المسجد؛ لأنه قد يحدث من المجني عليه، أو ممن يقام عليه الحد -سواءٌ بالجلد أم القطع- ما لا يتناسب مع المسجد، فإنما تقام الحدود على أبواب المساجد، في موضع التجمعات، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] . وكذلك القود، والقود في النفس بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أما في الجراح فيتفق العلماء على أن القود في الجراح يشترط فيه أن يكون الجرح والاعتداء في مفصل؛ لأن القود في المفصل ممكن، أما إذا كان الجرح في الفخذ -مثلاً- أو في وسط اليد فإنه لا يتأتى فيه قود مماثل؛ لأن القصاص معناه أن تأخذ بحقك دون زيادة أو نقص، كما إذا قصصت الورقة أو الثوب بالمقص، فإن طرفي المقصوص متساويان، ولو مال المقص يميناً أو يساراً لظهر هذا الأثر في جانبي المقصوص، فيكون القص متعادلاً تماماً، سواءٌ في الاستقامة، أم في الأخذ يميناً أو يساراً، ومن هنا إذا كان الجرح في مفصل -كمرفق اليد والعضد والركبة والحقو- فهنا يكون القصاص. أما إذا كان الجرح، أو الكسر في غير مفصل، فلا يمكن أبداً أن يقتص بكسر، نظير كسر في وسط العظام؛ لأن الكسر الأول قد أخذ شكلاً معيناً، والكسر الثاني -كسر القصاص- لا يمكن أن نضمن أنه بحدوده، وأبعاده، وأجزائه، يكون مماثلاً للكسر الذي سبق، فهنا لا يكون القصاص، وتكون الدية، دية الجرح، أو دية كسر العظم، وهذه كلها مقدرة في كتب الفقه. فما كان حقاً لله، من الحدود، فلا يقام في المسجد، وكذلك أيضاً ما كان حقاً للآدمين، من قود، وقصاص، فلا يستوفى في المسجد، إنما يكون في الخارج؛ لأنه في الجلد، ربما يحدث من المجلود، في حالة شدة الجلد، ما يخشى منه على المسجد، وكذلك عند القطع، حيث يكون هناك الدم ويتناثر، فلا يناسب أن يكون في المسجد. وإذا قلنا: إن المسجد موضع الرحمة، وتنزل الرحمات، فلا يمكن أن نجعله موضع النقمة، وموضع التعذيب، وإن كان حداً من حدود الله؛ لكن فيه التعذيب وفيه الآلام، فينبغي أن يكون بعيداً عن حدود المسجد، ويبقى المسجد لطلب الرحمة والمغفرة. فنهى صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود أو يقتاد في المسجد. وأما القصاص في مكة فبعضهم يقول: لا يقام حد القصاص في حرم مكة، وحدود الحرم جميعاً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] ويقولون: نتركه حتى يخرج خارج الحرم، وهناك نقتص منه ونقتله، وإذا لم يخرج قالوا: يمنع من البيع، والشراء، والمعاطاة، ولا يعطى شيئاً حتى يضيق من نفسه، ويخرج يطلب لقمة العيش، فهناك نقتص منه. والبعض الآخر يقول: قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] وإذا اعتدى إنسان وقتل إنساناً في الحرم فيكون القاتل هو الذي انتهك حرمة الحرم فنقتله فيه، أما إذا جنى خارج الحرم ودخل لاجئاً إلى الحرم فلا نقيم عليه الحد في الحرم؛ لأنه لم ينتهك حرمة الحرم، بل لجأ إليه يحتمي فيه، وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] وحرم مكة له أحكامه الخاصة، ويهمنا هنا فيما يتعلق بعموم المساجد في الدنيا وأنه لا تقام فيها الحدود، ولا يقاد فيها بين الناس. والله تعالى أعلم.

التمريض وحكمه في المسجد

التمريض وحكمه في المسجد قال رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد، يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب) متفق عليه] . يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى قضية سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وسعد له تاريخ عريض في الإسلام، وكان سيد بني عبد الأشهل، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أصحابه بعد بيعة العقبة، ليعلمهم الإسلام، كان يتتبع الأنصار على مياههم، فجاء إلى ديار بني الأشهل يدعو الناس، فكان سعد جالساً وراء هذا العمل، فأرسل ابن أخته، وقال: اذهب إلى فلان ومن معه، وقل له: فليكف ذلك عنا، ولا يفسد سفهاءنا. فلما جاء إلى مصعب وصاحبه هددهما وشتمهما، وقال: قوما عنا. فقال له مصعب رضي الله تعالى عنه: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك الذي جئت به، فإن رضيته وقبلته فبها، وإن لم ترضه، ولم تقبله رحلنا عنك، قال: أنصفت، وركز حربته وجلس. فقرأ عليه مصعب شيئاً من القرآن؛ فاستحسنه، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل -أو يتوضأ- ويصلي ركعتين، ويشهد شهادة الحق ففعل، فرجع إلى سعد ومن عنده، فقال من كان عند سعد: والله لقد رجع إليك قريبك بوجه غير الذي ذهب به عنا. فقال له سعد: ماذا فعلت؟ قال: أمرتهما بما أمرتني به، وعند عودته من عند مصعب قال له: إن ورائي رجلاً لو اتبعك سيتبعك أهل الحي هذا جميعاً. فكأن سعداً لم يقنع بكلام هذا الرجل، وذهب بنفسه، فلما وقف عليهما أتكاً، ارتكز على حربته، وكلمه بمثل ما كلمه الأول، فأجابه مصعب كذلك بمثل ما أجاب الأول، فقال: أنصفت والله. فقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ فأخبره، وصلى الركعتين، وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف ترونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وميمون الطليعة، ومبارك النجيبة،. إلخ، فقال: والله إن كلامكم رجالاً ونساءً عليّ حرام ما لم تسلموا. فبات الحي كله مسلماً. وهكذا كان له رضي الله تعالى عنه شأن عظيم في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب أصيب بسهم في أكحله، فعز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه، وأراد أن يكون بجواره من قريب، فضربت له خيمة في المسجد، يُمرّض فيها، وليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، أي: من حجرته إلى المسجد، فرقع جرحه واستراح، فجاءت قضية بني قريظة الذين نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وشدة الأمر على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وفي ذلك الموقف الرهيب الصعب قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فمن فوقهم اليهود، ومن أسفل منهم الأحزاب قريش، وغطفان، ومن معهم، وأصبح المسلمون -كما يقال- بين فكي الأسد. فـ سعد رضي الله تعالى عنه لما أصيب قال: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم تكن أبقيت حرباً لقريش فاجعلها شهادة، ثم قال: اللهم أقر عيني في بني قريظة، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، كان من قصتهم أن طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد؛ لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أنه سيرفق بهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم -وهو هناك يباشر الحصار-، وجيء بـ سعد على حمار، فلما وصل، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قال صلى الله عليه وسلم: لقد نزل اليهود على حكمك يا سعد! فوقف وأشار بيده وقال: أحكمي نافذ على كل من كان هنا؟ قال الجميع: نعم. وأشار إلى اليهود: تنزلون على حكمي؟ قالوا: نعم. وأشار إلى الجهة الأخرى بتأدب وقال: ومن هنا؟ قالوا: نعم، فقال: يا رسول الله! أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم -أي: كل من كان قادراً على حمل السلاح- وتسبى نساؤهم وذراريهم، فأخذ اليهود يصيحون، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق) يعني: من فوق السماوات السبع، ونفذ ذلك، فقُتلت المقاتلة، وسُبي النساء والصبيان. والذي يهمنا أنه في هذه الوقعة -ومعها غزوة الأحزاب- كان لـ سعد رضي الله تعالى عنه موقف نبيل، وكانت حياته كلها لله سبحانه وتعالى، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلما أصيب عزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُترك ويُمرَّض في بيته في بني عبد الأشهل، وهم في العوالي، فنصب له خيمة في المسجد وصار يعوده من قريب، فلما انتهى من التحكيم المذكور نقض عليه جرحه في الليل، ومات في الصباح، وأقر الله عينه فيما أراد، وكما يقولون: لما أصبحوا وجدوا دماً وماءً يسيل من تحت الخيمة، فنظروا فإذا بجرحه قد نقض عليه ونزف ومات. وهنا يقول العلماء: هل ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم خاص بـ سعد، ومن أجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده من قريب، أو أننا إذا احتجنا، وحدث -لا قدر الله- مرض، وضاقت المستشفيات، وعجزت الدور المخصصة لذلك فلنا أن نستعمل المساجد مأوى للمرضى؟ الجواب: نعم، مع الحفاظ على أرض المسجد من أن يأتيها شيء مما يكون من المرضى، وإذا كان ولابد فليكن في مكان في جانب من المسجد، ثم بعد ذلك يطهر ما وقع في أرض المسجد. ويقول المتأخرون: إن من المهام التي أداها المسجد -أو على الأخص المسجد النبوي- مهمة المستشفى العسكري، أي: تمريض من أصيب في القتال داخل المسجد، ويقصدون به قصة سعد رضي الله تعالى عنه، والمؤلف يسوق لنا قصة سعد في باب المساجد ليبين لنا أنه عند الحاجة وعند الضرورة، لا مانع أن يمرض المرضى في المساجد؛ لأنها خدمة عامة، ومصلحة للجميع، فلا مانع من ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم اللعب في المسجد

حكم اللعب في المسجد قال رحمه الله تعالى: [وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد. الحديث) متفق عليه] . يأتينا المؤلف بهذا الحديث، أو بهذه القصة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة -أي: رجال من الحبشة- يلعبون في المسجد) وهذا جزء من مشهد كبير طويل، وهو: أنه كان في يوم عيد، فأخذ الأحباش الموجودون بالمدينة، في تلك السنة، يلعبون بحرابهم لعبة القتال، في المسجد النبوي، فرغبت عائشة رضي الله تعالى عنها أن ترى هذه اللعبة؛ لأنها لم ترها من قبل. وهنا يلبي لها النبي صلى الله عليه وسلم رغبتها، فيقف ويسترها من الناس، وتتمكن من الرؤية، فصارت تَرى ولا تُرى، وقد جاء في خبرها، أنه لما طال وقوفها، قال: أرضيتِ؟ فقالت: لا، أريد زيادة. ويهمنا في سياق هذا الحديث السماح للأحباش باللعب بتلك الحركات الميدانية في المسجد النبوي، وهل يجوز لنا في الوقت الحاضر أن نفعل ذلك؟ يقولون: إذا كان مجرد لعب، أو لهو، أو مسابقة، أو مناضلة، -أي: مسابقة بالسهام- فلا، أما إذا كانت حركة فيها تدريب على الجهاد، ونوع من أنواع القتال، ومن يراه يستفيد، ومن يزاوله يحسن أكثر، فلا مانع، وفي يوم العيد؛ لأن يوم العيد في الإسلام فيه بهجة وسرور ولعب. فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على فراشه، وعندها قينتان -جاريتان- تغنيان، وتضربان بالدف، فنهر عائشة وقال لها: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعها -يا أبا بكر -؛ إنه يوم عيد) . أي: أن يوم العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى المدينة ولهم أعياد كثيرة، لاسيما اليهود، فكل مناسبة عندهم يتخذونها عيداً، فلهم أيام متعددة، يتخذونها أعياداً إلى الآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم -يخاطب المسلمين- يومي عيد خيراً من هذا: عيد الفطر، وعيد الأضحى) . ويقول العلماء -من باب الالتماس-: جعل الله سبحانه وتعالى العيدين عقب عبادتين عظيمتين، وقد يستأنس الإنسان لهذا من سياق تشريع آيات الصيام، في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ، ثم يقال: يسّر الله مع الفرضية والإلزام، فجاءت الرخصة لمن يشق عليه، ثم جاء تعليل التيسير بقوله: (لتكملوا العدة) ؛ لأن التشريع إذا كان شاقاً ملزماً وليس فيه ترخيص يعجز الناس عنه، فإذا كان التكليف شاقاً فمع المشقة رخصة للعاجز، فيمكن للمكلفين أن يكملوا العدة التي كلفوا بها؛ لأن مشقة التكليف يصحبها الترخيص والتخفيف. ثم قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يقول بعض العلماء: هو التكبير الذي يكون يوم العيد؛ لأنه جاء بعد إكمال العدة -أي: إكمال عدة رمضان- {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله. فقوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأداء الواجب عليكم، وامتثال أمره، فكأنه قال: كلفتم بالصيام فأديتموه، وأكملتم العدة، فهلموا إلى تكبير الله، وإلى بهجة وفرحة العيد، بإكمال هذا التكليف الشاق العظيم. وكذلك عيد الأضحى بعد الحج، والحج عبادة فيها مشقة، ففيها السفر والتنقل بين المشاعر، والسفر وحده -كما قيل-: لسفر قطعة من العذاب؛ لأن الإنسان يتحمل فيه تغير طبيعة حياته في نومه، وفي طعامه، وفي شرابه، فيختلف عليه نظام حياته في الإقامة، ويتحمل ذلك في سبيل أداء هذه العبادة العظيمة. ومن هنا كان العيدان -عيد الفطر وعيد الأضحى- بهجة بعد أداء واجب فيه مشقة، فعيد الفطر بعد الصوم، وعيد الأضحى، بعد الحج، ومن هنا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم أن يظهروا فرحتهم وبهجتهم بما يطيب لهم، وهي -كما يقال- لعبة القتال أو رقصة القتال، فيفعلونها تعبيراً عن شعورهم وفرحتهم في ذلك اليوم، فلا مانع في ذلك. ويهمنا أنه سمح لهم أن يفعلوا ذلك في المسجد، أما بقية أنواع اللعب فلا يسمح بها، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه البيوت -أو المساجد- لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، فكما أن الشعر الذي يخدم الدعوة الإسلامية ويخدم المسلمين مما يوالي ذكر الله؛ لأنه تأييد لهم، فكذلك مثل هذه الحركة ففيها تدريب، وفيها تعليم لمن لم يرها من قبل، وفيها تشويق لمن لم يعرف ذلك، فتكون فيها خدمة دينية، فلا مانع منها، ولا يسمح بها في غير يوم العيد، فهذا ما يؤخذ من هذا الحديث. وهنا ناحية اجتماعية أخرى، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ستر عائشة حتى لا يراها الناس، وهي رأت الناس ولا يمكنها مشاهدة ذلك إلا بأن تراهم، فهناك فرق بين أن يرى الرجل المرأة وأن ترى المرأة الرجل، ولكن -كما يقولون- الأفضل للطرفين ألا يرى أحدهما الآخر، فهذا هو الأسلم والأفضل، كما جاء في قصة ابن أم مكتوم حيث دخل على بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: (احتجبن. فقلن له: إنه أعمى لا يرانا. قال: أوعمياوان أنتما؟) فهو لن يراهما لأنه أعمى، وهما سيريانه، وهذا من باب الرفعة أو السمو، أو علو درجات أمهات المؤمنين، فيحملن على أكمل الصور وأكمل الحالات. والآن -بطبيعة الحال وضرورة الحياة- المرأة تخرج إلى السوق، ولها أن تخرج إلى المسجد، ففي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فستخرج من بيتها إلى المسجد، فهل تخرج مغمضة عينها أو ترى الطريق؟! إنها سترى الطريق، والطريق فيها الرجال والنساء، فسترى المار في الطريق، فهذا من الضرورات، ولا يمكن أن نمنعها من رؤية الرجال؛ لأن هذا معناه منعها من الحركة خارج بيتها، مع أنه يجوز لها أن تخرج إلى قضاء حاجتها، حتى المعتدة لها أن تذهب في النهار لتقضي حاجتها وترجع، ويكون مبيتها في بيتها. فهذه ضرورة، ولا يمكن القضاء عليها، وليس هناك بديل عنها.

كتاب الصلاة - باب المساجد [5]

كتاب الصلاة - باب المساجد [5] إن المساجد شعار المسلمين، وما من مسلم إلا ويتردد عليها أو يكثر المكث فيها، لذلك فقد شرعت آداب وأحكام للمساجد حتى يُحافظ على نظافتها وتكريمها، ومن ذلك: أنه يجوز للمرأة أن تتخذ بناءً في المسجد فتأوي إليه وذلك عند الحاجة، ومن أحكام المساجد أيضاً: أن تصان عن الأقذار لاسيما البصاق، وبخاصة إذا كانت أرضية المساجد كما هو الحال اليوم (مفروشة) فلا يشرع للمسلم أن يبصق إلا في طرف رداءه أو في منديل.

تابع أحكام المساجد

تابع أحكام المساجد

حكم مكث المرأة في المسجد

حكم مكث المرأة في المسجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة: (أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، وكانت تأتيني تتحدث عندي. الحديث) متفق عليه] . هذه المرأة -سواء أكانت هي التي تقم المسجد، أم كانت امرأة غيرها- جعل لها خباء في المسجد تأوي إليه، ويقال أيضاً: هذا في حالة الضرورة، وقد وجدنا بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ضربن لأنفسهن الخيمة في المسجد ليعتكفن، وذلك لما استأذنت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتكف معه، وضربت لها خيمة، فقام بعض الزوجات الأخريات، ونصبن خيمة، فلما غدا صلى الله عليه وسلم إلى معتكفه رأى ثلاث خيام منصوبة، فقال: ما هذا؟! قالوا: فلانة وفلانة وفلانة ضربن خياماً ليعتكفن قال: (آلبر ترون بهن؟) -يعني: الذي حملهن على هذا هو البر وفعل الخير، أم المنافسة فيما بينهن؟ ثم قال: (قوضوا خيمتي) فقوضوا خيمته، ولم يعتكف تلك السنة، وقضى اعتكافه بعد ذلك في شوال، وهل كان بصوم أو بغير صوم؟ لم يثبت في ذلك شيء، ولم يعلم العلماء كيف كان اعتكافه بعد ذلك. وعلى هذا يجوز عند الحاجة إقامة خباء لامرأة في جانب من المسجد بعيداً عن الرجال، ولا مانع من ذلك، وهذا الذي ساقه المؤلف من أجله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم البصاق في المسجد

حكم البصاق في المسجد قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) متفق عليه] . من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-) : (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا) ، وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد يكون المراد بها الديار. فحديث سمرة فيه: (أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها) يعني:تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء، بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد، وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال. قوله: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) . يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه) ؛ لأنه يستطيع بقدمه أن يدفنها. وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق فيه، ثم دلك جانبيه) ؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء في خبر ليلة القدر: (. وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين -يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) . وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد، ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل التي تكون على قدر صلاة الإنسان. وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب، أو على شيء آخر. والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه. ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لـ جعفر بن عقيل أو غيره طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق، فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة -وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة. فكانوا يتخذون الفرش والخمر والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب. والأولى بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة: القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً. فالبصاق في المسجد خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء. والآن تطورت الأمور، فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن هذا كله. ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق، وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم) ، فكانت هذه النخامة في جدار القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في احترام المسجد وتوقيره.

المباهاة في المساجد وحكمها

المباهاة في المساجد وحكمها قال رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] . هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها. ويقول بعض العلماء: ما ضيع الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف. وجاء عن بعض السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون فيها. ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: يتخذ أحدهم السجاد والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة. ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم، وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا. لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء، وكذلك التباهي بالمساجد. فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة، والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي: في حالة المنافسة. وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها، ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] . وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة بالمساجد. ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله. لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل. وبعضهم أيضاً يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا نصب) ، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟! وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة) ، والقطا طائر معروف أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها، فكيف يكون محلاً للصلاة؟! فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى. فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة) لا مانع أن يزخرف ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله. فهل الله يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله. والحديث هنا: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في المساجد-) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة، أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة. فهذا الحديث بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية. والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [1]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [1] درج النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه كل ما لا يحسنون فعله بالقول والفعل ولو تطلب ذلك منه إعادته عدة مرات، وقد اشتهر عند أهل الحديث حديث: المسيء صلاته، وفيه جمع الرسول عليه الصلاة والسلام أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها، وأكد في ثنايا الانتقال من ركن إلى آخر على أهمية الاطمئنان فيه إشارة منه إلى أن الصلاة ليست مجرد حركات بلا معنى، ولكنها أفعال خاصة يراد بها نيل رضا الرب عز وجل.

شرح حديث المسيء في صلاته

شرح حديث المسيء في صلاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، أخرجه السبعة، واللفظ للبخاري، ولـ ابن ماجة بإسناد مسلم: (حتى تطمئن قائماً) . ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) . ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) . وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه) وفيها: (فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله) . ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب، وبما شاء الله) . ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ] . يقول المؤلف رحمه الله تعالى: باب صفة الصلاة، أي: من مباحث الصلاة بيان صفتها، وصفة الشيء: هيئته التي يكون عليها، وبيان صفة الصلاة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بوسائل البيان المعروفة بالقول وبالفعل، أما بالفعل فكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: أنه صعد المنبر -وكان من ثلاث درجات- واستقبل القبلة وهو على الدرجة الثالثة فقرأ ثم ركع، ثم رفع من الركوع، ثم رجع القهقرى حتى نزل إلى الأرض وسجد في أصل المنبر؛ لأن الدرجة التي كان عليها لا تتسع للسجود، ثم رفع من السجود وهو في الأرض، ثم سجد السجدة الثانية، ثم قام وصعد المنبر، وقرأ وركع ورفع، ثم رجع القهقرى وسجد السجدتين، ثم تشهد وسلم ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . فهذا بيان لصفة الصلاة بالفعل، وهي الحالة التي تكون أيسر تعلماً؛ لأننا وجدنا أن الطفل يرى أبويه يصليان وهو لا يعرف شيئاً، فيأتي يحاكي كلاً منهما في الفعل وإن كان لا يعرف القبلة من غيرها، فربما واجه أباه وسجد تجاهه وليس تجاه القبلة، لأنه يرى حركات فيقلدها. وهكذا الحيوانات الراقية قد تقلد ما ترى من حركات؛ فالتعليم إما بالرؤية وإما بالسماع، والرؤية أقوى أثراً؛ لأن الإنسان بإمكانه أن يرى عدة مرئيات في وقت واحد، بينما لا يسمع عدة أصوات في وقت واحد أبداً، ولهذا أمثلة مما جاء في كتاب الله من إفراد السمع وجمع البصر كقوله: {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، ونجد علماء التفسير يقولون: في اللغة العربية السمع مصدر، والمصدر يستعمل للمفرد والمثنى والجمع، ونقول بجانب ذلك: إن طبيعة الإنسان في السمع لا تمكنه من أن يصغي لصوتين أو ثلاثة في وقت واحد ويعي ما قيل، بخلاف الرؤية، انظر إلى البساط الذي تجلس عليه، في وقت واحد ترى لوناً أحمر وأخضر وأصفر وأسود وأبيض في نظرة واحدة. ولذا تهتم دور التعليم بوسائل الإيضاح المرئية أكثر من المسموعة، فهنا صلى الله عليه وسلم بين صفة الصلاة فعلاً، وكذلك في الحج قال: (خذوا عني مناسككم) ، فكانوا ينظرون كيف يطوف، ويسعى، ويقف بعرفات، ويبيت بالمزدلفة، ويرمي الجمرات، وينحر الهدي. إلى آخره. فيكون فعله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] . وهذا الحديث بيان بالقول، ويعتني به علماء السنة والحديث، ويسمونه حديث المسيء في صلاته؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فقال له صلوات الله وسلامه عليه: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، فرجع فصلى كما صلى أولاً، ثم جاء فسلم فقال: (ارجع) ، وفي المرة الثالثة قال: والذي بعثك بالحق! لا أعرف غير هذا فعلمني، فالرجل اجتهد ثلاث مرات وصلى كما يعلم.

إسباغ الوضوء

إسباغ الوضوء في هذا الحديث بدأ صلى الله عليه وسلم بتعليمه لازم الصلاة، وهو الطهارة لها فقال: (إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء) ، فالرجل لم يتوضأ عندنا، ولم يره الرسول يتوضأ، ولكن من حكمة المفتي وفقهه وفطنته أن يراعي مصلحة المستفتي وكما تقدم حديث: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فماء البحر يصلح للوضوء ولا يصلح للشرب، فكان السؤال في خصوص الوضوء بماء البحر، فكان الجواب أبعد من ماء البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، ما الذي أتى بالميتة هنا والسؤال إنما هو عن طهارة ماء البحر؟ لماذا أفتاهم بحكم الماء وزادهم حكم ميتة البحر؟ وهل هذا غير مطابق للسؤال؟ بل هذا هو الجواب الحكيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك من حال السائل أنه إذا التبس عليه الوضوء من ماء البحر وهو يداوم ركوب البحر، فمن باب أولى أن يلتبس عليه حكم ميتة البحر، أو أنه في حاجة إلى معرفة حكم ميتة البحر؛ بحكم طول ركوبه البحر، فبيّن له حكم ما لم يسأل عنه؛ لأنه من لوازم المسئول عنه. وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الرجل في المسجد لم يحسن الصلاة، فبدأه بتعليم لازم الصلاة، فإذا كان لا يحسن الصلاة فلعله أيضاً لا يحسن الوضوء، فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ) والإسباغ التعميم، مثل قولك: صبغت الثوب، أي: عممته بالصبغ، والدروع السابغات هي التي تغطي المقاتل وما يخشى من إصابته في المعركة، ولما قالت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟! والخمار هو ما تخمر المرأة به رأسها ووجهها، والدرع هو ما تلبسه على جسمها كاملاً، فقال: (نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) ، إذاً: الدرع يكون سابغاً إذا كان يغطي ظهور القدمين، فإذا كان مرتفعاً عنها فليس بسابغ. (فأسبغ الوضوء) أي: توضأ وضوءاً سابغاً، وفي غزوة تبوك توضئوا على عجل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في أعقاب بعضهم لمعاً بيضاء، والعقب هو: مؤخر القدم عند التقاء الساق بالقدم عند العرقوب، وهذا التجويف قد لا يغسل عندما يمر عليه الماء، وقد يكون تجمع الهواء يمنع الماء من النزول إلى البشرة، فنادى صلى الله عليه وسلم وقال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) ، (أسبغوا الوضوء) ، أي: اجعلوا الوضوء سابغاً على أعضائه بحيث لا يكون فيه عضو منكشفاً، ولا يترك جزء من العضو المراد غسله لا يصل إليه الماء، ولهذا رأى المالكية وجوب الدلك؛ حتى يتأكد من أن الماء قد لمس جميع البشرة. إذاً: (أسبغ الوضوء) بمعنى: أن تجعل غسل الأعضاء كاملاً، فإذا أسبغ وضوءه تمت الطهارة، ولم يذكر له عدد الغسلات، وجاء في تعاليمه صلى الله عليه وسلم: مرة ومرتين وثلاث، وأقل ما يجزئ في الوضوء مرة، وأكمل الغسلات ثلاث.

اشتمال الحديث على أركان الصلاة

اشتمال الحديث على أركان الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (ثم استقبل القبلة وكبر) ، هذا الحديث يقول فيه بعض العلماء: هو أصل وأساس ما لا تصح الصلاة إلا به، وكل ما ذكر فيه واجب في الصلاة، وتبطل بتركه؛ لأنه جيء به في معرض التعليم، والتعليم أهم ما يكون لما تصح به الصلاة، ولا يجوز تأخير البيان للأمر الواجب عن وقت الحاجة؛ لأن هذا الرجل لم يحسن الصلاة، وهو في حاجة إلى أن يتعلم ما يصححها؛ فلا ينبغي أن يترك بيان شيء له يتعلق بصحتها، ولذا قالوا: كل ما ذكر في هذا الحديث فلا تصح الصلاة إلا به، وهل ما لم يذكر فيه تصح الصلاة بتركه؟ قالوا: إذا وجدنا عملاً زائداً عما جاء في هذا الحديث، وصح سنداً، ولم يتعارض مع ما جاء في هذا؛ فنضيفه أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يشترط في الصلاة، وترك ذكر بعض الأشياء التي تركها لا يبطل الصلاة. وتوسط قوم فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الرجل ما رأى أنه لم يحسنه، وما رآه يحسنه سكت عنه، وذكر له الوضوء على مظنة أنه في حاجة إلى تعليمه.

استقبال القبلة

استقبال القبلة قال صلى الله عليه وسلم: (ثم استقبل القبلة) ، ومعلوم أن الرجل كان يصلي إلى القبلة؛ لأنه رأى الناس يصلون إليها، ويعرف أن الصلاة تكون باتجاه القبلة، لكن لما كان الحديث في سياق التعليم شملها، وجاءه بمقدمة الصلاة وهو إسباغ الوضوء، ثم بأول حركة في الصلاة للإنسان وهي: استقبال القبلة. وبالإجماع أن الصلاة لا تكون إلا للقبلة، ما عدا في بعض الأحوال الاضطرارية أو التي يكون فيها تسامح، مثل النافلة في السفر، والفريضة في السفينة والطائرة في الوقت الحاضر، فقد يتعذر على الإنسان استقبال القبلة، فيتسامح فيها، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] . إذاً: الأصل استقبال القبلة في الفريضة، ويسقط هذا الأصل في النافلة، كما كان صلى الله عليه وسلم في سفره يصلي ورده بالليل على راحلته حيث توجهت به، فقد تكون القبلة وراءه، مثل أن يأتي من مكة إلى المدينة ويريد أن يصلي صلاة الليل، فلن يوقفها، وليس هو ذاهب ناحية مكة، فيصلي وهو مستدبر القبلة، وهذا لظروف السفر، وهذه الصلاة نافلة، أما الفريضة فلا تكون على ظهر الرواحل، ولا لغير القبلة، فينزلون ويصلون على الأرض، ويتمكنون من السجود، بخلاف الراحلة فإنه سيومئ عليها إيماءً، اللهم إذا كان هناك مطر وطين ولا يستطيعون السجود حتى في الأرض، فإذا كان ليس هناك سجود في الأرض فإنهم يبقون على رواحلهم، ويومئون على الرواحل بدلاً من أن يومئوا على الأرض؛ بسبب المطر والطين، وقد تقدمت التفصيلات في استقبال القبلة، وأن الفرض على البعيد هو استقبال الوجهة: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ، فمن كان في المدينة، لا يتأتى له أن يستقبل عين الكعبة، ويكون مسامتاً لها كالسهم، ثم إن خطوط الأرض بطولها وعرضها لا يمكن أن تحصر في سمت الكعبة، فيكون هناك مشقة بتكليف البعيد استقبال عين الكعبة، والفقهاء يقولون: الناس بالنسبة إلى الكعبة من حيث القرب والبعد ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يصلي في داخل المسجد الحرام، فهذا يتعين عليه أن يكون مسامتاً للكعبة، الصف حلقة دائرة، وحيثما كان يكون صدره مقابلاً لبنية الكعبة، هذا إذا كان في نفس المسجد. القسم الثاني: من كان في بيوت مكة، فيجب أن يستقبل المسجد لا عين الكعبة. القسم الثالث: من كان آفاقياً خارج مكة إلى آخر محيط الدائرة في الكرة الأرضية، فإن قبلته شطر المسجد الحرام. نحن الآن في المدينة شمال مكة، ومكة في الجنوب، فكل من توجه إلى الجنوب فهو مستقبل القبلة؛ لأن الشطر الجهة، أو نصف الكرة، النصف التي هي فيه من هناك، والنصف الذي نحن فيه من هنا. (فاستقبل القبلة) ، أي: بالقدر الذي تستطيعه، بما يتوجب في حقك بالنسبة إلى بعدك أو دنوك من الكعبة؛ لأن هذا تعليم عام؛ فيتوجب على كل من كان داخل الحرم أن يستقبل عين الكعبة، ومن كان بمكة إلى موطن الحرم، ومن كان بعيداً إلى شطر مكة.

تكبيرة الإحرام

تكبيرة الإحرام وبعد استقبال القبلة يكبر، وهو المعروف عند الفقهاء بتكبيرة الإحرام؛ لأنها تجعل المصلي في حرم الصلاة، وأصبح محرماً عليه ما كان جائزاً خارجها، فيحرم عليه الكلام والطعام والشراب والمشي والالتفات، وكل هذا يحرم بمجرد التكبير. ومن هيئة التكبير: أن يكون مع التكبير رفع اليدين حذو المنكبين. وهناك من يناقش في هندسة التكبير مع الرفع، هل أو يرفع ثم يكبر، أو يكبر ثم يرفع، أو يرفع مع التكبير؟ الذي عليه الفقهاء: أن كل ذكر جاء مع حركة في الصلاة، فإن الذكر الوارد يشغل بالحركة، فإذا كان قائماً يقرأ وأراد أن يركع وسيكبر للانتقال، لا يقول: الله أكبر، ثم يركع، أو يركع ثم يقول: الله أكبر، وإنما يكون نطقه: بـ (الله أكبر) مع حركته إلى تمام الركوع، قالوا: ليشغل فراغ الوقت في الحركة بالذكر الوارد لها. ويرفعهما: حتى يحاذي بهما منكبيه، وبعضهم يقول: إلى شحمتي أذنيه، وكما يقول علماء الحديث: ليس هناك اختلاف؛ لأن من نظر إلى شحمتي الأذن نظر إلى أطراف الأصابع، ومن نظر إلى المنكبين نظر إلى منتهى الكف، فإذا رفع الإنسان يديه وكان منتهى الكف عند الكتف، كانت الأنامل عند شحمتي الأذن، فسواء قلنا: عند منكبيه، فيكون فالنسبة لمنتهى الكف، أو قلنا: لشحمتي الأذن؛ فالنسبة لأطراف الأصابع، وكلاهما سواء.

ما يقرأ في الصلاة

ما يقرأ في الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وذلك بعد أن تكبر، وجاء الوصف برفع اليدين في نص آخر مصاحباً لها، (ثم) كما يقولون: للترتيب والتراخي، ولكنها هنا للترتيب، استقبل القبلة أولاً، ثم كبر، ولا تكبر وأنت على الشرق ثم تستقبل القبلة، أولاً استقبل القبلة، ثم يترتب على الاستقبال التكبير، ثم بعد التكبير القراءة، فتكون القراءة بعد أن يستوفي استقبال القبلة والتكبير. (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وجاء في بعض الروايات: (إن كانت الفاتحة معك تقرؤها، ثم ما تيسر من القرآن) ، وهنا ما تيسر، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، فالقرآن كله ميسر، ولكن التيسير نسبي، فشخص يسر الله له حفظ القرآن كله، وأنت تمكث مدة حتى تحفظ الفاتحة، ما تيسر لك، وما استطعت أخذه وحفظه، وبعض العلماء يقول: أيسر المتيسر في القرآن الفاتحة، وبعضهم يقول: الفاتحة مفروغ منها، ولكن ما تيسر معك بعد الفاتحة، والنص هنا بعد التكبيرة مباشرة، على الترتيب: (اقرأ ما تيسر معك) . فنقول: إن كان حافظاً للفاتحة فهي المتيسر، وهي المقدمة، وإذا لم يكن يحفظ الفاتحة ويحفظ غيرها مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ، فهل يقرأ بها أم لا؟ نعم، إذا لم يكن يحفظ الفاتحة، وقرأ سورة غيرها من سور القرآن فتجزئه، فإذا لم يكن حافظاً للفاتحة ولا غيرها من سور القرآن القصيرة، فماذا يفعل ولابد من ذكر هنا؟ إذا لم يكن يحفظ شيئاً من القرآن فليحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره، هذا عندما يذكر المؤلف تلك الروايات، فهنا العمل مسترسل، استقبل وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن. في الحج ما ما استيسر من الهدي وهو شاة، وهنا ما تيسر من القراءة وهي الفاتحة؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: إن حفظ الفاتحة فرض عين على كل إنسان، فإلى أن يتعلمها لا يقول: أنا لا أعرف ولا أحفظ ويسكت، فإلى أن يتعلمها يأتي وينتقل إلى التسبيح والتحميد كما سيأتي.

كيفية الركوع والسجود والطمأنينة فيهما

كيفية الركوع والسجود والطمأنينة فيهما قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، لاحظوا هنا يا إخوان: (كبر، ثم اقرأ ما تيسر، ثم اركع) هل هناك شيء من عمل الصلاة متروك؟ دعاء الاستفتاح بعد التكبير، وهذا وارد عنه صلى الله عليه وسلم؛ فـ أبي هريرة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر: أراك تسكت بعد التكبير وقبل القراءة، (قال: أقول: ... ) فهنا لم يذكره في هذا الموطن لأنه ليس بواجب، فالرسول لم يعلمه للمسيء صلاته، ولكن ما دام قد جاء بنصوص أخرى ننظر في هذه النصوص، وهل هي في درجة الإيجاب أو الندب أو غير ذلك؟ المهم هنا في هذا السياق ترك ذكر دعاء الاستفتاح، فقال: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، هنا وصف الركوع بأنه ملازم ومصاحب للاطمئنان، فقال: (حتى تطمئن) أي: وأنت في حالة الركوع، وسيأتي حديث: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، وسيأتي أيضاً أنه لم يصوب رأسه ولم يشخصه، يقول بعض السلف: حتى لو وضع القدح على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق، فقد كان معتدلاً اعتدالاً مثل الزاوية القائمة، فاعتدال الظهر لم يكن فيه انحناء، فاركع واستمر راكعاً حتى تطمئن، وليس بمجرد الهوي والوصول إلى مستوى الركوع ترفع، فإذا ركعت واستوى الظهر منحنياً ووصلت إلى حد الركوع فعلاً انتظر قليلاً، واطمئن واصبر في حالة ركوعك، يعني: انحناء في الحركة حتى تصل إلى درجة الركوع، ومع هذا الانحناء والوصول إلى درجة الركوع تظل ثاتباً تنتظر مطمئناً في هذه الحالة، إذاً: الطمأنينة تساوي الانحناء. ثم قال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) ، أي: ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل قائماً، وهذه النقطة ينبغي على بعض الإخوان أن يراعيها، وهي الرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين؛ لأننا نجد في كتب بعض المذاهب من يقول: هو ركن خفيف، ولم يأت خفيف ولا ثقيل في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم علّم الرجل أن يطمئن بعد أن يركع، وعلمه أن يرفع حتى يعتدل وبعض الناس ليس عنده طمأنينة في القيام، فبمجرد أن يصل إلى الاعتدال يهوي إلى السجود، وهذا لا يصح، فالاطمئنان في الاعتدال بعد الركوع كالاطمئنان في الركوع نفسه، فالركوع ركن، والطمأنينة في هذا الركن ركن. ثم قال: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وهنا أراح الناس من معركة شكلية، وهي: هل يبدأ يسجد بيديه أم بركبتيه؟ الصحيح أنه يسجد كيفما يتسهل له، والمهم أن يسجد على الأعظم السبعة، ينزل بركبتيه أو بيديه على ما تيسر له، بعض الناس ما شاء الله! رياضي ينزل بأطراف أصابعه على ركبتيه، ويقوم مثل الغزال، وبعض الناس يريد من يساعده، فلا نضيق على الناس، ولا نحجر واسعاً، واسجد كيفما تيسر لك، أما إذا كان الكل عندك سواء: فننظر ماذا صح من الكيفيتين: هل ينزل على ركبتيه أو على يديه؟ لا يبرك كبروك البعير، وكيف يبرك البعير؟ وهل ركبتاه في الأمام أم في الخلف؟ مسألة طويلة عريضة، ومتفقون بالإجماع أنه كيفما نزل إلى الأرض فقد سجد. فهنا قال: (ثم اسجد) ، ولم يذكر له التفصيلات، والسجود: هو تمكين الجبهة من الأرض، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ، أي: القدمين، واليدين، والركبتين، وهذه ستة، والجبهة وهي السابعة، لكن جاء هنا ركن خفيف على ما قال الأحناف: (وأشار بإصبعه إلى الأنف) ، أي: أن الأنف لا تساوي الجبهة في أعضاء السجود، لكنها لا تترك، كما جاء في حديث ليلة القدر: (فأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) ، ويقول الراوي: والله! لقد رأيت الطين على أرنبة أنفه، إذاً: وصلت الأنف إلى الأرض. ويفسر العلماء كيفية السجود على سبيل الإجمال: أن يكون باسط الكفين، فلا تضم، وبعض الناس يقول: يعجن، ووالله ما أدري ما هذا العجن! لكن حينما يكون الإنسان طاعناً في السن، ويريد أن ينهض، فيضمها من أجل أن يستطيع النهوض، لكن في كل الحالات سواء إذا كان مثل المرأة عندما تعجن، أو مثل الإنسان عندما يعجن في العجين، فهذه لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة، إنما قال بها بعض العلماء لوجود حديث عند أبي داود في ذلك، ولكنها حالة رئيت وصورة نقلت! واتفقوا أنه في حالة السجود يكون باسطاً لأصابع كفه، ناصباً لقدميه على رءوس الأصابع. وهنا نرجع إلى سبعة أعظم، فقد ذكر القدمين وهما اثنان، مع أن كل قدم فيه خمسة أصابع، لكن ليست هي المقصودة، فالقدمان عشرة أصابع، والكفان عشرة، فصارت عشرين، فالرسول ذكر سبعة، وذكر اليدين والكفين وهي المعتبرة، وأن تكون القدمان منتصبتين، وأطراف أصابع القدمين متجهة إلى القبلة، فإذا كان يصعب عليه هذا الشيء، بأن كانت أصابعه قصيرة، فلا مانع لو ظلت قدمه على رءوس أصابعه ولم يثنها إلى القبلة، ولو صعب عليه وثناها إلى الخلف فليس هناك مانع، لكن إن أمكنه ذلك فهو الأفضل. (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وليس بمجرد أن تصيب جبهتك الأرض فترفعها، ولكن تطمئن، وحد الاطمئنان في السجود والركوع إلى متى؟ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن الرسول سجد وأطال في السجود، ثم همت أن تغمزه، قالت: ظننت أنك قبضت) ، أي: لطول سجوده، وهل كل إنسان يستطيع ذلك؟ لا، فإذا كان الإنسان يصلي وحده فيطول كما شاء، لكن لا ينعس! والمالكية يقولون: إذا نعس وهو راكع لا تبطل الصلاة، وإذا نعس وهو ساجد بطلت، قالوا: لأن النعاس مع الركوع يكون خفيفاً، ولو زاد لسقط على الأرض، بخلاف النعاس مع السجود، فيوجد سبعة أركان يعتمد عليها؛ فيشبع نوماً ولا يسقط. فإذا كان الإنسان وحده فلا حد للطمأنينة، أما إذا كان يصلي بالناس فكيف يكون الحال؟ يرى العلماء رحمهم الله أن أقل الطمأنينة بقدر ثلاث تسبيحات، وأذكر عالماً كان في زمن الملك عبد العزيز، وكانوا ثلاثة من العلماء، واحد في مكة واثنان في المدينة، وكان أحدهم مسئولاً عن التفتيش في التدريس، وواحد ندبه للصلاة، فقال: بشرط أني في السجود والركوع أسبح ثلاث عشر تسبيحة، فالملك عبد العزيز يغفر الله له قال: هذا تطويل على الناس، فجاء الرجل وسألته: لماذا اشترطت هذا الشرط وفي السنة: (من أمّ بالناس فليخفف) ؟ فقال: أنا لا أريد أن أصلي بالناس، ولذا اشترطت هذا حتى يقولون لي: أنت لا تصلح للصلاة! وفعلاً ما تولى الإمامة. فجعلوا حد الطمأنينة أن الجسم -والعمود الفقري مركب من عدة فقرات- حينما يكون قائماً ويتحرك الظهر إلى الركوع، فإلى أن تطمئن الفقرات في أماكنها وتستقر هذه طمأنينة، وكذلك في السجود. وهناك بحث أصولي: الزائد عن الواجب واجب أم ليس بواجب؟ فمثلاً: أقل الواجب ثلاث تسبيحات، فإذا سبح عشرة وكان وحده وليس إماماً، فهل العشر تسبيحات واجبة أم الواجب الإتيان بثلاث، والسبع ليست بواجبة؟ وماذا يترتب على هذا؟ هل يثاب على العشر تسبيحات ثوابه على الواجب؟ في الحديث القدسي: (أفضل ما تقرب العبد إلي بما افترضته عليه) ؛ لأن أجر الواجب أعظم من أجر التطوع، أو أن الكل واجب لأنه متصل ولا فاصل بينها، يهمنا أن أقل ما يصدق عليه طمأنينة في الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين قدر ثلاث تسبيحات، وفي الاعتدال من الركوع إذا أتى بالزمن الذي يسع الثلاث يكون قد اطمأن، وإن زاد زاد الله له في حسناته. (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) ، أي: من السجود حتى تطمئن جالساً، ولا تقل: هذا ركن خفيف، وترفع وتعود إلى السجود دون أن يستقر الجسم قاعداً، لابد أن توجد هيئة الجلوس ومعها طمأنينة. (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، أي: اسجد السجدة الثانية كما سجدت الأولى حتى تطمئن ساجداً. (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وإذا فعل هذا في صلاته سواء كانت ركعتين أو أربع، فهل بمجرد ما فعل هذا انتهت الصلاة؟! أين الجلسة للتشهد الأوسط والأخير؟ وأين التسليم؟ فهل ذكر له جلستي التشهد؟ لم يذكرهما، وهل ذكر له التسليم؟ لم يذكره؛ ولذا قال الأحناف -وإن كان هذا لم يتفق عليه في مذهبهم-: أنه إذا انتهى من التشهد، وصدر منه ما ينافي الصلاة فقد تمت صلاته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر له السلام كعلامة على الخروج من الصلاة، والجمهور يقولون: افتتاحها التكبير، واختتماها التسليم. فهنا يقول العلماء: إنما ذكر له الطمأنينة لما رآه يتعجل ولا يقيم للصلاة طمأنينتها، وسكت عن الجلوس للتشهد السلام؛ لأنه رآه جلس وتشهد وسلم، فهو ليس بحاجة إلى تعليم التشهد ولا السلام، فيكون حديث المسيء في صلاته إنما فيما رآه صلى الله عليه وسلم من تقصير الرجل، وسكت عن الباقي المجزئ، وهذه وجهة نظر من يرى أن هذا الحديث خاص بما جهله الرجل، وبما لم يحسنه في صلاته التي رآه فيها صلى الله عليه وسلم. وإلى هنا انتهى شرح الحديث في الجملة.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [2]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [2] ورد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، ومن أجمعها وأشملها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، فقد ذكر فيه دقائق صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، سواء في القيام أو الركوع أو السجود أو حتى الجلوس للتشهد الأخير. ثم أتى المصنف رحمه الله بحديث علي في دعاء الاستفتاح للصلاة، وهو حديث عظيم يحمل معالم الاستسلام والتوحيد لله عز وجل.

شرح روايات حديث المسيء صلاته

شرح روايات حديث المسيء صلاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. المؤلف رحمه الله أتى بروايات أخرى لحديث المسيء صلاته، فقال: [ولـ ابن ماجة بإسناد مسلم: (حتى تطمئن قائماً) . ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) . ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) ] . أي: حتى ترجع العظام إلى مواقعها، فقد كان راكعاً والظهر معتدلاً، فإذا ما تحرك للرفع تحركت العظام؛ فيجب أن يظل قائماً حتى ترجع العظام إلى أماكنها مستقرة، لأنها مفاصل والمفاصل قابلة للحركة عدة درجات، فإذا اعتدل يجب أن يظل قائماً أو معتدلاً -على حسب الروايات- حتى ترجع العظام في أماكنها وفقراتها. قال: [وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ] . في الحديث المتقدم قضية وهي: أن رجلاً رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حالة لا تجزئ، ويحكى في بعض الروايات: (لو مت على ذلك لم ترح رائحة الجنة) ، وفي بعضها: (دخلت النار) ؛ ولهذا يقول العلماء: إن هذا الحديث أشد ما يكون تحذيراً من التراخي والتهاون في أداء الصلاة، والصلاة التي لا يتم ركوعها وسجودها تلف كما يلف الثوب الخرق ويرمى بها في وجه صاحبها، ولا تفتح لها أبواب السماء. إذاً: يلزم كل إنسان في أداء صلاته أن يطبق هذا الحديث، وكله يدور على الطمأنينة، وقراءة ما تيسر من القرآن. وفي رواية النسائي توجيه الخطاب للعموم: (إنها لا تتم صلاة أحدكم) ، وقوله: (أحدكم) ، تشمل الجميع بسبيل البدلية من الأحدية، أحد، أحد، أحد أحدكم: كل واحد منكم. وقال: (حتى يسبغ الوضوء) ؛ لأن الوضوء هو مفتاح الصلاة، وعليه تنبني، فإذا كان الوضوء غير سليم بأن كان الماء متنجساً، أو مغصوباً -كما عند الحنابلة- أو كان الغسل غير سابغ للأعضاء -كما عند الجمهور- فليس هناك فائدة من صلاته حتى يسبغ الوضوء. وقوله: (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ، بم أمره الله؟ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وهذا الحديث نص صريح في قضية يتنازع فيها العلماء: هل الترتيب شرط في صحة الوضوء أم لا؟ الشافعي يرى أن الترتيب واجب، وأخذ ذلك من إدخال الممسوح بين مغسولين في الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] ، فـ الشافعي قال: إذا كانت المسألة ليس فيها ترتيب كان سيجعل الممسوح على حدة بعد أن يكمل المغسولات؛ وذكر غسل الرجلين أنسب مع اليدين، ثم يذكر مسح الرأس، أو يقدم مسح الرأس مع الوجه؛ لأنه أقرب إلى الوجه، ثم يأتي باليدين وينزل إلى الرجلين، فلما أدخل مسح الرأس بين اليدين والقدمين وهما مغسولان وجب أن نضع المسح في مكانه، ومن هنا وجب الترتيب. وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ، وبماذا أمر الله؟ وجوهكم، وأيديكم، ورءوسكم وأقدامكم، إذاً: من غير هذا الترتيب لم يتوضأ كما أمره الله، ولا حاجة إلى ذكر ما روي عن علي على خلاف: (لا أبالي إن غسلت قدمي قبل أو وجهي قبل) ، ولو صح هذا ونقل فيكون شاذاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ما توضأ إلا كما أمره الله، يبدأ بالوجه ويختم بالقدمين. (ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه) ، ثم يكبر الله تعالى ويحمده بقوله: الحمد لله، ويثني عليه، والثناء هو مدح المثنى عليه، ويقولون: هناك فرق بين الحمد والثناء، وبعض العلماء يفسر الحمد لغة بالثناء، لكن الحمد شيء، والثناء شيء آخر، فالحمد هو: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، أما الثناء على المحمود أو على المثنى عليه فلحسن صنيع صدر منه، ولو لم يصل إليك، والشكر: ثناء عليه في مقابل نعمة أسداها إليك، فتحمد وثني وتشكر. فالحمد لا يكون مطلقاً إلا لله، ولذا يقولون: (ال) في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، فقد استغرقت جميع المحامد لله؛ لكمال ذاته وصفاته، ولو لم يصل إلى الخلق منه شيء، فهو في ذاته كامل الذات والصفات، فكان الحمد كله إليه. أما الثناء في اللغة فهو لحسن صنيع ممن يثنى عليه ولو كان غير مسلم، مثلاً: سمعت بطبيب ماهر عالج المرض الفلاني، أو اخترع الدواء الفلاني، ونفع الله به الخلق، وهو غير مسلم، هل تثني عليه أم تسبه؟ لاشك أنك تثني عليه؛ لأنه صنع صنيعاً حسناً، سواء كان مسلماً أم كافراً. إنسان صنع لك معروفاً وأوصله إليك فعلاً، ضاع ولدك مثلاً وأتاك به، سقط منك شيء مهم وجاء إليك به، دفع عنك ضراً، ولو كان غير مسلم تشكره على هذا الصنيع أم تجحده؟ تشكره. طبيب يهودي أو نصراني، وعندك مرض خطير، وليس في العالم أحد يعالج هذا النوع من المرض إلا هذا الطبيب، وهو على دينه الذي هو عليه، فعالجك، وأجرى الله لك الشفاء في علاجك على يديه، هل تذكره بالخير أم بالسوء؟ تذكره بالخير، وتدعو الله له بالإسلام. إذاً: الحمد والثناء والشكر كلها أعمال في مقابل، فالحمد المقابل لكمال الذات والصفات، والثناء لإحسان وإجادة فعل، والشكر لمن أسدى إليك معروفاً وصل إليك عنه، فاحمد الله واثن عليه، وهل المراد بهذا في الفاتحة؟ الفاتحة فيها حمد وثناء لأنك تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، وكل هذا ثناء على الله. وقوله: (وإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره) ، هذا التفسير في رواية النسائي: (إن كان معك قرآن) ، وقرآن يشمل ما بين دفة المصحف الأولى إلى دفته الأخيرة، من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس، معك شيء من هذا القرآن ولو آية اقرأ بها، ولو لم يكن معك شيء من القرآن؛ فيجزئك أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتذكر الله بالتسبيح والتحميد إلى أن تحفظ الفاتحة. ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله) ، اقرأ بأم الكتاب إن كنت تحفظها، وإن كانت معك، وليس هناك معارضة مع ما قبلها: (إن كان معك من القرآن) ، والفاتحة إن كان يحفظها فهي من القرآن. ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ، ثم بما شئت بعد الفاتحة من آية أو سورة صغيرة.

شرح حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي

شرح حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي قال رحمه الله: [وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه) ] . حديث أبي حميد الساعدي هذا يكاد يكون أجمع الأحاديث في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساقه ابن القيم رحمه الله تحت قوله: صفة صلاة رسول الله من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم كأنك تراها. وساقه بزيادة على بعض الألفاظ الموجودة هنا نوعاً ما، لكن بروايات أخرى.

رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام

رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر) ، وتقدم التنبيه على أن هناك كلمات منحوتة من أكثر من لفظ، كبر: أي قال: الله أكبر، وسبح قال: سبحان الله، وهلل: قال: لا إله إلا الله. وأخذ العلماء فيه أن افتتاحية الصلاة إنما هي بقول: الله أكبر، وأشرنا إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله في ذلك، وأنه يرى صحة افتتاح الصلاة بأي لفظ فيه تعظيم لله؛ ونظر في ذلك إلى معنى التكبير، لكن الجمهور يقولون: الصلاة تعبدية، والرسول صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته أن يكبر، وهنا كان صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه، ويبين الغزالي رحمه الله في هذه الحالة: أن رفع اليدين حذو المنكبين بجعل بطون كفيه إلى القبلة، وظهورهما إلى الوراء، ويقول: فيه الإشارة إلى أن المصلي حينما يقف بين يدي الله ويرفع يديه على هذه الحالة كأنه يشير إلى إقباله على الله، ورفض الدنيا وراء ظهره؛ لأنه يجعل ظهور كفيه إلى الوراء، فكأنه يقول: أنا تركت أمور الدنيا، وأقبلت على الله. وتقدم أيضاً التنبيه على كلمة: (حذو منكبيه) ، وفي الرواية الأخرى: (شحمتي أذنه) ، والجمع بين ذلك: أن حذو منكبيه لأول الكفين، وشحمتي أذنه لأطراف الأنامل، وبعض العلماء يقول: المرأة كالرجل في ذلك، ولكن الأولى لها ألا تتجاوز حذو منكبيها، لئلا يكون هناك مبالغة في رفع اليدين.

هيئة الركوع

هيئة الركوع قال: (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره) ، ولم يذكر لنا القراءة؛ لأنها معروفة، وغيره يذكر قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفريضة، والاقتصار على المفصل، سواء من طوال المفصل أو قصاره أو أوسطه، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تذكر لنا قراءته في قيام الليل، وأنه ربما خفف القراءة، وربما أطال فيها، وربما قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة. إذاً: أبو حميد يذكر لنا الهيئة والكيفية العملية، فإذا ركع ماذا فعل بركبتيه؟ (أمكن يديه من ركبتيه) ، ولم يستند على الركبتين ولكن أمكن، وكيفية الإمكان كما يقول العلماء: ألقم كفيه ركبتيه، ويفرج الأصابع ويقوسهما بحسب حالة الركبتين، وكأنه يمسك على الركبتين بأصابعه، فيصير متمكناً من إمساكه الركبتين بكفيه، لا مجرد استناد أو وضع، ولكن بالتمكين؛ وذلك بتفريج الأصابع وقبضها على الركبتين. (ثم هصر ظهره) ، هصر بمعنى: مداً معتدلاً، ليس فيه تقويس، ولا ارتفاع، قالوا: لو أن إنساناً أتى بقدح من ماء ووضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح، لاستواء الظهر تحت هذا القدح. (فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه) ، فإذا رفع رأسه من الركوع اعتدل، بمعنى: استوى قائماً معتدلاً لا منخفضاً إلى الركوع، ولا هوياً أكثر من ذلك بل اعتدل، وفي حالة هذا الاعتدال تأتي الطمأنينة، وعبر عنها بقوله: (حتى يعود كل فقار مكانه) أو يعود كل عظم مكانه، وأشرنا إلى أنهم يقولون: إن ظهر الإنسان فيه ما يسمى العمود الفقري، وهو مركب من عدة فقرات، ومن الممكن فصل بعضها عن بعض، وترى ذلك بوضوح في الهيكل العظمي، سواء كان في الإنسان أو الحيوان، والنخاع الشوكي يمر في هذه الفقرات، فمراده بقوله: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، أن يستوي ويستقر في موضعه.

هيئة السجود

هيئة السجود قال: (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما) ، في عرض أبي حميد رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا من الحركات: رفع اليدين حذو المنكبين، وتمكين يديه من ركبتيه، وهصر ظهره، ورفعه من الركوع، وبعد الرفع من الركوع سجد! إذاً: ليست هناك حركة بعد الرفع من الركوع ورجوع كل فقار مكانه وبين السجدة، رفع وانتظر حتى يرجع كل عظم مكانه، ولم يذكر وضع اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وممكن أن نقول: لم يذكره أيضاً عند قيامه للقراءة، قال: إذا كبر رفع، وإذا ركع أمكن، فلم يذكر وضع اليمنى على اليسرى عند القراءة، مع أن ذلك من السنة. فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابض، والافتراش منهي عنه كما في الحديث: (نهى أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع) ، والافتراش هو: أن تجعل الذراع كاملاً على الأرض، والصحيح أن ترفع مؤخر الذراع، فالمرفق لا يكون ملاصقاً للأرض، وتضع اليدين فقط، أي: الكفين، وبقية الذراع لا تلصقه بالأرض؛ لأن التصاق الذراع بالأرض هي صفة السبع حينما يكون باركاً، فيقول العلماء: جاء النهي عن أن يتشبه الإنسان في صلاته بكثير من الحيوانات، فنهي عن افتراش السبع، وإقعاء الكلب، ونقر الديك، والتفات الثعلب، وأن يقف وقوف الفرس الشموس، وهو: أن يبادل بين قدميه؛ فمرة يعتمد على هذه ويرفع الأخرى، ثم يعتمد على الأخرى ويرفع تلك، أو ربما رفع إحدى قدميه عن الأرض، فكل ذلك جاء النهي عنه للمصلي، فلا يتشبه في صلاته بتلك الحيوانات. (غير مفترش) أي: غير ممكن ذراعيه من الأرض، بل يكون مرتفعاً من الخلف، (ولا قابض) أي: لا يكون قابضاً لهما إلى جنبه، ويسجد بين يديه، وليس مفترشاً كالسبع، ولا ماددها طويلاً، ولا قابضها إلى جنبه. وبعض الناس قد يغالي في وضع اليدين وعدم افتراشهما، وعدم قبضهما، ويجافي بيديه عن ضبعيه، ويكون ما بين منكبه وشاكلته قدر الذراع، وهذا إذا زاد عن الوضع الطبيعي يكون فيه شذوذ، لكن يكون معتدلاً، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها؛ لأنه أستر لها، ونقول لهذا الذي يفعل هكذا: المجافاة لها حد، فإذا كنت في الجماعة تفعل هكذا، والذي بجانبك يفعل هكذا، فأين يذهب الناس؟! إن كنت منفرداً فنعم، ولكن بغير صورة خارجة عن المألوف؛ لأن هذا يستدعي الانتباه، ويلفت النظر، وكل شيء جاوز حده فليس مطلوباً، لا إفراطاً ولا تفريطاً، لا تضمها إلى جسمك، ولا تجافي بها إلى حد النشوز والشذوذ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه لا ذراعيه، ولا يفترش افتراش السبع. قال: (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) ، أي: عند السجود يستقبل بأطراف أصابع قدميه القبلة، فينصب القدمين، ولا يضع رءوس أصابع القدمين على الأرض، فتكون الأظفار هي المرتكزة على الأرض، ولكن تنحني أصابع القدمين معها، هذه هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هيئة الجلوس بين السجدتين والتشهد

هيئة الجلوس بين السجدتين والتشهد قال: (وإذا جلس في الركعتين: جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى) ، وإذا جلس بين السجدتين جلس على رجله اليسرى، أي: على بطن قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى على أطراف أصابعها إلى القبلة، وهذه الجلسة بين السجدتين، وعند التشهد الأوسط. (وإذا جلس في الركعة الأخيرة: قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته) ، في الجلسة الأخيرة التي فيها نهاية الصلاة والسلام لا يجلس على قدمه اليسرى كما جلس بين السجدتين، ولا كما جلس في التشهد الأول، ولكن يقدم رجله اليسرى، وينصب اليمنى كما نصبها في الجلسات الأول، وإذا قدم رجله اليسرى عن مستوى جلوسه الأول، فسوف يجلس على إليته مباشراً للأرض، والرجل اليسرى التي كان يجلس عليها خرجت من تحت اليمنى، واليمنى على ما كانت عليه، وهذه يسمونها جلسة التورك، والعلماء يستنتجون من هذه الهيئة أنه كيفما فعلت في هيئتك في الصلاة لا يستطيع إنسان أن يقول: إن صلاتك باطلة، فمن لم يمكن يديه من ركبتيه ووضعهما على ركبتيه فقط، أو لم يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى، أو نصب ثنتين ولم يجلس على إليته في التشهد الأخير، وجلس كما يجلس في التشهد الأول، فباتفاق العلماء أن الصلاة صحيحة، لكن لا ينبغي أن يتعمد ترك السنة وهو يستطيع فعلها. لماذا فرق بين الجلسة في التشهد الأوسط والجلسة في التشهد الأخير؟ قالوا لأمرين: الأمر الأول: أن الجلسة في التشهد الأول خفيفة، ويمكنه أن يجلس على قدمه اليسرى ولا يتألم لذلك ولا يحصل عليه ثقل، بخلاف الجلسة في التشهد الأخير فإنها أطول، فيحتاج إلى جلسة أكثر راحة، والتورك لو أطال بهيئته الجلوس لا يشق عليه، هذا من جهة المصلي. الأمر الثاني: إذا جاء المسبوق ورأى الإمام جالساً، فهو لا يدري: أهو في الجلوس الأوسط أم الجلوس الأخير؟ فإذا رأى هيئة الجلسة ميز بينهما، فإذا كان على رجله اليسرى فهو في الأوسط، وإذا تورك وجلس على الأرض فهو في الأخير، فهذه الهيئة تعطي المتأخر المسبوق إشارة في أي أنواع الجلسات، وفي أي فترة من فترات الصلاة، والله أعلم.

قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة

قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة يقول أهل العلم: إن حديث أبي حميد هو أوفى وأوسع حديث في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يجمعون في ذلك أطراف الأحاديث، وابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة -وهو كتيب صغير- يقول: وإليك صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم، وما ترك جزئية ترد في الصلاة إلا وذكرها، وذكر سندها، واعتمد في عرضه على حديث أبي حميد هذا، وعند كل حركة يأتي بما أتى فيه، فيأتي عند استقبال القبلة، والتكبير ورفع اليدين، ثم ينتقل إلى الأذكار، ودعاء الافتتاح. إلخ. ومعلوم أن أي صيغة افتتحت بها الصلاة أجزأت، والمؤلف هنا لم يذكر لنا في حديث أبي حميد صيغة من صيغ افتتاح الصلاة، وإنما أتى في ذلك براوية عن علي وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم بعد التكبير وفي حالة الافتتاح يأتي ابن القيم أيضاً وغيره بما ورد عنه، وقد ألفت كتب في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أدعية الافتتاح حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله: ما هذه السكتة بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة؟ لأنه إذا كانت الصلاة جهرية فكبر لم يباشر القراءة بعد التكبير بل هنا سكتة، فيقول: سألت رسول الله عن هذه السكتة، فقال: أقول. ، وذكر دعاء الافتتاح بعد تكبيرة الإحرام، وقبل أن يبدأ بالقراءة، ثم يذكر الركوع، وأنواع القراءة، وينبه على أنه صلى الله عليه وسلم في غالب أحيانه لا يأتي بآية من نصف السورة ويركع، ولكن إما أن يقسم السورة بين الركعتين، وإما أن يبتدأ بأول السورة، ويقول: لم يأت عنه أنه أخذ آيات من آخر أي سورة، إما من أولها وينتقل إلى أخرى من أولها، أو يقسم السورة بين الركعتين، أو يأخذ سورة من سور المفصل بكاملها في الركعة، وهذا عند مالك هو الأحب: ألا يجتزئ ببعض الآيات، ويقول: الأولى أن يأخذ سورة كاملة. وهذه في الواقع نظرة دقيقة جداً؛ لأن السور الصغار تجدها موضوعية في ذاتها، وانظر مثلاً إلى (لإيلاف قريش) ، موضوعها مطالبتهم بعبادة رب البيت في مقابل أنه أطعمهم وآمنهم، يعني قضية مستقلة بأدلتها، وكذلك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، قضية في قصة مكتملة في هذه السورة، وخذ مثلاً: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، موضوعها توحيد الباري سبحانه وتعالى، خذ (الفلق) ، (الناس) ، (الكوثر) ، (التكاثر) ، (القدر) ، كل سورة من السور الصغيرة تجدها تشتمل على موضوع مستقل مكتمل، ولكن لما تأتي وتأخذ من سورة الرحمن ستأخذ وصفاً جزئياً، وتأتي إلى سورة الواقعة ستأخذ مثله أيضاً، وتأتي إلى سورة البقرة وتأخذ أيضاً قضية جزئية؛ ولذلك مالك رحمه الله استحب أن المصلي يقرأ مع الفاتحة سورة كاملة، فكونه وحده يأخذ سورة طويلة أو إمام يأخذ سورة صغيرة، فهذا أولى عنده من أن يأخذ بعض آيات من بعض السور. ويذكر ابن القيم رحمه الله وغيره أن قراءته صلى الله عليه وسلم لم تكن على وتيرة واحدة، ولم يلتزم سورة معينة في صلواته الخمس، ولكن ربما أخذ شكلاً معيناً في صلاة الصبح يوم الجمعة: (السجدة، وهل أتى) ، ويقولون: المناسبة أن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه خلق آدم، وأسكن فيه الجنة، وأنزل إلى الأرض، وتاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وسورة السجدة فيها تذكير بيوم القيامة، وكذلك سورة هل أتى على الإنسان فيها تذكير بحياة الإنسان ابتداءً ومنتهاه في يوم القيامة، فتناسب الزمان مع موضوع القراءة، وكذلك يمكن في الجمعة قراءة سورة ق وغيرها، وفي العيدين سبح والغاشية، وهذا كان يتكرر منه صلى الله عليه وسلم. أما في الصلوات الخمس فلم يكن يعتاد قراءة سورة بعينها ويكثر من إيرادها في الصلاة، وسورة (ق) كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الخطبة يوم الجمعة، وبعض الصحابيات تقول: ما أخذت (ق) إلا من رسول الله على المنبر، تعني يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقرأ بالطور في المغرب، لكن لا يلزمها في كل الصلوات. إذاً: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على وتيرة واحدة، بل جاء عنه قوله: (كنت أدخل في الصلاة بنية الإطالة فأسمع بكاء الأطفال فأخفف شفقة بالأمهات) ؛ لأن الأم إذا سمعت طفلها يبكي لم يعد يبق في الصلاة. إذاً: مما يذكرونه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: موضوع القراءة. ثم يركع، والذكر الوارد في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، وإذا رفع من الركوع قال: سمع الله لمن حمده. ربنا لك أو ربنا ولك. ويناقش بعض العلماء: هل هما سواء، أم أن زيادة الواو تدل على زيادة معنى؟ فبعضهم يقول: الواو عاطفة على جملة محذوفة: (سمع الله لمن حمده) ربنا اغفر لي ولك الحمد، ما دام يسمع من حَمِده فنحمده ويسمعنا، وهناك من يزيد بعض الألفاظ الأخرى، وكل هذا مدون ومذكور في كتب الحديث والأدعية: (حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ... ) مما يشعر بأن الرفع من الركوع يستغرق زمناً لمثل هذا الدعاء، وفي هذا رد على من يقول: إنه ركن خفيف بمجرد الاعتدال منه يمكن أن يهوي للسجود.

شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا)

شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً) قال رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، إلى قوله: من المسلمين) ] . هذا يذكره علي رضي الله تعالى عنه إذا قام إلى الصلاة، وهل يقوله في الصلاة أم خارجها؟ يقوله: في الصلاة بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام. و (فطر) أو (خلق) كلاهما ورد في الشرع، وفطر بمعنى: أوجد على غير مثال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] ، وكذلك: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، بأن أوجد الشيء على غير مثال يحاكيه، فطر السماوات والأرض، وفي هذا تعظيم لله واعتراف بربوبيته وقدرته سبحانه وتعالى وجهت وجهي لمن يستحق أن أتوجه إليه بسبب عظمته وقدرته. حنيفاً: أي: مائلاً عن الشرك مسلماً لله، (وما أنا من المشركين) يتبرئ من الشرك في هذا المقام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، والنسك كل العبادات، ومحياي، أي: مدة حياتي وما أتصرف به في الحياة. إن بعت، أو اشتريت، أو كافأت، أو عاملت يكون كل تعاملي لله، بمعنى: أن أراعي فيه ما شرع الله، وأقصد فيه رضا الله، وأتبع فيه ما شرع الله حياتي لله، العالم كله لله رب العالمين، فهذا الإنسان يجدد الإقرار والشكر لله. (محياي) مصدر ميمي أو اسم زمان أيضاً، وحياة الإنسان كلها لله، إن نام لله، وينوي بذلك شكر الله على نعمة الصحة والعافية، والاستعانة على ما سيأتي من عمل آخر، وإن قام وسعى لله، وإن اكتسب لله؛ لأنه يصرفه في سبيل الله. ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فمر شاب فتى قوي، فقال أحد الحضور: لو كان هذا النشاط في سبيل الله؟! يعني: بقوته ينكأ في العدو، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله -أي: خير من أن يتكفف الناس السؤال- وإن كان خرج يسعى على أبويه فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على زوجه وعياله فهو في سبيل الله) . إذاً: معنى محياي: أنني ما تحركت حركة ولا اكتسبت مكسباً إلا لله، ولأجل أن يصرف في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكذلك مماتي مرده لله رب العالمين لا شريك له. {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، وبذلك أمرت بأن تكون حياتي كلها لله، كما في الحديث: (حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها) ، هل الله سبحانه وتعالى سيحل في الإنسان، ويكون عينه وسمعه وبصره ويده ورجله؟! حاشا لله! لكن المعنى: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني، فلا يتصنت إلى ما لا يجوز له، ولا يستمع إلى ما حرم الله، ولا يشارك في غيبة ولا نميمة، وبصره لا ينظر به إلى الحرام، بل ينظر نظرة اعتبار وتأمل في خلق الله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191] ، فإذا عرض له محرم غض بصره، وكذلك يده لا تمتد إلى ما حرم الله، ولكن تعمل وتسعى فيما هو لله، وكذلك محياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين أو وأنا أول المسلمين، إن قال: أول المسلمين فلا بأس تبعاً للنص، وإن قال من المسلمين على العموم فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم. هذا من صيغ الافتتاح ولك أن تأخذ بهذه الصيغة، أو أن تكتفي في افتتاح صلاتك بما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه. وفي رواية: (إن ذلك في صلاة الليل) ، وسواء في صلاة الليل، أو النهار أو أي حالة من الحالات فإن هذا نوعاً من الدعاء الذي يأتي به الإنسان في افتتاح صلاته. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وحبيبه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3] كما وجد الأذان في الشرع لتهيئة العبد إلى ما هو مقبل عليه من أداء للفرائض؛ كذلك شرع دعاء الاستفتاح لتهيئة أخرى؛ فهو يجمع في طياته جملاً عظيمة من التوحيد تهيئ العبد للإقبال على الله تعالى بكل معاني الإخلاص والتجرد له سبحانه، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، قد خلف وراءه كل المعاصي وابتعد عنها واغتسل منها كل ذلك ليكون أهلاً لمغفرة الله ورضوانه لما سيكون منه فيما بعد من دخول في الصلاة بخشوع.

شرح حديث: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي.

شرح حديث: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فسألته فقال: (أقول: اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، متفق عليه] . يذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما جاء في دعاء الافتتاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فقد لاحظ أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام يسكت هنيهة، فسأل: ما تقول في هذه السكتة يا رسول الله؟! فبين له ما يقول في هذه السكتة. وفي هذا الحديث يبحث العلماء في سكتات الإمام في الصلاة، فبعضهم يقول: الأولى: السكتة للاستفتاح، وهي محل اتفاق، والثانية: بعد قراءته سورة الفاتحة وقبل قراءة السورة التي بعدها، والثالثة: بعد قراءته السورة، فهذه ثلاث سكتات: بعد تكبيرة الإحرام، وبعد قراءة الفاتحة، وبعد الفراغ من القراءة كلية وقبل أن يركع، وبعضٌ ينازع في الثانية ويقول: إذا أنهى قراءة الفاتحة شرع في قراءة السورة أو الآية التي بعدها، وبعض يثبتها حتى يعطي المأموم الفرصة ليقرأ الفاتحة، وبعض يذكر الخلاف في السكتة الأخيرة قبل الركوع، والسكتة التي قبل الركوع أثبت من السكتة بين الفاتحة والسورة التالية.

طلب المباعدة بينه وبين الخطايا

طلب المباعدة بينه وبين الخطايا قوله: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) . هذا الدعاء يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وهو لا خطيئة له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] ، وجاء التنبيه على لفظ (اللهم) : بزيادة الميم في الأخير بدل ياء النداء، أي: (يا الله باعد) فيحذف ياء النداء ويأتي بالميم في الأخير: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ، وهذه المباعدة لتلك الخطايا في الماضي أم للمستقبل؟ إن كانت عن الماضي فهي بمعنى: اغفر لي وارحمني واصفح عني، ولا تجعل بيني وبينها اختلاط ولا اجتماع بأن تغفرها لي: فإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فماذا يباعد؟ قالوا: هذا تعليم لنا، وهي زيادة رفع له في درجاته صلى الله عليه وسلم، كما لو فرضنا أن إنساناً يستغفر الله بكثرة وليس عنده ذنوب؛ فيكون استغفاره رفعه له في درجاته، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، سبحان الله! الرسول يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة! والتوبة لا تكون إلا من ذنب، قالوا: ربما أن بعض التقصير يعتبره صلى الله عليه وسلم ذنباً، ولذا فإنه يتوب منه، كما ثبت في دعاء الخروج من بيت الخلاء: (غفرانك) ، غفرانك من ماذا؟ لأنه لما دخل بيت الخلاء امتنع من ذكر الله، فلما خرج اعتبر فترة وجوده في بيت الخلاء المانع من ذكر الله خطيئة، فقال: غفرانك ربي عن هذا الوقت الذي ذهب من غير ذكرك! ولكن هذا شيء. والتحقيق: أنه تعليم للأمة، كما تقدم في الخطاب الذي يوجه إليه صلى الله عليه وسلم، وليس هو المقصود به أبداً، كما في قوله سبحانه وتعالى في حق الوالدين: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ، لمن يقول؟ أبوه قد توفي وهو في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره سبع سنوات، من سيبلغ عنده الكبر من والديه؟ ليس هناك أحد منهما، فيكون هذا قطعاً المراد به الأمة، فقد خوطبوا في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاًَ: هنا كذلك: (باعد بيني وبين خطاياي) ، والحال ليس هناك خطايا، يقول: (أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، والحال ليس هناك ذنوب يتوب منها؛ إنما يكون تعليماً لنا، ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم. وهنا المباعدة إن كان المراد بها خطايا متقدمة يكون المراد غفرانها وسترها ومحوها، لأن المشرق والمغرب لا يلتقيان أبداً، فكذلك هو والخطايا لا يلتقيان، وإن كان للمستقبل فالمراد بها: باعد بيني وبين أسباب ارتكاب الخطايا؛ حتى لا أخطئ كما باعدت بين المشرق والمغرب، فلا أجتمع أنا وخطيئة أبداً كما لا يجتمع المشرق والمغرب أبداً.

التنقية والاغتسال من الذنوب

التنقية والاغتسال من الذنوب قال: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ، كما قيل: إن البياض لا يحتمل الدنس، فالغترة البيضاء إذا جاءت ذبابة ووضعت عليها نقطة ظهرت فيها، أما الملونة لو جاء الفأر ما كان ليظهر فيها شيء، فهنا التشبيه: (نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض) الذي لا يحتمل دنساً أبداً، وكما ينقى الثوب الأبيض من الدنس نقني أنا أيضاً من خطاياي، واجعل صحيفتي بيضاء نقية. ثم قال: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) باعد، نقي، اغسل، كل أنواع الابتعاد من الخطايا يكررها ويجمعها صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا في حقه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا نحن؟! ولهذا في الحج حينما يطوف الحاج طواف الوداع يأتيه ملك يربد بين كتفيه ويقول: استقبل عملاً جديداً فصحيفتك بيضاء نقية، وهنا يقول: (اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، وكان يكفي الماء فهو يغسل كل شيء، لكن معه الثلج، ومعهما البرد، وما الذي أوجب مجيء الثلج والبرد؟ بعض العلماء يقول: إن الخطيئة عند المؤمن تسبب له الندم، والندم يجعل عند الإنسان حرارة، فإذا غسلت بالماء زال أثرها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، لكن تبقى حرارتها فتغسل بالثلج فتذهب حرارة الخطيئة في نفسه، ويأتي البرد زيادة على ذلك، ويمكن أن يقال: حبيبات البرد أقوى في إزالة الدنس، فعندما يكون لديك زجاجة فيها زيت وغسلتها بالماء فإنه لا يذهب، فإذا أخذت قليلاً من الرمل ووضعتها في الزجاجة ورجيتها، فالرمل بحركته في جدران الزجاجة يأخذ الزيت، فكأن أجرام الرمل داخل الزجاجة تساعد على نظافتها، فكأن إمرار البرد على الصحيفة يساعد على إنقائها أكثر من مجرد إمرار الماء. فيقول العلماء: الحكمة من جمع الثلج والبرد: أن الماء منقٍ، والثلج والبرد لأمر معنوي في أثر الخطيئة عند المؤمن؛ لأنه يشعر بأنه ارتكبها، والارتكاب يجعل عنده الندم، والندم يبعث على الحرارة والأسى على ذلك؛ فيكون الثلج والبرد يطفئ حرارة الأسى والندم من الخطيئة؛ فينمحي أثرها بالكلية. نسأل الله أن يغسلنا من الذنوب، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

شرح حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك.

شرح حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك ... ) قال رحمه الله: وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرك) ، رواه مسلم بسند منقطع، ورواه الدارقطني موصولاً وموقوفاً] . هذه صيغة أخرى من صيغ الاستفتاح، وهل كان يجمع الجميع، أو تارة يقول هذا وتارة يقول هذا؟ يتفقون على أن الصيغ كلها مشروعة، وإن أتيت بالبعض، أو الكل، أو اكتفيت برواية منها فإن ذلك جائز. قوله: (سبحانك الله وبحمدك) ، مادة التسبيح كما في تتمة أضواء البيان عند أول سورة الحشر جاءت في القرآن بكل تصاريفها: (سبح لله، يسبح لله، سبح اسم ربك) صيغ الأفعال الثلاثة: الماضي والمضارع والأمر، وسبح الله نفسه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وتسبح له الملائكة والرعد بحمده، ويسبح له الجماد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، فالتسبيح عبادة جميع الكائنات، بل إن رب العزة قد سبح نفسه كما تقدم. والتسبيح معناه عظيم جداً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وعند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ، وهل ثواب كلمتين خفيفتين على اللسان تملآن ما بين السماء والأرض -ومسيرة ذلك خمسمائة عام- لمجرد أنها مرت على طرف اللسان: سبحان الله والحمد لله؟ بل لما تضمنته كلمة: (سبحان الله) من جليل المعاني، ويذكر علماء اللغة أن الحروف قوالب المعاني، بمعنى: أن الحروف تكوّن الكلمة، والمعنى في قالب، وكل معنى له قالب يناسبه، كما أن كلنا له ثوب يناسبه، فالألفاظ بالنسبة للمعاني كالثياب بالنسبة للإنسان. يقول بعض فقهاء اللغة: كلما وجدت كلمتين متفقتين في أكثر الحروف فبينهما صلة وارتباط في أصل المادة، ويقولون: الأصل في وضع اللغة للمادي المحسوس، ثم ينتقل منه إلى المعنوي، فسبحان على وزن فعلان، والألف والنون زائدتان، وأصل المادة: (سَبَحَ) وإذا جئنا إلى المعنى المحسوس في (سَبَحَ) ؛ فإن سبح يسبح بمعنى الذي نزل إلى الماء ليسبح لئلا يغرق! فالسباحة وسيلة للنجاة، والسباحة وسيلة لعبور النهر، لذا قالوا: المعنى الذي في سبحان مأخوذ من أصل الوضع والترتيب للسباحة، فكما أن السابح في الماء بسباحته ينجو من هلاك الغرق، فمن يسبح الله ينجو من هلاك التشبيه ووصف الله تعالى بما لا يليق به، والسباح ينجو بنفسه، فكذلك المسبح لربه ينزهه عما لا يليق بجلاله، وكذلك السابح يصل إلى غايته، وكذلك من يسبح ربه يصل إلى مرضاة الله. إذاً: (سبحان الله) تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلال الله.

الفرق بين الحمد والشكر والثناء

الفرق بين الحمد والشكر والثناء قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) ، ما معنى الحمد؟ الحمد: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، واللغة فيها: حمد وشكر وثناء، والحمد المطلق لا يكون إلا لله سبحانه، ولذا يتفقون على أن (ال) في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، أي: استغرقت جميع المحامد كلها لله، ولا يحمد لكمال ذاته إلا الله، بخلاف الشكر والثناء؛ إذ الشكر يكون في مقابل نعمة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ، يزدكم من نعمه، أي: ينعم عليك فتشكره، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله) ، فالشكر مقابل نعمة أسديت إليك، أما الثناء: فتثني على من فعل الجميل ولو لم يكن لك أنت، فأنت ترى العمارة من الناحية الهندسية فيها إبداع، وجمال، وقوة، فعندما تثني على المصمم والمنفذ لهذا العمل، وهل وصلك شيء من ذلك؟ لا. قد تسمع بطبيب يعالج أمراضاً نادرة مثل: جراحة المخ، وزرع القرنية، قام بعدة عمليات ونجح فيها، فتقول: من هذا؟ فيقولون: الطبيب الفلاني، فتثني عليه، مع أنك -الحمد لله- في عافية، ولست بحاجته في شيء، لكن سمعت بأنه فعل فعلاً جميلاً فتثني عليه لجميل فعله؛ فالشكر في مقابل نعمة أسديت إليك أنت، والثناء بسبب جميل فعله فتثني عليه، أما الحمد فلكمال الذات، سواء نظرت إلى جميل فعله أم لا، وسواء أسدى إليك نعمة أم لا؛ فأنت تحمده لكمال ذاته، فهو مستحق لكمال النعوت. فإذا اجتمعت (سبحان الله) التي تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلاله، وتنزهه عن كل نقص وعيب، معها (الحمد لله) التي تثبت له جميع صفات الجلال والكمال، فقد اجتمع طرفا التوحيد لله في قولك: سبحان الله وبحمده، ومن هنا كانتا مع خفتهما على اللسان ثقيلتان في الميزان، تملآن ما بين السماء والأرض.

أسماء الله مباركة دلالة ومعنى

أسماء الله مباركة دلالة ومعنى وأما قوله: (وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، فإن البركة تعني: الزيادة، والمبارك كثير البركات، تقول: طعام مبارك، أي: كثير وفيه خير، واسمه سبحانه مبارك، فإذا سألته باسمه أعطاك، وإذا دعوته باسمه أجابك، وهنا: (تبارك اسمك) ، هل هذا خاص بمجرد لفظ الاسم (الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. إلخ) ، أم أن المراد المسمى المعبر عنه بالاسم، ولا نريد أن ندخل في غمار مخاضة: هل الاسم غير المسمى، أو المسمى غير الاسم، فهذه مناقشة لا طائل تحتها، ولكن الاسم من حيث هو لفظ مركب غير المسمى، والاسم من حيث هو دال على مسماه هو عينه. وأي اسم من أسماء الله فهو مبارك، كـ: (الرحمن) ، وبركات الرحمن لا يحصيه إلا الله، (إن لله مائة رحمة أنزل واحدة إلى الأرض فبها تتراحمون، ويتراحم أهل الأرض، حتى إن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به) ، وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، داخل تحت رحمة واحدة من المائة، عطف الأم على ولدها، عطف الكبير على الصغير، شفقة الصغير على العجوز الكبير، كل ما رأيت وما سمعت من معاني ومظاهر الرحمة فهي جزء من مائة من رحمة الرحمن، أي بركة ممكن أن يحصيها الإنسان في هذا؟! (الرحيم) قالوا: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وتجدون هذا في أول كتب التفاسير فكلها تنقلها عند البسملة، ولا شك أن رحمة الآخرة دائمة وباقية، بينما الدنيا تنتهي، وفي الآخرة: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، فهذا من بركة اسم الرحمن الرحيم، ولو جئت إلى كل اسم من أسماء المولى سبحانه وتعالى: كـ: (الحي) ، فمن بركته وجود هذا العالم، وهو أثر من آثار الحي، وتنظيم هذا العالم وإيجاد كل ما يحتاجه الإنسان في هذا المعنى أيضاً، وإذا كان اسم الله مباركاً وتبارك في دلالاته ومعانيه هل نتجه إلى غير الله؟! لا. وقوله: (وتعالى جدك) ، تعالى بمعنى: تقدس وتنزه عن كل نقص، والجد يقولون فيه: إنما هو الحظ، ويقولون: إنما هو العطاء، والله أعلم بالحقيقة. (ولا إله غيرك) ، ما دام الأمر كذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، نتجه إلى من؟ والله لا إله غيرك، وليس لنا مألوه نعبده ونقصده ونرجوه ويستحق منا العبادة له وحده إلا أنت يا الله.

شرح حديث: (كان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم.

شرح حديث: (كان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم ... ) قال رحمه الله: [ونحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً عند الخمسة: (وكان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من همزه ونفخه ونفثه) ] . المؤلف رحمه الله يريد بإيراد تلك الروايات أن يبين لنا بأن الأمر فيه سعة، كان يقول، وكان يقول، وما قال: إنه كان يجب أن يقول هذا كله، لا، فمما كان يقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] ، سميع حتى لوساوس الشيطان، عليم بما يكون منه، ولا يمكن أن ينجيك من الشيطان إلا رب العزة جل وعلا. يقول والدنا الشيخ الأمين: بين لنا المولى كيف نتقي شيطان الإنس وشيطان الجن، وذلك في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:33-34] ، أي: عامل الناس بالتي هي أحسن، وادفع السيئة بالحسنة؛ فهي الحرز من شيطان الإنس، فإذا عاملته بالمعروف كفيت شره، وينقلب من عداوة إلى ولاية، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] . وبعض عشاق الأدب الغربي أو بعض الكتاب المشهورين يقولون: نراك تصانع أعداءك، قال: ألست بمصانعتهم كفيت شرهم؟ قالوا: بلى، قال: وهذا هو المطلوب، يعني: بدلاً من أن تدخل معه في حرب وتغلبه بالقوة، لكن بالمسالمة، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، وليست المسألة سهلة، وليس كل إنسان يقدر عليها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، إلا ذو حظ عظيم أكرمه الله بذلك. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] ، فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ، فإذاً: أنت كفيت عداوة شيطان الإنس بحسن المصانعة، بل وينقلب صديقاً لك، وكيف تتجنب أو تتقي عداوة الجن (الشيطان) ؟ لا تستطيع أن تصانعه، وليس عندك طريقة له، ولو أنك صانعته زاد عليك، ولكن تلجأ إلى ربك: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وهذا كما يقول الشافعي رحمه الله: (ما من حديث سمعته إلا وله شاهد من كتاب الله) ، وهذا لا يستطيع أن يطبقه إلا مثل الشافعي، فيرد كل حديث سمعه من رسول الله إلى ما يدل عليه من كتاب الله، (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) ، هو نفس نص الآية: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] . وقوله: (من همزه ونفخه ونفثه) ، من همزه ونفخه ونفثه كل ذلك يدور حول الوسوسة والتشكيك، والنفث هو الإيذاء وكما يقولون: به مس من الشيطان، وكذلك نزعة الإنسان إلى الشر، كل هذا من أعمال الشيطان في كل مجالاتها ومعانيها.

شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير.

شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير ... ) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم) ، أخرجه مسلم وله علة] . هذا الحديث مع حديث المسيء في صلاته يعتبران أصلاً في بيان كيفية الصلاة، ومن حسن ترتيب المؤلف أنه أتى به بعدما بين حالات دعاء الاستفتاح وأطال فيها، ومن الناحية الفقهية: فإنهم يجمعون على أن كل هذه الأدعية إنما هي من باب الاستحباب، فلو كبر وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، فالصلاة صحيحة، ما عدا ابن حزم رحمه الله فيرى أن دعاء الاستفتاح واجب كالقراءة، ويتخير أي دعاء من هذه الأدعية الواردة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا، وينقل بعضهم عن بعض الهادوية أن هذه الأدعية عندهم تبطل الصلاة، ويقولون: لأنها من كلام البشر، وخارجة عن موضوع الصلاة، إلا أن ما يثبت بحديث رسول الله ويفعله رسول الله هل نقول: إنه خارج عن الصلاة؟ هذا تطرف زائد. وبالتأمل نجد أن كل هذه الصيغ التي وردت تعطي الإنسان تهيأة، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، فقد تباعد من ذنوبه وخطاياه، وطلب غسله وتنقيته منها، وسبح ربه، وحمده، وتهيأ بعوامل متعددة ليصبح في وقفته بين يدي الله مستعداً لكل تلقي فيوضات الرحمة في هذا الموقف العظيم، يعني ليس الذكر مجرد ذكر، ولكنه تهيئة للإنسان. وكما أشرنا سابقاً في حديث الأذان: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ، لماذا، فهو يؤذن للناس ونحن نسمع؟ قال العلماء: لأن الإنسان يكون في أمور الدنيا مستفرغاً حسه وشعوره في عمله مهندس في هندسته، صانع في مصنعه، زارع في مزرعته، بأي حالة من الحالات، فهل نقول للإنسان: تعال صلِّ، ونأخذه من الدوامة التي هو فيها ونوقفه في المحراب مباشرة؟ لا، وهذا انتقال مفاجئ ليس له تمهيد، لكن لما يردد كلمات المؤذن، ويستشعر أن الله أكبر من كل شيء، وينفض يديه عما هو فيه، ويسمع إلى داعي الله: (أشهد أن لا إله إلا الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، إلى آخره) يتوجه إلى الله، ويتوضأ وهو مع الله، فيكون هناك تحويل وتغيير في التفكير، فبعد أن كان متجهاً للدرهم والدينار ومنغمساً في أشغاله إذا بنا نجده قد توجه إلى الله، وانقلبت الصفحة إلى ناحية أخرى، وأصبح كأنه جزء من المسجد، ويحط خطاه في المسجد ويدخل في المناجاة مع الله. ولزيادة تهيئة عملية فعلاً، يأتي بهذه الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتينا المؤلف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وبدأ المؤلف يبين عملياً كيفية الصلاة.

ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم افتتاح الصلاة بالتكبير

ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم افتتاح الصلاة بالتكبير عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ما أحد أعرف بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فطول الليل وهو عندها يصلي في حجرتها، والمسجد بجانبها يصلي فيه، وسوف نأخذ هذا الحديث -إن شاء الله- جملة جملة؛ لأن كل جملة فيه غالباً ركن من أركان الصلاة. (كان صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير) ، لاحظوا كلمة (كان) ، فهي تدل على التكرار والدوام وتقدم لنا استقبال القبلة فكبر، والتكبير والتحميد والتهليل كلها ألفاظ منحوتة، التكبير من قولك: الله أكبر، والتهليل من قولك: لا إله إلا الله، والتسبيح من قولك: سبحان الله، والتحميد من قولك: الحمد لله، فيفتتح الصلاة بالتكبير، أي: بقول: الله أكبر.

الخلاف في الجهر بالبسملة والإسرار في الصلاة

الخلاف في الجهر بالبسملة والإسرار في الصلاة قالت: (والقراءة بالحمد لله رب العالمين) ، وهنا وقفة طويلة نأخذ منها بقدر المستطاع، فعند هذه اللفظة من هذا الحديث وأحاديث وآثار أخرى نبحث هذه المسألة ليسهل علينا ما بعدها. نحن عندنا في الصلاة قراءتان، قراءة عامة وقراءة خاصة، القراءة الخاصة: فاتحة الكتاب، لحديث: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) . إذاً: عندنا قراءتان، قراءة خاصة وهي: الفاتحة، وقراءة عامة وهي: ما يمكن أن يقرأه المصلي بعد الفاتحة، فأم المؤمنين تقول: (كان يفتتح القراءة) ، وهل هي قراءة الفاتحة الخاصة أم القراءة العامة بالنسبة للفاتحة وغيرها؟ إذا قلنا: كان يفتتح القراءة بمعنى الفاتحة، فلا يوجد في قولها: بسم الله الرحمن الرحيم، معنى ذلك: أنها أسقطت البسملة، ومن هنا يؤخذ دليل من يقول: البسملة ليست من الفاتحة. ومن يقول يفتتح القراءة العامة معناها: أنه يقرأ أولاً بفاتحة الكتاب المعنون عنها بالحمد، ولا يقدم السورة الصغيرة ولا الآية على الفاتحة، فيفتتح القراءة في الصلاة من حيث هي بالفاتحة أولاً، ويثني بما تيسر معه من القرآن، وإذا قلنا: يفتتح القراءة بمعناها العام، بأن يقدم الحمد لله رب العالمين؛ تكون أم المؤمنين عنت بقولها: (الحمد لله) اسم السورة لا مستهلها وأولها والآية الأولى منها، أي: كان يفتتح القراءة بسورة الحمد، والفاتحة اسمها: الفاتحة، والحمد، والصلاة، والإيمان، والنعمة، والتامة ولها أكثر من عشرين اسماً. فإذا حققنا هذا الموقف في المراد من قول أم المؤمنين: (يفتتح القراءة) هانت علينا المسألة، لأننا وجدنا من يقول: إن المراد بالقراءة الفاتحة فيدخل فيها البسملة، ثم بعد هذا يأتي نقاش طويل جداً، حتى إن ابن عبد البر أفردها برسالة خاصة موجودة في الرسائل المنيرية، ومن أرادها فليرجع إليها، ونأتي في الموطأ وغيره ونجد من يذكر قول أبي هريرة لـ سلمان: (ائت بها سراً يا فارسي، ومن يقول: (صليت خلف أبا بكر وعمر فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين) ، و: صليت خلف فلان وفلان فلم أسمعهم يذكرون البسملة) ، وليس معنى عدم السماع عدم القراءة، والجمع بين الأمرين أن تأتي بها سراً. إذاً: النقطة التي منها الانطلاق لطالب العلم خاصة أن نقول: المسألة مفروغ منها وانتهينا، ولكن حيث أوردها المؤلف نذكرها من ناحية منهجية كمسألة خلافية لنتوصل إلى النتيجة بسرعة، ونخرج بنتيجة علمية: (كان يفتتح القراءة) أي القراءتين؟ عندنا قراءتان في الصلاة: خاصة بالفاتحة، وعامة بما تيسر بعدها، وإن حملناه على الخاصة أسقطنا البسملة، وإن حملناه على العامة تكون أرادت اسم السورة، وعلى أنها الخاصة تنازعوا في البسملة، ما عدا الشافعي فإنه يقول: البسملة آية من الفاتحة، ويروي عن ابن عباس: (من ترك البسملة في الفاتحة فقد أسقط مائة وأربعة عشر آية من كتاب الله) ، أي: بعدد السور، ويجمعون على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة من كتاب الله في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] . وإذا جئنا إلى التحقيق من جانب عد الآيات، قال: أبي بن كعب (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في المسجد فقال: ألا تريد أن أعلمك أفضل سورة في كتاب الله قبل أن تخرج من المسجد؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بيدي وسار إلى الباب، فأخذت أبطئ في الخطا أنتظر السورة، حتى قارب الباب فقلت: السورة يا رسول الله! قال: فاتحة الكتاب، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) . نعد سبع آيات من الفاتحة: إن قلنا من: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى الأخير صارت ست آيات، وإذا بدأنا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وجدناها سبع، وخذ المصحف تجد ذلك في الفاتحة خاصة، أنتم تعرفون في العد لآي المصحف أن الرقم يوضع في آخر الآية، ولا تجد رقماً في الأول، فإذا أخذت المصحف تجد بسم الله الرحمن الرحيم بعدها علامة الآية رقم واحد، ثم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1-7] ، تمت السبع. فالذين يقولون: إن البسملة ليست من الفاتحة يقسمون الآية الأخيرة قسمين، ويجعلونها آيتين، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، ويأتون بآية، لكن الرسم العثماني لا يمكن أن نغفله، وإن كان البصريون والكوفيون والحجازيون يختلفون في عد الآي، والفرق بينهم حوالى ست أو عشر آيات في كتاب الله كله، لكن في المصاحف الأم ما يجمع ذلك، فقال المثبتون: البسملة آية من كتاب الله، وآية في الفاتحة خاصة، ثم يكون الخلاف بعد ذلك في بقية السور، هل هي آية كما يقول الشافعي، أو تنزل فواصل لتبين اختتام السورة وافتتاح سورة جديدة؟ سبق ما يجعل كلا الفريقين على حق في كونها منها أو ليست منها؛ وبصرف النظر عن موضوع الصلاة، فالبسملة في موضوع الصلاة حققته الأحاديث الثابتة من أنه يأتى بها سراً ولو في الجهرية، ويقول والدنا الأمين رحمة الله علينا وعليه: بعض السور أو بعض الآيات قد تنزل مرة واحدة، وقد تنزل السورة الكاملة فيها الخمسون والستون والسبعون آية مرة واحدة دفعة واحدة، وقد تنزل الكلمة مستقلة بذاتها، قال: والفاتحة أنزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة، وفي كلتا المرتين مرة نزلت ومعها البسملة آية منها، ومرة نزلت وليست معها البسملة آية منها، فيقول: من قال: إنها آية، نظر لبعض النزلتين، ومن قال: ليست آية، نظر لبعض النزلتين، وإذا كان الأمر كذلك من جهة النزول، وجئنا إلى الصلاة نجد النصوص موجودة وصحيحة وثابتة بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لما قال القائل: (صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان ولم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وكانوا يفتتحون القراءة بالحمد) ، كما قالت عائشة، لكن عندما يصرح: ما كانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، يأتي الآخر ويقول: كانوا يأتون بها ولكن في السر؛ ولهذا سلمان لما سأل أبا هريرة ووقع النقاش قال له: (ائت بها سراً يا فارسي) . وسيأتي لهذا زيادة روايات متعددة بأن القراءة في الصلاة على قسمين: قراءة عامة، وقراءة خاصة، فإذا حملناها على الخاصة ننفي البسملة، وإذا حملناها على البسملة يكون مرادها تسمية السورة باسم الحمد، ويأتي قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم) ، وسميت بالمثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة، وسيأتي الخلاف أيضاً في قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام، والله تعالى أعلم. إذاً: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أعطتنا الافتتاحية في القراءة، وهل الأحسن أن نحملها على العام أو الخاص؟ على العام وسيأتي زيادة بحث لهذا، ونصوص أخرى في الموضوع توضحه لنا أكثر.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [4]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [4] نقل لنا الصحابة رضوان الله عليهم صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، وبتعدد روايات هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يتبين لنا صفة صلاته وكأننا نراها؛ ولهذا اهتم العلماء بتدوين الأحاديث الواردة في ذلك.

تتمة وصف عائشة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم

تتمة وصف عائشة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: عائشة رضي الله عنها، وقولها: (كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين) . وهل الأولى حملها على القراءة العامة أو القراءة الخاصة؟ العامة، وهذا أصح، وهذا يجنبنا مشاكل كثيرة، ويقرب الطريق عندنا، فإذا قرأ سورة الحمد لله وما تيسر معها، فبعد القراءة سيكون الركوع، وكيف كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) ، تقول: هذا الشاخص، والعمود هذا يسمى شاخصاً، ويشخص بمعنى: يرفع، ويخفض بمعنى: ينزل، إذاً لا هذا، ولا ذاك، ولكن بين الأمرين، يستوي رأسه صلى الله عليه وسلم مع ظهره، حتى قالوا: لو وضعت قدحاً على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح لاعتداله. (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه؛ ولكن بين ذلك) ، بين أن يشخص وبين أن يصوب، ومعناه: الاعتدال، لا زاوية منحرفة، ولا زاوية حادة، بل زاوية قائمة. (وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) ، وهكذا بعد الركوع لا يهوي إلى السجود حتى يستوي -والاستواء الاعتدال- قائماً، وهذا نص على الذين يقولون: ما بين الركوع والسجود ركن خفيف، ويكفي فيه مجرد إشارة اللفظ، فيكون راكعاً ثم يهوي إلى السجود، والحركة لم تنقطع بعد، وعند نقطة الصفر من الاعتدال يبدأ بالنزول، لكن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا كان راكعاً لم يسجد حتى يستوي -أي: يعتدل- قائماً) يعني بعد الركوع. إذاً: الاعتدال بعد الركوع ركن، وتأتي موضوع الطمأنينة، فليست مجرد اعتدال إلى نقطة الصفر، بل طمأنينة مع هذا الاعتدال. (وكان إذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي جالساً) ، كذلك بين السجدتين، وهو مثل الاعتدال ما بين الركوع والسجود؛ لأن البعض أيضاً يقول: الجلسة بين السجدتين ركن خفيف، فلو سجدت ثم رفعت رأسك وقبل أن تعتدل رجعت وسجدت فلا بأس، والبعض ما يرفع يديه من الأرض بعد حتى يعود، وهذا خطأ في الصلاة؛ إذ لابد أن يعتدل قاعداً بين السجدتين، ولابد أن يظهر منه هيئة الجالس بين السجدتين. (وكان يقول في كل ركعتين التحية) ، وهذا وصف عام، في كل ركعتين سواء كانت الصلاة كلها ركعتين، أو كانت الصلاة ركعتين وزيادة، فكل ركعتين فيها تحية، الصبح ركعتان وفيها تحية، والظهر أربع، وفي كل ركعتين تحية، تحية بعد الركعتين الأوليين، وتحية بعد الركعتين الأخريين، والمغرب ثلاث، فيها تحية بعد الركعتين الأوليين، وتحية عند الأخيرة ويسلم. انظروا إلى هذا الإجمال في الصلاة! يقرأ التحية، وما هي التحية؟ لم تذكر، ولها نص مستقل، كذلك يركع ويسجد، وماذا يقول في ركوعه وسجوده؟ لها نصوص مستقلة، وإنما هي تصف الحركات الظاهرة من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الافتراش والتورك في الصلاة

الافتراش والتورك في الصلاة قالت: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) ، معنى يفرش: أي: يجعل ظهر القدم على الأرض، ويجلس على بطن القدم اليسرى، ورجله اليمنى ينصب قدمها، ويلاحظ في نصب القدم اليمنى: أن تكون أطراف أصابع القدم اليمنى متجهة إلى القبلة، لا أن يجعلها مدبرة إلى الخلف، ما لم يكن هناك صعوبة أو مشقة، فبعض الناس يكون الله معطيه بسطة في الجسم، وإذا أراد أن يجلس هذه الجلسة تصعب عليه، فيجلس كيفما تيسر له، لكن الهيئة الأساسية من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه الحالة. وهل هذا الصنيع في التشهدين معاً أم في التشهد الأول؟ هذا يكون في التشهد الأول باتفاق، ويقولون: السنة في التشهد الثاني الذي يعقبه السلام والخروج من الصلاة أن يتورك، بمعنى: أنه يدخل قدمه تحته ويفضي بإليته إلى الأرض، ولماذا يغير في الجلسة؟ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء بحثوا عن العلة والسبب والحكمة من وراء ذلك. نقول: أولاً: أيهما أطول في الجلوس؟ التشهد الثاني؛ فهل نظل في التشهد الثاني الطويل ناصبين للقدم وعاكسين الأصابع وننتظر متى يسلم أم نجلس مرتاحين؟ الجلسة في التشهد الأخير تعطي فرصة راحة وطمأنينة، ويستطيع الإنسان أن يدعو في التشهد بما يسر الله له. هذه ناحية. الناحية الثانية: لو أنك جئت والإمام في التشهد، فإنك لا تدري هل الإمام في التشهد الأخير أم في الأوسط؟ قالوا: تنظر إلى هيئة الجلسة، فتعرف إن كان هذا التشهد هو الأول أو الأخير، فإن كان متحفزاً للقيام ومستعداً لأن يقوم علمت أنه في التشهد الأول، ولو رأيته جالساً على هدوء وهون علمت أنه ما بقي إلا أن يسلم، وما هي الفائدة من هذه؟ وهل ندخل معه في الصلاة أو ننشئ جماعة جديدة؟ الصحيح أننا ندخل معه.

أحكام عقبة الشيطان والافتراش كالسبع

أحكام عقبة الشيطان والافتراش كالسبع في آخر هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عقبة الشيطان، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وفي لفظ: افتراش الكلب. أما صفة عقبة الشيطان كما يفسرها علماء الحديث فهي أن ينصب ساقيه ويثني ركبتيه، ويجلس على الأرض على إليتيه، كالذي يعقد الحبوة، وعقد الحبوة هو: أن يأخذ الإنسان حزاماً أو نوعاً من الخيوط ويجعله خلف ظهره ثم يديره على ساقيه ويعتمد عليه، وكان هذا المنظر كثيراً ما يرى في المسجد النبوي، ويفعله الشيوخ وكبار السن خاصة بعد صلاة الصبح حينما ينتظرون في مجلسهم يذكرون الله حتى تطلع الشمس، وأحياناً بعد المغرب والعشاء، وحينما يفعل مثل هذا ويجعل يديه إلى الأرض، وركبتيه إلى الأعلى؛ فهذه عقبة الشيطان، وليس فيها حبل ولا حبوة، وبعضهم يصف عقبة الشيطان بأن ينصب القدمين، ويجلس على العقبين، ولكن هذه مردودة لأنها هيئة رواها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي قول أم المؤمنين: (كان ينهى عن عقبة الشيطان) ، ما خصصت رجلاً ولا امرأة، فالنهي في هذه الهيئة في الجلوس ممنوع بصفة عامة، وافتراش الرجل ذراعيه افتراش السبع يظهر هذا، ويتبين أكثر ما يكون في الكلب -أعزكم الله-، والسبع يطلق على كل حيوان مفترس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه على رجل: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، فقالوا: الكلب يطلق على السبع، والسبع يطلق على الكلب، وقالوا: الكلب سبع؛ لأنه يفترس بنابه ويأكل اللحوم، وافتراش الذراعين كافتراش السبع هو: أن يمكن ذراعيه مع المرفق على الأرض؛ فطبيعة السجود أن يسجد بباطن الكفين على الأرض، والمرفق مرتفع عنها، ولا يكون ملامساً لها، والسنة أن يرفع المرفقين عن الأرض، ويكون معتمداً على الكفين فقط. وإذا كان معتمداً على الكفين فأين يكون المرفقان؟ يرفعهما، ويجافي بينهما وبين ضبعيه، ولا يلصقهما بجانبيه، وتنصيص أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على الرجل يدل بمفهومه على أن المرأة بخلاف ذلك، وهو مفهوم المخالفة وليس مفهوم صفة، والفرق بينه وبين مفهوم الصفة أن مفهوم الصفة لا حكم له في التشريع، ومفهوم الصفة إنما يتعلق باسم الجنس، فعندما تقول: أكلت تفاحاً لا يمنع أن تكون أكلت معه موزاً، وهل الإخبار بأكل التفاح يمنع أن تكون أكلت غيره معه؟ لا، ولكن لم آكل إلا التفاح! هنا جاء الحصر، ومنع أن تكون أكلت مع التفاح غيره. لكن عندما تقول: بنى هذا البيت رجل، فمفهوم المخالفة: ليس امرأة، وإذا قيل: من يوجد في هذا البيت؟ توجد فيه امرأة، ومفهوم المخالفة: أنه لا يوجد فيه رجل، فإذا قلت: فيه امرأة، قالوا: هنا مفهوم الصفة، ومفهوم الصفة له عكسه، وينفى عنه الحكم، تقول: الصغير لا تكليف عليه، إذاً: الكبير عليه تكليف؛ لأن مفهوم صفة الصغير عكسها الكبير، فيكون له عكس الحكم. وأنصح الإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في هذه النقطة -وهي موضع خلاف عند الأصوليين- لأضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36-37] ، بعض الناس يقول: هذا مفهومه مفهوم اللقب، ولا يمنع أن يسبح له فيها نساء، والشيخ يقول: التحقيق: أن المفهوم هنا مفهوم صفة لا مفهوم لقب؛ لأن حضور الجماعات وإقامة الصلاة في المساجد إنما هو من خصائص الرجال، فكون المرأة تحضر لا بأس وتصح صلاتها، ولكن صلاتها في بيتها خير من حضورها المسجد، إذاً: هي ليست مرادة أصالة في هذه الآية الكريمة، لمجيء امرأة من بني سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت ولكن صلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك معي) ؛ لأن فيه تقريب المشوار، واختصار الطريق (وصلاتك في عقر دارك خير من صلاتك في مسجد قومك) ، فإذا كان هذا شأن المرأة فهل يناط بها الحكم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ؟، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله) ، وجعل لها شروطاً. وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تنبه هنا: أنه نهى عن عقبة الشيطان، لكن نهى من؟ لم تعين المنهي المتوجه إليه النهي، فيكون عاماً في الرجال والنساء، ولكن في افتراش السبع قالت: (نهى الرجل) ، إذاً: المرأة لها حكم آخر، وما دامت المرأة لها حكم آخر، فذكر الرجل مفهوم صفة له عكس الحكم؛ ولذا اتفق العلماء على أن المرأة لا تفعل كما يفعل الرجل في الصلاة، الرجل يجافي بين عضديه، وبين منكبيه وعضديه، ويكون هناك فجوة، وإن كان بعض الإخوة ربما بالغ في ذلك، إذا صلى في الجماعة تمدد بيديه ونزل على كفيه، وجنح بيديه يميناً ويساراً فيضايق من بجواره، وليس الأمر كذلك؛ إن كنت منفرداً فلا بأس وافعل ما شئت، لكن مع عدم الخروج عن اللياقة، وإن كنت في الجماعة فيجب أن تحافظ على الجماعة الذين يصلون عن يمينك ويسارك، فالسنة في الرجل مهما كان ألا يلصق منكبه بجانبه، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها وتفرش ذراعها، فالمرأة حكمها: أن تفترش الذراعين وتضمها إلى ضبعيها؛ لأن في تفريجها شيئاً من إظهار جسدها، أما ضمها نفسها ففي ذلك زيادة في تسترها. إذاً: نهي الرجل خاص به، بخلاف المرأة فلها أن تفترش افتراش السبع، ويكون ذلك نوع من سترها في صلاتها، وكما يقال: كل له حكمه.

كيفية التسليم

كيفية التسليم قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم يختتم الصلاة بالتسليم) وهنا مبحث من جهتين: كيفية التسليم، ونوعيته. تسلم بعد التشهد والدعاء الذي يسره الله لك، أو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الدعاء بعد التشهد، مثل التعوذ بالكلمات الأربع: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وقد قال ابن حزم: إنها فريضة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهذه الكلمات الأربع، وبعضهم يقول: إنها من التوجيهات والتعليمات لما يقال من الأدعية في الصلاة، وبعضهم يقول: إذا انتهيت من التشهد وذكرت الدعاء الوارد تمت صلاتك، وتخرج كيف شئت، والجمهور على أن المصلي لا يعتبر خرج من صلاته وأتمها إلا بالتسليم، وهذا نص الحديث: (كان يفتتح الصلاة بالتكبير ويختتمها بالتسليم) ، وهنا كيف يسلم؟ هناك من يقول: يكتفي بسلام واحد، فيجلس مستقبلاً القبلة ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، وبعضهم يقول: لابد أن يسلم عن اليمين وعن اليسار، فإن كان في الجماعة فعن يمينه أخ مسلم، وعن يساره أخ مسلم، فيسلم على من بجانبيه، وإذا كان منفرداً أو في الخلاء وليس عنده أحد فإنه يسلم على الملائكة؛ لأن الملائكة تحضر صلاته، وقالوا: الكيفية أن يبدأ بالسلام: السلام عليكم -ويبدأ بالالتفات يميناً- ورحمة الله، ويعود إلى ما كان عليه، ويبدأ بالسلام عن اليسار أيضاً مستقبلاً القبلة، ثم يلتفت يساراً ويكمل الصيغة في السلام. وأما عن حكم السلامين معاً: فكلاهما واجب؛ لأنهما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: (كان يلتفت حتى نرى بياض خديه) ، إذا التفت يميناً رءوا بياض الخد اليمين، وإذا التفت يساراً رءوا بياض الخد اليسار، إذاً: هناك التفاتة وصورة واقعية، وكانوا يجعلون السلامين معاً. وهناك من يقول: الأول فرض وبها يخرج من الصلاة، والثاني سنة، وعلى كل سيأتي تفصيل السلام في آخر الباب، إلا أنه كما تقدم في هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها أوردت لنا صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إجمالية: يفتتح الصلاة بالتكبير، وما قالت ما هي صيغة التكبير. وكان يفتتح القراءة بالحمد، ولم تفصل لنا ما هي القراءة. وإذا ركع، وإذا رفع، وجلس بين السجدتين، ثم نهى عن كذا وعن كذا، ويختتم الصلاة بالتسليم، ما هو نوع التسليم؟ لم تفصل، وأشرنا إلى أن هذا الأسلوب من الإجمال؛ ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، وهو من أرقى أنواع الأساليب البيانية؛ لأن في الإجمال إيجازاً واختصاراً؛ فيقع هذا المجمل في ذهن السامع، ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، ونستطيع أن نقول: هذا منهج الفقهاء، فهم يكتبون المتن مجملاً، ثم يأتي بعد ذلك الشرح مفصلاً، وبعض يزيد بالحواشي. إذاً: يهمنا الأسلوب العلمي الناجح القريب السهل، وهو أن يؤتى بالموضوع مجملاً ثم يؤتى به بعد ذلك مفصلاً، وهذا ما سلكته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل جزئية من تلك الجزئيات إما أن تقدم بيان لها، وإما أن يأتي لها تفصيل وتحقيق وزيادة روايات في بيانها تفصيلياً.

شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة.

شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ... ) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع) ، متفق عليه. وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر) ] . هذه التكبيرات في حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقولون عنها: تكبيرات الانتقال، ورفع اليدين عندها سنة، والتكبيرات واردة عند الانتقال من كل ركن في الصلاة ما عدا الرفع من الركوع، فإن الذكر فيه: (سمع الله لمن حمده) ، (ربنا لك) أو (ربنا ولك الحمد) ؛ على كلا الصيغتين. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع يديه حذو منكبيه) ، والمحاذاة: المقابلة، والمنكبان هما: الكتفان عن اليمين واليسار، فيرفع يديه حذوهما، ولا يرفعهما عند رأسه، ولا ينزلهما عند صدره، وذلك في ثلاثة مواضع: عندما يفتتح الصلاة، وتقدم أيضاً في الصلاة، وسيأتي زيادة إيضاح في رواية: (حذو منكبيه) ، ورواية: (أوائل أذنيه) ، وأوائل الأذنين في الرأس، وأعلى الأذنين أي أواخرهما في الأعلى عند الرأس، ولا خلاف بين رواية: (حذو المنكبين) ، وبين رواية: (أوائل الأذنين) ؛ لأن من لاحظ الكف نظر لمحاذاة الكف إلى المنكب، ومن نظر إلى أطراف الأصابع فلن تذهب الأصابع إلا إلى أوائل الأذنين، فقيل: الروايتان تصدق كل منهما الأخرى، فهذا نظر إلى أدنى الكف، وهذا نظر إلى أعلى الأصابع، فأدناه منكبي الإنسان وأعلاه أدنى الأذنين، هذا في الموطن الأول. (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة) ، وإذا افتتح الصلاة يقول: الله أكبر، وتقدم شيء من التنبيه على ما يقوله العلماء في افتتاح الصلاة، يقول: الله أكبر، فلدينا نطق باللسان: تكبير، وحركة باليدين: رفع، وهل هما متلازمان أم أن أحدهما يسبق الآخر؟ تقدم بأنهما معاً سواء؛ فيبدأ بلفظ الجلالة عند بداية الحركة، ويشغل زمن الحركة بالتكبير. الموطن الثاني: إذا كبر للركوع، فإذا أراد أن يركع رفع يديه، ويكبر إذا أراد أن يركع، وهذه تكبيرة الانتقال، والأولى تكبيرة افتتاح، ونلاحظ في كتب الفقه التدقيق، فلو أن إنساناً كان متأخراً وأدرك الإمام ليركع وركع معه، فكبر، هل نوى بتكبيرته تلك افتتاح الصلاة أو الانتقال والهوي إلى الركوع؟ إن نوى بتكبيرته افتتاح الصلاة فقد افتتح الصلاة وجاء بالتكبيرة التي هي افتتاحية الصلاة وواجبة، وإن نوى الدخول في الركوع وتكبيرة الانتقال فلا تجزئه، وإن نوى الأولى اندمجت معها تكبيرة الانتقال، وسيأتي هذا في الذي يدرك الإمام راكعاً ماذا يكون حاله؟ إذاً: يرفع يديه حذو منكبيه مع التكبير عند افتتاح الصلاة، ويكبر عند الهوي إلى الركوع. (وإذا رفع رأسه من الركوع) ، الوارد في الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده) ، وهنا ابن عمر يريد رفع اليدين لا التكبير، فالمراد أن رفع اليدين ورد في ثلاثة مواطن: عند تكبيرة الافتتاح، والتكبير للركوع، ورفع الرأس من الركوع. إذاً: في الافتتاح: الله أكبر، ويقرأ، وعند الركوع: الله أكبر، ويرفع يديه ويركع، وكذلك عند الرفع من الركوع، وليس معنى ذلك أنه يكبر ويرفع، لا، المراد أن هذا هو الموطن الثالث الذي ترفع فيه اليدان عند الانتقال، وهو الرفع من الركوع، لكن هل يكبر عند الرفع؟ لا. والوارد في ذلك: (سمع الله لمن حمده) ، يقولها المنفرد، ويقولها الإمام، أما المأموم فله أن يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وله أن يكتفي بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ويجيب على ذلك: ربنا ولك الحمد. والواو مجيئها وعدم مجيئها نقطة بلاغية، ويتفقون على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالذي يقوله الإمام: سمع الله لمن حمده، ويقول من خلفه: ربنا لك الحمد، إجابة على قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فأنا حمدته وسمع، والذي يقول: ربنا ولك الحمد، الواو عاطفة على تقدير معنى جديد، ربنا استجب لنا ولك الحمد على استجابتك لدعائنا أو لتحميدنا. وبعد حركة الرفع من الركوع يأتي الهوي إلى السجود، هل يرفع يديه للهوي إلى السجود؟ الحديث لم ينص عليها، ولم يصفها ولم يقل فيها شيئاً. فإذا سجد وأراد أن يجلس بين السجدتين هل يرفع يديه كما رفع عند الرفع من الركوع؟ ما ثبت شيء من هذا في هذا الحديث، وهل في تلك الحركات رفع لليدين؟ لا. ولكن وردت حركة أخرى غير تلك الثلاث ألا وهي: حينما يقوم من تشهده الأوسط، وهي قاعدة يذكرها الفقهاء: عند قيامه لركعة وتر في صلاته، وركعة الوتر في صلاته هي الثالثة من الرباعية أو الثلاثية، فإذا أنهى التشهد الأول وأراد أن يقوم للركعة الثالثة؛ سواء كانت هي الأخيرة في المغرب أو الثالثة في الرباعية، فحينئذٍ يستوي قائماً للركعة الثالثة ويرفع يديه حذو منكبيه؛ لأنها في منزلة الصلاة الجديدة، لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وأتمت في الحضر، وعلى هذا جاءت السنة، والقول برفع اليدين عند هذه المحلات الثلاث هو قول الجمهور، وهناك من يعارض فيها، وصاحب سبل السلام يعزو ذلك للهادوية، ويرد عليهم رداً شديداً، ويعرض بمن يقول بعدم رفعها، أو من يقول: إنها حركات زائدة تبطل الصلاة، ولا عبرة لشيء من هذا كله ما دام أن النص قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. قال: [وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر) . ولـ مسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال: (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) ] . المؤلف رحمه الله يعدد هذه الروايات ليستكمل صورة رفع اليدين إلى حذو المنكبين، وفروع الأذنين، وكل ذلك في منطقة واحدة، وكل الروايات يؤيد بعضها بعضاً ولا خلاف بينها.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [5]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [5] ضم اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في مشروعيته، فالجمهور يقولون بالضم، بينما الإمام مالك لا يرى الضم، وهذه المسألة ومثيلاتها فيها دلالة على لزوم معرفة وجهة نظر المخالف، وعدم التشنيع عليه في المسائل الاجتهادية.

شرح حديث: (صليت مع النبي فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)

شرح حديث: (صليت مع النبي فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [وعن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) ، أخرجه ابن خزيمة] . وائل بن حجر له خصيصة من بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم تكن العادة أن نترجم لأحد، وإنما نحفظ أسماءهم فقط ولا نذكر تراجمهم، لكن يلفت النظر هنا: أن وائل بن حجر من أبناء ملوك حضرموت، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن مجيئه قبل أن يصل، فقال: (يأتيكم وائل بن حجر وهو من بقايا أبناء الملوك، جاء راغباً طالباً يبتغي فضل الله، وجاء إلى الله وإلى رسوله راغباً في الإسلام) ، ولما وصل أفسح له النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، وافترش له رداءه وأجلسه عليه، لماذا؟ في السنة النبوية مناهج عديدة، ونأخذ من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم، وليس في هذا محاباة ولا مغايرة، ولكن إكراماً، ويذكرون عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه أتاها مسكين فأعطته كسرة خبز، ثم أتاها رجل ذو هيئة يسأل، فأجلسته وقدمت له طعاماً، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن ذاك يكفيه تلك الكسرة، وهذا ممن يصدق فيهم قوله: (أنزلوا الناس منازلهم) . وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن محاسن الآداب التي علمنا إياها، ونقول: الأصل أن الناس سواسية! وليس هناك مانع، فهم سواسية فيما يتساوون فيه، ألا تراهم في صف الصلاة: أمير ومأمور، وغني وفقير، وصغير وكبير، وكلهم في صف واحد سواسية، ليس هناك اختلاف، ورمضان يأتي على الجميع فيصومون، لكن في أمور الدنيا هناك أمور يكون التفاوت بسببها؛ ثم أليس في فعله صلى الله عليه وسلم ترغيباً له؟! هو من أبناء الملوك ويترك الملك ويأتي وتقول له: اذهب أنت مثل فلان وفلان، أقل ما فيه شيء من المجاملة ومن الترغيب، وفي تكريمه تكريم لمن وراءه. ويهمنا أنه يذكر لنا هيئة من هيئات الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من حسن ترتيب المؤلف؛ فقد جاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع إذا رفع يديه حذو منكبيه عند افتتاح الصلاة، ثم عند الركوع، وقبل أن يركع، ونحتاج إلى معرفة موقع اليدين بعد هيأتهما في الافتتاح، فهل جعلهما حذو منكبيه حتى يركع؟ لا، فإما أن يسدلهما أو يضمها، فجاء بحديث وائل هنا ليبين لنا موقع اليدين عند القيام.

هيئة وضع اليدين على الصدر

هيئة وضع اليدين على الصدر ذكر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره في الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس كأنه يخنق نفسه، وكمن يدليها على بطنه. ويذكر ابن رشد في (بداية المجتهد) قاعدة فقهية عند قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، وهي: هل العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ بمعنى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} هل يجزئ أن أمسح أول الرأس أم لابد أن أذهب إلى آخره؟ وينطبق ذلك أيضاً: أن يأتي إنسان ويقول: فلان له عليّ ألف ريال أدفعها إليه في رمضان، وفي أي يوم من رمضان؟ لفظ عام، فصاحب الدين في رمضان قال: أعطني الألف، قال: لا، في آخر يوم من رمضان، فأول يوم يصدق عليه أنه رمضان، وآخر يوم يصدق عليه أنه رمضان. إذاًً: العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ الواقع أنها قضية ليست مطردة، ففي بعض الأشياء لا تحتمل تردد، وفي بعضها تحتاج إلى قيد وتحديد. وهنا: (يضع اليمنى على اليسرى على صدره) : هل في أول الصدر من جهة البطن أم في آخر الصدر من جهة العنق؟ يحتمل الحديث الوجهين، ولكن جاءت النصوص الأخرى بالوضع الطبيعي، لا يرفعها إلى ترقوته، وهو العظم المستدير بالعنق، ومن بعده الضلوع، فإذا رفعه إلى الترقوة خرج عن الصدر، وإذا نزل عن الضلوع فقد نزل إلى القفص الصدري ومنه إلى البطن، وتأتي نصوص أخرى: فوق السرة، وعند السرة، وكلها تدور حول وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. إذاً: نرجع إلى الهيئة المعتادة، والشيء العرفي الذي يتعارف عليه الناس، والصورة التي ليست مستنكرة، فبعض الناس يكون مسترخي الأعصاب فيضعهما على البطن، وكأنه تعبان أو كسلان، وبعضهم يضعها وكأنه لا يستطيع أن ينهض، وبعض الناس يتعنت ويتشدد ويضع الأصبع على الأصبع، وبعضهم يذهب إلى نصف الساعد، وبصورة لو رأيتها تستنكر أن تكون هذه هيئة للصلاة. والأمر الوسط هو الوضع على وسط الصدر، وألا يكون على هيئة مستنكرة.

خلاف المالكية في الضم

خلاف المالكية في الضم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة يتفق عليه أصحاب المذاهب الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، أما مالك رحمه الله وهو إمام المذهب المالكي فإنه ينص على ذلك في الموطأ، فهو مذهبه، وأعتقد أن أسانيد أحاديث الموطأ فوق التهمة وفوق البحث والتنقيب عنها، وإذا ذكر مالك فهو النجم، والحديث الوارد عندنا هنا في السنن، فإذا كان مالك رحمه الله يذكر ما يسمى بالقبض في الصلاة، ومع هذا نجد بعض المالكية يقول: هذا في النوافل وليس في الفرائض، فله أن يقبض في النافلة ولكن يسدل في الفريضة، ولماذا؟ يروون في ذلك أثراً عن مالك، وأنه في رواية عنه سدل اليدين، أو أنه صلى سادلاً لهما، وأنه سئل عن القبض فقال: لا أدري، وكل هذه الأخبار ناقشها ابن عبد البر وهو من كبار أئمة المالكية، ثم نصر القبض، جاء آخر وقال: يفعل ذلك في النافلة وفي الفريضة بشرط: أن يفعل ذلك في الفرض استناناً، أي: عملاً بالسنة -لأن أمامه الحديث كالجبل، وهو في الموطأ، ولا يستطيع أن يحيد عنه- ولكن لا يفعله استناداً، وكيف استناداً؟ تعبان أو كسلان ويسند نفسه بهذا، فيقول: إن فعلها استناناً وامتثالاً لسنة رسول الله فلا مانع، وإن فعلها استناداً فهذه حركة زائدة عن الصلاة. إذاً: نرجع ونقول: لا حاجة إلى هذه التفريعات، وما دام ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وليس هناك فرق في الحديث بين نافلة وفريضة، وأخذ بذلك الأئمة الثلاثة، ومالك نص على ذلك في الموطأ، فلم يبق لهذه المسألة موضع للخلاف فيها، ولكن وجد تدوين هذا الخلاف في كتب المالكية، ويكون النقاش بين المالكية مع غيرهم، لا مع مالك.

كيفية التعامل مع الخلافات الفقهية

كيفية التعامل مع الخلافات الفقهية بهذه المناسبة، ونظراً لآثار الخلاف في الفروع، فقد يتخذ البعض هذه المسألة بالذات -لأنها واضحة وعملية- سبباً للشقاق والفرقة بين المسلمين، ونسمع من الإخوة الأفارقة أنه في بعض الأماكن يوجد هناك الخصومة، أو النزاع، وقد يكون هناك التبديع، لماذا؟ لأنه خالف المذهب أو الإمام، أو لأنه خالف الحديث؛ لأن الحديث يقول بالقبض، وهم يقولون بالسدل. أقول: هذا الوضع وهذه الكيفية هيئة من هيئات الصلاة، وبإجماع المسلمين ومنهم أئمة المذاهب الأربعة أن الفريضة والنافلة صحيحة؛ سواء قبض اليمنى على اليسرى أو سدل اليدين بجانبيه، فإذا كانت الصلاة صحيحة على كلا الحالتين فلماذا نختلف ونفترق، ونجعل جزئية فقهية في فرع من فروع الإسلام سبباً للخلاف والشقاق والخصومات والفرقة؟ هذا غرض عدو الإسلام، أن يشغل المسلمين بجزئيات عن أساسيات الدين، سواء عن جهاد، أو صلاة بعينها، أو طلب العلم حقيقة، أو بحث العقائد والتوحيد وضرورة ذلك، ويشغلهم بجزئية يدورون فيها، وخصومات، لماذا هذا كله؟ لا حاجة لهذا.

حكم الضم بعد الرفع من الركوع

حكم الضم بعد الرفع من الركوع في هذا الحديث يقول الراوي فيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، ولكن متى يضع؟ نجد الجمهور يتفقون على أن هذا الوضع على الصدر بعد تكبيرة الإحرام حين القراءة قائماً، ثم جد أمر جديد، وهو بعد الرفع من الركوع هل يضع اليمنى على اليسرى على صدره أو يرسل يديه؟ هذه مسألة جديدة، وسبق أن طلبت من الإخوة طلبة العلم أن ينقبوا في بطون الكتب الفروع والأصول، والحديث، والتفسير، وأصول الفقه، والفقه؛ ليوجدوا لنا نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً ولا أقول صحيحاً؛ فلو وجدوا ضعيفاً لقبل؛ فلم يجدوا نصاً صريحاً بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع. إذاً: توجد مواضع في الصلاة لا توضع اليمنى على اليسرى فيها، وإنما توضع اليدان في مواضع منصوص عليها: أما في الركوع فيلقم يديه ركبتيه، أما في السجود فيضع يديه على الأرض، أما في جلسة التشهد فيديه على فخذيه. إذاً: بقي عندنا الموضع الذي يمكن أن توضع اليمنى على اليسرى فيه في الصلاة: إما قائماً للقراءة، وإما بعد الرفع من الركوع؛ فهل كان يضعهما في الموقفين أم في موقف واحد؟ نختصر الطريق، وأمامنا أئمة أجلاء أوسع مجالاً، وأتقى لله، وأصفى أذهاناً، وأطهر قلوباً، وأوعى للعلم، وهم أئمة المذاهب الأربعة، فأولاً مالك: المالكية يقولون: حتى عند القيام للقراءة يسدل يديه، فإذا كانوا يقولون بالسدل عند موضع الاتفاق فهل يقبضون بعد الرفع؟ هذا مسقوط من الحساب. نأتي إلى الأحناف والشافعية -وبدون تفصيل في المذاهب- يقولون: إن وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع بدعة، ولا أصل له، وبعضهم لم يذكره ولم يتعرض له. وأما عند الحنابلة فقد نص صاحب المغني وصاحب الإنصاف على الروايات المختلفة عن أحمد، فتوجد عن أحمد رواية بوضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الرفع من الركوع، وإن شاء ترك، وأما صاحب الإنصاف فرجح الترك، ووافق الجمهور في عدم القبض بعد الرفع من الركوع. أرجع إلى التنبيه الأول وهو: أن وضع اليدين في القيام للقراءة، أو وضع اليدين بعد الرفع من الركوع، أو سدل اليدين في الموضعين، لا علاقة له بصحة الصلاة وبطلانها. وثم نقطة أخرى: من اختار لنفسه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع لا يحق له شرعاً أن يعيب من لم يفعل ذلك، أو أن يراه متعصباً جاهلاً، ولا ينبغي أيضاً لمن لم يفعل ذلك أن ينظر لمن يفعل ذلك بأنه مبتدع، أو بأنه متعصب، والمسألة خلافية، والخلاف فيها ضعيف جداً، وليس فيها سوى رواية عن أحمد مرجوحة، لكن قولهم موجود، ولو نظر إنسان في القواعد وفي الأدلة وفي الأقوال واختار لنفسه، فلا ينبغي أن نعيب عليه، لماذا؟ لأن له سلفاً، ولو أنه مرجوح، ولأن الأمر لا يتعلق بصحة ولا بفساد. والذي يهمنا كطلبة علم وكمسلمين في أي عمل من أعمال الصلاة: ألا نتخذ الجزئيات مثار خلاف ونزاع وتفرق بيننا، هذا في الصف يقبض يديه بعد الركوع، وإذا سلم نظر لصاحبه كأنه أخطأ! وهذا يسدل يديه بعد الركوع، وبجانبه أخ له يقبض؛ فإذا خرج من الصلاة لا يسلم عليه! كل اختار لنفسه قولاً بعد أن سمع، أو قرأ، أو وقف على ما يسر الله إليه، ولعل في هذا القدر كفاية فيما يتعلق بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.

صور وضع اليد في هيئات الصلاة

صور وضع اليد في هيئات الصلاة لو تفقدنا حالة الصلاة وكيفيتها نجد لكل ركن من أركان الصلاة هيئة: تكبيرة الإحرام وهي الدخول في الصلاة هيئتها رفع اليدين إلى المنكبين، ولو كبر سادلاً اليدين أخل بالهيئة في هذا الركن، وبعد تكبيرة الإحرام يأتي ركن القراءة باتفاق، ويضم يديه خلافاً لبعض المالكية، هيئة الركن الأول حركة اليدين للمنكبين، وهيئة الركن الثاني القراءة قائماً واليدان على الصدر، وهيئة الركوع اليدان مقبوضتان على الركبتين، وتكبيرة الانتقال فيها حركة اليدين إلى المنكبين، وبعد ركن القيام والاعتدال بعد الركوع نعيد اليدين إلى موضعهما، فيتشاكل هذا المنظر مع المنظر الأول، أو هيئة هذا الركن مع الذي قبله، أو نسدلهما ليفارق بينهما، وفي حركة السجود اليدان إلى الأرض، وفي الجلوس بين السجدتين اليدان على الفخذين. إذاً: بقي حالة الرفع وحالة القيام، فإذا قبضنا بعد الرفع شاكلنا هذا الركن مع ركن القيام، وإذا سدلنا غايرنا وأعطينا كل ركن هيئته التي تميزه عن غيره، أرأيت لو أن إنساناً دخل المسجد وإمامه ممن يقبض في الموضعين، ودخل الداخل والناس قيام، ووجد اليدين على الصدر مع قيام الناس، أيخطر بباله أنه في القراءة أم قد رفع من الركوع؟ سيظن أنه في القراءة وينتظر الركوع، فهذا كبر ودخل وأخذ يقرأ على أن الإمام في القيام في الركوع، فإذا به يهوي إلى السجود، لكن إذا جاء ووجده واقفاً سادلاً يديه يعرف بأن الإمام في الرفع من الركوع. على كل هذا القدر والموقف أطلنا فيه، لا لمناقشة صحة وضع اليدين بعد الرفع من الركوع وعدم الصحة، ولكن للنهي عن اتخاذ هذه الحالة موضع نزاع ونفرة بين طلبة العلم، والعامة ليس لهم دخل في هذا، فكل يفعل ما تيسر له أو اقتنع به، والعامة يقلدون غيرهم، إنسان تقول له: اسدل يديك! يقول لك: لا، رسالة عن الشيخ ابن باز يقول فيها كذا، الحمد لله، ولكن ليس عند العامة أي نظرة لتغليط الآخرين؛ لأنه يرى أن هذا صوابه، لكن طلبة العلم ربما يكون في نفوسهم نظرات إلى الآخرين؛ لأنهم يريدون من كل الناس أن يكونوا مثلهم، والآخرون أيضاً يريدونكم مثلهم، وهذا الذي حملنا على الإطالة في هذه الجزئية، وإن لم تكن ركناً في الصلاة؛ لأن سلامة الصدور والألفة والتقارب بين الجميع أهم من هذا كله، وبالله تعالى التوفيق.

شرح أثر: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم)

شرح أثر: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) قال رحمه الله: [وعن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن] . يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذا الأثر عن نعيم المجمر وهو مولى لـ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ووصف بالمجمر؛ لأنه كان يأتي بالجمر، ويجمر -أي: يطيب- المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار. يذكر لنا ما وقع له من صلاة خلف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهذا تتمة لإثبات قراءة البسملة مع الفاتحة، فيذكر لنا نعيم أنه صلى خلف أبي هريرة وسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ الفاتحة، وبعد الفاتحة يقول: آمين. ثم إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يخبر المأمومين خلفه، و (يقسم على ذلك ويقول: (إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي وابن خزيمة؛ لكأنه يقول: ما سمعتم وما رأيتم من صلاتي فليس من عندي إنما هو اقتداء واتباع، وصورة لما رأيت وسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ينقلون لمن بعدهم ما أخذوه قولاً وعملاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تطهير المساجد وتطييبها

تطهير المساجد وتطييبها ذكر نعيم المجمر يستوقفنا عند العناية بالمساجد وأنها تطيب، وجاء في الحديث: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور -كما في رواية عائشة رضي الله تعالى عنها- وأن تطيب) ، وجاء القرآن الكريم في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، ترفع حساً ومعنى: حساً بالبناء، ومعنىً بالتكريم والحفاظ والصيانة، وإبعاد ما لا يليق ببيوت الله، وجاء في الحديث: (عرضت علي أعمال أمتي؛ حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، والنصوص في هذا كثيرة، وأعظم من هذا كله ما جاء في كتاب الله من عناية المولى سبحانه بالبيت الحرام؛ بما عهد به إلى الخليل وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا الباب، فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، حيث أن عباد الله يأمون بيوت الله لعبادة الله؛ فيجب أن تتوافر لهم عوامل الراحة والطمأنينة، وأن تنزه المساجد عن كل ما يشوش على المصلي، (طهرا) : حساً ومعنىً من الأوثان ومن غير ذلك مما يغاير معتقد المسلمين، ويكدر خاطرهم. وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت فهمس إليها: يا أمة الله! لو جلست في بيتك لا تؤذي الناس، فانصرفت حالاً ولم تكمل شوطها، وبعد أن توفي عمر رضي الله تعالى عنه أتاها آتٍ فقال: اخرجي! إن الذي كان قد منعك قد مات. فقالت -وتعطي العالم درساً في السمع والطاعة وحقيقة الامتثال-: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً. هكذا الأمة تحترم الكلمة، وتحترم العلم والعلماء، وتوقرهم في الحياة والممات. وقد سمعت من ينقل عن الشافعي رحمه الله أنه حينما دخل بغداد إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله قالوا: إنه صلى في الأعظمية، أي: محلة الإمام الأعظم، وهي نسبية أي: بالنسبة للأئمة المذهب الحنفي: محمد وزفر وأبو يوسف وأبو حنيفة، يقولون: إنه صلى الصبح ولم يقنت، فقالوا: لم تركت القنوت في الصبح وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لـ أبي حنيفة رحمه الله، أو احتراماً لصاحب هذا القبر، وهذه آداب فوق المستوى، وهكذا ينبغي احترام الرأي، واحترام الكلمة والعلم، وتوقير العلماء. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم إيذاء الناس والملائكة: (من أكل من هذه الشجرة -البصل أو الثوم- فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وفرع العلماء على هذا: كل ذي رائحة مؤذية مطلقاً، وعلماء العصر الحاضر يمثلون ذلك برائحة التبغ والدخان، وبعضهم ينبه على الجوارب إذا طالت مدته، وكثر فيه العرق وعفن، وبعض الفقهاء يقول: صاحب الجرح الذي أنتن، وصاحب ثوب المهنة إذا كانت له رائحة، ومن هنا نجد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة. ويروي الشافعي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة قالت: (كان الغسل للجمعة في أول الأمر واجباً كغسل الجنابة) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان الناس في أول الأمر يلبسون الخشن من الثياب، وهم في أرض حارة، ويزاولون أعمالهم بأنفسهم؛ فيأتون وقد فاحت منهم روائح العرق، فأمرهم أن يغتسلوا، ثم لما وسع الله عليهم، وجاءتهم العلوج، وكفتهم مئونة العمل؛ صار الغسل يوم الجمعة سنة) ، وذلك نظراً للحديثين: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعني: من بلغ سنه الحلم، لا لمجرد الاحتلام؛ لأن الاحتلام موجب للغسل مطلقاً. ثم جاء الحديث الآخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم على العناية بالمظهر والمخبر في المجتمعات العامة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، ثوب المهنة اجعله للمهنة، جزار أو حداد أو في أي عمل كان، قد يكون الثوب طاهراً، ولكن قد يؤذي الجليس أو المجاور، فلا ينبغي أن يؤذي الناس بمثل ذلك، وكما روى البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت جزء من النبوة) . والعناية بالمساجد عناية بالمسلم وبالإسلام، وهي تعظيم لحرمات الله، فها هو نعيم كان يجمر المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار، وحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إذا غسل واغتسل أن يصيب من طيب أهله، وقد كانت امرأة تقم المسجد فمرضت، فسأل صلى الله عليه وسلم عنها فقالوا: إنها مريضة مرضاً شديداً، فقال: (إذا ماتت فآذنوني) ، فماتت ليلاً ودفنوها، ولما أصبح صلى الله عليه وسلم سأل عنها قالوا: إنها ماتت ودفناها ليلاً، فقال: (ألم آمركم أن تؤذنوني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك بالليل، قال: دلوني على قبرها) ، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبرها، وصلى عليها بعد أن دفنت، لأي شيء؟ لخدمتها للمسجد. وهكذا ينص المؤلف هنا على عمل هذا الراوي بأنه كان يجمر المسجد يوم الجمعة، ولا زالت السنة في هذا المسجد إلى اليوم، وللمجمرة في هذا المسجد النبوي ميزانية خاصة للعود، بل كانوا في أوائل الستينات يؤتى بالمجامر في صلاة التراويح وتجمر الصفوف بين كل ركعتين. إن العناية بالمساجد باب واسع لنظافتها وصيانتها من العبث، بل بوب البخاري رحمه الله: (الغلق للمساجد) ، وساق حديث الكعبة ومفتاح الكعبة.

سنية التأمين في الصلاة

سنية التأمين في الصلاة يذكر لنا المصنف هذا الحديث عن أبي نعيم رضي الله تعالى عنه أنه صلى وراء أبي هريرة فسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ومبحث بسم الله الرحمن الرحيم وهل هي من الفاتحة تقدم الكلام عليه، والجديد في هذا الحديث: أنه إذا فرغ من قراءة الفاتحة يقول: آمين. ومبحث التأمين في الصلاة قد أخذ حيزاً أيضاً ليس بالقليل، وناقشه كثير من علماء الحديث والتفسير، فتجدون أن القرطبي وابن كثير قد أفردا له فصلاً خاصاً في تفسير سورة الفاتحة، وأوسع من تكلم عنها في كتب الحديث لعله ابن حجر في فتح الباري فيما بوب عليه البخاري: (الإمام يجهر بآمين) . وجاء في فضل (آمين) نصوص سيذكر المؤلف بعضاً منها، فمما جاء فيها عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم يهود ما حسدتكم على آمين، وفي صفوف الصلاة، وفي السلام) ، أي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعض الروايات تزيد: (وفي الجمعة، ضاع عليهم يوم الجمعة، وهديتم إليه) ، فقد بين صلى الله عليه وسلم: أن اليهود والنصارى أضاعوا يوم الجمعة، فاختار اليهود السبت، واختار النصارى الأحد، وهدى الله المسلمين إلى يوم الجمعة، وكذلك ضيعوا موعد الصيام بالتقديم والتأخير. إلى آخره. وجاء في (آمين) أيضاً عند البخاري وغيره: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين) ، أو: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا) ، وكلها تلتقي عند معنى واحد؛ (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ويبحثون في تأمين الملائكة، أي نوع من الملائكة هم، وأية موافقة؟ قيل: الملائكة هم الحفظة الذين مع الإنسان يكتبون عليه أعماله، وقال الجمهور: الملائكة، عالم السماء عامة، وجاء اللفظ صريحاً: (من وافق تأمينه تأمين من في السماء) ، يعني: الملائكة، والموافقة كما يصححه الباجي: إنما هي في الزمن، وغيره يقول: وافق تأمين الملائكة في الإخلاص في الاجتهاد في حسن النية. إلى آخره، ولكن كما بين الباجي وغيره: يصعب أن تكون الموافقة تامة في ذلك، ولكن الذي يمكن أن تكون هي الموافقة الزمنية. إذاً: قول القارئ خلف الإمام: (آمين) ثابت بالسنة، والشوكاني في نيل الأوطار يذكر عشرة أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في التأمين، ويقول: وثلاثة أخبار عن الصحابة موقوفة عليهم، ومما جاء موقوفاً: أن عبد الله بن الزبير كان يقول: آمين، وكان من خلفه يقولون: آمين، حتى يسمع للمسجد رجة، وجاء أيضاً عن أم المؤمنين عائشة في هذا المسجد، وسيذكر المؤلف رحمه الله النصوص الواردة. أما موقف العلماء من قول المأموم: (آمين) ، فيذكره شراح الحديث والمفسرون: أما الشافعي وأحمد رحمهم الله فيقولان: يقولها المأموم والإمام جهراً في الجهرية وسراً في السرية، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: لا يقولها الإمام، ولكن يقولها المأموم، وعن مالك رحمه الله روايتان: رواية توافق الشافعي وأحمد، ورواية توافق أبي حنيفة بأن الإمام لا يقولها، والروايتان بحسب علماء الأمصار، أما علماء المدينة فيروون عن مالك مثل الشافعي، أما أهل الكوفة ومصر فينقلون عن مالك: أن الإمام لا يقولها وإنما يقولها المأموم، وما عدا ذلك من الأقوال فهو خارج عن دائرة الأئمة الأربعة، ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيها. يقول الشوكاني وابن عبد البر: النصوص الواردة تدل على أنها مشروعة، وأنها سنة، وأن الإمام والمأموم يقولانها، ويتحرى المأموم تأمين الإمام ليكونا معاً في وقت واحد؛ ليوافق ذلك تأمين الملائكة.

معنى قول: (آمين) وموضعها

معنى قول: (آمين) وموضعها أما قول: (آمين) ففيها لغتان: الأولى المد (آمين) ، والثانية القصر (أمين) ، وبعضهم ينقل لغة ثالثة هي: (آمّين) بتشديد الميم، ولكنها شاذة وإن صحت لغة، إلا أنها لا تتفق مع السياق والمعنى، لأن (آمّين) بمعنى قاصدين، كما قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، والجمهور على أن معنى (آمين) : اسم فعل بمعنى استجب، أي: استجب الدعاء المتقدم؛ لأن الفاتحة حمد لله، ثم نعته بصفات الجلال والجمال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] ، ثم تأتي أعظم مسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، فهذه مسألة عظمة تتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي منهج المسلم في حياته. والسر في كون تأمينك يوافق تأمين الإمام مع الملائكة: أن تكون مترقباً القراءة لست غافلاً ساهياً عما يقرأ الإمام، فتكون متابعاً للإمام من أول تكبيرة الإحرام إلى أن يفتتح القراءة، وتتابعه كلمة كلمة، آية آية؛ حتى تكون مترقباً لقوله: (ولا الضالين) ، فتنطق بـ: (آمين) . وعندما يسمع المأموم الإمام يقول: (ولا الضالين) لا ينتظر حتى يقول الإمام آمين؛ لأنه إن انتظر فاتته موافقة الإمام، إذاً: آمين بمعنى استجب، وآمّين قالوا: قاصدين الهداية إلى الصراط المستقيم، لكن المشهور ما عليه الجمهور وهو أن التأمين إنما هو بدون تشديد الميم، فهو: إما أن يكون بالمد وهو ما عليه الجمهور، وإما أن يكون قصراً كما يرويه البعض. وينبه بعض العلماء على أن المأموم إذا قرأ وكان منفرداً، أو أن الإمام إذا قال: (ولا الضالين) يفصل بين نون (الضالين) وبين مد (آمين) ، لئلا يظن الظان أن آمين جزء من الآية؛ لأنها ليست من السورة. وجاء عنه صلى الله علي وسلم أنه قال: (أهدى إليّ جبريل آمين بعد الفاتحة) ، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وأمنّ ببيان من جبريل عليه السلام، وأمر الناس أن يقولوا: آمين، على ما تأتي النصوص الواردة عند المؤلف رحمه الله.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [6]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [6] قراءة سورة الفاتحة هي العمل الثالث في الصلاة بعد التكبير ودعاء الاستفتاح، وهي ركن بدونه لا تجزئ الصلاة، يضاف إلى ذلك استحباباً ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قراءة سور زيادة عليها؛ فقد كان يطيل بحسب الصلاة سرية أو جهرية وبحسب من خلفه من الناس، ورغم كل ما تحمله هذه السورة من معان عظيمة إلا أن الشرع قد رخص لمن أسلم ولم يتسع الوقت له لحفظها ودهمه وقت الصلاة أن يأتي بدلاً منها بأذكار تتضمن ما فيها من حمد وثناء ودعاء لله عز وجل.

شرح حديث: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم

شرح حديث: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن واله وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها) ، رواه الدارقطني وصوب وقفه] . نعلم جميعاً أن ابن حجر من أئمة الشافعية، وهم من أشد الناس في إثبات الجهر بالبسملة؛ ولهذا يورد نصوصاً عديدة ليثبت مذهبه، فهذا الحديث: أن أبا هريرة يقول -ورفعه إلى رسول الله-: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها) ، ثم بين ابن حجر بأمانة العالم من روى هذا الأثر، وبين بأن الصحيح وقفه على أبي هريرة، وفي المصطلح: أن الحديث المرفوع هو ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم صادراً عنه، والموقوف هو ما قاله الصحابي وليس معزواً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا الموقوف عند العلماء قد يأخذ حكم المرفوع؛ وذلك حينما لا يكون للرأي والاجتهاد فيه مجال، ولا يتأتى الإتيان به من عند نفسه، كما لو كان من أخبار يوم القيامة، أو من أخبار الماضين وبعيداً عن الإسرائيليات، أو عملاً يترتب عليه جزاء وثواب معلوم؛ فلذا قالوا: لن يتأتى لإنسان أن يخبر به من عنده، ولابد أن يكون سمعه من النبي، ولو لم يقل فيه: قال رسول الله! وأما هذا الحديث فقد صح عند علماء الحديث أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وإذا كنا في معرض خلاف بين قراءة البسملة في الفاتحة وعدم قراءتها، وجاءنا عن أبي هريرة حديث موقوف فما موقفنا؟ كما لو جاءنا أبو هريرة اليوم ووقف على المنبر وقال: يا مسلمون! إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها آية منها، هل هناك شخص يستطيع أن يقول له: من أين أتيت بهذا يا أبا هريرة؟ لا يستطيع، وليس له حق في ذلك؛ لأنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولما انتهى من صلاته قال: (والذي نفسي بيده! إني لأشبهكم بصلاة رسول الله) ، فذاك الحديث يقوي هذا. وإن لم يكن سمعه من رسول الله فقد سمع ما يؤيده، فلما ذكر صلى الله عليه وسلم أعظم سورة قال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم) ، والفاتحة لا تكمل السبع إلا بالبسملة، فسواء قاله استنتاجاً من هذا الحديث أو سماعاً من رسول الله، ولم يذكر رسول الله في الرواية، أو أنه مرفوع لكن كما قال المؤلف: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة، وهذا مما يؤيد ما قال به المؤلف والجمهور من أن البسملة آية من سورة الفاتحة.

شرح حديث: (قل: سبحان الله.

شرح حديث: (قل: سبحان الله ... ) قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم] . المؤلف رحمه الله بعد مبحث قراءة الفاتحة بما معها من البسملة والتأمين يأتي بهذا الحديث الذي فيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن، وكأن الرجل علم بأن الصلاة لابد فيها من قراءة قرآن، فقال: أنا لا أحسن ماذا أفعل؟ ولعله سمع خبر المسيء في صلاته: (فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، المهم أنه علم، ووجد في نفسه العجز عن هذا، فهل قال له رسول الله: لا صلاة إلا بعد أن تحفظ؟ لا، فسماحة الدين ويسر الإسلام، ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل لا تتناسب مع هذا الموقف، وهل سيظل طوال عمره عاجزاً أن يحفظ الفاتحة؟ ليس بمعقول، فهذا عربي وذكي ويحفظ، فهو يحفظ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والفاتحة سبع آيات، وهذه خمس جمل، ويمكنه أن يحفظها، لكن في الوقت الحاضر هل يترك الصلاة حتى يحفظ؟ لا، وهكذا التيسير في التعليم، والتدرج مع الجاهل، فالذي يجزئ في الصلاة نيابة عن الفاتحة هو هذا. الفاتحة كلام الله، والرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى حال الرجل، ونستطيع أن نقول: الفاتحة كتاب الله، وهي سبع من المثاني والقرآن العظيم، وفي حديث أُبي: (لن تخرج من هذا المسجد حتى أخبرك بأفضل سورة نزلت في التوراة والإنجيل والقرآن) ، فتباطأ في المشي خوفاً من أن تفوته، (قال: فاتحة الكتاب) ، أي: أنها أفضل ما نزل في الكتب السماوية. إذاً: البديل عن هذا ماذا يكون؟ أعلى ما يكون في المنزلة من الذكر والدعاء، وهذا شيء بديهي، يعني: لو أن إنساناً مطالب بجنيه ذهب فعجز عنه فهل يأتي بحصاة؟ لا، لكن بفضة، أو بحديد أو نحاس. بالتدريج، قال علمني ما يجزئ، أي: ما يقارب الإجزاء بدلاً عن الفاتحة، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله. إلخ) .

معنى التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

معنى التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير هل تعلمون مكانة سبحان الله والحمد لله؟ ورد في نصوص خاصة بها: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وقدمنا مراراً بأن العبرة ليست بمجرد خفة اللسان، فالببغاء يقولها، ولكن يجب أن تربط اللفظ بمحتواه، كما يقول علماء العربية: الألفاظ قوالب المعاني، فالمعاني جواهر توضع في ألفاظ تصونها، فإذا كانت لديك جوهرة نفيسة أو حجر كريم غالي من زمرد أو ياقوت هل تضعه في علبة كبريت وتضعه في جيبك؟ لا، بل تنظر له علبة مطعمة منظمة، بل يمكن أن تأتي له بعلبة ذهبية تتناسب مع علو مكانة هذا الجوهر، فتخير الألفاظ للمعاني من أسرار العربية. وأما معنى (سبحان) ؛ فيقول علماء فقه اللغة: الأصل في وضع الألفاظ للمعاني الأشياء المحسوسة الملموسة، ثم ينتقل بها إلى المعنويات، نعلم أن سبحان الله هو تنزيه الله عما لا يليق بجلاله، ومادة (سبحان) أصلها من سبح، وسبح المحسوس الذي يسبح في الماء، ولماذا يسبح الإنسان في الماء؟ لئلا يغرق، فكذلك المسبح لله؛ لئلا يغرق في بحار الشرك، ولينزه الله ويبعده عما لا يليق بجلاله كما يبعد نفسه عن مهالك الغرق. والحمد لله: الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا ينبغي هذا أبداً ولا يجمع إلا للمولى سبحانه؛ لأنه كامل الذات والصفات، فإذا قلت: (سبحان الله) نزهته عن كل ما لا يليق بجلاله، وإذا قلت: (الحمد لله) أثبت لله جميع صفات المحامد والكمال، وهذا أقصى منتهى التوحيد. و (لا إله إلا الله) : في حديث البطاقة في الرجل الذي يأتي يوم القيامة ولديه سجلات من الذنوب والخطايا قد ملأت الميزان وليس عنده شيء؛ فيظن أنه هالك إلى النار، فيقال: لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة فيها (لا إله إلا الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فيقول: ماذا تفعل هذه بتلك السجلات التي كالجبال؟ فيقول: اصبر، فتوضع تلك البطاقة التي في عينه ولا شيء في كفة الحسنات فترجح لا إله إلا الله. (والله أكبر) ؛ أكبر من كل كبير. (ولا حول ولا قوة إلا بالله) ، وزاد المؤلف كلمة (العلي العظيم) ، ورواية الصحيحين ليس فيها ذلك، وإنما توجد في بعض السنن.

صلاة من أسلم حديثا

صلاة من أسلم حديثاً هل يظل الرجل على هذا الذكر طيلة حياته أم أن هذا أمر مؤقت إلى أن يتعلم سورة الفاتحة؟ يأتينا بعض الناس إلى المحكمة ليسلم من جنسيات متعددة، وبالكاد ينطق بالشهادتين، ولم يحفظ الفاتحة بعد، فنقول له: اذهب مع الناس الذين معك وصلِّ معهم ولو حتى تركع وتسجد بدون ذكر؛ ليرتبط مع جماعة المسلمين، واليوم يحفظ كلمة وغداً ثانية إلى أن يحفظ الفاتحة، ولو قال: لا إله إلا الله ومات في حينه يحكم له بالإسلام. إذاً: لو أسلم إنسان ولم يحفظ شيئاً من كتاب الله نقول له: انطق بالشهادتين، ويجب أن ينطق بهما باللفظ العربي ولو لم يفهم المعنى، ثم بعد ذلك يذكر الله بما شاء بلسانه وبلغته إلى أن يتعلم الفاتحة، ومن هنا يقول الشافعي رحمه الله: تعلم العربية فرض عين على كل مسلم بما يصحح به صلاته: (الله أكبر، سمع الله لمن حمده، السلام عليكم، سورة الفاتحة) ومن نعم الله وآلائه ومن خصائص القرآن: تيسيره على الجميع، ولعلكم تجدون هذا جلياً في مسابقات حفظ القرآن عندما يأتي أفراد من العالم كله إلى مسابقات حفظ القرآن الكريم في مكة؛ فنجد أشخاصاً إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ من أي سورة من القرآن أحسن قراءة من بعضنا، وإذا سألته عن كلمة واحدة مما قرأ لا يفهم معناها، سبحان الله!! إذاً: حفظ القرآن ميسر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] ، والفهم من الله! إذاً: هذا من باب الإرفاق والتيسير في التعليم، وأخذ الجاهل بقدر ما يستطيع، وتدرج وبديل عما يمكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . وهل يقول ذلك مرة واحدة في صلاته كلها أو في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؟ بل في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؛ لأنه تقدم لنا في حديث المسيء في صلاته في قراءة الفاتحة: أن كل ركعة صلاة بذاتها، أي: محسوبة صلاة، وفي الحديث: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) . وقوله: (إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني) الحديث، كلمة (الحديث) ، تعني: إلى تمام الحديث، كما تجد في بعض العبارات: كذا وكذا. إلخ، يعني إلى آخره، فكلمة (الحديث) يعني هذا الخبر في حديثه بقية، ما هي تلك البقية؟ موجودة في الشرح.

حظ المصلي من الدعاء في الصلاة

حظ المصلي من الدعاء في الصلاة الرجل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله -وعلى الروايةالأخرى-: العلي العظيم) ، قال: يا رسول الله! هذا لله، فماذا لي؟ هذا لله: سبحان الله، تسبيح لله، الحمد لله، حمد لله، لا إله إلا الله، والله أكبر كذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله تذهب أيضاً لله، كلها تذهب لله؛ فما حظي؟ وهذا مما يدل على أن الرجل عاقل وفاهم، فمثل هذا هل يعجز عن حفظ الفاتحة؟ لا، ولكن الوقت ضيق، فبم أجابه صلى الله عليه وسلم؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، الرجل لما تأمل في هذا الذكر الذي علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه، وعلم أنه ليس مجرد لفظ فقط، فهو يعلم أن هذا من حق الله سبحانه، وماذا يعود علي؟ وهذا طمع. ألا يكفيك أنك أديت حق الله عز وجل؟ أنت تقول: إنك عاجز وتريد ما يجزئ، ولكن انظر إلى السماح! فقد جعل الرجل ينفسح أمله عند الله أكثر، علمه كيف يصلي، وأعطاه ما يجزئ، فلم يقل: جزاك الله خيراً، ولكن أريد زيادة، هذا هو التعليم وفضل الله. قال: (إذا انتهيت من هذا قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، وهذه له هو، الرحمة، والرزق، والمغفرة، (وعافني واهدني) ، لما سأل الرجل: ما هو حظه من هذا الذكر؟ وجهه إلى جماع أبواب الخير: ارحمني، اغفر لي، وهل هذا من أمر الدنيا أم الآخرة؟ وماذا بقي إذا غفر له ورحمه؟ والرزق مضمون في الدنيا لكنه زيادة طلب، وإذا هداه إلى ما يرضاه فيكون مع الذين أنعم الله عليهم، (وعافني) أما هذه فقد جمعت كل الخير، أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أحب الناس إلى رسول الله من النساء، في أشرف ليلة -في ليلة القدر- تقول: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) فالسؤال من أحب إنسان لأحب إنسان في أفضل الليالي، فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) . المسألة في ليلة القدر أعظم مسألة وما عداها مقدمة وسيلة وقربة إلى الله عز وجل، وهذا الواجب عندما يكون لك حاجة عند عظيم: هل تمسك به فتقول: أعطني؟! لا، ولكن: اعمل معروفاً، انظر إلى حالتي، أنت كريم، أنت لا ترد أحداً، قد لا يكون كذلك لكن أنت تأتي بها من أجل أن تغريه أن يعطيك (ولا أحد أحب إليه المدح من الله) تأتي بالأول: (اللهم) ، يعني: يا الله، (إنك عفو) ، الأصل أنك عفو لا تعاقب، (تحب العفو) ، قد يعفو الإنسان برغم عنه، إذاً: ما دمت أنك عفو وتحب العفو فأنا أسألك العفو، سألتك ما تحب وهو من فعلك وصفتك. يقول بعض العلماء: كنت أعجب من هذا اللفظ، فلما تأملته فإذا به جماع الخير كله، من عوفي في بدنه ماذا يريد؟ ومثله من عوفي في دينه من الآفات والبدع، من عوفي في ولده وماله، من عوفي يوم الحساب، ماذا يبحث بعد ذلك؟ قال: فتأملته فوجدته جامعاً لكل خير. ربما نجد شاهداً لفهم هذا الرجل من الحديث القدسي، وفي خصوص الصلاة وفي عين الفاتحة؛ لأنه ثبت في الصحيح: أن الله سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا قال العبد: الحمد لله، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: مدحني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه بيني وبين عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ، العبد يسأل فماذا يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ؛ فكأن الفاتحة تشتمل على حق لله وحق للعبد المصلي. هذا الرجل وإن كان لم يحسن الفاتحة لكنه فقيه رشيد، أنار الله بصيرته؛ لما سمع من رسول الله المجزئ والبديل عن الفاتحة، وتأمّل ذلك، وجد أن كله لله فطلب حظه، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حظه من الدنيا والآخرة، والله المستعان.

شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر والعصر.

شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر والعصر ... ) قال رحمه الله: [عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا؛ فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) متفق عليه] . رغم تنوع الصلاة إلا أن لكل منها نصوصها، فبدأنا بالظهر والعصر؛ لأن أول صلاة جماعة في الإسلام هي الظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به ليلاً، وفرضت الصلوات الخمس بليل، نزل الصبح، وجاءه جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الظهر وصلى به، فكانت أول صلاة جماعة بعد فرضية الصلاة ليلة الإسراء هي الظهر، فيقول أبو قتادة: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر) فماذا قرأ؟ (بفاتحة الكتاب وسورتين) ؟ يقرأ أين؟ أجملها، ما دام بفاتحة الكتاب وسورتين، أي: مع كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، هذا في الأوليين؛ لأن الظهر والعصر أربع ركعات، فالفاتحة في كل ركعة مع سورة، الفاتحة مكررة ومعها سورتان في كل ركعة؛ مع أنه سيأتي أنه يجوز أن يجمع السورتين في الركعة الواحدة، ولكن ذلك ليس مراداً هنا. (ويسمعنا الآية أحياناً) مع أن الظهر والعصر سرية، وهل الجهر من الفاتحة أم من السورتين؟ من السورتين، ومن هنا علموا أنه كان يقرأ مع الفاتحة سورة أخرى. (وكان يسمعنا الآية أحياناً) ، يقول العلماء رحمهم الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم ليس على سبيل الصدفة، ولكن على سبيل التعليم، كأنه يعلمهم بأنه يقرأ مع الفاتحة سورة وها هو يسمعهم الآية منها، ويقول: (أحياناً) يعني: ليس بصفة دائمة؛ لأن التعليم يحصل بمرة أو بمرتين، ويذكرهم في بعض الحالات. (ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، مفهوم ذلك: أنه لا يطيل في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، وجاء التعليل عند بعض العلماء: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الأولى قالوا: (كنا نظن أنه يفعل ذلك ليدرك المتأخر الركعة الأولى) حتى جاء في بعض الروايات عند مسلم: (كانت تقام الصلاة فيذهب الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي فيدرك الركعة الأولى) . (ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وهما الثالثة والرابعة، كان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ثم سكت الراوي، وفهم من هذا: أنه يقرأ في الأوليين مع الفاتحة سورة، وسكوت أبي قتادة عن ذكر قراءة سورة أو آية أو شيء سوى الفاتحة في الأخريين أخذ بعض الناس منه بأن الركعتين الأخريين يقتصر فيهما على الفاتحة وكفى. إذاً: من يقول: لا يقرأ في الركعتين الأخريين سوى فاتحة الكتاب هذا دليله، ولكن إذا جاءتنا نصوص أخرى تدل على أن في الركعتين الأخريين قراءة، فبأي الحديثين نعمل؟ القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: إذا تعارض ناف ومثبت فإننا نعمل بقول المثبت، وهذا لم ينف ولم يقل: لم يقرأ فيها، ولكن سكت، والسكوت عن العلم ليس بعلم، فإذا جاء غيره وأثبت لنا قراءة في الركعتين الأخريين عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب أن نعمل بقول من أثبت قراءته في الركعتين الأخريين، لكن المؤلف رحمه الله إنما ألف الكتاب لا ليناقش ولكن ليبين أدلة الأحكام عند الفقهاء، ولذا سماه: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، فيأتي بالأحاديث التي استدل بها كل إمام في مذهبه، أو كل عالم فيما ذهب إليه، وكأنه يقول لك: من قال: لا يقرأ في الركعتين الأخريين إلا بفاتحة الكتاب فقط؛ فهذا دليله، ثم يأتيك بالأحاديث الأخرى ليبين أدلة الأقوال الأخرى.

شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر.

شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر؛ فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ) . أبو قتادة يقول: (ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وأبو سعيد الخدري يقول: (كنا نحزر) أي: نقدر، والحزر أو الحرز أو الخرص: التقدير، فنحزر أي: نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل قيامه في نافلة خاصة به أم في صلاته بهم؟ النافلة ليس لنا دخل فيها؛ لأنه بإجماع المسلمين لا حظر عليك فيما تقرأ فيها، فإن شئت قرأت القرآن كله في ركعتين، وإن شئت قرأت الفاتحة والإخلاص؛ لأن المتطوع أمير نفسه، اللهم إلا في تطوع الجماعة مثل التراويح، فيراعى فيها ظروف الناس، فإذا كان متطوعاً لنفسه فليصلي ما شاء. والمقصود بصلاة رسول الله هنا الفريضة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل في بيته، قال أبو قتادة: (صلينا مع رسول الله) ، وهنا أبو سعيد رضي الله تعالى عنه كأنه يقول: صلينا مع رسول الله وحزرنا قراءته في الظهر والعصر، فالقضية لا زالت في الظهر والعصر، فـ أبو سعيد يقول: قدرنا ما يقرأه في الركعتين الأوليين بـ {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ، هذا في الركعتين الأوليين، (وفي الأخريين قدر النصف من ذلك) ، والنصف من قراءة (الم تَنزِيلُ) هل سيكون النصف فقط أم الفاتحة ومعها غيرها؟ قطعاً: الفاتحة ومعها غيرها، وهذا الحديث يدل على أن المصلي في الفريضة يقرأ في الركعتين الأخريين بالفاتحة ومعها شيئ آخر، مع تطويل الأولى على الثانية، فيقرأ في الركعة الأولى بقدر، وفي الثانية بقدر النصف من ذلك، وسيأتي قدر القراءة في العصر. فـ أبو سعيد يبين لنا مدى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ويفسر التطويل الذي جاء في حديث أبي قتادة؛ فهو يطيل في الأولى إلى حد أن الثانية بقدر النصف من الأولى، وسيأتي أنه يقارن بين الأولى والثانية من الظهر، والأولى والثانية من العصر كما في نهاية حديثه. وإذا جئنا إلى سورة السجدة فعددها (30) آية، وفي بعض الأحاديث: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها يوم القيامة) ، فهل هي السجدة أم أنها تبارك؟ كلاهما ثلاثون آية. إذاً: حديث أبي سعيد يبين لنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوليين قدر السجدة، وفي الأخريين قدر النصف، إذاً: الأخريان هل فيهما قراءة مع الفاتحة أم ليس فيها كما قال أبو قتادة؟ فيها، ولكن مع التفاوت، فالأوليان بقدر (السجدة) ، والأخريان بقدر النصف. قال: (وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على قدر النصف من ذلك) رواه مسلم، ففي العصر الأوليان منه بقدر الأخريين من الظهر، قال: (والأخريين على قدر النصف من ذلك، والأخريين من العصر على قدر النصف من ذلك) أي: نصف السجدة، وهو الربع.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [7]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [7] سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لكل صلاة ما يناسبها من طول أو قصر في القراءة، مراعياً فيها جانب المأمومين، وجانب الوقت الذي تكون فيه الصلاة.

شرح حديث: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا)

شرح حديث: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن سليمان بن يسار قال: (كان فلان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسطه، وفي الصبح بطواله، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد صحيح] . بدأ المؤلف يفصل مقدار ما يقرأ الإنسان في الصلاة، وذلك ابتداء من حديث أبي سعيد؛ حيث بين لنا القراءة في الأوليين من الظهر بقدر سورة السجدة، وفي الأخريين نصفها، وفي الأوليين من العصر نصف سورة السجدة، وفي الأخريين قدر ربعها. وهنا المسألة الثانية، ونقدم لها بمقدمة بسيطة: نعلم جميعاً -يا إخوة- أن الإسلام بصفة عامة مبناه على التيسير، والصلاة كذلك مبناها على التخفيف والتيسير، ومعاذ رضي الله عنه لما طول وقرأ البقرة، وخرج الرجل من الصلاة وصلى منفرداً، وبلغ الخبر رسول الله قال: (أفتان أنت يا معاذ؟! من أم بالناس فليخفف) ، وقال: (أين أنت من الشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، والضحى والليل إذا سجى) ؟ وتقدم لنا مبدأ في حديث المسيء في صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، إذاً: بداية تبدأ بما تيسر، وتنتهي بما لا مشقة فيه؛ حتى وجدنا من لم يستطع أن يأخذ من القرآن شيئاً أنه يجزئه قول: سبحان الله، والحمد لله. إلى آخره. إذاً: هذه المسألة، وهي: مقدار ما يقرأ المصلي في صلاته من سور مع الفاتحة سرية أو جهرية إنما هو بحسب البيئة أو فئة الموجودين، ومقتضيات الحال، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأدخل في الصلاة بنية الإطالة؛ فأسمع بكاء الأطفال فأخفف رحمة بقلوب الأمهات) . إذاً: هذه المسألة لا حد فيها، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور، وقرأ فيها بالمعوذتين، فليس هناك حد، وكم هو الفرق بين الطور وبين الفلق والناس، قالوا: يفعل ذلك أحياناً، ويفعل ذلك أحياناً؛ لأنه ربما علم بكثرة الناس خلفه، وكثرة العدد موحية بوجود ذوي الأعذار، بخلاف إذا ما وجد عشرة أو خمسة عشر معروفون، وكلهم على نشاط، وكلهم يرغب في الإطالة، فلا مانع من ذلك. إذاً: كل النصوص التي تأتي في هذه المسألة من تحديد ما يقرأه الإنسان مع الفاتحة مرجعه إلى حالة المصلين، فتارة جاء التطويل، كما جاء في بعض الروايات: أنه قرأ الأعراف في ركعتين، إذاً: ليس هناك ضابط معين يلتزم به الإنسان، وهذا الحديث يفصل بعض التفصيلات. وعن سليمان بن يسار قال: (ويقرأ في المغرب بقصار المفصل) . القرآن منه الطوال، ومنه المفصل، والطوال هي السور الطويلة، وفصل ما بين السورة والسورة بعيد، فتجد البقرة جزئين ونصف، والفاصل في سورة آل عمران كذلك، ولما تأتي إلى آخر المصحف تجد ثلاث سور في صفحة واحدة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ؛ فتجد ثلاث فواصل في صفحة واحدة. وما هي طوال المفصل؟ لا تجد نصاً متفقاً عليه بين الفقهاء أو القراء أو المفسرين فيه حد لبداية المفصل، ولكن بعضهم يقول: أوله الصافات، وقيل: أوله الحَواميم من (غافر) ، وقيل: فصلت، وقيل: القتال، وقيل: سورة الفتح، ولكن الذي في ذهني أن الجمهور على أن أول المفصل هو سورة الحجرات، وما يليها هو من طوال المفصل، ويتفقون على أن قصار المفصل من الضحى، وعلى هذا: فقد كان يقرأ بقصار المفصل، وهو ما جاء في بعض الروايات: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، وهذا في المغرب، بينما الرواية الأخرى: (يقرأ بالطور) . إذاً: هذا بيان لبعض حالات ما يقرأه الإنسان مع الفاتحة.

استحباب قراءة سورة كاملة في الصلاة

استحباب قراءة سورة كاملة في الصلاة كل ما سبق إنما جاءنا بسور كاملة، وجاءنا ما يوحي بأنه تنقسم السورة الواحدة بين الركعتين، وأما قراءة بعض الآيات من سورة في ركعة، وبعض الآيات من سورة أخرى في ركعة، فـ مالك رحمه الله في مبحث سجود التلاوة يكره أن يقتصر الإنسان على بعض آيات من سورة طويلة، والأفضل عنده سورة قصيرة بقدر تلك الآيات أولى من أن تأخذ بعض آيات من سورة، وما وجه النظر في هذا؟ وجهة النظر عميقة جداً؛ لأنك إذا جئت وأخذت خمس أو أربع أو ثلاث آيات من سورة من السور الطوال ربما تكون تلك الآيات التي أخذتها جزءاً من موضوع طويل، لكن حينما تأخذ سورة صغيرة فكل سورة من القصار هي موضوع مكتمل بذاته، وحتى لو طالت قليلاً فسوف تجدها تدور حول موضوع واحد، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا، وأن هذا يحتاج إلى تأمل. فلو جئت من أول المفصل وأخذت من سورة تبارك، انظر إلى افتتاحية السورة فسوف تجد موضوعها يدور حول افتتاحيتها، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] ، فكل ما يأتي بعد الافتتاحية يدور حول القدرة والعظمة الإلهية: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] ، إلى آخر السياق، وإذا جئت إلى الجزء الأخير فأوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1-3] ، وما هو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه؟ قيل: هو القرآن، وقيل: هو البعث، وهو الصحيح، ثم تأتيك بعد هذا أدلة البعث مكتملة في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:6-10] ، إلى قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:17-18] ، فكل السياق في هذه السورة يمشي تباعاً على النبأ العظيم ويبينه. وإذا جئت إلى قصار السور مثل الضحى، رأيتها تدور حول تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وتعداد النعم عليه، وتأتي بعدها سورة الانشراح وهي تابعة لما قبلها بصيغ الاستفهام المتتالية، وهكذا تجد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تدور حول وحدانية المولى سبحانه، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) تدور على الاستعاذة بالخالق من المخلوقات، فوجهة نظر مالك رحمه الله فيما يقرأه القارئ مع الفاتحة أنه يختار سورة قصيرة خير من أن يختار عدة آيات من سورة طويلة، مع أن الكل جائز لعموم ما تيسر، والذي تيسر آية أو أكثر.

مقدار القراءة في صلاتي العشي والصبح

مقدار القراءة في صلاتي العشي والصبح قوله: (وفي العشاء بوسطه) ، إذا اتفقنا على أن أول المفصل سورة الحجرات، فإن وسطه من عم إلى الضحى، هذا من وسط المفصل. (وفي الصبح بطواله) وطواله طوال المفصل، إن قلنا: من الصافات أو غافر أو القتال أو الفتح كل هذا من طواله، يعني من السور الطويلة التي هي في أوائل المفصل. إذاً: هناك مغايرة، وعلى هذا التقسيم فأطول صلاة هي الصبح، لماذا؟ يقول بعض العلماء: الصبح يكون عند قيام الناس من النوم، والناس في غفلة، فإذا قرأ الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم سلم فالذي في بيته يكون لم يتوضأ بعد، لكن إذا قرأ من طوال المفصل فتوجد فرصة للذي يتأخر؛ عله إن لم يدرك الأولى أن يدرك الثانية، فقالوا: إطالة القراءة بغية أن يدرك المتأخر الصلاة، ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أن الصبح ليست وقت عمل، وهو أرجى أوقات العبادة، حتى أن علماء الاجتماع يقولون: أقوى ما يكون الذهن والذاكرة في الصباح؛ لأنك تنام ليلاً طويلاً وتستريح عن التفكير، والعقل في راحة، وكلما أخذ الجسم راحته كلما كانت جميع أعضائه أقوى على ما يقوم به فيما بعد؛ لأنها في فترة راحة؛ فإذا استيقظ من النوم يكون أقوى وأشد استعداداً لتلقي كل خير، ولذا يوصون الطالب إذا أراد أن يحفظ الدرس أن يحفظه بعد صلاة الصبح؛ فالمذاكرة والفهم يكون في وقت خال، وفي جو هادئ. فإذا كان الأمر كذلك فيكون صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الصبح؛ لأن الناس لديهم استعداد أكثر لسماع القرآن، وهذا بخلاف العصر ويقولون أيضاً: وقت الظهر وقت القيلولة، وكانوا يفطرون في الضحى، ويقيلون قبل الصلاة، فيقومون أيضاً على نشاط، ولكن صلاة العصر أكثر الناس في أعمالهم، فهم في حالة انشغال فيخفف عليهم، وإذا جاء إلى العشاء يعقبها النوم وليس هناك عمل، فكان هذا مراعاة لحالات الناس لئلا يشق أو يضيق عليهم. إذاً: يذكر لنا أبو هريرة بصلاة هذا الرجل أن الصلاة في الصبح بطوال المفصل، والصلاة في المغرب بقصارها، والعشاء بأوسطها، وهكذا يقولون في تفاوت القراءة ما بين صلاة وأخرى. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد صحيح. وهذا مما يعطي الحديث حكم الرفع، وكأن أبا هريرة يقول: هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور) متفق عليه] . أين قصار المفصل من الطور؟

شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة.

شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: ((الم)) * ((تَنزِيلُ)) و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)) ) متفق عليه] . كأن المؤلف يقول: صلاة الرجل التي قال عنها أبو هريرة أشبه بصلاة رسول الله، وأنه يقرأ في الصبح بطوال المفصل، ما عدا صبح الجمعة؛ لأن للرسول فيها قراءة مستقلة، ما هي؟ (الم) السجدة، و (هَلْ أَتَى) ، وهل يقرأهما معاً في ركعة أم يقسمها في ركعتين؟ هما سورتان، والصلاة ركعتان، إذاً: كل واحدة في ركعة، وتأتي بعض النصوص في أنه كان يديم ذلك، ويرى بعض العلماء عدم الاستدامة. ولماذا خص صبح الجمعة بهاتين السورتين؟ لأن كلتا السورتين تتحدث عن خلق الإنسان ابتداءً، وعن مآله انتهاء: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:8-9] ، ثم بين حالة الإنسان في آخرته وما يؤول إليه، وفي السورة الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1-2] إلى آخر السورة، ويقولون: يوم الجمعة هو يوم خلف آدم، كما أن يوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، فيوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه نزل منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه. إذاً: يوم الجمعة يدور معه أخبار خلق الإنسان والجنة والنار والبعث؛ فهي فرصة لتقرأ فيها هذه السورة على مسامع المسلم فيتذكر بدايته، ونهايته، ويتهيأ للجنة التي أخرج منها أبوه آدم ليعود إليها، وهكذا السورة الثانية. إذاً: نستطيع أن نقول: إن هناك اختيار لبعض السور لبعض المناسبات، لكن لا نستطيع أن نقرر أو أن نقول: إن هذه سنة، وهذه بدعة، ولكن هذا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي شرعه للأمة، فقد كان يقرأ في الصبح من يوم الجمعة بهاتين السورتين، وتأتي بعض النصوص بالمداومة عليها، ولكن نجد بعض الأئمة لا يداوم عليها، وخاصة أيام الموسم، وإذا سألته قال لك: هناك بعض الناس لا يعرف هذه السورة ولا القراءة فيها، ولم يعودهم أئمتهم، فإذا كبر الإمام وسجد للتلاوة ركعوا، فيكون ساجداً وهم ركوع، وإذا قام من السجود رفعوا من الركوع، وإذا كبر للركوع كانوا هم سجود؛ فيحصل اختلال في الصلاة، فإذا وجدت شدة زحام، والوافدون كثر، وخيف الارتباك؛ فلا مانع من الترك؛ حفاظاً على صحة الصلاة واتباع الإمام، أما في الأيام العادية فلا مانع من قراءتها، وبعض العلماء يقول: لا ينبغي الاستدامة عليها؛ حتى لا يظن العامي بأنها فرض في كل يوم جمعة، وأن صبح الجمعة لا يصح إلا بهما. فينبغي أن يتبين للناس أنها سنة في هذا اليوم، وأن الغرض منها ليس مجرد السجدة، ولا أن أي آية من آيات السجدة أو سورة من سور السجدة تجزئ، والقرآن فيه عشر سجدات متفق عليها، والباقي مختلف فيها، ولكن المراد موضوع ومضمون السورتين، وهو التذكير ببدأ خلق الإنسان وبعثه ومآله يوم القيامة ليتأهب لذلك، وخاصة في يوم الجمعة الذي تتضاعف فيه الأعمال، ويندب فيه فعل الخير، وهذه من السنة المعمول بها، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [وللطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يديم ذلك) ] . هذه الزيادة يأتي بها المؤلف، وهو شافعي المذهب، والشافعية يؤكدون عليها ويرون دوامها، ولو اقتصر على آية السجدة منها فقط لأجزأ، إلا أنه لو اقتصر على آية السجدة فإنه يضيع الغرض المطلوب من قراءة سورة السجدة؛ لأن الغرض هو عرض السورة بكاملها لتمام موضوعها في خلق الإنسان وبعثه.

أحكام سجود التلاوة

أحكام سجود التلاوة وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب ... ) . هناك مباحث عديدة فقهية تتعلق بالسجود في التلاوة في سورة السجدة، ملخصها: أن ما ثبتت فيه سجدة عنه صلى الله عليه وسلم إذا قرأها الإنسان وحده فهو بالخيار؛ فإن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد، والسجود ليس بواجب، ولا فرض عليه؛ أخذاً بعمل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عندما خطب وقرأ آية سجدة، فنزل من المنبر وسجد وسجد الناس معه، ثم قرأ مرة أخرى بتلك الآية، وتهيأ الناس للسجود، فلم ينزل ولم يسجد، وقال: هي آية سجدة فمن شاء فعل، ومن شاء ترك. أما إذا كان الإنسان يستمع، فيقولون: القارئ والسامع كلاهما يسجد إلا أن القارئ على نفسه، وبعضهم يجعل سجدة التلاوة كالصلاة يشترط فيها: الطهارة، واستقبال القبلة، ويرون عدم السجود في وقت النهي عن الصلاة، وآخرون يقولون: هي عبادة مستقلة لا علاقة لها بالصلاة، فحيثما سجد ولو بغير وضوء فلا بأس، أما المستمع فهو بين حالتين: أما القاصد فهو متابع للقارئ فإن سجد القارئ سجد معه، وإن لم يسجد فلا سجود عليه، وأما من استمع عفواً بدون إلقاء سمع فلا سجود عليه. ويذكرون في ذلك: أن رجلاً قرأ آية سجدة عند عثمان رضي الله تعالى عنه، فسجد القارئ فسجد معه، ثم جاء شخص آخر وقرأ السجدة من أجل أن يسجد عثمان ولكن هذا القارئ لم يسجد فما سجد عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين! قرأ فلان فسجدت وقرأت فلم تسجد؟ قال: لأنه قرأ فسجد فسجدنا معه، وأنت قرأت فلم تسجد فلم نسجد معك، ومن هنا قالوا: المستمع الملقي السمع للقارئ إن سجد القارئ سجد معه. وهنا نقطة عند الأحناف دقيقة جداً: قالوا: لا سجود لسامع الصدى، والصدى هو: رجوع الصوت من جرم يصطدم به، وهذا يظهر عند الجبال، إذا كان الجبل مرتفعاً، وخاصة إذا كان قائماً ليس مدرجاً ولا بسفح طويل، أو إن كنت تمشي وأمامك جدار، فإذا اقتربت من الجدار تسمع صوتك، من أين جاء هذا الصوت؟ الصوت يذهب مع الهواء فيصطدم بالجرم الذي أمامه فيرجع، وكذلك الأذن إنما تأخذ صدى الصوت؛ لأن الصوت يأتي مع الهواء فيصطك بطبلة الأذن من الداخل، وكما يقول الأطباء: هناك شاقوص وسندان، فتتحرك إبرة الأذن بهذا الصدى فتنقل الصوت إلى الدماغ، والآن الصدى موجود معك في كل بيت، وهو: المذياع أو (الراديو) ، وهو عبارة عن جهازين: جهاز استقبال وجهاز إرسال، وجهاز الاستقبال يأخذ الصدى من المحطة التي ترسل، وجهاز الإرسال الذي يسمعك، فعند الأحناف لا سجود مع الصلاة هنا، فلو سمعت عبد الباسط أو الحصري يقرأ آية سجدة ومشى، فليس عليك سجود؛ لأنه هو بنفسه ليس ساجداً في الإذاعة ولا في القراءة. مبحث سجود التلاوة مبحث واسع، وكنا قد جمعنا فيه بعض الأبحاث، وخلاصة ما يدور حوله في سجود التلاوة: أواجب هو أم سنة؟ ويذكرون في ذلك أخباراً عديدة منها: أن أبا قتادة أو غيره قرأ بسورة فيها سجدة، فسجد وكان بالدار شجرة فسجدت بسجوده، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالسجود من الشجرة) ، لكن الحديث فيه مقال. ويهمنا: أن سجود التلاوة مشروع، وقد ورد في القرآن في خمسة عشر موضعاً ويختلف الأئمة في موضع الآية؛ أهو قبلها بآية أو بعدها بآية؟ وهذا بحث فقهي توجد مباحثه في كتب الفقه جميعاً.

شرح حديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض.

شرح حديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، رواه مسلم] . هذا الإعجاز النبوي بهذا الأسلوب العظيم نجد بعض العلماء يقول فيه: إن الدعاء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والتسبيح بمثل هذه العمومات لا يصلح؛ لأنك بكلمة واحدة تريد أن تملأ السماوات والأرض؟ (الحمد لله ملء السماوات والأرض) ، وإذا ورد النص في هذا لم يبق لأحد مقال، والباب هو باب فضل الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الآخر عند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) ، هذه كلمة واحدة ملأت الميزان، وجاء في وصف الميزان: (لو أن السماوات السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) . إذاً: لا نستطيع أن نتحكم بالعقل ما دام قد ثبت هذا بالنص. (والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والحمد لله وسبحان الله تملآن ما بين السماء والأرض) ، (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) . إذاً: ما دام النص ثابت فلا كلام لأحد، وهنا في الحديث: (ملء السماوات وملء الأرض) . تصور بإدراك العقل أن هذا الحمد ملأ السماوات والأرض، ثم قال: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، وهنا يتساءل العقل عند قول: (ما شئت من شيء بعد) ماذا بعد السماوات والأرض؟! هل يمكن لنا أن نتساءل هذا التساؤل ونحاول أن نصل إلى جواب، أم نترك ذلك إلى علم الله سبحانه وتعالى؟ ما دام أن النص يقول: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، فلا مانع، وأوسع من هذا كله قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، إذاً: يوجد شيء آخر غير السماوات وغير الأرض وهي الجنة، وهل هناك شيء آخر؟ في الحديث الآخر: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، وما الكرسي في العرش إلا كدراهم في ترس، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) . إذاً: عالم الملكوت لا يمكن لعقل أن يحيط به، وهذا الذي جاءتنا به النصوص، ولم يقل: ملء السماوات وملء الأرض، وانتهينا، ولكن أين الكرسي؟ وأين العرش؟ وأين ما وراء ذلك؟ الله أعلم. المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوسع مجال الذكر إلى هذا الحد؛ فهل فكرت في هذا حينما ترفع من الركوع وتقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ؟ هل تتذكر هذا المعنى؟ وليس مجرد السعة فقط، ولكن نتذكر عظمة هذا الكون وبالتالي عظمة الخالق. (أهل الثناء) : يا رب أنت أهل للثناء، هناك الحمد وهنا الثناء؛ لأن ملء السماوات فيه بيان القدرة لخلق السماوات، والخالق بديع السماوات والأرض، وقد تثني على مهندس صمم هذا المسجد، أو على طبيب ناجح، وبديع السماوات والأرض أحق بالثناء سبحانه جل جلاله، فتجمع الحمد أولاً لكمال ذاته، وتأتي بالثناء ثانياً لملء السماوات والأرض وما شئت من شيء بعد، وأنت تعلم بذلك، فيكون اجتمع منك لله الحمد والثناء. (أهل الثناء والمجد) : المجد: العزة، والسلطان، والقدرة، مثلما يقولون: سهل ممتنع. (أحق ما قال العبد) : هذه الألفاظ أحق ما يقولها العبد لمعبوده؛ أن يحمده بهذا الحمد المتسع، وبكل ما يمكن أو هو كائن في الوجود، والثناء على الله بما هو أهله من حسن الفعال والقدرة والإيجاد والإبداع. إلخ. فإذا كان الله خلق السماوات ودبر أمرها، وسير فعالها، وما فيها من ملائكة كواكب، ليس فقط مجرد سماء وبنيت، وأديرت، وكذلك الأرض وما فيها من عوالم، حق الثناء لله، وأحق ما قاله العبد لربه مقابل هذا الملك بكامله. (وكلنا لك عبد) ، أحق ما قال العبد -وأنا منهم- (وكلنا لك عبد) ، وبهذا في هذه الحركة أعتقد أنه لا يتأتى لإنسان أن يقول: الله أكبر، ثم ينزل إلى السجود ويفوت على نفسه الخير الكثير، وهذا يبين خطأ من يقول: أركان الصلاة ركن طويل وركن قصير، أو ركن ثقيل وركن خفيف، بل كلها أركان مستوية، وتقدم لنا مبحث الطمأنينة، وأن الإنسان يطمئن في كل أركان الصلاة. (اللهم لا ما نع لما أعطيت) : عطاء المولى سبحانه وتعالى عظيم، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى لإنسان عطاء فلا راد له، وقد جاء هنا عطاء مطلق: (لا مانع لما أعطيت) ، سواء كان العطاء مادياً محسوساً من غنى وصحة وولد ومنصب. إلخ، أو كان عطاء معنوياً من مكارم أخلاق وتوفيق للعبادة وعلم نافع،. إلخ. لا مانع يا رب لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، فالعطاء من الله، ولا موجود في هذا الوجود يمنع عطاء الله عمن أراد له خيراً، كما في الحديث: (لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك بشيء لن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك) ! إذاً: في هذا الجزء من هذا الحديث وأنت قد توجهت إلى الله سبحانه وتعالى، وحمدته ملء السماوات والأرض، وأثنيت عليه سبحانه؛ تقف مقراً بين الرجاء والخوف، ولا تتوجه في حاجة أياً كانت إلا له سبحانه، إذ لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقد جاء في الحديث: (كل شيء بقضاء الله وقدره حتى العجز والكيس) ، يعني الذكاء والغباوة، الفطنة والجهالة، كلها بعطاء من الله وبقدر منه. والقرآن الكريم فيه توبيخ لعباد الأصنام وبيان لباطلهم: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] ، لماذا تعبدونهم؟ هل لديهم منفعة ترجونها؟ هل تخافون من ضر يوقعونه بكم؟ هم لا يملكون نفعاً يجلبونه إليكم، ولا يقدرون على ضر يوقعونه بكم، فما هو موجب العبادة؟ وتقدم مراراً الإشارة إلى قول العلماء: كل عاقل في هذه الدنيا إنما يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر، قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع مع ملاحظة اختلاف الجهة وانفكاكها، إذا أنت لم تنفع صديقك تضر عدوك، يعني لابد أن تفعل شيئاً، فإذا كنت لا تستطيع نفعاً ولا ضراً، {كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] ما قيمة هذا؟ وفي هذا الموقف بين يدي الله الاعتراف بأنه: لا مانع لما أعطيت قليلاً كان أو كثيراً، ولا معطي لما منعت قليلاً كان أو كثيراً، إذاً: وأنت بين يدي الله في الصلاة تزداد رغبة وإيماناً ويقيناً بأن العطاء من الله ولا يدفع الشر إلا الله، وهذه أيضاً وقفة جديدة مع الوقفة الأولى: (ربنا ولك الحمد؛ حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) . ثم يعقب ذلك بما يشبه التذييل والتكملة، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا ينفع ذا الجد، والجَد بمعنى الحظ، تقول لإنسان: فلان محظوظ، ومن أين جاء له الحظ؟ صاحب الحظ مهما قلت فيه فإن حظه لن يأتيه بشيء إلا من عند الله، وبالكسر (الجِد) بمعنى الاجتهاد، والمعنى الآخر (للجَد) الذي هو أبو الأب؛ لا دخل له في هذا. (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، يعني: ذا الحظ والذكاء والفطنة، عقله وفطنته وحظه لا ينفعه بشيء. ولو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجى لماتت من جهلهن البهائم والغنى والفقر ليسا بالذكاء أو بالحظ، والآن يوجد جهاز بحجم الكف يحسب قدر مائة شخص، ومائتا ألف كلمة تترجم في جهاز مثل الكف من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، ويُخزِّن أرقام أكثر من مائتي رقم تلفون، وآلة حاسبة، وكلها قدر الكف، أين ذهبت عقولنا؟ مائتا ألف كلمة تترجم من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، وأكبر شخص مترجم الآن لا يحفظ مائتي ألف كلمة. إذاً: العقل كآلة إذا كان أوتي شيء من الذكاء فمن الله، هذا الذي ركب أو اخترع هذا الجهاز من أين؟ من العقل والعقل مَنْ خلقه ووهبه وأعطاه هذا إلى أن توصل إلى ذلك؟ الله، إذاً: الكل راجع إلى الله. قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ، والعلم من أعطاك إياه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] من الذي علمك بعد أن خرجت من بطن أمك؟! إذاً: العاقل يتأمل حقيقة وجوده، وحقيقة وجود الكون من حوله، وهذه لفتات أو لمسات تأتي من الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة توجه الإنسان بكليته إلى الله، واستعداد استقبال هذا التوجيه أكثر مما لو جاءه وهو ماش في السوق، أو ذاهب إلى البيت، أو نائم في غرفته، أو جالس يأكل ويشرب، لكن يصلي ويناجي ربه، فيعلمه حقيقة علاقته بالله: يا رب! أنا جئت إليك وأقررت أنك رب العالمين، تصرفهم كيفما شئت، وأنا فرد من أفراد تلك العوالم كلها، وأقررت بأنك مالك يوم الدين ومآله إليك، ثم رجوت وسألت بذله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، اعتراف، {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] ، فيبين حقيقة علاقة الإنسان بالله في هذا الحديث. ولهذا نقرأ: (الدعاء مخ العبادة) ؛ لأنك لو تأملت في ألفاظ الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت العمق والبعد إلى حد بعيد جداً، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [8]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [8] في كل هيئة من هيئات الصلاة لابد أن تكون الأعضاء بشكل يناسب تلك الهيئة، ما لم فلن تتم هذه الهيئة، ففي السجود لابد من تمكين الأعضاء السبعة من الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم في السجود يفرج بين عضديه وجنبيه حتى يرى بياض إبطيه، بينما المشروع للمرأة في السجود عكس ذلك.

شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)

شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) متفق عليه] . بيّن المؤلف كيفية الصلاة، وبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم جاء بقراءة الفاتحة، ثم الخلاف في البسملة، ثم التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الانتقال، وما يقول حال رفعه من الركوع، وما يقول وهو قائم بعد الرفع، ثم سيهوي إلى السجود، فكيف يكون السجود؟ هناك حديث في كيفية الهوي إلى السجود، ولكن الحديث هنا في كيفية السجود. قال: (أمرت) ، وهذا الحديث ورد بصيغ ثلاث: (أمرت) ، (أمرني ربي) ، (أمرنا) ، كل هذه من صيغ هذا الحديث، وأصحها هذه الرواية: (أمرت) ، وهذه عند علماء اللغة من صيغ المبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله، (أمر) من الأفعال المتعدية، تقول: أمر زيد عمراً بفعل كذا، فهنا الفعل يحتاج إلى فاعل، ويحتاج إلى مفعول به، وما هو مأمور به، أمر علي زيداً: فهنا الفاعل علي، والمأمور زيد، والمأمور به موضوع الأمر. وهنا: (أمرت أن) ، ومعلوم أن ما بني للمفعول يكون قد حذف فعله، وأغراض حذف الفاعل تدرس في علم البلاغة، إما لمعرفته أو لا يذكر اختصاراً، كما جاء: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، لم يذكر الفاعل، وليس هناك مبني للمجهول ولا للمعلوم، ولكن حذف الفاعل لبيان السياق للمطلوب، بدليل الحجاب، توارت يعني الشمس. وهنا: (أمرت) ، إما أن يكون لمعرفته ولا يحتاج إلى تنصيص عليه، وإما لعدم إرادة ذكره، وحذف الفاعل: لعدم إرادة ذكره، أو عدم معرفته؛ حفاظاً عليه، أو خوفاً منه، وقد يكون لحقارته، وقد يكون لإعظامه وعدم تسميته باسمه، كل ذلك من أغراض حذف الفاعل، وإقامة المفعول به مقامه، وهنا من باب حذف الفاعل للعلم به، لما المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت) ، من في الدنيا له أن يأمر رسول الله؟ أظن ليس هناك حاجة إلى سؤال؛ لأن الذي يأمره هو المولى سبحانه، إذاً: أمرت، معناها: أمرني ربي. (أن أسجد) ، السجود هو: وضع الجبهة على الأرض، وقد يسمى الركوع سجوداً، وقد يسمى السجود ركوعاً، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] . قال: (على سبعة أعظم) وأعظم جمع عظم، والعظم واحد العظام في الجسم، ثم ذكر وفسر، وهذا من الأساليب البليغة، وهي كثيرة في أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأتي بالمجمل ثم يفصل، (أمرت أن أسجد على سبعة) فتعد السبعة على يدك ثم تنتظر تفصيلها، فتحفظ السبعة لأنها سهلة، ثم تبدأ بالجزئيات التفصيلية.

ذكر الخلاف في السجود على الجبهة والأنف

ذكر الخلاف في السجود على الجبهة والأنف (الجبهة) أعضاء الجسم كلها معروفة ومحددة ومسماة حتى موضع الشعرة، والجبهة من المجابهة، والوجه من المواجهة، والقفى من التقفية، كل هذه عرفت من واقع الحال، والجبهة والجبين سواء، والجبهة مقدم الرأس، أو العضو الفاصل ما بين الوجه والرأس. (وأشار بيده إلى أنفه) ، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب فعل إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة يقول: السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر بهما؟ أي: هل الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك مغايرة بينهما؟ ولو كان هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟ الجبهة؛ لأنه نص صريح في العضو، وأشار إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا، لأنها لو كانت تساويها لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛ وقوله: (سبعة) ، تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة، فالتنصيص على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية. إذاً: الأنف ليس عضواً مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛ فنجد من العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ. وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي للتخيير، فما قال: على الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح، وأشار إلى الأنف على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو اقتصر على الجبهة فقط ما صح سجوده. القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على الأنف يروى عن أبي حنيفة، ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما قال: إنه يجزئ عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس: (أنهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على أنفه وجبهته) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) ، وجاء في الحديث: (ورأيت الطين على أرنبة أنفه) ، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة، والأرنبة في المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في وقت الطين. فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف تجزئ وحدها قول مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف الصحيح، والصحيح أنه يجمع بين الجبهة والأنف. ولو جئنا إلى معنى جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف والرفعة من الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] ، فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية فيه كمال الخضوع للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو عندك- بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم من الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم أنفك تفعل كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس بعد هذا إهانة، فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا رب أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي بذلك. إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو عليهما تقع الإهانة، فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها طواعية لوجه الله تعالى. النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده فاشتد عليهم الأمر: ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً على التراب حاسر الرأس لابساً حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض، في حالة في غاية من التذلل والتواضع، فقال له جعفر: أيها الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي حدث؟ يريد: هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على أعدائه، ومما جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من عبده إذا أحدث له النعمة أن يحدث له تواضعاً) ، ونحن بفضل الله في كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا، فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة، ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة تجديداً للصلة بين العبد وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما. وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة التشريع فيها واضحة.

كيفية تمكين الجبهة من الأرض

كيفية تمكين الجبهة من الأرض بقي عند الفقهاء تحقيق المناط وهو: كيف يتم السجود حقيقة على الجبهة؟ إذا كانت الغترة، أو عمامة، أو قلنسوة أو أي شيء على الحواجب، وسجدت على الأرض، فهل الجبهة باشرت الأرض أم أن بينهما حائل؟ الفقهاء يبحثون عن أثر وجود عازل أو حاجز بين الجبهة وموضع السجود على السجادة أو التراب أو الحصى، هل هو سجود على الجبهة أم سجود على الحائل دون الأرض؟ فنجد النزاع أو الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في حقيقة السجود، فنجد بعض العلماء وخاصة الشافعية يشددون في هذا ويقولون: لا يصح السجود إلا على الجبهة، ولا يصح على خارج عن الجبهة أو شيء يتحرك بحركة المصلي، هل تتحرك معك الغترة أم لا؟ نعم، إذاً: لا يصح أن تسجد على طرف الغترة، لابس درّاعة كبيرة واسعة أو برنس أو ثوب البادية وكمه يُدخل اثنين معك، أو أي شيء يتحرك بحركتك في قيامك وقعودك؛ لا يحق لك أن تسجد عليه عند الشافعي. وغيره يقول: الأمر أوسع من هذا؛ لأن السجود يتحقق بالانحناء ووضع الجبهة إلى الأرض، وكونه يوجد حائل أو لا يوجد حائل فإن ذلك لا يمنع من كونه سجد، لكن يذكر الصنعاني في شرح هذا الحديث، وابن حجر في شرحه في الفتح روايات -وإن كان يضعفها البيهقي رحمه الله-: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسجد على كور العمامة) ، والكور: هو التكوير، والعمامة تلف مثل عمامة الرجل السوداني وأمثالها، فالاستدارة التي توجد على الرأس إذا كانت إلى الجبهة وسجد، فهل سجد على الأرض أم على كور العمامة؟ يقولون: هذا سجد على كور العمامة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً سجد على كور العمامة فأشار إليه أن يرفع) ولكن كما قلنا: البيهقي ضعف كل هذه الروايات.

حكم كشف أعضاء السجود في الصلاة

حكم كشف أعضاء السجود في الصلاة بقية الأعضاء السبعة التي جاء ذكرها هل يجب كشفها حتى تباشر الأرض كما تقولون في الجبهة: لا يصح السجود عليها مع وجود حائل؟ قالوا: لا، فيستحيل كشف الركبتين للسجود؛ لأن فيه كشفاً للعورة وإبطالاً للصلاة، ولا تنسوا القاعدة التي يقولها ابن دقيق العيد: الفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال كان باطلاً. إذاً: هذا الفرع باطل لأنه سيبطل الأصل. إذا قلتم بأن الركبتين كشفها عورة؛ فإذا كان لابساً الخف ومسح عليه، وله يوم وليلة أو ثلاثة أيام، ومعلوم أنه سيصلي في اليوم والليلة خمس صلوات؛ فهل يصح أن ينزع الخفين ليباشر بقدميه الأرض؟ لا؛ لأن من نواقض الوضوء لماسحٍ على الخفين نزع الخفين، هذا عند الجمهور بصرف النظر عن المخالف، فهل تقولون لمن لبس خفين: انزعهما لتباشر بالقدمين الأرض؟ لا. إذاً: تسامحتم مع صاحب الشراب، ولو توضأ وغسل القدمين، لا تقولون: اخلع الشراب حتى تصح الصلاة. فإذاً: يجوز ستر الركبتين والقدمين، وهل يمكن لإنسان يهذي ويقول: إذا لبس قفازات ما جاء النص أن يخلعها حتى تباشر بيديه الأرض، ولكن جاء حديث آخر يذكره ابن حجر، ويذكره في نيل الأوطار بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون وأيديهم في ثيابهم، وكون اليد من داخل الثياب وهو ساجد، فالثياب حائلة بين يده وبين محل السجود، وهذا نص مختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح، وسواء كان مرفوعاً أو موقوفاً على الصحابة؛ فإذا فعل ذلك أصحاب رسول الله، فليس من المعقول أن يفعلوا ما يبطل الصلاة. والرد على من يقول: لا يصح السجود على متحرك بحركة المصلي يذكره مالك في الموطأ قالوا: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم يشكنا) ، أي: لم يسمع شكوانا، بمعنى: كان المسجد تأتيه الشمس فتكون أرضه حارة، فإذا سجدوا كانت حرارة الحصوة على الجبهة لا تحتمل، (فكان أحدنا يسجد على طرف ثوبه -أي: على كمه- وكان بعضنا يأخذ القبضة من الحصباء) ، أي: إذا سجد وقام للركعة التالية ملأ يده حصباء وأبقاها في كفه حتى يقرأ ويرفع ويركع (فإذا أراد السجود بسطها وسجد عليها) وهذه متحركة بحركته وهي أيضاً حركة زائدة، فالثوب لعله بضرورة الحال، لكن هذه قصداً يحملها معه في كفه، ثم يطرحها ويسجد عليها؛ لأنها تكون بعامل وجودها في كفه قد بردت من تلك الحرارة الشديدة. وخروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً للمعنى، وإبعاداً لشبهة احتمال الكبر كما في قصة الغرانيق، فالمشركون كلهم سجدوا مع رسول الله إلا واحداً رفع قبضة من الأرض ووضع جبهته عليها، فكان ذلك كبراً منه عن السجود؛ فنقول: إن كشف الجبهة أولى، خروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً لمعنى الخضوع والخشوع بين يدي المولى سبحانه، وإبعاداً عن احتمال الكبر، وحتى لا يتذرع البعض بأن فلاناً يفعل كذا، وفلان يفعل كذا، وهذا جائز، وهو لا يفعلها على سبيل الجواز، ولكن يفعلها كبراً، خروجاً من هذا كله، فإنه يبتعد عن تغطية جبهته عند السجود.

معنى قوله: (أعظم)

معنى قوله: (أعظم) قوله: (أسجد على سبعة أعظم) ، صريح كلمة: (أعظم) ، وإن كان العظم ليس بظاهر فالمراد به: الجلد واللحم، ولكن حقيقة العضو العظم: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14] ، فالأصل في خلقة الإنسان الهيكل العظمي، وليس هناك هيكل لحمي؛ فحقيقة هيكل الإنسان وتكوينه الهيكل العظمي، مثلما يقولون على المسلح غير المشطب: عظم، وليس فيه ولا حتى قد درهم واحد من عظم، ولكنه حديد وأسمنت، لكن لشبهه بالهيكل العظمي في الإنسان شبهوه به ثم يأتي الجسم ويكسى لحماً. إذاً: الحديث ممكن نقول: فيه نوع تجوز. وهل في اليدين عظم واحد؟ كل إصبع فيها ثلاثة مفاصل، وأكثر سلامى الجسم في القدمين والكفين، وسمى اليدين عظمين، وفيهما عشرات العظام، إذاً: الحديث فيه مجال للتجوز والتوسع. ونص على العظم الأول بأنه الجبهة، فالأولى أن يحاول الإنسان أن تكون الجبهة مكشوفة ما أمكن كشفها، ولا محذور فيها كالركبتين، وكالقدمين عند لبس الخفين، والله تعالى أعلم.

كيفية السجود على الكفين

كيفية السجود على الكفين قال: (واليدين) ، نعرف بأن جسم الإنسان فيه تسمية مجملة ومفصلة، فاليد من المنكب إلى الظفر، والرجل من الفخذ أو المفصل الذي بين الحوض والفخذ إلى أصابع القدمين، وكل جزء من اليد له اسم مستقل، فلدينا العضد، ثم الساعد، ثم الكف، وفيه عدة عظام تتحرك، ثم الأصابع، ولكل إصبع عظام، وكذلك الأصابع كل إصبع له اسم، حتى الإصبع الواحدة أجزاؤها لها أسماء: الأنملة والوسطى. إذاً: لفظ اليدين هنا مجمل كما جاء الحد في قطع يد السارق، والتيمم، وجاءت مفصلة في الوضوء، قال في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، لكن في التيمم قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، ثم تأتي السنة وتبين إلى أين؟ وما المراد بمسمى اليد؟ هل هي بكاملها نبطحها ونمدها على الأرض؟ لا قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، ووجدنا أن المقصود بالعضوين هنا الكفين فقط، وستأتي نصوص تمنع أن يلامس الزند الأرض، وأن يفترش ذراعيه. وهنا أيضاً مباحث للفقهاء في الكفين: كيف تسجد على الكفين: أتطبق يديك؟ لا، بل تبسط أصابعك، مفرجة أم مضمومة؟ مضمومة؛ لأن في تفريجها انحراف لبعض منها عن القبلة؛ لأن زاوية الأصابع زاوية حادة، وهذه الزاوية الحادة لو قسناها يمكن أن تكون ثمان درجات أو سبع، وستكون المسألة سهلة إذا كان الفارق عشرة سم، الآن الإصبع يتجه ربما إلى ركن المسجد هذا، وسيذهب إلى الشرق عن نقطة تلاقي الإصبع من هنا، إذاً: لو أن الإصبع الوسطى تلقاء الكعبة فعلاً كما هو محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فستكون التي تليها منحرفة عنها فعلى ذلك قالوا: ببعد المسافة يكون الانحراف بعيد جداً، يمكن أن تذهب أصبع إلى بلاد المغرب والأخرى إلى الهند. فإذا كان مضموم الأصابع وسجد بسط كفيه وضم أصابعه، بخلاف وقت الركوع: فإن الأصابع تفرج وتقبض على الركبة، كما جاء: (كأنه قابض على الركبة) . إذاً: وضع الأصابع بين الضم والتفريج يختلف بوضعهما في مكانهما. وهنا أيضاً بحث آخر: أين تكون الكفان من الجبهة؟ هل بعدها أم قبلها، أم على مساواتها؟ تكون الكفان مضمومتا الأصابع مقاربة للصدغين، لا تتقدم على الجبهة، ولا تتأخر بعيداً عنها؛ لأن هذه هيئة تنافي طبيعة الإنسان في سجوده العادي، وفيه تكلف أو تقصير.

هيئة الركبتين وأطراف القدمين في السجود

هيئة الركبتين وأطراف القدمين في السجود قوله: (والركبتين) ، تقدمت الإشارة بأنه لا يشترط أن تكون مكشوفة أو مباشرة للأرض في حالة السجود، فلو نزل على اليدين وأطراف القدمين ورفع ركبتيه كحركة رياضية ما تم السجود، فلابد من وضع الجبهة والكفين والركبتين. قال: (وأطراف القدمين) ، لم يقل: والقدمين؛ لأنه لو قال: (القدمين) فحيثما كانت القدمان أجزأا، وأطراف القدم هي الأصابع، وأحياناً ترى -وخاصة في مواسم الحج والعمرة- بعض الناس لم يتمرن كثيراً على الصلاة، وربما أنه بدأ يصلي لما عزم على الحج، فتجده يسجد ويرفع قدميه من الخلف، فهذا ما أكمل السجود؛ لأن عضوين من أعضاء السجود لم تستخدم في السجود. وأطراف القدمين في السجود لها ثلاث حالات: إما أن يسجد على الأصابع، وإما أن يثنيها متجهة إلى القبلة ناصباً القدمين، وإما أن يثنيها إلى الخلف، وأي الأوضاع مطلوب؟ أن تكون الأصابع مثنية إلى الأمام متجهة إلى القبلة، ولو جعلها واقفة على أطراف الأصابع على الأظافر فقد سجد لكنه ترك الأولى، كما لو ثناها إلى الوراء، وما دام أنه معتمد في السجود على الأصابع، فالسجود وافي، لكن الهيئة الأكمل أن تكون الأصابع متجهة إلى القبلة.

شرح حديث: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه)

شرح حديث: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه) قال رحمه الله: [وعن ابن بحينة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، متفق عليه] . إذا عرفنا أن المراد بالكفين اليدين، وأن نص الفقهاء على أن تكون منضمة الأصابع، وجئنا إلى القدمين؛ وعرفنا بأن موضع السجود هو أطراف الأصابع وهناك حركة وهيئة تتعلق باليدين مرة أخرى جاءت هنا: يقول ابن بحينة: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، ما المراد باليدين؟ انظر إلى قوله: (حتى يبدو بياض إبطيه) ، أي جزء من اليد الذي يغطي الإبطين؟ إنه العضد، فإذا سجد الإنسان وضم عضديه على الكتاب أو العصا أو أي شيء، تضم العضدين على الجانبين فتلصقهما، ولا يمكن أن تسجد هكذا، لكن فرج بينهما حتى يبدو بياض الإبطين، وبعض الإخوة -أكرمنا الله وإياهم- يأتي فيصلي فإذا بهذا المرفق هناك، وهذا الآخر هنا، وآخذ نصف متر عن اليمين، ونصف متر عن الشمال، تعود هذا منفرداً، وإذا كنت منفرداً لك حرية، ويجب أن يكون المظهر بصفة عامة مظهر لائقاً، ولا يكون فيه تكلف، فتجد البعض قد يشدد على نفسه أكثر من اللازم في سجوده؛ حتى يكون الوركان منفرجان، واليدان ممدودتان، ويكون على سبيل الفطرة غير لائق، فإذا صلى في جماعة يظن أن السنة أن يفرج ليرى بياض إبطيه؛ فيؤذي هذا، ويؤذي هذا، وإذا كنت منفرداً أو إماماً فبقدر المستطاع، فالغاية القصوى من تفريج اليد عن الجنب حتى يُرى بياض الإبط، ولو فعل أقل من ذلك لأمكن، والمحظور هو أن تسجد ملصوق العضدين بالجانبين؛ لأنه لما تأتي تسجد وأنت هكذا تكون هيئتك هيئة هرة، دعك من الهرة لكن أنت تحكم عليه في شخصيته كأنه كسلان يصلي وهو عاجز، كأنه يقول: دعني أنتهي منها، لكن يفرج العضدين، والفقهاء يقولون: ليتميز كل عضو بسجوده لله سبحانه، وأحسن من هذا ما ذكره صاحب سبل السلام الصنعاني: لئلا يكون في مظهر الكسلان، فالغرض من هذا ألا تكون في صورة العجز والكسل، وليس الغرض من هذا كما يقولون: فتل الأعضاء والعضلات، لا، الصلاة خشوع، والصلاة خضوع، ومراعاة اللائق. والحديث يشير: (حتى يُرى) رؤية الإبطين كانت سهلة؛ فلم يكن هناك ثوب وفنيلة كم، بل كان هناك الإزار والرداء والقميص، وكم القميص كان قصير وواسع، وأقل لفتة تبين الإبطين، والإبط ليس بعورة، ونحن الآن لا يستطيع أحد أن يرى إبط الثاني وهو ساجد، وأصبحت الثياب على وضع آخر بحسب ظروف الحياة، فلو كان رأساً إزاراً ورداءً أو محرماً فسوف يرى بياض إبطيه، وسيكون من السهل جداً أن يراه، وأدنى تفريج ولو سنتيمتر واحد سيرى بياض الإبط. إذاً: ليست المسألة مغالاة ولا تفريطاً، وإنما المراد هو الخروج عن هيئة الكسلان الذي يأتي الصلاة بدون نشاط، وهذا خاص بالرجال، بخلاف المرأة فهي تضم نفسها، لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأتين تصليان فقال: (ضما اللحم إلى اللحم) ؛ لأن ذلك أستر للمرأة.

شرح حديث: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)

شرح حديث: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) قال رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم] . معنى الحديث: أن يبقى الكفان مرفوعين ولا يضعهما على الأرض؛ لأنه تقدم أن أعضاء السجود سبعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ، فذكر الجبهة وأشار بإصبعه إلى الأنف، وذكر الكفين واليدين والركبتين والقدمين، (ضع كفيك) ، أي: على الأرض، (وارفع مرفقيك) ، المرفق: هو المفصل الذي يفصل بين العضد والزند، وهو المنصوص عليه: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، وسمي هذا العضو مرفقاً؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يستريح ارتفق على هذا العضو، وجعله على وسادة أو الأرض أو غير ذلك، فهو من الارتفاق والمساعدة في راحة الإنسان، ورفع المرفقين، أي: لا تكون اليد بكاملها مسطحة على الأرض، ويكون المرفق واصلاً إلى الأرض كما تصل الكف، هذه الصورة منهي عنها، بل يضع الكفين، ويرفع المرفقين بحيث لا يكونان ملامسين للأرض، وهذه الصورة جاء النهي عنها بصريح العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش كافتراش السبع، والسبع إذا ربض بسط يديه من المرفق إلى المخالب على الأرض، وفي الحديث: أنه إذا رفع المرفقين لا يلصقهما بعضديه، ولكن يجافي بينهما، كما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي بين العضدين حتى يرى بياض إبطيه. إذاً: من هيئة السجود: أن الساجد يضع كفيه على ما يسجد عليه سواء كان في الأرض أو على فراش أو نحو ذلك، وأن يرفع المرفق من أعلى لا أن يجعله مساوياً للكف على الأرض، فيسجد يضع الكفين ويرفع المرفقين، وأن يجافي بين العضدين لا أن يضمهما. وتقدمت الإشارة إلى أن مجافاة العضدين على سبيل الاعتدال، وأن من سجد ضاماً عضدية يكون كالمنكمش في نفسه، ويكون في هيئة الكسلان؛ لأن هذه الحالة لا تصلح لمن أتى الصلاة عن رغبة ونشاط، كما بين صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . ونبهنا على أن هذا بالنسبة للرجال دون النساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين تصليان، فأمرهما أن يضما العضدين إلى الجنبين، وقال: (ضمَّا اللحم إلى اللحم) ، فكلما كانت تضم بعضها إلى بعض كان ذلك أدعى إلى سترها، ولو كانت مغطاة. وأشرنا إلى أن الإنسان إذا كان منفرداً أو كان إماماً فإنه يجافي العضدين مع رفعهما في هيئة معتدلة، لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان في صف الجماعة فإنه يراعي من على جانبيه؛ فلا يجافي بين العضدين مجافاة تؤذي الجار، وتجعل الفجوة بين الأفراد، ولا يضمهما كما تفعل النسوة، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [9]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [9] لقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم لمن بعدهم كل هيئات النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ حتى إنهم نقلوا شكل الأصابع ووضعها في حال الركوع والسجود. وبعض هيئات الصلاة اختلفوا فيها، مثل: جلسة الاستراحة، والقنوت في الفجر والوتر، والظاهر أن هذا كله من خلاف التنوع، وعلى ذلك فكله جائز.

شرح حديث: (كان إذا ركع فرج بين أصابعه)

شرح حديث: (كان إذا ركع فرج بين أصابعه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه) ، رواه الحاكم. هنا هيئة الأصابع في حالة الركوع والسجود، يقول وائل بن حجر رضي الله عنه وهو من أمراء اليمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع ألقم كفيه ركبتيه، وفرج بين الأصابع. إذاً: وضع الأصابع على الركبتين حال الركوع تكون مفرجة، ليتمكن من قبض الركبة كاملة، وليس هذا من باب الاستناد على الركبة، ولكنه هيئة من هيئات الصلاة، وهو أدعى لمن يطيل الركوع أن يساعده، وعلى هذا: إذا سجدت فضع كفيك مضمومة الأصابع. ومن مجموع الحديثين نأخذ هيئة وضع الكفين على الأرض مع الأصابع. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون لنا من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزئيات: كيف كانت أصابعه حال الركوع مع الركبتين؟ كيف كانت أصابعه حال السجود مع الكفين؟ وقد تكون تلك الحالات خفية؛ فمفرج الأصابع وضامها مسائل لا يدركها إلا من تأملها وقصدها، فهم ينقلون إلينا ذلك حتى إنه ليرى بياض إبطيه، إذاً: هذه صورة من الصور المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تأتي صورة أخرى وقد تكون أدق، وتَقدَّم لنا في قراءة الفاتحة وبعض الآيات أو السورة بعد الفاتحة: أنه كان يقرأ بعد الفاتحة سورة صغيرة أو ما تيسر من القرآن في السرية، أما الجهرية فهي مسموعة، قالوا: كيف كنتم تعلمون قراءته في السرية وأنتم لا تسمعونها؟ قالوا: نعرفها بتحرك لحيته، وكان يرفع صوته أحياناً، فنقلوا لنا تحرك اللحية، ورؤية بياض الإبط، ووضع الأصابع على الركبة، وضع الأصابع عند السجود؛ فهل هذه الأشياء أظهر أم وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع؟ وأيهما أوضح؟ وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع أوضح بلا شك، حتى إن ضعيف النظر يدركها، لكن الأصابع مفرجة ومضمومة واللحية تتحرك لا يدركها إلا من تأملها، وكان قوي النظر. ولذا نقول: لا تشددوا فيما لم يثبت به أثر، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم مفصلاً، فكل ما جاء في وضع اليمنى على اليسرى هو في حالة القراءة، أما نص صريح ولو حتى ضعيف في أنه كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يرفع من الركوع يضع اليمنى على اليسرى، فأعتقد لو بحثا ليلاً ونهاراً فلن نجد ذلك، وطلبنا من الإخوة أن يبحثوا في كتب الحديث والفقه، وأن يأتونا بنص صريح ولو ضعيف على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع من الركوع وضع اليمنى على اليسرى فلم نجد، وسننتظر لعل الله ييسر لأحد ولو في مخطوطة من المخطوطات. إذاً: الأمور الفقهية تجمع لها أطراف الصور، وصفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلت لنا بهيئاتها، ونعلم أنه إذا لم يقبض بعد الركوع ولا قبل الركوع فالصلاة صحيحة، لكنه ترك هيئة من هيئات الصلاة، أو فعل شيئاً ظنه هيئة من هيئاتها، والذي نؤكد عليه: أنه لا ينبغي لمن رأى وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع وفعل ذلك أن يعترض على من لم يفعل، ولا من لم ير ولم يفعل أن يعترض على من فعل، لماذا؟ لا من جهة الثبوت وعدمه ولكن من جهة صحة الصلاة.

شرح حديث: (رأيت رسول الله يصلي متربعا)

شرح حديث: (رأيت رسول الله يصلي متربعاً) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة. ] . المتأمل في ترتيب هذا الكتاب المبارك يرى أنه كان من الأولى تأخير هذا الحديث إلى ما بعد عدة أحاديث؛ لأنه سيأتي بيان كيفية صلاة العاجز عن القيام، ومجمل ذلك إلى أن نصل إليه إن شاء الله. تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) ، ولم تُعْلمنا هل كانت تلك الصلاة فريضة أو نافلة، ولكن إذا كان الخبر عن أم المؤمنين عائشة فإن تلك الصلاة تكون في البيت، والقرائن تدل على أن رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم في البيت، وصلاته في البيت هي نافلة. إذاً: نحمل هذا الحديث على صلاة النافلة، وبإجماع المسلمين أن النافلة تصح من مؤديها قائماً وقاعداً، وجاء الحديث بأن: (صلاة القاعد على النصف -أي: في الأجر- من صلاة القائم) وهذا في النافلة بلا نزاع. أما الفريضة فيجمعون على أن القيام ركن فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] . على هذا بقي الكلام في هيئة: (متربعاً) ؛ لأنه سيأتينا البحث فيما بعد عمن عجز عن الصلاة قائماً ماذا يفعل، وستأتي النصوص في بيان الهيئة والكيفية لصلاة المريض أو العاجز عن القيام، وهي عدة روايات وأحاديث مفصلة سيتم الكلام عندها إن شاء الله، لكن يهمنا صورة التربع في الصلاة. أنت لو كنت قائماً منتصباً شاخصاً، أو نائماً متمدداً أيضاً كخط مستقيم، لو جلست كجلسة التشهد وأرجلك تشكل حرف (L) أو كما يقولون: زاوية، لكن إذا ثنيت الساقين أمامك، وجئت بمقياس؛ وجدت جلستك على هيئة تربيع؛ الطول بعرض الفخذ، والعرض بطول الساق، والظهر تجد الجلسة على شكل مربع، هات مقياس وقس من الأربع الجهات، ستجد أن المقياس متقارب، هذا هو الجلوس متربعاً، ولكن عند الفقهاء: أن هيئة التربيع أن تضع قدم الرجل اليمنى تحت فخذ اليسرى، ظهر القدم إلى الأرض، وبطن القدم تحت الفخذ، والساق اليسرى تجعل قدمها تحت الفخذ اليمنى، جاعلاً ظهر القدم إلى الأرض، وبطن القدم إلى الفخذ، هذه صورة الجالس المتربع. أما حالة العاجز والمريض فكما أسلفنا سيأتي لها نصوص تبيّن حالة العاجز والمريض عن القيام كيف يصلي، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال، ولو متكئاً على عصاً أو مستنداً على جدار على تفصيلات جزئية يذكرها العلماء في كتب الفقه، وعلماء الحديث في شرح الأحاديث الواردة، ولعلها تأتي بعد عدة أحاديث إن شاء الله. وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله) ، من نعم الإسلام، ومن النعم علينا أن يكن أمهات المؤمنين ينقلن لنا ما كان في داخل بيت النبوة، من كان سيراه داخل ذلك البيت؟ حتى أخص أصحابه ممن يصحبه في المسجد لن يراه، ولكن من فضل أمهات المؤمنين علينا أن يذكرن لنا هذا، كما قال الله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] ، والحكمة هي: ما يتلقونه قولاً أو فعلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجح عندنا بالقرائن: أن هذه الصلاة التي رأته فيها عائشة إنما هي نافلة.

شرح حديث: (اللهم اغفر لي وارحمني.

شرح حديث: (اللهم اغفر لي وارحمني ... ) قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ، رواه الأربعة إلا النسائي، واللفظ لـ أبي داود وصححه الحاكم. ] . المؤلف رحمه الله بعد أن بين لنا السجود (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) ، بين ما سيفعله من سيرفع من السجدة الأولى، وقبل أن يعاود إلى السجدة الثانية؛ فجاءتنا الصلاة بهذا الترتيب الفعلي، وهيئة السجدة: أن يضع كفيه مضموة الأصابع رافعاً مرفقيه، فإذا رفع من السجدة وجلس تلك الجلسة ماذا يقول؟ هنا جاء الدعاء: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ، وهناك ألفاظ أخرى (واجبرني) بدل: (وارحمني) .

طلب المغفرة والرحمة من الله

طلب المغفرة والرحمة من الله هذه الجمل الخمس لو نظرنا في مجموع دلالتها: نجد المغفرة وهو طلب أخروي شامل، وارحمني: زيادة في المغفرة؛ لأن الغفران هو الستر والتغطية، والرحمة إنما هي إغداق النعمة على العبد، شاءت رحمة الله إدخاله في رحمة الله، فيمكن كما يقال: المغفرة أمر سلبي، والرحمة أمر إيجابي. (واهدني) : الهداية أمر عام في أمور الدنيا والآخرة، والهداية في الدنيا هي: التوفيق لأعمال الخير والنجاح والمساعي، يهدى إلى طريق البر، وإلى فعل الخيرات مع الناس، والهداية في أمور الدين هي: التوفيق بالعمل الصالح والنتيجة كما جاء القرآن الكريم في أعظم مسألة في أعظم سورة في كتاب الله، وفي أعظم موقف بين يدي الله، وبعد التحميد والتمجيد والثناء على المولى سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .

طلب العافية من الله

طلب العافية من الله قوله: (وعافني) : العافية أعظم مطلوب للإنسان، وكما جاء في ليلة القدر؛ لما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ، تأمل هذا الموقف! أحب الناس إلى رسول الله، وتسأله عن أعظم مطلب عند المسلم وفي ليلة القدر: ماذا تقول فيها؟ وخير الخلق صلى الله عليه وسلم يقول هذا لأحب الناس إليه، أي: أنه سينصح لها كامل النصح، (قولي: اللهم ... ) ، وهذا التعليم ليس خاصاً بها، وإنما نقلته لنا لنتأسى بها فيكون للجميع، كما جاء الحديث: (قولي لواحد منكم كقولي لألف واحد) ، تشريع عام، ونجد أيضاً المقدمة بين يدي الحاجة والسؤال: (اللهم إنك عفو ... ) ، هذا ثناء على الله بالصفة التي تريد الباب منها، كأنك عندما تريد أن تطرق باب العفو عند الله، فإنك تثني عليه بهذه الصفة، فلا أقول: اللهم يا رزاق اعف عني، يا رحمان يا رحيم اعف عني؛ لأن هذه لها أبواب مستقلة، يا رحمان يا رحيم ارحمني، يا رزاق يا كريم ارزقني، يا هادي اهدني، فتكون هذه من بابها، فجئت إلى باب العفو وطرقته وأثنيت على الله بتلك الصفة التي تريد أثرها يصل إليك أنا عفو ماذا تريد؟ أريدك أن تعفو عني. وإذا تأملنا هذا المطلب! فإن الإنسان في الدنيا والآخرة يريد المعافاة، والمعافاة: السلامة من الابتلاء، ويكون في عافية، والإنسان بماذا يبتلى؟ يبتلى إما في بدنه بالمرض، أو ولده وماله وزوجه بالفتنة، فإذا عوفي في بدنه فالحمد لله، وإذا عوفي في ولده بأن كان رضياً موفقاً مهدياً، وعوفي في زوجه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] ، وإذا عوفي في سلوكه مع الآخرين وفي كل أمور دنياه، فإذا جاء إلى الآخرة وحظي بعفو الله سبحانه كان مآله إلى الجنة، إذاً: هو في دنياه معافى من البلاء، وفي أخراه معافى من العذاب؛ فتكون قد جمعت له هذه الكلمة خيري الدنيا والآخرة. وقد جاء في الحديث: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه) ؛ لأن الأمن في السرب أيضاً من المعافاة، معافى من اللصوص والاعتداء والظلم، (عنده قوت يومه وليله؛ فقد حيزت له الدنيا بحاذفيرها) ، وماذا في الدنيا أكثر من هذا؟ البدن متعافٍ، والقوت الذي يشبعه عنده، والمأوى موجود فهو آمن مطمئن، ولو بحث وراء ذلك من متعة لم يجد بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلها بين يديه بمتعها.

طلب الرزق من الله وعلاقته بالقدر

طلب الرزق من الله وعلاقته بالقدر قوله: (وارزقني) : هذا الرزق مضمون فعلاً عند الله، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] ، (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) ، وفي الحديث الآخر: (إن الرزق ليطلبك كما تطلبه، ولن تموت نفس من الدنيا حتى تستوفيه، فأجملوا في الطلب) اجعل الطلب جميلاً، والله سبحانه وتعالى قد وعد بالرزق عنده: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، ومع ذلك يأمرنا بأن نسأل الرزق، ونقول لأولئك الذين يتكلمون في القدر: إنما قدره الله سبحانه وتعالى وخفي علينا، وما شرعه الله فهو واضح إلينا، ونحن مكلفون بأن نأخذ ونعمل بما كلفنا به، أما ما وراء ذلك فلا دخل لنا فيه. كم شوشت على كثير من الناس علاقة العلم والقدر من المولى والأمر والتكليف من العبد، والله يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] إن الله سبحانه قد قدر كل شيء قبل إيجادك بآلاف السنين، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] ،. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25] ، وهي المعجزات الموضحة لصدق رسالتهم، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] . {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] ، هل اطلعنا عليها؟ أرسل الرسل بالبينات ومعهم الكتاب يقرأ، وميزان العدالة يطبق، ماذا علينا نحن في هذا الموقف؟ هل نحن مأمورون بمقتضى ما كتب في اللوح المحفوظ، أم أننا مطالبون بتطبيق ما في الكتاب والميزان؟ بالكتاب والميزان، وهنا الرزق مضمون، ويكلفنا المولى أن نسأله الرزق، فهل هو تحصيل حاصل؟ لا والله، هناك أمر وقدر في علم المولى سبحانه، وهنا تشريع يجب الامتثال له، وهناك صورة قد يتيه الإنسان سنوات حتى يحصل عليها، وهي أن يكون الأمر عند الله وفي قدر الله على خلاف ما أمر به، وإنما يأمر به لتظهر نواحي اختيار العبد في القبول أو الرفض. الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاء إلى إسماعيل وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] ، وفي هذا تكليف لإبراهيم أن يذبح إسماعيل؛ فهل امتثل إبراهيم وأطاع إسماعيل أم رفضا؟ بل شهد الله لهما بالطاعة: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] ، أي: استسلما لأمر الله {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ، إلى الخطوة الأخيرة في عملية التنفيذ لأمر الله، ولم يبق إلا جرة السكين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] ، افتحوا آذانكم يا إخوان! واتجهوا إلى المولى أن يشرح صدورنا، إن المولى عز وجل حينما أمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل عليهما السلام كان في علمه وقدره أنه لن يذبح، ومع ذلك يقول له: اذبح! كيف يقول له: اذبح وهو يعلم أنه لا ذبح، وهو لم يقدر ذلك؟! حينها علمنا بأن الله يعلم بأنه لا ذبح، ولم يقدر الذبح، وأمر إبراهيم بأن يذبح حال علمه سبحانه أن لا ذبح؛ لتظهر تلك الوقفة الكريمة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، وكانت النهاية: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104] ، وهناك: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ، إحسان إبراهيم وإسماعيل على أي شيء وهو لم يفعل؟ في القدر أنه لن يذبح، وهو نفذ خطوة القدر، وكان من المحسنين؛ لأنه أجاب وأطاع الله في الأمر الذي وجه إليه، وأمر القدر كان غائباً عنه. إذاً: الأمر والقدر من جانب الله، والتكليف والفعل يختص بالعبد، وإثابة العبد أو عقوبته على اختياره لأمرين هما سواء: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، لو كان غير إبراهيم وقيل له: اذبح! لقال: ما أنا بذابح! ولو كان غيره إسماعيل لقال: لست بمذبوح، ولن أسلم نفسي لك! ولكنهما تلقيا أمر الله التكليفي كأنه أمر كوني لا محالة منه، فكانا من المحسنين. وهنا الرزق مضمون: (ويؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أم سعيد) ، رزقه مكتوب قبل أن يولد وهو نطفة في الرحم، وهنا قال: (وارزقني) ، وإذا كان رزقك مكتوباً فلِمَ تسأل الله؟ نعم، أنا أُِمرت أن أسأل الله الرزق مع أنه مكتوب لأكون ممتثلاً أمر الله فيما كلفني به. ومن هنا نجد أن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر ودعاء؛ ولذا جاء: (الدعاء مخ العبادة) ، وليس هناك عبادة تخلو من الدعاء، لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا جهاد، ولا أي عمل من العبادة لله إلا الدعاء فيه مثل تيار الكهرباء في الجهاز مخ العبادة، والإنسان بلا مخ هيكل، والعبادة بلا ذكر ولا دعاء هيكل، لذا كان الدعاء مخ العبادة، وجاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة) ؛ لأنه إنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

الرد على من يقول بخفة ركن الجلسة بين السجدتين

الرد على من يقول بخفة ركن الجلسة بين السجدتين هذا الدعاء الذي مر بنا بين السجدتين كم يستغرق من الوقت؟ لو قلتها بالسرعة المتوسطة لا بطيئة ولا سريعة هل يستغرق ذلك نصف دقيقة؟ أريد أن أقول: هذا يرد على من يقول: الجلسة بين السجدتين والرفع من الركوع ركن خفيف، وتقدم لنا أنه جاء عنه صلى الله علي وسلم بعد الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) وفي هذا أيضاً رد على من يقول: إنه ركن خفيف، ونجد من يقوم قائماً للقراءة فيركع، ثم عند الرفع لا يستقر قائماً ولا ثانية واحدة! وهذا مخالف لهذه السنة النبوية الكريمة، وكذلك يكون ساجداً ويرفع من السجدة، وقبل أن يستقر جالساً يهوي مرة أخرى، متى دعا؟ لم يدع بشيء، إذاً: المحروم من حرم نفسه من هذا الدعاء في هذين الركنين.

شرح حديث جلسة الاستراحة

شرح حديث جلسة الاستراحة قال رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) ، رواه البخاري. ] . هذه يسمونها جلسة الاستراحة، يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر) بمعنى: الصبح ركعتين شفع، والركعة الأولى وتر، فالأولى من الصبح وتر، والظهر أربع ركعات، والأولى والثالثة منه وتر، والثانية والرابعة منه شفع، وهكذا، فالأولى من الصبح والأولى والثالثة من الرباعية والأولى والثالثة من المغرب هذه وتر، فتأتينا قاعدة: لم يقل الأولى من الصبح والظهر والعصر والمغرب والثالثة من كذا وكذا لا هذه جملة قاعدة مطردة: (إذا كان في وتر من صلاته) ، والوتر في الصلاة يتحقق بالأولى في الصلوات الخمس، وفي الثالثة من غير الثنائية. (لم ينهض حتى يستوي قاعداً) ، هذه يسميها الفقهاء جِلسة الاستراحة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لأننا لو قلنا: لماذا الاستراحة؟ أين التعب الذي جاء؟ ما زلنا في الركعة الأولى، وليس هناك موجب للتعب الآن؛ لأن الاستراحة تكون نتيجة للتعب، فهي ليست الجلسة بين السجدتين بل بعد سجود السجدتين في الركعة الأولى، ويريد أن ينهض ليأتي بالركعة الثانية، ولكن قبل أن ينهض ويستوي قائماً فإنه ينهض من سجوده إلى قعود، ثم ينهض إلى القيام من قعود لا من سجود. ونجد بعض الفقهاء يقول: هذه الجلسة لا يجوز فعلها؛ لأنها زيادة في الصلاة، وكلمة استراحة تكون عن كسل، ولكن لا ينبغي وجود خلاف؛ لأنهم متفقون على أن هذه الفعلة هيئة من فعله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فإن السنة في هذه الصورة إذا سجد السجدتين في الركعة الأولى وأراد أن ينهض فلا ينهض من سجوده إلى قيامه، ولو تأملنا الحركة الطبيعية لإنسان ساجد: الجبهة والكفين في الأرض، ثم أردنا منه أن ينهض من سجوده قائماً، هل كل إنسان يستطيع أن يفعل هذا؟ ليس من السهل، لكن حينما ينهض من السجود إلى قعود؛ فهذه هيئة تتناسب مع طبيعة الإنسان، وأيسر له في قيامه من كونه يقوم من سجوده، والذين قالوا: إنها لا تجوز، وأنها عمل زائد عن الركوع والسجدتين، يجاب عنهم بأن النص جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يتمشى مع الإرفاق بالمصلي، ولا ينبغي أن يقال فيه: إنه عمل خارج عن الصلاة أو زائد عن الصلاة، بل نقول: إنه السنة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .

شرح حديث: (قنت شهرا بعد الركوع)

شرح حديث: (قنت شهراً بعد الركوع) قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع؛ يدعو على أحياء من العرب ثم تركه) ، متفق عليه] . حديث أنس هذا أصح الأحاديث التي وردت في الباب، وأنس له عدة روايات في النوازل وفي غير النوازل، وله حديث أنه بعد الركوع، وحديث أنه قبل الركوع، فـ أنس له دور كبير في باب القنوت، وهذا الحديث هو من المتفق عليه. (قنت صلى الله عليه وسلم شهراً) ، أي الشهور هذا؟ إذاً: قبل ذلك لم يكن قنوت، وعليه فالقنوت ليس مشروعاً ابتداءً مع الصلاة، وإنما هو أمر عارض، وتاريخه أشار إليه أنس، ولكن في الجملة: (يدعو على أقوام) .

سبب قنوت النبي صلى الله عليه وسلم على أحياء من العرب

سبب قنوت النبي صلى الله عليه وسلم على أحياء من العرب يتفق الجميع بأن سبب مشروعية القنوت في النازلة التي قنت فيها صلى الله عليه وسلم شهراً في الصلاة: أنه كان يدعو على أقوام، وتاريخ هذا القنوت وتلك النازلة بعد غزوة أحد بأربعة أشهر، وهي حادثة القراء، عندما جاء رجل من قبل نجد وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يقبله ولم يبعد، ثم قال: يا رسول الله! لو أرسلت رجالاً قبل نجد يدعون إلى ما تدعو إليه لعلهم يجيبونك، قال: (أخشى عليهم أهل نجد؟ قال: أنا كافل لهم) ، فتخير صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً من القراء، وليس معنى القراء: أصحاب التجويد المحترفين القراءة، لكن كان يقال لطلبة العلم ولحملة كتاب الله قراء؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم أربعين بإمرة رجل منهم، فلما جاءوا إلى بئر معونة قدموا خطاباً لـ أبي الطفيل، فلما رأى الخطاب وقبل أن يقرأه قتل هذا الصحابي، ثم استعان على الرفقة البقية بجماعته فأبوا عليه، وقالوا: قد أعطينا فلاناً عهداً في حفظهم يعنون الصحابة، فاستعان برعل وذكوان وعصية، فأجابوه، وكان القوم في مقيلهم، فإذا بهؤلاء الناس يحيطون بهم، فتناولوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا جميعاً، ما عدا رعيان الإبل ورجل كان ضمن الجرحى، فالرعيان رءوا الطيور تحوم حول المكان؟ فقالوا: ما حامت هذه الطيور إلا على شيء، فجاء اثنان ووجد أصحابهم على تلك الحالة، فقال واحد: نرجع إلى رسول الله نخبره، وقال الآخر: والله ما أذهب وأترك أصحابي، بل أموت على ما ماتوا عليه، وأخذ يقاتل القوم حتى قتل، والثاني أخذ أسيراً، والذي كان في الجرحى حسبوه من القتلى، ففي الليل تحامل على نفسه وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر رسول الله حزن حزناً شديداً -كما في رواية البخاري رحمه الله- ثم أخذ يدعو عليهم. وتعددت الروايات في هذا، فمنهم من يقول: (في الصلوات الخمس) ، ومنهم من يقول: (في المغرب والفجر) ومنهم من يقول: (في الفجر فقط) ، فنجد الروايات متعددة في موضع قنوت تلك النازلة. إذاً: مبدئياً سبب وتاريخ مشروعية القنوت كان بعد أحد بأربعة أشهر، وبسبب مقتل القراء، فحزن عليهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ يدعو على الذين قتلوهم. وحديث أنس هذا أول حديث يورده المؤلف، وفي هذا لفت نظر طيب جداً؛ فبدأ بحديث بدء المشروعية، وعرفنا متى وجد القنوت ولأي سبب، ومما يتعلق بعلم الحديث: أن لفظ الحديث هنا يدعو على أحياء من العرب، وأحياء فيها عموم وخصوص عام من جهة عموم أفراد الحي، وخاص من جهة أنه ليس على العرب جميعاً.

بحث فيمن يحق له القنوت

بحث فيمن يحق له القنوت هنا يأتي بحث الفقهاء: هل في القنوت يدعو الإمام على مجمل جماعة أم يسمي أفراداً بأعيانهم؟ هذا خاص بالإمام؛ لأن الرسول بصفته إمام المسلمين هو الذي دعا، ولا يجوز لفرد من أفراد الناس أن يدعو أو أن يقنت في النوازل بمفرده؛ لأن الرسول لم يأمر الناس أن يفعلوا، وفعله بنفسه، وهذه من أبحاث الحديث وفيها الخلاف، وجاء في بعض الأحاديث الأخرى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قنوته في بعض النوازل سمى أشخاصاً، مثل نازلة سلى الجزور في مكة، وفي أحد سمى: أبا سفيان وصفوان، فسمى أشخاصاً بأعيانهم، وقد يكون الدعاء في نازلة للمؤمنين بنصرهم وتأييدهم، وقالوا: روت عائشة وغيرها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت لغيبة عثمان حينما قيل: إنه قتل) ، فقنت ورفع يديه، ودعا لشخص بعينه. (يدعو على أحياء من العرب) : أحياء جمع حي، وهم الجماعة القاطنون بمنزل مستقل، وجاءت تسميتهم بـ: رعل وذكوان وعصية. وهم قبائل تلك المنطقة الذين طوقوا أولئك القراء وقتلوهم.

تحرير النزاع في حكم القنوت في الفجر

تحرير النزاع في حكم القنوت في الفجر قال رحمه الله: [ولـ أحمد والدارقطني نحوه من وجه آخر، وزاد: (وأما في الصبح؛ فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) . ] . في حديث أنس: (قنت شهراً ثم ترك) لماذا؟ انتهت المهمة، وإلى هنا محل اتفاق، لكن بجمع أطراف الحديث وطرقه ورواياته زيادة على ما اتفق عليه البخاري ومسلم، فروى أحمد رواية أخرى: (أما الصبح ... ) ، ولماذا ذكر الصبح هنا، نفهم من قوله: (أما الصبح) أن القنوت السابق لمدة شهر في جميع الصلوات ثم ترك، أما الصبح وهو إحدى الصلوات الخمس فلم يزل يقنت فيها حتى فارق الدنيا. إذاً: حديث أنس خاص في النوازل، وقوله: (حتى فارق الدنيا) عام في نوازل وغير نوازل، وحديث أنس فيه عموم الصلوات الخمس، وفيه خصوص صلاة الصبح، لكن نجد علماء الحديث يقولون: إن القنوت في النوازل فقط على ما جاء في المتفق عليه من حديث أنس، وينفون القنوت في غير النوازل، ففريق قال: أما الصبح فلا زال يقنت بصفة دائمة نوازل أم غير نوازل حتى فارق الدنيا، والآخرون يقولون: انتهت بانتهاء الشهر، ونتنبه إلى دقة مآخذ الفقهاء من الألفاظ في هذا السياق. إذاً: انتهينا إلى مسألتين: الرواية المتفق عليها، وفيها القنوت في النوازل فقط، وهذا مما لم يختلف فيه أحد، والرواية التي عند أحمد زيادة على ما عند الشيخين، وفيها إثبات القنوت في الصبح خاصة، وهذا الذي أخذ به من أخذ أن القنوت في الصبح، وستأتي الأحاديث الأخرى تبين أن القنوت كان في الوتر، والشافعي والمالكية أخذوا من هذه الرواية القنوت في الصبح، وإن اختلفوا هل هو قبل الركوع كالمالكية، أم بعد الركوع كالشافعية، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

شرح حديث: (كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم)

شرح حديث: (كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم) قال: [وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم) صححه ابن خزيمة. ] . أنس رجع مرة أخرى لقنوت النوازل، وهناك: (أما الصبح فلا زال يقنت حتى فارق) ، من هنا قال بعض العلماء: أنس يقول: ما كان يقنت إلا إذا دعا في النوازل، ولكن هذا الأثر يُعارض بآثار أخرى على ما سيأتي إن شاء الله، ويهمنا الروايات المختلفة عن أنس نفسه، وهنا قال: (إلا إذا دعا على قوم من الأعداء، أو دعا لقوم من المسلمين والمستضعفين) ، وكونه صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم في نازلة؛ فهذا محل اتفاق بين العلماء، وعلي رضي الله تعالى عنه كان في حربه مع أهل الشام، وعمر رضي الله تعالى عنه كان إذا أرسل جيشاً يدعو له ويقنت. إذاً: القنوت في النوازل عند الدعاء لقوم أو على قوم ماضٍ في طريقه، وهو من عمل الخلفاء الراشدين.

شرح حديث: (أي بني! محدث)

شرح حديث: (أي بني! محدث) قال: [وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: (قلت لأبي: يا أبت! إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني! محدث) رواه الخمسة. ] . هنا سؤال: أكانوا يقنتون في الفجر؟ وهو سؤال عن القنوت في تلك الأزمنة، وعن خصوص القنوت في الفجر، فقوله: (أي بني محدث) هل هو في الفجر أم في عموم القنوت؟ في الفجر؛ لأن عموم القنوت ثبت عندنا، إذاً: قوله: (أي بني محدث) منصب على كونه في الفجر، ولذا قال قوم: القنوت دعاء، وكلام البشر ينبغي أن يكون في النافلة لا في الفريضة، لكن إذا ثبت بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة فلا حاجة لرده، ولذا يتكلم المؤلف وغيره على ضعف هذا الأثر.

شرح حديث: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الفجر)

شرح حديث: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الفجر) قال: [وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر) . ] . هذه لطيفة من لطائف المؤلف، فلما أورد (أي بني محدث) موجهة للصبح؛ أراد أن يبين لنا متى يكون، فجاء بحديث الحسن بن علي، وقنوت الوتر إذا ثبت لا ينفي قنوت الصبح، ولكن يهمنا أنه أثبت قنوتاً في الوتر، ومن هنا: أخذ الأحناف والحنابلة أن القنوت محله الوتر، وأخذ المالكية والشافعية أن القنوت محله الصبح، وبهذا يكون التسلسل مع المؤلف على هذا السياق. ومن قوله (علمني كلمات أقولهن) : قال بعض العلماء: ينبغي ألا يتعدى الإنسان في قنوته على هذه الكلمات التي علمها رسول الله للحسن، وقالوا: هذا دعاء في الصلاة ينبغي أن يتقيد به المسلم، والآخرون قالوا: وهل نهى عن غيرها؟ قالوا: لا، قالوا: إذاً: علمنا، كما جاء في التشهد كان يعلمنا التحيات كما يعلمنا السورة من القرآن، ولما جاء معها (كما يعلمنا السورة من القرآن) هل تكون مثل هذه المطلقة؟ لا، هناك يجب أن يتقيد؛ لأن السورة من القرآن، لا يصح فيها الزيادة ولا النقص، بخلاف علمني، لا مانع أنه علمه هذه وقد يعلم غيره غيرها، لكن يهمنا ثبوت القنوت في الوتر، وبه أخذ من قال من الأئمة رحمهم الله. قال: (اللهم اهدني فيمن هديت) ، هذه ألفاظ يحفظها الشافعية خاصة ومن أخذ بهذا الدعاء، ومن أخذ بدعاء علي فإنه أوسع من ذلك، والذي يهمنا أنه جاء تعليم كلمات تقال في قنوت الوتر، وجوهر الموضوع عندنا إثبات القنوت في الوتر، وأن الرسول علم الحسن كلمات فيه، فإذا كان علم كلمات في قنوت الوتر فهذا دليل على إثبات القنوت في الوتر. ومثله: (ماذا أقول إن أنا زرت المقابر؟ قال: قولي: ... ) وعلمها ما تقول، فهذا أخذ منه العلماء تقرير جواز زيارة النساء للمقابر ما لم يتكلمن بما هو مناف للشرع. قال:: ( [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت) ، رواه الخمسة. ] . أعتقد أن أمثال هذه الألفاظ مرت علينا مراراً، ولكن يهمنا الجديد فيها: (فإنك تقضي ولا يقضى عليك) ؛ لأنه سبحانه مالك الملك، وهو يجير ولا يجار عليه، فهذا من هذا الباب، ومن أجاره الله لا أحد يستطيع أن يصل إليه بشيء، (ولا يجار عليه) : لا يمكن لكل الخلائق في الدنيا أن يجيروا إنساناً من عذاب الله على الله، لا يقولون: يا رب لا تعذبه ونحن أجرناه! من أنت حتى تجير على الله؟. قال: [وزاد الطبراني والبيهقي: (ولا يعز من عاديت) ، وزاد النسائي من وجه آخر في آخره: (وصلى الله تعالى على النبي) . ] . كل هذه الزيادات موضع خلاف؛ فهناك من يقتصر على ما اتفق عليه ويترك ما انفرد به الراوي، ولكن القاعدة الأصولية والحديثية: زيادة الثقة مقبولة، فإذا جاء النسائي بزيادة: (وصلى الله على النبي) فهي مقبولة، وإذا وجدت قرائن وشواهد لها تكون مؤيدة أكثر، ونحن عندنا من آداب الدعاء ومن شروط قبوله: أن تبدأ فتحمد الله وتصلي على رسوله، وتختم أيضاً بالصلاة على رسوله؛ فإنه حري أن يستجاب لك. إذاً: الزيادة التي زادها النسائي لا تعارض معها بل يوجد في عموم الأحاديث ما يؤيدها.

شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا دعاء ندعو به)

شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا دعاء ندعو به) قال رحمه الله: [وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) ، وفي سنده ضعف] . الحسن يقول: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الوتر) ، وهذا يقول: (ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) ، وكما ذكرت لكم أن مبحث القنوت وجدت فيه آثار شبه متعارضة، منها ما يصح سندها، ومنها ما لا يصح، وما يثبت في موضع ينفى في موضع آخر، فهذا بعدما أثبت لنا كلمات في قنوت الوتر يأتينا بكلمات في قنوت الصبح. ونجد الأئمة رحمهم الله يختلفون في مواقع القنوت، وهل يكون اختلافهم هذا من عندياتهم ومرئياتهم أم إزاء هذا السيل من الأحاديث؟ بل إزاء هذه الروايات، ومن أخذ برواية الوتر أو برواية الصبح هل يعاب عليه؟ لا، وهذا أهم ما يكون في المسألة. وكنت أود لو تضاف هذه لمسائل ابن القيم رحمه الله التي قال فيها: (ألفاظ الأذان والإقامة وأنواع -النسك الثلاثة- وضربات التيمم، لا ينبغي لإنسان أن يعترض على من أخذ ببعض الروايات فيها) ؛ فمن أخذ بالإفراد لا يعاب عليه، ومن أخذ بالتمتع لا يعاب عليه، ومن أخذ بالقران لا يعاب عليه؛ لأن في كل نوع من أنواع هذه الأنساك الثلاثة أحاديث صحيحة، وكذلك ألفاظ الأذان: جاء الأذان بالتربيع وبالتثنية، وجاءت الإقامة شفعاً ووتراً، فمن أخذ بالتثنية فلا يعاب عليه، ومن أخذ بالتربيع لا يعاب عليه، ومن تيمم بضربة فلا يعاب عليه، ومن تيمم بضربتين فلا يعاب عليه، وأقول كذلك: تضاف إليه هذه المسألة: من قنت في الوتر لا يعاب عليه، ومن قنت في الصبح لا يعاب عليه، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [10]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [10] التشهد في الصلاة ركن من أركانها أو واجب من واجباتها على خلاف بين العلماء، وقد اشتمل على معان عظيمة ينبغي للمسلم تأملها وتدبرها.

شرح حديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)

شرح حديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، أخرجه الثلاثة، وهو أقوى من حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، أخرجه الأربعة، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً] . هذا الحديث وما يأتي بعده يتناول هيئة من هيئات الصلاة ألا وهي: حالة الهوي إلى السجود، وقدم المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) ، إلى هنا نص الحديث، وإلى هنا أداء المعنى المطلوب في هذا التشبيه، تأتي الزيادة: (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، هذه الزيادة أوجدت عند العلماء الخلاف، حتى قال ابن القيم: إن في الحديث قلباً، ودعوى القلب أو الغلط في الحديث تشوش، وإذا انقلب اللفظ في هذه الرواية فقد ينقلب في غيرها، ونأتي إن شاء الله بشيء من التفصيل في هذه المسألة. ونقدم قبل كل شيء: بأن هوي المصلي بعد رفعه من الركوع إلى السجدة بأية حالة من الحالات لا يتعارض مع صحة الصلاة في شيء، إن نزل على ركبتيه أو كفيه فالصلاة صحيحة، ولا يمكن أن ينزل على رأسه أو مرفقيه؛ إما أن ينزل على كفيه أو ركبتيه، ولا تخرج حالة المصلي من هذه، والحالات الأخرى التي للرياضيين غير داخلة في الصلاة. قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) ، لو جئنا إلى هذه الصورة فقط: كيف يبرك البعير؟ في هذه الصورة التشبيه العملي بصورة البعير، وكل إنسان قد رأى بعيراً يبرك، وكل حيوان من ذوات الأربع عنده أربعة أرجل، لكن نحن نسمي المقدمتين اليدين، والمؤخرتين الرجلين، ويقولون في الزرافة: طويلة اليدين قصيرة الرجلين، وكلهن أرجل. فإذا كان البعير بصورته العملية عند بروكه لا ينزل بالخلفيتين ولكن ينزل بالمقدمة، نسميها رجلين، فبروك البعير: أن يقدم المقدمتين اللتين نسميها في غيره اليدين، إذاً: هو لا يبرك كما يبرك البعير، فمن نزل إلى السجدة على يديه يكون برك بروك البعير وخالف الحديث؛ فإذا نزل إلى السجدة بركبتيه وبدأ بالخلفيتين، -أي: القدمين المقابلة في البعير بالخلفيتين- فإذا نزل على ركبتيه من قدميه خالف البعير وصادق الحديث. إذا اكتفينا إلى هذا القدر نكون قد انتهينا من المشكلة وتم الحديث، ولكن جاءت عبارة: (وليضع) ، وكأنها تفصيل للمنهي عنه، (وليضع يديه قبل ركبتيه) فإذا وضع يديه قبل ركبتيه يكون شابه البعير وكأن الحديث يناقض آخره أوله، (لا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه) ؛ لأن البعير يقدم يديه. ولهذا التعارض يرى بعض الناس أن قوله: (وليضع) سائلة فيحاول أن يلغيها؛ لأنها ستأتينا بإشكال فتتعارض مع المتفق عليه عندهم وتنقض الصورة المتقدمة، وبعضهم أعلّ الحديث بها، وهو ظاهر البخاري رحمه الله في صنيعه كما أشار إليه المؤلف بأن حديث وائل بن حجر له شاهد، وحديث وائل يتعارض مع حديث أبي هريرة في: (وليضع) ، ولكن البخاري قال: وابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، إذاً: هناك مناقشة، وإيرادات على كلمة: (وليضع) ، فمنهم من يلغيها، ويقول: إنها مدرجة في الحديث، ومنهم من يُعل بها الحديث، وذكروا ذلك ونسبوه للبخاري، وهو لم يذكر الحديث ولكن نسب إلى ابن عمر الفعل موقوفاً عليه، وسنأتي له على الكلام على حديث وائل لاحقاً. فنحن الآن نأخذ الجزء الأول من الحديث وندع لفظه: (وليضع) ، مع حديث وائل، مع ما نسب إلى ابن عمر موقوفاً عليه، ونص الحديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) : يقتضي أن الإنسان لا يقدم يديه، وبهذا النص يأتي حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، ووضع الركبتين مخالف البروك البعير. إذاً: حديث وائل يتفق مع حديث أبي هريرة في أن الإنسان لا يقدم اليدين، قبل: (وليضع) . فإذا جئنا إلى كلام المؤلف قال: وإن الأول -يعني: حديث أبي هريرة - له شاهد مما ساقه البخاري تعليقاً بدون سند: وكان ابن عمر يضع يديه، أعتقد أننا كطلبة علم فعلاً نتساءل، هل هذا فعل عموم الصحابة أم خاص من ابن عمر؟ النص هنا: (وكان ابن عمر) أين بقية الصحابة؟ إذاً ممكن أن نقول: إن هذا الصنيع من البخاري يشعر بأن فعل ابن عمر إما أنه مقصور عليه أو أنه قليل جداً، وأنه تخير ابن عمر من ضمن من يرى ذلك، ويكون بقية الصحابة على خلاف هذا، وإلا لو كانوا يفعلون مثله ما خصينا ابن عمر بالذكر، ويقال: (وكانوا يضعون) كما هو الحال في كثير من العبارات عندما يكون العمل عاماً، وعلى هذا يكون فعل ابن عمر في جانب، وحديث أبي هريرة دون (وليضع) مع حديث وائل بن حجر معاً في جانب، وبقي كلمة: (وليضع) فإن قلنا: إنها مدرجة، ولما سببت هذا الاضطراب نلغيها، وإن قلنا: واردة لا يمكن أن نلغيها، ولا نملك أن نلغي شيئاً ثابتاً ولو عن الصحابي، واضطروا إلى أن يقولوا -كما يذكرون عن ابن القيم في الهدي- وقع في الحديث قلب والأصل فيه (وليضع ركبتيه قبل يديه) ، لكن نحن عندنا النص: (وليضع كفيه) ، فنحن نأتي بالقلب حتى يتفق معنى الحديث آخره مع أوله، ويتفق حديث أبي هريرة مع حديث وائل، وعندها لن يبقى أي مخالفة إلا فعل ابن عمر، ويمكن أن نقول: هذا رأي ابن عمر، ورأي بقية الصحابة مع الحديثين، والقضية منتهية على هذا الحد، وتكون المسألة قريبة، ولا خلاف فيها بعيد. وإذا قفزنا قفزة إلى الأمام وجئنا إلى المذاهب الأربعة: وجدنا الأئمة الثلاثة أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله على حديث أبي هريرة وحديث وائل، والرواية عن مالك مختلفة، فأصحاب مذهبه -كما ينص في الشرح الصغير- على أن من مندوبات الصلاة: أن يضع كفيه قبل ركبتيه، فلنجعل هذا الرأي مع ابن عمر ونجعل المذاهب الثلاثة مع الحديثين. ونعلم جميعاً كما قدمنا: أنها هيئة من هيئات الصلاة، ولكن هل كل الناس في هويهم إلى السجود سواء، وهل الإنسان في ذاته وفي جميع حالاته سواء، ولذا يقول العلماء: إن هذه الحالة ينظر فيها إلى ما يناسب المصلي، ولو أن إنساناً بدين الجسم كبير السن وحركة النزول على أعصابه صعبة، ويشد أرجله حتى ينزل على ركبتيه، وأراد أن يقدم كفيه ليستريح في النزول، وهل نقول له: لا، قدم ركبتيك؟ لا، إنسان نشيط وبحركة عادية يمكن أن يفعل هذا ويفعل هذا، نقول له: ماذا ترجح عندك؟ عندك حديث أبي هريرة بدون (وليضع) وحديث وائل، وعندك انفراد ابن عمر فقط بأنه كان يضع كفيه قبل ركبتيه، ماذا تختار؟ لو أن المسألة بالمكيال أو بالميزان نجد كفة أوفى في الكيل وأرجح في الوزن. إذاً: على هذا لا ينبغي أن نطيل النقاش في هذه المسألة، ولا حاجة إلى أن نكثر ونقول: حصل في الحديث قلب أو انقلب على الراوي، وأهون عندي أن نقول: إن الرواية مضطربة من أن ندعي بأن هناك انقلاباً في الرواية من حديث رسول الله يقلبه الصحابي علينا؛ لأنه يفتح باب شر في تغيير الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الحديث يغني عنها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى)

شرح حديث: (كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه السبابة) رواه مسلم، وفي رواية له: (وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) ] . هذه هيئة الجلوس في التشهد (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى) ، ولم يجلس على فخذه لا قابضاً ولا مرسلاً ولا بين فخذيه. (وعقد) العقد في الحساب عند المتقدمين، هو علم قد اندثر، وكان لهم في الحساب من بُعد بالإشارة رموز لم يبق عندنا منها إلا ما حفظه لنا هذا الحديث، والأصابع الخمسة كل واحد عقد فهو عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، (ثلاثاً وخمسين) ، والثلاث دون العقد كانوا يرمزون إليها، كما جاء في الحديث، والإبهام مع الوسطى تلي السبابة، والوسطى بالنسبة للأصابع هي الثالثة، فلما جاء العقد بالإبهام وهو الخامس كان العقد خمسين، فيأتي بالإصبع الذي هو العقد على المفردات، ويضع الإبهام على الوسطى وينصب السبابة، وفي بعض الروايات: (حلّق بين الإبهام والوسطى) ، حلّق، أي: عمل حلقة، والأولى أن تكون بطن الإبهام على جانب الوسطى أو تحتها، والمشهور فوقها، فالإبهام مع الوسطى تشكل العدد، والسبابة يشير بها، بقي عندنا الخنصر والبنصر، كيف يكون وضعهما؟ بعضهم يقول: مقبوضتان على الركبة، وبعضهم يقول: أصل اليد اليمنى على الركبة مفرجة الأصابع، فإذا عقد يبقى الإصبعان الأول والثاني منفردين ويقبض الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة، ولكن قبض الإصبعين مع هذا العقد والإشارة بالسبابة قد يكون أيسر. ويأتي خلاف عند الفقهاء هو: متى يعقد وإلى متى؟ والسبابة هل تتحرك أم أنها ساكنة؟ ونجد للأسف أن هناك في بعض الجهات من يرى في إشارة السبابة جناية، وقد يسيئون إلى من يفعل ذلك، وقد يدعون بطلان الصلاة، ولكن الآخرون يقولون: هذا العمل للسبابة لأنها في اتصال خلقتها بعروقها وأعصابها لها علاقة في التكوين بنياط القلب، فإذا ما تحركت نبهت القلب حتى لا يقع في غفلة ولا نسيان وهذا داخل في علم التشريح، والله تعالى أعلم. إن لم يكن هناك نص صحيح صريح مرفوع إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهي قابلة للنقاش، والبعض الآخر يقول: هي حركة لئلا يغفل أو ينام؛ لأنه ما دام يحرك أصبعه فإنه ليس بنائم؛ لأن النوم يغطي الأعصاب، ولكن لا نقول هذا ولا ذاك، نقول: السنة جاءت بهذه الصورة وبهذه الهيئة: أن الإنسان في التشهد إذا جلس فيده اليسرى على ركبته اليسرى، ويده اليمنى على ركبته اليمنى عاقداً (ثلاثاً وخمسين) ، وأخذها لاحق عن سابق بأن وضع الإبهام ببطنها على جانب الوسطى، وإصبع يقولون فيها أكثر من عشر لغات: أُصبع، وإِصبع، وأُصباع، وأصبوع. إلخ. وبعضهم يقول: يضع يده إلى أن يقرأ في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله، وعندها يرفع إصبعه كأنه يشير بالإصبع الواحدة إلى حقيقة الوحدانية، وإذا كان الأمر كذلك فلعل هذا التعليل يكون أقرب ومناسب للفظ، أما كونه متعلق بنياط القلب أو كونه لا يغفل أو لا ينعس فهذه أشياء الله أعلم بها، فهو يشير إلى الوحدانية، كما أشارت الجارية لما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ أشارت إلى السماء) ، فتكون الإشارة رمز وبيان للاعتراف عملياً بالنطق مع الفعل: أشهد أن لا إله إلا الله. وإلى متى يظل هذا الإصبع هكذا؟ قالوا: حتى إذا انتهى من التشهد، وبعضهم يقول: ينتهي من الشهادتين يرد الإصبع إلى ما كانت عليه، والبعض يقول: إلى أن يسلم، ومهما يكن من شيء أيها الإخوة -كما أشرنا- فإنها هيئة من هيئات الصلاة لا يتوقف عليها صحة ولا بطلان، ولكنها السنة وينبغي على المسلم أن يتحرى في صلاته فعل السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .

شرح حديث تشهد ابن مسعود

شرح حديث تشهد ابن مسعود قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك -أيها النبي- ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) متفق عليه، واللفظ للبخاري. وللنسائي: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) . ولـ أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلم الناس) ] . التشهد جاءت فيه أحاديث تعليمية، منها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، بعض روايته: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن) ، وجاءت ألفاظ عديدة في التشهد، ومن الروايات المتعددة أيضاً صيغة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاح فيما يتعلق بلفظي الصلاة والتسليم، كما جاء عن كعب بن عجرة: أنه أتى أهل قباء فقال: (يا أهل قباء! ألا أهدي لكم هدية؟ قالوا: بلى، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل: يا رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟) ، وكانوا في السابق يقولون: السلام على الله، السلام على عباد الله الصالحين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، قولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقالوا: عرفنا كيف نسلم، فعلمنا كيف نصلي -وفي بعض الروايات: كيف نصلي عليك- إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا) وعلمهم الصلاة الإبراهيمية، فهنا فضيلة العلم والتناوب فيه، فهذا رجل من أهل قباء حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع فيه علمه، فذهب به وأهداه إلى أهله وقومه، وأي هدية أعظم من التعليم في الدين. إذاً: التحيات أو التشهد أخذ حيزاً في النصوص.

معنى (التحيات) ولزوم صرفها لله خاصة

معنى (التحيات) ولزوم صرفها لله خاصة التحيات: جمع تحية، والتحية التكريم قولاً وفعلاً، وهو في الصلاة قول، وتشمل كل عبارات التحية من الحمد والثناء والعرفان بالجميل والتكريم كل أنواع التحيات لله وحده، والتحية لله موقعها موقع الحمد لله؛ فهو لا يكون إلا لكامل الذات والصفات، وليس ذلك إلا لله سبحانه؛ لكمال ذاته وصفاته، وكذلك التحيات لله، وموجب ذلك موجود؛ لأن الله سبحانه وتعالى صاحب الإنعام، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والإنس فرد من أفراد العوالم، والجن فرد من أفراد العوالم، والنباتات، والحيوانات، فربوبية الله للمخلوقين كلها لله، فاستحق الحمد، وكل ما جاء للإنسان من إنعام ابتداء من إيجاده من العدم ثم هدايته أو إنعامه عليه بالإسلام والتوفيق إلى تلك الصلاة التي هو يصليها، وكل ما كان من إنعام في الدنيا وفي الآخرة من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، وكما أنك في الفاتحة تقول: {الْحَمْدُ} [الفاتحة:2] ، أي: كل الحمد مجموع لله رب العالمين؛ فأنت في التحيات تقول: التحيات لله.

معنى قوله: (والصلوات الطيبات)

معنى قوله: (والصلوات الطيبات) قوله: [والصلوات والطيبات] . الصلوات: جمع صلاة، كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] ، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، كما قال ذاك: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم يعني: دعا عليه ألا يفسد، وكذلك {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، يعني: وادع لهم، فالصلاة من العبد دعاء، فتدعو الله لمن تصلي عليه، (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) ، يعني: ارحمهم وأكرمهم، والصلاة من الله على العبد رحمة وإكرام، (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) . وجاء معها الطيبات، وهي كل الأفعال الطيبات من عبادة بدنية، أو مالية، أو كلمة طيبة كل الطيبات ترجع إلى الله، والله هو الذي يثيب عليها، وهي أيضاً لله يمنحها من شاء والطيبات لله.

السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه

السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه قوله: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته] . هذه الجملة تكلم بها الرسول أمام ابن مسعود، ولماذا لم يقل بدلاً عنها: (السلام عليّ) ، عليك راجعة لمن؟ وعليّ راجعة لمن؟ لأن عليك كاف خطاب من المتكلم إلى المخاطب، وعليّ من المتكلم إلى نفسه، وهنا يعلمهم ماذا يقولون، فلو قال: السلام علي، فلو أن إنساناً قال: السلام عليّ، يكون بهذا سلم على نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ما قال: (ثم صلوا عليّ) ، فهو يعلمنا أنه جرد من نفسه شخصية التعليم، بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فقال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي) ، صحيح أنا النبي، ولكن واجب عليكم أنتم أن تسلموا على النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: علمهم عندما كانوا موجودين أن يخاطبوه، سواء كان موجوداً عنده أو من غاب عنه، وكيف يخاطب من انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخطاب لكل موجود؟ قال بعضهم: نقول: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ولا تقل: (السلام عليك) ؛ لأن هذه كاف الخطاب، وتكون للحاضر الموجود. لا والله؛ لأنك حينما تقول: السلام عليك أيها النبي، ذهنك وشعورك وقلبك وروحك وإحساسك يتصور شخصية رسول الله وكأنك تخاطبه، وتجدد العهد بإيمانك، وتقوي الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وإن لم يكن حاضراً عندك في مجلسك فهو حاضر في قلبك وإيمانك حيثما كنت في الدنيا كلها، فأنت تخاطب من آمنت به: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا تصح عبارة أخرى قطعاً. ثم نجد أن بعض العقلانيين يقولون: أنتم في القرآن في السور الثلاث تقرءون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، وليس هناك داعٍ لكلمة: (قل) ، ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ برب الفلق ((أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) لأنها تحصيل حاصل وأنت قائلها. هل هذا العقل سليم؟ لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله، إذاً: (أعوذ بالله) . جاءت منك أنت أو من وحي سبق؟ عندما نقول: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ، كأنه منك أنت، لماذا تتعوذ؟! قال: لأني أريد أن أعوذ، لكن لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. قل. فهذا أمر من الخالق سبحانه الموحي، فلكأنك تقول: أنا أقول ما أمرت أن أقوله. إذاً: الرسول ما أتى بشيء من عنده، بل هو مأمور بأن نقول: هو الله أحد، فكلمة (قل) جاءت بالوحي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون في موقف المنفذ لما قيل له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويكون القائل هو الله سبحانه، وأنت تقول ما قال الله سبحانه وتعالى. وهكذا هنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) . ونحن نقول لهؤلاء العلمانيين: في حياة رسول الله وهو إمامهم في الصلاة ويصلي خلفه آلاف الرجال كما في فتح مكة، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم، من في آخر الصفوف يقول سراً: السلام عليك أيها النبي، هل أسمع رسول الله؟ وهل خاطبه بذاته؟ لا والله، إنما يقول ما أمر أن يقوله، وحتى في المسجد الأول كما ترونه من خلف المنبر بسارية واحدة إلى الحجرة، كان سبعين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وفي الصف الأخير النسوة اللاتي خلف صفوف رجال لما يقلن: السلام عليك، هل كان يسمع أصواتهن؟ والذي في الصف الأول في طرفه من هناك هل الرسول يسمع صوته حينما يقول: السلام عليك أيها النبي؟ لم يسمع منه، إذاً: هذه ألفاظ تعبدية يجب أن يقولها الإنسان ويلتزم بها ولا تتعارض مع العقل الصحيح.

من معاني السلام بين المسلمين

من معاني السلام بين المسلمين قوله: [السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] . كان يقول الصحابة: السلام على الله، السلام على رسول الله، السلام على فلان فعلمهم أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا) ، والسلام: هو الدعاء بالأمان، وهو تحية الإسلام، وتحية أهل الجنة في الجنة، وهو شعار المسلم، مع المسلم بأن يعلن له أنه آمن، السلام عليك: أي أنت سالم مني، وكأنه أعطاه عهد بالأمان والسلامة فلا يخاف شراً. وهذا أعظم ما يكون بين المتلاقيين ولو لم يعرفه، ولذا معلوم في الفطرة والجبلة: لو أن إنساناً لقي آخر ولم يسلم عليه عرف أن عنده نية شر؛ لأنه ما بدأ بالسلام. والسلام في التحية له آدابه، وقد عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد، وجاءت النصوص في السلام العادي والتحية بين الناس بـ (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، وهي أكملها، جاء أن رجلاً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فقال: (السلام عليكم، وجلس، فردوا عليه، وقال الرسول: عشر -أي: عشر حسنات-، وجاء الثاني وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول: عشرون -أي: عشرون حسنة- وجاء الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردوا عليه التحية، فقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثون، قالوا: ما عشرة وعشرون وثلاثون يا رسول الله؟! قال: الأول قال كلمة واحدة: السلام عليكم، والحسنة بعشر أمثالها، والثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال كلمتين، والحسنة بعشر أمثالها، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاث كلمات بثلاث حسنات، والحسنة بعشر أمثالها) . أو كما قال رسول الله. ودائماً يا إخوان! إذا وجدت في الحديث النبوي متفرقات فاعلم بأن هناك رابطة، كحديث: (آمين آمين آمين) على درجات المنبر الثلاث، وهنا: (السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى ... ) ، موجود الارتباط القوي، بل هو أقوى ما يكون، وظاهر وواضح جداً. وبدأ بالنبي؛ لأن الفضل كله من الله على يديه، وجلوسنا في التشهد وتلفظنا بالتحية وسلامنا المبدأ الأول فيه من الله على يدي رسول الله فهو الذي علمنا ذلك. يلي هذا (علينا) ، وفي الحديث لما جاء رجل وقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على أهلك، على زوجك، على على وقال: أولاً: ابدأ بنفسك) ، وهنا الحديث بدأ بالرسول، ولِم لم يقل: السلام علينا، والسلام على النبي، والسلام على عباد الله؟ كما هو الترتيب الطبيعي، لا، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) ، فهو مقدم على النفس.

شرح حديث: (عجل هذا؛ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه)

شرح حديث: (عجل هذا؛ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه) قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحمد الله؛ ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجل هذا! ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء) ، رواه أحمد والثلاثة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] . كيف تكون الصلاة؟ وما الصيغة التي يلتزمها الإنسان فيها؟ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي، وهذه الصلاة إما أن تكون نافلة وهو الأغلب، وإما أن تكون فريضة فاتته، المهم: أن هذا الرجل دعا الله في صلاته دون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا) ، أي: تعجل في الدعاء ليحصل على الإجابة المطلوبة، ثم دعاه فقال له: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء على الله، وليصل على النبي) انظروا الصيغة هنا ما هي؟ (وليصل على النبي) ، ولم يقل يصل عليّ؟ لأن الغرض ليست الصفة الشخصية الذاتية لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الغرض الصفة المندمجة من شخصيته الذاتية وصفته النبوية. انظروا يا إخوان هنا! لتنظروا المغايرة، وما يسمى في البلاغة بالتجريد في قضية الحفاظ على الحدود وإقامتها لما قال: (أتشفع في حد من حدود الله، لو أن فاطمة بنت محمد) لم يقل بنت النبي؛ لأن النبوة بعيدة عن هذا، ولأنها ستكون حالة شخصية، ومن محمد يا رسول الله؟ أليس أنت؟ لا، هنا الحدود ليس فيها نبوة ولا رسالة ولا شيء، النبوة رسالة معصومة من ذلك، ولكن محمد الذي تعرفون نسبه وشرفه ومنزلته بغض النظر عن جانب النبوة. قال: [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه] . يبدأ بتحميد ربه سواء أراد البداءة في الفاتحة أو التحيات؛ لأنه حمد لله، وهذه مقام: (التحيات لله) . قوله: [والثناء عليه] هذه مقام: (الطيبات المباركات) . [ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم] . هنا الحديث: (إذا صلى أحدكم) : تعليم متعلق بالدعاء في الصلاة: بأن يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، وجاء هذا التعليم أيضاً خارج الصلاة مطلقاً، مثلاً: مشيت في الطريق ولك حاجة، وتريد أن تسأل الله إياها: ابدأ فاحمد الله واثن عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله حاجتك، واختم الدعاء بالصلاة على النبي، وهذا. (قمنٌ أن يستجاب له) أي: حري بالإجابة، ويقول العلماء: لأن الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات إلى الله، ويكفينا قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيُِّ} [الأحزاب:56] ، ويكفينا بأن الله يصلي عليه بالمرة عشر مرات، فهي من أعظم القربات إلى الله، وورد حديث في الصلاة، (أجعل نصف صلاتي لك، أجعل كل صلاتي، فقال: كفيت أمرك) ، وهذا باب واسع مستقل لا يحتاج إلى إيضاح، فإذا قدّم بين يدي حاجته هذه القربات لله سبحانه بالحمد والثناء عليه، والصلاة على رسوله، ودعا وختم بالصلاة قالوا: هذا الثناء في أول الدعاء والصلاة في أولها وآخره كالجناحين يرتفع بهما السؤال إلى الله، فإذاً عنده آلة رفع ترفعه إلى المولى سبحانه، فإذا قُدم السؤال في باقة من الزهور والورود بين دعاء وثناء على الله سبحانه معطر ومطيب بهذه الطيبات حري أن يستجاب، لكن جئت ورفعت يدك وقلت: اللهم اغفر لي، حسناً، دق الباب واستأذن، تلطف قليلاً، استعطف، أظهر الحاجة والفاقة. مثاله: (اللهم إنك عفو تحب العفو) . فهنا قدمت مقدمة لحاجتك وسؤالك، وهي قولك: (اللهم) ، وتريد عافني واعف عني، ولكن أيها ألطف؟ يا رب! أنت عفو وتحب العفو، وبعفوك ومحبتك للعفو اعف عني، يكون السؤال ملطفاً ومقدماً له بمقدمة، وحري بإجابته هكذا. إذاًَ: المقام هنا يتعلق بالصلاة، وجاء المقام عاماً خارج الصلاة، فإذا كان الأمر كذلك تكون قاعدة مطردة في الصلاة وفي غير الصلاة: إذا سأل الله أحد من الناس فليقدم بين المسألة ما يقربه إلى الله، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بالحمد والثناء والصلاة على النبي، هذا عام وإذا كان في الصلاة كذلك، وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه لا يعجل، بل يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي، ثم يتخير المسألة. وبعد أن قدم المؤلف رحمه الله هذا الأمر كأنه يشعر بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، هو سمعه في الصلاة أو خارج الصلاة؟ أين سمعه؟ الرجل يصلي، قال: (عجل هذا ثم دعاه فأخبره) هل رده ليعيد الصلاة لعدم صلاته على النبي أو أقره على صلاته؟ إذاً: الصلاة على النبي التي تركها في تلك الصلاة مندوب إليها، ومن هنا قدم المؤلف هذا الحديث ليعطي مقدمة فقهية، وهي: أن الصلاة ليست واجبة مع الخلاف الموجود عند العلماء. إذاً: أخذنا من هذا الحديث ما ينبغي على الإنسان أن يُقدم على الدعاء من الصلاة على النبي والثناء على الله. (ثم يدعوا بما شاء) . وتقدم في حديث ابن مسعود: (وليتخير من المسألة أعجبه) ، وتقدم أيضاً التنبيه على قوله: (يتخير) وهنا: (بما شاء) ، ولكن هل المشيئة مطلقة أو مقيدة بأقل شيء بالأدب الشرعي؟ المشيئة مقيدة، وفي الحديث: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون هواه -مشيئته، إرادته، رغبته- تبعاً لما جئت به) .

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [11]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [11] الصلاة الإبراهيمية في التشهد، والاستعاذة بعدها من أربع، من أعظم الأذكار والأدعية؛ ولذا شرعا في كل صلاة، وينبغي للمسلم تدبر ألفاظهما، ومعرفة معانيهما، حتى يدعو الله بهما بخشوع وخضوع، ولمعرفة المعاني التي يشتملان عليها يرجع إلى كلام أهل العلم الذين بينوه.

شرح حديث: الصلاة الإبراهيمية

شرح حديث: الصلاة الإبراهيمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (قال بشير بن سعد: يا رسول الله! أمرنا) ] . كثيراً كانوا ينبهوننا عن الفرق بين ابن مسعود وأبي مسعود، وأبو مسعود يقولون فيه: أبو مسعود البدري، ونسبته إلى بدر بالسُكنى وليس بحضور الغزوة، وهو أنصاري. يقول: بشير: (كنا في مجلس سعد -أبوه- فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك) أين أمرهم الله؟ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب:56] ، وهنا للأصوليين مجال واسع، فأمره سبحانه هنا مجمل، كيف نصلي؟ ومن الذي يبين هذا المجمل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون بيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أُجمل في كتاب الله واجب الاتباع، ويقولون: حكم المبيِّن من حكم المبيَن، المبيَن مجمل فيأتي المبيِّن ويفصل، إن كان المبيَن سنة فالبيان سنة والأخذ به سنة، وإن كان المبيَن واجب فالمبيِّن واجب والأخذ به واجب. فمثلاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وعندما دخل ابن عمر وسأل: أين صلى؟ قيل: هنا، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مجملة، وفعله إياها في المكان المعين بينه، وكذلك الصلاة في البيت مسكوت عنها؛ ففعلها صلى الله عليه وسلم لبيان المشروعية، وهكذا فيما يتعلق بنوافل العبادات، فلما جاء هنا: (أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟) ، والسؤال بالكيفية يكون عن حقيقة الماهية ووصفها، فهل هنا استفهام: كيف نصلي عليك؟ أو لماذا نصلي عليك؟ أو أنه علمنا الكيفية التي أمرنا بها؟ وهذا هو المطلوب، ليس سؤال استعجاب ولا استغراب، ولكن سؤال استيضاح عن الكيفية والصورة التي بها ينفذون أمر الله.

اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في الشرع

اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في الشرع جاء في الرواية: (سكت طويلاً حتى تمنينا أنه لم يسأله) ، ولكل إنسان أن يقف عند هذه السكتة الطويلة، لأن هذا أمر يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى نظير لهذا، وهو: الصلاة مكتوبة، جاء في القرآن: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، فالنداء موجود، وأخذوا يصلون مدة طويلة، ويُنذر بعضهم بعضاً لوقتها، ثم تعبوا من هذه الطريقة وقالوا: تعالوا نتخذ علامة تنبه الجميع، ندق الناقوس، قال: لا، هذا حق النصارى، ننفخ في البوق، قال: لا، هذه حق اليهود، نشعل نار: قال، لا، هذه للمجوس. هذه هي الشعارات الموجودة عند الآخرين، الآن يضربون المدفع من أجل الإعلام بوقت الإفطار والإمساك، وهذه أمور يتفقون عليها لكن كره صلى الله عليه وسلم أن يُحاكى أو يشابه الأمور الباطلة، من الأديان الباطلة أو المنتهية، وقاموا ولم يتفقوا على شيء، يعني: الجلسة كلها والرسول معهم، والخلفاء الراشدون والصحابة بكاملهم يجتمعون ويتآمرون وينفضون على غير نتيجة، نحن الآن نقول: اجتمعت اللجنة الفلانية وخرجوا بدون أي نتيجة، ولم يتوصلوا إلى قرار حاسم، ونعيب ذلك عليهم، وهنا رسول الله وخيرة الصحابة اجتمعوا من أجل أمر في الدين، ومع ذلك انتهى الاجتماع ولم يتوصلوا إلى قرار، ماذا كانت النتيجة؟ أتى عبد الله بن زيد يقول: يا رسول الله! رأيت كأني في المنام -يعني: بين النوم واليقظة- ورأيت رجلاً عليه حلة خضراء يحمل ناقوساً، وقلت له: ألا تبيع هذا الناقوس؟ فقال: ماذا تصنعون به؟ قلت: نعلن به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ -وذكر الأذان- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون: وذكر له الإقامة. الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا من عبد الله قال: إنها رؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فصعد بلال ونادى، فإذا عمر يأتي يجر رداءه، ويقول: والله! لقد رأيت مثلما سمعت. اجتمعوا ليصلوا إلى وسيلة فلم يتوصلوا ويترك الأمر، أبو بكر مع ما بينه وبين رسول الله ما رأى شيئاً، عثمان صهر رسول الله ما رأى شيئاً، عمر فيما بعد حفصة لم تأت إلى الآن، فإذا عبد الله بن زيد رجل من الأنصار يقول: أنا رأيت كذا وكذا، وهو شعار المسلمين في صلاتهم، وأهم ركن في الإسلام، يُترك ليراه إنسان بين النوم واليقظة، قالوا: نعم، وهذا عين الواقع والحقيقة المناسبة، لماذا؟ لأن في ألفاظ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وليس هناك إعلان بعلو منزلة النبي وعظيم شرفه كقران اسم رسول الله باسم الله المولى سبحانه، وذلك في الشهادتين على المنارة ينادى به في كل مسجد في كل يوم خمس مرات، بل في بعض المساجد كل منارة ينادي عليها مؤذن، ثم تثنى في الإقامة، لو أراد إنسان أن يحصي هذا في العالم لا يقدر أن يحصيه، فهذا العمل لما كان متعلقاً بشخصية رسول الله، والمدينة فيها من أهل الشر الذين يترقبون زلة أو ثُلمة فيها أدنى شبهة ليشككوا المسلمين في رسول الله؛ سد عليهم هذا الباب، والله أنا لم آت به، ولم أقل لكم: أوحي إليّ بهذا؛ مع أنه لو قاله فهو صادق، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه قوله، لكن عندما يأتي به رجل من عامة المسلمين، هل أحد يستطيع أن يلوح بشبهة في الأفق؟ لا أحد يستطيع.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد قال: (أمرنا الله أن نصلي عليك) جاء التعليم، فسكت طويلاً؛ لأن فيه أمراً يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم، وأين؟ في العبادة التي هي خاصة لله، الصلاة لله ويأتي فيها ذكر رسول الله. إذاً: هذا أمر خطير، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] ، فخطورة ذكر رسول الله في الصلاة جعلته صلى الله عليه وسلم يسكت، ولكن هذا مما يستنتج من السياق والموقف العام، حتى إن الصحابة قالوا: ليته لم يسأله؛ لأنهم ظنوا أن هذا يُثقل رسول الله. ثم قال: (قولوا) وهذه العبارة صيغة أمر، أخذ منها بعض العلماء أن الأمر للوجوب، ولكن المؤلف قدم لنا: (عجل هذا) ، ولم يأمره بالإعادة، ولا بسجود سهو، وأقره على تلك الصلاة التي عجل فيها عن الصلاة على رسول الله، والعلماء بالإجماع يقولون بأنها مطلوبة، لكن على أي مستوى: الوجوب أو الندب؟ الجمهور يقولون: الندب، ونجد الشافعي رحمه الله يقول: الوجوب، ويختلف في مذهبه: هل الوجوب في التشهد الأول (إذا صلى أحدكم) ، أو الوجوب في التشهد الأخير؟ ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه فرق بين الجلوسين؛ فالصلاة على محمد دون الآل في التشهد الأول، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل على محمد ثم ينهض، والصلاة على محمد وعلى الآل يكون مجموعاً في التشهد الأخير.

حكم زيادة لفظ: (سيدنا)

حكم زيادة لفظ: (سيدنا) بقي عندنا مناقشة العلماء في الأسلوب والتركيب: عرفنا بأن الصلاة من العباد دعاء، ومن المولى رحمة، ومن الرسول شفاعة. أما قول: (سيدنا) فلم يتعرض لها المؤلف، ولكن تعرض لها غيره، وبعض الناس في هذا المقام يقول بالتسييد (اللهم صل على سيدنا محمد) ، وقد رأيت رسالة مخطوطة قديمة سابقاً، وفي ذهني بعض منها وهي للشافعية، ويرون بأن لفظ: (السيد) من باب التكريم والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: جاءت الصيغة في معرض التعليم جواباً على سؤال؛ فلا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فيجب الالتزام بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يُعلم الأمة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة. ولا شك أنه سيد الأولين والآخرين، كما قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، وقال: (إن الله اختار العرب من الناس، واختار من العرب قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار) . إذاً: خارج الصلاة قل: سيدي وسيدنا وسيد الثقلين وسيد الأولين والآخرين، لا أحد يعارضك، لكن في الصلاة لا تقل لأمرين: الأمر الأول: أنهم قالوا: الصلاة حق لله، وهي تعظيم لله بالحمد والثناء والركوع والسجود، وتقول: الله أكبر، أي: من كل كبير جاء في خاطرك، فما دام أنها للتعظيم والتمجيد والثناء للمولى سبحانه، فما تحتمل أن تثني على غيره معه، فقولك: سيدنا، معناه: أنك دخلت في باب التكريم والتعظيم بغير الله مع الله، وهذا لا يصح، بل أفرد التكريم والتكبير والإجلال في الصلاة لله. والأمر الثاني: قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) جاءت بصفة العبودية لتلتزم بها، والجمهور يقولون: تقولون: إنكم تُسيدون إكراماً لرسول الله؟ قالوا: نعم، قالوا لهم: لا، التكريم الحقيقي هو الالتزام واتباع ما علمنا به، يُعلمك كذا وأنت تفعل كذا، هذا ليس تكريماً، لأنك خرجت عن التعليم، وحقيقة التكريم هي: أن تمتثل ما أمرك به، والبحث قد يتوسع فيه بعض الناس، واخترعوا له قاعدة: هل الأدب الأولى أم الامتثال؟ والصحيح أن الامتثال أولى.

توجيه قوله: (كما صليت على إبراهيم.

توجيه قوله: (كما صليت على إبراهيم ... ) الصيغة التي جاءت منه صلى الله عليه وسلم تعليماً للسائلين: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد) ، من هم آل محمد؟ بعضهم يُجمل ويقول: كل من حرمت عليه الزكاة، وبعضهم يقول: بنو هاشم وبنو المطلب، وهل الزوجات من الآل أم لا؟ الجمهور يخرجونهم من ذلك لحديث غدير خم. إلى آخره، وهذه مسألة جانبية. (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد) . المعروف في قانون البلاغة: أن المشبه به أقوى من المشبه، تقول: زيد كالأسد في الشجاعة، المشبه زيد، والمشبه به الأسد، وجه الشبه الشجاعة، وهل الشجاعة أقوى في زيد المشبه أو في الأسد المشبه به؟ في الأسد وتقول: فلان الأمير أكرم من حاتم، أفعل التفضيل، فتكون نسبة الأفضلية للأمير على حاتم، ويبقى الأمير أكرم من حاتم، فإذا جاءوا هنا يقولون: من أفضل محمد أو إبراهيم؟ بإجماع المسلمين أن محمداً أفضل الخلق بلا شك ولا نزاع، فإذا كان هو الأفضل كيف يقال: صلِّ على الأفضل كما صليت على المفضول. والغرض من التشبيه: إلحاق المشبه بالمشبه به في الصفة، يعني المشبه أقل صفة من المشبه به، وأنت تقول: (صلِّ على محمد) وتلحقه به (كما صليت على إبراهيم) ، فأنت هنا جعلت المشبه وهو محمد أقل وتلحقه بإبراهيم، فجعلت إبراهيم هو الأفضل والصلاة عليه أكثر، وكيف يصير هذا؟ وأخذوا يحاولون الإجابة إلى ما شاء الله، ولكن: هل الصحابة عندما سمعوا هذه الصيغة ناقشوا هذه المناقشة؟ قولوا فقالوا وانتهى، والذي قالها سيد الخلق وسكت طويلاً، ونجزم بأنه كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ، إذاً: لا حاجة إلى النقاش، ولكن من باب ما قيل: هي صلاة مستقلة لا علاقة لها بإبراهيم ولا إسماعيل، ويبقى التشبيه منصب على آل محمد كما صلى على آل إبراهيم، وهذه فيها تكلف، ولكن للخروج من هذه الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم، من الذي قال لكم تناقشوا؟ (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) ومن هم آل إبراهيم؟ قالوا: جميع الرسل من ذرية إبراهيم، فتكون الصلاة على آل إبراهيم، ومن ضمنهم محمد، ألم يقل: إن جده إبراهيم؟ أليس هو ولد إسماعيل, وإسماعيل ولد إبراهيم؟ فمحمد من آل إبراهيم، وآل يعقوب كلهم من آل إبراهيم، فتكون الصلاة على محمد وآله كالصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء من ذريته ومنهم محمد، إذاً: صارت الصلاة الأكثر على محمد. إذاً: ليس هناك مناقشة، ولعل هذا يكفينا في هذه المسألة. (في العالمين إنك حميد مجيد) وهذه جاءت في بعض الروايات. (والسلام كما علمتم) . والسلام كما علمتم أو كما عُلِّمتم؛ لأن السلام كانوا يقولونه قبل أن تفرض التحيات: السلام على الله، السلام على النبي، على جبريل، على ميكائيل، فقال: (لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: السلام عليك) كما تقدم في الدروس الماضية، والله سبحانه وتعالى أعلم. رواه مسلم وزاد ابن خزيمة فيه: (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟) .

شرح حديث: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع)

شرح حديث: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] . ولعله من باب الإرشاد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتخير من السؤال أعجبه) ، أو: (من السؤال ما شاء) قد يقف الإنسان حائراً بماذا أدعو؟ ماذا أسأل؟ فقال: (إذا تشهد أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (في آخر التشهد) ، وفي بعضها: (في الصلاة) واتفقوا جميعاً: على أنه يكون في التشهد الأخير وقبل السلام. (فليستعذ بالله من أربع) أربعة أمور، وهذه الأمور الأربعة يطول فيها الكلام، ولكن نأخذ بعضها على سبيل الإجمال، والبعض قد يحتاج إلى إرجاء إلى أن يأتي محل أوسع منه، فنأخذ قدراً من الوقت المتبقي.

الاستعاذة من عذاب جهنم

الاستعاذة من عذاب جهنم قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) . أعوذ: بمعنى ألجأ وأحتمي وألوذ؛ لأن هذه الأمور الأربعة لا يُجير الإنسان منها ولا يُعيذه إلا الله، وكلها أمور غيبية، والأمور الغيبية لا قدرة للإنسان فيها، لا في جلبها ولا في دفعها، وكلها مرجعها إلى الله، أمور جهنم والجنة والصراط والآخرة كلها أمور غيبية لم يشاهدها إنسان، اللهم إلا إذا قلنا: لقد أكرمنا الله برؤيتها عن طريق رؤية رسول الله في الإسراء والمعراج وهو الصادق المصدوق. أما جهنم: فيقولون أصلها كهنم، بالكاف، ولكن بالجيم من التجهم، والتجهم: هو انكسار الوجه عند رؤية ما يسوء، والشخص إذا استقبل صديقاً أو عزيزاً هش له وبش له وجهه واستبشر أمامه، وإذا كان العكس تجهم في وجهه ليكفحه عن نفسه، وقد تكون جبلة وبغير اختيار؛ حينما يرى شيئاً يكرهه أو إنساناً لا يستريح إليه فلا يملك نفسه؛ لأنه عامل نفسي، فجهنم تتجهم للناس، وسُميت بذلك من هذا الوجه، والله أعلم، ولا يعيذ من عذاب جهنم إلا الله، سواءً كان برحمة من الله، أو توفيقاً للعبد في الدنيا، أو بشفاعة من رسول الله، أو بشفاعة من الله كما جاء في الحديث: (شفع النبيون والصالحون والأولون والآخرون وبقي أرحم الراحمين، أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان) ، فيخرج من النار كل مؤمني الأمة برحمة الله سبحانه. إذاً: لا يجير من النار إلا الله، حتى الشفاعة {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] . إذاً: الأمر كله لله، ولذا يلجأ الإنسان إلى الله بأن يستعيذ من جهنم، وسبحان الله! في كل صلاة تقولها حتى لا يغيب عن ذهنك ذكرها، فتكون دائماً على حذر منها، وتكون دائماً ملتجئ إلى الله في شأنها. هذه الجملة الأولى.

الاستعاذة من عذاب القبر

الاستعاذة من عذاب القبر قوله: (ومن عذاب القبر) . عذاب القبر يثبته كل طوائف المسلمين، ولم ينفه إلا المعتزلة، وقيل: البعض منهم فقط، وهذه مسألة مفروغ منها، ويذكر كثير من العلماء بأن النصوص في إثبات عذاب القبر تصير إلى حد التواتر، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: عذاب القبر يثبته العلماء من القرآن الكريم في قوله سبحانه في حق فرعون وآله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وإدخالهم غدواً وعشياً متى يكون؟ قبل يوم القيامة، وهو في القبر, وقد جاء الحديث صريحاً: (القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار) ، وروى مالك في الموطأ حديث عائشة، في اليهودية التي جاءت تسألها، وقالت: (أعاذك الله من عذاب القبر، فجاء الرسول وسألته، وقال: صدقت، يا عائشة!) . إلى آخره. أريد أن أقول: يا إخوان! عذاب القبر، ونعيم القبر، وسؤال القبر كل أحوال القبر، رغماً عنا جميعاً نقر بأنها أمور غيبية، وعالم البرزخ عالم غيب، وليس للعقل ولا للتجربة ولا للمعمل ولا لجانب من جوانب الدنيا حتى أشعة الليزر وكل ما اخترعه الإنسان طريق إلى التوصل إلى شيء من أمره، وقد جاءتنا نصوص فيما يتعلق بما لا يمكن أن يتكلم به إنسان، جاء في حق موسى عليه السلام: (مررت على موسى في قبره قائماً يصلي) فهل كان له غرفة يصلي فيها؟ أو هل يوجد لحد عليه طوب اللبن، ويسعه وهو نائم؟ كيف يقوم يصلي فيه؟ تنص كُتب شرح العقيدة الواسطية على وقعة الحرة التي امتدت ثلاثة أيام، وعطل فيها الأذان والصلاة في المسجد النبوي، ولم يقو أحد أن يأتي إلى المسجد إلا سعيد بن المسيب، فهو أربعون عاماً لم تفته الجماعة، ولم ير قفا إنسان أمامه، دائماً في الصف الأول، يقول: كنت أسمع الأذان من الحجرة، من كان يؤذن؟! لا تقدر أن تقول شيئاً. ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية في فتح البحرين أن العلاء بن الحضرمي لما كانوا راجعين أصيب بالغدة فمات، فلما مات دفنوه حيث مات في الدهماء، فجاء أهل تلك الأرض فقالوا: يا أيها القوم! إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه؛ فإن هذه الأرض تلفظ موتاها، لا تقبلهم تردهم، والله امتن على الناس بالأرض كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25-26] ، وهذه الأرض لا تقبل الموتى، فقالوا: ما من حق ابن الحضرمي علينا أن نتركه نهباً للسباع، فرجعوا يحفرون القبر لينقلوه إلى أرض تقبل الموتى، فإذا بهم يجدون القبر خالياً من صاحبه، وإذا به امتد مد البصر، أنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لا أتدخل في هذا، هذا قول ابن كثير، وهو عالم سلفي، وهو تلميذ ابن تيمية. لقد جاء في الحديث: (ثم يمد إليه مد البصر) ، (إما روضة من رياض الجنة وإما ... ) إذاً: عالم البرزخ لا يقوى إنسان أن يتكلم فيه بالعقل، ولكن بمقتضى ما جاءت به النصوص الصحيحة، وهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من عذاب القبر كما نستعيذ من عذاب جهنم، ولا يشك أي عاقل حتى في الديانات الأخرى النصرانية واليهودية بأن النار موجودة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] ، فكما أننا أُمرنا أن نستعيذ بالله من النار، أمرنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر، فهما قرينان.

موضع الاستعاذة في التشهد

موضع الاستعاذة في التشهد يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم) ، جاء هذا مطلقاً، ثم جاءت الرواية الثانية: (إذا فرغ من التشهد الأخير) ، والمؤلف رحمه الله جاء بقيد التشهد الأخير؛ لأن بعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يرى الاستعاذة من تلك الأربع في التشهدين الأول والأخير، ولكن الذي عليه الجمهور: أن المطلق يحمل على المقيد، عندنا تشهدان، وهذا مطلق، ولكن جاء القيد في التشهد الأخير، إذاً: محل الاستعاذة من تلك الأمور إنما هو في التشهد الأخير، وأيضاً القيد الثاني: (إذا فرغ من التشهد) ، وبعض العلماء يرى أن قوله: (إذا فرغ من التشهد فليقل أو فليستعذ) قيد أيضاً فيما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من المسألة أعجبه) قالوا: يتخير بعد الاستعاذة؛ والاستعاذة محلها إذا فرغ من التشهد، وعلى هذا الترتيب إذا فرغ من التشهد يستعيذ بالله منها، ثم يتخير من المسألة ما شاء، وأشرنا بأن مجيء عموم: (يتخير من المسألة ما شاء) يترك للإنسان الاختيار، ولكن اختيار المسلم مرتبط ومشروط لما اختاره له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، وهواه بمعنى اختيار رغباته تبعاً لما جئت به؛ فكأن الاستعاذة بالله من تلك الأمور توجيه لأن يكون مجال استعاذته، وسؤاله، واختياره يدور في فلك مصلحة الدين والدنيا والآخرة، ولا ينزل إلى مستوى لا يليق بأمر الصلاة.

نزغ الشيطان بين بني آدم

نزغ الشيطان بين بني آدم تقدم بأن الإعاذة هي الالتجاء واللواذ؛ ولذا الأمور العظام التي لا يقوى عليها الإنسان ليس له ملاذ ولا ملجأ إلا الله، ويقولون: عدو الإنسان إما من الإنس وإما من الجن شياطين الجن والإنس، وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف نتقي شر عدو الإنس، وعلمنا كيف نتقي شر عدو الجن، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، ادفع من؟ الإنسان الذي يريدك بشر، إساءته وحسنتك لا يستويان، هو يسيئ إليك، وأنت ادفع إساءته بالتي هي أحسن، ماذا تكون النتيجة؟ {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] . إذاً: تتقي عداوة الإنسان بالإحسان إليه، ولذا يقولون: مصانعة العدو وقاية من شره، ويذكرون عن شخص أوروبي مشهور عند أهله، أنه قيل له: نراك تصانع أعداءك، قال: أليس واجبي أن أتقيهم وأتقي شرهم؟ قالوا: بلى، قال: ما وجدت أحسن من اتقائي شر العدو من مصانعته، أي: إذا صانعته صار صديقاً {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، ولكن بيّن القرآن الكريم أنها منزلة وليس كل إنسان يقوى عليها، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] ، صبر على أذية الخصم، ولجأ إلى الله سبحان وتعالى لكي يعينه على الإحسان إليه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . وكما جاء في الحديث: (تهادوا تحابوا) ، لو كان لك خصم ألد، وجئت في مناسبة وقدمت إليه هدية بسيطة جداً، تجدها تسقط ثلاثين في المائة أو أربعين في المائة مما في قلبه من شحناء عليك، وعندها يذهب وحر الصدر. ثم جاء إلى القسم الثاني: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تصانع الجن، ولا تنفع معه المصانعة؛ لأنك كلما صانعته كلما استضعفك، إذاً: لا ينفع معه إلا السلاح، ولا تنفع معه مصانعة، إنما تلجأ من شره ومن كيده إلى الله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى حالاً، وهنا الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى هي اللجوء إليه بأن يحميه ويقيه ويدفع عنه ويرعاه مما استعاذ به منه، ونجد الأمور الأربعة كلها خفية وغيبية لا يقوى كل من على وجه الأرض أن يحفظ الإنسان أو يعيذه منها، ولا يقوى على ذلك إلا الله. إذاً: فاستعذ بالله، وبدأ أولاً بعذاب جهنم، وفي بعض الروايات: (من عذاب النار) ، وتقدمت الإشارة إلى أن لفظ جهنم مشتق من التجهم، وهو عبوسة الوجه وهي كذلك، ومن يقي الإنسان من عذاب النار إلا الله سبحانه وتعالى.

من عجائب عذاب القبر

من عجائب عذاب القبر أمر البرزخ أمر غيب، ولا يعلم أحد حقيقة أمر البرزخ إلا الله، ولم نقف على شيء من أخباره إلا ما جاءنا عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أمر غيب، ولا أحد يعلم الغيب {إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن:27] ، فقد يطلع الله بعض رسله على بعض الغيب، فما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أحوال القبر وأحوال البرزخ فعلى العين والرأس، وقد أخبرنا بما يسعه العقل حينما وقف على أهل قليب في بدر، فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقال عمر: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟! -بعد ثلاثة أيام تخاطبهم- قال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون) .

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [12]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [12] شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم المصلي الصلاة بدعاء مهم فيه الاستعاذة من أربعة أشياء من الغيبيات، ولا يقدر دفعها عن الإنسان إلا الله عز وجل، ويشرع بعده أن يسأل العبد ربه من خيري الدنيا والآخرة، ولا يشترط في ذلك التقيد بالألفاظ الواردة.

عذاب القبر حق

عذاب القبر حق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: من الغرائب ما يذكره بعض المتوسعين في السيرة في غزوة بدر: أن ابن عمر كان مر ببدر بعد الوقعة، فرأى رجلاً يخرج من الحفرة ويقول: يا عبد الله! وخلفه رجل يضربه بسوط ويجره بسلسلة، ويقول: يا عبد الله! لا تسقه إنه كافر، فيقول ابن عمر: فوالله لا أدري أعرفني أني عبد الله بن عمر أو ناداني بنداء العرب، يا عبد الله! وكل الناس عبيد الله، فذكر ابن عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنت رأيته؟ قال: نعم، أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: ذلك أبو جهل يعذب بذلك إلى يوم القيامة) ، وأخبار القبر من أراد أن يتوسع فيها فليراجع فيها كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الروح لـ ابن القيم، وأحوال أهل القبور فيها أشياء مسطرة كثيرة جداً، منها ما صح سنداً، وما ضعف فيه السند، أشياء فوق العقل، وليس لنا إلا أن نسلم لكل ما صح سنده، وقد جاءت النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم في أن القبر أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة، وإما -عياذاً بالله- حفرة من حفر النار، وفي الحديث: (إذا وضع المؤمن، جاءه الملكان وسألاه -في باب طويل جداً- فإن كان مؤمناً وأجاب، فتحت له فتحة من النار، ويقال: ذاك مقعدك لو لم تكن آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) ، وإن كان العكس بالعكس. وما أنكر عذاب القبر إلا بعض من يُلغي الغيبيات غير معقولة المعنى، وهذا خطأ، وبعضهم ينسب ذلك إلى عموم المعتزلة، وبعضهم يقول: إنه رأي للبعض منهم وليس للجميع، ومما يوردون من الشبه: كيف يكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار والقبور متقاربة متلاصقة؟ وفي بعض الروايات: (يمد له مد البصر) ، كيف يمد مد البصر والمقبرة مائة متر في مائة متر؟ واحد فقط لو مد له مد البصر أخذ المقبرة كلها، ثم أين يذهب البقية؟ ولكن ما دام الأمر غيباً والله لا نستطيع أن نقول: كيف يمد؟ ويستحي الإنسان الآن أن يقول هذا، نحن في الوقت الحاضر ربما نجلس أمام الشاشة، ونجد منظر بواخر في المحيطات، وطائرات تطير، وغواصات في باطن الماء، ونجد ونجد والشاشة كلها أربعة وعشرون بوصة، فهل نقول: كيف جاءت هذه؟ لا والله ما نقول، وهذا تقريب للواقع، وقد توجد شاشة ثانية بجوارها فيها خلاف ذلك، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا كله، ولكن نقول: يجب على المسلم إذا سمع خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعاً وطاعة، كيف نؤمن بالجنة والنار؟ {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، الروم تساءلوا: إذا كان عرضها السماء والأرض فأين تكون النار؟ فجاءهم الجواب. إذاً: كل ما كان غيباً لا يمكن للعقل أن يدركه؛ لأنه إذا أدركه لم يعد غيباً، وكل المغيبات فوق قانون التصور العقلي، وهنا فرق بين المسلم وغير المسلم، فالمسلم بإيمانه ويقينه وتصديقه بالوحي عن الله يقول: سمعاً وطاعة، وكما نقل عن كعب الأحبار عندما سأله عمر: ما هذا العلم الذي تعرفون به محمداً أكثر من أبنائكم؟ كما قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ، قال: والله! إن لمعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بولدي، قال: كيف ذلك؟ قال: لأن نعت محمد وتعريفه جاء بالوحي، والوحي صادق، أما ولدي فإن النسوة يُحدثن -انظر إلى أي مدى- فيخطئن، وأنا لا أحرس امرأتي وآخذها معي، فهي تغيب عني ولا أدري ما يكون، ولكن الوحي لا يعتريه شك، فأنا أعرف بمحمد لصفاته عندنا بالوحي، وأشد اطمئناناً إليه من اطمئنان نسبة ولدي إليّ. إذاً: نحن نستيعذ بالله من عذاب القبر، وأشرنا لما قاله والدنا الشيخ الأمين: إن العلماء يقولون: عذاب القبر ثابت بنص القرآن، كما جاء في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46] ، وهذا العرض غدواً وعشياً قبل أن تقوم الساعة، ولا يكون ذلك في الحياة وهم أحياء، إذاً: لم يبق إلا فترة البرزخ، ونسأل الله جميعاً أن يعيذنا من جهنم ومن عذاب القبر، ونسأل الله السلامة والعافية، والعالم مهما اجتمع وأوتي من قوة وإمكانيات ومستحدثات لا يمكن أن يدفعوا عذاب القبر عن صاحب القبر وأرادوا مرة أن يقفوا على سؤال منكر ونكير، وفي بعض البلاد لا يوضع لحد ولا قبر إنما توجد غرف يضعون فيها الموتى، وهذا موجود في البقيع في حالة -عافانا الله وإياكم- الطوارئ، عندما يحدث موت بالجملة، ولا يستطيع الناس أن يحفروا حالاً لكل شخص قبراً، فيجعلون مكاناً واسعاً ويرصون فيه الموتى، وكل مقبرة كبيرة فيها شيء للطوارئ من هذا، فبعض البلدان يجعلون هذا للأسر، وقد تكون هناك بعض البلاد فيها تكليف، المهم جاءوا بجهاز تسجيل ووضعوه في تلك الغرفة وسحبوا السماعة إلى الخارج، وجلسوا ينتظرون ما يسمع بعدما دفنوا ميتهم، والمسجل يسجل، لكن لا يوجد أي شيء، إلى أن مضت أربعة وعشرون ساعة، ورجعوا فوجدوا المسجل على ما هو عليه، والشريط انتهى ولم يلتقط أي شيء. إذاً: شيء فوق تصور العقل، والميت يسمع ويعقل، والأحاديث في سؤال القبر شبه المتواترة، ومن ينفي عذاب القبر يلزمه أن ينفي عذاب جهنم؛ لأن الحديث جاء بالاستعاذة منهما معاً، فإذا كان يؤمن بعذاب النار، ويستعيذ بالله من عذاب جهنم؛ فما الذي يجعله يمتنع من أن يثبت عذاب القبر، ويستعيذ بالله من عذاب القبر؟ إن أثبت هذا فليثبت هذا معه، وإن نفى هذا يلزمه أن ينفي الثاني معه، ولا أحد ينفيهما حتى أهل الكتاب.

الاستعاذة من فتنة المحيا والممات

الاستعاذة من فتنة المحيا والممات قال: (ومن فتنة المحيا والممات) . هناك عذاب وهو شيء واقع، وهنا فتنة، ويقول علماء اللغة: أصل الفتنة: إدخال الذهب في النار لتخليصه من الشوائب العالقة به؛ لأن الذهب لا تحرقه النار، وإنما تحرق ما علق به؛ ولهذا حينما يريدون معرفة عيار الذهب في المصاغ يأخذون جزءاً من المصاغ وليكن سنتي من مائة سنتي من الجراب، ويدخل هذا الجزء إلى نار حرارتها فوق المائتين لكي تذيب كل المعادن الموجودة مع الذهب، وقد يكون معه نحاس أو قصدير أو النحاس الأحمر وأشياء كثيرة، فتذوب ويبقى الذهب خالصاً بعد إدخاله في تلك الدرجة العالية من الحرارة؛ فيعيدون وزنه بعد ذلك. وبقدر ما نقص بعد الوزن الأول وقبل الإحراق فيقولون: عيار كذا، فتكون السبيكة أو الجرم الذي أخذ منه العينة فيها من المعدن غير الذهب بقدر ما أحرقته النار وبقي الصافي، وعلى هذا قالوا: استعملت الفتنة ونقلت من الاسم المادي؛ على قواعد فقه اللغة، فأصل المادة اللغوية توضع للمحسوس أولاً، ثم تنتقل من المحسوس إلى المعقول المقارب لها، كما قالوا في الصلاة والصيام والزكاة: كل هذه وضعت للأمر اللغوي أولاً. فالصلاة مأخوذة من الصلوين، أو من المصلي وهو الفرس الثاني، الأول مجلي والثاني مصلي؛ لأن عنقه عند صلوي الفرس، وهما مؤخر الفرس، وصلو الإنسان عند حقوه؛ لأنه يثني ظهره إلى حقوه في الركوع، ثم جاء أصلها الدعاء ونقلت إلى الصلاة. وكذا الأُذن، أصل مادة الأذان والآذن والمأذون والإذن راجع إلى حاسة الأذن؛ لأن الخبر يلقى فيها، إلى غير ذلك من علم أصل الاشتقاق، فهنا الفتنة الأصل فيها لأمر محسوس وهو إحراق الذهب لمعرفة خالصه من شائبه، ثم انتقلت بعموم الاختبار، وأصبحت الفتنة الامتحان والاختبار، ولذا جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] ، قيل: أحرقوهم؛ لأن أصل الفتنة الإحراق بالنار، وقيل: فتنوهم عن دينهم بهذا التعذيب، والعامل المشترك بين معاني الفتنة: الشدة والعجز عن التحمل.

حقيقة فتنة الدنيا

حقيقة فتنة الدنيا يستعيذ الإنسان بالله من فتنة الدنيا، وهل في فتنة الدنيا إحراق أو شدة؟ قالوا: لا، لكن بجامع الشدة في التحمل، والفتنة في الدنيا، انتقل استعمالها مرة ثالثة فيما يختبر به الإنسان ويُمتحن من التكاليف أو مما يعرض له من ظروف الحياة من شدة ورخاء، قد يفتن بالمال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ، وقد يفتن بالغنى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وبعض العلماء يقول: الصبر على العافية أشق على النفس من الصبر على المرض والضعف؛ لأن المريض خامد ليس عنده شيء، لكن المتعافي يتحرك بالقوة وقد يعتدي بأدنى مناسبة، وهكذا زيادة المال تُطغي. يقول ابن دقيق العيد: كل ما يرد على الإنسان من خير أو شر لامتحانه، وهنا يأتي مبحث بعض المربين: أيهما أفضل: الغني الشاكر الذي يصبر على النعمة التي افتتن بها لكنه يحفظها ويشكر الله عليها فلم يفتن أو الفقير الصابر الذي اختبر وامتحن بقلة المال فصبر؟ يُرجح الغني الشاكر؛ لأن الغني الشاكر شكره لغناه يجعله يعدي تلك النعمة إلى الآخرين، ويحسن إليهم بصدقة وبفعل الخير، لكن الفقير الصابر هو صابر، والناس ما نالهم من صبره شيء، وكما قالوا: الخير المتعدي أولى من الخير اللازم على صاحبه، وعلى هذا قالوا: فتنة المحيا كل ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيراً امتحن فيه، هل يؤدي شكر النعمة؟ وإن كان شراً؛ هل يصبر عليه؟ كما جاء في حديث عيادة المريض: (انظروا ماذا يقول لعواده؟ هل يشتكيني عليهم: أمرضني وأسقمني وسوى وسوى معي؟ أم يحمد الله على ما أعطاه، فإذا سمعوا منه أنه يشتكي الله عليه قال: دعوه مع الذي اشتكى لهم، وإذا سمعوا منه أنه يحمد الله على ما أصابه، وأنه رضي بقضاء الله وقدره فيقول: أمهلوه) فالله قد يحب أنين العبد الصالح في ابتلائه فيتركه على حاله ليصعد هذا الأنين الصادر من القلب إلى الله وحده. يهمنا هنا أن فتنة المحيا تشمل كل شيء، وكما قدمنا في المال والولد: أنه قد يكون فتنة ولا يدري الإنسان ما هو الخير.

فتنة الممات وما تطلق عليه

فتنة الممات وما تطلق عليه فتنة الممات تحتمل أمرين: إما فتنة ما يقع فيه الإنسان عند آخر حياته، وبما يُختم له به، ونسبت إلى الممات؛ لأنها قريبة في مماته، وما قارب الشيء أعطي حكمه، وفي الحديث: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ؛ ولذا قالوا: الافتتان هنا عند آخر حياته، هل يكون آخر كلامه لا إله إلا الله؛ أم أنه يعجز عنها وينصرف ويشغل بأمور أخرى؟ فبعضهم يقول: وفتنة الممات تحتمل أن تكون عند لحظة النزع والاحتضار فهناك يفتن، وقد يأتيه الشيطان ويسول له أشياء كثيرة، وإما الفتنة بعد الموت فهي السؤال في القبر، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فأجلساه) ، وجاء أن الملكين يسألانه: عن ربه ودينه ونبيه؛ فإذا كان مؤمناً صالحاً وفق للجواب، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (حضر جنازة وبعد أن انتهوا من دفنها قال: سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحضر دفن الجنازة بعد أن يفرغوا من دفنه وتسوية التراب عليه أن يسألوا الله له الثبات في الجواب عن السؤال. عمرو بن العاص أوصى عند موته فقال: (إذا أنتم دفنتموني، فأقيموا عند قبري بقدر ما تنحر الجزور، -يعني: تذبح وتسلخ وتقسم- فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين) . إذاً: عند السؤال الله أعلم بمن كان مخلصاً في دينه، صادقاً في إيمانه، فيلهمه الله الجواب الصحيح، ومن كان منافقاً -عياذاً بالله- أو كان أو كان، قال: هاه هاه لا أدري، هاه هاه سمعت الناس يقولون فقلت، وهنا الفتنة حقاً. ويقول بعض العلماء: هل هذا السؤال وتلك الفتنة عامة في جميع البشر من آدم إلى الآن وفي جميع الأمم؟ قالوا: لا، هذا خاص بهذه الأمة فقط، وما كان أحد من الأمم يسأل عن هذه الأمور في قبره، ولماذا امتحنت هذه الأمة مع أنها خير الأمم؟ ولماذا فتنت في قبرها؟ قالوا: لأن الأمم السابقة كانت إما أن تستجيب لنبيها فتسلم، وإما أن تعاند فيعاجلها العذاب، وكم من أمة جاءها العذاب واستأصلها لأنهم كذّبوا، أما هذه الأمة فقد رفع الله عنها العذاب إلى يوم القيامة، فهم يمضون في طريقهم الصادق على صدقه، والكاذب على كذبه، والمنافق على نفاقه، ومن هنا تأتي الفتنة والسؤال والفرز الأول في القبر، نسأل الله السلامة والعافية. في القبر من يمكن أن يساعد الإنسان هناك؟ لا أحد، وكما قيل: ثلاثة تصحب الميت، اثنان يرجعان، ويبقى واحد، ماله وأهله وعمله، ماله يذهب في فخر الناس ومجاملاتهم، وأهله يحزنون عليه، وعمله هو الذي يصحبه ويلازمه في قبره، فلا يملك أحد له شيء إلا الله. كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأربع في كل صلاة، وعلمنا ذلك؛ لئلا تغيب عن البال، دائماً وأبداً إذا استعذنا بالله من عذاب النار تجنبنا موجبه، إذا سألنا الله الاستعاذة من عذاب القبر أيضاً تجنب سببه، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤكد على بعض أسباب عذاب القبر، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) ؛ يعني: ليس بكبير لأنه يستطيع أن يتحرز منه، (بلى إنه كبير) ؛ لأن عليه تتوقف صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، (وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة بين الناس) ، ليس بكبير، يستطيع أن يمسك لسانه ويكفه عن الغيبة، ولكنه كبير؛ لأن الغيبة تفسد ما بين كل اثنين أو جماعة أو الجميع، والحديث هنا صحيح الإسناد، وهناك زيادة فيها مباحث (فأخذ جريدة فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، ويأتي بحث العلماء: هل لنا أن نفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم، الكثير يقولون: نعم، والبعض يقول: لا، لأننا لم نطلع كما اطلع صلى الله عليه وسلم على أهل القبر، ولا ندري أنه يعذب أو ينعم، لذا لا نضع احتياطاً، قالوا: وهل وضعنا نحن بأيدينا كوضع رسول الله؟ قالوا: لا، والمسألة تدور بين جواز فعل مثل ذلك عند القبور ومنعه، والذي عليه الاتفاق: أن ندعو له، وعند الدفن نسأل الله له التثبيت، وهذا ما يتعلق بفتنة الممات على إحدى المعنيين: إما أن يكون عند احتضاره مخافة سوء الخاتمة -عياذاً بالله- وإما ما يتعلق بسؤال القبر وهو فتنة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.

الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال

الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال قال: (ومن فتنة المسيح الدجال) . مسيح على وزن: فعيل، من المسح، ويقول بعض العلماء: لقد جمعت له وجه في الاشتقاق ولم نقف على ذلك، ولكن كلمة المسيح من حيث اللغة يقول بعضهم: المسِّيح بتشديد السين تكون للدجال، والمسيح بدون أي وصف آخر هو عيسى بن مريم عليه السلام، قال الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} [المائدة:75] وكيف نسبة الاسمين لهذين مع بعد ما بينهما؟ قالوا: المسيح تطلق بالتخفيف على الجانبين، ولكن إذا أُريد به عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام جاءت مجردة وإذا أُريد الدجال لابد من القيد، كقولنا: جاء بأن المسيح الدجال يفعل كذا، فقالوا: سبب التسمية من أصل مادة المسح. أما الدجال: فلأنه يمسح الأرض كلها، ويأتي على جميع أماكن الأرض، ويطوف الكرة الأرضية ما عدا مكة والمدينة فلا يدخلهما، وقد جاء في رواية الموطأ في حق المدينة أن بها ملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون؛ فالله سبحانه وتعالى حفظ المدينة من أن يدخلها الدجال، ولكن فتنته تصلها، بمعنى يأتي فينزل بملتقى الأسيال وراء بئر رومة -كما جاء في نص الحديث- فينصب خيامه ويدق طبوله، ويخرج له من المدينة كل منافق يخرجون إليه والمدينة معصومة منه وهي حرام عليه، وكذلك مكة المكرمة. إذاً: سمي المسيح لأنه يطوف في العالم بالمساحة السطحية ويجوبها كلها ما عدا الحرمين الشريفين. أما عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقالوا: مسيح بمعنى فعيل، ومسيح بمعنى فاعل، فقالوا: بمعنى فعيل ممسوح؛ لأنه نزل ممسوحاً، وما معنى ممسوح؟ قالوا: لأن النصارى من مبادئهم: أنهم يمسحون الطفل بما يسمى المعمدانية، فعيسى نزل ممسوحاً من عند ربه ولا يحتاج إلى مسحهم، وقيل: مسحه وعمده زكريا، وقيل: مسيح بمعنى فاعل أي: ماسح؛ لأنه كان يمسح المعتل فيبرأ. واللفظ هنا جاء مقيداً بالدجال، واللفظ يطلق فيشمل عيسى عليه السلام ويشمل الدجال، ولكن إذا أريد بالاستعمال المسيح الدجال لابد أن يأتي بهذا القيد.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال شدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من فتنة المسيح الدجال وقال: (إن ظهر فيكم وأنا بينكم فأنا حجيجه، وإن يظهر وأنا لست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه) وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤها كل مؤمن) ، وبأي لغة أو بأي حروف أو بأي مداد تكتب؟ الغ العقل هنا، وصدق الخبر، فسوف تراها في جبينه، وكيف كتبت وكيف رضي بذلك؟ هذا رغماً عنه. إذاً: فتنته بينها صلى الله عليه وسلم، وقضية تميم الداري مشهورة، حينما نزل بالسفينة وانكسرت بهم وجاء إلى جزيرة ورأى ورأى إلى آخره، وكتب الحديث والفتن والملاحم مليئة بأخباره، وفتنته: أن يأتي والناس في محل وشدة فيقول: يا سماء! أمطري فتمطر، يا أرض! أنبتي فتنبت، يا زرع! استوي فيستوي اطحنوا كلوا، في موقف واحد: تمطر السماء وتنبت الأرض ويطحنون ويأكلون، ويقول: أنا إلاهكم، أنا ربكم ها قد فعلت، أما المؤمن فيقول: لا، إنك كافر، قد أخبرنا بذلك رسول الله، وأما الكافر فلا يدري، ويقول: نعم، إنك كذلك؛ لأنك فعلت وفعلت، ثم يأتي بمسلم ويشقه نصفين بالسيف، ويمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم، فيقوم ملتحم الشقين إنساناً سوياً، ويقول: أنا ربكم أُحيي وأميت، فالكافر يفتن به -عياذاً بالله- والمؤمن يقول: لا، قد أخبرنا بذلك رسول الله ولا يفتن به، ولأن المسألة تتعلق بلقمة العيش وبالحياة والموت كانت الفتنة به خطيرة، وتخشى على كثير من الناس، ومن هنا من يستطيع أن يدفع تلك الفتنة؟ إنه الله، فكانت الاستعاذة من المسيح الدجال بالله سبحانه وتعالى؛ لأنها فوق مستوى العقل، وفوق قدرة البشر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا جميعاً من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن كل فتنة تقع بالناس، والله تعالى أعلم. قال رحمه الله: [وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] . تقدمت فائدة هذه الزيادة، وبأن موضع الاستعاذة يكون بعد الفراغ من التشهد الأخير، وقبل سؤال الله ما أعجبه. ومن الناحية الفقهية: يرى بعض العلماء كالظاهرية: بأن الاستعاذة من هذه الأربع واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ فليقل أو فليستعذ) ، وهذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب، ولكن الجمهور على أنها ليست على الوجوب، ولكنها للتعليم والإرشاد؛ فهي للندب، وأعتقد أن العاقل لا ينبغي له أن يتركها إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إليها، وبيّن لنا صلى الله عليه وسلم أنسب وقت لها، وهو: إذا فرغ من التشهد؛ فكيف يتركها الإنسان؟ وهل أمن على نفسه؟ لا والله، إذاً: لا ينبغي له أن يتركها.

شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا.

شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، متفق عليه] . كأنه يقول: كل ما أعلمه لا يساوي ما يعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائص الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع رسول الله، فقد كانوا يتلقون الأمر عنه مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ويقول العلماء: الإنسان مهما كانت منزلته، ومهما بلغ فضله؛ فليس في غنى عن التعليم، فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله تعالى عليه، وقد شهد له الله في كتابه، وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) ها هو في حاجة إلى من يعلمه، ولكن من؟ رسول الله؛ لأنه لا يوجد أحد أعلم منه إلا رسول الله، فأدرك الحاجة إلى التعليم، وأدرك أنه ليس هناك أحد يعلمه إلا رسول الله، فقال: (علمني كلمات أقولهن في الصلاة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه طلب وجيه. وكلمة: (به في صلاتي) تدل أن الدعاء في الصلاة عقب التشهد ليس مقيداً بالأربع، وليس مانعاً من غيرها، وكلمة في الصلاة مطلقة. (قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي) . هل حدد له موطناً في الصلاة؟ لم يحدد، يكون في سجوده، بعد الفراغ بعد التشهد، ضمن: (تخير من المسألة ما تشاء) ، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بعموم. أبو بكر الصديق ظلم نفسه، وعلي وحسين وعطية ومحمد وحسن عملوا ماذا؟ ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، من أحق وأولى بهذا الدعاء أبو بكر الصديق الذي قال الله فيه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] أو كل الحثالات الذين جاءوا من بعده؟ ولذا يقول العلماء: لا يسلم مخلوق مهما كان على وجه الأرض بعد الرسل من ظلم النفس، الرسول يقول له: (قل يا أبا بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي) ، وكيف يقع الظلم من الإنسان لنفسه؟ قالوا: أصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهنا العبد مكلف، ضع العبادة هذه هنا، ابتعد عن المعصية هذه هناك، فإذا لم يضع العبادة في موضعها فقد وضع الشيء في غير موضعه؛ وبذلك ظلم نفسه؛ لأنه قصر في حق نفسه، وإذا لم يتباعد عن المعصية ظلم نفسه؛ لأنه وضع نفسه في غير ما ينبغي أن يوضع فيه، ولهذا قالوا: ظلم النفس إما بتقصير فيما يجب أن يفعله، أو في اعتداء بفعل ما لا يجوز أن يفعله، فهذا ظلم نفسه بحرمانها من فعل ما أمر به، وهذا ظلم نفسه بفعل ما نهي عنه، فحملها ما لا تطيق، ولهذا يأتي إنسان ساعة الاحتضار وهو حزين أسف، لماذا؟ إن كان محسناً حزن على التقصير في الإحسان، وإن كان مسيئاً حزن على التفريط في الإساءة. ولكن الظلم يتفاوت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ؛ فأعلاه الشرك، وأدناه اللمم. (ظلماً كثيراً) ليس مرة أو مرتين، بل ظلم متوالي، قد يرى العبد الصالح التفريط في المندوبات، أو الإفراط في المباحات؛ ظلماً، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء لقضاء الحاجة وهو أمر جبلي، فيخرج فيقول: (غفرانك) ، وما موجب طلب المغفرة هنا؟ وما الذنب الذي يحتاج إلى مغفرة؟ قالوا: لامتناعه من ذكر الله أثناء وجوده في الخلاء، فكأنه يرى جزءاً من عمره خلا عن ذكر الله، فيطلب مغفرة من الله لذلك، سامحني في هذه اللحظة؛ لأنها كانت لحظ نفس، وبعضهم يقول: لأن ما يحصل للإنسان في ذاك المكان تتوقف عليه حياته، ولا يقوى على شكر نعمة الإخراج، كما لا يقوى على شكر نعمة الإدخال؛ لأنه لو حبس فيه مات، فكأنه يقول: هذه أيضاً نعمة أعجز عن شكرها فغفرانك، ولكن الأول أولى، والله تعالى أعلم. وفي بعض الروايات: (ظلمت نفسي ظلماً كبيراً) ، فنجد بعض العلماء يقول: نجمع بينهما: (ظلماً كثيراً كبيراً) ، والبعض يقول: تارة تقول: كبيراً، ولا تأتي بكثيراً، وتارة تقول: كثيراً، ولا تأتي بكبيراً؛ لأن الرسول لم ينطق بهما معاً في وقت واحد، وإنما جاء تعليمه مرة ظلماً كثيراً وحدها، أو جاء تعليمه ظلماً كبيراً وحدها، فأنت لا تجمعهما؛ لأنه لم يجمعهما، فتأتي بهذا تارة، وتأتي بذاك تارة أخرى، والله أعلم. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) ، أنا رجعت إليك؛ لأن ظلمي لنفسي هو بحق التشريع الذي أمرتني أو نهيتني، فالمرجع إليك أنت. (فاغفر لي مغفرة من عندك) . لا بعملي، ولا باجتهادي، ولا بعباداتي، سبحان الله! أبو بكر الذي يخرج من الدنيا بكاملها لله ولرسوله، ويأتي بكل ما يملك من ماله، يخرج به مهاجراً إلى الله ورسوله، يأخذ كل ما يملك في مكة -أربعمائة درهم- ولم يترك لعياله شيئاً، ثم يأتي إلى المدينة، وبعد أن يأتي ويجتمع عنده المال، ويحض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، يأتي بكل ماله فيقال له: (ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، هذا أبو بكر مع عمله هذا كله الشخصية الصادقة في الرسالة، وفي صحبته له في مكة، وعرضه على القبائل، وتهيئته للهجرة، وخروجه معه إلى الغار، ومجيئه إلى المدينة، ومؤازرته، وشراء أرض المسجد الذي بني فيه، ومرافقته في كل غزواته، ولم يتخلف عنه قط ولا في غزوة من غزواته، ومع هذا كله: (واغفر لي مغفرة من عندك) ثم هذا الذي قدمته ما هو؟ قال: لا، كله من عند الله، هدايته، وتوفيقه لصحبة رسول الله، وجوده بنفسه وبماله، كل ما فعله الأصل فيه أنه من الله. (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، قال عبد الرحمن بن عوف: (رأيت كأني مت، وكأن القيامة قامت، وقد جئت ونوقشت الحساب؛ حتى ظننت أني هالك، وما أنجاني إلا صحبتي لرسول الله) ، ابن عوف الذي يأتي يتصدق بالعير وبما تحمل في سبيل الله، ويأتيه التُجار لشرائها بربح عشرة في المائة، وهو يرفض ويقول: هناك من أعطاني ألف في المائة، قالوا: ليس هناك تاجر في المدينة حاضر يعطيك هذا، قال: الله أعطاني،،الحسنة بعشرة أمثالها، هي بما فيها في سبيل الله، ومع ذلك يقول: (نوقشت الحساب حتى ظننت أنني هالك، وما أنجاني الله إلا صحبتي لرسول الله) ، هذا فضل من الله. ولهذا لا ينبغي أبداً أن يرى الإنسان لعمله قدراً، ويعقد رجاءه وأمله وحسن ظنه بالله، ويذكرون عن شخص كان مسرفاً على نفسه، فحضرته الوفاة فبكى الحاضرون عنده، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: والله! نخشى عليك لأنك كنت وكنت، قال: أرأيتم لو عدت ورجعت إلى والدتي أكانت تحرقني بالنار، قالوا: لا والله، قال: الله أرحم بي من أمي، انظر الرجاء! والصديق بنفسه يقول: (والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة، والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) . إذاً: في هذه الكلمات التي علمه رسول الله إياها وهي تعليم لنا: بيان وتوجيه فيما ينبغي أن يعقد العبد مع الله من قوة الرجاء، ويجتهد بقدر ما استطاع لطلب المغفرة من الله. (وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه. انظروا الترتيب والمقابلة، (اغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، وهكذا في الدعاء: الإنسان يسأل الله من أسمائه الحسنى بما يتناسب مع حاجته؛ لأن الصديق طلب المغفرة والرحمة فقال: اغفر لي وارحمني إنك أنت غفور رحيم، ولم يقل: رزاق كريم، ولا قادر علي عظيم؛ لأن حاجته المغفرة، وكأن كل اسم من أسماء الله باب مفتوح للخير، فتطرق ذلك الباب بتلك الصفة وبهذا الاسم. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [13]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [13] الدعاء هو العبادة، والصلاة هي الدعاء؛ ولذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أدعية كثيرة في الصلاة، منها ما يكون في كل صلاة، ومنها ما يمكن التناوب في الإتيان به، وعلى كل مسلم الحرص على الإتيان بها؛ لأن الدعاء خير كله.

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من البخل.

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من البخل ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر) ، رواه البخاري.

تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن والبخل

تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن والبخل تقدم الكلام على طرفٍ من هاتين الخصلتين المقترنتين: البخل والجبن، وتبيّن لنا أن البخل من أشد الأدواء، ويذكر بعض الناس عوامل قد تطرأ على الإنسان تُبخله، إما كثرة عيال وإما قلة المال، ولكن الحد الوسط في هذا هو: ألا يمتنع عن حق شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوق الله فيما في يده من المال من زكاة أو مساعدة ضعفاء أو إحسان إلى الجار أو صلة ذي رحم؛ فلا يقال: إنه بخيل، ولكن إذا كان يمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شحاً بماله فهذا هو البخيل، كما أن الإسراف هو: أن يُبذر المال في غير وجهه، كأن ينفقه في أدوات لهو أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يعطيه السفهاء يبذرونه ويضيعونه، فهذا تبذير ولا يجوز. وكلا طرفي الأمور ذميم إفراط أو تفريط هذا مذموم، لكن توسط واعتدال هذه هي الفضيلة. أما الجبن: فيرى بعض الناس أنه لا يستطيع الجبان أن يتكلف الشجاعة، ولا أن يتدرب ويكتسبها، قد يستطيع البخيل أن يتخلص من بعض شدة الشح عليه ويبذل، ولكن الجبن غريزة ذاتية لا يستطيع أن ينفك عنها، ويذكرون عن حسان رضي الله تعالى عنه الجبن، وهو الذي يُظهر الشجاعة في أشعاره، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يتهدد قريشاً، وهو لا يستطيع أن يقتل إنساناً، ويذكرون في غزوة الخندق لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالصحابة إلى حفر الخندق، خافوا على النساء والأطفال من اليهود؛ لأنهم كانوا لا زالوا موجودين، وكان لـ حسان حصن منيع؛ فجمعوا النساء والأطفال في ذلك الحصن، ولفت نظر صفية رضي الله تعالى عنها أن رأت يهودياً يطوف بالحصن، فقالت لـ حسان: هذا يهودي يطوف بالحصن أخشى أن يطلع على ثُلمة فيؤذينا، انزل إليه فاقتله، فقال لها: ما أنا هناك يا ابنة عمي! وهي خافت على من عندها، فاحتزمت واعتجرت عمامة، وأخذت خشبة، ونزلت وترصدت به، فضربته على رأسه فقتلته، ثم قالت لـ حسان انزل وخذ سلبه، والله ما منعني أن آخذ سلبه إلا أنه رجل، قال: لا حاجة لي بسلَبه، فهذه حالة ما استطاع أن يتخلص منها. ويذكرون في بعض مواقف الشجعان أن الشخص يكون من أشجع خلق الله، لكن في البداية قد يكون من أجبن خلق الله، فإذا ما زج به إلى الخطر كان كالأسد الهصور، ويقولون: إن بعض الصحابة كان في بعض الغزوات، وحاصروا أهل تلك الجهة، فإذا بهذا الشخص يقول: لفوني في لفائف وألقوا بي إلى العدو، فلما لفوه في اللفائف، أحدث على نفسه من شدة الخوف، ولكن لما ألقوا به وراء السور قام وقاتل العدو حتى فتح الباب للمسلمين، فهذه مسائل هبة لا يستطيع إنسان أن يتحكم فيها، ولا ينبغي أن يُعاب على إنسان ابتلي بشيء غريزي لا يستطيع أن يتخلص منه. والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من هاتين الخصلتين مما يدلنا على أنها صفات مذمومة، ولكن يقول العلماء أو الأدباء -وهو عجيب-: البخل والجبن منقصة في الرجال ممدحة في النساء، ما كان نقصاً في الرجال يعابون به، فهو مدح في المرأة، كيف هذا؟ قالوا: المرأة البخيلة تحفظ مال زوجها في غيبته؛ لأنها تشح به، والمرأة الجبانة تخشى أن تخرج من بيتها فتبقى في بيتها، إذاً: الرجل البخيل مذموم، والمرأة البخيلة ممدوحة، وليس فقط بخيلة على عيالها أو زوجها، بل تكون بخيلة على الأجانب، وكذلك الرجل الجبان مذموم؛ لأنه يجب أن يكون شجاعاً ويقاتل ويحمي عرضه وماله ووطنه، إلى غير ذلك، والمرأة الجبانة هذه صفة مدح فيها؛ لأنها تخشى على نفسها أن تخرج ليلاً، أما في النهار فهي تحت أعين الناس، أما في الليل فالمرأة الجريئة تخرج ولا تدري ماذا يصادفها، إذاً: هما خصلتان مذمومتان في الرجال ممدوحتان في النساء.

الاستعاذة من أرذل العمر

الاستعاذة من أرذل العمر الخصلة الثالثة التي كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها، هي: أن يُرد إلى أرذل العمر، أي: يمضي به العمر، وامتداد العمر يرد الإنسان إلى أوله؛ لأن من وصل إلى أرذل العمر، يصبح قليل الإدراك، قليل القوى، ضعيفاً كالطفل سواء بسواء؛ فإذا وصل إلى ذاك الحد كان امتداد العمر به ومضيه به إلى الأمام كأنه في حلقة بدأ بالصفر وهو طفل لا يعي شيئاً، ومشى في الدائرة حتى جاء إلى القمة؛ فكان في قوته ومنعته وذكائه وفطنته بلغ جهده كاملاً، ثم بدأ ينحرف مع الدائرة حتى إذا وصلت به إلى نقطة البداية رد إلى ما كان عليه في ضعفه لا يفقه شيئاً، والشخص إذا كبر لا يحسن التصرف، وربما يبكيه الشيء القليل كالطفل، ولا يستطيع أن يُحكم أمره، ويكون في حاجة إلى قوامة عليه في أكله وشربه وما يحتاجه، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم أن يمتد به العمر إلى أن يواصل السير حتى يعود إلى ما كان عليه في بداية عمره، وهي حالات الطفولة، وإذا كان الأمر كذلك، فطول العمر مذموم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ، ما دام أنه في حسن العمل فالحمد لله، وإذا وصل إلى حد يسقط عنه القلم لا يُحسن أن يصلي ويعقل أو يصوم ولا يدرك أن يزكي؛ فحينئذ لا يوجد عمل، ويكون طول العمر حينئذ عبئاً عليه، ونسأل الله السلامة والعافية. والعمر رزق من عند الله، وليس لأحد فيه تصرف، ربما نسمع أن بعض الأشخاص تجاوز المائة، وهناك من عاش إلى مائة وخمسين إلى مائتين إلى ثلاثمائة سنة، ولا نبعد فنوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه فقط، وقبل هذا كم؟ لا نعلم، ويقولون: كلما طال الزمن كلما قصرت الآجال، فكانوا في السابق يعيشون المائة والمائتين والثلاث والأربع، والآن تقاصرت الأعمار، والله تعالى أعلم. يهمنا في هذا: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من تلك الحالة، إذاً: وأنت في شبابك أو شيخوختك وقواك يجب أن تعمل؛ لأنك لا تدري فربما يمتد بك العمر حتى لا تستطيع أن تعمل؛ ولهذا كانت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، والله تعالى أعلم.

الاستعاذة من فتنة الدنيا

الاستعاذة من فتنة الدنيا وقوله: (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) ، كان يستعيذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الدنيا، والفتنة الأصل فيها الوضع في النار، يقولون: فتنت الذهب، أي: أدخلته النار ليتميز الصافي والخالص مما علق فيه من معادن أخرى أو تراب أو غير ذلك، فالفتنة انتقل استعمالها إلى الشدة التي تظهر حقيقة الإنسان، وفتنة الدنيا يذكرون لها مجالات عديدة: إما في المال أو الأولاد أو التقاصر في العمل كل ما يمكن أن يشغل الإنسان عن واجبه فهو فتنة، فقد يكون الإنسان في مال، وولد، ومنصب، وعافية، وكل هذا امتحان وفتنة. هل يكون في تلك الحالات محافظاً على الواجب مؤدياً لحق الله؟ أو هل ما بيده يزيده شراً ويتعدى به حده فيطغيه؟ بعضهم بالعافية يطغى على الضعيف فيؤذيه، أو بالمال يطغى ويتطاول على الفقراء، وبالجاه يتطاول ويزدري الآخرين، وهكذا. وتقدم لنا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] ، أن هذا ابتلاء، وقد يكون الابتلاء أيضاً بالغنى، ليس بالنقص وإنما بالزيادة، والابتلاء بالزيادة أشده، سمعنا شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول فيه: علماؤنا يقولون: الفتنة بالغنى وبالصحة أشد ابتلاءً على الإنسان من الفتنة بالفقر والمرض لأن الفقير والمريض، لا يدري ما يفعل، لكن الفتنة بالصحة وبالمال شديدة، وذاك الذي يقول: إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة لم يقل: الهرم ولا الفقر، لا، إن الشباب والفراغ والجِدة بمعنى المال، شباب ومعه مال ومتفرغ، وليس معه شيء يضيع وقته فيه، ولا يصرف قوة شبابه فيه، معناها: أنه يعود على الناس بالبطش وبالإيذاء، والله سبحانه وتعالى بيّن {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] . إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة الدنيا سواء بعرض من أعراضها أو بأي حالة من حالاتها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم فتنة الدنيا.

الاستعاذة من عذاب القبر

الاستعاذة من عذاب القبر قوله: ( {وأعوذ بك من عذب القبر) . تقدم بيان الاستعاذة من عذاب القبر وفيه إثبات وجود عذاب القبر بالفعل، والنصوص قد تقدمت في هذا، ومنها الإشارة من كتاب الله، وتقدم هذا الأمر بما يغني عن إعادة الكلام فيه. ودائماً وأبداً يا إخوان! إذا وجدنا مقترنات متعددات مختلفة جاءت في حديث نبوي، ونعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم والحكم؛ فلو تأملنا في تلك المتعددات التي جاءت في نسق من حديث رسول الله نجد بينها ارتباطاً، وقد أشرنا إلى ما يقوله العلماء من الارتباط بين البخل والجبن؛ لأنهما مقترنان لا ينفكان؛ فكل بخيل جبان وكل جبان بخيل، بخلاف الشجاع والكريم، كل شجاع كريم، وكل كريم شجاع، ثم بعد ذلك أُرد إلى أرذل العمر؛ لأن الرد إلى أرذل العمر يجعل الإنسان في حالة لا يعي شيئاً مما حوله، وهو كالذي جمع البخل والجبن سواء، ثم يأتي بعد هذه الأشياء التعوذ من فتنة الدنيا سواء كانت في المال بالتبخيل أو بالتبذير والتعدي، أو كانت في الجبن من التقصير من الواجب أو التهور في التعدي على الآخرين، فجاء التعوذ من فتنة الدنيا ليعم كل ما تقدم، ثم جاء التعوذ من عذاب القبر لأنه النهاية، وهو البرزخ بعد الحياة.

شرح حديث: (كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا.

شرح حديث: (كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ... ) قال رحمه الله: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته: استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) ، رواه مسلم. ] . قوله: (استغفر) الهمزة والسين والتاء للطلب، مثل استنجد: طلب النجدة، واستعاذ: طلب العوذ واللواذ، واستغفر: طلب المغفرة. كنا في الصلاة في مناجاة مع الله: حمدنا وشكرنا وركعنا وسجدنا وقرأنا وسألنا كل ما يمكن من العبادات تكون في الصلاة، والاستغفار: طلب المغفرة، وطلب المغفرة إنما يكون من خطيئة أو ذنب، أين الخطيئة، وأين الذنب الذي حالاً نستغفر منه؟ يرى بعض العلماء بأن الاستغفار مباشرة عقب الصلاة تتمة لأمر الصلاة؛ لأن المطلوب في الصلاة أن العبد يكون في رحلة مناجاة مع الله، وقد جاء عن بعض السلف: أنه كان يغيب عن وعيه عما حوله إذا دخل في الصلاة، ويجمع كل إحساسه ومناجاته في صلاته، ويقولون عن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم: كان يصلي، وبعد ما انتهى من الصلاة نظر فإذا غبار في جانب من المسجد، قال: ما هذا الغبار؟ قالوا: ألم تعلم؟ قال: ما الذي حصل؟ قالوا: جدار المسجد سقط، يسقط جدار المسجد الذي هو فيه وهو لم يشعر، لماذا؟ كان في مجال آخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: تشغل الإنسان عن كل ما حوله، ويذكرون عن عروة بن الزبير -ولم أجدها في ترجمته- أنه لما سافر إلى معاوية بالشام أصيب بجرح، ودخلته الغرغرينة إلى أن جاءه الطبيب وقال: لابد من قطع القدم؛ لئلا يسري الداء إلى الجسم فيقتلك، وفي بعض الكتب أنه قال: ائتوا به لكي نبنجه قال: لماذا؟ قال: حتى تغيب عن وعيك فنقطع رجلك، فرفض، وقال للطبيب: اقض عملك، فقطعوا رجله دون أن يبنجوه، ولم يتأوه، ولا مرة، وبعضهم يقول: كان معه بعض أولاده، فقال لهم: تريدون قطعه؟ قالوا: نعم، قال: انتظروا حتى يدخل في صلاة، فإذا دخل في صلاة فشأنكم برجله فلن يشعر بكم، وفعلاً تركوه حتى كبر للصلاة وجاءوا بأدواتهم ونشروا ساقه، ولم يقل لهم شيء، حتى انتهى من الصلاة فإذا برجله بجواره، قال: ما هذا؟ قالوا: رجلك الذين نريد أن نقطعها، قال: متى؟ قالوا: وأنت في الصلاة، أعتقد أن مقاييسنا لا تحتمل هذا، وأي ميزان في العالم له طاقة خمسين كيلو لو وضعت عليه زيادة لابد أن يخسر ويفسد، فموازيننا العقلية لا تتحمل هذا، كيف نقيس بها ذلك؟ ولو وجدت شوكة أو إبرة وأنت في الصلاة لابد أن تشعر بها. إذاً: هذه أمور يمنحها الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده حتى يكونوا في حالات الله أعلم بها، وكما قال عمر بن عبد العزيز أو غيره: إذا أردت أن تدخل على ربك بغير استئذان وتخاطبه بلا ترجمان: فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وكبر للصلاة، الآن عندما دخلنا المسجد استأذنا من؟ لا أحد، فقط قلنا الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك) فكبرتَ وقرأتَ، وكل مسلم يتعين عليه أن يقرأ الفاتحة بالعربية، لكن غير العربي في الأدعية هل يتعين عليه أن يدعو باللغة العربية؟ إن لم يستطيع فبلغته، خاطب ربه بدون ترجمان، ويكون الصف فيه مئات الأشخاص يدعون بمئات اللغات، ولا يحتاج الإنسان مع الله إلى ترجمان؛ لأنه منه إلى ربه. فإذا كان الأمر كذلك، فيعلمنا صلى الله عليه وسلم: أنه يقع من الإنسان بعض التقصير في حق الصلاة سواء من كمال خشوعه وخضوعه فيها أو من سهو عن بعض سُننها أو شروطها أو لوازمها؛ فحينما يفرغ منها ويخشى أن يكون هناك تقصير ما الذي يجبر هذا التقصير؟ ليس شيئاً معيناً كسجود السهو، ولكن أشياء لا تدخل في الجبران التشريعي التكليفي، وإنما تدخل في الجبران الروحي المعنوي، فلكأن النبي صلى الله عليه وسلم بتشريعه للاستغفار عقب الصلاة إنما يرشد إلى أن ما كان من تقصير في الصلاة، تسريح في الذهن أو غير ذلك فإنما يجبره الاستغفار؛ فهو يستغفر الله عما كان منه من ذلك التقصير، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الخاشعين والمتواضعين لله يقول: (إني أدخل في الصلاة، وأريد أن أطيل، فأسمع بكاء الطفل، فأخفف شفقة أمه) ليس جدار يطيح ولا يدري عنه، لا، طفل يبكي عند أمه فيسمعه ويدرك بكاءه، فيخفف شفقة على الأم، وتلك أمور نادرة، ولكن التشريع هنا للاستشعار بأن الاستغفار عقب الصلاة هو جبران لما يكون من تقصير فيها، والله تعالى أعلم. ويقول بعض العلماء: لا يمكن لإنسان أن يصلي ركعتين دون أن يقع منه تقصير فيها ويذكرون مثالاً لذلك: أن شخصاً جاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وقال: أنا كان لي مال ودفنته ثم نسيت أين دفنته، ماذا أعمل؟ أبو حنيفة هل كان يعلم الغيب أو سينجم؟ لا، لكن بفقهه قال: إذا كان ثلث الليل الأخير؛ فقم وتوضأ وصل ركعتين، وأخلص فيها النية لله، ولا تحدثن نفسك ولا بشيء، ثم بعد ذلك تأتيني، وفي الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً، قال: ما بك؟ قال: وجدت المال، الحاضرون عجبوا من هذا، وقالوا: كيف وجده؟ كيف أرشدته إلى هذا؟ قال: إن الشيطان لن يدعه يمضي في صلاة من هذه النوعية، ويهون على الشيطان أن يعثر على المال بدلاً من أن يصحح ركعتين بهذه الصفة، فلما استمر في صلاته جاءه الشيطان، وقال: أنت دفنته في المحل الفلاني، ولما يتذكر موضع المال هل سيستمر في ذلك النوع من الصلاة؟ لا، فذهب ووجد المال. ويقولون: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (إني لأجهز الجيوش في الصلاة) ، يعني: أفكر فيها، وهو والله لا يلام؛ لأن عشرات الآلاف من المسلمين يخرجون من المدينة إلى أقطار الدنيا، كل يحمل روحه في كفة، والدين في كفة ابتغاء وجه الله، من يتحمل مسئولية هؤلاء؟ ووجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر كان يرفع كفيه إلى السماء ويناجي ربه ويناشده حتى يسقط الرداء عن كتفيه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض) ، فهل كان يبتهل لنفسه أو من أجل تلك العصابة؟ بل من أجل غيره، وبعض الناس كلموه، فقال: من منكم يصلى ركعتين لا يُحدث فيهما نفسه فله فرسي الفلاني، فقام شخص وأخذ يُجرب، فذهب ومن غد جاء وقال: يا أمير المؤمنين! أنا فعلت، قال له: كيف؟ قال: قمت وأنا خالص النية وليس على بالي شيء، ولكن قبل أن أسلم فكرت: عندما آخذ الفرس ماذا سأفعل به؟ أنا لست فارساً حتى أقاتل عليه، وليس عندي كلفة الفرس، وكلفة الفرس أكثر من كلفة الإنسان، قال له: هذا من التفكير في الصلاة. إذاً: حينما يدخل الإنسان الصلاة ويخرج منها يستشعر بأن هناك بعض النواقص، ويمكن أن يشهد لهذا المعنى الذي ذهب إليه العلماء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أول ما يُنظر في عمل العبد من الحقوق الدماء، ثم من العبادات الصلاة، فإذا كان هناك نقص على العبد في صلاته من غفوات وقعت منه، فيقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم، له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وعلى هذا المقياس يكون الاستغفار جبراً لما كان من نقص في صلاته، والله تعالى أعلم. (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) . هذا الذكر المبارك لعله يوحي به السلام في الصلاة، وأيضاً حينما فرغ من صلاته سيتجه إلى دنياه فيطلب السلامة، (أنت السلام، ومنك السلام) ، وأسألك السلامة في ديني ودنياي وكل أحوالي (تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ، يا ذا العظمة والكبرياء، فيه كل معاني العظمة لله سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين.

شرح حديث: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين؛ فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) . ] . تقدم هناك قراءة آية الكرسي ومعها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وهنا التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة؛ فلا مانع أن يكون كلا الأمرين بعد الصلاة، والأنسب أن يُقدم آية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لأنها نص من القرآن، وجاء في حقهما: (لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، وهنا كذلك: كان يتعوذ بأربع كلمات دبر كل صلاة) ، فسواء قدّم هذا أو أخر هذا، المهم أن يكون الجميع بعد الصلاة لا في حالة الصلاة ولا بعد الانصراف عن مكانه. هذا الذكر المبارك: (من قال دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ، وإذا وجدت متعددات في نسق واحد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن بينها مناسبة. (سبحان الله) ، ما معنى التسبيح؟ تقول كتب فقه اللغة: أصل المادة السين والباء والحاء، سَبَحَ، والألف والنون زائدتان كما هما في عثمان، وأصل مادة سَبَحَ إنما هي حركة الإنسان في الماء، وحركة الإنسان في الماء لأي شيء؟ إذا ألقينا بإنسان في نهر فلكي لا يغرق ماذا يفعل؟ يسبح، ولو لم يستطع فإنه يحاول السباحة، فقالوا: كذلك العبد حينما يقول: سبحان الله، كأنه يُسبح الله ويبعد عن ذاته سبحانه كل ما لا يليق بجلاله، أو هو يسبح في بحر المعرفة وتقديس المولى عن كل نقص؛ ليسلم من مهلكة الشرك والنقص في حق الله، وعلى كلا الأمرين؛ فإن سبحان الله، معناها: أُنزه الله وأُقدس الله من كل عيب أو نقص، فبقولك: سبحان لله نفيت عن ذات المولى سبحانه كل ما يمكن أن يكون فيه نقص لله، وبعد التنزيه تأتيه بالحمد والثناء، وهو المحمود لكمال ذاته لا لشيء يصدر منه لك أو لغيرك، ولذا يقولون: اللغة فيها الحمد والمدح والثناء، والكل ذكر للمحمود والممدوح والمثني عليه بالخير، ولكن الثناء إنما يكون لمن أصابك منه خير، والمدح يكون لإنسان نبغ وفاق وتفوق على أقرانه في مجاله، فتمتدح مخترعاً ولو كان غير مسلم؛ لأنه اخترع ما ينفع الإنسانية، وتمتدح طبيباً ماهراً أجرى عملية دقيقة خطيرة، وتمتدح مهندساً قدم شيئاً نادراً ممتازاً في مهنته، ولكن من أسدى إليك نعمة تثني عليه، وتشكره على ذلك، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فإذا طبيب عالجك تشكره على معالجته لك، أما طبيب حاذق فتمدحه وتثني عليه لحذقه ونجاحه في عمله، وأما الحمد فلا يكون مقابل نعمة أسداها إليك، ولا بسبب فعل نادر تفوق به على غيره، وإنما يكون لكمال ذات المحمود في ذاته، ولو لم يصلك منه شيء أو يصدر منه لغيره شيء، فهو في ذاته محمود، وهذا لا ولن يكون إلا لله؛ لأن ما عداه فهو ناقص، وما عداه يثنى عليه أو يمتدح لجزئية في حياته، وقد يكون فيه عيوب من جهات أخرى عديدة. إذاً: بالجمع بين (سبحان والحمد لله) جمعت أطراف التوحيد للمولى، وكما يقول الأصوليون: درء المفسدة مقدم، لذا بدأت بتنزيه الله عن كل نقص أو عيب، ثم جئت بالحمد والثناء عليه؛ فتكون جمعت للمولى سبحانه كل أنواع التوحيد من نفي ما لا يليق بجلاله، وإثبات جميع المحامد له، وبهذا تأتي بعد ذلك بـ: (الله أكبر) ، ومن اجتمعت له كل معاني التنزيه والمحامد فلا أكبر منه، فهو أكبر بالأمرين. فإذا جئت بهذه الأعداد المنصوص عليها -تسعة وتسعين- وهي وتر، وختمت المائة بالذكر الجامع: لا إله إلا الله- كنت ممن جمع التنزيه والتحميد والكبرياء والكمال لله وحده، وبهذا تكون ألممت بكل ما يتعلق بتوحيد المولى سبحانه وتعالى. وهنا نجد المحققين من العلماء يقولون: ائت بهذا العدد ثلاثاً وثلاثين، ولو جئت بأربعة وثلاثين من كل واحدة أو بخمسة وثلاثين قال لك: لا؛ لأن الدعاء توقيفي، والذكر المحسوب بالعدد توقيفي ولا يحق لك أن تزيد فيه، كما لا يحق لك أن تنقص منه، فقالوا: التركيب العددي في الذكر الوارد كالتركيب المادي في الدواء، الصيدلي يكتب له الطبيب: ركب الدواء من المواد الفلانية الثلاثة: من الأول عشرة جرام، ومن الثاني ثمانية، والثالث خمسين. لو زاد جراماً أو أنقص أفسد الدواء، وهكذا يقول لك الطبيب: ملعقة في الصباح، وملعقة في الظهر، وملعقة في المساء. لو أخذت ملعقة في الصبح وملعقة في المساء نقصت فعالية الدواء، ولو أخذت ملعقتين ملعقتين زاد الدواء على مفعولية الداء وقد يضرك، وعلى هذا يقول ابن دقيق العيد: هذا الذكر الوارد بالعدد المعين يجب أن تلتزم به ليؤدي النتيجة التي رتبها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غير هذا التركيب لك أن تقول: سبحان الله ألف مرة ألفين، لا أحد يمنعك تقول: الحمد لله، مائة ألف مرة، لا أحد يمنعك، الله أكبر، تقولها طول عمرك لا أحد يمنعك من ذلك كله، لكن لا تنتظر النتيجة التي رتبها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العدد المعين، إن كنت تريد النتيجة المرتبة على عدد معين فيجب أن تلتزم بهذا العدد، ولا تزيد فيه ولا تنقص منه، والله تعالى أعلم. (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) . تقدم نظير هذه الجملة. (غُفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) . النتيجة المترتبة على هذا الذكر ما هي؟ (غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) ، زبد البحر يعرفه الذين يعيشون على السواحل، حينما يضطرب الموج تجده يأتي مع اضطرابه إلى الساحل بزبد لا يعلم قدره إلا الله، فلو كانت ذنوب الإنسان كزبد البحر -وهي من الرغاوي التي تكون على وجه الماء من تفاعله- لغُفرت بهذا الذكر المركب بهذا العدد المعين، ونظير هذا الحديث: لما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات في الجنة، قال: وما ذاك؟ قال: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال عندنا) يعني تساوينا في العبادات البدنية، وهم زادوا عنا في العبادات المالية، قال: (ألا أدلكم على ما إن فعلتموه تزيدون عليهم، ولا يكن مثلكم إلا من صنع صنيعكم؟ قالوا: بلى، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فذهبوا حين قال لهم هذا، وهذه عملة جديدة، وسيحصلون منها على أجر كما يحصل الأغنياء على أجور من أموالهم، فأصبحوا يقولون مثلهم، يعني رجعنا وتساوينا ولا زالوا هم مفضلون ببقايا أموالهم. انظروا الحكمة النبوية اللطيفة هذه، كان ممكن يعطيهم ذكر طيب ولكن إلى متى، أليس كل ما يعطيهم سيصل إلى الآخرين ويقولونه، فحسمها، وقال: (ذلك فضل الله) ، كونه أعطاهم مالاً زائداً فهذا فضل منه، وكونه يعطيهم ثواباً على الذكر كما يعطيكم هذا فضل الله، وما دام أنه فضل الله فلا أحد له دخل: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) . ولكن هل يقصر الأمر على الفقراء لقلة مالهم؟ لا والله، إنهم ليحصلون على الأجر بنيتهم في رغبة الإنفاق، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وأعطاه علماً؛ فهو يعرف حق الله في المال، ويؤدي حق الله فيه فهو في أعلى عليين) أعطاه الله مالاً وعلماً، ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ فهو في أعلى عليين: (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً فقال: لو أن لي مالاً لفعلت فيه كما يفعل فلان، فهو معه سواء) معه في المرتبة بالنية، (ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً؛ فلا يعرف حق الله فيه؛ فهو في أسفل السافلين) لأنه ضيع حق الله في المال، ولم يتعلم حق الله، ولم يؤد حق الله، (ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فقال: لو كان بيدي مال لفعلت فيه كما يفعل فلان؛ فهو معه سواء) فالثاني أدرك الأول بالنية، والرابع أدرك الثالث بالنية، والحديث العام: (إنما الأعمال بالنيات) . إذاً: هؤلاء رغبوا في أن يكون لديهم المال وأن يتصدقوا كما يتصدق الآخرون، ولكن لم يعطهم الله؛ فهم على نياتهم يؤجرون بفضل الله. وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) . تكون التكبيرة أربع وثلاثين لتكمل المائة، أو أن يختم المائة بلا إله إلا الله، وهذه أولى؛ لأنها ذكر زائد، وهي تتناسب مع ما تقدم من التنزيه والتحميد والتكبير؛ فتكون لا إله إلا الله أجمل وأشمل، وزيادة في المعنى وأرجح في الرواية، والله تعالى أعلم. أيضاً يا إخوان: جاء أن هذا الذكر يقوله الإنسان مجموعاً أو مفرقاً، في بعض الروايات: (سبحان الله والحمد الله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين) ، يعني: يأتي بالألفاظ الثلاثة مجموعة في جملة، أو أن يأتي بكل لفظ على حدة ثلاثاً وثلاثين، والثاني: هي الرواية الراجحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [14]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [14] رغم أن الصلاة هي من أعظم الذكر إلا أنها أتبعت بأذكار أخرى عظيمة، منها: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وأعلى منه شأناً وجلالاً: آية الكرسي بما تحمله من صفات وأسماء لله جل وعلا، وكلها تشعر بعظمة وكبرياء المولى سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (اللهم أعني على ذكرك.

شرح حديث: (اللهم أعني على ذكرك ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (أوصيك -يا معاذ -: لا تدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي] . حديث معاذ رضي الله تعالى عنه من النصوص الواردة في الذكر بعد الصلوات الخمس.

ترجمة معاذ بن جبل

ترجمة معاذ بن جبل ومع أننا لم نتعرض لأحد من الرواة ولكن معاذاً له شأن خاص به، وفي مقدمة هذا السياق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك، وأريد أن أوصيك، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: وأنا والله أحبك -يا رسول الله- فأوصني) ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أحبك) ، تعطيه خصوصية، وقد أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كما أفرد غيره، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، ومعاذ كان يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كتب زيد من الشام إلى أمير المؤمنين عمر: إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام، فأرسل إليه معاذ بن جبل. وتجدون ذلك في الموطأ في باب المتحابين في الله، فيروي مالك عن شاب يقول: دخلت مسجد دمشق، فوجدت شاباً براق الثنايا يجتمع الناس عليه، ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل، فبكرت من الغد إلى المسجد فوجدته قد سبقني إليه وهو قائم يصلي، فجلست حتى صلى فسلمت عليه وقلت: إني أحبك في الله، فجذب بردائي وقال: اجلس، آلله ما أحببتني إلا في الله؟ -يعني: والله ما أحببتني إلا في الله- قلت: آلله أحببتك في الله، قال: أبشر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة للمتحابين في الله) . فـ معاذ رضي الله تعالى عنه أحبه رسول الله، ومع ذلك أدركته فاقة ولحقته ديون؛ فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يصيب من أجر العمالة ما يُسدد دينه. يهمنا في هذا الحديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي ذلك فضلاً لـ معاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة خيبر لما استعصى حصن مرحب، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقول عمر: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله! ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك الليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ويحبه الله ورسوله) ؛ لأن هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول له: (أريد أن أوصيك) ، فهو أعلن من جانبه أيضاً: (وأنا والله يا رسول الله أحبك) ، وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] ، ولا ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً أو مالاً؛ على محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار الإيمان.

طلب العون من الله للعبد في العبادة

طلب العون من الله للعبد في العبادة قال: (أوصني، قال: أوصيك إن استطعت -يعني بقدر ما تستطيع- ألا تدع -بمعنى: لا تترك- أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني) تطلب العون من الله على ماذا؟ (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . المتأمل في أكثر الأدعية والأذكار الواردة عقب الصلوات يجدها مرتبطة بجزئيات في صلاته، فالتسبيح والتحميد والتكبير، والاستعاذة من النار ومن عذاب القبر ومن فتنة ومن ومن، وكذلك افتتاحية صلاتك بالفاتحة، ففي سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، (أعني على) أعني: بمعنى الاستعانة، استعن بالله على ذكره، إياك نعبد، فهي جزء من الصلاة في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته فليست هناك فائدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة على طاعة إلا بالله سبحانه. (أعني على ذكرك) والصلاة من الذكر، أي: استعن بالله على الحفاظ على الصلاة، والصلاة عون هي بذاتها، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] . (وعلى شكرك) شكر النعم بحسبها: تكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، وكما يقال: شكر النعمة عامل دوامها وحفظها، وبشكرها تدوم.

الوسطية في العبادة

الوسطية في العبادة وقوله: (وحسن عبادتك) ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء السيل، وكما في الحديث: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع قيامهم، لم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، والمولى سبحانه يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز. كما في قصة النفر الثلاثة الذين تساءلوا فيما بينهم: نحن مقصرون، فلنذهب ونسأل أم المؤمنين عن عبادة رسول الله في بيته؟ فسألوها، فقالت: في الليل يقوم وينام، وفي النهار يصوم ويفطر، ويأتي زوجاته، قالوا: هذه حالة عادية، لا، إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخذوا يتفاوضون، فشخص منهم قال: أنا أتخصص في الصوم، وشخص قال: أقوم فلا أنام، وشخص قال: أنا أعتزل النساء، هذا وأم المؤمنين تسمع، ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بما وقع، فغضب وأسرع إلى المسجد يخطب: (ما بال أقوام يقولون ويقولون، أما والله! إني لأتقاكم لله، وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) لماذا؟ لأنه يعجز، وإذا عجز ترك الجميع، لا (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) . والرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ورد عليه السلام وسكت، وكأن الرجل وجد شيئاً ما كان متوقعه، قال: (ألم تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا، قال: لقد تغيرت عما رأيتك من قبل، قال: مذ فارقتك لم أفطر يوماً! قال: أجهدت نفسك، صم وأفطر) ، وقال لآخر: (صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر، قال: صم كذا، صم كذا، إلى أن جاء إلى صيام نبي الله داود) ، أخذه وبعد ذلك عندما كبر ثقل عليه، وقال: ليتني قبلت رخصة رسول الله من كل شهر ثلاثة أيام، إذاً: الكثرة غير مطلوبة، كما أن النقص غير مطلوب، والمطلوب الوسط: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) ؛ لأن القليل مع الدوام خير من الكثير مع الانقطاع؛ ولذا كان المدار في الأعمال على الإحسان، ولذا نجد الترتيب والتدرج في تعليم جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للدين (أخبرني -يا محمد- ما الإسلام؟ خمسة أركان: شهادة وصلاة وصيام وزكاة وحج، ثم سأله عن الإيمان؟ ستة، وكلها أمور غيبية واعتقادية، الإيمان بالله وباليوم الآخر والكتب والرسل والقدر إلى آخره، أخبرني عن الإحسان؟ ركن واحد: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لعدم إمكانيتك لذلك- فهو يراك) ، فكان الإحسان هو الخاتمة.

شروط صلاح العمل وإحسانه

شروط صلاح العمل وإحسانه وقوله في هذا الحديث: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، متى يكون العمل حسناً؟ هذا الذي ينبغي الحرص عليه، ويكون ذلك بثلاثة أمور: الشرط الأول: أن يكون مشروعاً مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله، فلا تأتي بعبادة لله من غير ما شرع الله، فيقول لك: أنا ما شرعت هذا، ولما تعبد الله بغير ما شرعه رسول الله يقول: أنا ما جئتك بهذا، إذاً: المبدأ الأول في صلاح العمل وإحسانه: أن يكون مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله؛ لأنها عبادة لله، فالله الذي تعبدنا هو الذي بيّن لنا كيف نعبده، وهل ندري ما يرضيه وما لا يرضيه؟ لا نعلم؛ فلما بيّن لنا وشرع لنا وأمرنا ووجهنا يجب أن نلزم ذلك، ومن هنا نعلم: أن كل من تعبد الله بغير ما شرع الله أو بغير ما سن رسول الله فهو خارج عن هذا الباب، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس من أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه. وإمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه يقول: (لن يصلح أمر آخر الأمة إلا ما أصلح أولها) ، فما كان عليه السلف الصالح من منهج في العبادة واقتصاد في العمل فهو المبدأ الأساسي. الشرط الثاني: أن الإنسان يأتي بهذا العمل خالصاً لوجه الله، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ؛ ولذا شرع أن يقول المصلي عقب الصلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) . الشرط الثالث: أن يكون العمل صادراً من مؤمن لا منافق أو كافر؛ لأن الكافر قد يطعم المسكين، ويكسو العريان، ويبني الطرق والمدارس والمستشفيات، ولكن هل يُعد له عملاً صالحاً كما يعد للمؤمن؟ لا، وهل يضيع عمله؟ لا، فالله سبحانه وتعالى حكيم عليم، عادل لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فإذا عمل الكافر عملاً قال له: لك عملك، ويعطيه ويعوضه في الدنيا بقدر ما أحسن فيها، أما في الآخرة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ؛ لأنه لم يكن على قاعدة، ولم يعمله إيماناً بالله، وإنما عمله مجاراة للناس أو لجلب مصالح، أو لأمر آخر؛ فيأخذ أجره عاجلاً. فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاث كان العمل صالحاً حسناً.

ملازمة العبد للذكر في كل حال

ملازمة العبد للذكر في كل حال قوله: (اللهم أعني على ذكرك) الذكر يكون باللسان وبالعمل، والذكر في العمل يفسره قوله سبحانه في سورة الجمعة: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ذكر الله النداء إلى الصلاة حي على الصلاة، وذكر الله الإمام الذي يصلي ويخطب، هذا كله ذكر الله، سعينا إليه، {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] . وقد أشرنا فيما مضى بأن أشمل وأعم العبادات في الكون هو الذكر؛ لأنه العبادة التي لم تقتصر لا على ملائكة السماء، ولا على مؤمني الإنس والجن، بل اشترك فيها الجماد والنبات والحيوان، كما جاء العموم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ؛ فهي تسبح بحمده سبحانه، وإذا جئنا إلى كل العبادات {أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، سواء كان لتذكري أو كان لتذكرني فيها، فكلها من أولها من النداء إليها إلى الافتتاحية: (الله أكبر) ، إلى قوله: (السلام عليكم) ذكر لله، والصائم طول وقته يكون ذاكراً لله، وإن كان أبكم أو أصم؛ لأنه إذا صام في شدة الحر، والماء البارد عنده، ويده تمتد في الماء يتبرد، ويشتهي قطرة واحدة؛ فما الذي يمنعه وليس عنده أحد، ما الذي يمنعه؟ لأنه يذكر قول الله: (يترك طعامه وشرابه من أجلي) ، كذلك في الزكاة: يخرج المال بدون عوض، لماذا؟ لأنه يذكر الله، وينتظر العوض بسبعمائة، ومضاعفة إلى ما يشاء الله سبحانه، الحج من أوله: (لبيك اللهم لبيك) ذكر لله إلى أن تنتهي من طواف الوداع وأنت في ذكر لله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] (أفضل ما قلته أنا والنبيون في يوم عرفة: لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، في السعي تذكر الله، في الطواف ذكر لله، حتى بعد رمي الجمرات: باسم الله، الله أكبر، إرضاءً للرحمن، وإرغاماً للشيطان، ليس هناك خطوة قدم واحدة في الحج إلا وفيها ذكر الله، إذاً: ذكر الله في جميع العبادات. ولهذا كانت وصية الرسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) لا تجعل اللسان يفتر عن ذكر الله، وهذا لا يمنعك لو كنت صانعاً أن يبقى لسانك في فمك يذكر الله، وإذا لم تستطع بلسانك فبقلبك وهو مراقبة الله: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الجمعة:10] ، إما باللسان: اجعل لسانك رطباً بذكر الله. وإما في العمل: أنت ذهبت تسعى في طلب الرزق، وعملك فلاح تحرث الأرض، تضع البذرة باسم الله، وتدفنها، وتنتظر إنباتها من أين؟ تقول: يا رب أنبتها، طلع النبات. يا رب تثمرها، طلعت الثمرة. يا رب تحفظها، جاءت الثمرة. يا رب تبارك فيها، فأنت دائماً على ذكر لله، وأشد الناس ذكراً لله الفلاح، ولو لم يكن متعلماً يضع الحبة ويرميها وهو لا يعرف على جنبها أو ظهرها أو بطنها، ثم تجد الحبة في بطن الأرض نبتت عودين عود إنبات وعود جذر، من الذي وجه الإنبات إلى سطح الأرض حتى يظهر، والجذر إلى بطن الأرض حتى يغوص فيها ويمتص لها الغذاء، كنت أنت تعدلها في الليل أو النهار؟ لا والله، فإذا أنبت النبات {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32] ، من الذي فعل هذا؟ فهو دائماً مع الله سبحانه وتعالى، إن كنت صانعاً كانت لك صناعة مضبوطة، إن ذكرت الله تركت الغش: (من غشنا ليس منا) ، وإن غفلت عن ذكر الله جعلت الحابل مع النابل، إن كنت تاجراً تبيع وتشتري فأمامك المكيال والميزان كل عمل للإنسان فيه طلب للرزق يذكر الله فيه، إما بلسانه، وإما بفعله يراقب الله فيما يعمل، وهكذا. (أعني على ذكرك) باللسان بالمراقبة، (وعلى شكرك) بالقول وبالفعل، وببذل النعمة وشكرها (وحسن عبادتك) وأحسن ما يكون من الإنسان في العبادة: أن يكون مطابقاً لما شرع الله، ولما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً لوجه الله سبحانه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة)

شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة) قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]] . هذا مما يدل على فضل هذه الآية الكريمة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أُبي بن كعب: (أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنهك العلم) ، وقالوا: آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفات المولى سبحانه وتعالى، فموضوعها ذات المولى عز وجل، كما أن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} موضوعها ذات الله سبحانه وتعالى، وهي تعدل ثلث القرآن تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، هذا أول التوحيد {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، أي: القائم على كل شيء، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، السِنة: النعاس، والنوم الاستغراق؛ فسبحانه لا ينام، وفي الأثر: أن نبي الله موسى قال: (يا رب! أنت لا تنام؟ قال: لا أنام يا موسى! ولا ينبغي لي أن أنام، أتريد أن تُدرك ذلك يا موسى؟ قال: نعم، قال: خذ قدحاً من الماء وأمسكه في يدك، فأخذ قدحاً من الماء وأمسكه بيده، فأرسل الله عليه النعاس فسقط القدح من يده ثم أيقظه، قال: يا موسى! أين القدح؟ قال: سقط عندما نمت؟ قال: وهكذا الكون) ، سبحان الله العظيم! عظمة المولى سبحانه في كل صفة وفي كل آية، وهذا كما يقال: تقريب للمعنى، فالكون بيده سبحانه {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] ، لم يقل: ملك، قال: ملكوت، يعني في الأمور الحسية والمعنوية، ولو نظرت لرأيت شيئاً فوق الإدراك، أنت بنفسك لو وكلت إلى ذاتك ما استطعت أن تعيش، كما يقولون: الإنسان فيه عدة عوالم. إذا جئت إلى حواسك: اليد تنام وتهمد، والعين تنام وتغمض، الأذن لا تنام؛ لأنها على استعداد لتلقي السمع في أي لحظة، ولكن هل الكبد ينام؟ لا ينام؛ لأنه يفرز دائماً ويغذي هذا الجسم النائم، هل الكلى تنام؟ لو نامت تعطل الجسم، فشل كلوي كما يقولون -نسأل الله السلامة- أو تليف كبدي؛ هل القلب ينام؟ من الذي يُنظم دقات قلب المرء في صدره؟ لو وكل إليك أنت لكي تراقب قلبك. شغلته وأنت صاحي، وبعد ذلك جاءك النوم، هل تقول له: نم حتى أصحو؟ إذا نام نمت النومة الأخيرة، إذاً: كل حيوان لا يستطيع أن يؤمن حياته لو وكلت إليه. هذا القلب الذي ينبض منذ مائة أو تسعين أو ثمانين سنة، وفي كل دقيقة ستين مرة في الوضع العادي، الله أكبر! وهو قلب واحد أو عالم واحد، البعوضة عندها قلب ينبض، حتى أصغر الحيوانات إلا الجراثيم، الله أعلم بتكوينها لا نعلم عنها، ولكن نجد العصفور الصغير ينبض قلبه في الدقيقة مائتي نبضة، الفيل ينبض قلبه في الدقيقة عشرين مرة، وكلما كبر الجسم وتضخم كلما قلّت الدقات؛ لأن القلب يصبح كبيراً، ومثال ذلك تجربة في يدك: انظر إلى الساعة، الساعة الصغيرة التي قطرها (1 سم) ، والساعة الكبيرة التي قطرها (50 سم) ، هل توجد واحدة تزيد في الأربعة والعشرين ساعة أو تنقص أم أن كلها سواء؟ كلها سواء، خذ واحدة صغيرة في يدك وأخرى كبيرة على الجدار، تجد الصغيرة سريعة الضربات، وأما الكبيرة على مهلها، لماذا؟ لأن الواحدة بالتأني تقطع مسافة مثل هذه. إذاً: الفيل له دقات، والعصفور الصغير له دقات، والحيتان كذلك في البحر، من الذي يُنظم كل هذا؟ المولى سبحانه فضلاً عن أمور أخرى. انظر إلى عالم النبات: طلعت الشجرة جاءت الزهرة، من أين جاءت الثمرة وتنوعت؟ بستان واحد وحوض واحد وجدول ماء واحد من بئر واحد أو من سماء واحدة، هذه تثمر أصفر، وهذه أحمر، وهذه أزهار خضراء وصفراء وحمراء. إذا جئت إلى الإناث في العالم: كيف تحمل الأنثى من كل نوع؟ الإنسان الحيوان الطيور الـ الـ إلى آخره، وكيف ينشأ ويتطور هذا الحمل الجنين في داخل ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات ثلاث، من الذي شق العينين والأنف والفم؟ سبحان الله، من الذي أنبت هذا كله في تلك الظلمة؟ أصله من تراب، ثم جاءت النطفة وصارت علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، والتخطيط هذا والتنظيم هذا، والشبه الذي يعطى كل فرد ولا يوجد له شبه يطابقه مائة في المائة في العالم، حتى التوأمين اللذين جاءا من بطن واحدة مختلفين، ولابد من الاختلاف، بصمات الأصابع مئات الملايين في العالم ليس هناك بصمة تعادل بصمة ثانية، من الذي غير في هذا؟ وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذا: إذا أردت أن تدرك عظمة الخالق سبحانه: قف عند جمرة العقبة وانظر إلى الوجوه أمامك؛ لن تجد وجهين متطابقين في الصورة قط، وهكذا العالم كله. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} ، هو في ذاته قيوم على العالمين، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، القيومة له سبحانه وحده {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [البقرة:255] ، وماذا الذي في السماوات؟ يعجز البشر كله أن يُدرك ما في السماء الأولى فقط، بل ما دونها من أبراج وأفلاك، والمجرة يقولون: فيها ملايين النجوم، والله لا نستطيع أن نقول: لا، لو قلنا: لا، يقولون: اذهبوا عدوا، ولكن يتفق الفريقان على كثرة النجوم فيها، وعلى أضوائها، وأنه يصل ضوء بعض النجوم في كذا سنة ضوئية، الإنسان فقط يترك التفكير في هذا، له ما في السماوات عوالم لا نعلمها ولا ندركها إلا ما جاءنا فيها الخبر، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بالكتاب وبالسنة، وذهب بنفسه ونظر وأتى وأخبرنا، فيخبرنا عن مشاهدته، السماء الدنيا، ويطرق الباب الثانية وو إلى آخره، إلى سدرة المنتهى. إذاً: له ما في السماوات من تكوين وأوامر. إلى آخره. {وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، وإن كنا قريبين منها، وهي أقرب لنا من السماء لكننا نعجز أن نُكيف ما في الأرض، فماذا في الأرض؟ عوالم الحيوانات والنباتات والجبال والطيور والزواحف وو إلى آخره، كل ذلك خاضع لسلطانه سبحانه، فإذا كان الأمر كذلك فـ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، الشفاعة هي: أن تتقدم وتطلب من المشفوع إليه مصلحة للمشفوع فيه، وهل أحد له سلطان أو له ملك أو أي شيء في السماوات أو في الأرض؟ لا شيء إلا بإذن الله سبحانه. {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي} انظر {مَنْ ذَا الَّذِي} لم يقل: من الذي، من الذي يرفع رأسه؟ من يقول: أنا؟ من يدعي شيئاً في هذا العالم؟ لا أحد، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} ، قد تشفع عند أخيك أو زميلك أو قريبك أو أميرك أو أو، لك حق في أن تشفع، وله حق في أن يقبل أو يرد، وقد يضطر إلى قبول شفاعتك اضطراراً؛ لأنه يخشى إن رد شفاعتك حجبت مصلحته أو دبّرت مكيدة له، ولكن المولى له ما في السماوات وما في الأرض، ولا يُقاس عليه، وإمعاناً بعد ذلك قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] . القدرة الإلهية للعلم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ؛ فهو يحيط بهم علماً وهم لا يحيطون، ولكن قد يدركون البعض، وفرق بين الإحاطة والإدراك، فمن الإحاطة الحائط المبني حول البستان، فإنه يشمله جميعاً، فالإحاطة بالشيء إدراكه كاملاً كإحاطة الجدار بالبستان، فالعالم لا يحيطون بشيء من علم الله، ولكن الله سبحانه يُحيط بعلمهم. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة:255] ، الكرسي جاءت فيه أخبار عديدة، منهم من يقول: الكرسي العلم، وهذا روي عن ابن عباس، ولكن الجمهور على ما في الحديث الصحيح: أن الكرسي بين يدي العرش، وجاء الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون في الكرسي إلا كدراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة) ؛ فالكرسي مخلوق مادي له سعته، ولو أن السماوات السبع والأرضون السبع وضعت في الكرسي ما كانت إلا كأن تأخذ حلقة وتلقي بها في الربع الخالي، ما تكون نسبة هذه في الربع الخالي؟ إذاً: لا يعلم قدره إلا الله، وما الكرسي هذا بهذه السعة في العرش إلا كدراهم (وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) . أقول يا إخوان: إن هذه النصوص بهذه المضاعفات لا ولن توجد قوة على وجه الأرض حسابية الآن تعطينا النتيجة ولا الجواب عن سعتها، ولا ينبغي للإنسان مهما أوتي من ذكاء حرص على العقيدة وسلامتها أن يخوض خوضاً بعيداً، ويكفي أن يسمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصور التصور الإجمالي، ويكف عما وراء ذلك. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وسعها على أي حجم وأي مقدار؟ جاء في الحديث بأن السماوات السبع سمكها مسيرة خمسمائة عام هي والأرض، سبحان الله! سبع سماوات، من الذي يتصور هذا الجرم؟! أما الأرض فهي مثل البيضة تحت القبة، فكم يكون مساحة هذا الكرسي؟ لا نستطيع أن نقول شيئاً، ولكن يكفينا النص القرآني الكريم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، وهناك ناحية بيانية لطيفة، لم يقل: (وسع الكرسي) ولكن جاء بالإضافة إلى الله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، مجرد نسبة وإضافة الكرسي إلى الله تُعطيه عظمة أكثر. {وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] ولا يثقله، ولا يشق عليه، {حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] (ما) ألف تثنية راجعة فيها لـ: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، ولا يثقله ولا يشغله حف

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [15]

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [15] هذا الدين يسر، وليس فيه طريق مسدود أبداً، ومن القواعد الفقهية أن المشقة تجلب التيسير، ومن فروع هذه القاعدة صلاة المريض وطهارته، والصلاة في أرض المعركة، وقد جاء بيان ذلك كله من طريق أهل العلم.

شرح حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)

شرح حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، وبعد: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، رواه البخاري] . كأن المؤلف رحمه الله اكتفى بما أورده من النصوص بما يتعلق بالأذكار عقب الصلاة، وهذا الباب باب واسع، والأولى لكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يعنى بهذا الباب، وهو الأذكار والأدعية؛ لأنها غذاء القلوب، وهي تكسي الروح برداء يستطيع به أن يكون دائماً على صلة مع المولى سبحانه وتعالى، وإذا تأمل الإنسان في الأدعية والأذكار يجدها تخاطب الأرواح دون الأشباح، ولهذا عني بعض العلماء بجمع ما يتعلق بالأذكار في مؤلفات أذكار اليوم والليلة، والصباح، والمساء، والأسفار، واللباس، والطعام، والنوم، والاستيقاظ، ولبس الثياب، وخلعها كل حركة تجد فيها دعاء أو ذكراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليكون الإنسان دائماً في كل شئونه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] ، كل حركة في حياته صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله، إن شربت الماء سميت الله، إن رفعت الكأس حمدت الله، إن اضطجعت في فراشك ذكرت الله، إن نهضت أثناء نومك بالليل ذكرت الله. وضعت قدمك في نعلك أو خلعتها لبست ثوباً جديداً حتى دخول الخلاء تستعذ بالله، وتكف عن ذكر الله في الخلاء؛ فكل حركة للإنسان في هذه الحياة يجد لها ذكراً وارداً، والأولى أن يتقيد بذلك بقدر المستطاع. وبعد أن أنهى المؤلف ما اختاره من تلك النصوص جاء إلى حديث جامع شامل يعتبر أصلاً من أصول الدين وقاعدة ترجع إليها أعمال الصلوات كلها، وهو التعليم العملي، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكما قال في الحج: (خذوا عني مناسككم) . إذاً: التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم هو أعلى وسيلة في التعليم، وأعتقد أن علماء التربية يتفقون على ذلك؛ ونحن نشاهد الطفل الصغير وهو لا يعرف أن يتكلم وهو يحبي ينظر أمه قامت للصلاة فيأتي أمامها ويصلي مثلما تصلي، هو لا يعرف أنها صلاة ولا قبلة ولا أي شيء، ولكن يأخذها تلقائياً وتلقيناً. وأصل هذا الحديث كما جاء في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر -ونعلم بأن المنبر ما صنع إلا في السنة الثامنة من الهجرة- وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ على جذع من جذوع النخل التي كانت بداية لبناء المسجد، وبعد خيبر وسع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى جدرانه من الحجر والطين، وصنع له المنبر فتحول إليه -وقصة الجذع معروفة- وكان من ثلاث درجات، والكبرى عريضة، فوقف على الثالثة واستقبل القبلة وكبر وهو مستقبل القبلة، فقرأ وركع ورفع من الركوع وهو على المنبر، ثم نزل القهقرى عن الدرجتين الأخريين حتى كان في أصل المنبر ووسع لنفسه قدر السجود فسجد في أصل المنبر، ثم جلس ثم سجد ثم نهض فرقى المنبر وقرأ ورفع، ثم نزل القهقرى وسجد وجلس وسجد وتشهد وسلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . هل يحتاج أحد بعد هذه الصورة والمشاهدة أن يسأل عن كيفية الصلاة؟ لا يحتاج. ومن هنا يقول العلماء: هذا الحديث أصل في الصلاة، فكل ما روي عنه صلوات الله وسلامه عليه في كيفية تلك الصلاة المنبرية -إن صح أن نسميها كذلك- أو غيرها من أحوال الصلاة، والمنبر ليس شرطاً، فما رأيتموني أفعله في الصلاة فافعلوا مثله، فيقولون: كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب، اللهم إلا إذا جاء ما يرفع الوجوب إلى الندب، والقاعدة الأصولية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له سبع حالات كما هو مذكور في مذكرة الأصول وتسهيل الوصول إلى علم الأصول، وكتب الأصول كلها تقول: إذا كان الفعل بياناً لمجمل في كتاب الله فحكم الفعل حكم الحكم المجمل في كتاب الله، إن كان مُبيناً لواجب فالبيان واجب، وإن كان مبيناً لمندوب فالبيان مندوب، والصلاة واجبة، وهذا العمل مُبين للمجمل هناك في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، أقيموا الصلاة على أي صفة؟ هناك أشياء: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] {طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، ولكن: نسجد أولاً أم نركع أولاً؟ وكيفية الركوع والسجود ما هي؟ وكم نصلي ركعات؟ جاءت السنة وبيّنت لنا الأوقات والعدد والهيئة والكيفية وما نقول فيها، إذاً: البيان الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق الصلاة يكون حكمه حكم الصلاة ما لم يكن هناك صارف عن الوجوب. ورأينا للنبي صلى الله عليه وسلم مغايرات بين الفرض والنافلة؛ قد نجده يصلي النافلة جالساً ولا يصلي الفرض إلا قائماً، قد نجده في حالات السفر يخفف الصلاة أو يطيلها، ويدخل بالجماعة بنية التطويل ثم يخفف رحمة بقلوب الأمهات. إذاً: قراءته، تسليمه، كل ما جاء ونقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فهو واجب ما لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب. وبعض العلماء يربط بين هذا الحديث في عمومه وبين حديث المسيء في صلاته في جملته، وأعتقد أنه لا حاجة إلى الربط بينهما، والقاعدة العامة: كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أفعال الصلاة يجب أن نأخذها بالوجوب، فإذا كان يبدأ الصلاة بالله أكبر، فافتتاحية الصلاة بالتكبير، ولا يجوز غيرها؛ لأنه افتتحها بها، وإن كان يسكت هنيهة بعد التكبير والقراءة أحياناً ويترك السكوت، إذاً: السكتة الهنيهة ليست بواجبة إنما يمكن أن يأخذ بها ويمكن أن يتركها؛ لأنها غير مضبوطة، وقد يطول أو يقصر، بعد هذا كان يقرأ الفاتحة، إذاًَ: الفاتحة واجبة، وكان يقرأ السورة من القرآن إذاً: هي واجبة، ولكن وجدنا الصارف عنها، ثم اقرأ ما تيسر، وما تيسر هذا يصرف عن الوجوب، وإذا لم يتيسر فلا شيء عليك، إذاً: وجدنا هناك مفارقة بين الفاتحة وبين ما يقرأ معها في ركعة، إذاً: الركوع واجب، رفع من الركوع، إذاً: الرفع واجب، اطمأن في الركوع اطمأن في الرفع، إذاً: الطمأنينة واجبة، وجاء عنه ذكر في رفعه وركوعه، وجاءت روايات أخرى متعددة من الأذكار، إذاً: تتخير منها ما شئت، وهكذا إلى أن تسلم من الصلاة.

شرح حديث: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا)

شرح حديث: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً) قال رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، وإلا فأومئ) ، رواه البخاري] . هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً في صلاة أهل الأعذار بصفة عامة، والعذر قد يكون مرضاً، وقد يكون خوفاً، وغير ذلك، وفي الحديث التدرج في كيفية الصلاة، وهو يُبيّن لنا إلى أي مدى وصلت سماحة الإسلام في خفة التكليف، وفي بعض روايات هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ) ، ونحن جميعاً في حاجة ماسة إلى دراسة هذا الحديث بتوسع إلى حد ما يشمله من أصناف الناس في صلاتهم، فقد يكون العذر يعتري الإنسان بنفسه، وقد يكون يعتري إنساناً يخصه، وقد يكون إنسان مسئولاً عن جماعة، وفي الجملة بعد هذا كله تأتي النتيجة الحتمية؛ لأن فريضة الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، والأصل في القيام: (صل قائماً) كما جاء في قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، والقنوت يكون بمعنى الخشوع، ويكون بكثرة الدعاء؛ فالقيام ركن في الصلاة، فإذا عجز الإنسان عن إتيان ركن القيام انتقل إلى ما بعده، فإذا عجز عما بعده انتقل أيضاً إلى بعد ما بعده، وهكذا نجد في أركان الإسلام جميعاً. نجد في الصيام {مَنْ كَانَ مَرِيضاً} ، أي: لا يستطيع الصوم، {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، يشق عليه، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] . والزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب بغنى؛ بحيث أنه يبقى عنده حتى يحول عليه الحول وهو لا يحتاج منه إلى شيء. والحج من استطاع إليه سبيلاً. والجهاد يسقط عن الأعمى والأعرج وأصحاب الأعذار، وهكذا نجد التكليف في كل أركان الإسلام بقدر المستطاع، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] .

كيفية صلاة الجالس

كيفية صلاة الجالس هنا تأتي مباحث صلاة المريض، أو المعذور بأي نوع من أنواع الأعذار، وهذا الحديث يرشد إلى عدم الاستطاعة للقيام، إما عجز طبيعي لكبر، وإما عجز طارئ لمرض؛ فالمبدأ الأساسي أن يصلي قائماً، بمعنى: أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، ويقرأ ويركع ويرفع ثم يهبط إلى السجود ويكمل سجدتيه ثم ينهض قائماً وهكذا؛ فإن عجز عن هذا القيام ليقرأ ويركع ويرفع ماذا يفعل؟ يأتي الحديث يسقط عنه هذا القيام، ويصلي قاعداً. ومع هذا أيضاً تذكر مباحث النوافل؛ فيمكن أن يصليها قاعداً أو قائماً صحيحاً أو مريضاً، ما دامت الفريضة تجزئ بالقعود عند الحاجة ولكونها فريضة لم تسقط، والنافلة مطلوبة، ولكن إذا لم تكن نافلة إلا من قادر على القيام ربما ضاعت كثير من النوافل، وحرم الكثيرون من فوائد وفضائل النافلة، فخفف في أمرها ترغيباً فيها، بقي إن عجز عن الصلاة قاعداً كيف يصلي؟ مضطجعاً، وإن عجز مضطجعاً كيف يصلي؟ مستلقياً، وإن عجز عن الإيماء كما قال: (فأومئ) ماذا يفعل؟ الفقهاء رحمهم الله فصلوا في هذا الباب إلى أبعد ما يمكن أن يخطر ببالنا، أما هيئة صلاة العاجز عن القيام ومتى يكون عاجزاً؟ وهل كل مرض يسقط عنه القيام؟ قالوا: القاعدة في ذلك: إن كان عاجزاً فعلاً أو ليس عاجزاً فعلاً إلا أن صلاته قائماً وهو مريض تزيد في مرضه أو آلامه أو تُطيل مدة برئه، ويرى بعض العلماء كما يذكر ابن قدامة في المغني: ننظره في أمر دنياه، هل هو في أمر دنياه يقوم ويجلس ويذهب ويأتي وعند الصلاة يقول: أنا لا أستطيع إلا أن أصلي جالساً؟! إن كان في أمر دنياه يأتيها قائماً، ويتحرك حركة طبيعية بدون مشقة؛ فهذا لا يسقط عنه القيام في الصلاة، وإذا كان يأتي أمور دنياه قائماً بتكلف نقول: لا، أمر الدنيا قد يضطر إليه، ولكن أمر الدين للرحمن الرحيم، فرحم الله عباده فخفف عنهم، فإذا كان كبير السن لا يقوى أو ممن عجز ولا يرجى زواله، أو كان مريضاً، والمرض له حالات: هناك أمراض يستطيع صاحبها أن ينهض ويقوم ويذهب ويأتي، ولكن بمشقة عليه فيعفى من القيام، وهناك مريض لا يكلفه القيام شيء، وقد تكون أمراضه مستوطنة أو طارئة أو عضوية وهو في تلك الحالة مستطيع القيام دون مشقة عليه؛ فلا عذر له، فإذا وجد العذر وثبت العجز عن القيام فيصلي على ما قال الفقهاء، وكيف تكون هيئته في صلاته؟ لو فكرنا في الهيئات التي يمكن أن يأتي بها الإنسان إما متربعاً وإما كجلسته في التشهد، أو قائماً على ركبتيه أو جالساً على مقعدته ورافعاً ركبتيه وضامم ساقيه بيديه محتبياً، أو ناصباً إحدى رجليه والثانية للأخرى، كل هذه الصور يمكن أن نجد إنساناً قاعداً على هيئتها، فالقاعدة عند الجميع: ما كان أيسر له يفعله، الأيسر في حقه يكفيه، حتى ولو على ظهره، ولو كان لا يستطيع الركوع ولا السجود، ويستطيع أن يكون قائماً أو متكئاً على العصا لا مانع أن يظل قائماً ويومئ بركوعه أقل من سجوده وهو قائم؛ لأن هذا الذي تيسر له، فإذا كان يستطيع فعل عدة صور مما ذكرنا فأولى الصور وأولاها في ذلك كله: أن يكون في الركن الذي فيه القراءة يؤديه وهو متربع، وركن القراءة يكون في القيام، إذاً: حينما يكون في أداء القراءة يقرأ وهو متربع، وركن الركوع ليس هناك تربيع، ولا يثني حقوه ناصباً ركبتيه وهو لا يستطيع هذه الهيئة، إذاً: يكون ثانيَ الركبتين لا يومئ وهو متربع؛ لأن حالة التربع لحالة القيام والقراءة، والركوع يثني ركبتيه ما دام يقدر على الجميع، وإن عجز عن ثني الركبتين للركوع والسجود بقي متربعاً وأومئ وجاء بسجود أخفض من ركوعه. فالمريض العاجز عن القيام ينظر ما هو أيسر له من الحالات مما جاءت به من هيئات صلاة العاجز؛ فإن كان لا يقدر إلا بها فهي مجزئة، وإذا كان يستطيع لعدة حالات فالأَولى أن يكون في حالة ما يكون قائماً للقراءة متربعاً، وفي حالة الركوع والسجود إن كان مستطيعاً أن يعدل تربيعته، وأن ينهض على ركبتيه كجلسته للسجود ويومئ بالركوع أقل من إيمائه بالسجود؛ فهذه أولى الحالات للمريض أو للعاجز الذي لا يقدر أن يصلي قائماً.

كيفية صلاة المضطجع

كيفية صلاة المضطجع إذا كان الشخص لا يستطيع أن يتماسك نفسه جالساً متربعاً، نظرنا لقواه العقلية، وهل الإدراك موجود أو لا؟ إن فقد الوعي والإدراك سقطت عنه الصلاة، وإن كان متوافر العقل مدركاً، ويفهم معنى الصلاة والمرض بدني وليس عقلياً، نقول له: ما الذي يريحك؟ يقول: دعوني اضطجع على شقي الأيمن، ويتمدد ويجعل وجهه تجاه القبلة، فإذا كان على جنبه الأيمن له عذره فعلى جنبه الأيسر، ويجعل أيضاً وجهه تجاه القبلة، وهناك من يقول: إن عجز عن القعود يستلقي على ظهره، وهو أولى من أن يتكأ على جنبه، ولكن في الحديث: (فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه) ، فالحديث قدم الجنب، وهناك من يقول: الجنب في المرتبة الثالثة، وبعد القعود مباشرة يستلقي على ظهره على أن تكون قدماه تجاه القبلة. إذاً: نبهوا الذين يرون إنساناً نائماً مستلقياً على ظهره في المسجد فيوقظه فيقول له: ماذا بك؟ قال: كيف توجه رجلك للقبلة، ويستنكرون هذا، ويفزعون النائمين المساكين، لماذا؟ هذه كما يقال: الضجعة الصحيحة، وقالوا في ذلك: حينما يصلي مستلقياً على ظهره سيومئ برأسه للركوع والسجود، فإذا أومأ للركوع أو للسجود فإنه وجهه سيكون على القبلة، ولا يجوز أن يُدير رأسه إلى القبلة؛ لأنه إذا أومأ يكون مومئاً إلى غير القبلة. الآخرون قالوا: لا يضطجع على شقه الأيمن كما يضطجع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأنه حينما يكون الإنسان على شقه الأيمن ويريد أن يومئ وهو نائم ووجهه إلى القبلة يومئ إلى جهة غير القبلة، ومن هنا قالوا: يضطجع على ظهره أولى، ولكن النص في الحديث: (على جنبه) ، وأصحاب الاضطجاع قالوا: لا، أو أصحاب الجنب قالوا: هو وإن كان في إيمائه سيتجه لغير القبلة، لكن السليم الذي يقوم ويركع ويسجد في حالة القيام مستقبل القبلة تماماً؛ وحينما يركع وجهه إلى الأرض، إذاً: انصرف عن القبلة إلى الأرض، قالوا: هذه حالات تطرأ على المصلي، وليس فيها انصراف عن القبلة يبطل الصلاة؛ لأنها طبيعة الركوع والسجود، فإذا كان المصلي مضطجعاً فقد استقبل القبلة بوجهه، وما يطرأ عليه من اتجاه بوجهه عند الإيماء لغير القبلة فهو نظير الراكع الساجد ينصرف وجهه عن القبلة. الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن من صلى مضطجعاً على جنبه وسيومأ وستكون إيماءاته لغير القبلة، ومع ذلك قال: (مضطجعاً) . هذه حالة العاجز عن القيام ويريد أن يصلي مضطجعاً أو مستلقياً. هناك ناحية أخرى: إن لم يستطع القيام ولا الجلوس متربعاً أو متحافزاً أو محتبياً أو أو وتمدد في الأرض مضطجعاً أو مستلقياً، لكنه لا يستطيع أن يومئ برأسه محل الركوع والسجود، ماذا يفعل؟ نرجع أيضاً إلى الأصل: إذا كان الإدراك موجوداً ويفقه معنى الصلاة ويتكلم بها وبمعانيها، ولكن الرأس ثقيل، ولا يقدر على حراكه، أو المرض في عنقه أو بأي حالة؛ قالوا: يرمش برمش العين، في الركوع نصف غمضة عين، وفي السجود يغمضها، فسبحان الله! إلى هذا الحد، إذاً: أي عذر في الدنيا لا يُسقط الصلاة.

طهارة المريض ووضوؤه

طهارة المريض ووضوؤه سؤال: هذا المسكين الذي ليس قادراً أن يحرك رأسه كيف يتوضأ أو يتيمم؟ نقول: إن عجز عن القيام بالطهارة بنفسه ووجد من يقوم بتطهيره وضوءاً أو تيمماً -على حسب حالته- وجب عليه ذلك، فإن لم يجد يُصلي على حالته كما يُصلي فاقد الطهورين، فليس هناك عذر، لا في الطهارة ولا في أداء الصلاة. بعض الناس يقول: حركة العين خفية، وليس هناك تمييز بين الركوع والسجود، فالأولى أن ينصب يده ويحرك أصابعه، فيأتي بحركة اليد بدلاً من حركة هذا الجسم الطويل. نرجع إلى المبدأ الأول: الصلاة واجبة، والقيام ركنها؛ فإن عجز عن هذا الركن انتقل إلى ما دونه بالتدريج، ويأتي في النهاية بأقل ما يمكن أن يشعر بأنه صلاة، ولعل في هذا القدر خلاصة ما جاء به شراح الحديث وما يأتي به الفقهاء، ولكن هناك حالة لم يتعرض لها لا النووي ولا ابن قدامة في المغني ولا كثير من كتب الفقه، وهي: إنسان ليس مريضاً يسقط عنه القيام، بل متعافياً يستطيع أن يأتي بكل القيام، وكان خلف الإمام، والإمام يقوم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة، ولا يراعي من وراءه، ولا حالهم، قالوا: إن عجز عن مواصلة القيام مع الإمام جلس، وإذا ركع الإمام قام وركع مع الإمام من قيام، إن كان لا يستطيع أن يظل قائماً مع الإمام.

صلاة المأموم خلف من يطيل الصلاة

صلاة المأموم خلف من يطيل الصلاة بالمناسبة: في تاريخ أئمة المسجد النبوي كان شخص دعي للإمامة -توفي قريباً- فاشترط على الملك عبد العزيز الله يرحم الجميع: أن أُسبح ثلاثة عشرة تسبيحة في الركوع، وفي السجود مثلها، وجاء الرجل ولقيته وقلت له: كيف تشترط هذا على الملك؟ قال: هذا حق الصلاة، قلت: تريد أن تتهرب من الإمامة، فإذا كان الإمام يطيل الركوع، والمأموم يعلم من نفسه ومن حالة إمامه أنه إن ركع معه في أول انحنائه لا يستطيع أن يواصل معه، فله واحد من اثنين: إما أن يركع قبل الإمام أو يقف؟ يقول الباجي رحمه الله في شرح الموطأ: من علم أن هذه حالة إمامه إذا ركع الإمام لا يركع ويبقى قائماً؛ لأن القيام أريح له، إلى أن يعلم من حال إمامه ما يغلب على ظنه أنه لم يبق له إلا ثلاث تسبيحات أو أربع، أو الذي يستطيعه هو؛ فيركع قبل أن يرفع الإمام ويُدرك الإمام في الركوع بقدر ما يثبت له به الركوع، وعند الرفع يرفع معه؛ لئلا يتأخر عن الإمام ولا يصح أن يتقدم عليه، وكذلك إذا سجد الإمام إن شاء هوى للسجود، أو جلس وانتظر الإمام حتى يأخذ راحته، وعلى قدر ما يعلم من حالة الإمام وتقديره فيسجد قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجدة، ويدرك مع الإمام قدر السجدة التي تجزئه، ويرفع الإمام فيرفع معه، يبقى هناك نطاق: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . بقي من المباحث: إنسان صلى مع الإمام وعجز عن مواصلة صلاته ماذا يفعل؟ بهذه الطريقة التي ذكرها الباجي لا يعجز، ولكن بالطريقة التي يقولها الآخرون يعجز، ويقولون: إن قدر على الصلاة قائماً منفرداً وعجز عنها مؤتماً وجب عليه الانفراد؛ لأن القيام ركن في الصلاة والجماعة سنة. هل توافقون على هذا الرأي أم أن الأول أفضل؟ الوجه الذي يريد أن يُضيع الجماعة منفي وليس بسهل، ثم التفضيل بأن الجماعة سنة هناك من يقول: إنها واجبة، أو يقول: شرط في الصلاة لا شرط في صحتها، يهمنا أن فيها نقاشاً، لكن لو أخذنا هذه الطريقة التي يذكرها الباجي: بأن المأموم إذا كان مريضاً أو عاجزاً يقدر لنفسه مع إمامه ما يستطيع أن يأتي به؛ فتتم له فضيلة الجماعة، ويسلم من المشقة عليه.

الاتكاء في الصلاة على العصا ونحوها

الاتكاء في الصلاة على العصا ونحوها ومن المباحث: أن المصلي قائماً لا يجوز له أن يتكئ على العصا أو على العمود أو الجدار، إلا إذا كان اتكاءً خفيفاً لا يعتمد في القيام عليه، ويقول بعض العلماء: كيف نعرف إذا كان الاتكاء خفيفاً أو كلياً؟ قالوا: لو أنه كان متكأ إلى جدار لو قدر أن الجدار سقط سيسقط معه، فلذلك لا يصح قيامه، وإن كان اتكاءاً خفيفاً بحيث لو سقط الجدار هو لا يسقط، فهذه ركنة فقط وليست اتكاء، نحن يهمنا أكثر من هذا: كيف أن سلف الأمة فصلوا في الجزئيات ما لا يخطر على البال؟! إذاً العاجز على القيام له أن يتكئ ويصلي مع الإمام متكئاً أو منفرداً، وبقدر ما يستطيع مع إمامه، هناك حالات طوارئ كإنسان جاء بحمد الله بعافية وكبر ووقف في الصف مع الإمام وقرأ ويستمع بصحة وكمال، وعندما ركع شعر بمغص -نسأل الله السلامة والعافية- وطرأ عليه ما يعجزه عن القيام في الركعة الثانية، هل له أن يكمل صلاته قاعداً أم لا؟ قالوا: إن جاء إلى المسجد وإلى الصف ويعلم بأنه مريض ولا يستطيع القيام وكبر وهو جالس، ولما تحرك وركع بالإيماء وسجد قدر المستطاع، وجد أن الألم الذي كان يشكو منه قد زال ووجد من نفسه خفة ويستطيع أن يقوم مع الإمام؛ فإذا قام مع الإمام في بقية الصلاة تكون الصلاة كلها صحيحة، أما إن قام ثم عجز أو كان عاجزاً ثم استطاع فيكمل صلاته على الحالة التي هو عليها؛ لأنه في حالة قيامه أتى بما استطاع، وعندما طرأ عليه العذر كانت هذه حالته، وعندما بدأ الصلاة بعذره كان هذا مشروعاً في حقه، وعندما زال العذر رجع إلى الأصل؛ فالصلاة تكون صحيحة، ويبني على ما مضى منها، ولا يستأنف صلاة جديدة. ومما تدعو الحاجة إلى ذكره: صلاة الخوف، أليس من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة؟ بلى، فإذا كانوا في ظروف لا يمكن أن يكونوا مستقبلين القبلة، بأن كان العدو في جهة أخرى، ولا يمكن أن يعطوا العدو ظهرهم، أو لا يستطيعون أن ينقسموا قسمين: قسم يصلي مستقبلاً القبلة، وقسم يواجه العدو، فإن اضطروا إلى الصلاة تجاه العدو صلوا وهم منصرفون عن القبلة؛ لأن هذه حالتهم.

صلاة المتترس في خندقه ونحوه

صلاة المتترس في خندقه ونحوه ومما ينبغي أن نتعلمه، ما يحدث لإخواننا وأبنائنا الجنود في الميادين، فهناك من يكون في خندقه أو دبابته أو آليته أو في مخفر يرقب العدو مستتراً، وجاء وقت الصلاة، إن خرج من الخندق انكشف للعدو، وإن أراد أن يصلي لا يستطيع أن ينهض قائماً، ماذا يفعل؟ هل يمكن العدو من نفسه ويدل العدو على جنده وجيشه أو يُصلي على الحالة التي هو عليها على الحالة التي هو عليها؟ ولو قُدر أنه في ذلك المكان لا يجد ماء يتوضأ: سقط عنه الوضوء بالماء وتيمم بالتراب في الخندق، ولو كان في مصفحته أو آليته ولا ماء عنده، والماء الذي عنده للشرب، ولا يجوز أن يتوضأ به ويعطش، يبقيه، وإن كان ليس عنده ما يتيمم به يصلي على حالته وهو في كرسيه أو عليه رباط أو على أي حالة من حالاته إنسان خائف وجاء واستتر وراء حجر خائف من حيوان، أو إنسان يتتبعه قطّاع طريق أو لصوص أو عدو. إلخ، إن قام يصلي قائماً انكشف، فله إن يبقى في مكانه ويصلي على حالته، إنسان يُطارد العدو في معركة الكر والفر، ونحن نعلم جميعاً: أن صلاة الخوف في القتال إن لم توجد مسايفة فهي كر وفر، فهم يصلون في مواضعهم في حالة طبيعية، لكن إذا كانت الحركة قائمة، والدبابات تمشي، والمصفحات والمشاة وو إلى آخره، هل عليه استقبال القبلة؟ هل عليه ركوع وسجود ويركع ويسجد والعدو وراءه؟ لا، بل يصلي وهو على حالته، كيف يصلي؟ يغمض عينيه، ويستحضر في قلبه تكبيرة الإحرام، وينطقها: الله أكبر، ويده على الزناد، والحمد لله رب العالمين، وهكذا يطارد العدو أو من أمامه ويقول: الله أكبر، على هيئة الركوع، ويستحضر معنى الركوع في ذهنه، وبعد ذلك: سمع الله لمن حمده، وهو يجري ويركض، وهكذا في حالة الخوف يفعل هذه الحالة، سواء كان يطرد فريسة له أو كان مطروداً من غيره يخاف منه. وهكذا صلاة أهل الأعذار، الأصل في الصلاة القيام، ولكن إذا طرأ على الإنسان عذر فإنه يسقط عنه القيام، وينتقل إلى غيره، وهناك حالة: ربما بعض الناس يطرأ له مرض وعذر يبيح له الصلاة قاعداً، أو يُجهد نفسه ويكلفها ويتحمل فوق طاقته فيقف قليلاً ثم يسقط، أو يزيد عليه الألم فيمتنع من قبول الرخصة، ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حينما أصيبت عينه، جاءه طبيب يهودي أو نصراني وقال له: أستطيع أن أعالجك وأتوقع لك البرء إن مكنتني منك أسبوعاً لا تجلس وتكون مستلقياً على ظهرك، فـ ابن عباس فكر في الصلاة، وسأل أم المؤمنين عائشة وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهم: هل يجيب الطبيب لذلك أم لا؟ فقالا له: إذا أتاك الموت وأنت في الأيام السبعة هذه ماذا تفعل في صلاتك؟ فامتنع، نقول: ابن عباس حبر الأمة، ولكنه تورع من أن يترك القيام لأمر شخصي، ويعتذرون عن ذلك بأن الذي أخبره ليس بطبيب مسلم مؤتمن، ولعله لكون الطبيب غير مسلم لم يثق بكلامه، فلم يقبل منه، فبعضهم يقول: لعله طبيب واحد، مع أن الفقهاء يتفقون في باب الجنايات لو أن طبيباً واحداً ولو غير مسلم قدّر جناية في جراح يُقبل قوله، ويقولون: بأن الطب مهنة إنسانية لا دينية ولا سياسية ولا إقليمية؛ لأن موضوع الطب هو الإنسان، والإنسان من حيث هو هيكل بشري لا أثر للهيكلية في أمر الدين ولا السياسة ولا الموطن ولا ولا إلى آخره، ولو جئت بأسير حرب أو عبد أو بأضعف خلق الله وأعلى إنسان على وجه الأرض ما اختلف تركيبه الجسماني، إذاً: الطب مهنة إنسانية، يؤخذ بقول من عرف الأمانة فيها. وعلى هذا لو أن إنساناً جاء إلى المستشفى وقيل له: يلزمك عملية، هل يسأل: العملية كم يوم، وكيف أصلي؟ نحن لا نعلم، الطبيب يقول: اسأل العلماء، أنا عليّ أن أجري العملية، وأنت عن صلاتك اسأل العلماء، فقال العلماء: نعم، إذا عملت العملية صلِّ وأنت جالس إن استطعت؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك، وإن لم تستطع فمستلقياً وو إلى آخره، أعتقد أن هذا هو الإنصاف، وهو من حق بدنك عليك، (إن لبدنك عليك حقاً) فيقبل الرخصة كما أخبر صلى الله عليه وسلم (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك وإلا فأومئ) ، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (صل على الأرض إن استطعت)

شرح حديث: (صل على الأرض إن استطعت) قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمريض صلى على وسادة فرمى بها وقال: (صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه] . تتمة لحديث صلاة صاحب العذر جاء المؤلف رحمه الله بأثر جابر رضي الله تعالى عنه، سواء أكان موقوفاً على جابر أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عجز عن السجود إلى الأرض، فجاء بوسادة وسجد عليها، فأخذ الوسادة وألقى بها وقال: صلِّ على الأرض، وإلا فأومئ واجعل سجودك أخفض من ركوعك) ، هنا يبحث العلماء: هذا المريض الذي عجز عن القيام وصلى وهو جالس، إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى الأرض في سجوده، ويستطيع أن يأتي بالوسادة أو ما في معناها من مسند أو كرسي، فهل يكون موضوعاً على الأرض ويسجد عليه أو يرفع الوسادة إلى جبهته؟ ستجدون من الفقهاء من يُجيز السجود على وسادة أو ما هو مرتفع من الأرض كحجر ونحوه، والحديث هنا يقول: (رمى بها) . وتفصيل القول: إن رفع الوسادة لجبهته ليسجد عليها، وتكون الوسادة على يده وليست على الأرض؛ فالجمهور يمنعون من ذلك، ويذكر ابن قدامة في المغني من يقول بهذا، لكن من غير الأئمة الأربعة، ولا علماء السنن الستة، وإذا كانت الوسادة على الأرض متصلة بها، ثم هو في سجوده يضع جبهته عليها، فلا بأس، ويذكرون عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن مالك: أن هذا يصح. إذاً: الحديث هنا: (فأخذها وقال: صلِّ على الأرض؛ فإن لم تستطع فأومئ) ، على أن الوسادة -على رأي الأئمة- قد رفعها، وما هو المانع من كونها على يده؟ قالوا: إذا سجد على الوسادة وهو يحملها يكون ساجداً على ما هو محمول له متحرك بحركته، ولو أخذ كفيه ورفعهما ووضع جبهته على كفيه، فما الفرق بين الوسادة والكفين أو شيء مرفوع إلى الجبهة لكي تصل إليه؟ وهذا بالاتفاق لا يجوز. إذاً: الخلاف بين كون الوسادة أو ما شابهها على الأرض وهو يسجد عليها، وكون الوسادة وما شابهها يرفعه على يده ليصل به إلى جبهته، فالأخير ممنوع عند الجميع، والأول مشهور أو أكثر الأئمة يقول به. يقول أحمد: لأن يسجد على شيء يصل إليه أولى من أن يومئ بدون شيء، ولكن النفس فيها شيء من هذا، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أُمر ببيانها وأخذ الوسادة وألقاها؛ سواء كانت على يده أو على الأرض، وذكروا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تصلي على الوسادة المطروحة في الأرض، ومن هنا جاء الخلاف، يهمنا في هذا أن من رأى إنساناً يسجد على شيء مرتفع أمامه ثابتاً على الأرض لا يُنكر عليه، ومن رأى من يصلي على شيء رافعاً إياه بيده فلا يقره عليه، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [1]

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [1] إن الكمال المطلق لله عز وجل، وقد خلق الله عز وجل الإنسان وفيه الكثير من صفات النقص، ومن تلك الصفات صفة النسيان، وقد نسي آدم فنسيت ذريته، ومن المواضع التي يهمنا فيها أمر النسيان باب العبادات، وقد جاء بيان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس.

شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس فقام الناس معه) ] . بدأ المؤلف رحمه الله بحديث ابن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر) . والمؤلف هنا يجزم أنها صلاة الظهر، وتجدون في بعض المراجع: (إحدى صلاتي العشي) والعشي: ما بين الزوال إلى غروب الشمس، والصلاتان الواقعتان في هذا الوقت هما الظهر والعصر، ولذلك تجدون خلافاً طويلاً في تحقيق ما هي الصلاة التي ذكرها ابن بحينة ولكن المصنف هنا صرح وجزم بأنها الظهر، فاسترحنا والحمد لله، وسواء كانت الظهر أو العصر فالصورة واحدة؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة رباعية، والمعروف من قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن نجلس للتشهد الأوسط في الركعة الثانية من الرباعية أو الثلاثية وبعد جلسة التشهد نقوم إلى الركعة الثالثة، وهنا صلى الله عليه وسلم في موضع الجلوس للتشهد الأوسط لم يجلس بل قام، فيكون ترك من الصلاة: التشهد الأوسط والجلوس له، وسيأتي: هل سجود السهو لترك الجلوس أو لترك التشهد، أو لتركهما معاً؟

متابعة المأموم للإمام

متابعة المأموم للإمام قوله: (فقام الناس معه) : لماذا قام الناس معه وهم يعلمون بأن هذا موطن جلسة؟ عند هذا يبحث العلماء مسألة: إذا كان المأمومون يعلمون نسيان الإمام عند هذا الموطن: فهل يتابعونه مباشرة أو ينبهونه؟ قالوا: يتعين على المأمومين أن ينبهوه. وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنهم نبهوه وسبحوا، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع، وفي بعض الروايات: (أشار إليهم أن قوموا، فقاموا) . لماذا لم يرجع الإمام؟ قالوا: هناك مقياس للإمام وللمنفرد، إذا كان الإمام قد نسي الجلوس ونهض للقيام فينبه، فإن كان أقرب إلى الأرض رجع، وإن كان أقرب إلى الانتصاب استمر. إذاً: لم يرجع صلى الله عليه وسلم حينما نبهوه؛ لأنه كان أقرب إلى الانتصاب والقيام، فحينئذ من حقه عليهم أن يتابعوه، فهو قام نسياناً، وهم قاموا متابعة. قوله: (فقام الناس معه) . هل قام الناس معه ابتداء؟ الجواب: لا، وإنما بعد أن نبهوه، وبعد أن قارب القيام، وأصبح من حقه أن ينهض، ومن حقه عليهم أن يتبعوه ويتابعوه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . وفي سجود السهو حينما سجد وسجدوا معه، هو سجد لنسيانه، وهم ما نسوا، ولكنهم تركوا الجلوس والتشهد فسجدوا معه، فإذا كان السهو من الإمام فقط ولم يكن من المأمومين، فسجد الإمام لسهوه، فيسجد المأمومون معه، وسيأتي في بعض الصور: لو قام الإمام في الخامسة والمأمومون يعلمون أنها الخامسة، فنبهوه فلم يسمع لهم؛ لأنه لم يثق بكلامهم، وكان يقينه في نفسه أنها الرابعة، فمن قام من المأمومين مع الإمام مع علمه ويقينه أنها الخامسة بطلت صلاته، وعلى أولئك الموقنين بأنهم أتموا الأربع، وأن هذه ركعة زائدة عليهم؛ أن يبقوا في مكانهم حتى يأتي الإمام بيقينه، ويتشهد ويسلم، وإذا علم أو تأكد أو ثبت عنده بعد أن جاء بالخامسة أنها زائدة، فيتعين عليه أن يسجد للسهو، وأولئك الجلوس الذين لم ينهضوا معه ولم يأتوا بزيادة سهواً ولا عمداً عليهم أن يسجدوا معه تبعاً له، ثم يسلموا مع تسليمه. إذاً: قام الناس معه اتباعاً وأداءً لحق: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .

صفة سجود السهو

صفة سجود السهو قوله: (حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه) . (قضى) تأتي بمعنى انتهى، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] يعني: انتهى وسُلم منها، وقوله هنا: (حتى إذا قضى) أي: أتى ببقية الركعات بقرينة قوله: (وانتظر الناس أن يسلم) ، فكلمة (قضى) كما يقول الأصوليون: ما قارب الشيء يعطى حكمه؛ لأنه أتى بالأعمال وأصبح قريب التسليم، فانتظر الناس السلام، فعبر الراوي بقوله: (لما قضى الصلاة) وإن كان ليس قضاء كاملاً؛ لأنه لم يسلم بعد، ولا تعتبر الصلاة قضيت إلا بعد إكمالها ولم تبق لها أي جزئية، كما في النص الكريم: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ومعلوم أن ذلك بعد التسليم، لكنه هنا قال: (فلما قضى الصلاة) يعني: جاء بالباقي. قوله: (وانتظر الناس تسليمه) يعني: أنه تشهد بعد أن أتى بالركعتين الباقيتين، وعلم أنه ترك الجلوس، بل قد أشار إليهم: (أن قوموا) ، والآن جلس يتشهد على حسب نظام الصلاة، والناس معه يظنون أن ترك الجلوس قد مضى لسبيله وتمت الصلاة. قوله: (كبر وهو جالس) . أي: وهو جالس للتشهد كبر تكبيرة الانتقال للسجدة، ولهذا يقولون: سجدتا السهو هما كأي سجدتين في صلب الصلاة: تكبر،وتسجد،وتسبح، وتطمئن، ثم ترفع من السجود وتجلس وتدعو الدعاء الوارد، ثم تكبر وتسجد، ثم تكبر وترفع. إذاً: سجدتا السهو في الهيئة والصورة والعمل كسجدتي الصلاة سواء بسواء، فكما نفعل في السجدتين في صلب الصلاة نفعله في سجود السهو، سواء كان السهو في فريضة أو نافلة، على ما سيأتي إن شاء الله. قال: (وسجد سجدتين قبل أن يسلم) . سجد سجدتين مرتبتين؛ سجد ثم رفع من السجود، أي: مكبراً أيضاً، وجلس حتى اطمأن، ثم كبر وسجد الثانية حتى اطمأن وسبح أيضاً ثم كبر ورفع. قال: (ثم سلم) . وهذا سجود السهو كان قبل السلام، فلما أكمله سلم. وسبب سجود السهو لا يخرج عن أحد أمرين: إما الزيادة في الصلاة كمن صلى خمساً أو جلس جلسة زائدة، وإما النقصان، والذي حدث في هذه الصلاة في حديث عبد الله بن بحينة هو نقصان التشهد، ونقصان الجلوس، والفرق بينهما: أن الإنسان لو كان منفرداً وجلس تلك الجلسة بعد الركعة الثانية، وفي مدة قراءة التشهد لم يقرأ التشهد وقام، فيكون قد ترك التشهد فقط والجلسة قد حصلت فهل يسجد للسهو لأنه ترك التشهد؟ الجواب: إن قيل بأن السهو للتشهد فيتعين على المنفرد إن جلس جلسة تكفي للتشهد ثم نسيه وقام؛ أن يسجد للسهو، وإن قيل: بأن السهو هو للجلسة، فجلس جلسة التشهد ولم ينسها ونسي التشهد فعلى هذا القول لا سهو عليه. إذاً: هذا الفرق بين اعتبار السهو للتشهد أو للجلوس أو لهما معاً. والصورة التي عندنا حصل فيها نقص، سواء قلنا: في التشهد أو في الجلسة للتشهد، فما كان عن نقص يأتي سجود السهو جبراناً للنقص، وجبران الشيء يكون منه، وهذه قاعدة عند أحمد: (كل سهو عن نقص يكون قبل السلام) . وأما موضع السجود للسهو عند الأئمة الأربعة: فهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون قبل السلام؛ حملاً على هذا. وهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون بعد السلام. فأما الأول فهو قول الشافعي، وأما الثاني فهو قول الأحناف. ومالك رحمه الله يقول: (ما كان عن نقص فقبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد) . وأحمد يقول: ننظر الخمس الصور التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم أين أوقع السجود فيها، فنطبقها فيما لو وقع من إنسان واحدة منها، فكل سجود عن نقص فهو قبل السلام، وكل سجود عن زيادة فهو بعد السلام، وإذا كان عن شك أو تحير، أو عدم يقين فيكون قبل السلام كما سيأتي إن شاء الله، لكن لو جاء سهو في مواطن خلاف المواطن الخمسة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام أحمد يقول: نجعلها قبل السلام. إذاً: كل ما جاءت صورته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالذات نجعل سهوها كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الصورة، وما كان في غيرها فنجعله قبل السلام، فيكون القول بجعل السجود قبل السلام أكثر قائلاً، وأكثر اعتباراً، وهذه مجمل أقوال العلماء في ذلك، وسيأتي لها زيادة إيضاح إن شاء الله. يهمنا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية وترك الجلوس، وترك الجلوس يستلزم ترك التشهد، فنبهوه فلم يرجع وقام الناس معه، وعرفنا متى يقوم الناس؟ ومتى لا يقومون؟ ومتى يستتم ناهضاً؟ ومتى يحق له أن يرجع؟ ثم بعد ذلك انتظر الناس تسليمه فلم يسلم، فسجد سجدتين وسلم بعدها، وأتى في سجود السهو بما يأتي به في صلاته العادية؛ بأن كبر للانتقال وسبح ودعا بين السجدتين، والله تعالى أعلم. ينقل ابن عبد البر، وابن قدامة، والنووي، وعلماء الحديث الإجماع على أنه مهما كان سبب السهو - وقلنا بأن السبب لا يخرج عن الزيادة أو النقصان - فسجد الساهي قبل أو بعد السلام فصلاته صحيحة، وأما تعيين السجود للسهو هل هو قبل السلام أو بعد السلام إنما هو للأفضلية، أما إذا سجد قبل السلام في موضع يكون بعد السلام أو سجد بعد السلام في موضع يكون قبل السلام، فإن الصلاة قد تمت، ولكنه ترك الأفضل في موضع السجود. إذاً: التحديد بقبل أو بعد أو بأي صورة من الصور المذكورة هو بحث كبير، ونحن إذا كنا حصلنا على الأساس والأصل وصحت الصلاة فالحمد لله، فهذا القول من العلماء في هذه المسألة أو الجزئية يهون علينا مسألة السجود للسهو. قال المصنف: [وفي رواية لـ مسلم: (يكبر في كل سجدة وهو جالس، ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس) ] . نقل الراوي: (ويسجد الناس معه) ليبين أن الناس لم يقع منهم سهو، بل هم متذكرون ونبهوا الإمام من أجل أن يرجع ولكنه لم يرجع، فسجودهم معه إنما هو متابعة للإمام.

شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين)

شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين) قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة! وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم: صلاة العصر] . هذا الحديث من أهم الأحاديث النبوية، وكلها مهمة، ولكنه لموضوعه اهتم به العلماء كثيراً، حتى إن بعض العلماء أفرده بتأليف خاص وإن كان لم يصلنا، لكنهم نقلوا عنه الشيء الكثير، وبعضهم ينقل عمن كتب في هذا الحديث أنه استخرج من هذا الحديث مائة وخمسين مسألة، وابن دقيق العيد رحمه الله لدقة أسلوبه يقول: إن الكلام على هذا الحديث من ثلاث جهات: الجهة الأولى: جهة أصل الدين والعقيدة. الجهة الثانية: جهة علم الكلام. الجهة الثالثة: جهة حكم الحديث فقهياً. ثم أخذ يتكلم عن كل قسم منها في كتابه: (إحكام الأحكام في شرح كتاب عمدة الأحكام) ، وللإمام الصنعاني صاحب سبل السلام حاشية تسمى: (العدة على شرح العمدة) ، تعقب ما جاء به ابن دقيق العيد بزيادة التفصيل، والتنبيه على ما يلزم التنبيه عليه. أما موضوع علم الكلام: فإنه في هذه المحاورة والتي تعتبر عند المنطقيين قاعدة في الفرق بين الكل والكلية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم لـ ذي اليدين: (لم تقصر ولم أنس) ، وفي بعض الروايات: (كل ذلك لم يكن) ، وهذا هو المبحث المنطقي. ثم في أصول الفقه بحث فيما يتعلق بخبر الواحد، ويذكرون أن ذا اليدين أخبر رسول الله، فلم يكتف بإخباره وسؤاله، بل استوثق من الحاضرين فقال: (أصدق؟) فيبحث الأصوليون مدى قوة خبر الواحد والاستدلال به. ثم يأتي فقه المسألة: أنه صلى الله عليه وسلم بعدما سلم سجد ثم سلم. وهذا هو فقه المسألة، وهو ما يتعلق بسجود السهو. وأرجو من الإخوة طلاب العلم أن يرجعوا إلى هذا الحديث سواء في الموطأ، أو في إحكام الأحكام لـ ابن دقيق العيد، أو في العدة للصنعاني، أو في فتح الباري، أو في جميع موسوعات الحديث التي تكلمت على هذا الموضوع بإسهاب، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً.

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [2]

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [2] الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، وهو نوعان: منه المحرم الذي لا يجوز الوقوع فيه، ومنه الجائز الذي لا حرمة فيه، وهو قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف أفهام، وأكثر ما يقع هذان القسمان في المسائل الفقهية، ومن ذلك: اختلاف أحاديث موضع سجود السهو، فالتحقيق أنه يجوز السجود للسهو قبل السلام أو بعده، وقد اختلف الفقهاء في الأفضل، وكذلك اختلفوا في كثير من أحكام سجود السهو.

شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا)

شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما سلم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟) ] . تقدمت بعض الأحاديث فيما يتعلق بسجود السهو من نقص أو زيادة، وهذا الحديث فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الرباعية خمساً) قيل: هي العصر، ولما قام إلى الخامسة لم ينبهوه على شيء؛ لأنه يجب عليهم الاتباع، فلما سلم من الخامسة سألوه؛ لأن الذي حدث على غير العادة، فاستلزم الاستفسار والتأكد فقالوا: أحدث في الصلاة شيء؟ أي: هل زيد فيها؟ وهذا أمر لا يستبعد؛ لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، ومن هنا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (ما حدث شيء، وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا -يعني: أربعاً وزدت الخامسة-، فقال: لا. لم يحدث في الصلاة شيء، ولو حدث فيها شيء لأخبرتكم) ، وهذه هي مهمة التبليغ؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فلو حدث في الصلاة شيء قبل أن يدخل فيها لأعلمهم بها، ليكونوا على علم بذلك، فلما لم يعلمهم بذلك، دل على أن هذا الذي وقع سهو، ثم بين الراوي تداركه لذلك: (وكان قد حنى رجليه -أي: كان قد جلس جلسة أخرى، ثم ثنى رجليه لجلسة التشهد- فسجد سجدتين -أي: سجدتي السهو- ثم سلم، ثم قال لهم: إنما أنا مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) .

هل النبي صلى الله عليه وسلم ينسى؟

هل النبي صلى الله عليه وسلم ينسى؟ وعند هذه الرواية: (أنسى كما تنسون) تأتي رواية أخرى وهي من بلاغات مالك رحمه الله ومراسيله التي بلغت فوق الستين نصاً، ولم يذكر لها مالك سنداً، ولكن العلماء تتبعوا تلك البلاغات والمراسيل فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك إلا أربعة أحاديث لم يجدوا لها سنداً كما يقول ابن عبد البر رحمه الله، ولكن جاء وابن الصلاح وغيره فتتبعوا تلك الأربعة فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك، ومن تلك الأربعة على ما أذكر: ما يتعلق بليلة القدر؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت أعمار أمتي وأعمار الأمم) فاستقل صلى الله عليه وسلم أعمار الأمة؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والأمم الذين قبلها كانوا يعمرون طويلاًَ، فاستقل أعمار الأمة، وكيف تحصّل مع أولئك نصيباً في الجنة! فأنزل الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3] ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس: (كان فيمن قبلكم رجل حمل السلاح ألف شهر يقاتل في سبيل الله! فقالوا: وماذا نحصل مع هؤلاء من عمل الخير؟ فأنزل الله سبحانه سورة القدر، وفيها ليلة خير من عمل الذين قبلهم) فهذا أحد الأحاديث الأربعة. والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة) . يقول مالك: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نشأت) أي: السحابة، وقوله: (بحرية) أي: من جهة البحر، والبحر في غرب المدينة، وقوله: (ثم تشاءمت) لأن السحابة التي تنشأ غرباً إما أن تستمر إلى الشرق وإما أن تنحرف إلى الجنوب، وإما أن تنحرف إلى الشمال، فهنا صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ يقول: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت - أي: اتجهت إلى الشمال أو إلى الشام - فتلك عين غديقة) يعني: هذه السحابة عين غدق ماؤها، أي: ممطرة بإذن الله سبحانه. والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أنسَى ولكن أنسّى لأسن) . والرابع: أظنه قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (حسن خلقك للناس) الحديث أو غيره. فهذه أربعة بلاغات لم يوجد لها سند سوى إيراد مالك لها، وهذا كلام ابن عبد البر، وابن عبد البر قد أفرد البلاغات والأسانيد في التمهيد في الجزء الأخير؛ والكتاب مطبوع كله، فجاء -كما أشرنا- بعض العلماء وتتبع هذه الأربعة، فوجد لها أسانيد عند غير مالك؛ منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو غير ضعيف، والذي يهمنا هو هذا الأثر الثالث، والعلماء يبحثون هذه المسألة على الروايتين؛ الأولى: (إنما أنا مثلكم) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] ، فبعامل البشرية قالوا: يجري عليه صلى الله عليه وسلم ما يجري على عامة البشر من الأمور الجبلية، والآخرون قالوا: كيف ينسى وهو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه من عند الله؟ فإذا قلنا: إنه ينسى، فقد ينسى ما يوحى إليه، وهذا طعن في الرسالة، فقالوا: الجواب بتلك الرواية الثالثة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا أنسى ولكن أنُسى) يعني: رغماً عني، ولأي شيء ينسى مع أن النسيان نقص؟ قال: (لأسن) وأحسن من تكلم على هذه المسألة هو القاضي عياض في كتاب الشفاء، فمن أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إليه. والخلاصة: أن بعض العلماء قال: يكون منه صلى الله عليه وسلم النسيان في أمور الدنيا؛ أكل أو لم يأكل، أعطى فلاناً أو لم يعطه، ذهب إلى فلان أو لم يذهب، فهذه أمور عادية تجري على سنن البشر، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك تجري عليه قوانين البشر، قالوا: وأما لو أطلقنا ذلك في العبادات فلا؛ لأنه إذا نسي في العبادة فلا يقر على النسيان، بل ينبه، ولكن لماذا ينسى؟ قالوا: ليسن، وإذا تتبعنا قضايا وقعت بالفعل نجد أن النسيان الذي يقع على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من أجل أن يبين السنة، فقد يكون واجباً عليه؛ لأنه إذا لم يقع هذا الفعل أو لم تحدث هذه الصورة منه صلى الله عليه وسلم لم يبين الحكم فيها، ثم إذا وقعت بعد موته فماذا نفعل فيها؟ فقالوا: من تمام التبليغ أن يقع عليه طوارئ الأحداث والمستجدات حتى يبين للناس ماذا يعملون؟ ولهذا نظائر كثيرة. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] يعني: ننسيك إياها، وفي الآية الأخرى قال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] إذاً: قد يشاء الله أن ينسيه، سواء مما أوحى إليه أو ما كان من الأعمال ليترتب عليه بيان الحكم، وقد وقع له صلى الله عليه وسلم في هذا المجال وفي غيره ما لم يقع لغيره لبيان التشريع.

قصة نومهم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس

قصة نومهم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس كلنا يعلم أن في عودته صلى الله عليه وسلم من خيبر، سهر هو وأصحابه طوال الليل ثم عرسوا قبيل الفجر، وقال: (يا بلال! احرس لنا الفجر، قال بلال: فأنخت راحلتي، وأسندت ظهري إليها، ووجهت وجهي إلى المشرق أرقب الفجر، فما مكثت إلا وجاءني الشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، وما أيقظنا إلا حر الشمس) ، فلما استيقظوا كان عمر من أوائل من استيقظ، ولم يكونوا يجرءون على إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه؛ لأنهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقد يكون في حالة يوحى إليه فيها، لكن عمر أخذ يكبر، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عنده أبو بكر، فقال: (يا أبا بكر! أين بلال؟! ما أراه إلا أن الشيطان أتاه وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، فقام أبو بكر ونادى بلالاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الصبح يا بلال؟! فقال: قبض روحي الذي قبض أرواحكم) يعني: لماذا تلومونني أنا فقط، فكلنا قد نام؟ وقوله صلى الله عليه وسلم فيه دعابة ولطافة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني، فقال: والله يا رسول الله، لقد أخذت أهبتي، وأنخت راحلتي، واستندت إليها، واستقبلت المشرق بوجهي أنتظر الفجر، فإذا الشيطان يأتي ويهدهدني -الحديث- فقام أبو بكر وقال: أشهد إنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارحلوا من هذا الوادي، فإن فيه شيطاناً) فخرجوا، وأذن بلال، وأقام، وصلوا الفجر. ففي هذه الحالة من يستطيع أن يقول: إن الرسول أراد أن تفوته صلاة الصبح؟ لا أحد يقول ذلك، ولكن حصل هذا من أجل التشريع، وقد أخذ بأسباب البشر، بأن وكل الأمر إلى شخص ليوقظه، ونحن الآن نوكل قيامنا بالمنبه، فإذا كان الإنسان قد أخذ الأهبة فيما هو في وسعه، فما وراء ذلك فالله هو الذي يتولاه، فلما حدث ذلك كانت النتيجة أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا من المكان، ثم أذن المؤذن كما يؤذن في العادة، ومن هنا نعلم أن الأذان للصلاة مع الوقت، وهنا الوقت قد خرج، والشمس قد ارتفعت، ثم بعد ذلك الأذان صلوا السنة، ومن هنا نعلم تأكيد سنة الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتركها في سفر ولا حضر، ثم أقيمت الصلاة وصلى الفجر أيضاً كما يصليها في العادة. ومن هذه الحادثة نعلم ماذا نفعل إذا فاتنا وقت الصلاة، فلا نؤخرها إلى الغد بل نصليها في وقتها، وقد كان بعض الناس يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله نهاكم عن الربا، وكيف يقبله منكم؟!) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها) . إذاً: كان هذا تقدير من الله ليبين للأمة فعل رسول الله فيقتدوا به صلى الله عليه وسلم إذا وقع منهم مثل ذلك.

قضايا وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين الحكم فيها للأمة

قضايا وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين الحكم فيها للأمة إن المتأمل في السنة يجد عدة قضايا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً عنها كل البعد، ولكنها فرضت عليه فرضاً، وألزم بها ليبين للأمة بنص الكتاب المبين الحكم فيها، وذلك مثل قصة زينب وزيد، ماذا كان موقفه منها؟ قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] ، ليس هو الذي ذهب وتزوجها، وإنما فرض عليه زواجها، لماذا؟ هل لأنها ابنة عمته؟ أم أنه كما يقول أولئك المغفلون أو أولئك المتهمون: كان يراها ويريدها؟ أليس كانت ابنت عمته بكراً وهو قادر على ألا يزوجها زيداً، وأن يمنعه منها؟ بلى والله! ومن هو زيد؟ زيد خطف من الطريق وبيع فاشتراه شخص وأهداه لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله، فجاء أبوه وعمه يتقصون الأخبار عنه حتى عرفوا أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! جئناك في فداء ابننا زيد، فقد علمنا أنه عندك، وأنت تأمر بصلة الأرحام، قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأعرض عليه، فإن اختاركما فلا أريد منكما فداء، وإن اختارني فما أنا بمفاد من يختارني على أهله، قالوا: والله! لقد أنصفت، فدعا زيداً فقال: هل تعرفهما؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا عمي، قال: إنهما أتيا لفدائك، وقد أخبرتهما: إن اخترتهما فاذهب معهما بلا فداء، وإن اخترتني فما أنا بمفاد من يختارني، فقال: والله! لا أختار عليك أحداً أبداً -وهذا قبل البعثة وقبل الرسالة، من أجل تلك الأخلاق الفاضلة التي نشأه المولى سبحانه وتعالى عليها- فقال له أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودبة على الحرية؟ قال: ومالي لا أختاره؟ والله! منذ صحبته ما قال لي على شيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) فهل معنى هذا أن فعل الأمر ليس مهماً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا والله! ولكنه كان يوجهه بمكارم الأخلاق وباللطافة والإحسان والمروءة، فعرفوا مكانه وقالوا: إذن نحن نطمئن على ولدنا، وانصرفوا. فلما وجد منه صلى الله عليه وسلم هذا الوفاء، أخذ بيده وطاف به حول الكعبة وقال: (يا معشر قريش! زيد هذا ابني، يرثني وأرثه) ، حتى جاء الإسلام وأنزل الله قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] الآية، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] . وكان صلى الله عليه وسلم قد زوج زيداً بـ زينب، وكان يدعى ابن محمد حتى جاء القرآن ونسخ التبني، وكذلك نسخ تحريم زوجة الابن بالتبني، وبقي تحريم زوجة الابن من النسب، وهذه القضية لو أنها وقعت مع أبي بكر أو مع عثمان أو مع عمر أو مع أي أحد من الصحابة لم تهدم هذه العادة، ولم تقض على ما تعارفوا عليه طيلة دهرهم، ولكن لما كانت في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت تلك العادة وانتهت، وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدفع ذلك عن نفسه، قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] ، وهذا عتاب كبير، لماذا زوجه الله تعالى؟ قال تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] يعني: أن هذا الزواج للتشريع، فرض عليه لكي يأتي التشريع الجديد في شخصيته صلى الله عليه وسلم. المهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متطلعاً إليها ولم يكن راغباً في زواجها، ولكن هذا الزواج فرض عليه من أجل التشريع، ولذلك كانت تقول لنساء رسول الله: (زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات) ، وهذا والله هو العقل. إذاً: هذا العمل أجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الصلاة أجريت على رسول الله، فلا مانع أن ينسّى، لكن لأي شيء؟ ليبين للناس.

ثلاثة أحداث في الحج للتشريع

ثلاثة أحداث في الحج للتشريع ومن ذلك: الحج، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، وجاءت بعض التشريعات لبعض أركان الحج أو أعماله في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ، وقوله: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ، فهذه بعض تشريعات الحج، ولكن كون الحائض تطوف أو لا تطوف، وكون الإنسان يحج عن الغير أو لا يحج، لم يأت له في القرآن ذكر، وإنما جاءت وبينته السنة لشدة خطر موضوع الحيض والنفاس في الحج تأتي ثلاثة أحداث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحكم فيها: الحالة الأولى: في الميقات قبل الشروع في الإحرام. الحالة الثانية: في أثناء الطريق وهم محرمون. الحالة الثالثة: في يوم من أيام منى قبل العودة وقبل النفير. أما الحالة الأولى: فهي حادثة أسماء زوجة الصديق، والصديق والرسول صلى الله عليه وسلم في ركب واحد، وعلى مرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، نفست أسماء عندما باتوا في بئر علي، فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مرها فلتغتسل ولتنوي) ، هي نفساء الآن، ولم تطهر من النفاس! ولكن هذا الغسل ليس لطهر النفاس ولكن للإحرام، فهذا يدل على أن النفاس لا يمنع المرأة أن تحرم. الحالة الثانية: بعد أن وصلوا إلى سرف: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة - وكانت أحب النساء إليه- فإذا بها تبكي، فقال: لعلك نفست؟ فقالت: نعم، فقال: لا عليك، أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: حجة في عمرة) . الحالة الثالثة: عندما نزل من عرفات إلى منى ورمى الجمار، وعندما رجع من مكة إلى منى (سأل عن صفية، فقالوا: إنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ - أي: عن العودة وطواف الإفاضة حتى تطهر، وبعدها تطوف طواف الإفاضة- فقالوا: لا. لقد طافت من قبل- استأذنت فنزلت من منى، ورمت جمرة العقبة، ونزلت إلى مكة وطافت ورجعت إلى منى- فقال: إذن نرحل ... ) . فتأتي هذه الأحداث الثلاثة فيما يتعلق بأمر النسوة في بيت رسول الله، ليبين صلى الله عليه وسلم للأمة في ذلك إذا وقع لهم مثله. فقوله صلى الله عليه وسلم: (إني مثلكم أنسى كما تنسون) لا مانع من ذلك، ولكنه لم ينس شيئاً من التبليغ، وقد ينسى شيئاً من العبادة ولكنه لا يترك عليه، وهذا بإجماع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على النسيان في العبادة، بل لا يقر صلى الله عليه وسلم على الخطأ في العبادة، ولو لم يكن نسياناً، كما في قصة خلعه صلى الله عليه وسلم لنعليه وهو ساجد في الصلاة، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم قال: (أنا خلعت نعلي، فما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا - وهذا هو الواجب، فربما جاء تحريمه في هذه اللحظة- قال: أما أنا فأتاني جبريل فأخبرني أن فيهما أذى، فخلعتهما) فلم يقر على الأذى في نعليه صلى الله عليه وسلم. إذاً: ما يتعلق بالبلاغ فهو معصوم صلى الله عليه وسلم من النسيان فيه، بل يقول القاضي عياض: أيهما أشد؛ النسيان الذي يتذكر به حالاً أو السحر الذي وقع عليه؟ فقد وقع عليه السحر بإجماع المسلمين، سحره لبيد بن الأعصم، وقضيته معروفة في تفسير سورة الفلق، فوقع عليه صلى الله عليه وسلم ما يقع على البشر بسنة البشر، ولكن في حالة السحر بينت عائشة فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله) ، ولم تقل: تكلم بكذا, ولا ألغى كذا، ولا نسخ كذا، أبداً، وإنما هي أمور عملية فعلية في شخصه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الرسالة، ولا يتعارض مع العصمة، ولا يخدش في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى. ونأتي إلى بلاغ مالك: (أنسّى) . أقول: والله! إن تلك الأحداث لتشهد لرواية مالك: (أنسّى) ؛ لأن ذلك من تمام التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وبيان التشريع، والله تعالى أعلم.

الفتح على الإمام

الفتح على الإمام وقوله: (أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني ... ) . في بعض الأحاديث الأخرى: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وترك آية، فلما سلم قالوا: تركت آية كذا! فقال: أليس فيكم أُبي؟ فقالوا: بلى، فقال: لماذا لم ترد علي؟ قال: خشيت أن تكون نسخت) . وهذا الذي نبهنا عليه، وقد طُلب من الإمام مالك أن ينصب نافعاً إمام القراء للصلاة بالناس، فقال: لا. لا تجوز صلاته بالناس، فقالوا: يا مالك! هذا شيخ القراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله) ، فلماذا لا تنصبه؟ قال: لو أخطأ فلن يكون هناك أحد يرد عليه، فيظن الناس أنها قراءة فيسكتون، فيمضي الخطأ على أنه قراءة، فاقتنعوا بذلك، وكذلك أُبي لم يرد على رسول الله؛ لأن الآية قد تكون نسخت، وينبغي التنبه إلى هذه النقطة! قال: (أنسى كما تنسون) يعني: أنا نسيت فذكرتموني، وأنتم كذلك تنسون، والنسيان يأتي بالشك؛ لأن الشك لا يكون إلا نتيجة النسيان.

تحري الصواب عند الشك في الصلاة

تحري الصواب عند الشك في الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب) معنى التحري: أن ينظر ما يغلب على ظنه إلى أقصى حد ويدقق فيها تدقيقاً، فكأنه وصل إلى خيط الحرير بين المسألتين، كما يقال: تحرير المسألة، أي: تنقيتها إلى أقصى حد، فإذا تحرى عمِل بما ظهر له. قوله: (فليتحر الصواب وليتم عليه) ، أي: يتم على ما توصل إليه في تحريه، ( {ثم ليسجد سجدتين) ، بعدما يتحرى يتم صلاته على هذا التحري، ثم يسجد سجدتين. هل السجدتان قبل أو بعد؟ بينه في الرواية الآتية: [وفي رواية للبخاري: (فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد) ] . يعني: يكون سجود السهو عند التحري بعد السلام.

شرح حديث: (سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام)

شرح حديث: (سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام) قوله: [ولـ مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام) ] المؤلف لم يسق هذا ليبين موضع سجدتي السهو هل هما قبل أم بعد؟ وإنما ساق هذا ليبين أن سجدتي السهو لا يمنعها الكلام، ما دام أنه في مصلحة الصلاة، فإذا سلم ثم تكلم ونُبه وتبين له أنه سها، فكلامه هذا لا يقطعه عن الصلاة، وإنما يجبر ما نقص منه أو زاد سهواً بسجدتين ولو تكلم قبلهما. وساق المؤلف هذا هنا ليبين المسألة؛ لأننا نجد الفقهاء رحمهم الله قد اختلفوا، فبعضهم يقول: السجود بعد السلام، وبعضهم يقول: إن طال الفصل استأنف صلاته من جديد. ثم اختلفوا في حد هذا الطول؟ فبعضهم يقول: يحدد عرفاً؛ لأنه لم يأت فيه تحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: يحدد بقدر ركعة، وبعضهم يقول: يحدد بقدر الصلاة التي سها فيها، ثم الآخرون يقولون: إذا كان الكلام من مصلحة الصلاة فلا يضر، ولهذا جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع سجدتي السهو بعد أن سلم وتكلم) . وهل المسألة قاصرة على الكلام فقط؟ وإذا تحرك وانتقل من مكانه فما هو الحكم؟ قالوا: إن كان قريباً سجد، وهذا القرب ما حده؟ قالوا: يحدد عرفاً، وبعضهم يقول: ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج من المسجد ونبه استأنف من جديد. إذاً: هذه المسائل كلها موضع بحث وتقدير واجتهاد عند العلماء رحمهم الله.

شرح حديث: (من شك في صلاته فليسجد)

شرح حديث: (من شك في صلاته فليسجد) قوله: [ولـ أحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم) وصححه ابن خزيمة] في الحديث الأول ذكر التحري، وهنا ذكر الشك، وهذا تنصيص في أن من شك في الصلاة فليتم- يعني: يبني على اليقين- وليسجد بعد السهو.

شرح حديث: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائما)

شرح حديث: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً) قال المصنف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فليمض ولا يعود، وليسجد سجدتين، فإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف] . تقدم في قيامه صلى الله عليه وسلم من الركعتين أنه لم يجلس للتشهد الأوسط، وإنما قام، ثم بعد أن سبحوا كان قد انتصب قائما، ً فأشار إليهم: أن قوموا، ولم يرجع، فقاموا، ثم سجد سجدتي السهو؛ وفي حديث المغيرة هنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة؛ أنه إذا سها الإمام أو المنفرد فلم يجلس في التشهد الأوسط وجاء ناهضاً للقيام، نظرنا ما هي المسافة بين جلوسه وانتصابه قائماً على سبيل التقريب، فإذا كان قد نهض فتذكر أو نبهوه، وكان في هذه الحالة أقرب إلى جلوسه، جلس وتشهد ولا سهو عليه. وإذا كان قد نهض وبقي من انتصابه (30 سم) ؛ بمعنى أنه انتصب (70 سم) ، أصبح في هذه الحالة أقرب للانتصاب، فلا يرجع. وإذا كان إماماً، ووصل إلى ما يقرب من انتصابه قائماً، فسبحوا له، فلا يرجع، بل يمضي في قيامه، ويمضي في الركعة الثالثة، وبعد أن يتم صلاته يسجد سجدتي السهو وقد تقدم أنها قبل السلام. إذاً: في حالة ترك الجلوس للتشهد الأوسط، وسها المصلي منفرداً أو إماماً فننظر هل يمضي في قيامة أو يعود إلى مجلسه؟ ننظر أي المركزين أقرب إليه، فإن كان الجلوس أقرب إليه جلس ولا سهو عليه، وإن كان القيام والانتصاب أقرب إليه قام ولا رجوع عليه، ويجبره بسجدتي السهو.

شرح حديث: (ليس على من خلف الإمام سهو)

شرح حديث: (ليس على من خلف الإمام سهو) قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلف) رواه الترمذي والبيهقي بسند ضعيف] يقول المؤلف: رواه الترمذي والبيهقي لكن بسند ضعيف، لكن عليه عمل الناس, والعامة يقولون: الإمام يحمل سهو المأموم؛ بمعنى: حينما تقع الصلاة جماعة فالمأموم مرتبط بالإمام، فإذا سها المأموم ولم يسه الإمام، فعلى المأموم أن يسلم مع الإمام؛ قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سلم فسلموا) ، لكن هل يسجد المأموم سجود السهو عن السهو الذي وقع منه وهو خلف الإمام بعد السلام؟ وهل يتصور أن يسهو المأموم خلف الإمام؟ نعم، فمثلاً: الإمام جلس في التشهد الأوسط، والجلوس معه إنما هو للتشهد، لكن المأموم يوقن في نفسه بأنه لم يتشهد سهواً، فتكون صلاة الإمام صحيحة لا سهو فيها، والمأموم قد وقع عليه سهو في ترك التشهد الأوسط، فإذا سلم الإمام فهل يسجد هذا المأموم سجود السهو لما سها عنه من تشهده؟ قالوا: لا، لأن الإمام يحمله عنه، ولو قلنا: إن سجود السهو ليس للتشهد ولكن للقيام معه؟ فبعض الأئمة كـ مالك يقول: إذا جلس يكفيه. ومثل هذا أيضاً إذا كان الإمام جلس للتشهد الأوسط، بينما بعض المأمومين قال: الله أكبر، وقام ناهضاً، وصار أقرب إلى القيام، فهل يرجع أو يظل قائماً؟ يجب عليه أن يرجع ويتابع الإمام، فيكون قد وقع منه سهو في القيام والجلوس، فهل يسجد لهذا السهو؟ قالوا: لا؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه الذي بين أيدينا. إذاً: إذا سها الإمام ولم يسه المأموم؛ كأن يكون بعد الركعة الثانية كبر وقام ونهض ولم يجلس للتشهد، وسبحوا له فرجع، وكان من حقه أن يستمر، فيكون قد سها في القيام وأخطأ في العودة، فيلزمه سجود السهو، فإذا سجد للسهو الذي وقع منه فعلى المأمومين أن يسجدوا متابعة للإمام، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (لكل سهو سجدتان)

شرح حديث: (لكل سهو سجدتان) قال المصنف رحمه الله: [وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) رواه أبو داود وابن ماجة بسند ضعيف] يختم المؤلف رحمه الله مباحث سجود السهو بهذا الحديث، ويتناول هذا الحديث مسألتين: المسألة الأولى: هل يتعدد سجود السهو بتعدد السهو؟ يعني: هل تعدد السبب يستوجب تعدد المسبب أو لا يستوجبه؟ المسألة الثانية: عند قوله صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو: (بعدما يسلم) من غير تفصيل فيما إذا كان السهو عن زيادة أو كان عن نقص. أما المسألة الأولى: إذا سها أكثر من سهو مثل أن يقوم ولا يتشهد التشهد الأوسط، وأسر في الجهرية، فهنا تعدد منه السهو، فهل يسجد لكل سهو سجدتين أم سجدتا السهو تجزئ عن كل النسيان الذي وقع منه في صلاته؟ الجمهور على أنه لو تعدد من المصلي أسباب سجود السهو، فإنه يجزئ عن ذلك كله أن يسجد سجدتين فقط، وقالوا: لهذا نظائر، كنواقض الوضوء، فلو أن إنساناً توضأ ثم أحدث حدثاً واحداً من نواقض الوضوء، فإنه يتعين عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأحدث عدة أحداث كل واحد منها يستوجب وضوءاً على حدة لو كان منفرداً. فبإجماع المسلمين إذا أراد أن يصلي لا يتوضأ بعدد الأحداث التي أحدثها، بل وضوء واحد يجزئه عن هذه الأحداث كلها، وله أن يصلي بهذا الوضوء، قالوا: كذلك أسباب سجود السهو إن تعددت، يكفي عنها سجدتان فقط. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل سهو سجدتان) فقالوا: هذا للجنس أياً كان السهو، فإنه يجزئه سجدتان، وما هي أنواع السهو؟ هذا فيه خلاف بين العلماء طويل جداً، ويذكر بعض العلماء فيه آثاراً ضعيفة، منها: (لا سهو إلا على من زاد قياماً أو نقص جلوساً ففيه السهو) ، ويحسن سجود السهو في القيام وفي تركه، وزادوا في ذلك أشياء كثيرة، فمن شاء فليرجع إلى كتب الفقه، فإنه سيجد أقوال العلماء فيما يستوجب سهواً أو لا يستوجبه. وإلى هنا انتهى المؤلف رحمه الله من نصوص السهو، ونعود إليها بالإجمال مرة أخرى فنقول: تقدم التنبيه عن أحمد رحمه الله أنه قال: المنصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود في خمسة مواطن: الأول: (إذا قام من ركعتين) ، الثاني: (إذا سلم من ركعتين) ، الثالث: (إذا زاد خامسة) ، الرابع: (من شك فليتحر) ، الخامس: (من شك فليبن على اليقين) . هذه هي النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء عنه السجود فيها تارة قبل السلام، وتارة بعد السلام. ونأتي إلى الأئمة رحمهم الله: فنجد أبا حنيفة رحمه الله أخذ بالحديث الأخير: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) فأخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأن كل سهو أياً كان سببه فإنه يسجد له بعد السلام لعموم هذا الحديث. وقال: إن السهو جبران, والجبران يكون بعد انتهاء الصلاة. وعند الشافعي رحمه الله: أن كل سهو يسجد له قبل السلام، وقال: جبران الشيء منه. ومالك عنده قاعدة عامة، وهي: ما كان سببه نقصاناً في الصلاة فيسجد له قبل السلام، وما كان سببه زيادة في الصلاة فيسجد له بعد السلام. وقال الإمام أحمد رحمه الله: الحالات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس حالات، فنسجد للسهو في تلك الحالات الخمس كما سجد فيها صلى الله عليه وسلم، وإذا حدث سهو بصورة مخالفة للصور التي جاءت عن رسول الله فنسجد لها قبل السلام. إذاً: الأكثر يرجحون أن سجود السهو قبل السلام. وقد تقدم أنه بإجماع المسلمين أن من سجد سجود السهو الوارد فيه بعد السلام فسجده قبل السلام، أو سجد سجود السهو الوارد فيه قبل السلام فسجده بعد السلام؛ فسجوده صحيح وصلاته تامة، يعني: أن ترتيب السجود قبل أو بعد إنما هو من باب التفضيل في الأعمال، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [3]

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [3] فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم صفوة الخليقة، فلا يجوز أن يساء إليهم، ولا أن يُقدح فيهم، ويجب الدفاع عنهم، والتحري والتثبت في القصص والأخبار التي تنقل عنهم، ورد القصص التي تتضمن الطعن والنقيصة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.

شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله)

شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ) رواه مسلم] . هاتان السجدتان لم يقل بهما مالك، ويرى أنه لا سجود في المفصل، والمفصل بعضهم يقول: إن أوله الحجرات، فيدخل تحته سورة النجم، والانشقاق، والعلق، فـ مالك يرى أنه لا سجود فيها. وإتيان المؤلف بحديث أبي هريرة يدل على أن السجود فيهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام مالك يقول هذا القول، فإنا نجد في المذهب المالكي ثلاث روايات: رواية تقول كما قال مالك. وراوية تقول: جميع الآيات الخمسة عشر كلها فيها سجدة، ما عدا الثانية من الحج. والراوية الثالثة تقول: جميع الآيات كلها بما فيها الثانية من الحج. إذاً: جاء عن مالك في الموطأ عدم السجود في المفصل، وأما عند العلماء المالكية فإنهم يذكرون في المذهب خلاف ما في الموطأ، وهي روايات عن مالك في غير الموطأ. فيكون مالك يثبت السجود في المفصل على بعض الروايات عنه.

شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود)

شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها) رواه البخاري] إذا أطلقت كلمة: عزيمة، فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح تقابلها الرخصة، ولكن المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها الحرص، وجاء فيها التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص) . يقول الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها والتحريض عليها والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها، وسيأتينا أن سورة الحج تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما) يعني: الآيتين اللتين فيهما السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد فيهما يتركهما، فالطلب هنا أشد منه في (ص) . قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص) ؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود عليه السلام توبة، وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا تبعاً لرسول الله. وقالوا: قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع اختلاف الاعتبارين: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فكانت استغفاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن سجدها اتباعاً واقتداء بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم. إذاً: سجدة (ص) تجمع بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين كونها سجدة شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي سجدة، ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟ ما دام صلى الله عليه وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)

شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم) قال المصنف رحمه الله: [وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سجد بالنجم) رواه البخاري] . يأتي المؤلف بهذا النص أيضاً في سجدة النجم بياناً للخلاف الذي وقع، فـ مالك رحمه الله لم يأخذ به. سجدة النجم قد جاء في خبرها قصة الغرانيق، وبعض الناس يطعن في قصة الغرانيق، ولكن أصل القصة موجود، وهو السجود، فسجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] إنما كان للتلاوة، وكان يقرؤها في مكة، فلما قرأ بها وكان المشركون حضوراً، فكل من كان حاضراً في المجلس يسمع سجد، سواء كان مسلماً أو مشركاً، وكان سبب سجود المسلمين اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سبب سجود المشركين فاختلق له بعض الناس قصة الغرانيق، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ} [النجم:19-22] إلى آخره، فالشيطان عند تلاوة ذلك قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) ، فلما سجد صلى الله عليه وسلم، قال المشركون: محمد ذكر آلهتنا بخير اليوم، ولم يذكرها بخير قط قبل ذلك، فسجدوا معه ظناً منهم أنه سجد لها في هذه الحالة، ولكن هذه القصة باطلة، وإذا جئنا إلى كتب التفسير نجد أن أغلبها قد ذكر هذه القصة، لكن يجب على الإنسان أن يحذر ويتحرى، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: كنت أقرأ للآية مائة تفسير وأقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، يقرأ مائة تفسير للآية! مع أن الله أعطاه من أداة العلم من أصول، ومن فقه، ومن لغة ومن إلى آخره الشيء الكثير.

بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود

بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض التفاسير، وإن كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم يسوقون بعض تلك القضايا على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي الله داود، ففي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] ، قالوا: النعجة كناية عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة واحدة، فأرسل داود زوجها إلى القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء، بل إن أنصاف المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا مراراً أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً، ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك كله؛ لأن في أول السياق يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] ، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) على سبيل التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا الأَيْدِ) وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات، فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا) ، والله لا يصطفي للعبودية الخاصة شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله معه، ثم ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو كان أعزب لا زوجة له لما فعل هذا. {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] ، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21] . {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص:26] ، بعدما بيّن القضية ما هي؟ {خَصْمَانِ بَغَى} [ص:22]- وإلى أين جاء الخصمان؟ {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21] ، دخلوا عليه وهو في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه. وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه المحراب يتعبد، ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس، فإذا باليوم الذي جعله للقضاء لا يكفي، فـ (تسوروا المحراب) ، وهل الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا، إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا في علم القضاء أن خصمين يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه تسع وتسعون نعجة ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل هذه تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع المظلوم: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] ؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف يأتي الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة، ومن غير إرسال إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟! قد تجد الآن قضية في عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد أن تتعدد الجلسات، وبعد أن ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة، فكيف بهذا؟! ثم: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22] ، وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية بينة من غير شيء. ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب، ونحن لم نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة وفصل الخطاب. لما أن علم ونطق بـ: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} هنا تنبه {وَظَنَّ} [ص:24] يعني: علم: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] ، وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فتناه في ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة الأساسية التي نصبه الله لها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء وبدأ بـ (الم) ، وصلى خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا لا يركع حتى يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت الكلمة إلى الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق، وقال: كذا وكذا، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان أنت يا معاذ!) . فـ معاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله، فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله لا يشق عليه، فهو بتلك اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل في الصلاة مع أهل قباء، فطول وشق على المأمومين. إذاً: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ} كانت فتنة داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض خلف الأسوار. أي الأمرين أولى: أن ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين الخصوم؟ الأولى أن يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة وفصل الخطاب. إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان عليه، ولذا ترك المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم. وتجد بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل الذي ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها على خطبة غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على خطبة غيره، ونحن منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) . وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا. وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال: (وقد سوّد كثير من المفسرين -أو قال بعض- في هذه القضية صحائف بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها) ، وسكت! فأقول: جزاه الله خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛ لأنها لا تليق بنبي من أنبياء الله. ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل التنزيل للسبكي؛ وهو كتيب صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي مع هذه القضية: لما كنت أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في أمهات كتب التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة لداود عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما جئت عند الاختبار واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية اللغة، وليست في الشريعة؛ لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً، فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم هذه ذكرها شيخ المفسرين، فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل بالتدريس يقرر القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له سياق السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء جديدة، فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله فيه خير، وعزمت على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو عليه، حتى لا أكون ضده، وأحتفظ بهذا لنفسي. ومن العجب يا إخوان! أن تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في الشرق الأوسط، وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به يعجب به إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى. يهمنا في هذا يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان. وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن المشركين عرب، وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول الله لسورة من كتاب الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء، فلما قرأ القرآن على الحاضرين، كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن وبعذوبة تلاوة رسول الله. ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول مرة فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع، وهو لم يعلم أنه قرآن أو غير قرآن. إذاً: للقرآن تأثير على القلوب، وقد سمعت الشيخ م

شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها)

شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها) قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) متفق عليه] . هذا الأثر الثاني: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) ، في الحديث المتقدم أنه سجد، وفي هذا الحديث يقول: لم يسجد، ومن هنا قال مالك بعدم السجود فيها، وبعض المالكية يقول: إنما سجد في مكة ولما هاجر إلى المدينة لم يسجد فيها، لأن راوي هذا الحديث زيد، هو مدني، والأول مهاجر من مكة. إذاً: الأخير ينسخ الأول، ولكن علماء الحديث يقولون: السجود ليس واجباً حتى يقال: المتأخر ينسخ المتقدم، وما دام أن الحكم هو الجواز فليس بلازم أن يسجد كلما قرأ، فيكون قرأ وسجد تارة، وقرأ وترك السجود تارة أخرى، والمثبت مقدم على النافي، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويفصل الموضوع فيقول: (إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، ولكن من سجد فقد أصاب - أي: أصاب السنة - ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، وسبب ذلك أن عمر قرأ آية السجدة على المنبر، فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم لما كان في الخطبة الثانية في الأسبوع الآخر، قرأ آية سجدة فتهيأ الناس للسجدة فلم ينزل وقال: (يا أيها الناس! إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا شيء عليه) . إذاً: عمر بنفسه سجد وترك، فهل نقول: ترك عمر نسخ للفعل الأول؟ لا، ليس نسخاً؛ لأنه قد بين أنه لم يفرض علينا، وإنما السجود دائر بين الفعل والترك على سبيل الجواز. إذاً: هذا الحديث لا ينسخ ما قبله، ولكن كما قدمنا مراراً أن من غايات المؤلف رحمه الله في تأليف هذا الكتاب بيان أدلة الأحكام عند الأئمة الأربعة، فمن قال: النجم فيها سجدة عنده الحديث الأول، ومن قال: النجم لا سجدة فيها عنده هذا الحديث الثاني، ومن جمع بين النصوص وأحكم فيها العمل، وأخضعها للقواعد عند المحدثين والأصوليين فسيخرج بنتيجة الجمع بين الأحاديث المختلفة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين)

شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين) قال المصنف رحمه الله: [وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) رواه أبو داود في المراسيل] . يأتي المؤلف بهذا الحديث أيضاً، وفيه أن سورة الحج فضلت بوجود سجدتين فيها، وهنا مسألة: هل يقال في سور القرآن وآياته: هذه السورة أفضل من تلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول: لا نفضل؛ لأن كله كلام الله. وبعضهم يقول: قد تختص هذه السورة بما لا تختص به تلك، وهذا كلام معقول، فمثلاً: آية الكرسي قالوا: هي أفضل آية في كتاب الله، لأنها تختص بصفات الله كما تقدم في الذكر بعد الصلاة، وكذلك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تختص بخصائص؛ لأنها محض صفات لله سبحانه، وهكذا الفاتحة تختص بأنها أم الكتاب؛ لأنها جمعت علوم القرآن كله، والقرآن جمع علوم الكتب قبله، فالفاتحة جمعت كل كتاب منزل من السماء. ويقول بعضهم: لا مانع أن يقال: الكل فاضل، وهناك أفضل، فليس هناك ناقص بل الكل فاضل، فكما تفاضلت الرسل كذلك تتفاضل السور، وكذلك تتفاضل الآيات، ومما فضلت به -أي: خصت به- سورة الحج أن فيها سجدتين، فلا يوجد سورة تجمع سجدتين إلا سورة الحج، وقد أتى بهذا المؤلف؛ لأن هناك خلافاً في السجدة الثانية من سجدتي سورة الحج، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يعتبرها إلا إذا قرأ بها في الصلاة، أما خارج الصلاة فلا يعتبرها سجدة. إذاً: المؤلف رحمه الله يسوق لنا مواضع الاختلاف في سجود التلاوة.

شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها)

شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها) قال المصنف رحمة الله: [ورواه أحمد والترمذي موصولاً من حديث عقبة بن عامر، وزاد: (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) ، وسنده ضعيف] . في هذه الزيادة تنبيه وهو: أن من لم يسجد السجدتين في سورة الحج فلا يقرأها، يعني: لا يقرأ السورة، والرواية الأخرى: (فلا يقرأهما) يعني: آيتي السجدة. وهنا بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا النص، هل يجوز للإمام أن يقرأ في الصلاة ما شاء من آيات السجدة على غير عادة منه مع الناس؟ مالك رحمه الله يقول: لا يجوز للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في الصلاة الجهرية ولا في السرية ليسجد بنفسه؛ لأنه إن قرأ سراً بآية سجدة فسجد، فالناس لا يعلمون لماذا سجد، وإن قرأ في الجهرية سورة فيها سجدة، فقد يسمع البعض ويعلم حكم السجدة في تلك السورة فيسجد، والبعض قد لا يعلم حكم السجدة فيها أو لا يسمع فلا يسجد، فيكون هناك اضطراب، وقد يقرأ الإمام السورة التي فيها السجدة ولا يسجد؛ لأنه غير ملزم، ولكن المأموم يعلم أنها موضع سجدة فيسجد ظناً منه أن الإمام قد سجد، إذاً: فيحصل الاضطراب، ولهذا قالوا: لا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة على غير وفاق من المجموعين، والآن يعلم الناس مشروعيتها. ولا ينبغي أن يقرأ بها الإمام، والكل يعلم أن فيها سجدة، ويمر دون أن يسجد؛ مخافة أن يسجد المأموم لسماع آية السجدة ويكون الإمام لم يسجد، فإن كان يريد أن يسجد فيها فليقرأ وليسجد، وإن كان لا يريد أن يسجد فيها فلا يقرأها؛ لئلا يوقع ارتباكاً عند الناس.

حكم تخصيص قراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة

حكم تخصيص قراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة يأتي هنا سؤال: لماذا خصت سورة السجدة بصلاة الفجر يوم الجمعة؟ ينص ابن تيمية رحمه الله وغيره من الأئمة؛ أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، ويوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه جاء في النصوص أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم الجمعة، وأسجد الملائكة يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وتلقى الكلمات من ربه فتاب عليه يوم الجمعة، ثم جاءت الأحاديث بأن (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) ، ويوم الإثنين جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل فقال: (أما يوم الإثنين فيوم ولدت فيه وأنزل علي فيه) ، وسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] نزلت في يوم الإثنين، وهجرته ودخوله المدينة في الهجرة كان يوم الإثنين، ووفاته صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين؛ فقالوا: يوم الإثنين يوم محمد ويوم الجمعة يوم آدم، فتأتي سورة السجدة، والإنسان معها وفيها قصة الإنسان، ويوم البعث، وكذلك فيما ذكر الدهر: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:1-2] ، ويأتي فيها بيان الموعد ويوم القيامة والمصير؛ فقالوا: هذا يوم خلق آدم فتُقرأ السورتان تذكيراً للمأموم بيوم القيامة وببدء وجود الإنسان؛ ليعمل لذلك اليوم، فكانت هناك المناسبة لقراءة سورة السجدة؛ لأن فيها خلق الإنسان، والبعث والمعاد والجزاء، وكذلك سورة الإنسان؛ لأن البعث والمعاد يوم الجمعة وهذه صبيحة الجمعة، هكذا يقولون. إذاً: من لم يسجدهما فلا يقرأها، وعليه أن يتجنبهما ويتركهما. ومما ينبه عليه العلماء أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمد إلى نص السجدة ويقرأها، مثل: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ، ويسجد، بل يجب عليه أن يأتي بما قبلها.

حكم السجدة إذا كانت في آخر السورة

حكم السجدة إذا كانت في آخر السورة ومن الأحكام: لو أن السجدة كانت في آخر السورة وقرأها في الركعة فسجد، فسيكون السجود عند التلاوة قبل الركوع، فكيف يأتي بالركوع: أينهض من سجوده راكعاً، أو أنه يقف معتدلاً بعد السجدة ثم يركع؟ قالوا: إن صادف في قراءته آية سجدة في نهاية السورة فسجد لها نهض واستوى قائماً؛ لأن الركوع لا يكون إلا من قيام لا من هبوط في الأرض، فإذا استوى قائماً يقرأ من السورة التي بعد السجدة بعض الآيات ويركع عن قراءة وقيام، والله تعالى أعلم.

شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)

شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) قال رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) رواه البخاري] . بإجماع العلماء أن سجود التلاوة ليس بواجب؛ ولكن كما أشار عمر رضي الله تعالى عنه: أن من سجد فقد أصاب، إذاً: الصواب هو مطلب كل إنسان، وأيضاً لو تتبعتم -يصعب علي تتبعه الآن- مواضع السجود الخمسة عشرة في كتاب الله تجدون أنها إما عند إعظام المولى سبحانه، أو إعظام كتابه الكريم، أو تنويهاً بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت ما قبل آية السجدة في الخمسة عشرة موضعاً فستجد ما يوجب السجود ولو لم يأت الأمر به. أي: ستجد إعظاماً لله، أو إكراماً وتعظيماً لكتاب الله، أو تكريماً لرسول الله وللدعوة في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى أعلم. ونذكر بعض النماذج على ذلك، ففي أول سجدة في سورة الأعراف، تجد أن السجود هناك يتعلق بسجود الملائكة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] ، والآية التي قبلها قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] ، وقبلها: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] ، فهناك الأمر باستماع القرآن، وهناك الأمر بذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ} يعني: هناك قوم تشبه بهم: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وهم الملائكة لا يفترون عن ذكر الله، ولا يستكبرون عن السجود، وقد استكبر من استكبر، وطرد بسبب استكباره، فلا تستكبر أنت وبادر إلى السجود. وهكذا -أيها الإخوة- لو تتبعنا كل مواطن السجود الخمسة عشرة في كتاب الله لوجدنا المعنى والسياق يدعوك لأن تسجد طواعية وإعظاماً لله سبحانه، والله تعالى أعلم. قوله: [وفيه: (إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشأ) وهو في الموطأ] . وهذا الأثر هو سبب كتابتي رسالة: (سجود التلاوة) ؛ لأنا لما مررنا على هذا الأثر في الموطأ ونحن طلبة متأخرون، حاولت أن أجد رسالة مجموعة في سجود التلاوة فلم أجد، لا للمتقدمين ولا للمتأخرين، ولكنهم ينبهون عليها منثورة في سور القرآن كاملة، ولكن مباحثها، والخلاف فيها، والراجح في ذلك، وأحكامها الفقهية؛ لم أجد شيئاً من ذلك، فحاولت بقدر المستطاع تقريباً لنفسي ولإخواني أن أجمع فيها رسالة فجمعتها بعنوان: (سجود التلاوة) ، وإن شاء الله من يحصل عليها سيجد كل ما يخطر بباله من مباحث سجود التلاوة من مواضعها المتفق عليه والمختلف فيه، وقد يكون الخلاف في السجدة في موضعها: هل هو في هذه الآية أو التي قبلها، وقد يكون الخلاف في أحكامها الفقهية: هل تكون بطهارة أو بغير طهارة، وهل تكون بسلام أو بغير سلام، وسيأتي هذا وننبه أن الرسول كبر فسجد.

شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)

شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) رواه أبو داود بسند فيه لين] . هنا جاء المصنف بجزئية من الأحكام الفقهية المتعلقة بالسجدة، وهي في قوله: (كبر وسجد) ، هو يقرأ وليس في صلاة، فلماذا كبر؟ بعضهم يقول: هي تكبيرة للانتقال؛ لأنه انتقل من القراءة إلى السجدة. وبعضهم يقول: هي تكبيرة إحرام، فيكبر للسجدة كما يكبر لدخوله في الصلاة. ومن هنا قالوا: هل يسلم أو لا يسلم؟ وهل هي صلاة أو ليست بصلاة؟ والجمهور بصفة عامة يقولون: إن سجدة التلاوة صلاة، بمعنى: أنك تكون على طهارة، وتستقبل القبلة، مع ستر العورة، وأن تكون في غير أوقات النهي، ومن عجب! ما ينقل عن ابن حزم -وقد نقلناه في الرسالة- أنه يقول: إن سجدة التلاوة لا يشترط لها شيء، ويقول: أنتم تقولون: فيها تكبير، والتكبير في كل وقت، فإذا قلتم: فيها تكبير كتكبير الصلاة، فالصلاة فيها قيام وقعود، فهل تقولون بالسجود أو بالتكبير أو بالسلام لكل قيام وقعود؟ وأنا أستعجب من عقلية هذا الإمام الكبير أن يجعل القيام والقعود كالتكبير للسجدة، فالسجدة خاصة بالصلاة، ولا توجد سجدة في غير صلاة، أما التكبير فنجده في كثير من العبادات: نجده في الذكر بعد الصلاة، نجده عند رمي الجمار، نجده عند أيام العيد، فسبحان الله! بل حتى إذا شب الحريق نكبر، وإذا لقينا العدو نكبر، فالتكبير ليس خاصاً بالصلاة، وكذلك القيام والقعود ليس خاصاً بالصلاة، بل يأتي القيام والقعود للأكل والنوم والمشي والروحة والمجيء. إذاً: هذه التي ذكرها ليست من خصائص الصلاة فلا تعطى أحكامها، وأما السجود فلا يوجد سجود إلا في الصلاة، فسجدة التلاوة تشابه سجدة الصلاة، وقد تجمع السجدة بين الأمرين: بين الصلاة وبين التلاوة، كما لو تلا سورة فيها سجدة، فسجد وهو في الصلاة، فتكون جزءاً من الصلاة للتلاوة. إذاً: قياس غير السجدة عليها ليس موافقاً، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [4]

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [4] إن من أسباب دوام النعم الشكر، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، ومن الشكر للنعمة السجود للمنعم عند حصولها، كما يشرع لمن أنعم الله عليه بنعمة إظهارها فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما يشرع له بذلها لمن يحتاجها على حسب الاستطاعة.

شرح حديث: (كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجدا لله)

شرح حديث: (كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) رواه الخمسة إلا النسائي] . يروي هذا الصحابي الجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استجد له أمر يسره، أو جاءه أمر يسره سجد لله شكراً. وسجود الشكر يكون على نعمة تتجدد أو نقمة تدفع -أي: لمجيء خير أو لدفع شر-، وهذان العنصران -مجيء الخير واندفاع الشر- هما مطمع جميع العقلاء في العالم، قديماً وحديثاً، فالإنسان أياً كان اتجاهه أو منهجه أو ديانته، لا يتحرك ولا يعمل ولا يسعى إلا لتحقيق أحد هذين الغرضين؛ إما أن يجلب نفعاً لنفسه، أو يدفع ضراً عنها، ولهذا قيل: لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء غيره الدهر ساعياً وقال آخر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع ينفع نفسه وصديقه وأهله، ويضر خصمه وعدوه، والذي لا يستطيع أن ينفع ولا يستطيع أن يضر فهو في حكم العدم، ولذا عاب الله على المشركين عبادة الأصنام فقال سبحانه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72-73] ، هل جاءكم منهم نفع فتعبدونهم طمعاً في نفعهم؟! وهل يدفعون عنكم ضراً فتعبدونهم ليدفعوا الضر عنكم؟! إذا كانوا لا ينفعونكم ولا ترجون نفعهم، ولا يضرونكم ولا تخشون مضرتهم، فلماذا تعبدوهم؟! يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تجددت له نعمة -أي: جاءه شيء يسره- سجد شكراً لله. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً كما ذكره صاحب المنتقى بشرح الشوكاني: (أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة، فوصل إلى موضع بسام أو إلى جهة الجحفة فسجد سجدة طويلة، ثم نهض ورفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد الثالثة، فقيل له في ذلك، قال: سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها فسجدت شكراً لله، ثم قمت فسألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها الثاني فسجدت شكراً لله، ثم سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني الثلث الثالث فسجدت شكراً لله) ، هذا العطاء لا شك أنه عظيم، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى أن: (لكل نبي دعوة مستجابة قد عجل له بها، وادخرت دعوتي عند الله شفاعة لأمتي) ، ونحن نعلم جميعاً أن الشكر على النعمة من عوامل حفظها، والله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا أن من حق المولى المنعم أن يُشكر فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] . وهذا دعاء وتعليم للإنسان أن يشكر الله على نعمته، وكما جاء في الحديث: (إن الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، ونحن في قانون البشر، لو أن لك خادماً أو مملوكاً وأنت تحسن إليه وتعطيه كل ما يحتاجه وزيادة حتى يكون في خير حالة، ولكنه يخفي هذا، ويظهر بمظهر من لا شيء عنده، فيقال لك: يا فلان! أهملت خادمك، وبخلت عليه، فتقول: لا والله! أنا قد أعطيته وأعطيته ولكنه لا خير فيه، ولا يثمر فيه معروف. في غزوة تبوك نزلوا منزلاً، وجاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغرارة فيها قثّاء، فقدمه لرسول الله فأكل ثم قال: (من أين لك هذا؟) قال: جئت به معي من المدينة، فخرج غلام له ليذهب إلى الإبل وعليه ثياب رثة، فقال: (أليس عنده ثوب خير من هذا؟) قال: بلى عنده في الغرارة، فدعاه وأمره أن يغتسل، وأن يلبس الثوب الجديد، فلبسه فقال: (ضرب الله عنقه أليس هذا خير من ذاك؟) فسمعها الغلام وقال: في سبيل الله يا رسول الله! قال: (في سبيل الله) ، فضربت عنقه في سبيل الله في تلك الغزوة. ونحن ننبه أن العادة في البر أن يلبس الإنسان الثياب العادية؛ لأنها معرضة للتراب وللشق ولكذا ولكذا، وإذا جاء عند الناس يلبس الشيء الفاضل: كما فعل سيد عبد القيس، عندما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة أسرع الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب السفر، فجلس هذا عند الإبلن وعقلها، وجمع الأمتعة، وأخرج عيبته، وأخرج منها أحسن حلة عنده، فلبسها وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن حال، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً من بعيد، وسع له بجانبه، وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. فقال: خلق تخلقت بهما أم جبلة جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلة، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) . يهمنا أنه عند مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج أحسن ثيابه، ولكن هذا الغلام لم يتركه صلى الله عليه وسلم في ثياب السفر وثياب البر والبادية؛ لأنه يعاني الإبل، ونحن نعلم أن من أساليب الحرب المظاهر، وقد أباح الإسلام في ميدان القتال وأرض المعركة ما لم يبحه في أرض السلم وعدم القتال: فأباح لبس الحرير، وأباح التحلي بالذهب في السلاح، وأباح البخترة في المشي كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأن العدو إذا رأى خصمه في أبهة النعمة، ومظاهر الخير، انكسرت نفسه، وقال: هذا إنسان واقف بنفسه، شبعان بخيراته، أما إذا رآه ضعيفاً هزيلاً رث الهيئة، فسيزدريه بنظره، فيتقوى عليه بنفسيته.

شكر النعم سبب في دوامها وزيادتها

شكر النعم سبب في دوامها وزيادتها إن إظهار النعمة فيه شكر للمنعم، وسبب في دوامها، فشكر النعم موجب لزيادتها، ونحن نعلم جميعاً قصة الثلاثة النفر الذين كانوا قبلنا، يقول صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ثلاثة نفر: أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم، فأرسل الله ملكاً إلى الأول فقال: يا هذا! ما هذا الذي أراه بك؟ قال: ابتلاء، قال: ماذا تريد وتحب وتتمنى؟ قال: أتمنى أن يعافيني الله من هذا البلاء الذي استقذرني الناس بسببه؛ فمسحه فإذا به معافى، قال: ماذا تحب من النعم؟ قال: الإبل فأعطاه شيئاً من الإبل ودعا له بالبركة فيها، ثم أتى إلى الثاني، قال: ما هذا الذي أراه بك، قال: ابتلاء، قال: ماذا تريد؟ قال: أسأل الله وأتمنى على الله أن يذهب عني هذا الذي تجنبني الناس بسببه، فمسح عليه فعافاه الله، فقال: ماذا تحب؟ قال: البقر فأعطاه، وجاء إلى الأعمى فقال: من متى أنت كفيف البصر؟ قال: من كذا، قال: وماذا تريد؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فمسح عينيه فأبصر، قال: ماذا تريد من النعم؟ قال: الغنم، فأعطاه وصبر على الثلاثة مدة؛ ثم جاء إلى الأول على الصورة التي كان عليها، جاءه في صورة رجل أقرع مستقذر، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بعيراً أتبلغ به في طريقي؛ لأني منقطع وابن سبيل، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله! فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، فرجع كما كان، وذهب عنه ماله، وجاء إلى الثاني كذلك، وجاء إلى الثالث وقال له: غنيمات أتبلغ بها في الطريق، قال: اذهب فخذ ما شئت، ودع ما شئت، والله! لقد كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أرد أحداً أخذ شيئاً لله أبداً، قال: أمسك عليك نعمك، واحمد الله على ما أنعم عليك، وشكرت نعمة الله عليك فدامت لك، أما صاحباك فقد أنكراها وتنكرا لها؛ فأذهبها الله عنهما) . إذاً: شكر النعمة يحفظها، ومن هنا جاءت النصوص في كتاب الله وفي سنة رسول الله بالحث على شكر النعمة لأي نوع من أنواعها، وأعظم نعم الله على الإنسان هي نعمة الإسلام، بل هي أعظم من نعمة وجوده في الدنيا.

النعم التي لا كسب للإنسان فيها

النعم التي لا كسب للإنسان فيها يقول العلماء: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، بل هي محض إنعام من الله عليه: الأولى: إيجاد الإنسان من العدم فأنت -أيها الإنسان- قبل أن توجد إلى الدنيا طفلاً؛ ماذا عملت حتى جئت إلى الدنيا؟ لم تعمل شيئاً، فإن قلت: أبواي عملا، نقول لك: على رسلك، أبواك سعيا لقضاء حاجتهما، ولكن هل كل التقاء رجل بامرأة يأتي منه ولد؟ لا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] إذاً: إتيان الإنسان إلى هذا الوجود نعمة من الله لا كسب له فيها. النعمة الثانية: نعمة الإسلام، فالإنسان إذا كان مسلماً، ولو كان له ألف جد في الإسلام، فإن الإسلام نعمة من الله عليه، وقد رأينا الذين عاشروا عصر الرسالة والدعوة، فمنهم من أسلم، ومنهم من مات على الكفر؛ فهي منح من الله، وكما نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) فاختار الله عمر بن الخطاب على أبي جهل عمرو بن هشام. إذاً: كان هناك اختيار من الله، وقضية إسلام عمر مشهورة. وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وكما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسان أو ينصرانه) . إذاً: أنت حينما ولدت، وقدر الله مجيئك إلى الدنيا، هو الذي قدر مجيئك بين أبوين مسلمين، أو نصرانيين، أو يهوديين، فالمولود الذي يولد بين أبوين مسلمين؛ هل كان له كسب في هذا الاختيار؟ وهكذا المولود الذي ولد بين أبوين نصرانيين: هل كان له كسب اختيار الأبوين؟ ليس لأحد في هذا اختيار. إذاً: كل هذا من عند الله، وكونك تولد من أبوين مسلمين؛ أول ما يطرق سمعك: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، قد قامت الصلاة، لأن المولود عند ولادته يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، وأن تقام الصلاة في أذنه اليسرى، فاختيارك بين أبوين مسلمين، نعمة أعظم عليك من نعمة ولادتك؛ لأن من ولد بين أبوين غير مسلمين يتمنى لو لم يكن وجد، كما قال الله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، ولكن المسلم موته امتداد لحياة أخرى. النعمة الثالثة: دخول الجنة كما جاء في الحديث: (والله! لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، يقول العلماء في هذا: والأعمال هذه التي عملها الإنسان في عمره إذا كان عمره عشرين، أو خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة، من صيام وعبادات، قالوا: هذه لا تعادل نعمة الأعضاء التي في جسمه، مدة ستين أو سبعين سنة، أذنه يسمع بها ستين أو سبعين سنة، قلبه ينبض في صدره ستين أو سبعين سنة، ولم يدفع في هذا أي مقابل، قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فلو قابلنا عبادته بما أنعم الله عليه في نفسه وفي جسمه؛ لما وفى حق جسمه الموجود، فضلاً عن نعمة الإسلام التي لا يوازيها شيء. إذاً: عمله لا يوازي أن يكون ثمناً للجنة، وإنما هي منحة من الله سبحانه، وأما قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ، فكما كنا نسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: المهم هو دخول الجنة بفضل من الله، فإذا دخلوا الجنة فهناك يختصمون كيف شاءوا، ولكن المهم بطاقة الدخول، كما لو كان عندنا مثلاً وليمة ترسل فيها بطاقات يكتب في أسفلها: الرجاء عند الحضور إبراز هذه البطاقة، فإذا دخلت بالبطاقة هل هو محضور عليك موطن من مواطن الدعوة؟ الجواب: لا، المهم أنك قد اجتزت بالبطاقة؛ لأن البطاقة أتتك من صاحب الوليمة وصاحب الدعوة والاحتفال، تفضل بها إكراماً لك أن تحضر هذا الحفل، فإذا حضرت لا يحضر عليك فاكهة ولا طعام ولا شيء مما هو في الوليمة، ولله المثل الأعلى، فقالوا: دخول الجنة فضل من الله، وقالوا: كل إنسان من بني آدم له مقعدان؛ مقعد في النار إذا كفر، ومقعد في الجنة إذا أسلم، كل واحد من جميع الأمم، وهذا يؤيده الحديث: (إذا مات ابن آدم، ووضع في القبر، إن كان مسلماً فتح له باب إلى النار فيقال: هذا مقعدك لو لم تسلم ثم يقفل عنه، ويفتح له باب من الجنة يقال: هذا مقعدك يوم القيامة فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، -والعكس- إذا كان كافراً فتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا مقعدك لو آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له الباب الثاني فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) ، وكما في الحديث الآخر: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . إذاً: كل إنسان له مقعد مهيأ في كلا الدارين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ فمقاعدهم في النار هل تكون خالية أو أن أحداً يحل محلها؟ وإذا دخل أهل النار النار فمقاعدهم في الجنة هل تكون خالية أو أن أحداً ينزلها؟ الجواب: لا تكون خالية، إنما بعد أن يستقر كل فريق في منزله -نسأل الله العافية والمعافاة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجيرنا وإياكم من النار- فتلك الأماكن التي خلت من أهلها في الجنة، وذهبوا عنها إلى النار، تقسم على أهل الجنة، وهل تقسم على مبدأ المساواة؟ الجواب: لا؛ لأن أهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، وإنما (بما كنتم تعملون) ، فمنهم من يعطى مقعدين، ومنهم من يعطى ثلاثة؛ لأنه في درجة عالية، ومنهم من يحصل على مقعد واحد، ومنهم من لا يأخذ شيئاُ، ويكتفي بمقعده فقط، كما ورد في خبر آخر من يدخل الجنة: (آخر من يخرج من النار رجل يقول: يا رب! قربني من الجنة، وباعدني من النار، ولا أطلبك شيئاً غيره، فيقول له: لك مثل الدنيا ومثله معه ... ) . إذاً: هذا الميراث أو التوارث إنما هو على درجة الأعمال بعد أن يستحقوا الدخول، أما قبلها فالدخول فضل من الله، وقد جاء في الحديث ويذكره العلماء في باب الشفاعات من كتب العقيدة: (أول من يطرق باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول خازن الجنة: من؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: نعم أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) . إذاً: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، وهناك نعم أخرى قد لا يكون لك كسب فيها، بل تكون منحة من الله، كما جاء في الحديث الثاني: (جاءني جبريل فبشرني - بماذا بشره؟ - بأن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، هل هذه من عند رسول الله؟ الجواب: لا، وإنما هي منحة من المولى سبحانه وتعالى، وتكريماً له ولأمته في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: سجود الشكر من دواعي الاعتراف بالنعمة، وإذا تأملنا تعداد النعم على المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن في آخرها السجود: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3] ، وقد كنا دائماً نتأمل في أنواع القسم في القرآن وظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن كل قسم مع المقسم عليه بينهما ارتباط وثيق جداً، وهذا حري بأن يبحث بحثاً علمياً متقصياً، وعلى سبيل المثال:

المناسبة بين القسم والمقسم به في القرآن الكريم

المناسبة بين القسم والمقسم به في القرآن الكريم إن الله سبحانه وتعالى أقسم بالنجم في سورتين، على مقسم عليهما مختلفين، فقال سبحانه في سورة الواقعة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ، أقسم بمواقع النجوم، وأين مواقعها؟ مواقعها في السماء: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ} [الواقعة:76] ، أي: أن القسم بمواقعها وبُعدها وحفظها وصيانتها عظيم جداً {إِنَّهُ} [الواقعة:77] ، أي: المقسم عليه {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] ، (في) ليس فقط قران كريم، وإنما: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] ، ونأتي إلى القسم الثاني في سورة النجم، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، انظر أين المواقع! {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا} [النجم:1-8] ، النجم هو النجم ولكن القسم الأول بمواقعه، وكم بعد مواقع النجوم، وهل تستطيع قوة من جن أو إنس أن تصل إلى مواقع النجوم؟ وإذا وصلت؛ هل تستطيع أن تغاير في مواقعها؟ الجواب: لا تستطيع، فكما أن مواقع النجوم بعيدة كل البعد عن اللمس والاقتراب والتغيير والانحراف؛ فإن القرآن الكريم في صيانته وحفظه عن التغيير والتبديل كذلك، ولهذا قال سبحانه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] أي: الملائكة، إذاً: بين القسم بمواقع النجوم وبين القرآن المكنون في اللوح المحفوظ مناسبة. نأتي إلى القسم الثاني: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} هوي النجم حركته، وهوي النجم عند العرب هو مثل الساعة الإلكترونية عندنا، كانوا يقيسون به الزمن ليلاً في الظلام كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، فالنجم هو الهادي لهم في ظلمات البر والبحر، والسالك الساري على ضوء النجم في سريانه وهويه لا يضل لا في بر ولا في بحر، فلكأنه يقول: نجمكم محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} كما لا يضل المهتدي بالنجم في هويه، فهل بينهما مناسبة أو لا؟ الجواب: بينهما مناسبة، بل -والله- إنها لمناسبة قوية، وهكذا لو تتبعنا كل قسم في كتاب الله لوجد أن بين القسم والمقسم عليه مناسبة، وبهذا نعلم معنى كلام المفسرين جزاهم الله خيراً: الله يقسم بما شاء على ما شاء، ولا يجوز أن يقسم العبد إلا بالله، وإذا أقسم الله بشيء من مخلوقاته فإنما يقسم به لدلالته على قدرته، فلو جئنا بقسم النجوم في مواقعها إلى قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} فهل يتناسب معه الجواب؟ لا يتناسب معه فالمسألة ليست مجرد دلالة على عظمة الله ولكن لها دلالة خاصة في موضوعها. وإذا جئت أيضاً إلى البلد في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1-4] ، وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1-4] ، سبحان الله! الإنسان في أحسن تقويم وهو في كبد، والموضوع هذا يأخذ علينا شيئاً طويلاً، وأرجو الله سبحانه أن يهيئ أحد طلبة العلم ليتتبع هذا في كتاب الله، وألا يتقيد بأي تأليف قديم، وإن كان يستنير ويستفيد مما تقدم في التوجيه فهذا خير كثير، ولكن ينظر إلى الربط بين القسم والمقسم عليه به ويستخلص ما بينهما من مناسبة. ونرجع إلى قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، الضحى بالنسبة للزمن هو في النهار، فجاء بأفضل الأوقات وأهدئها وأنسبها وأطيبها من طلوع الشمس إلى غروبها، وهو: وقت الضحى؛ ولذا كانوا يمتدحون النساء في العرب، ويقولون: نئومة الضحى يعني: في أطيب الأوقات تنعم بالنوم ولا تشتغل مثل الشاغلات {وَالضُّحَى} يقسم المولى بأطيب وأنسب وأحسن الأوقات الزمنية في النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] الليل الساجي هو الهادي الذي يغطي بظلامه دونما عواصف ولا رعود، بل هو شاجٍ كما يقال: الطرف الشاجي أي: الهادئ الناعس إذاً: يقسم الله بخيري الزمن، ووحدة الزمن هي حياة الإنسان: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ، بل أنت في أحسن حالة عنده كأحسن حالتي الزمن ليلاً ونهاراً، كأنه يقول: أنت في وداعة وفي لطافة وفي إحسان من الله طيلة الزمن ليلاً ونهاراً: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:3-5] ، وهل بقي عطاء أكثر من هذا؟ حتى جاء أنه قال: (لا أرضى أحداً من أمتي في النار) ، ولاحظوا بهذه المناسبة قصة أبي بكر الصديق: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-21] ، انظروا المشاركة هنا في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} ، وهذه منزلة أكبر من قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9-11] ، أي نعمة أنعمها الله عليك، سواء من نعم الدنيا، أو من نعم الرسالة، أو من نعم الآخرة. إذاً: المولى سبحانه وتعالى يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم نعمه، ثم يبين له شكرها من نوعها.

أنواع شكر النعمة

أنواع شكر النعمة يقولون: شكر النعمة إما أن يكون بعين النعمة، مثل إذا أنعم الله عليك في مزرعتك بثمار وخيرات، فشكر تلك النعمة أن تطعم المحروم منها، وأنتم تعلمون قصة أصحاب الجنة وما كان يفعله أبوهم، ثم جحدوا ذلك وتعاهدوا: {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] إلى قوله: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:24-25] ، فجحدوا النعمة التي كان أبوهم يشكرها، وكان يستثني للمساكين حقهم، فلما جاءوا وبخلوا بها: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] . وتعلمون قصة صاحب المزرعة التي جاءت في حديث: (كان رجل يمشي في فلاة من الأرض، فمرت سحابة فسمع صوتاً يقول: اذهبي فأمطري واسقي مزرعة فلان! انظر الحديث (في فلاة) يعني: ليس عنده أحد حتى يتوهم بأن هذا الصوت جاء من يمين أو يسار- فمشى في ظل السحابة حتى جاءت إلى حرة ووقفت وأمطرت، فتجمع الماء من الحرة في شرجة، وتتبع الماء فإذا رجل يحول الماء في حياض مزرعته، فقال له: يا فلان! فقال: كيف عرفت اسمي وأنت لست من أهل الديار؟! قال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: وما شأنك؟ قال: الذي أسمعني اسمك، قال: وماذا سمعت؟ قال: كذا وكذا، قال: نعم أما إني أحصد الثمر وأقسمه ثلاثة أقسام: قسم أقتات به أنا وعيالي طيلة العام، وقسم أرده فيها بذراً، وقسم أتصدق به، قال: بهذا سقيت) . إذاً: هناك: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} كان الجزاء: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} ، وهنا صاحب المزرعة لما كان يقسمها أثلاثاً ويتصدق بالثلث كان الجزاء أن سقاها الله بالسحابة، إذاً: شكر النعمة قد يكون من عينها. ولهذا يقولون أيضاً: من شكر النعمة بعينها أن تعين أخاك فيما تعرفه وهو لا يعرفه وفي الحديث: (وأن تعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها صدقة) ؛ لأنه في حاجة إلى نعمة العافية التي عندك فتستخدمها في حمله على الدابة، تفيض عليه بزائد طعامك، بزائد مالك، تنصحه، تعلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل يسلخ شاة وهو لا يعرف السلخ فقال: (ألا أريك! وكشف عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده الشريفة بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا فافعل) ، لا يعلم الناس كل شيء، فما تحسنه علمه أخاك، وكذلك طالب العلم إذا أنعم الله عليه بشيء فليبذله ولا يكتمه، وهكذا إذا استنصحك إنسان وأنت تعلم الحقيقة فعليك أن تنصح وأن تبين، وهكذا قد يكون شكر النعمة بعينها وقد يكون باللسان إلى غير ذلك، ومن ذلك السجود لله شكراً على هذه النعمة. ومما وقفنا عليه: أن النجاشي رضي الله تعالى عنه استدعى المهاجرين الأولين الذين كانوا عنده فجاءوا إليه، فلما دخلوا عليه وفداً فزعوا لما رءوه في ثياب رثة، حاسر الرأس، وجالساً على التراب، وليس على فراش، فقال له جعفر: ما هذا أيها الملك؟ ماذا حدث؟ فقال: إن نبيكم محمداً لقي عدوه من العرب بأرض يقال لها بدر، وأنا أعرف ذلك الوادي، فهو كثير الأراك، وقد كنت أرعى به إبلاً، وقد نصره الله على عدوه، وإن مما أنزل على عيسى عليه السلام: إن الله يحب من عبده إذا أحدث له نعمة أن يحدث له تواضعاً وشكراً، فهذا الذي تراه مني تواضعاً لله وشكراً لله على نصره محمداً على عدوه، ففرح الصحابة، وقد كانوا خائفين من حدوث شيء. إذاً: شكر النعمة بالتواضع وبالسجود وبإظهار المذلة والفاقة والحاجة أمر قديم مما أنزل على عيسى وعلى غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام فأطال السجود.

شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام فأطال السجود ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال: إن جبريل أتاني فبشرني فسجدت لله شكراً) ، رواه أحمد وصححه الحاكم] . وهذا يشهد له حديث التأمين ثلاثاً عند أن صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر وكان ثلاث درجات فقال: (آمين، وفي الثانية: آمين، وفي الثالثة: آمين، فسئل فقال: أتاني جبريل عند الأولى وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين. فقلت: آمين. والثانية: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة، فقل: آمين. قلت: آمين. رغم أنف امرئ أدرك رمضان وخرج فلم يغفر له، وفي بعض الروايات: باعده الله من النار، فقل: آمين. فقلت: آمين) ، وفي الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، فهذه نعمة قابلها بأن سجد لله شكراً عليها.

شرح حديث: (سجود النبي عليه الصلاة والسلام عندما بلغه إسلام أهل اليمن)

شرح حديث: (سجود النبي عليه الصلاة والسلام عندما بلغه إسلام أهل اليمن) قال المصنف رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعث علياً إلى اليمن، فذكر الحديث. قال: فكتب بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجداً شكراً لله تعالى على ذلك) رواه البيهقي وأصله في البخاري] . وهذه نعمة كبرى بأن قطراً بكامله يسلم حينما أرسل إليه علياً، وكان قد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً وأميراً وقاضياً، وفي قصة القضاء: (قال: ترسلني وأنا حدث السن قال: لا تقضي بين اثنين حتى تسمع من الثاني كما سمعت من الأول، قال: فعلمني القضاء آنذاك) ، إلى آخره، وشبيه بهذه القصة قصة الصديق رضي الله تعالى عنه، عند أن جاءه خبر مقتل مسيلمة سجد لله شكراً، وهناك آثار عن السلف في هذا الباب كثيرة.

الخلاف في حكم سجود الشكر

الخلاف في حكم سجود الشكر أحمد والشافعي؛ يريان أن سجود الشكر مشروع لهذه النصوص، وأما أبو حنيفة ومالك رحمهما الله فلا يريان سجود الشكر، ويقولون: لقد تجددت نعم كثيرة على رسول الله صلى عليه وسلم، ولم يرد أنه سجد لها، والآخرون يقولون: إن سجود الشكر ليس بلازم كسجود الصلاة، بل هو جائز، وهو إشعار بنعمة الله على الإنسان، ثم كونه صلى الله عليه وسلم تتجدد له النعم؛ لا نستطيع أن نقول: إنه لم يسجد لها؛ لأن النفي يحتاج إلى أدلة، وكما قالوا: المثبت مقدم على النافي، فإذا جاءت أحاديث وآثار عن السلف أنهم فعلوا ذلك فلا مانع من اعتبارها سجدة مشروعة.

هل سجدة الشكر مثل سجدة التلاوة في الأحكام أم لا؟

هل سجدة الشكر مثل سجدة التلاوة في الأحكام أم لا؟ من العلماء من يرى أن سجدة الشكر كسجدة التلاوة على الخلاف المتقدم: تحتاج إلى طهارة، وإلى استقبال القبلة، وإلى ستر العورة، وإلى إباحة الوقت، ومن العلماء من لا يرى ذلك، ويجيزها على أية حالة، واستدل على ذلك: بأن ابن عمر كان يسجد للتلاوة وللشكر على غير طهارة، وقالوا: إن الإنسان يسجد للشكر ولو كان على الدابة، أي: يومئ إيماءً، فعلى هذا قالوا: إن سجدة الشكر أقل في التكليف والشروط من سجدة التلاوة. وختاماً أيها الإخوة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعنا وإياكم شكر النعمة، وأن يحفظها علينا وعليكم في ديننا، وفي دنيانا، وفي أبنائنا، وفي بلدنا، وفي كل نعمة أنعمها الله سبحانه وتعالى علينا في هذا البلد الآمن الطيب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [1] فرض الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، وجعل لها من النوافل والسنن ما يجبر نقصها، ويكمل خشوعها، ومن هذه السنن: ركعتا الفجر وأربع قبل الظهر وبعده، وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فمن حافظ على هذه النوافل بنى الله له بيتاً في الجنة، وحرمه على النار، فيا فوز الفائزين! ويا نجاح المفلحين!

فضل كثرة السجود لله تعالى

فضل كثرة السجود لله تعالى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ فقلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم. هذا الصحابي الجليل في بعض أخباره كما سمعنا من المشايخ رحمهم الله خدم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدى له أمراً فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم، قال: أمهلني، فرجع إلى زوجه وأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يسأله أي شيء مكافأة له على عمل ما، قالت: أويفعل؟ قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله مرافقته في الجنة. لم تقل: سله عملاً أو منصباً أو مالاً، وهي ما هو الذي يخصها من مرافقة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لو سأل مالاً أو منصباً يمكن أن تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين: إما من باب: النصح لله ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها ووفائها لزوجها، أنها تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم من امرأة أعقل من عشرات الرجال! وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] إذاً: تكون الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا دخل الجميع الجنة مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله الزوجة إلى مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء بالأبناء والأزواج بالزوجات. يهمنا في هذا التوجيه: أن الرجل أخذ بهذا الرأي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: طلبتني أن أسألك؟ قال: نعم، قال: ووعدتني أن تعطيني؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة. لم يطلب مجرد دخول الجنة، بل طلب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذه مسألة غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، قال له: أوغير ذلك؟ اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك، فتمسك الرجل بوعد رسول الله. انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، هل قال له: أنا أضمن لك هذا؟ بل وجهه إلى ما يفعله هو، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فهو يقول له: يمكن أن يكون لك ما أردت بمساعدة من عندي، بما له صلى الله عليه وسلم من حق الشفاعة، وبما له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى أمر فقال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) كثرة السجود توحي بزيادة سجود مطلقة سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة مطلقة غير مقيدة لا بزمان ولا بمكان، وهل السجود مراد لوحده فقط؟ السجود هنا بمعنى الصلاة. إذاً: يفتتح المؤلف رحمه الله هذا الباب بهذا الحديث ليبين أن كثرة التطوع تؤهل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن يكون قريباً منه في الجنة، أنه قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) ، (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة ... ) إلى آخره، فهناك مميزات وأعمال تدني من تلك الدرجة، ولكن يهمنا في هذا الباب -باب التطوع في الصلاة- قوله: (أعني على نفسك بكثرة السجود) .

النوافل التي حفظها ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم

النوافل التي حفظها ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح) متفق عليه. وفي رواية لهما: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) . ولـ مسلم: (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) ] . بدأ المؤلف رحمه الله يفصل في أنواع التطوع، وبدأ بالأهم أي: بالسنة الراتبة مع الفريضة؛ لأن هذه السنن كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها ولا يتركها، حتى إنه فاته بعض منها فقضاها في غير وقتها، وفاته بعضها حين اجتمع ببعض الوفود فقضاها بعد خروج وقتها، كما حدث في فوات الركعتين بعد الظهر، عندما جاء وفد عبد القيس فشغلوه عنهما حتى صلى العصر، فلما دخل بيته ذكرهما فصلاهما، فسئل في ذلك: كنت تنهى عن الصلاة في هذا الوقت، وأنت الآن تصلي؟ فقال: (ركعتان بعد الظهر شغلت عنهما مع وفد عبد القيس فأنا أقضيهما) . وكذلك ركعتي ما قبل الفجر، في عودتهم إلى المدينة لما عرسوا في الوادي، فقال: (يا بلال! اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (ارتحلوا من هذا الوادي؛ فإن فيه شيطاناً) فخرجوا من الوادي، وأمر بلالاً بأن يؤذن، فأذن، ثم صلوا سنة الصبح مع فريضتها، فما تركها حتى وهو في سفر، وكذلك صلاة الوتر. إذاً: هذه السنن تسمى الرواتب، أي: راتبة مرتبة منتظمة مع الصلوات الخمس، وابن عمر رضي الله عنه له عدة روايات بعدة صلوات، وابن عباس وغيره. فبدأ المؤلف بـ ابن عمر فقال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات) وأخذ يفصلها، وهذا في أسلوب البيان من باب التفصيل بعد الإجمال، وهذا مما يعطي الإنسان انتباهاً، ويسهل على الإنسان ضبطه، قال: (حفظت عشر ركعات) ، ثم أنت الآن تنتظر التفصيل، هل يأتي بعشر أم بثمان؟ فعندما يأخذ الإنسان الجملة، ثم يبدأ يأخذ التفصيل فإن ذلك يكون أدعى للمتابعة، وللضبط عند السامع، وهذا أسلوب بياني رفيع يأتينا به ابن عمر رضي الله عنه، قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح) وجاءت روايات بزيادة ركعتين سواء كان مع الظهر أو مع العصر، لكن يهمنا في عدد العشر ركعات، فحديث ابن عمر: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، ثم ذكر ركعتين بعد المغرب) ، أين العصر؟ لم يذكر له شيئاً لا قبله ولا بعده، وسيأتي له بيان آخر، قال: (وركعتين بعد المغرب في بيته) ، أين بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في مسجده، ولكن كان متحيزاً عن المسجد، وهل كل إنسان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته أم أنه إذا ذهب إلى البيت شغل فذهب الوقت، أم يصليها في المسجد؟ ومن كان بيته بمنزلة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد كـ أبي بكر مثلاً حيث كان بيته بجوار المسجد، والعباس كذلك ومروان، فمن كان بيته بمنزلة أو مقارباً لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد، إن كان سيجلس في المسجد ولن يخرج إلى بيته فهل يذهب ويصلي في بيته ويعود إلى المسجد، أم يصليها في المسجد حيث هو؟ يصليها في المسجد، لكن إن كان صلى المغرب وسيخرج، إن كان بيته بمثابة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قريباً من المسجد، وسيخرج فليصلها في بيته، ولكن لماذا الصلاة في البيت؟ هل البيت مسجد؟ المسجد هذا يختص بـ (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فلماذا لم يصلها في المسجد لكي يظفر بألف صلاة وذهب وصلاها في بيته؟ قالوا: البيوت ينبغي أن يكون لها حظ من الصلاة سواء صلاة النساء اللاتي تسقط عنهن الجماعة، أو صلاة الرجال من السنن والنوافل، وجاء في الحديث: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) والمكتوبة تؤدى في المسجد مع الجماعة، والسنن في البيت، فبعضهم يقول: خير صلاة المرء في بيته ويدخل فيها الراتبة، وبعضهم يقول: لا، لا يدخل فيها إلا الصلاة المطلقة فقط كقيام الليل والضحى؛ بعداً عن الرياء والسمعة، أما الراتبة فالكل يؤديها، ولكن عندما يصلي الفريضة في المسجد ويخرج إلى البيت يصلي، هل البيت خال أم أن فيه أناساً؟ لا شك أن البيت فيه أناس، وأقل ما يكون فيه الزوجة والأولاد، فتكون صلاة النافلة في البيت بمثابة التعليم، ويأخذ البيت حظه من بركة الصلاة: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ؛ لأن البيت الذي لا يصلى فيه كالقبر المهجور، لكن الذي تكون فيه صلاة، ويسمع فيه القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى، هذا تحصل فيه البركة. إذاً: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يذكر لنا من النافلة مما حفظه هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها) ثم تخطى العصر، وجاء إلى المغرب فقال: (ركعتين بعد المغرب في بيته) ، وذهب إلى العشاء فقال: (وركعتين بعد العشاء في بيته) رغم أن هناك نوافل مطلقة بعد المغرب، وكذلك نوافل بعد العشاء وهي الوتر، ثم ذهب إلى صلاة الصبح. وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر ابن عمر النوافل من أول النهار؟ ولماذا لم يبدأ بالصبح؟ لعل ابن عمر نظر إلى أول صلاة فريضة من الصلوات الخمس، ونعلم أن الصلوات الخمس فرضت ليلة الإسراء في الليل والرسول صلى الله عليه وسلم نزل قبل الفجر وما صلى الصبح، ونزل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وكان أول نزوله لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر، فكانت من جهة الفرضية كلها فرضت خمس صلوات كما في حديث موسى عليه السلام، ولكن التطبيق العملي كانت بدايته من الظهر. فأقول: لعل ابن عمر رضي الله عنه راعى هذه الناحية والله أعلم. إذاً: هذه عشر ركعات نسميها: (عشر ابن عمر) وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. والمؤلف سيأتي بزيادة عن ذلك، سيأتي بأربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، فلماذا قدم بعشر لـ ابن عمر؟ لعل المؤلف رحمه الله -وهذا استنتاج فقهي- ذكر العموم في التطوع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) ثم جاء يبين أقل الرواتب، وأقل صلاة راتبة هي ما جاءت في حديث ابن عمر، وما جاء بعد ذلك لا ينهض في القوة بأن يساوي حديث ابن عمر، لأنه سيأتي ويذكر لنا أربعاً قبل الظهر، وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأربعاً بعد الظهر وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأيضاً سيذكر أربعاً قبل العصر، وليست في التوكيد كالركعتين كذلك. إذاً: المؤلف بدأ بالعشر وعلى هذا الترتيب الموجود ليبين أقل الراتبة في اليوم والليلة. قال: [وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) ] . عندما قال: وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فكم زاد على العشرة؟ لا توجد زيادة في عدد الركعات، لكن هي زيادة تفصيل، أي: كأنه يقول: إذا كان ظهره جمعة، وصلى الجمعة محل الظهر تكون النافلة ركعتين في بيته، وأما قبل الجمعة فقد جاء الحديث مطلقاً: (من بكر وابتكر، وصلى ما تيسر له) فلم يحدد لا ركعتين ولا أكثر ولا أقل. إذاً: نقول: إن المؤلف رحمه الله من فقهه وإتقانه قدم حديث ابن عمر في الصلوات الخمس في بيان أقل الراتبة، والجمعة لها صلاة قبلية وبعدية، ولكن يختلفون فيها، فمنهم من يقول: نافلة الجمعة كالظهر تؤدى قبل وبعد، وبعضهم يقول: لا، نافلة الجمعة قبلها ليس لها حد، وبعدها ركعتان، وبعضهم يقول: أربع ركعات بعدها في المسجد وركعتان في البيت؛ لأن خير صلاة المرء في بيته.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الظهر

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الظهر قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة) رواه البخاري] . هذا نوع من التفصيل والزيادة، تقول أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم لا يدع) بمعنى: لا يترك، (أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة) ، والغداة: الصبح. فهي تخبر بصورة شاهدتها، وسكتت عن بقية الأوقات الأخرى، كبعد الظهر وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، ففي هذه الرواية تقول: (ما كان يدعهما) ، لكن نستفيد من هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً ومداوماً عليها، وابن عمر يقول: (حفظت عشراً وذكر ركعتين قبل الظهر) ، وعائشة تقول: (ما كان يدع أربعاً) ، كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ يقول الفقهاء رحمهم الله: رواية عائشة جاءت بزيادة أربع، وزيادة الثقة مقبولة، فقالوا: لعلها تذكر أحياناً أنها رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً، وابن عمر يذكر أحياناً أنه رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ركعتين ولا معارضة في ذلك، أو أنه كان يصلي ركعتين في المسجد وركعتين في البيت، فـ ابن عمر يرى ركعتي المسجد، ولا يرى ركعتي البيت، فيكون المجموع الذي كان يصليه النبي أربع ركعات. والذي يهمنا في هذه الرواية هو المواظبة والتأكيد عليها، أما ما يتعلق بالصبح فقد جاءت روايات وأحاديث عديدة تبين أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك ركعتي الفجر والوتر لا في سفر ولا في حضر؛ ولذا قال الشافعية: إن سنة الصبح سنة مؤكدة، وقال الأحناف: إن الوتر واجب لا كوجوب الفرض في الصلوات الخمس، بل واجب على اصطلاح الأحناف، ومعنى ذلك: ما ثبت بنص قطعي من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً فهو الفرض، وما ثبت بأخبار الآحاد فهو الواجب، فيرون أن الوتر قد أتت فيه أحاديث عديدة، وجاء التحذير من تركه كحديث: (من لم يوتر فليس منا) قالوا: هذا أمر خطير، فهو أمر واجب، والواجب على هذا الاصطلاح منزلة بين الفريضة في الصلوات الخمس وبين النافلة مع الظهر والمغرب أو العشاء، والجمهور على أن الوتر ليس بفرض وله مبحث سيأتي فيه كيفية وعدد ركعاته إن شاء الله. وقدمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان بعد رجوعه من غزوة خيبر عرسوا ليلة، فناموا حتى طلعت عليهم الشمس، وفارقوا ذلك الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلوا سنة الصبح وما تركوها، وإن كان قد خرج وقتها، وإن كانوا في سفر والسفر تقصر فيه الفريضة، ومع ذلك لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر، وفي رواية: (صلوها ولو طاردتكم الخيل) ومع ذلك ليست فريضة؛ لأنه جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة) إذاً: لا يمكن لإنسان أن يأتي بصلاة يدعي أنها مفروضة مع الصلوات الخمس لهذا الحديث، فالوتر وسنة الفجر والضحى كل ذلك خارج عن الفرضية، بمعنى: الواجب عند الجمهور.

فضل ركعتي الفجر الراتبة

فضل ركعتي الفجر الراتبة قال المؤلف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) متفق عليه] . هذا تأكيد لما تقدم، فلم يكن صلى الله عليه وسلم أشد تعاهداً -يتعهده ويداوم عليه- من تعاهده لركعتي الفجر، وهذا يدل على أن ركعتي الفجر من المؤكدات في النوافل، وهي آكد من غيرها، وقد أشرنا سابقاً بأن كلمة (نافلة) عامة، ويدخل تحتها السنة والمندوب والتطوع، وأشرنا بأن بعضها يتفاضل عن بعض. [ولـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ] . (ركعتا الفجر) يعني: سنة الفجر، (خير من الدنيا) سبحان الله! ما أقل الدنيا فيما يتعلق بالعبادة عند الله! وبعض العلماء ينبه تنبيهاً لطيفاً، فيقول: الدنيا فيها فضائل كثيرة: كالنبوة، والرسالة، والعبادة، وكل أنواع الخير، ولكن المراد بهذا: ما فيها من الزخارف الملهية كالأشجار والأنهار والبيوت والقصور والأموال إلخ، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] إذاً: (خير من الدنيا وما فيها) أي: من الأمور الدنيوية، أما العبادات فلا تدخل في ذلك.

فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة

فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته بني له بهن بيت في الجنة) رواه مسلم. وفي رواية: (تطوعاً) ] . نحن حفظنا عن ابن عمر عشر ركعات، وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها تقول: (اثنتي عشرة ركعة) . فجاءت هنا زيادة، وكما أشرنا أن الزيادة إذا كانت من ثقة فهي مقبولة؛ لأنها تتضمن ما كان أقل منها وتزيد عليه، فالاثنتا عشرة ركعة تتضمن العشر، فهي تشتمل على العشر وتأتي بالزيادة، لكن لو أنها قالت: ثماني ركعات، فإن في ذلك معارضة لحديث العشر، فإذا قالت: اثنتا عشرة أو أربع عشرة لا مانع؛ لأن العشر المحفوظة داخلة ضمن الزيادة، وهو أيضاً على سبيل الإجمال ثم التفصيل. قالت: (اثنتي عشرة ركعة) ، وسيأتي تفصيلها في رواية عند غير مسلم، الحديث الأول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، وهنا (اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) ، يا سبحان الله! هل نقول: ما أهون بيوت الجنة أم نقول: ما أعظم أجر الصلاة؟ الجنة ليست رخيصة، ولكن الثمن يقابل المثمن، والمثمن هنا بيت في الجنة، لو قيل: لك بيت في المدينة، أو في الحرة من اللِّبن، أو من الحجر أو عمارة على أن تصلي ألف ركعة المسألة صلاة ما فيها مال ولا دينار، ولكن الصلاة رأس الإسلام وعموده وهي الحق المفروض لله سبحانه وتعالى؛ ولأن الصلاة هي أكبر عون للعبد في دينه ودنياه، ولأنها أكبر حرز للمسلم من الخطايا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ومما يلاحظ أنه قد أتى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] مرتين في حق بني إسرائيل، فجاء في حق بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:44-45] إذاً: الصلاة كبيرة على بني إسرائيل هذا في الأول، ثم تأتي في حق هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] فرق بين هذه الآية وبين الآية الأخرى، كأنها ليست ثقيلة، وإن كانت هي في ذاتها لا شك أنها عبء وتكليف، ولا أقول: ثقيلة في قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:5-6] الوحي تكليف ثقيل، ولكن ناشئة الليل تقاوم وتعادل ذلك، فيكون هناك استعداد، وإمداد بأن يتهيأ لناشئة الليل التي هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً، فيتحمل ما سيلقى إليه من قول ثقيل، لكن المغايرة تعطينا نوعاً من المفاضلة، ففي حق بني إسرائيل ثقيلة إلا على الذي اتصف بالخشوع بين يدي الله فإنه لا يستثقل شيئاً، وجاء في بعض أخبار الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلي، فسقط ركن من المسجد، فلما انتهى من صلاته وجد غباراً، فقال: ما هذا الغبار؟ قالوا: أولم تسمع ركن المسجد عندما سقط؟ قال: والله ما دريت عنه، كنت في الصلاة. وجاء عنه أنه كان إذا جلس يتوضأ يصفر وجهه، فقيل: لماذا يصفر وجهك عندما تتوضأ؟ قال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ فيهمنا بأن الصلاة لأهميتها إذا حافظ الإنسان على نافلة فيها يؤجر عليها كما في الرواية الأخرى: (بنى الله له بيتاً في الجنة) وبيت الجنة لا يستطيع أن يعلم أحد بمواصفاته إلا الله، وجاءت أحاديث أن بعض بيوت الجنة من لؤلؤة واحدة يرى داخلها من خارجها، كما جاء في حديث زيد بن ثابت مع رسول الله، وجاء في خبر عمر رضي الله عنه إلى غير ذلك. إذاً: الصلوات هي عماد الدين، وتعود على المصلي بكل خير، وكما أشرنا أنها أكبر حرز له من الخطايا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] هذا إذا أديت بواجباتها، ورزق الله العبد حسن التلذذ وارتياح النفس، وطمأنينة القلب بالمناجاة بين يدي الله. إذاً: اثنتا عشرة ركعة ثمنها بيت في الجنة، ومثل هذا لا يستكثر على المولى، لأن عطاءه كلام: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] . قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللترمذي نحوه وزاد: (أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر) ] . وماذا زادت أم حبيبة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر قال: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها) ، وأم حبيبة اتفقت مع ابن عمر في كل الأوقات ما عدا قبل الظهر، فزادت ركعتين فيما قبل الظهر، فاتفقت مع ابن عمر في العشر الركعات، وزادت ركعتين، واتفقت مع عائشة في أربع قبل الظهر، وبهذا تكون مجموع السنة أو النافلة على ما سيأتي إجماله اثنتا عشرة ركعة. ويهمنا أن أم حبيبة زادتنا بما تتفق فيه مع عائشة وابن عمر ركعتين، وهما في الأربع التي قبل الظهر. وهذا سؤال: كيف تكون كيفية هذه الركعات؟ أهي أربع ركعات بتكبيرة واحدة وسلام واحد أم أنها مفصولة ركعتين ركعتين؟ نجد الخلاف في هذا بسيطاً، فقال البعض: يصلي أربعاً مجموعة، وقال البعض الآخر: لا، هذه صورة الفريضة، فيجب أن تكون الأربع مفرقة ركعتين ركعتين، وسيأتي المؤلف بحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وفي بعض الروايات زيادة: (صلاة الليل والنهار) , لكن زيادة (والنهار) يردها علماء الحديث بأن سندها غير ثابت، ويرى الجمهور أن الأربع قبل الظهر ركعتين ركعتين لحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا حديث صحيح ثابت، وإذا كانت صلاة الليل مثنى مثنى قالوا: قياساً على صلاة الليل تكون أيضاً مثنى مثنى، وقالوا أيضاً: لعدم تشبيه النافلة بالفريضة، وقالوا أيضاً: إن في تفريقها زيادة عبادة، فلو جمعناها لم يكن فيها إلا تكبيرة إحرام واحدة، ولو فرقناها كان فيها تكبيرتان، ولو جمعناها ما كان فيها إلا تسليم واحد، ولو فرقناها كان فيها تسليمان، وكذلك التشهد في الجمع يكون تشهداً أوسطاً، وفي التفرقة يكون تشهداً كاملاً، وإضافة إلى ذلك يؤتى بالدعاء المأثور بعد التشهد الأخير. إذاً: تفرقتها أكثر أجراً من جمعها لأنه أكثر عملاً، وهذا ما يرجح أن صلاة النهار لتلك الأربع تصلى مفرقة.

فضل من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها

فضل من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها قال المؤلف رحمه الله: [وللخمسة عنها: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار) ] . هذه خطوة ثانية، جاءنا حديث ابن عمر وحديث عائشة في جزئية، وحديث أم حبيبة في المجموع، ثم في خصوص الظهر جاء حديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار) هذا دعاء أم إخبار؟ بعض العلماء يقول: هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، وهو الصادق في خبره المصدوق فيما أخبر به، وبعضهم يقول: هذا دعاء، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم حرمه على النار، وسواء كان إخباراً فخبره صدق، أو دعاءً فدعاؤه مقبول عند الله. إذاً: من وفقه الله وأعانه وحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها فهذا سبيل خير أوسع من الذي قبله، وإذا اقتصر على اثنتين واثنتين فقد أتى بأقل التطوع، وإذا زاد إلى أربع، نقول: أتى بأكثر ما جاء به النص.

فضل من صلى قبل العصر أربع ركعات

فضل من صلى قبل العصر أربع ركعات قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه] . خص الظهر بأربع قبلها وأربع بعدها، وجاء في العصر فقال: (رحم الله امرأً) فهل هذا إخبار أم دعاء؟ إن كان خبراً فهو خبر صدق، وإن كان دعاءً فهو مقبول؛ ولذا يقول العلماء: ينبغي للإنسان أن يتعرض لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر) أما ما بعدها فيأتي المنع من النافلة. إذاً: جاء في فريضة العصر أنه يصلي أربعاً قبلها، وكأنه عندما يقول: (رحم الله امرأً صلى) كأنه يقول: الأمر أهون من غيره، ولكن إن شئت الرحمة والفضل فصل أربعاً قبل العصر، ولابد أن يعلم أنها في قوة الطلب ليست كركعتي الفجر، وليست كركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها؛ لأن الطلب هنا فيه ترجيح وترغيب من جهة التعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2] جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب، وجعل هذا الأمر تحت مشيئة الإنسان؛ لئلا يحرج أمته، أما صلاة ركعتي الفجر فكان صلى الله عليه وسلم يحرص على أدائهما في الحضر والسفر، ويحض على أدائهما مبيناً أنهما خير من الدنيا وما فيها، والأصل في هاتين الصلاتين التخفيف إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

استحباب صلاة ركعتين قبل المغرب

استحباب صلاة ركعتين قبل المغرب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة) رواه البخاري] . هذا الحديث يتعلق بصلاة قبل المغرب، وتقدم في حديث ابن عمر وأم حبيبة ركعتين بعد المغرب، وأم حبيبة أطلقت في الحديث، وابن عمر قيد الصلاة في البيت، ولكن الجديد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هل المراد: قبل وجوب المغرب أم قبل صلاة الفريضة؟ قبل صلاة الفريضة؛ لأن قبل وجوبه عند الغروب الصلاة فيه ممنوعة، إذاً المعنى: صلوا قبل أن تصلوا المغرب، ثم كررها صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال: (لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة أي: أن يداوموا عليها. بعض العلماء يرى أن هذه الصلاة مطلوبة من جانبين: الأول: قوله: (قبل المغرب) معناه: بعد الأذان، أي: أن الإقامة لم تأتِ فهي ما بين الأذان والإقامة. الجانب الثاني: قوله صلى الله عله وسلم: (بين كل أذانين صلاة) . وهذا الحديث ينطبق على الصلوات الخمس؛ لأن سنة المغرب القبلية تصلى بين الأذان والإقامة، وعلى هذا كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يصلون قبل المغرب. وبعض الفقهاء يفصلون فيقولون: ما دامت المسألة: (لمن شاء) فهذا يرجع فيه إلى طبيعة الناس في صلاتهم، فعند المالكية لا صلاة قبل المغرب؛ لأن وقت المغرب عندهم ضيق، وهو كذلك عند الجمهور فالمغرب وقته واحد؛ لأن جبريل عليه السلام لما نزل يصلي بالرسول صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الأول فصلى الصلوات الخمس على أول وقتها: الصبح عندما طلع الفجر، والظهر حين زالت، والعصر إذا كان الظل قدر مثله، والمغرب إذا غربت، والعشاء إذا غاب الشفق، ومن الغد جاء فأخر الصبح إلى قرب طلوع الشمس، وأخر الظهر إلى آخر وقتها، وأخر العصر إلى اصفرار الشمس، والمغرب صلاها في وقتها الذي صلاها فيه بالأمس، ولم يغاير في وقتها، والعشاء أخرها إلى ثلث الليل، فإذاً: كل فريضة من الصلوات الخمس لها وقت واسع ما عدا المغرب، فالصلوات الأربع لها أول وآخر، ولكن المغرب صلاها في اليومين المتتاليين في وقت واحد، وجاء هذا عنه صلى الله عليه وسلم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما وقت الصلاة يا رسول الله؟ قال: أقم معنا إلى الغد) فأقام اليوم، في هذا اليوم صلى النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات في أول وقتها، ومن الغد صلاها كلها في آخر وقتها إلا المغرب صلاها في نفس الوقت الذي صلاها بالأمس، ثم قال: (أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: الوقت ما بين هذين) يقول المالكية: إذاً: المغرب لها وقت واحد، وعندهم يخرج وقت الفريضة بما يساوي الوضوء وركعتين مباشرة وصلاة المغرب ثم ينتهي الوقت، فيقولون: إذا كان الإنسان يصلي لنفسه أو الإمام بجماعته والكل حضور في المسجد، فأذن للمغرب أقام الصلاة فريضة حالاً، ولا صلاة قبلها، وإذا كان الإمام يتأخر، أو جئت إلى المسجد بعد الأذان ولم يأت الإمام، وتعلم أنه سيتأخر قدر ركعتين فصل الركعتين. وعلى هذا فالصلاة قبل المغرب جائزة عند الجمهور ما لم يكن فيها تأخير لصلاة المغرب عن أول وقتها. وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا أتوا المسجد لصلاة المغرب وقد أذن ابتدروا السواري يصلون النافلة، حتى لو دخل إنسان لظن أن الصلاة قد انتهت -يعني: صلاة الفريضة- لكثرة ما يرى من صلاة الناس، كأنهم يصلون السنة بعدها. وعلى هذا يأتي التخيير، والربط بالمشيئة في هذه النافلة بالذات لظروف وقت المغرب: (صلوا المغرب) كررها ثلاثاً ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) . قال رحمه الله: [وفي رواية لـ ابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين) ] . يريد أن يثبت المؤلف رحمه الله أن هذه الصلاة قبل المغرب ثبتت بالسنة القولية، وبالسنة الفعلية منه صلى الله عليه وسلم، إذاً: ينبغي للأئمة ألا يضيقوا على الناس، وأن يكون الإمام حاضراً في المسجد، وإذا تأخر يأتي بسرعة، ليس هناك تأخير للفريضة، فصلاة ركعتين فيها فرصة لمن كان متأخراً لأن يحضر، وفيها إحياء للسنة النبوية بالصلاة قبلها، أما إذا جاء متأخراً فلا ينبغي له أن يقدم السنة على الفريضة، بل يبدأ بالفريضة حالاً. قال رحمه الله: [ولـ مسلم عن ابن عباس قال: (كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا) ] . أي: لم يكن يأمرنا ولم ينهنا بعد غروب الشمس وبعد الأذان للمغرب، ما دام أنها لمن شاء لا يأمر أحداً ولا ينهى أحداً، وإلى هنا تكون السنة تقريرية وفعلية وقولية، والسلف منهم من يفعل، ومنهم من يترك. تنبيه: جاء في الشرح لهذا الكتاب المبارك أن مجموع النوافل التي ثبتت عشرون ركعة، ولنأخذها بالجملة: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعد الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل المغرب لمن شاء، إذاً: مجموع النوافل تطوعاً مع الصلوات الخمس عشرون ركعة. ويضيف المؤلف من باب الطرفة العلمية أن ابن القيم قال: مجموع الصلوات في اليوم والليلة فريضة مع نافلة سبع وثلاثون ركعة، ويضاف إليها ثلاث ركعات الوتر، فيكون المجموع أربعين ركعة، ولكن أحب التنبيه على أن الصحيح أن مجموع النافلة مع الفريضة خمسون ركعة؛ لأن المؤلف اعتبر الوتر ثلاث ركعات فقط، ولكن جاء في حديث: (أوتروا بثلاث بخمس بسبع بتسع بإحدى عشرة ركعة) وجاء في حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة ركعة) ، فسبع وثلاثون ركعة بالإضافة إلى ثلاث عشرة ركعة وتراً تصبح خمسين ركعة، أقول ذلك لأن بعض العلماء يقول: فرضت الصلاة في أول الأمر خمسون صلاة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين المولى وبين موسى عليه السلام في التخفيف حتى خففت إلى خمس، وقيل: هي في العدد خمس، وفي الأجر خمسون، فقال بعض العلماء: لو جمعنا مجموع النافلة مع الفريضة لبلغت الخمسين، إذاً: فرضت الخمسون، وبقيت ليس على سبيل الفرض، الفرض سبعة عشر والباقي تطوعاً، لماذا؟ زيادة فضل من الله على العبد، لأنه أعطاه ثمن بيت في الجنة، أعطاه: (رحم الله من صلى كذا) ، أعطاه: (خير من الدنيا وما فيها) ، وهذه كلها ذكرت مع النافلة، والله تعالى أعلم.

مشروعية التخفيف في سنة الفجر

مشروعية التخفيف في سنة الفجر قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟!) ] متفق عليه. لم يأخذ من رواتب النافلة حيزاً في البحث عند الفقهاء، ولا نصوصاً عند العلماء؛ كركعتي الفجر والوتر، أما ركعتا الفجر فتقدم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أشد تحرياً لصلاة كركعتي الفجر) ، وتقدم أيضاً: (صلوا ركعتي الفجر ولو طاردتكم الخيل) فهذه نصوص في التأكيد عليها , وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حافظ عليها في الحضر والسفر، وتقدم في قصة بلال أنه قال له: (اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فارتحلوا عن ذلك الوادي، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً بأن يؤذن للصلاة، فأذن ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقام وصلى الفريضة، وكذلك جاء في الحديث: (من فاتته ركعتا الفجر حتى صلى الصبح فليركعهما بعد طلوع الشمس) ، وكذلك جاء إقراره صلى الله عليه وسلم لمن صلاهما بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الفجر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما انصرف من صلاة الصبح وجد رجلاً يصلي، فأخذ بيده وقال: (آلصبح أربعاً؟ فقال: يا رسول الله! هذه ركعتا الفجر فاتتني فأنا أصليهما، فقال: إذاً: لا بأس) وهكذا ما يتعلق بالفرائض. ثم جاءت الكيفية وما يتبعها، فنجد هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، وتبين من هذه الصورة قولها: (حتى إني لأقول: أقرأ بأم الكتاب؟) أي: هل قرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟! ومن المعلوم أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولكنها رضي الله تعالى عنها تبين لنا إلى أي مدى كان هذا التخفيف، وسيأتي النص بأنه كان يقرأ بـ (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) يعني: ليس مجرد الفاتحة فقط بل ومعها سورة أخرى، ولكن لو تأملنا موقع ركعتي الفجر هاتين مع صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل -وهما من آخر ما يصلي، كان يقوم الليل إلى أن يوتر قبل الفجر ثم يؤذن ثم يصلي الركعتين- لوجدنا النسبة بينهما بعيدة جداً، ولهذا عندما نقارن بين صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وما وصفته به أم المؤمنين بنفسها تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن) ، وفي الحديث أنه (كان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ البقرة، والنساء وآل عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك) ، وذكرت الركعة كلها في أركانها نحواً من ذلك، فكم تستغرق الركعتان من قيام الليل؟ فإذا جئنا إلى ركعتي الفجر بـ (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وجدناها إلى جانب صلاة الليل كالصفر على الشمال، شيء بسيط جداً. إذاً: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يخفف) ليس معنى ذلك التخفيف الذي يخرج الصلاة عن قواعدها أو يخل بصحة الصلاة، ولكنه تخفيف في القراءة مع الطمأنينة في الصلاة بأكملها، لكن بالنسبة إلى صلاته صلى الله عليه وسلم ليلاً تكون خفيفة جداً، بدليل أنه يجتزئ بهاتين الخفيفتين عن هذه النافلة التي شدد فيها، وهذا له نظير: في منصرفه صلى الله عليه وسلم من عرفات نزل ليريق الماء، فصب عليه أسامة الوضوء، فقال: (توضأ ولم يسبغ الوضوء) ، هذا الحديث كثر فيه كلام الفقهاء منهم من يقول: إنه غسل يديه واستنجى فقط، والآخر يقول: إنه غسل مرة مرة واحدة، ولكن نحن نعلم بأن إسباغ الوضوء واجب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) ، وإسباغ الوضوء ينقسم إلى قسمين: قسم يترك خللاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب) لما رأى في أعقابهم لمعاً -أي: بياضاً لم يصبه الماء - فكان هذا نقصاً في الوضوء، ومن عدم إسباغ الوضوء أيضاً أن يتوضأ مرة مرة؛ لأن السنة جاءت بالوضوء ثلاث مرات، ونعلم بأنه لو توضأ مرة مرة فغسل كامل العضو المطلوب فإن هذا الوضوء تصح به الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاة بغيره) ، يعني: بأقل منه، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (هذا وضوء من قبلنا) ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: (هذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فعرفنا أن أقل ما يجزئ غسلة، ووضوء الأمم قبلنا غسلتان، ووضوءنا الكامل ثلاث غسلات ما عدا المسح فإنه لا يكرر. ويقول النووي: لو تكرر المسح لشابه الغسل، وأصبح الماء على الشعر كأنه غسل. إذاً: قول الراوي: (لم يسبغ الوضوء) ، مثل قول أم المؤمنين هنا: (حتى أقول: أقرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟) ، والجواب عمن يقول: إن عدم إسباغ الوضوء ينصرف إلى الوضوء اللغوي، أن نقول: لا، لأن نص الحديث: (لم يسبغ) لا يقال في الوضوء اللغوي أسبغ أو لم يسبغ؛ لأن الذي يقال فيه: إسباغ هو الوضوء الذي تصح به الصلاة، فلما قال: (لم يسبغ الوضوء) فهمنا أن هذا الوضوء المذكور مما من شأنه أن يوصف بالإسباغ، وما لا يوصف بالإسباغ لا ينفى عنه، وهذه قاعدة -كما يقولون عند الأصوليين وعلماء المنطق- تسمى: (العدم والملكة) ، أي: لا ينفى الشيء عما لا يتصف به. فإذا قلت: هذا العمود لا يسمع، ولا يبصر، كان هذا خطأ؛ لأنه ليس من شأنه أن يسمع أو يبصر حتى تقول: لا يسمع ولا يبصر، فكذلك غسل اليدين والاستنجاء، والوضوء اللغوي لا يقال: فيه إسباغ، فلا تحمل كلمة (وضوء) عليه، ولكن الذي يقال فيه إسباغ: هو الوضوء الذي تقع به الصلاة. إذاً: هناك اقتصر واكتفى بالوضوء مرة مرة، وعندما جاء مزدلفة توضأ وأسبغ، إذاً: الوضوء الأول كان معتمداً أم لا؟ البعض قال: غير معتمد، ولكن الصحيح أنه معتمد وقالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه، فلما أراق الماء وانتقض الوضوء , وهو سيذكر الله وخاصة في تلك اللحظات: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: في طريق المشعر الحرام، فهي موضع لذكر الله، فكره أن يذكر الله على غير وضوء، ونظير ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بسباطة قوم -السباطة: هي موضع القمامة- فوقف يبول وهو قائم، فمر رجل عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، حتى إذا جاء إلى جانب جدار تيمم ثم رد السلام على الرجل وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) لكن هذه الطهارة ليست طهارة صلاة؛ لأنه في الحضر، وحكمه وجوب الوضوء بالماء، ولكن التيمم هنا للتخفيف. ننتقل إلى حديث ركعتي الفجر، وقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (حتى أقول -في نفسي- أقرأ بأم الكتاب أم لا؟) ومعلوم أنه كان يقرأ، ولكن ليس بترسل ولا بتمهل، ولم يقرأ معها من طوال السور كما يقرأ في صلاة الليل.

ما يقرأ في ركعتي الفجر من السور

ما يقرأ في ركعتي الفجر من السور قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ) رواه مسلم] . هذا من فقه المؤلف رحمه الله حيث أورد لنا قول عائشة الذي يمكن أن يشكك في عدم قراءة الفاتحة، فيأتينا بعده مباشرة بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ الفاتحة فقط، بل يقرأ الفاتحة ومعها تارة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وتارة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فإذا كان يقرأ بهاتين السورتين فهل يترك الفاتحة ويقرأ بهاتين السورتين أم قطعاً نقول: إنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بهاتين السورتين؟ نقول: قطعاً أنه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وإحدى هاتين السورتين. إذاً: رداً لما عساه أن يقع في الذهن من قول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، نقول: نعم قد قرأ ولم يقتصر على الفاتحة فقط، بل قرأ معها بسورتين قصيرتين، في كل ركعة سورة، وهنا يرد السؤال: السنة أن تقرأ في كل يوم في ركعتي الفجر مع الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون) ، ومع الفاتحة في الركعة الثانية (قل هو الله أحد) ، وهذا له نظير، ففي ركعتي الطواف السنة أن تقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكذلك في الوتر تقرأ في الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . إذاً جاءت سورة الإخلاص مع سورة الكافرون في الوتر في آخر الليل، وجاءت أيضاً مع سورة الإخلاص في ركعتي الفجر في أول النهار، وجاءت سورة الكافرون مع سورة الإخلاص عقب الطواف، فمن مجموع هذه الحالات يرى البعض -وهو رأي سديد-بأن حياة الأمة وصلب الإسلام وصميمه إنما هو بتوحيد الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكي يظل الإنسان على طريق مستقيم من القيام بعبادة الله وحده، والإقرار لله بالوحدانية، كان يأتيه هذا التذكير يفتتح يومه صباحاً بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] ، أي: تلك الأصنام التي تعبدونها أنا أرفضها، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] أي: عبادتكم التي تؤدونها أنا لا أعبدها: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] ، ولا أنتم بمصلين ولا صائمين كما أصلي وأصوم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، انفصال وتميز، تميزت الأمة عن غيرها في منهجها وعلاقتها بربها، فإذا جاءت الركعة الثانية جاءت سورة الإخلاص، فالسورة الأولى جاءت بإفراد الله بالعبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والسورة الثانية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] تفرد الله سبحانه بالوحدانية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فتصبح وأنت تعلن هذا الأمر: وهو إفراد الله بالعبادة، وتوحيده سبحانه في أسمائه وصفاته، مؤمناً وافياً، تعلنها في الصباح وتبني حياتك اليومية عليها، وهكذا في آخر اليوم عندما تسلم نفسك للنوم، وتنتهي من جميع أعمالك، والوتر أوله من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا أوترت بعد العشاء وأنهيت النهار بهذا المعنى، وبه استقبلت الليل، وكذلك هناك أنهيت الليل، وبه استقبلت النهار فتكون موحداً بين ليلك ونهارك: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وهذا كما قالوا في المناسبة في فجر يوم الجمعة: الغالب أن يقرأ فيها بسورتي السجدة والإنسان، ويقول ابن تيمية رحمه الله: شرعت قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم؛ لأن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه تقوم الساعة، وجاء في الموطأ في ذكر فضائل يوم الجمعة في آخره قال: وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر خوفاً من قيام الساعة، فالحيوانات تصيخ بسمعها بعد الفجر، وتتذكر هذا اليوم، ونحن أولى؛ لأن الحيوانات والجمادات والسموات والأرض عرضت عليهن الأمانة فأبينها، وحملها الإنسان، فهو أولى من أن يشفق من الساعة، وخاصة من اليوم الذي جاء التحديد من أنها ستأتي فيه وهو يوم الجمعة. إذاً: قراءة السجدة و (هل أتى على الإنسان) مناسبتان لصلاة الصبح في يوم الجمعة؛ ليتذكر الإنسان بنفسه أن أول خلقه كان من تراب ثم نطفة ثم. إلخ وقصة السجود وعدم السجود، وليتذكر أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فيهما قصة حياة الإنسان ومآله يوم القيامة، ليتأهب ولا ينسى مبدأه، ولا يغفل عن معاده، وكذلك: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) تناسبان صباح الإنسان ومساءه.

الشبهة الواردة فيما يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود

الشبهة الواردة فيما يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود نحن نبدأ طوافنا بالتكبير عند استلام الحجر مع تقبيله، ونحن نقبل الحجر ونطوف حول الكعبة وهي من الحجارة، ألم تكن مصيبة العرب في الجاهلية هي تعظيم الأصنام؟ فبعض أمراض القلوب يقول: كيف تعيبون على المشركين تكريم أصنامهم التي من حجارة أو ذهب أو خشب، وأنتم تأتون تقبلون الحجر وتطوفون حول الحجارة؟ ما الفرق بينكم وبينهم؟ يعني: هل حجارتكم أفضل من حجارتهم؟ وهذه كما يقال: شبهة رهيبة جداً؛ لأن أعداء الإسلام دخلوا على ضعاف النفوس بهذه الشبهة، وقالوا: تلك وثنية في الدين، وأقول وللأسف: بعض المشايخ -أول ما طرق سمعي شيء من الفقه، ونحن صغار في المدارس الابتدائية- من كبار العلماء في منطقته، جاء إلى الحج ولم يستلم الحجر، فأخبرني بعض من كان معه، وقال لي: سله، فسألته لماذا لم تقبل الحجر؟ فقال: هل صحيح أن النصوص فيه صحيحة؟ قلت: إذا كان مثلك يسأل في هذا فما بال العوام؟! أما رأيت الملايين من الناس يستلمونه، وأنت وحدك تنفرد في ترك ذلك؟! قال: لم أقتنع بصحة الحديث، فماذا تقول لمثل هذا؟ وكتبت كتابات في ذلك مثل: وثنية الإسلام، وكتبت ردود عليه: لا وثنية في الإسلام، ويأتون بأشياء بعيدة عن صلب الموضوع، ونحن عندنا أمران: الأمر الأول: أن الإسلام استسلام، إذا أمرنا الله أن نقبل حجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للحجر، وإذا أمرنا أن نقبل شجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للشجر، فنحن كما وجهنا الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، وقد بين الله ذلك على لسان الملهم المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وبكل جرأة يرشد العالم عليها حينما جاء يقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع -يعني: لا أرجو فيك خيراً، ولا أرهب منك ضراً، سواء قلنا: نزل من الجنة فهو حجر أو كان من جبل أبي قبيس فهو حجر -ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهنا لنعلم ولنتأكد ولتكن قاعدة في كل الأمور التي ترتفع عن مستوانا: عمر هل عمل بهذا المعقول الذي عنده أم أنه ألغاه؟ ألغاه، لماذا؟ لما هو أصدق وما هو آكد وأعلم. فمن لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] جاء وقبله، إذاً عنده من العلم ما ليس عندي، وعنده ما يعتمد عليه، وأنا ملزم باتباعه، فـ عمر قبل الحجر استسلاماً وتأسياً واقتداء بمن هو أعلم منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أو أمرنا المولى في كتابه بأمر، وعقولنا لم ترتفع إلى مستواه، ولم تدرك معناه؛ نلغي العقل، ونعطيه إجازة، ونمضي في الطريق الذي لا مرية فيه ولا شك. الأمر الثاني، وهو الجانب الأصولي: عندما تطوف تبدأ تقبل الحجر، ثم تطوف بالحجارة المرصوصة، وتأتي تصلي ركعتي الطواف خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وتقرأ: (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، فأنت تأتي وتصلي لمن؟ لله؛ إذاً: لا وثنية، عندما تجعل الركعتين خلف مقام إبراهيم لله، ومن هو إبراهيم؟! قال تعالى عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ، إذاً: أنا مقتد بإبراهيم ولم أعبد الأصنام، بمجرد ما تتجه للصلاة خلف مقام إبراهيم، فإذا كنت في هذه الصلاة تعلنها: (يا أيها الكافرون) يا عباد الأصنام! حجارة أو ذهباً أو خشباً أو ما شابه ذلك، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] فتعظيمكم للأصنام والحجارة هذا شرك لأنكم لم تؤمروا به، وتقبيلي للحجر عبادة لأنني أمرت بها، لكم دينكم مع أصنامكم، ولي دين مع ربي، وتأتي بعد ذلك بسورة الإخلاص، ومعنى ذلك أعلنها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل بعد هذا من ادعاء شبهة وثنية في تقبيل الحجر أو الطواف بالبيت؟ لا والله، ومقام إبراهيم فيه آيات بينات، وهي آثار القدم، يقول الفخر الرازي: أقدام إبراهيم في الحجر آية لوحدها، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] ، فجعل مقام إبراهيم آيات، وموضوع المقام أن القدمين غاصت في الحجر وعملت فيه، قال: نعم، عندما يكون الحجر صلباً، ثم تأتي بمثقل، فإذا بحدود الحجر تلين ويغوص فيها المثقل، وبقية الحجر بقيت على ماهيتها، إذاً: موضع القدمين في ليونتهما وانطباع القدم فيها آية، وبقاء بقية الحجر صلباً آية؛ لأن الليونة لو وقعت عليها جميعها يمكن أن يقال: هذا عامل كيماوي أو عامل سحري. ، نحن نعلم إذابة الحجر والنحت على الحجارة كيف يكون، بالألفونيا مع النشادر، تسحق بمقدار معين أو متساو ثم تحطها، هذه الكتابات التي على الرخام عملها يكون بتغطية صفحة الرخام بالشمع ثم تأخذ الريش، وتكتب ما تريد بأي نوع من الكتابة، فتحفر الشمعة حتى ينكشف الرخام، ثم تملي هذا المحفور بالألفونيا مع النشادر بمقادير متساوية، ثم تقطر عليها من حمض الكبريت، فإذا به يتفاعل ويأكل الرخام تحته، فإذا انتهى إلى العمق الذي تريد صببت عليه الماء فيتوقف عن التفاعل، ثم تزيل الشمع بعد ذلك، فتخرج الرخامة مكتوباً عليها بأحسن ما يكون، ما حفرت باليد وإنما صنع لها مواد كيماوية، فلو أن الحجر كله ذاب يمكن أن يقال: هذه مادة كيماوية أكلته، لكن لا، البعض يلين وينطبع فيه القدم، والبعض يبقى على حجريته، إذاً: فما لان الحجر إلا بقدرة الله، فهذه آية، وقد وجدنا قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: لا وثنية. ونرجع ونقول: إن القراءة للفاتحة في ركعتي الفجر ثابتة بهذا الحديث، وقراءة السورتين والمداومة عليهما ربط بين حياة الإنسان العملية، وبين عقيدته فيما بينه وبين الله، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [3]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [3] من النوافل التي حث الشارع على المداومة عليها صلاة الليل التي هي أفضل الصلوات بعد الفريضة، ولا يداوم عليها إلا المجاهدون الصابرون، الطامعون بما عند الله سبحانه من الرضا والنعيم المقيم، وما من عبد داوم على قيام الليل إلا أظهر الله ذلك في جوارحه وعلى صفحة وجهه، وكان ممن يناديه الله في كل ليلة ليتوب عليه ويغفر له.

مشروعية الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر

مشروعية الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه] . هذه المسألة لها عند الأئمة رحمهم الله منزلة من حيث المنهج في البحث فيها، فقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى ركعتي الفجر -أي: قبل الفريضة- اضطجع على شقه الأيمن) وهذا حديث صحيح متفق عليه. بعدما ساق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم -والفعل قد يكون خاصاً به- جاء بالحديث الذي يعم الأمة بصيغة الأمر: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) هذه صيغة من صيغ الأمر، والأمر يقتضي الوجوب. ومن خلال هذين الحديثين نجد الخلاف عند العلماء، ونجد منهج البحث: أولاً: من حيث الفكرة نجد من السلف من يقول بذلك ويفعله، ومنهم -وهم الأكثر- من لا يقول بذلك وينكره، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: (ما بال أحدكم إذا صلى ركعتين تمعك كما يتمعك) وذكر حيواناً من الحيوانات يضرب به مثل الخسة، ولا حاجة لذكره، وهذا مبالغة في الإنكار.

تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية

تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية ونجد الأئمة رحمهم الله تتبلور عندهم المسائل الخلافية؛ لأنهم رحمهم الله يأخذون النصوص ويمحصونها ويجمعون أطرافها، وينظرون ما هي النتيجة، فما وصل إلى الأئمة الأربعة يكون هو خلاصة ما وجد وقيل من خلاف أو وفاق قبلهم. فنجد عند الشافعي أنه يستحب فعل ذلك، ونجد عند الحنابلة كذلك الاستحباب، ونجد عند غيرهم من ينكرها بالكلية كالأحناف، ومنهم من يفصل وهم المالكية فيقولون: إن فعلها استناناً كره، وإن فعلها جبلة فلا بأس، وسنرجع إليها إن شاء الله. وقد أبعد ابن حزم رحمه الله فأوجبها، قال: يجب ويتعين على الإنسان ما لم يكن به عذر أن يضطجع على شقه الأيمن، وإذا لم يضطجع فصلاته باطلة، ثم قال: إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يضطجع على الأيمن لا يضطجع على الأيسر؛ لأنه لا يجزئه، ولكن ويومئ إيماء.

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية قول مالك: من فعلها جبلة، ما معنى الجبلة؟ الجبلة: الفطرة، وهي طبيعة خلق الإنسان، فمثلاً: الإنسان من جبلته وتكوينه ومن فطرته التي فطره الله عليها أن يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش، وينام إذا تعب، فهنا قالوا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: جبلي وتشريعي. والتشريعي ينقسم إلى خمسة أقسام، والجبلي كونه يأكل يشرب ينام يأتي النساء؛ لأنه كان يفعل هذه الأشياء بالجبلة والفطرة قبل أن يوحى إليه، ولأن هذه الأفعال يفعلها المسلم وغير المسلم لا بتشريع ووحي ولكن بطلب الحاجة إلى الحياة، هذه هي الجبلة، فأعماله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين أساسيين، وقسم ثالث يدور بين الجبلة والتشريع.

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريعية

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريعية أما التشريع: فبيانه صلى الله عليه وسلم لما أجمل من كتاب الله، وحكم البيان حكم المبين، جاء قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] لا ندري كيف نصلي! ولا كم نزكي! فلما صعد المنبر، واستقبل القبلة، وكبر وقرأ وركع، ورفع من الركوع، ونزل القهقرى بظهره حتى وصل إلى الأرض، وسجد في أصل المنبر، وسجد السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل كذلك حتى تشهد، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا بيان منه لركن من أركان الإسلام، فيكون هذا البيان حكمه كحكم هذا الركن. وكذلك الزكاة، بيّن صلى الله عليه وسلم أن من ملك عشرين مثقالاً وحال عليها الحول ففيها الزكاة وهي ربع العشر، ومن ملك مائتي درهم من الفضة وحال عليها الحول ففيها العشر، وبين لأصحاب الأنعام أن من ملك أربعين شاة سائمة طوال العام ففيها شاة، إلى مائة وعشرين ففيها شاتان، ثم بعد ذلك في كل مائة شاة، وبين لأهل الإبل أن في كل خمس من الإبل شاة إلى عشرين، فإذا وصلت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وأنصبة الإبل مسلسلة، وأصحاب البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة. إذاً: بيانه صلى الله عليه وسلم للواجب في كتاب الله حكمه حكم المبين، فمثلاً: من الأعمال التي تدور بين الجبلة والتشريع في يوم عرفة، قال: (خذوا عني مناسككم) فطفنا كما طاف، وسعينا كما سعى، ووقفنا كما وقف من حيث الزمان والمكان، وأفضنا من عرفات إلى المشعر الحرام، ونزلنا إلى وادي محسر وأسرعنا، وجئنا إلى منى فرمينا ونحرنا وطفنا الإفاضة، ورجعنا فمكثنا في منى الأيام الثلاثة، وأخذنا عنه النسك، ولكن لما كان يوم عرفات: (والحج عرفة) رأيناه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن ظهر راحلته، جاء إلى عرفة قبل الزوال فنزل بالوادي تحت شجرة أراك، فلما زالت الشمس اغتسل وجاء إلى المسجد فخطب وصلى، ثم جاء إلى الموقف ووقف عند الصخرات، وظل على راحلته حتى غربت الشمس. وهنا يقال: هل السنة أن نقف في عرفات على الراحلة؛ لأنه قال: (خذوا عني) أم أنه وقف على الراحلة لأمر جبلي لا للتشريع؟ وما هي الجبلة؟ أنه أرفق به وأريح له. فبعضهم يقولون: وقوفه على الراحلة أمر خارج عن حدود الحج. وهو: لما أراد الحج بعث إلى القبائل: (إني حاج، فمن أراد أن يوافيني، فليوافني وليحج معي) ، فتوافدت القبائل إما إلى المدينة ورافقوه، وربما تلاقوا في مكة أو في الطريق، فهؤلاء الذين قدموا ليروا رسول الله أين يطلبونه في عرفات؟ اختار مكاناً معلماً وهو عند الصخرات، حتى إذا أتى آت يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشار إليه من بعيد أنه ذاك الذي عند الصخرات واقف على راحلته. إذاً: فعله هذا دائر بين هذا وهذا، وليس واجباً على كل إنسان أن يقف على راحلته أو على سيارته.

تحقيق الخلاف في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر

تحقيق الخلاف في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وبعدها اضطجع، هل هذه الضجعة تابعة للسنة فنتأسى به فيها، أم أنه فعلها لمطلب الجبلة عنده صلى الله عليه وسلم؟ يقول الشوكاني: فيها خمسة أقوال: من الأقوال التي جاءت فيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل، وإلى متى يمتد قيامه؟ كما تبين أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليصل ركعة توتر له ما قد صلى) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ثم يوتر، ثم يضطجع حتى يأتيه المؤذن، ثم يقوم يصلي كما جاء في حديث أم المؤمنين: (كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم فيصلي، فأقول له: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ فيقول: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) أي: أنه صلى الله عليه وسلم جعل النوم مظنة انتقاض الوضوء؛ لأنه قال: (العين وكاء السه) والسه: حلقة الدبر، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فالنائم يخرج منه الريح وهو لا يدري، لكن إذا كان القلب مستيقظاً فإنه إذا حدث منه حادث أدركه، ومن هنا كان لا يتوضأ لنومه. وكان أبو موسى الأشعري عندما كان في الكوفة أميراً عليها يقيل في المسجد بعد صلاة الظهر، وكان عنده إخوانه، فإذا جاء وقت العصر أيقظوه، فيقول لهم: أسمعتم شيئاً أو شممتم شيئاً؟ فيقولون: لا، فيقوم يصلي. أي: أنه لم يخرج منه شيء. والفقهاء يقولون: من قعد متمكناً ثم نعس وهو على تلك الحال فلا وضوء عليه، وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، والمالكية يقولون: إذا نام وهو راكع فلا وضوء عليه، وإذا نام وهو ساجد فعليه وضوء؛ لأنه وهو راكع متوازن، وحافظ لتوازنه، فإذا خرج منه شيء أدركه، أما الساجد فإنه ينام ولا يدرك شيئاً. فهنا تقول عائشة رضي الله تعالى عنها عنه إنه كان يقوم الليل، فإذا كانت نهاية الليل في طول القيام فإنه يحتاج إلى راحة، فقالوا: تلك الضجعة للارتياح بعد قيام الليل، من قال: إن كل من قام الليل فتعب فاضطجع فلا مانع، لكن هل اضطجاعه سنة أو اضطجاعه جبلة؟ والله لا تقدر أن تحكم بشيء، أقول للإخوة: ارجعوا في هذه المسألة إلى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، فقد روى هناك حديثاً عن أم المؤمنين عائشة - أعتقد أنه الفيصل في القضية - تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة جلس يحدثني، وإن كنت نائمة اضطجع) ، ومن هنا أجمع العلماء -ما عدا ابن حزم فيما انفرد به -على أن هذا الاضطجاع ليس بواجب، ويختلفون هل هو مباح أو مكروه أو سنة أو جبلة. ولكن وجدنا من ينقل عن الخلفاء الراشدين الأربعة النهي عن فعلها، ومن ينقل عن بعض السلف كـ ابن عمر أنه كان يفعلها، ومنهم من يروي أنه كان لا يفعلها. والخلاف موجود على هذا النحو المتقدم، فمن فعلها جبلة فلا بأس، لكن لا يكون ذلك في المسجد فيؤذي الناس، ويأخذ مكان ثلاثة أو أكثر، لأنه لا ضرر ولا ضرار، فإذا في بيته، وكان البيت قريباً من المسجد فكيفما شاء، أما في المسجد فإن فعلها يكون فيه تضييق على الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم. فعله صلى الله عليه وسلم على منهج البحث العلمي دائر بين الجبلة والتشريع، ووجدنا ترجيح جانب الجبلة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه تارة يحدثها، وتارة يضطجع. أما حديث الأمر الموجه للأمة: (فليضطجع) وجدنا أن هذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب مالم تجد صارفاً، ووجدنا حديث عائشة رضي الله عنها فيه الصارف عن الوجوب، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه، وإنما كان يفعله تارة ويتركه أخرى، فانتفى الوجوب بصيغة الأمر الموجه للأمة. والله تعالى أعلم.

صفة صلاة الليل

صفة صلاة الليل قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه. وللخمسة -وصححه ابن حبان - بلفظ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وقال النسائي: هذا خطأ] . في سياق هذا الحديث الأول: (صلاة الليل مثنى مثنى) معروف في اللغة أن (مثنى مثنى) معدول عن اثنين اثنين، مثنى وثلاث ورباع وخماس وسداس معدول بها عن الأصل، ولذا يقولون: إنها ممنوعة من الصرف للوصفية والعدل. والمراد هنا: (مثنى مثنى) أي: كل ركعتين معاً، ويتفق العلماء على هذا الحديث، وربما وقع خلاف في الزيادة، ونريد أن نجعل البحث في مطلق صلاة الليل دون التعرض للوتر؛ لأن الوتر له بحث مستقل. البحث الآن في مطلق قيام الليل وهو التهجد، لنعرف كيف يقوم الليل من وفقه الله سبحانه لذلك! ثم ننتقل من صلاة الليل إلى صلاة النهار، فقيل: الحديث المذكور كان جواباً لسؤال، سأله رجل: كيف أصلي الليل يا رسول الله؟! قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) أي: ركعتين ركعتين، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأحد أن يزيد في صلاة الليل عن ركعتين دون أن يسلم.

قياس صلاة النهار على صلاة الليل

قياس صلاة النهار على صلاة الليل ولنأت إلى صلاة النهار، وقد جاءت الزيادة فيه هنا (صلاة الليل والنهار) جاء ابن خزيمة والنسائي وقالا: هذا غير صحيح، أي: إضافة (والنهار) ، على أن هذه الإضافة غير صحيحة، فبعض العلماء جاء وقال: (صلاة الليل) ، مفهوم ذلك كيف تكون صلاة النهار؟ هذا الجواب وارد، فقالوا: إن لم تصح زيادة: (والنهار) ، ونقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وقفنا عند الصحيح، فما حكم صلاة النهار؟ فقوم قالوا: مفهوم المخالفة صلاة الليل خلاف صلاة النهار، وصلاة النهار خلاف صلاة الليل، يعني: صلاة النهار أربعاً أربعاً، أو ركعتان أنت مخير فيها، فيقولون: مفهوم المخالفة: أنه ترك صلاة النهار ولم يتعرض لها، وإنما نص الحديث على صلاة الليل، فنحن نعمل الحديث نصاً في صلاة الليل، ونذهب نجتهد في مفهوم المخالفة في صلاة النهار؛ فإن شئنا جعلناها مثنى، وإن شئنا جعلناها أربعاً أربعاً، وقد جاءت النصوص: (من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها. الحديث) (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهل هي مفرقة أم مجموعة؟ بل هي مطلقة لم يأت نص يبين حالها، فقوم قالوا: نقيسها على صلاة الليل، ونجعلها مثنى مثنى، وتكون كل صلاة النهار مثنى مثنى لا بالنص الزائد: (والنهار) ، ولكن قياساً على صلاة الليل. إذاً: منهج البحث العلمي هنا: قوم قالوا بالقياس دون الاعتماد على الزيادة: (والنهار) والقياس معتمد. وآخرون قالوا: لا، هذا نص خاص بصلاة الليل، فهي مقيدة بمثنى مثنى، والنهار نحن غير ملزمين لا بأربع ولا بركعتين ركعتين. ولنأت إلى التفصيل عند الأئمة رحمهم الله، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لك أن تصلي الأربع ركعات مجموعة، والأئمة الثلاثة يقولون: الأولى أن تفرقها كما فرقت صلاة الليل؛ لمرجحات كثيرة؛ لأن القاعدة في المسائل الخلافية إذا لم يوجد نص يرفع الخلاف، ولم يوجد ما يرجح أحد الجانبين من النصين بحثنا عما يرجح الخلاف من بعيد، قالوا: إذا صليتها أربعاً بدأت بتكبيرة الإحرام، وجلست في الثانية وقرأت التشهد الأول وقمت، وفي الرابعة تشهدت ودعوت وسلمت، فحصلت الأربع الركعات بتكبيرة واحدة، وسلام واحد، وتشهد كامل واحد، فإذا صليتها مفرقة كانت كل ركعتين بتكبيرة إحرام وتشهد كامل، وتسليم ودعاء مع التشهد، ويمكن دعاء الاستفتاح أيضاً، وإذا كانت مفرقة فهي أكثر لذكر الله، فمن هنا قالوا: الأولى والأرجح أن تصلى مفرقة. وجماعة وسعوا قليلاً وقالوا: ما دام أنها مثنى مثنى، وجاء في النهار صلاة أربع مجملة، فنحافظ على مثنى مثنى في الليل، وأما في النهار فيكون ممنوعاً صلاة ركعة وتسليمة، أو ثلاث ركعات وتسليمة، أو ست ركعات وتسليمة، لأن غاية ما جاء به النص أربعاً، والنص الآخر: (مثنى مثنى) ويقاس عليه، فليس عندنا نص يفيد أن نتطوع بست ركعات في تسليمة واحدة، فإذا تجنبنا الركعة الواحدة المفردة في النهار والثلاث والست بسلام واحد كان كل صورة بعد ذلك إما أربع كما جاء في سنة الظهر والعصر، وإما اثنتان كما جاء في صلاة الليل، هذا خلاصة ما يقال في صلاة الليل والنهار.

فضل صلاة الليل

فضل صلاة الليل قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل) أخرجه مسلم] . هذا فيه بيان المفاضلة في النوافل، ونحن نعلم بأن صلاة الليل نافلة، والنص الكريم يقول: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لك) وبقية المسلمين هل تكون لهم نافلة أم تطوعاً منهم؟ يقول علماء التفسير في التدقيق في هذه المسألة: إن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والنافلة بمعنى: الزيادة، لماذا كانت صلاة الليل زيادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأنه صلوات الله وسلامه عليه قد غفر ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، وصلاة الفريضة قد تنقص في حق الأمة، فجاء قوله: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فاجبروا بها فريضته) ، فريضة الأمة كأفراد من حيث هم محتملة للنقص، فإذا وقع نقص في فريضة جبر من النافلة، وقد تستغرقها، ولكن بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هل يحتمل في فريضته نقص يحتاج إلى جبران؟ لا، إذاً: صلاته كاملة، فالتطوع الذي سيكون منه سيتوفر له كاملاً، وهل هذا يكون لغيره؟ لا، إذاً: التنصيص القرآني: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تلك النافلة في جبران فريضته، بينما آحاد الأمة يحتاجونها، فقد لا تسلم تلك النافلة. وهنا يرشدنا صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الليل، وصلاة الليل تجمع عدة مسائل أو صفات تؤهلها وتجعلها فعلاً أفضل صلوات بعد الفريضة: أولاً: ما يلحق الإنسان فيها من مشقة؛ لأن صلاة الليل يرى كثير من العلماء أنها لا تعتبر تهجداً إلا إذا كانت بعد نوم، أما إذا كان سهران وما جاءه نوم حتى الساعة الثالثة أو الثانية والنصف بعد نصف الليل وقال: أصلي، فهو لم يتهجد بعد نوم، وما كلفته، لكن إذا كان نائماً مستغرقاً في النوم، وفي حاجة إلى هذا النوم، ويقهر نفسه ويغالب غريزته، ويجتذب نفسه من فراشه، ويتوضأ ويصلي، كان هذا عملاً فيه جهاد كبير، وهنا يصادف قيام الليل الثلث الأخير من الليل، وفيه الحديث النبوي: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داع فأجيبه؟) ، في هذه اللحظات المولى سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده، فالذي يصلي من الليل يصادف تلك اللحظات التي فيها النداء من الله سبحانه، إذاً: تصادفه من حيث الزمن والملابسات من تجلي المولى سبحانه لعباده، وتدل على شدة الرغبة في الخير، وكذلك أيضاً الناس نيام، فهذا قام من ليله، بينما الآخرون مستغرقون في نومهم، وفرق بين من ينعم في نومه وبين من ينعم بمناجاة ربه. كان ابن عمر رضي الله عنه ينتهز نوم الناس في القيلولة فيقوم ويصلي، ويقال عنه: يحيي القيلولة؛ وإن كان قد جاء الحديث أن نومة القيلولة تعين على قيام الليل، وابن عمر رضي الله تعالى عنه له قصة ودافع في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فقد جاء أنه رأى رؤيا، حيث رأى نفسه على حافة النار، فسمع منادياً يقول: (لن تراع! لن تراع) أي: لا تخف، فنجا منها، وقبلها كان يقول في نفسه كما يعبر هو: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح التفت لأصحابه وقال: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟) ، فمن كان يرى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعبرها له، وقال صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وهذه النسبة جاءت كما يأتي: واحد من ستة وأربعين، قالوا: إن مدة الوحي كانت قسمين: وحي بالرؤى، ووحي بالملك، فالوحي الذي كان بالرؤى مدة وجوده صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، كان يرى الرؤيا ليلاً فتأتي صباحاً كفلق الصبح، كأنه يقرؤها من كتاب، ثم جاءه الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] قالوا: كم كانت مدة الوحي بالملك؟ ثلاث وعشرون سنة، ثلاث عشر سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة، وستة أشهر بالنسبة للسنة كم؟ النصف، اضربها في اثنين، كل سنة نصفين، فهنا الوحي المباشر ثلاثة وعشرون في اثنين فتكون ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمدة الرؤيا بالنسبة لمدة الوحي نصف سنة من ثلاث وعشرين سنة، فتكون النسبة صحيحة. وهكذا الرؤيا الصادقة أو الرؤيا الصالحة كثير من الناس يرى الرؤيا فيصبح يراها موجودة في الفعل، أو من الغد أو قريب من هذا الباب فيقول ابن عمر: (كنت أقول: إن من يرى رؤيا صالحة يكون عنده شفافية في روحه، ويكون عنده نور في بصيرته، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت أني على حافة النار أو جب فيه النار، فجاء ملك أو قال شخص: لن تراع لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فأخذ العلماء من هذا أن قيام الليل ينتج عنه النجاة من النار؛ لأنه رأى أنه على حافة النار، والرسول أرشده إلى ما ينجيه منها، فما كان يترك قيام الليل بعد ذلك حتى زاد قليلاً فكان يحيي القيلولة زيادة في الخير وحرصاً عليه.

المفاضلة بين ركعتي الفجر وصلاة الليل

المفاضلة بين ركعتي الفجر وصلاة الليل إذاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة -يعني: أفضل النوافل- صلاة الليل، وعندنا حديث أنه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً لصلاة بعد الفريضة من سنة الفجر والوتر، فهل تكون صلاة ركعتي الفجر آكد من صلاة الليل؟ الآكد شيء، والفرضية شيء، والفضيلة شيء، فكما قالوا: الخصوصية لا تقتضي التفضيل، فمثلاً: زيد بن ثابت قال فيه رسول الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد) ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام، أبو عبيدة أمين هذه الأمة، هذه خصائص لأشخاص وأفراد، فهل تخصيصهم بهذه الخصائص فضلهم على أبي بكر وعمر؟ ما فضلوا عليهم. فهنا خصيصة صلاة الليل تبعد عن صلاة النهار، وليس معنى ذلك أنها أفضل مما أكد عليه صلى الله عليه وسلم، أو يقال: هذه سنة راتبة مرتبطة بفريضة فهي تدعو إليها، أما قيام الليل فليس براتب، وليس مربوطاً بفريضة، إنما هو عبادة مستقلة؛ ولهذا عظم شأنها، وفضلت في الأجر على غيرها، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [4]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [4] لقد جاءت الأحاديث في بيان فضل صلاة الوتر، فالوتر حق على كل مسلم أن يصليها كيفما شاء ركعة أو ثلاث ركعات أو خمس، ويبدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى قبيل طلوع الفجر، ومن كل الليل أوتر رسول الله من أوله وأوسطه وآخره؛ فكان في الأمر توسيع على عباد الله المؤمنين، ولشدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صلاة الوتر شرع لمن نام عنها أو نسيها أن يصليها إذا أصبح أو ذكر.

صلاة الوتر وما جاء فيها من الأحاديث

صلاة الوتر وما جاء فيها من الأحاديث الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم، من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) رواه الأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان، ورجح النسائي وقفه] . جاء هذا الحديث عن أبي أيوب مرفوعاً هنا، وعند غيره موقوفاً على أبي أيوب، وأبو أيوب نستبعد أن يجعلها حقاً أو غير حق اجتهاداً من عنده؛ لأن (حق) هنا بمعنى واجب، فيبعد أن يكون أبو أيوب قد أوجب شيئاً من عنده؛ ولذا يقول العلماء: وإن جاء موقوفاً فإن الموقوف في حكم المرفوع، ولا سيما إذا جاءت رواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحق الواجب اللازم الثابت. وقول أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم) اللفظ هنا للجنس، فيشمل كل مسلم ومسلمة، وقد ذكر البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ما شاء الله، ثم أيقظ عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: (قومي فأوتري) . إذاً: (على كل مسلم) هذا للجنس، فإذا ذكر الرجال دخلت النسوة تبعاً للرجال، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أي: بواو الجماعة للذكور في الأمر بالصلاة والزكاة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:178] لم يقل: عليكن، فعلم بأن النسوة تبع للرجال في مواطن التشريع.

صرف حكم الوتر من الوجوب إلى السنية

صرف حكم الوتر من الوجوب إلى السنية قوله: (الوتر حق) : إلى هنا لو لم يأت بقية الحديث لكان هذا الجزء من هذا الحديث يوجب ويعين فرضية الوتر وأحقيته على كل فرد، أي: ليس واجباً كفائياً، بل على كل مسلم في ذاته، ولكن وجدنا سياق الحديث: (الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) الخمس الثلاث الواحدة كلها وتر، فكيف يكون حقاً ويترك فعله إلى ما يحبه الإنسان؟! إن آخر الحديث يرد الكيفية إلى فعل ما يحبه الإنسان، وهنا شبه نافذة لمبادئ الخلاف، فكلمة: (حق على كل مسلم) ، من تمسك بها قال: الوتر حق واجب، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رجلاً جاء إلى عمر وقال: إن في الشام رجلاً يقال له: أبو محمد، يقول: إن الوتر واجب، فقال: كذب أبو محمد، الوتر ليس بواجب، وسيأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه: ليس بواجب كالصلاة أو كالفريضة، ولكن سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأول الحديث يقول: (الوتر حق) وفي آخر الحديث: (من أحب أن يوتر بخمس بثلاث بواحدة فليفعل) ، فلما أُسند الأمر إلى ما يحبه الإنسان تخلخل رابط الحق والوجوب، وأصبح واجباً مخلخلاً؛ لأن فيه اختياراً الإنسان، ولو كان واجباً حتماً لما ترك الاختيار للإنسان في كيفية الأداء. ولكن كمنهج علمي: الذين يقولون بأنه حق قالوا: نحن لم ننازع في الكيفية، فليوتر على أي صفة شاء، وعليه أن يوتر بما يشاء، فذلك متروك له. إذاً: مجال الخلاف قائم، ماذا فعل المؤلف إزاء ذلك؟ وقبل أن ننتقل للأثر بعده لنرى الحكمة والفقه في إيراد النصوص في الباب الواحد، وأنها لم تكن عفوية، ولكنها مقصودة لبيان الحكم من سياق اللفظ أو من خلال المعنى بين السطور. في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شاء أن يوتر بخمس فليفعل) ، كيف يصلي الخمس؟ ليس عندنا صلاة خمس ركعات أبداً، أكثر صلاة عندنا أربع، وهنا نزل إلى واحدة، فكيف يصلي الخمس؟ وكيف يصلي الثلاث؟ سيأتي تفصيل ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعن غيره. وقد جاءت الروايات في الوتر بعدد زيادة عن الخمس: بسبع أو بتسع، وجاء بالفعل من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري رحمه الله لما بات عند خالته ميمونة قال: فبات النبي صلى الله عليه وسلم وأهله بطول الوسادة، ونمت في عرضها، الوسادة طويلة، فنام النبي صلى الله عليه وسلم على طولها، ونام هو في عرضها الذي هو سمكها، أي: نام ابن عباس على طرف الوسادة. قال: حتى إذا كان منتصف الليل -وفي بعض الروايات-: ثلث الليل، قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى شن فتوضأ، ثم أخذ ثوباً، ثم قام يصلي، ففعلت كما فعل، أي: قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ يفتل شحمة أذنه، قالوا: في هذا تنبيه للصبي حتى لا ينام، وتشجيع له على عمله، ومؤانسة له. والرواية الأخرى يقول فيها: قمت عن يساره، فمد يده من وراء ظهره وأخذ برأسي وأدارني إلى يمينه، فهنا بينوا موقف المأموم المنفرد من الإمام إن كان واحداً، فيكون عن يمينه لا من ورائه ولا عن يساره. وبالمناسبة وخاصة ونحن بالمدينة المنورة، ونشاهد الصلاة في المسجد النبوي أثناء الموسم، فنحتاج إلى هذه الصورة، فـ ابن عباس قام للصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، ظناً منه أن الأيمن أفضل، فترك الأيمن لرسول الله ولم يقف متيامناً على رسول الله، فوقف في اليسار على أن الأيمن أفضل، ولكن السنة أن يكون الإمام بمثابة السترة للمأموم، فأخذ ابن عباس من يساره بعد أن كبر في الصلاة، وأداره إلى يمينه، وهنا مالك رحمه الله قال: تصح الصلاة أمام الإمام عند الضرورة، نحن نشاهد المصلين هنا أثناء الموسم يتقدمون الإمام، ونجد البعض أو الكثير يعترض على ذلك ونقول: مصيب من وجه، وغير مصيب من وجه آخر. واستدلال مالك رحمه الله بهذه الصورة قال: إن الجهات بالنسبة إلى الإمام أربعاً: أمام وخلف ويمين ويسار، فوجدنا الخلف هو موقف المأمومين إن كانوا عدداً، واليمين موقف المأموم إن كان فرداً، إذاً: لا موقف في أمام ولا يسار، لكن ابن عباس لما قام ووقف عن يساره وليس بموقف، كبر ودخل في الصلاة، ولم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من صلاة ابن عباس في اليسار وهو في غير موقفه، ولكن صححه وأخذه وجعله في الموقف الصحيح وهو الأيمن، فيقول مالك: الجزء الذي وقع من ابن عباس في غير موقفه اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذره لعذر الجهالة؛ لأن المكان متسع وابن عباس لم يعرف ذلك، فصحت صلاته وهو قائم في اليسار، لأنه أوقع جزءاً من الصلاة في جهة اليسار، ثم أكملها في الموقف الصحيح، فإذا جاء إنسان ووقف أمام الإمام وهو في غير موقف نظرنا: إن كان لعذر لضيق المكان وعدم التمكن صحت الصلاة وصح الاقتداء، وإذا كان يوجد مكان ولكنه قصر وترك محل الوقوف عن اليمين أو الخلف وجاء أمام الإمام فلا حق له في ذلك.

الصور والكيفيات لصلاة الليل مع الوتر

الصور والكيفيات لصلاة الليل مع الوتر لما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه قيام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا ثلاث عشرة ركعة، وهنا يأتي الكلام في حديثنا الذي معنا: (من أحب أن يوتر بخمس) والعدد لا مفهوم له، أي: ولو بسبع ولو بتسع، كيف يصلي الوتر خمساً أو ثلاثاً أو سبعاً أو تسعاً؟

الصورة الأولى: التسليم في كل ركعتين

الصورة الأولى: التسليم في كل ركعتين يتفق العلماء -تقريباً- على أنه إن شاء صلى كل ركعتين وسلم، على ما سيأتي لـ ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم كل ركعتين، وفي بعض الروايات: (وربما أمر ببعض حاجته) وبعض الروايات قال: (بعد كل ركعتين قام وشاص فاه بالسواك) يعني: يفصل بين كل ركعتين بالسلام وبالكلام، وربما استاك ما بين كل ركعتين، فإذا ما أتم شفعاً أربعاً أو ستاً أو ثماناً قام وجاء بركعة واحدة صارت هي الخامسة أو السابعة أو التاسعة وتم الأمر، هذه صورة مثنى مثنى ويوتر بواحدة، سواء أتم إلى خمس أو سبع أو تسع.

الصورة الثانية: عدم الجلوس للتشهد والتسليم حتى يتم خمسا أو سبعا.

الصورة الثانية: عدم الجلوس للتشهد والتسليم حتى يتم خمساً أو سبعاً. الصورة الثانية: يقوم في الخمس ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، ويجلس في الشفع الأخير، والشفع الأخير من الخمس هو الرابعة، فيتشهد التشهد الأوسط ويقوم، ثم يأتي بالخامسة ويجلس، ثم يتشهد ويسلم. وإذا كان في سبع ركعات يقوم ست ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، وفي آخر ركعة من الست يجلس ويتشهد التشهد الأوسط ويذكر الله، ثم يقوم ويأتي بالسابعة ويجلس ويتشهد ويسلم. وكذلك في تسع يجلس في الثامنة ويتشهد التشهد الأوسط، ثم يقوم يصلي التاسعة، ثم يجلس فيتشهد التشهد الكامل ويسلم، وهكذا ذكروا في كيفية صلاة الوتر بخمس أو بسبع أو بتسع. وأذكر لـ ابن حزم صورة أخرى وهي: أن يصلي الخمس تباعاً لا يجلس أبداً إلا في الأخير مرة واحدة، ويتشهد ويسلم، وكذلك السبع والتسع.

خلاف العلماء في وتر الثلاث

خلاف العلماء في وتر الثلاث بقي عندنا الوتر بثلاث كيف يصليها؟ يأتي البحث مطولاً في الثلاث أكثر من غيرها، تارة يأتي السياق بأنه صلى الله عليه وسلم صلى الوتر ثلاثاً، لا يجلس في الثانية، إنما يأتي بثلاث سرداً، كما تقدم عن ابن حزم في الركعة الخامسة والسابعة والتاسعة، فيصلي ثلاث ركعات، فيجلس في الثالثة ويتشهد ويسلم، ولكن غالب ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه يفصلهما، فيصلي ركعتين ويسلم منهما، ثم يأتي بالثالثة فيما بعد ويسلم لها. وهذه الركعات الثلاث عند الفقهاء موصولة أم مفرقة؟ الخلاف في هذه بين الأحناف والجمهور، فالأحناف يرون أن الوتر بثلاث موصولة، يجلس في الثانية يتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالثالثة يتشهد ويسلم، لكن الجمهور واجهوا الأحناف بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشبهوا الوتر بالمغرب) أي: في الكيفية: كون الإنسان يجلس في الثانية ويتشهد التشهد الأول، ثم ينهض ويأتي بالثالثة، ويتشهد التشهد الكامل ويسلم، هذه صورة المغرب سواء بسواء. استدل الأحناف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديثها: (ما زاد رسول الله صلى الله وسلم في رمضان ولا في غيره عن ثماني ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن. ثم يوتر بثلاث) ، لكنها لم تفصّل لنا كيفية هذه الثلاث، وقال الأحناف: لم نجد ثلاثاً إلا كصفة المغرب، ولم نجد صلاة ركعة واحدة منفردة من الصلوات. وهناك الخلاف هل تصح الصلاة ركعة واحدة؟ جاء عن بعض السلف أنه قال: لا توجد صلاة ركعة واحدة، فأخذ بذلك الأحناف، ولكن أجيب عن ذلك بأن هناك من كان يقول في قصر الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين، فصلاة السفر ركعتان، قالوا: صلاة الخوف تقصر عن صلاة السفر فتكون ركعة واحدة، فقال القائل كما ينقل ابن دقيق العيد: لم نجد صلاة ركعة واحدة، يعني: في الفريضة، لا في حضر ولا في سفر، ولا حتى في صلاة الخوف، وجميع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، بأنه يقسم الجيش قسمين، فإن كان العدو اتجاه القبلة صفوا صفين وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالصف الذي يليه ركعة ثم جلسوا، ثم قام الصف الثاني الذي كان في الحراسة فصلى، ونهض الصف الأول للحراسة من أمامه، فإذا ما صلى ركعتين مفرقتين على الصفين جلس، وقام كل صف ليتم لنفسه، ثم سلم بهم جميعاً، وقد صلى الجميع ركعتين. وإذا كان العدو في غير القبلة قسم الجيش قسمين: قسم يتجه إلى العدو حراسة، وقسم يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، فإذا صلى بالصف الذي وراءه ركعة يذهب إلى الحراسة، ويأتي ذاك الصف الذي كان في الحراسة فيأتي ويصف خلف النبي إلى القبلة، ويصلي به الركعة الثانية، فإذا ما أتم صلى الله عليه وسلم لنفسه ركعتين، وكان لكل نصف من الجيش ركعة، أتم كل ركعته الباقية وسلم. وعلى هذا فلم نجد في صلاة الخوف ركعة واحدة، وقد بحث هذه المسألة والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قصر الصلاة في السفر، وأطال في هذه المسألة إطالة طويلة جداً. يهمنا الآن هل توجد ركعة واحدة في الصلاة أم لا، نحن أمامنا نص صحيح صريح، (فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة واحدة) ، فهذا نص، وقوله: (ركعة) التاء هنا علامة الوحدة، كما تقول: أكلت تمرة، لو قلت: أكلت تمراً، لكان شيئاً كثيراً لا ندري كم هو، لكن إذا قلت: أكلت تمرة تفاحة برتقالة، فهي واحدة، التاء يقال لها: تاء الوحدة، فجاءت مؤكدة بالعدد، (ركعة واحدة) . إذاً: وجدنا في التطوع ركعة واحدة، وهي ركعة الوتر، وهي محل الخلاف، إذاً: لا يقوم للأحناف إزاء هذا الحديث ما يستدلون به من أنه لم توجد صلاة ركعة واحدة. والجمهور يقولون لهم: لا مانع أن نصلي الوتر بثلاث، ولكن مفرقة، أو أنكم لا تجلسون في الثانية حتى لا تشبهوه بالمغرب. إذاً: قول أبي أيوب: (الوتر حق على كل مسلم) كان هذا الجزء من الحديث موجباً للوتر، ولكن ما جاء بعده: (فمن شاء أن يوتر بخمس. بثلاث. بواحدة فليفعل) خلخل قاعدة الوجوب، وجعل فيها مجالاً للخلاف، وللبحث في ذلك. نجد من فقه المؤلف أنه يسوق لنا بعده حالاً حديث علي رضي الله تعالى عنه.

القول بسنية الوتر عن علي بن أبي طالب

القول بسنية الوتر عن علي بن أبي طالب قال المؤلف: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم وصححه] . انظروا الأسلوب يا جماعة! فرق بين لفظ: (الوتر ليس بحتم) ، وبين لفظ: (ليس الوتر بحتم) ، فالتقديم والتأخير له سر بلاغي؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه يريد أن ينفي الحتمية، لا يريد أن ينفي الوتر، فلما ذكر المؤلف حديث أبي أيوب: (الوتر حق ... ) وفيه ابتداء إيجاب الوتر، أعقبه بحديث علي بنقيض هذا الإيجاب: (ليس) ، فيكون أول ما يطرق السمع في هذا الموضوع عن علي هو عامل النفي؛ ليرد حالاً عامل الإيجاب في حديث أبي أيوب سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً: (ليس الوتر بحتم) الحتم: الواجب، وأمر حتم محتم بمعنى واجب، فـ علي يقول: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة) يعني: نزل عن مستوى المكتوبة، فهل يكون نزوله مجرد زحزحته عن الوجوب أم ألغي بالكلية؟ إذاً: كلام علي هنا زحزحته عن مرتبة الوجوب إلى ما يليها. قال: (ولكن سنة سنها رسول الله) هذا استدراك حتى لا يظن إنسان أنه غير موجود فقال: (ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سنة رسول الله قريبة من الواجب الحتمي، ولكن هنا ليست بذلك. وقد تعرضنا مراراً إلى أن السنة قد تأتي بالواجب في الأوامر والمنهيات، وتستقل بذلك، وإن كانت السنة إنما هي بالدرجة الأولى لبيان ما نزل إليه، وقد وجدنا في السنة المطهرة تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، وهذا تحريم، والتحريم ليس بهين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] لم يقل: الخالة ولا العمة، ولكن بمقتضى نص النبي صلى الله عليه وسلم يحرم الجمع بينهن، اللهم إلا الشيعة فإنهم لا يأخذون بذلك، ولا يهمنا هذا، وعلى هذا نهى صلى الله عليه وسلم، ونهيه فيما يتعلق بالتحريم قطعي وليس في ذلك شك. فقد تأتي السنة بالفرض وبالمحرم وبالمكروه والمندوب والمباح على أحكام التكليف الخمسة. وقوله: (سنة سنها رسول الله) ؛ هذا اصطلاح فقهي أصولي في زمن علي رضي الله تعالى عنه، وليس أمراً جديداً جاء به علماء الأصول، فهناك فرض وهناك سنة وهناك مندوب وهذا موجود يتكلم به علي، وقد جاء الحديث الصحيح عنه صلوات الله وسلامه عليه بذلك، جاء في قيام رمضان حيث قال: (إن الله افترض عليكم صيامه، وأنا سننت لكم قيامه) ، فهو صلى الله عليه وسلم بجانب فرض الصيام سن القيام. وهل للمسلم اختيار في أن يأخذ بسنة رسول الله أو لا يأخذ؟ لا. الواجب على المسلم أن يحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من فرط في السنة ربما يأتي التفريط ويسحب إلى الواجب، فإذا ما حافظ على السنة النبوية كان أحرى أن يحافظ على الواجب، وهنا قد تأتي السنة وتترك الخيار للمكلف فتكون للندب، فيكون الأمر فيها أهون من غيرها، كما جاء: (صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال: لمن شاء) فهنا سنها وترك المشيئة والخيار للناس، وليست كالوتر. ويدل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق) بعد أن صرف عن الوجوب على أن الوتر آكد من غيره من النوافل الأخرى، وتقدم لنا حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً للنوافل من ركعتي الفجر والوتر) . ثم تأتي النصوص الأخرى: (يا أهل القرآن! أوتروا، فمن لم يوتر فليس منا) وهذه أحاديث الوعيد التي ينقسم العلماء عندها إلى فريقين: فريق يقول بالوجوب، فإن قوله (ليس منا) وعيد شديد، والآخرون يقولون: أحاديث الوعيد تمرر كما جاءت ولا تفصل؛ لأنها كلما أبقيت على إجمالها كانت أشد في الوعيد والزجر.

قيام الليل فضائله وأحكامه

قيام الليل فضائله وأحكامه قال المؤلف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة ولم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر) رواه ابن حبان. وعن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه] . بعدما أورد المؤلف رحمه الله ما يشبه الخلاف أو التعارض، أو ما يشبه الوجوب الذي صرف بصارف، جاء بهذين الحديثين أيضاً، وهما أصرح في الدلالة على صرف حديث: (الوتر حق) عن الوجوب من غيرهما. فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل في رمضان، وقام معه بعض الناس، ثم لم يقم فيما بعد، ثم انتظروا، ثم خرج عليهم في صلاة الصبح وقال: (خشيت أن أخرج عليكم؛ فتفرض عليكم صلاة الوتر) ، والصحيح في الحديث أنه قال: (خشيت أن تفرض عليكم) يعني: صلاة الليل، وهذا الذي عليه الجمهور، والمؤلف ساقه على هذه الصيغة: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) . إذاً: لم يكتب إلى الآن، وإلى الآن لم يكتب، والذي يهمنا في تصحيح السياق وما ساقه المؤلف في قيام الليل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من رمضان فصلى، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تفرش له حصيراً عند باب الحجرة في الروضة، فصلى ليلة ثلاث وعشرين، فانتبه من كان في المسجد، فجاءوا وصلوا خلف النبي صلى الله عليه سلم؛ لأنهم كانوا يقومون رمضان أوزاعاً، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان) وجاء الحديث المتقدم ذكره: (إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، فكانوا يصلون ما تيسر لهم أوزاعاً، قال أبو هريرة: (فكان الأمر كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وكان زمن أبي بكر، وجزءاً من خلافة عمر) ، ثم جمعهم عمر على إمام واحد؛ هذا تتمة الموضوع. لكن هنا فيما ذكره المؤلف رحمه الله: صلى أناس بصلاته ليلة ثلاث وعشرين، ثم قام ودخل البيت، وفي ليلة أربع وعشرين لم يقم، في ليلة خمس وعشرين قام، وكان الناس قد سمعوا بما صلى خلف رسول الله من الناس فاجتمعوا، فصلوا بصلاته، قيل: هي الثانية وقيل: في الثالثة، أو أن الناس صلوا العشاء ولم يقوموا من أماكنهم ينتظرون مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيصلوا جميعاً بصلاته، فنظر صلى الله عليه وسلم فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس! ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى، ولكنهم ينتظرون لتخرج لتصلي فيصلوا بصلاتك، كما صلى بصلاتك من قبل أناس، وقد تسامعوا بذلك، قال: أوفعلوا؟!! اطوي عنا حصيرك، ولم يقم تلك الليلة، فانتظروا واستطالوا الانتظار، فأخذوا بعض الحصباء وحصبوا الباب، وكان من الساج، فلم يسمع لهم ولم يخرج، حتى خرج لصلاة الصبح وهم في انتظاره، قال: والله ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما نمت بحمد الله غافلاً، ولكن خشيت أن أخرج إليكم، فتفرض عليكم فتعجزوا) إذاً: ما هو الذي يفرض عليهم الوتر أم قيام الليل؟ قيام الليل. مسألة: كيف يخشى أن تفرض عليهم وقد سمع في حديث فرضيتها: (هي خمس وهي خمسون) ؟ وقد جاء عنه: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) ، فلو كان الوتر أو قيام الليل واجباً لصارت ستاً، هو يعلم أنها لم تفرض، فكيف يقول ذلك؟ قال العلماء: خشي أن يفرض عليهم قيام رمضان في الليل جماعة فقد يعجزون، وقد جاء أن أفضل قيام رمضان في البيت لمن يقوى على ذلك ما لم تعطل المساجد من التراويح؛ لأن قيام رمضان في المساجد أصبح شعاراً للمسلمين، ولا ينبغي أن يعطل أبداً، فإذا كان الفرد بذاته حافظاً لكتاب الله، وأراد أن يقوم في بيته فهو أفضل له، وقد شاهدت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول أمره يصلي العشاء مع الإمام ويخرج، ويصلي التراويح على سطح بيته، ثم في الآونة الأخيرة قبل وفاته بثلاث أو أربع سنوات سألته: كنت أراك تصلي التراويح في البيت، هأنت الآن تصليها مع الجماعة في المسجد، ألحديث أنس: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ؟ قال: لا، قلت: لماذا إذاً؟ قال: كنت في أول الأمر نشيطاً بنفسي أصلي دونما كسل، ولكن مع الكبر، ومع هذا الوقت إن صليت وحدي ربما تكاسلت، فأصلي مع الجماعة أتقوى بحضوري معهم، وعلى هذا تصح صلاة قيام الليل منفردة، وتصح جماعة، وتصح في البيت، وهي أفضل لمن توفرت فيه شروطها، وتسن في المسجد كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعض، وصلاها عمر رضي الله تعالى عنه، وأوجد لها إمامين يتناوبان، وإماماً ثالثاً للنساء أعجل في القراءة، ويأتي بحثها مستقلاً. فقالوا: هو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الصلوات خمس، ولذلك لما أتى ضمام بن ثعلبة وسأل الصحابة فقال: (أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قالوا: ذاك الأبيض المتكئ… قال: آلله أرسلك؟ قال: اللهم نعم، قال: أسألك بالله الذي خلق السماوات والأرض، وأرسل من كان قبلك أفرض الله علينا خمس صلوات؟ قال: اللهم نعم -ثم سأله عن رمضان، وسأله عن الزكاة- ثم قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على ذلك ولا أنقص) وذهب إلى قومه، فما بات واحد من أهله إلا وقد أعلن إسلامه، وقالوا: ما وجدنا سفيراً أشد وأكبر بركة على قومه منه. فقوله: (لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، وقوله صلى الله عليه وسلم بعده: (أفلح إن صدق) يفيد أن الصلوات الخمس ليس فيها زيادة، قالوا: الذي خيف منه أن تفرض جماعة، كما أنهم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ليصلي بهم جماعة، وما عدا ذلك فلا. ولذا قالوا: لما أمن عمر من أن تفرض لانقطاع الوحي سنها جماعة، على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله. الشاهد: أنهم جلسوا وانتظروا، وكان يصلي قبل ذلك، واتفق العلماء على أنه ما كان يشعر بصلاتهم خلفه، وليس ذلك ببعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما يكبر في الصلاة لا ينتبه لغيرها، ولا يشغله عنها شاغل، وإن كان ليس غافلاً في صلاته عما حوله؛ لأنه جاء عنه: (إني لأدخل في الصلاة على نية الإطالة، فأسمع بكاء الطفل فأخفف رحمة بالأم، لما أعرف من وجدها عليه) إذاً قالوا: كيف أقرهم على الصلاة خلفه؟ قالوا: لم يشعر بهم، ولا مانع في ذلك. يهمنا تصحيح الحديث الذي يقول: (خشيت أن أخرج إليكم، فيكتب عليكم الوتر) والصحيح: (أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها) لكن المؤلف يريد أن يقول: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) ، ليستدل على أنه لم يكتب، ولم تأت كتابته، وهذا يرد على حديث: (الوتر حق) إذاً: حق لم يكتب كما قال علي: (ليس كالصلاة) .

فضل صلاة الوتر

فضل صلاة الوتر قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم) . ثم يأتي بهذا الحديث وله دلالة من جهتين: الجهة الأولى: (إن الله أمدكم) والمدد يكون زيادة عن الأصل، كمدد الجيش. (أمدكم بصلاة) ولم يقل: (أوجب عليكم صلاة) يعني: هي مدد زيادة في الأجر وفي العمل، وفرصة أخرى فيها متسع لكم (هي خير لكم من حمر النعم) فإذا كان الأمر موكولاً إلى: (خير لكم من حمر النعم) ، فالذي يريد حمر النعم يهتم بها، والذي لا يريد فلا حرج. إذاً: هذا الحديث يدل من جانب على أن الوتر ليس بواجب، وإنما هي صلاة أمدنا الله سبحانه وتعالى بها. الناحية الثانية: بيان فضل الوتر، بأن الوتر من صلاها فهي خير من حمر النعم، وما هي حمر النعم؟ أين أهل نجد أو أهل البوادي أو أهل الإبل أين العمانيون؟ حمر النعم هي نوع من الإبل العمانية أو مثلها، تأتي في لون فيه احمرار، وهي جميلة الشكل، فارهة القوام، وهي أحسن أنواع الإبل. ولما كان المخاطبون أهل إبل خوطبوا بما هو أحب شيء إليهم، واليوم تخاطبهم فنقول: خير من أجمل القصور، وخير من أحسن السيارات، ولكن التعبير النبوي الكريم، لا يأتي تعبير أحسن منه ولو تطورت الحياة حتى يصل الناس إلى غزو الفضاء وغيره، فحمر النعم هي الزينة وهي الجمال، وهي المتعة، وهي التي تقر لها العين، أما غيرها فقد يخشى الإنسان منها. فحمر النعم إذا رأيتها في الصحراء وهي تقطع الفضاء، وهي في رشاقتها كما يقال: تسر النظر، وتشرح الصدر، ويطمئن إليها صاحبها، وهذا خير ما يتطلع إليه الإنسان صاحب الحلال. فالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم ترغيب في الوتر، وبيان لأجره وفضله. والله سبحانه وتعالى أعلم. قال المؤلف: [وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا) أخرجه أبو داود بسند لين، وصححه الحاكم، وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد. ] تقدم مثل هذا اللفظ، وتقدم معه ما يبين ذلك الحق: (فمن شاء أن يوتر بخمس. بثلاث. بواحدة فليفعل) ، وهنا أعاده المؤلف مرة أخرى بعد هذا البيان: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا) . هذه الأحاديث التي فيها: (ليس منا من فعل كذا، ليس منا من فعل كذا) تترك على عمومها، كما قالوا: أحاديث الزجر والوعيد لا تشرح ولا تفسر، وبإجماع المسلمين كلمة: (ليس منا) لم تخرجه عن نطاق الإسلام، حاشا وكلا، ولكن (ليس منا) أي: من خيارنا، وليس على مستوانا، وليس على ما نحن عليه من التزام الفرائض والنوافل. إذاً: (ليس منا) : أي: من المجموعة التي تحافظ على هذا الباب الخير، ويكون الصارف على هذا المعنى تلك النصوص الأخرى التي صرفت نصوص الوجوب إلى الندب، ومعلوم أن من ترك مندوباً لم يخرج عن الإسلام، بل إجماع المسلمين -ما عدا بعض الفرق- أن من وقع في كبيرة لا يخرج عن الإسلام؛ لأنه يترك إلى المشيئة، بخلاف المعتزلة والخوارج الذين يكفرون بالكبائر، والمعتزلة لا يجرءون أن يكفروا في الدنيا، وأهل السنة والجماعة مجمعون على أن لا تكفير بذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء:48] ، فما دون الشرك متروك لمشيئة الله سبحانه. إذاً: فقد اتفقنا على أن الوتر ليس فرضاً كفرض الصلاة، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (ولكنه سنة سنها رسول الله) ، فمن ترك سنة لا يكون ترك الإسلام. إذاً: هذا من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [5]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [5] لقد سن النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل لهذه الأمة، وما منعه من جمع الناس في المسجد إلا خشية أن يفرض عليهم، ولذا فإنه لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد انقطاع الوحي، قام بجمع الناس على إمام واحد في المسجد، فصارت صلاة القيام سنة تؤدى جماعة في المسجد إلى يومنا هذا، وصارت شعاراً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

شرح حديث عائشة في بيان عدد ركعات صلاة الليل

شرح حديث عائشة في بيان عدد ركعات صلاة الليل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) متفق عليه، وفي رواية لهما عنها: (كان يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة) ] . هذا الحديث قد تميز بموضوع مستقل، بمعنى: أنه يدخله العلماء في مباحث صلاة التراويح، وذلك لقولها رضي الله تعالى عنها: (في رمضان ولا في غيره) ومعلوم صلاة رمضان أنها صلاة التراويح. والحديث حول هذا النص الصحيح يتناول الكيفية والكمية، فإذا وقفنا على تلك الكيفية والكمية انتقلنا إلى ما عليه التراويح، وما أخذته من مراحل وتطور في هذا المسجد النبوي الشريف إلى نهاية عهد التشريع والتطبيق العملي من الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.

أهمية اتباع النبي في كيفية صلاة التراويح

أهمية اتباع النبي في كيفية صلاة التراويح تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد - (ما) هنا نافية- رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وإلى هذا الحد كأنه يقال: لا زيادة في التطوع ليلاً في رمضان ولا شعبان ولا شوال على ثمان ركعات، هذا هو النص في الكمية، ولكن هل بقي الأمر على ذلك؟ نأتي إلى الكيفية: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) ، لماذا لا أسأل؟ لأنه فوق ما تتصور من الإجابة، ومما تتوقع أن يصليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه ثمان ركعات: أربع وأربع؛ (ثم يصلي ثلاثاً) فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة، (ثم يصلي ركعتي الفجر) فيكون ذلك ثلاث عشرة ركعة. الثلاث لم تبين لنا كيفيتها، ولكن في الثمان ذكرت التطويل والحسن. يأتي في حديث أنس وغيره عنها رضي الله تعالى عنها أنه كان يقرأ قائماً في الركعة الأولى البقرة والنساء وآل عمران، أو يقرأ البقرة أو آل عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من قيامه، ثم يجلس ويحمد الله، ويسأله نحواً من قيامه، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من اعتداله. وتقول في قراءته: (ما مر بآية مغفرة إلا سأل، وما مر بآية عذاب إلا استعاذ) وهكذا تبين القراءة ترتيلاً وسؤالاً وتأملاً واستعاذة. يقول ابن حجر: إن هذه الكيفية لتعطي الركعة ما يعادل ساعتين، ولعله يقضي الليل كله في هذه الثمان ركعات. نحن نأتي إلى قولها: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره) ، فبعض الإخوة يأخذون الحديث يقسمونه قسمين: قسم يأخذون به، وقسم يهملونه، ويقولون: لا تراويح إلا ثماني ركعات؛ لحديث عائشة: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره) لكن لفظ: (عن حسنهن وطولهن) أين ذهبت؟ قال: هذه ذهبت مع رسول الله فيقال: سبحان الله! أنتم تأخذون ذلك سنة، وتمنعون الزيادة، لماذا؟ فإذا كنتم تريدون تطبيق السنة وفعلتم ذلك، فكان يكفي منكم أربع ركعات بدلاً عن ثمان، وهي خير من عشرين وثلاثين وأربعين ركعة على النحو الموجود الآن، لكن تعجزون عن ذلك، والسلف رضوان الله تعالى عليهم لهم مع التراويح مشوار طويل، لكن يهمنا في هذا النص أن نبين للإخوة خطأ التمسك بجزء من ظاهر هذا النص، وترك الجزء الثاني مع أنه نص لا يتجزأ؛ لأن الكيفية تابعة للأصل، وكما يقال: (الحال يأتي لبيان صاحبه) ، فيقال: صلوا ثمان ركعات لكن على الحال التي فعلها صلى الله عليه وسلم، لا تأخذ ثمانية وتجعلها تقليداً وليست كالأصل، والسلعة الأصيلة لا يمكن أن تجارى بسلعة تقليدية لها. إذاً: لا حجة لمن تمسك بثمان ركعات في رمضان، ثم نقول مرة أخرى: هل يا ترى عندما اقتصرتم على الثمان ركعات في رمضان، هل داومتم عليها بقية السنة؟ لا أدري ما الجواب فالجواب عندهم! لأنها تقول رضي الله عنها: (في رمضان ولا في غيره) وقيام الليل يقول بعض العلماء: كان فرضاً عليه {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] وقد عرفنا معنى (نافلة لك) ، فكان يداوم على ذلك. إذاً: من أخذ بالثمان على تلك الكيفية وداوم عليها في رمضان وغيره فجزاه الله خيراً، لكن يترك الصلاة طوال السنة، ويأتي إلى رمضان فيأخذ العدد فقط ويترك الكيفية، فهذا أخذ بالنقيضين. إذاً: هذا الحديث لا مستند لأحد فيه.

الدليل على أن النبي لم يكن يقتصر في الليل على ثمان ركعات

الدليل على أن النبي لم يكن يقتصر في الليل على ثمان ركعات ثم نأتي مرة أخرى لحديث عائشة بنفسها، وهو عندكم في منتقى الأخبار، وشرحه الشوكاني رحمه الله؛ تقول أم المؤمنين عائشة: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط، وما دخل بيتي إلا وصلى أربعاً أو ستاً) . كلمة: (ما صلى وما دخل) تدل على الاستمرار، أي أنه كان يصلي أربع ركعات أو ست ركعات عندما يدخل بيتها بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك من منتصف الليل أو ما يقاربه، يقوم فيصلي الركعات الثمان، فإذا جئنا وجمعنا مجموع ذلك وجدنا أنها أكثر من ثمان. ولها حديث آخر قالت فيه: (كان يفتتح قيام الليل أو صلاة الليل بركعتين خفيفتين) ، كأنها تمرين، ثم يدخل في الإطالة، وفي بعض رواياتها: (ثلاث عشرة ركعة) وست بعد صلاة العشاء مباشرة، إذاً: كم تكون؟ تسع عشرة ركعة، ثم ركعتان خفيفتان كم تكون؟ إحدى وعشرين ركعة، فجمع عمر الناس على إحدى وعشرين ركعة! فالذين يعيبون على عمر يقولون: ابتدعها عمر، لا والله، عمر لم يبتدعها، ولكن استنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لمحة تاريخية لصلاة التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحاضر

لمحة تاريخية لصلاة التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحاضر وإذا تركنا هذا جانباً وجئنا إلى المنهج أو السيرة التاريخية وسبق أن كتبنا في ذلك من عشرات السنين، رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه السلام؛ رداً على أولئك الذين يقتصرون على الثمان في رمضان، ويدعون الناس إليها، ولا تكون في أنفسهم، والذي يتبين من دارسة هذا الموضوع تاريخياً نعلم جميعاً أن مبدأ التشريع ومصدره من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه وعمله صلى الله عليه وسلم في التراويح؟ وماذا كان عمل خلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم؟ وإلى متى استقر الأمر عند علماء الأمة؟ نجد ابتداء حديث أبي هريرة الذي تقدم التنويه عنه: (إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه) وجاء الحديث: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) قام رمضان لم يحدد ولم يعين، ثم عموم صلاة رسول الله، نجد القرآن الكريم يقول: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:2-3] سبحان الله! {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] إلى آخره، فالقرآن في قيام رسول الله، وتكليفه بقيام الليل لم يحدد له عدد الركعات، وترك الأمر إليه (نصفه أو ثلثه أو زد عليه) سبحان الله العظيم! إذاً: لا يوجد تحديد في الآيات. وحديث أبي هريرة يبين لنا أن الأمر في بدايته كان للترغيب، ولرغبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخير بادروا، فكانوا يقومون رمضان فرادى، ثم بعد ذلك وجد قراء يقرءون، وفي المسجد جماعات، وكان العامة أو الناس يصلون أوزاعاً وراء من يقرأ القرآن، وكانوا يتبعون حسن الصوت فيصلون وراءه، إذاً: كانت التراويح في الطور الثاني تقام جماعة مع من يقرءون القرآن، ويتبع الناس من كان أحسن الناس صوتاً، استمر الأمر كذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فعله.

صلاة التراويح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

صلاة التراويح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويروي المروزي، وهو أوسع من جمع في قيام الليل، عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة صور: منها: أنه خرج على أناس يصلون خلف أناس يقرءون، فقال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: قوم ليس معهم قرآن يصلون خلف من معه قرآن، وذلك في رمضان، وهناك رواية تقول: (فسكت وترك) ، ورواية تقول: (أحسنوا) ، وفي رواية: (ونعم) ! ونأتي مرة أخرى أنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة قال: انصبي لي حصيراً يا عائشة على باب الحجرة، فنصبت حصيراً على باب حجرته، فصلى العشاء ودخل البيت، ثم قام من نصف الليل فصلى وصلى وراءه من كان في المسجد، ثم كذلك من الليلة الثانية، فتسامع الناس وجاءوا وصلوا وراءه أكثر مما كانوا بالأمس، وتختلف الرواية في أنه حدث ذلك في ليلتين أو ثلاث، أو ليلة واحدة، وأخيراً صلى العشاء وخرج ثم نظر إلى المسجد وهو غاص بالناس. تقول عائشة: كاد المسجد أن لا يحمل أهله، فقال: ما بال الناس يا عائشة؟ قالت: ينتظرون خروجك، لقد تسامعوا بصلاتك وصلاة أقوام خلفك البارحة، فجاءوا ينتظرون ليصلوا بصلاتك كما صلى أولئك، فقال: اطوي عنا حصيرك. ثم أصبح وقال لهم (والله ما بت بحمد الله غافلاً ليلتي هذه، وما خفي علي صنيعكم، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) . إذاً: ما منعه من الخروج إليهم إلا خشية أن تفرض، وهذا يتضمن تقرير الصلاة جماعة. ثم يأتي حديث أنس مرة أخرى، يقول أنس: (صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فما قام بنا نصف الشهر، ثم لما كان ليلة ثلاث وعشرين قام بنا، وصلى بنا إلى ثلث الليل، ولم يقم أربعاً وعشرين، فلما كان ليلة خمس وعشرين صلى بنا، ولم يقم ليلة ست وعشرين، فلما كان ليلة سبع وعشرين قام بنا وأيقظ أهله، وصلى إلى ثلثي الليل. فقلنا يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية ليليتنا؟ قال صلوات الله وسلامه عليه: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) . وهنا في الليلة الأولى قام إلى ثلث الليل، وفي الثانية إلى نصفه، وفي الثالثة إلى ثلثيه، ولم يرد لنا عدد ركعات الصلاة، ولكن عرفنا زيادة الزمن، فهل يا ترى كانت تلك الزيادة هي عدد ركعات أم أنها تطويل في القراءة؟ الله تعالى أعلم، إنه اجتهاد زائد عما قبله. وجاء أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد المئزر، وطوى فراشه، وأيقظ أهله) أي: يجتهد في العشر الأواخر أكثر مما كان يجتهد في العشرين قبلها، وبأي نوع يكون الاجتهاد هل بزيادة الركعات أم بتطويل القراءة؟ الله أعلم، لكن هناك زيادة في العبادة في العشر الأواخر. وهنا لما كان منه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بمن خلفه دون أن يشعر بهم، وفي بعض الروايات: (فشعر بنا فخفف الصلاة، فقلنا: أشعرت بنا؟ قال: نعم، وهذا الذي حملني على ما صنعت) ، وفي بعض الروايات جاء: (وهو لا يشعر بنا) ، وهو لا يقر على باطل، فلو أن صلاة التراويح جماعة في المسجد باطلة لا تجوز ما أقره الله على ذلك، ثم باختياره قام ليلة ثلاث وخمس وسبع وأيقظ أهله، هذا في عهده صلى الله عليه وسلم.

صلاة التراويح في عهد أبي بكر رضي الله عنه

صلاة التراويح في عهد أبي بكر رضي الله عنه ثم بعد ذلك جاء عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولم يأت تجديد لصلاة القيام. وكلنا يعلم أن خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت خلافة كفاح وجهاد في تثبيت الدعوة؛ لأن كثيراً من الأعراب قد نكثوا العهد، وهناك من ادعى النبوة، فقام الصديق رضي الله تعالى عنه لقتال المرتدين حتى يثبتوا على دين الله، فما كان عنده متسع فيما يسمى بتشريع جديد. ولكن في خصوص التراويح يروي لنا ابنه عنه قوله: (كنا نقوم رمضان ونتكئ على العصي من طول القيام، ثم ننقلب ونتعجل الخدم خشية الفلاح) يعني: خشية السحور، فكان هنا تطويل! فكانوا يقومون الليل حتى يعتمدوا على العصي، ويرجعون إلى البيوت يتعجلون السحور مخافة الفجر، إذاً: هل نقدر هذا التطويل أنه عدد ركعات زائدة أم أنه تطويل في القراءة؟ إن الاتكاء على العصي ليوحي بتطويل القراءة لا بعدد الركعات، فهذا طور قد مضى.

صلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه

صلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه، فخرج ذات ليلة ووجد الناس يصلون أوزاعاً، فقال: لو جمعت الناس على إمام واحد لكان خيراً، ثم استدعى القراء، واستقرأهم، فكان منهم البطيء ومنهم السريع، فأمر البطيء بأن يقرأ بخمس وعشرين آية في الركعة، والسريع أن يقرأ ثلاثين آية في الركعة، وأمرهم بصلاة عشرين ركعة. فكان في عهد أبي بكر تطويل في القيام حتى وصل إلا الاتكاء على العصي، وفي عهد عمر يشق على الناس الاستمرار في ذلك، وهو الذي يقول في صلاة الفريضة: (لا تبغضوا الله إلى خلقه، يقوم أحدكم في الصلاة فيطول؛ فيمل الناس؛ فيكرهون) ، هكذا يقول رضي الله تعالى عنه. إذاً: ليس من هديه إطالة القراءة وطول القيام حتى يمل الناس، فعوض طول القراءة بأن جعل القراءة ثلاثين أو خمساً وعشرين آية في الركعة الواحدة، وأمرهم أن يصلوا عشرين ركعة. وهناك نصوص جاءت عن أبي بن كعب وغيره أنها: ثمان ركعات عشر ركعات بدون تحديد، وهذا قد انقضى أمره، فلما جاء عمر وجمعهم على إمام واحد، جعل إمامين للرجال يتناوبان، وإماماً للنساء، وفي عهد أبي بكر تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الصبية من الكتاب يصلون بنا قيام رمضان، ونصنع لهم القلية) ، وهي نوع من الطعام. إذاً: كان هناك تغيير، ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم تأخذ الصبيان وتجعلهم أئمة للنسوة في المسجد، فبيتها أولى بهذا، ولأن في زمن عمر جعل إماماً للنساء يعجل بهن الصلاة؛ ليرجعن إلى بيوتهن، وإماماً للرجال يتناوب مع زميله للرجال على نحو ما تقدم من قراءة ثلاثين أو خمس وعشرين آية.

صلاة التراويح في عهد عمر بن عبد العزيز

صلاة التراويح في عهد عمر بن عبد العزيز واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو على رأس المائة، فماذا كان الحال؟ بلغت التراويح في هذا المسجد إلى ست وثلاثين ركعة، وما الذي أوصلها؟ أوصلها ما يأتي: بعض الناس يكتب أشياء لا تدخل العقل منها: كان الأمير له أربعة أبناء، وكان كل ولد يصلي بكذا وكذا كلام لا دخل له أبداً. والصلاة سميت: تراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات، وكان عند أهل مكة فرصة في تلك الترويحة، فيقوم النشيط منهم ويطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين سنة الطواف، ثم تبدأ الترويحة الثانية، فأهل المدينة لم يكن عندهم طواف، فما كانت عندهم فرصة يساوون بها أهل مكة في هذه المنافسة، فنظروا فجعلوا الطواف مقام ركعتين، وسنة الطواف ركعتين، فهذه أربع ركعات بين كل ترويحة من التراويح، والعشرون فيها أربع ترويحات. فجاء أهل المدينة وقالوا: عوضاً عن الطواف نزيد ركعتين، وعوضاً عن ركعتي الطواف نزيد ركعتين، فأربع ركعات ما بين الترويحات أصبحت ست عشرة ركعة، تضم مع العشرين الأساسية فتصير ستاً وثلاثين ركعة، ولذا يقول المالكية: لا ينبغي لأهل قطر من الأقطار أن يفعلوا ذلك؛ إنها خصوصية لأهل المدينة، لأن أهل المدينة وحدهم هم الذين لهم الحق في أن ينافسوا أو يتسابقوا مع أهل مكة. فعلى هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه جعل التراويح ستاً وثلاثين ركعة.

صلاة التراويح في عهد الدولة الفاطمية

صلاة التراويح في عهد الدولة الفاطمية واستمر الأمر إلى أن جاء الفاطميون وأزالوا هذه الزيادة، وبقوا على عشرين ركعة في مكة، وألغوا الزيادة في المدينة، وبقيت العشرون على ما هي عليه، إلى أن جاء القرن السادس الهجري، وجاء أبو زرعة -وهو الإمام المحدث المشهور، وكان قد تولى إمامة المسجد النبوي الشريف- وعرف ما كانت عليه التراويح سابقاً، فلم يرد أن يزيد فيما لم يكن سابقاً، ولم يرد أن يميت ما كان موجوداً من قبل، فأتى بالست عشرة ركعة مع العشرين، ولكن جعلها في آخر الليل طيلة رمضان.

صلاة التراويح في عهد الدولة العثمانية إلى وقتنا الحاضر

صلاة التراويح في عهد الدولة العثمانية إلى وقتنا الحاضر واستمر الحال إلى عهد الدولة العثمانية، ويحدثنا من أدركها يقول: كانوا ينادون على المنارة الست عشرية، وبعضهم يرسل أشخاصاً بالسعف في الطرقات يطوفون في المدينة يعلمون الناس بوقت الست عشرة ركعة. ثم جاء العهد الحاضر، فنقصت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، وجعلت في العشر الأخيرةمن رمضان فقط، وهو القيام الموجود حتى اليوم. وعلى هذا أخذت التراويح في هذا المسجد النبوي تتدرج من مطلق قيام: (وسننت لكم قيامه) (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ثم جاء بعد ذلك: ثمان ركعات، ثم جاء بعد ذلك: عشرون ركعة، ثم جاء بعد ذلك: ست وثلاثون ركعة، ثم رجعت إلى عشرين ركعة وست عشرة ركعة مفصولة، ثم رجعت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، والله سبحانه وتعالى أعلم.

التحذير من جعل عدد ركعات التراويح موضعا للخلاف والنزاع

التحذير من جعل عدد ركعات التراويح موضعاً للخلاف والنزاع والذي يهمنا في هذا أيها الإخوة: أنه لا ينبغي لإنسان أياً كان هو بما تبادر عنده أن يجعل عدد ركعات التراويح موضع خلاف ونزاع بين المسلمين، فإن كنت تريد أن تصلي ثماني ركعات فكما تريد، أو تريد أن تصلي أربعاً فكما تريد، ولا اعتراض على أحد في ذلك، لأنه تطوع. تريد أن تصلي مائة ركعة فلا مانع، وكان عثمان رضي الله عنه أحياناً يقوم الليلة كاملة بركعة واحدة، فلا مانع، ولا حصر لعدده، اللهم إلا الجماعة للإمام الراتب بأن ذلك أصبح شعاراً خاصاً برمضان، وللإمام الذي عينه الإمام أي: أن يصلي ويحافظ على هذه السنة التي تناقلها الناس أربعة عشر قرناً، وما دب الخلاف إلا في هذا القرن الأخير، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه. أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، فهل من المعقول أو الإنصاف أو المنهج العلمي، أو الأمانة العلمية، أن نقتصر على حديث عدد ثمان ركعات ونترك كل ما عداه من الصفات، أو نترك كل الآثار أو النصوص التي وردت في الموضوع؟ ليس هذا بإنصاف، وليس هذا بأمانة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه. قالت عائشة: (قلت: يا رسول الله! تنام قبل أن توتر؟) . وكان من حقه وقد تورمت قدماه، قالت: (فنام، ثم قام فأوتر، فصلى ثلاثاً) . عائشة تعلم بأن من نام مضطجعاً عليه أن يتوضأ، فلما نام قالت: (تنام قبل أن توتر؟) أي: والوقت قريب، وسترجع مرة أخرى تتوضأ، قال: (يا عائشة! إن عيني تنامان وقلبي لا ينام) يعني: لو نمت لم ينتقض وضوئي، ولو انتقض لعلمت ذلك، وهذا من خصائص الأنبياء صلوات الله عليهم، وفي بعض رواية ابن عباس: (وكذلك الأنبياء) . وهنا صلى ثلاثاً على أي كيفية صلى ركعتين ثم واحدة منفردة، أم أنه صلى ثلاث ركعات مجموعة بسلام واحد؟ الأحناف أخذوا بكلمة (ثلاث) فجعلوها شبيهة بالمغرب، والجمهور فرقوا فجعلوها ركعتين ثم ركعة، وأخذوا بحديث: (لا تشبهوا الوتر بالمغرب) ، وحديث أم المؤمنين هنا مجمل، وجاء تفصيله في غيره وعليه أخذ الجمهور. (صلى ثلاثاً) ، فهنا ثلاث مع ثمان كان المجموع إحدى عشرة ركعة، وركعتان يفتتح بهما صلاة الليل أو ركعتي الفجر كان المجموع ثلاث عشرة ركعة، وكما قلنا: كان يصلي ست ركعات في أول الليل، وثلاث عشرة ركعة في آخره يكون المجموع تسع عشرة ركعة، وركعتان خفيفتان، فيكون المجموع إحدى وعشرين ركعة. ولما ذكرت ذلك للشيخ ابن باز رحمه الله قال: هذا تلفيق في العدد، قلت: يا شيخ! تلفيق خير من تبديع، عندما نقول: إن عمر لفق العدد التلفيق هذا هو مجموعة أحاديث موجودة، فنعم الحل، بدلاً من أن نقول: إنه ابتدع ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: له أصل من السنة وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فهل أصحاب الثمان أخذوا بهذه الست والأربع أيضاً؟ لا أعتقد أنهم يأخذون بها.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها) ، وعنها رضي الله عنها قالت: (في كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليهما. ] وهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله عنها عن كيفية صلاة الوتر إذا كان أكثر من ركعة، فتقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر بخمس، إذاً: كان قيامه ثماني ركعات، أضف إليها الخامسة تكون ثلاث عشرة ركعة، ثم بينت لنا كيفية وتره، أنه ما كان يجلس في الخمس ركعات إلا في الركعة الأخيرة، وتقدم لنا في بيان كيفية الوتر بأكثر من ركعة أن له فيها حالتين أو ثلاث حالات: إن شاء سلم من كل ركعتين، على أن قيام الليل والوتر شيء واحد، صلاة الليل والوتر من (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة أوترت له ما قد صلى) . الحالة الثانية: أن يفصل بين قيام الليل في التهجد وبين الوتر، فإن أوتر بواحدة عقب صلاته فلا إشكال، وإن أوتر بأكثر من واحدة بثلاث أو بخمس أو بسبع، فإن الثلاث عند الجمهور ليس لها إلا صورة واحدة إذا جمع الثلاث معاً، وهي: أن يكبر ويصلي الركعات الثلاث، ولا يجلس في الثانية، ويجلس في الأخيرة ويتشهد ويسلم، ما عدا ما أخذ به الأحناف من أنه إذا أوتر بثلاث يجلس في الثانية ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالركعة الثالثة فيتشهد ويسلم. وعند الفقهاء اصطلاح: الثلاث مفرقة أو مجموعة؟ فالأحناف يجمعونها بسلام واحد، والجمهور يفرقونها أو يجمعونها بتشهد واحد. إذاً: الأحناف يصلون الثلاث بتشهدين وسلام، ولا يفصلون ركعة الوتر عن الشفع قبله، والجمهور إن صلوا ثلاثاً صلوا بدون تشهد بعد الثانية، وجمعوها نسقاً واحداً، وتشهدوا في الثالثة وسلموا. هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا صلاة الوتر الخامسة، وقد ميزت صلاة الوتر عن قيام الليل (يصلي من الليل: ثلاث عشرة ركعة، يوتر منهن) أي: من الثلاث عشرة ركعة يوتر بخمس، إذاً: ليس الكل وتراً، وليس الكل تهجداً، فجعلت التهجد ثمانياًً، وقد تقدم حديثها: (ما زاد في رمضان ولا غيره عن ثمان ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن ... ) وذكرت الثمان مستقلة. ثم هي تذكر لنا الوتر بخمس قالت: (لا يجلس فيهن) أي: فهن خمس ركعات متواليات، يقرأ ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ثم يقوم للركعة الثانية، يقرأ ويركع ويرفع ويسجد سجدتين، ثم يقوم للثالثة ولا يجلس للتشهد، وهكذا الرابعة، وفي الخامسة يجلس فيتشهد ويسلم. هذه هي الصورة التي ساقتها أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. ويتفق العلماء على أنه يجوز لنا إذا أوترنا بخمس أن نجلس في الرابعة، نأتي بالأولى ثم الثانية ثم الثالثة بدون جلوس، ونجلس في الرابعة نتشهد التشهد الأوسط ولا نسلم، ثم نقوم للخامسة ونتشهد ونسلم، فإذا كان في السبع ركعات جاء أيضاً بست ركعات متوالية، إن شاء جلس في السادسة وتشهد وقام، ثم أتى بالسابعة وتشهد وسلم، وإن شاء لم يجلس في السادسة، بل يأتي بالسبع ركعات متوالية حتى يأتي إلى السابعة فيتشهد ويسلم، وهكذا يذكرون في التسع ركعات، إن شاء جلس في الثامنة، ثم قام ولم يسلم، ثم جاء بالتاسعة وتشهد وسلم. هذه الصور التي جاءت، وعلى هذا تكون صلاة الوتر فوق ثلاث لك فيها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تصلي ركعتين ركعتين وتسلم في كل ركعتين، ثم توتر بواحدة. الحالة الثانية: أن تجمع الخمس أو السبع أو التسع بتشهد واحد في الأخير وتسلم. الحالة الثالثة: أن تجلس في الشفع الذي قبل الوتر، فإن كان الوتر خمساً جلست في الرابعة وقمت، وإن كان الوتر سبعاً جلست في السادسة وقمت، وإن كان الوتر تسعاً جلست في الثامنة وقمت، ثم جئت بكامل العدد من خامسة أو سابعة أو تاسعة وتشهدت وسلمت. هذه صور صلاة الوتر إذا زادت عن ثلاث، وهذا باتفاق. ولكن الخلاف فقط فيما إذا كان يوتر بثلاث، والجمهور على أنها صورتان فقط، يفصل الركعة عن الركعتين، أو يجمعهما بتشهد واحد، ولكن الأحناف ليس عندهم فصل وصلاة ركعة واحدة، بل يصليها مجموعة، ويتشهد في الثانية، ويقوم ويأتي بالثالثة ويتشهد ويسلم، وهذه الصورة ورد فيها النهي عن تشبيه الوتر بصلاة المغرب.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الوتر

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الوتر قال المؤلف: [وعنها رضي الله عنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليه. ] لاحظوا -يا إخوان- هنا الفسحة والرخصة والتخفيف، تقدم في أول الباب (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة) ، أي: بعد قيامه الليل، وتقدم: (إن الله قد زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم ما بين العشاء وطلوع الفجر) فبين صلى الله عليه وسلم وقت الوتر من بعد صلاة العشاء مباشرة إلى أن يطلع الفجر، فجعل الليل بكامله وقتاً للوتر، وهنا ربما يتساءل إنسان: أي الأوقات أو أي أجزاء هذا الوقت أفضل؟ تقدم البيان مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من مجموع الأحاديث وفي وصية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث -وذكر منها-: أن أوتر قبل أن أنام) إذاً: هذا وتر أبي هريرة في أول الليل. وجاء الخلاف بين عمر وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فكان أبو بكر لا ينام حتى يوتر، وكان عمر يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فقالوا: من خشي فوات الوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ويأخذ بالعزيمة، ومن أيقن من نفسه أو غلب على ظنه أنه سيستيقظ في آخر الليل فليجعل الوتر في آخر ليله. فهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه من كل الليل أوتر رسول الله، من أوله من أوسطه من ثلثه من ثلثيه من آخره، ثم انتهى وتره إلى السحر، يعني: فعل الوتر في أجزاء من الليل مختلفة للبيان، ثم استقر وتره إلى السحر، وعلى هذا يجوز إيقاع الإنسان الوتر بأي جزء من الليل حسب ما تيسر له، من أوله من أوسطه من آخره. وتقدم لنا السائل الذي سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في ثلاث مسائل منها: (متى كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: من كل الليل أوتر رسول الله من أوله من أوسطه من آخره، فقال: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) وعلى هذا لا تحديد في جزئية الزمن لصلاة الوتر، وإنما الإنسان هو الذي يحدد لنفسه بحسب ما يتيسر له. أما إذا تساءلنا عن الأفضل، وكانت كل الأجزاء عندنا سواء، كإنسان يستطيع أن يوتر أول الليل، أو نصف الليل، أو آخر الليل، فالكل عنده سواء، فهذا نقول له: الأولى أن يكون وترك سحراً؛ لأنها تذكر أنه كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم في الوتر وقت السحر، ولماذا خص وقت السحر؟ لأننا جميعاً نعلم بأن تلك الساعة هي ساعة المناجاة، وساعة الزلفى والإنابة، وساعة القرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) إذاً: تلك اللحظات هي أقرب وأرجى للاستجابة، وقبول العبادة، والتوفيق إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى. لكن إذا خاف الإنسان أن تفوته تلك الساعة فليؤمن نفسه بالصلاة في أول الليل، وسيأتي البحث بعد هذا فيما لو أوتر أول الليل عزيمة وحزماً، ثم وفقه الله وأعانه وقام بعد ذلك ماذا يفعل؟ وهو البحث بين قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) وبين قوله: (لا وتران في ليلة) وسيأتي بهما المؤلف رحمه الله. يهمنا أولاً: تحديد وقت الوتر، ومتى يكون هو الأفضل؟

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [6]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [6] أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، وقد حث على هذه الصلاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، ومن فعله أنه كان يقوم الليل بأربع ركعات، ثم بأربع أخرى، ثم يختم ذلك بثلاث يوتر بها، ويختم قيام الليل بذلك، وعلى الرغم من حضه صلى الله عليه وسلم على الوتر إلا أنه نهى عن الإتيان بها أكثر من مرة في الليلة، كما دعا إلى أن يكون الوتر آخر صلاة العبد من الليل.

الترغيب في قيام الليل والتحذير من تركه

الترغيب في قيام الليل والتحذير من تركه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه. ] تأملوا يا إخوان هذا الأسلوب! هذا أسلوب عتاب، أم أسلوب ممازحة، أم أسلوب ترغيب، أم أسلوب ترهيب؟ كيف نصنف هذا الأسلوب النبوي الكريم؟: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان) هل فلان هذا اسم جنس أم شخص معين؟ (فلان) كناية عن شخص من بني آدم، فهل يراد به شخص بعينه علم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل وترك أو أراد صلى الله عليه وسلم أن يجرد شخصية ينبه بها عبد الله بن عمرو بن العاص؟ ابن حجر رحمه الله يقول: قوله: (لا تكن مثل فلان) لم أقف على اسم هذا (فلان) في طريق من طرقه، هكذا يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو مؤلف الكتاب. وبعضهم يقول: إن فلاناً هذا أمر رمزي، لا تكن كشخص من الأشخاص يقوم ويترك، مثل الآية الكريمة: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل:92] هل هناك امرأة بالفعل نقضت غزلها، أم هذا من باب العموم، أن الذي يعمل عملاً ويشرك فيه أو يرجع فيه كالتي تغزل الغزل ثم ترجع وتفك الغزل هذا إلى صوف منثور؟ لا أعتقد أن امرأة ستفعل هذا بالذات، ولكن يكون هذا على سبيل المثال في نقض العمل بعد إبرامه، والله تعالى أعلم. ولكن يقولون: من الأدب النبوي الذي نتعلمه: لعله يعلم شخصاً بعينه، ولكنه لم يسمه ستراً عليه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم من بعض الناس بعض الأفعال، ولكن لم يسمهم، ويخطب ويقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) ، من هم هؤلاء؟ لا حاجة لنا بمعرفتهم. وكما جاء في رواية الموطأ: (عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل وعمر يخطب، فقال: ما هذا يا فلان؟ -رواية الموطأ هكذا ما سمت أحد- قال: والله ما زدت أن سمعت الأذان فتوضأت فجئت، فقال: والوضوء أيضاً؟!) يعني: تأخرت في المجيء ولم تغتسل! خطآن ارتكبتهما! بعض الروايات تسمي الشخص هذا الذي دخل، فيكون عدم تسميته كما يقال: حتى لا ينسب إليه هذا التقصير، وهو ليس من أهل التقصير. ولكن هنا: (لا تكن مثل فلان) هذه ملاطفة ومداعبة، وحث وترغيب في العبادة، بالإشادة أو التنويه أو العتاب، فلان هذا ما هو شكله وما هو وصفه؟ (كان يقوم الليل ثم ترك) ، فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تقوم الليل فترة ثم تترك؟! ويقف عند هذا العلماء ويقولون: بم نستفيد من هذا الحديث في مشروعية قيام الليل، أواجب هو أم سنة؟ يقول بعض العلماء: كان قيام الليل في أول الأمر واجباً، ثم شق عليهم فنسخ الوجوب إلى الندب عندما فرضت الصلوات الخمس، طيب! الصلوات الخمس فرضت في مكة، والذي يهمنا أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، ويقولون: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب؛ لأنه لو كان فلان هذا الذي ترك قيام الليل ترك واجباً، فهل يكون موقف النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتهك واجباً مجرد أن يقول: (لا تكن مثل فلان) ؟ لا. هذا الحديث يدل على الترغيب في قيام الليل، والأحاديث الواردة في الحث على قيام الليل عديدة، ولكن والله -يا إخوان- إن الإنسان ليذكر هذا الحديث وهو في غاية من الاستحياء، ومن العجب أيضاً أن يكون التفريط من طلبة العلم! يقول أحمد رحمه الله: (عجبت لطالب العلم ليس له ورد من ليله!) ؛ لأن قيام الليل هو أكبر غذاء للإنسان، اللهم إلا إذا كان يقوم من الليل بدراسة، في تفسير في حديث في فقه، بما يجد نفسه منشرحاً إليه، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سأله رجل: (ماذا أصنع في رمضان: أقرأ القرآن أم أصلي القيام؟ قال له: إنما أنت مرتاد لنفسك -يعني: تسيمها المرعى- فحيثما استجابت معك فارعها) . إن كانت تستجيب معك برغبة وبإمعان واستفادة في القراءة فاقرأ، وإن كانت تستجيب معك في الصلاة والمناجاة والخشوع والركوع والسجود فصل، وهكذا يقال لطالب العلم. وقد جاء أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب وقال: ألا تكن مثل آل فلان يحيون القيلولة ويقيمون الليل! قال: دع عنك بني فلان، والله لتعلم مسألة في الفقه خير من عبادة آل فلان. إذاً: مجال القربى والزلفى إلى الله واسع، لكن لابد أن تكون هناك ساعة عبادة لا في العلوم الأساسية خاصة الفقه، الفقه له قساوة وشدة، وله أيضاً طلاوة وحلاوة، لكن ما كل إنسان يقوى على مكابدته، فلابد له من ساعة يذكر الله فيها، يأخذ آيات من كتاب الله يقرؤها ويتلوها ويتمعن فيها، وقد سبق أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل كله، وأقول: والله! لو أن إنساناً شرح الله صدره، وأنار قلبه، وأخذ الفاتحة ليالي عديدة ما أدى واجبها، ويقول عنها علي رضي الله تعالى عنه: (لو شئت أن أكتب حمل بعير على سورة الفاتحة، لفعلت) ، ومن أراد أن يعرف حقيقة أمرها فليأخذ مقدمة تفسير الفخر الرازي على الفاتحة، ولينظر كم أخرج منها من مئات وآلاف المسائل والأبواب! أيها الإخوة! قيام الليل كل بحسبه، لو أن إنساناً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم استيقظ من ليله واستغفر ربه، وسأل الله فله أجر عظيم، كما جاء في الحديث: (ما من إنسان يتعار من الليل فيذكر الله ويستغفره إلا كان له من الأجر كذا وكذا) نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، وأن ينير قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. فلابد للإنسان من ساعة يخلو فيها مع الله، كما قال عمر لجليسه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وهل كانوا غير مؤمنين؟ لا. المراد: نجدد الإيمان، نقوي الصلة بالله، نجدد الرغبة بأن نتذاكر فيما بيننا، سواء آية، أو حديثاً، أو مسألةً، أو نتذكر اليوم الآخر إلى غير ذلك. تلك الساعات تغذي الروح، وترطب القلوب التي قست فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وليس لها دواء ولا شفاء إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، وليس الذكر مجرد إطلاق اللسان بأي حالة من الحالات: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] بأي حالة من الحالات.

شرح حديث: (أوتروا يا أهل القرآن)

شرح حديث: (أوتروا يا أهل القرآن) قال رحمه الله: [وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتروا يا أهل القرآن! فإن الله وتر يحب الوتر) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة] .

هل المقصود بأهل القرآن عموم أمة الإسلام أم أهل القرآن وخاصته؟

هل المقصود بأهل القرآن عموم أمة الإسلام أم أهل القرآن وخاصته؟ أهل القرآن من هم؟ أهل التوراة من هم؟ أهل الإنجيل من هم؟ كما جاء في ضرب المثلين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ. } [الفتح:29] ، أي: ضرب المثل في التوراة لأهل التوراة، وفي الإنجيل لأهل الإنجيل، فبعض العلماء يحمل ذلك على عموم من ينتمي إلى أمة القرآن، تمييزاً لهم عن أمة التوراة، وعن أمة الإنجيل، فيكون هذا النداء موجهاً للأمة بكاملها؛ لأنها أمة القرآن. وهناك من يقول: لا، أهل القرآن الذين حفظوه واشتغلوا بعلومه، وكانوا من أهل القرآن تلاوة وعلماً وعملاً، فإذا حملناه على العموم فهو كالعموم المتقدم: (الوتر حق) فإذا حملناه على الخصوص كان لخصوص الفقهاء والعلماء، وإذا حملناه على العموم فهو يضاف إلى الأحاديث التي يستدل بها على وجوبه: (أوتروا) وإذا حملناه على الخصوص خرج عن كونه للوجوب؛ لأن الواجب يعم حملة القرآن وغير حملة القرآن، والجمهور على أن المراد بأهل القرآن حملة القرآن. ولماذا يخصهم؟ قالوا: لأنهم هم الأولى بذلك، وهم الأحرى بأن يلتزموا بسنن العبادات مع فرائضها، وهم الأولى بأن يكونوا القدوة لغيرهم؛ إذاً: على العلماء واجبات أكثر من العوام، وعلى أهل القرآن مسئوليات أكثر من غيرهم، ولما كانت وقعة اليمامة ورجع بعض الناس، وثبت فلان وقال: (ما هكذا كنا مع رسول الله، يا أهل القرآن هلموا) ، وكذلك صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين، ورجع الناس عندما فاجئوهم بالنبل، قال للعباس: (ناد: يا أهل بيعة الرضوان!) لماذا خصهم؟ لأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا يفروا، وهذا وقتهم، فلما نادى كذلك رجعوا وتجمعوا عنده صلى الله عليه وسلم، وأعادوا الكرة ونصرهم الله. إذاً: اختصاص أهل بيعة الرضوان بالنداء يوم حنين في تلك الشدة لأنهم أخص الناس وأولاهم بذلك؛ ولأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفروا، والآن قد فروا فليرجعوا. وأقرب ما يحمل عليه الحديث أن أهل القرآن هم حملته، وقد يقال لهم: القراء، وكلما كان الإنسان طالب علم أو أقرأ لكتاب الله كان أدعى وأولى بأحكامه، وبالله التوفيق. قوله: (فإن الله وتر يحب الوتر) . هذا التذييل: (فإن الله وتر يحب الوتر) هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن أسماء الله الحسنى بكاملها، فإن الله وتر، ولما كان وتراً يحب الوتر، لا نقول: للمجانسة، ولكن لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخرجنا ذات المولى سبحانه، وجئنا إلى المخلوقات، وجدنا أن الأجناس تتجانس وتتآلف في وحدة الجنسية، فأيما جنس لقي جنسه تآلف معه؛ لأن وحدة الجنس تجمعهم، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وتر) هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، وليست على سبيل الحصر، ولكنها مشعرة بأنه لا وتر إلا الله، وبأن جميع الكائنات زوجية مزدوجة، والله خلق جميع المخلوقات، ولنبدأ من أرقاها وهو الإنسان، ثم عالم الجن، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم الحشرات، فنجدها تعيش مزدوجة، ما بين ذكور وإناث، وكذلك المخلوقات الأخرى، حتى الجمادات نجدها مزدوجة وليست وتراً، وكما أشرنا إلى ما يقول علماء الذرة بأن الذرة لها نواة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ عند المناطقة الجوهر الفرد، والآن قد فجروا هذا الفكر، ووجدوا بأن النواة التي يتكون منها كل جرم سواء كان معدنياً أو كان حجرياً أو كان غير ذلك، فإن تلك النواة وهي نهاية الجزء في هذا الجرم تتكون من جزءين، وفيها قطب سالب وموجب. إذاً: كل الكائنات زوجية، ولها أجزاء يكمل بعضها بعضاً، ولولا الجنس المزدوج في بني آدم لما وجد الإنسان، ولو بقي أبونا آدم على ما هو عليه ما جاء أحد إلى الدنيا، ولو ذهب أبونا آدم وجاءت حواء وحدها ما كان أحد على وجه الدنيا، اللهم إلا القدرة الإلهية تظهر في آحاد البشر، كما جاء في مريم عليها السلام، فالله عز وجل جعلها آية، ونفخ فيها من روحه، فجاءت بعيسى بلا أب، هذه آحاد بيان القدرة، حتى لا تكون عادة أو تنسب إلى الطبيعة، فإن الله خلق آدم من تراب، وأيضاً ليس من تراب وحده، بل ماء وتراب، وليس من التراب فحسب ولا من الماء فحسب، بل من عنصري الماء والتراب، ثم خلق حواء من ضلعه ولحمه ودمه، ثم تناسل الناس من هذين الأبوين، وهكذا النباتات والطيور والحيوانات والحشرات إلى غير ذلك، والله وحده سبحانه هو الوتر. إذاً: فإن الله وتر يحب الوتر، فإذا كان الله يحب الوتر: (أوتروا يا أهل القرآن) إذاً: الوتر واجب أم سنة؟ سنة الله سبحانه وتعالى يحب كل العبادات (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً: كل العبادات محببة إلى الله، والوتر بخصوصه؛ لأنه ليس فرضاً لازماً، ويأتيه الإنسان تطوعاً، فمحبة الله إياه حملت العبد بحبه لله أن يأتي بالوتر.

حكم تكرار الوتر في الليلة الواحدة

حكم تكرار الوتر في الليلة الواحدة قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه. وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وتران في ليلة) رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان] .

كلام العلماء في حكم تكرار الوتر في ليلة وصوره

كلام العلماء في حكم تكرار الوتر في ليلة وصوره نلاحظ -يا إخوان- إيراد المؤلف رحمه الله هذين الحديثين متعاقبين؛ إشارة إلى ما يوجد من شبه التعارض بينهما، فالحديث الأول جاء بلفظ: (اجعلوا -والخطاب موجه للأمة جميعاً- آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يعم كل مسلم؛ لأن كل مسلم يصلي المغرب والعشاء وهما من صلاة الليل، المغرب وتر صلاة النهار بكونه ثلاثاً، والعشاء شفع، ومعها سنة ركعتين، فتحتاج إلى وتر، فيتناول الحديث البحث من جانبين: كون الوتر آخر الصلاة، فلو أنه ما صلى العشاء، ودخل وقت الوتر ولم يصل العشاء، فلا يحق له أن يصلي الوتر بناء على أن وقت الوتر من العشاء إلى الفجر؛ لأنه أمر أن يجعل آخر صلاته وتراً، ومن صلاته العشاء مع سنتها، فهذا الحديث يحتم عليه أن يوتر. نقول: هذا الحديث على وجازة لفظه يتكلم في جانب، ويأتي الحديث الثاني: (لا وتران في ليلة) إذا أخذنا الحديث الثاني على حدة، ونقول: إن إنساناً صلى العشاء وأوتر، ليس له أن يعيد الوتر مرة أخرى؛ لأنه قد أوتر، ولا وتران في ليلة، فهو أوقع الوتر في آخر صلاته، فلا يعيد الوتر؛ لأنه يتكرر، ولا وتران فضلاً عن ثلاثة، وكلا الحديثين يعمل عمله إذا انفرد، من كان يوتر أول الليل ولم يقم آخره صلى العشاء وما يسر الله له، وأوتر ونام حتى يطلع الفجر، فهو جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وانطبق عليه هذا الحديث بدون أي معارض. إنسان صلى الوتر ثم استيقظ بعد نومه، وأراد أن يعيد الوتر، هل يجوز له ذلك؟ لا؛ لأن أمامه حديث: (لا وتران في ليلة) ، فكل من الحديثين يعمل عمله إذا انفك أحدهما عن الثاني، ولكن إذا ارتبط الحديث الأول بالثاني ماذا يفعل؟ وهذه هي المسألة التي كثر الكلام عليها، وتعالج بناحية منهجية، وصورتها: صلى العشاء فأوتر، أخذ بالعزيمة، فصدق عليه أنه جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وأعمل الحديث الأول بأن جعل آخر صلاته بالليل وتراً، ثم يسر الله له القيام، فصلى من الليل ما تيسر له، طيب! بعد أن صلى من الليل ما تيسر له، وقد أوتر وتره، يأتيه الحديثان معاً، الحديث الأول يقول: (اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً) ، لأنك صليت الآن اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، والحديث الثاني يقول: لا، (لا وتران في ليلة) فما هو المخرج؟ من أراد تحقيق هذه المسألة بأوسع ما يكون فعنده كتاب: قيام الليل للمروزي، أو مختصر هذا الكتاب، وكذلك فتح الباري لـ ابن حجر، وغيره من مجموعات الأحاديث، وأدق ما يكون في ذلك بحثاً ما كتبه الإمام العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، فهؤلاء يقولون: ما دمت قد أوترت أولاً فصل ما شئت ثم لا توتر، طيب! حديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) أين تذهب به؟ تعارض حديث نهي مع حديث أمر! وبعض العلماء يقول: هذا التعارض أنا ألغيه، ألغي الوتر الذي في أول الليل، وكيف تلغيه؟ أليس الوتر ركعة واحدة؟ بلى، قال: أنا عندما أقوم من ثلث الليل الآخر قبل أن أصلي من الليل ما أريد أصلي ركعة واحدة، وأرسلها إلى الوتر في أول الليل، يصبح الوتر الذي في أول الليل شفعاً، يقول: ألغيت الوتر الأول، ثم أستأنف قياماً جديداً وأوتر، فأجعل آخر صلاتي من الليل وتراً. وهناك من يقول: هذا عمل غير صحيح، وروي عن ابن عباس وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هذا تلاعب بالوتر؛ لأنه بعد أن صلى الوتر نام، وربما وجب عليه غسل، تكلم أكل شرب ثم بعد هذا كله ربما يعتريه موجب للوضوء أو موجب للغسل، وأكل وشرب، ونوم، وكلام ثم يصلي ركعة يضيفها للتي قبلها؟! كيف تنضم إليه؟ جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يفعل ذلك، وابن عمر كان يفعل ذلك، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أراها -يعني: الركعة الثانية التي سأرسلها- إلا كشاردة الإبل) ، فلا ينبغي أن يضم هذه الركعة الواحدة بعد النوم والأكل والشرب ونواقض الوضوء إلى ما تقدم. طيب! ماذا نفعل؟ قالوا: ننظر في التوفيق بين الحديثين، فالحديثان في فن الأصول ليس بينهما عام وخاص حتى نحمل العام على الخاص، وليس فيهما مطلق ومقيد حتى نقيد المطلق بقيد مقيد، ولكن كلاهما صحيح صريح في موضع يعارض الآخر: (لا وتران ... ) (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهنا يقول ابن دقيق العيد: نخرج خارج نطاق الحديثين بالمرجحات الأصولية، وما هي؟ قال: متون الحديث صريحة صحيحة لا غبار عليها، ولكن مضمون الحديثين ما هو؟ قال: مضمون حديث: (لا وتران في ليلة) هذا نفي ونهي أم ندب وطلب؟ نهي ونفي، سواء كان نفياً في أن توقع وترين؛ لأنه لا يوجد وتران في ليلة، أو نهياً عن أن توقع الوترين في ليلة. وحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم) هذا طلب أم نهي؟ طلب، وأقل مقتضيات النهي هنا الكراهية؛ لأن النهي إما حرام أو مكروه، وأقصى درجات الطلب الوجوب ما لم نجد صارفاً، وهل الوتر واجب؟ أصل مشروعية الوتر ليست واجبة، إذاً: كيفيته، أحكامه، لا ترتقي إلى الوجوب: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل ... ) إرشاد لإيقاع الوتر، وهو طلب دلالته الندب. إذاً: الحديثان متعادلان في الصحة والصراحة في القول، ولكن اختلفا في المضمون، فأحدهما: مضمونه كراهية إعادة الوتر، والثاني: مضمونه أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، وإذا كان لا وتران في ليلة لو أننا أعدنا الوتر نكون وقعنا في مكروه، ولو أننا اكتفينا بالوتر الأول وصلينا بعد ذلك ما تيسر دون أن نعيد الوتر تركنا مندوباً، وتجنب صفات المكروه أولى من اقتحام فعل المندوب، فيكون ترجيح: (لا وتران في ليلة) على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، إذاً: من أوتر أولاً ثم قام بعد ذلك فليصل ما شاء ولا يعيد الوتر. ويقول ابن عباس في من يصلي ركعة الشفع: (هذا جاء بالوتر ثلاث مرات وليس مرتين) ، أوتر بعد العشاء، ثم صلى ركعة واحدة وهي تعتبر وتراً، ثم صلى ما تيسر له وجعل آخر صلاته بالليل وتراً، كأنه أوتر ثلاث مرات، وهذا مقتضى قولهم: (تلاعب بالوتر) . وعلى هذا يا إخوان يكون المتقرر عند الجمهور بأن اجتهاد ابن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما عارضه اجتهاد غيرهما من الصحابة أمثالهما، وإذا كان اجتهاد صحابي تعارض مع اجتهاد صحابي آخر فإنهما يتعادلان فيتساقطان، كما هو النظام في البينات، إذا تعادلت البينتان تساقطتا، ويطلب بينة جديدة، وهنا: لم يبق عندنا إلا الترجيح في مضمون الأحاديث، أحدهما للنهي وأقل حالاته الكراهة، ولا ينبغي أن نرتكب مكروهاً، والثاني للطلب، وأعلى درجاته الندب، ولأن نقصر في مندوب خيراً من أن نرتكب مكروهاً، والله تعالى أعلم. ثم يؤيد القول بعدم إعادة الوتر بأنه جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث بخمس ثم يصلي ركعتين وهو جالس، بل في حديثها: كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما أسن وأخذه اللحم صار يوتر بسبع، ومعنى: (يصلي ركعتين وهو جالس) ، يعني: صلى بعد الوتر، ولم يعد الوتر بعد ذلك، ولم يلغ الوتر الذي تقدم. إذاً: (لا وتران في ليلة) راجح على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، وبالله تعالى التوفيق.

ما يقرأ من السور في صلاة الوتر

ما يقرأ من السور في صلاة الوتر قال رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، و (قل هو الله أحد)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] . في هذا الحديث بيان ما كان يقرأ به صلى الله عليه وسلم في الوتر، وقوله: (كان رسول الله) يقول العلماء: (إن كان) هنا تدل على الدوام والاستمرار، ونظروا في هذه السور الثلاث (سبح) و (الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، وتقدم الكلام على السورتين الكريمتين: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) فيما يتعلق بالقراءة في سنة الصبح، وفي ركعتي الطواف، وهنا جاء تكرارهما، وكذلك في ركعتي سنة المغرب، وأن هاتين السورتين يسميان: سورتا الإخلاص، أو سورتا التوحيد، وأن في (قل يا أيها الكافرون) نبذ لعبادة ما سوى الله، وفيه أيضاً تميز الإسلام والمسلمين عن غيرهم {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:2-4] ، أي: في الحال وفي الاستقبال، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفردت هذه السورة الكريمة بموضوع واحد وهو: إفراد الله سبحانه وتعالى، وبيان أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وأنه الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلق، أي: يعمدون إليه ويقصدونه، وهنا يضيف إلينا أبي بن كعب: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وباجتماع هذه السورة مع تلك السورتين نجد افتتاحية السورة الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والتسبيح بمعنى: التنزيه والتقديس عما لا يليق بجلال الله، وقد جاءت مادة سبح في القرآن الكريم بكل تصاريفها، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} [الجمعة:1] حتى المصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فجاء التسبيح بأنواع تصاريفه؛ لبيان تنزيه المولى سبحانه وتعالى عما لا يليق بجلاله، وقد أشرنا سابقاً أن معنى التسبيح من حيث مادته في اللغة أصلها (سَبَحَ) بمعنى: يسبح في الماء، والإنسان إذا وجد في ماء عميق لا بد أن يسبح وإلا غرق وهلك، ويقال: إن سبح وسبّح (سَبَحَ الله) أي: كأنه يبعد جلال المولى سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، وإلا هلك هذا الإنسان، أو أنه يسبح ويطلب طرق النجاة بتنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، بخلاف أولئك الذين اتخذوا الله ولداً، أو اتخذوا له صاحبة، أو اتخذوا له شريكاً، أو وصفوه بصفات لا تليق بجلاله سبحانه، كما وقع اليهود في وصف الله سبحانه بالفقر وبالغل إلى غير ذلك من الصفات التي لا تليق بجلاله سبحانه. وقد بين لنا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) وكما جاء في الحديث الآخر: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهاتان الكلمتان جمعتا طرفي التوحيد؛ لأن (سبحان الله) تنزيه ونفي عن كل ما لا يليق بجلاله، و (الحمد لله) إثبات وإقرار بكل المحامد، وبهذا يجتمع للإنسان بهاتين الكلمتين تنزيه الله سبحانه، وتحميده بكل ما يليق بجلاله، وهذا هو طرفا التوحيد في حق الله. وهنا قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] التسبيح هنا متوجه إلى (ربك الأعلى) ، ومن سبح اسم ربه فقد سبح ربه من باب أولى، فإذا سبح الإنسان وقدس ونزه أسماء الله العلي العظيم فإنه قد سبح ونزه وقدس المولى سبحانه وتعالى. ثم جاء بعد هذا التسبيح وهذه الافتتاحية بقوله: {الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والوصف بالعلو ثابت، وكذلك الاستواء على العرش، وكل ذلك مفهوم في العقيدة، ثم جاء بما يدل ويثبت القدرة الإلهية والربوبية للعالم، {رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] إلى آخر السورة الكريمة مما فيه جماع كمال الصفات لله سبحانه. {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، لو وقف إنسان عند كلمة: (فسوى) طيلة عمره ما استطاع أن يستوفي مدلولها، لو نظرت إلى بني آدم من أبينا آدم إلى آخر إنسان في الوجود، ونظرت في تسوية خلقه لما وجدت اثنين متفقين تماماً متطابقين تمام المطابقة، ولكن كل مخلوق سواه الله تسوية خاصة به، ولو جئت إلى رعاة الحيوانات وبهيمة الأنعام لتجد الإبل والبقر والغنم كلها تتفق في صورة واحدة، ولكن تسوية كل واحدة منها تغاير غيرها من بني جنسها، وتجد الرعاة يختلطون بمئات من رءوس الغنم، فإذا آواهم المبيت تجد كل راع يعرف شياهه ويفصلها عن شياه شريكه ومن كان معه. وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: إذا أردت أن تعرف هذه الآية وهذه القدرة الإلهية قف عند جمرة العقبة، وانظر تلك الوجوه التي جاءت من كل جنس، ومن كل قطر، ومن كل صقع يرمون الجمرات، لن تجد اثنين اتفقا في صفاتهما، بل إن علماء التشريح اليوم يقولون: إن بصمات الناس لا تتفق أبداً، بل إن أصابع الإنسان العشر في يديه لا تتفق بصمة إصبع مع بصمة إصبع أخرى، كم من ملايين الخلق مضوا وفنوا، ويوجدون الآن، ويوجدون بعد ذلك؛ ولا تتفق بصمة إصبع إنسان مع بصمة إصبع إنسان آخر!! هذه المغايرة لو وكل ذلك لأفراد الحذاق من العالم بأن يضعوا لها فيلمات، وأن يضعوا لها صوراً متفاوتة مختلفة لوقفوا عند مليون أو مليونين أو مائة مليون، أما أن يأتوا بأشكال متساوية من العالم كله فهذا يعجز عنه البشر، فالله هو الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيء خلقه فهدى، خلق البعير على ما يتلاءم في خلقته، وخلق الأغنام على ما يتلاءم في خلقتها، وخلق الإنسان على ما يلائمه، وخلق عوالم البحار على ما يلائمها، فالإنسان والحيوان لا يستطيع أن يعيش في الماء؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يستخلص عنصر الحياة من الماء وهو الأكسجين كما يقولون، بينما حيوانات الماء خلقها وسواها على أنها تستطيع الحياة في ذلك الماء، وأيضاً منها ما يستطيع الحياة في الماء وفي البر كما يقال: برمائي، أي: يعيش في الماء وفي البر، فهذه التسوية وهذا الخلق لا يستطيع إنسان أن يحصي كنهها، ولا أن يستوعب مدلولها. {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] تقدير الخلائق، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، هذه المباني نحن نعلم أنها لو اختلت مقادير نسبة موادها البنائية لما استطاعت أن تقوم، حتى يقول المهندسون: لو زادت نسبة الحديد في التسليح لتكسر المسلح، ولو نقصت نسبة الإسمنت فيه لتشقق؛ فلابد من نسبة معينة محكمة، فإذا اختلت تلك النسبة فسد البناء! وأنتم تعلمون جميعاً الذي اكتشف الآن فيما يتعلق بفصائل الدم، وأنه مقادير معينة، ونسب معلومة، وكل شيء في هذا الوجود له تقديره الخاص، والله سبحانه هو الذي قدره. وأيضاً: وهدى ما خلق وقدر إلى ما خلقه إليه، إذا جئت إلى الطفل، أو إلى الحمل، أو إلى الإنتاج من الحيوان فإنك ستجد الشاة تلد السخلة، وقبل أن تقف على قدميها أو على أرجلها تبحث عن ثدي أمها وتلتقمه وتمتص منه الحليب، من الذي علمها ذلك؟! هل أنت علمتها؟! لا، هو قدر لها الحياة بذلك، وهداها لطريق حياتها، وإذا جئت إلى جميع أنواع الحيوانات تولد النتاج صغاراً، من الذي علمها الازدواج، من الذي ألهم الذكر الذكورة، والأنثى الأنوثة، ثم جمع بينهما ثم كان التناسل، ثم كانت الزيادة والنماء وبقاء الجنس?! من الذي علمهم ذلك؟ إنه قدر لكل شيء حياته ومقاديره، وهداه إلى ما قدره إليه. لو جئنا إلى عالم الحشرات تجد كما يقولون: مملكة النحل، من الذي هدى النحلة إلى ما هي عليه، ويعجز كبار حذاق المهندسين أن يوجدوا الأعمال التي تعملها النحل في بيتها، وفي جمعها للعسل، وفي بناء بيتها من الشمع، لا يوجد في خلية النخل سراب للهواء ألبتة، بل مسدسات متلصقات، بيت وبيت، وكيف تعمل؟ وكيف تتنظم؟ وكيف شكلت من جماعتها جماعات على أعمال مختلفة؟ كل هذا بتقدير الله، وهداها لما قدره إليها. فإذا قرأ الإنسان ذلك ولو استمر الإنسان مع السورة الكريمة لما فرغ منها. هذا مناسبة قراءة هذه السورة مع سورتي الإخلاص في الوتر؛ ليقف الإنسان في كل ليلة وفي صلاته للوتر على عجائب خلق الله، ومن وراء ذلك تجديد الإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [7]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [7] صلاة الوتر أفضل الرواتب مطلقاً، ولها أحكام كثيرة، وسنن متعددة، ينبغي معرفتها، ومن ذلك وقتها، وحكم من نسيها، وما يقرأ فيها، وغير ذلك.

شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى)

شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. ] . أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه السورة الكريمة، وأول ما أنصح به التفسير الكبير للفخر الرازي؛ لأنه في الواقع له توجيهات كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي إيراد ما فيها من نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع إليها، وهي -كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء العظيم جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة. يقول أبي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة بثلاث بخمس بسبع بتسع، وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس أو بسبع أو بتسع ماذا يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك تعيين بسورة معينة إلا في الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه إنما بيّن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر، سواء اقتصر عليها الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة ما تيسر له، ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث الكريمة. قال: [وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] . هذا مما أوقف البعض عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، وأنتم إذا فرقتم الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله الأحناف، فماذا توردون عليهم؟ قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم إلا في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية، ولم يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا الحديث فإنه يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن يتشهد قبل الأخيرة، إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو: أنك تسلم في آخرهن دون أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من معارضته النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب. إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات وتراً بتشهد واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، أنها موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى مثنى، وإذا صلى ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن. وبهذه المناسبة لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف والجمهور موقع إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة ومندوب، فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً، وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن يبحث، وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح عنده فلا ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما يوهم إلى ما ذهب إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، إذاً: كل من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة، فإذا كنت تعترض على ما اقتنع به الفريق الثاني فمن حق الفريق الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت به، وما دامت المسألة قابلة للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب كل بما اقتنع به، ولا ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى أعلم. مع العلم بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير الحنفي فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح قال: لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً: الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من يرى مخالفته في شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة، ولما سئل أحمد بن حنبل: أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي: وهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق بالوضوء وهو أمر أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له رأيه، وهذا له رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة في تجنب السلف الخلاف والمنازعات. والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين)

شرح حديث: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين) قال رحمه الله: [ولـ أبي داود والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها: وفيه: (كل سورة في ركعة وفي الأخيرة: (قل هو الله أحد) والمعوذتين) . ] عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث) وهذا اللفظ من عائشة رضي الله عنها لم يرد فيه تفصيل في كيفية هذه الثلاث، ومن هنا أخذ الأحناف صورة الثلاث المعهودة وجمعوها، وآخرون يقولون: ثلاث لم يجلس في الثانية منهما، وبينت لنا رضي الله تعالى عنها أن هذه السور الثلاث مقسمة على الركعات الثلاث. قال: [وفيه: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قل هو الله أحد) والمعوذتين) ] . المشهور (قل هو الله أحد) ، فإذا أتى بالمعوذتين مع (قل هو الله أحد) في الركعة الأخيرة فلا مانع، والمنصوص عليها أنه يأتي بهما، والمشهور عند العلماء إفراد (قل هو الله أحد) ، بما أنا أشرنا إلى السور الثلاث: (سبح اسم ربك الأعلى) وما فيها من إثبات الصفات الكريمة للمولى سبحانه، والقدرة الإلهية والربوبية إلى آخره، وكذلك في سورتي الإخلاص، إذا جئنا إلى المعوذتين نجد أن الوقوف عند هاتين السورتين الكريمتين يجعل المسلم فعلاً يقف إجلالاً لكتاب الله، ويقف متلمساً فضل الله أن يفتح عليه في نسق القرآن في هذا المصحف الشريف، إذا جئنا إلى (قل هو الله أحد) وإفراد الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته.

سورة الفلق

سورة الفلق ونأتي إلى سورة الفلق، ثم نأتي إلى سورة الناس، ثم نأتي إليهما معاً، تجد السورة الأولى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، وقد عارض بعض المتفلسفة -ليس الفلاسفة- على إيراد كلمة: (قل) ، وقال: لماذا لا يقرأ الإنسان: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ؟ فكلمة (قل) مقول القول، وتحصيل حاصل، ولكن لا، {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] ليعلم السامع والقارئ بأن هذا المقول يجب أن يقوله بأمر الله سبحانه الذي قال له: (قل) ، أما إذا بدأ وقال: (أعوذ برب الفلق) قد يكون من عنده هو، قد تكون استعاذة شخصية، ولكن عندما يضمم: (قل) أي: أنك أمرت وكلفت من الله سبحانه وتعالى أن تقول، ولذا الذين نادوا بحذفها ما فقهوا كلام الله، وأن هذا تكليف من المولى لعبده. {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، {بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو من عشرين معنى، وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، فنجد هنا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى السماء وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك، إذا جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان وطير وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات والأشجار وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات تندرج تحت هذه الكلمة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] . كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] ؛ لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه، فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي أفراد ما خلق، والذي فلقه هو الذي يدرأ عنك شره، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا} [الفلق:1-2] ، (ما) من الأسماء الموصولة التي تدل على العموم، فمدلولها عام، {مَا خَلَقَ} [الفلق:2] حتى قال ابن عباس: المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله من شر ما خلق استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى. إذاً: دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله، ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ، قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت عمل المفسدين من سحرة وغيرهم. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وهم السحرة يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في العقد: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5] ليس على إطلاقه، بل {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة بالاستعاذة بصفة واحدة لله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق إذا وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من صفات الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم التفصيل، وقبل ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد بشرط: إذا حسد؛ لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند السحر، وقبل أن يتناولن الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال، إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم يتوجه إلى الإنسان بالحسد، فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود، والحسد يوجد عند الإنسان الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم، لكن شر حسده لا يظهر ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه للمحسود. وكيف يقع الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ قضية سهل بن حنيف، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما رأيت مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال: (وما ذاك؟ قالوا: خلع لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ صلى الله عليه وسلم وقال: علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت ما يعجبك، من رأى ما يعجبه فليبرك، ثم أمر أن يغسل له) وهذه قضية طويلة. وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في المحسود كسهم صائد، ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف يؤثر؟! عجز العالم إلى اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء الجدد، إنما كل ما قالوه: إن القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج إلى المعين، فيتأثر بذلك، ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله تعالى أعلم بها.

سورة الناس

سورة الناس في هذه السورة يستعيذ المسلم بالله بصفة من صفاته، من كل الشرور مجموعة ومفرقة، بينما نجد السورة الأخيرة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] المستعاذ منه ماذا؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] كم صفة من صفات الله جندت للاستعاذة بها؟ ثلاث وهذه صفات الجلال والعظمة: (رب ملك إله) ، فهي صفات الكمال والجلال لله، فهي جوامع صفات العظمة لله، هناك: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] صفة من صفات الله، وهي صفة الخلق، ولكن هنا جوامع الصفات: (رب) و (ملك) و (إله) . المستعاذ منه من هو؟ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها من جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية ثلاث صفات تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس الخناس، فماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم- بأن الشر كل الشر، والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر الذي اجتمعت له صفات العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين في قضية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] يعني: ما بقي إلا الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله أمام امرأتين كل هذا، (الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل ذلك يناصرونه عليكما! ولذلك قال الشاعر: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن هن فهنا الشيء بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال والكمال تجند وتجمع، ويلجأ الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما يكون على الإنسان في حياته وآخرته الشك الوسواس، الخناس! فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من أي عمل ما تقدم خطوة، فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا ينتقل من مكانه ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها الوسوسة في الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على الإنسان دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد بعيد. إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم ما بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى آخر المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من المخلوقات، استعذ برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير، استعذ بالله وبصفات جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله فلن تنجو منه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] . إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في حياته. ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] الربوبية والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن القرآن في آخره يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر القرآن بأوله في تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (أوتروا قبل أن تصبحوا)

شرح حديث: (أوتروا قبل أن تصبحوا) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) ] . هذا أمر توجيه (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقول: (تصبحون تمسون تظهرون) كما يقولون -فعل الدخول في الوقت، يقال: أصبح فلان دخل في الصباح، أمسى دخل في المساء، أضحى دخل في الضحى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أوتروا قبل أن تصبحوا) أي: قبل أن يدخل الصبح عليكم، وتدخلوا في الصباح، ومعنى ذلك: أن الصباح ليس وقت الوتر، أو أن الوتر إلى قبل أن تصبح، وتقدم الكلام عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين العشاء وصلاة الصبح) . قال رحمه الله: [ولـ ابن حبان: (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) ] جاء في هذا تقييد، من أدرك الصبح ولم يوتر أو أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، أي: لم يبق هناك وقت للمدرك، وإذا خرج وقته ذهب، ولا تستطيع أن تستدركه، ولكن لم يقتصر الأمر في الأحاديث على مثل هذا، وإنما جاءت نصوص أخرى فيما يتعلق بانفتاح وقت الوتر إلى ما بعد الصبح، ويجمع العلماء في هذه المسألة على أن كل هذه الأحاديث التي في التوقيت إنما هي لوقت الفضيلة والأداء، وما كان بعد الصبح على ما سيأتي للمؤلف وغيره فيكون تداركاً لما فات من أدائه، وهل هو قضاء أم أداء؟ بعضهم يعتبر ذلك قضاء، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من نام عن الوتر أو نسيه)

شرح حديث: (من نام عن الوتر أو نسيه) قال رحمه الله: [وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) رواه الخمسة إلا النسائي] . انظروا إلى فقه المؤلف أتى بقوله: (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقوله: (إذا طلع الفجر فلا وتر) ثم يعقب ذلك بالحديث: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) إذاً: التوقيت الأول للمستيقظ أفضل، أما إذا كان هناك عذر وفات عنه الوقت المحدد فإنه يصليه إذا مضى وارتفع ذلك العذر، وإذا كان هذا في الفريضة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فيقولون: أيضاً في النافلة من باب أولى، ولا سيما إذا كان الإنسان مداوماً على عمل من أعمال الفضيلة، فلا ينبغي تركه، وخروج الوقت لا يسقطه، فهناك تدارك له، وقد جاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل بأن كان متعباً، أو شغل عن ذلك فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ لماذا يصلي اثنتي عشرة ركعة؟ عوضاً عما كان يقومه بالليل، والله تعالى أعلم. مسألة: إذا قام أو ذكر إلى متى يكون وقت القضاء؟ فبعضهم يقول: إلى طلوع الشمس؛ لأن جزء ما بين الفجر وطلوع الشمس تابع لليل، وبعضهم يقول: لا، هذا تابع للنهار، بدليل أن الصائم لا يأكل في ذلك الوقت، وهناك من قال: إلى طلوع الشمس ينتهي قضاء الوتر، وهناك من قال: إلى وقت الضحى؛ لأنه وقت نافلة أيضاً، وهناك من مد إلى الزوال، قالوا: لأن أول صلاة بعد الصبح التي هي حد الوتر، الصلاة التي تعقبها وهي الظهر، أما بعد الظهر فلا دخل له بذلك، وهو من بداية اليوم الجديد، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل)

شرح حديث: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل) قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) ] . تقدم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل أوتر رسول الله) ، وعلى هذا الليل كله يكون للوتر، ولكن إذا أردنا أن نتخير الأفضل، وتساوى عندنا الأمران، له القدرة بأن يستيقظ آخر الليل، ويستطيع صلاة الوتر الآن، فهما متساويان عنده، فإن كانا متساويين فإن الأفضل أن يؤخره، أما إذا كان لديه مظنة الكسل، أو مظنة النوم أو هو مرهق، أو لا يطمع في القيام، وليس عنده عزم أو غير متأكد بأنه سيقوم قبل الفجر، لا، يوتر من أول الليل؛ لأن الوتر أول الليل على اليقين وفيه تدارك للأمر، والأخذ بالأحوط أحوط، وعلى هذا يبين صلى الله عليه وسلم أنه: من استطاع، أو من لم يوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ومن أيقن أو غلب على ظنه أنه سيقوم آخر الليل فليوتر في آخره؛ لماذا؟ لأفضلية الوقت، الوتر هو الوتر، ثلاث ركعات أو خمس أو سبع، والقراءة هي القراءة، ولكن الأفضلية جاءت للوقت، وأفضلية الوقت تضاف إلى أفضلية العمل، ويزداد الوتر فضيلة بأفضلية الوقت.

شرح حديث: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر)

شرح حديث: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر) رواه الترمذي] . أيها الإخوة! لعله إلى هذا الحد يكون المؤلف رحمه الله قد أنهى مباحث الوتر، وسيبدأ في موضوع مستقل وهو الضحى، وقد أورد لنا مشاكل فيه، ولكن يهمنا بأن هناك مباحث أخرى في الوتر لم يتعرض لها المؤلف، وربما يتعرض لها في قيام الليل في رمضان أو التراويح، أو في صلاة الصبح، ألا وهو القنوت في الوتر، والقنوت في الوتر جاءت به النصوص، أو بصفة عامة مجملة، القنوت هو الدعاء في الصلاة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: داعين مخبتين خاشعين إلخ. والقنوت من حيث هو أمر طارئ جديد على الصلاة، لم تكن مشروعيته من قبل، ولكن طرأ وبدأ القنوت في النوازل، قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان في قصة قتل القراء في بئر معونة، ثم بعد ذلك جاءت أحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والنوازل لم تكن دائماً، وهنا وقع الخلاف والنزاع والبحث: هل الوتر دائم أم الوتر مؤقت؟ فمن قال: إنه مؤقت، قال: وقت النوازل فقط، حروب زلالزل محن شدائد، يقنت الأئمة في الصلوات، ومنهم من قال: يقنت في الصلوات الخمس، ومنهم من قال: يقتصر على البعض من الصلوات فقط. ففي حالة النوازل، المشهور القنوت في الصلوات الخمس، وفي غير النوازل الخلاف في القنوت في الفجر أو في الوتر، والأئمة الأربعة رحمهم الله يقولون بالقنوت في غير النوازل، ولكن منهم من يقنت في صلاة الصبح، ومنهم من يقنت في صلاة الوتر. ثم بعد هذا التقسيم: منهم من يجعل القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة بعد ما ينتهي من القراءة يكبر وهو قائم ثم يقنت، ومنهم من يجعل القنوت بعد الرفع من الركوع، ثم منهم من يجهر، ومنهم من يسر. إذاً: بحث القنوت مستقل من حيث هو في موقعه وسببه وتوقيته. وعلى كل حال: استقر الأمر عند الأئمة الأربعة رحمهم الله بأن القنوت طيلة السنة موجود، اللهم إلا بعض العلماء يستثني النصف الأول من رمضان لا يقنت فيه، ويقنت في النصف الأخير كما جاء عن بعض المالكية، ولكن المتبع والمشهور عند الجميع أن القنوت موجود طيلة العام، فهناك من جعله في الوتر كالحنابلة والأحناف، ومنهم من جعله في الصبح كالمالكية والشافعية، ومنهم من يجعله قبل الركوع، ومنهم من يجعله بعده. ومهما يكن من شيء فإن تلك الصور كونه في الصبح كونه في الوتر كونه قبل الركوع كونه بعد الركوع كل ذلك ورد فيه نصوص، ولا ينبغي للإنسان أن يعترض على آخر إذا رآه أوقع الوتر في أي صفة من تلك الصفات، أما دعاء القنوت فقد جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه الحديث: (اللهم اهدني فيمن هديت. إلخ) ، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [8]

كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [8] من أفضل النوافل صلاة الضحى، وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام فيها ترغيباً شديداً، وأوصى بها بعض أصحابه، فينبغي معرفة فضلها وأحكامها، ومن ثم المحافظة عليها.

شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله)

شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) رواه مسلم] . هذا الحديث الأول من أحاديث عائشة جاء بالنفي أم بالإثبات؟ بالإثبات، وسيعقبه حديث جاء بالنفي، فإذا قدم ابتداء حديث الإثبات فكأنه يشير ابتداء إلى ترجيح الإثبات، فنأخذ هذا الحديث، تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ... ) و (كان) في الغالب تدل على الدوام والاستمرار، لم تقل: صلى الضحى يوماً، (ويزيد ما شاء الله) يعني: مرة يصلي ثمان ركعات، ومرة عشر ركعات، ومرة اثنتي عشرة ركعة، وقد جاء المؤلف بحديثها في آخر الباب: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في الضحى بنى الله له بيتاً في الجنة) وهذا جزء من حديث: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين) ، (من صلى أربعاً كتب من التوابين الأوابين) ، (من صلى ثمان ركعات بني له كذا، أو كتب له ثواب كذا) ، (بني له قصر في الجنة) كل هذا تدريج مع الركعتين والأربع والثمان والاثنتي عشرة ركعة. فحديثها الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعاً، ويزيد ... ) كأنها تقول: أقل ما صلى أربعاً، في هذا الحديث إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم بالضحى، قبل أن نأتي بالنفي نأتي بالأحاديث التي تلائم الإثبات، فعن أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتي يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات في الضحى، ما رأيت أخف منهما، ولكنه يتم الركوع والسجود) فقالوا: هذه ثمان، وعائشة تقول: أربع، وثمان يتفق مع قول عائشة: (ويزيد ما شاء الله) والثمان تزيد عن الأربع، فهذه أحاديث تثبت صلاة الضحى، والذين ينفون الضحى -كما سيأتي عن ابن عمر وغيره- يقولون: صلاة رسول الله عند أم هانئ يوم فتح مكة صلاة الفتح، وليست صلاة الضحى، فأجاب الآخرون وقالوا: كم من فتح فتحه الله على رسوله! وهل جاء في الغزوات ما يسمى صلاة الفتح؟ تشرع سجدة الشكر، الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث علياً إلى اليمن، وكتب إليه بأن بني فلان أسلموا كلهم عن بكرة أبيهم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب سجد شكراً لله، وهذا من نصوص أحاديث سجود الشكر، الذين أسلموا في اليمن، والخبر جاء إلى المدينة، فسجد شكراً لله، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما فتح المدائن، ودخل إيوان كسرى صلى فيه ركعتين شكراً لله، مع أنه فتحت خيبر، وفتحت مدائن أخرى ولم يكن هناك صلاة، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كم من غزوة غزوها ولم يفعلوا ذلك، وجاء هناك في سنن الرواتب المطلقة سنة الفتح. إذاً: يكون حديث أم هانئ تبعاً لحديث عائشة الأول، فـ عائشة تقول: (أربع ويزيد ما شاء) ، وأم هانئ بينت أنها ثمان ركعات، وجاء في حديث آخر من أحاديث إثبات صلاة الضحى: (كل سلامى من الناس كل يوم يصبح عليه صدقة) ، والسلامى: المفصل في جسم الإنسان، وفي بعض الأحاديث: (في جسم كل إنسان ستون وثلاثمائة سلامى) لا تقل: لماذا لا تقل: ثلاثمائة وستون مثل ما يقول الناس؟ العدد في اللغة العربية يقرأ من اليمين، أنت تقرأ: (ألم) من اليسار أم من اليمين؟ الكتابة العربية تقرأ من اليمين، فكذلك العدد في اللغة العربية ينطق من الآحاد فالعشرات فالمئات خمس وعشرون ومائة، بخلاف اللغة الإنجليزية أو الأعجمية فإنها تقرأ من اليسار، عندما نقول: سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة هذا غلط، ونقرؤه عربياً صحيحاً فصيحاً بأن نقول: سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، نقرأ من اليمين آحاد عشرات مئات. فالحديث يقول: (كل سلامى من الإنسان كل يوم يصبح عليه صدقة، قالوا: ومن منا يستطيع ذلك؟) هل أحد منكم يقدر على هذا ولو تمرة؟ ستون وثلاثمائة تمرة تكون أكثر من صاع أو صاعين، من يستطيع كل يوم أن يتصدق بصاعين؟ صعب. قالوا: (ومن منا يستطيع ذلك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم -يأتي لهم بعملة بديلة-: التحميدة صدقة، والتسبيحة صدقة، والاستغفار صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وتدله على الطريق صدقة، وأمر بمعروف صدقة) إذاً: صدقات كثيرة، وهذه ليس فيها درهم ولا دينار، وما دامت مجاناً خذ ما تريد، ثم قال:: (ويجزئ عن هذا كله ركعتا الضحى) إذاً: صلاة الضحى أقلها ركعتان، ثم يأتي بعد ذلك أربع ثم ثمان، ويأتي بعد ذلك اثنتا عشرة ركعة، هذه الأحاديث في جانب من يقول بمشروعية صلاة الضحى وسنيتها. فإذا جئنا إلى الأحاديث التي هي أعلى درجة في الإثبات والصراحة، فعندما يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي) لماذا لم يقل: أوصاني رسول الله؟ لأن رسول الله مشترك للجميع، لكن (خليلي) ليست لكل إنسان، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] فالأنبياء كثر والرسل كثر يقول العلماء: الخلة أخص حالات الحب، وسبق أن قدمنا بأن الاصطلاحات الشرعية منقولة من الحقائق اللغوية، أنت عندما تفعل هكذا في الوضوء يقال: خللت الأصابع، وتخليل الأصابع: هو إدخال الإصبع بين الإصبعين لتتأكد من مرور الماء عليها، وهو مأخوذ من أصل النبات الذي يسمى الخلة، وأعواد الخلال ماذا نفعل بها؟ نخلل بها الأسنان. انظروا إلى الصورة! ما بين الأسنان أهي فجوات متسعة تدخل فيها الأصبع أم أنها ضيقة؟ بل هي ضيقة، على قدر العود، وكذلك إذا خللت الأصابع هكذا هل هناك فراغ بين الأصابع المخللة؟ لا. بل هي مزدحمة، قالوا: كذلك الخلة في الحب هي استغراق محبة الخليل خليله، بحيث لم يبق هناك فراغ في القلب لغيره. إذاً: (أوصاني خليلي) هذه وصية مثلما يقولون: موصى عليها، وصية فيها اعتناء، وصية معنى بها، وسبق أن أشرنا بأن الوصية والوصلة متقاربان في اللفظ والمعنى، تقول: وصلت فلان بكذا يعني: أعطيته، وصيت لفلان بكذا، يعني: وصيت له من بعدك بوصية يأخذها، إذاً: فيها إيصال الخير، والشخص لا يوصي إلا لمن يحب، ولا يوصي لعدو، ولا لشيء مكروه، ولهذا أشرنا سابقاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! والله إني لأحبك، وأريد أن أوصيك) قدم المحبة ليعلم معاذاً أن مصدر هذه الوصية الحب، قال: (والذي نفسي بيده يا رسول الله إني لأحبك أوصني، قال: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) اللهم أعنا جميعاً؛ لأنه كما قيل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة: على طاعة إلا بالله. فقوله: (أوصاني خليلي) ، فإذا كانت الوصية من خليل كريم يكون محلها وموضوعها عظيماً، والواجب على الموصى إليه أن يعتني بها، ولهذا قال أبو هريرة: (فلا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وركعتي الضحى) فإذا نظرنا إلى المقارنة: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) فإنها تساوي صيام الدهر. إذاً: صلاة الضحى بدلالة الاقتران تساوي ما ذكر معها، أقل ما يمكن أن يقال في ذلك، ثم لنأت إلى ما يذكره صاحب الترغيب والترهيب، وأرجو من كل طالب علم أن يرجع إليه في تلك النصوص، جاء فيه: (يا ابن آدم! اكفني أول النهار بركعتين أكفك آخره) ، وجاء أيضاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً، فرجع قريباً، وغنم كثيراً، فقالوا: ما أسرع هذا البعث! وما أكثر غنيمته! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب من ذلك عودة، وأكثر من ذلك غنيمة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: يسبغ أحدكم الوضوء، فيعمد إلى المسجد فيصلي ركعتي الضحى) يعني: يكون أكثر غنيمة من الذين ذهبوا فغزوا وغنموا بسرعة، ورجعوا بالغنائم! غريب. ومن المجرب -يا إخوان- عند كثير من الناس، وما نسمعه من الآخرين، أن من تعود ركعتي الضحى إذا صلى ركعتي الضحى يظل طوال نهاره مستبشراً مطمئن النفس، قرير العين، قل أن يرد عليه ما يكدر خاطره، ويكفي أنه لم يكتب من الغافلين، وكتب من الأوابين، وغفر له ذنبه، وبني له بيت في الجنة، مع اختلاف عدد الركعات، وليس هناك إلزام بالعدد. فإذا انتهينا من الجانب الثاني وهو الحديث الآخر لـ عائشة رضي الله تعالى عنها ننتقل إلى أوقاتها وما جاء في عدد ركعاتها، والله المستعان.

شرح حديث: (ما رأيت رسول الله يصلي قط سبحة الضحى)

شرح حديث: (ما رأيت رسول الله يصلي قط سبحة الضحى) قال رحمه الله: [وله عنها رضي الله عنها أنها سئلت: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه) . وله عنها رضي الله عنها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه يصلي قطُّ سبحة الضحى، وإني لأسبحها) ] . هذا يا إخوان هو موقف العلماء، ومن شرح الله صدورهم، وأنار بصائرهم عندما يواجهون مثل هذه الأحاديث، الحديث الأول صحيح لا شك فيه، والحديث الثاني أيضاً صحيح انفرد به مسلم، وفي البخاري أيضاً تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، يعني: إذا جاء من سفر، هل يوجد تعارض أم ليس هناك تعارض؟ هناك تقول: (كان يصلي أربعاً) ، وهنا: (ما كان يصلي) ، فالنفي منصب على الصورة في غير المنصوص عليها وهي: قدومه من مغيبه. إذاً: عند قدومه من مغيبه يتفق مع الحديث الأول في إثبات الصلاة، وإذا لم يكن قادماً من مغيبه يختلف مع الأول، ولقائل أن يقول: القادم من مغيبه السنة في حقه أمران: ألا يطرق أهله ليلاً، وأن يسبق إعلامهم بقدومه، فإن لم يتمكن بدأ بالمسجد وأرسل من يعلمهم، وإذا بدأ بالمسجد سيصلي أم سيترك الصلاة؟ سيصلي، فهذا يذكره العلماء من آداب السفر، وبين صلى الله عليه وسلم السبب فقال: (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة ... ) حفاظاً على كيان الأسرة، وإبعاداً عن مظان السوء، إذا كان الإنسان غائباً عن زوجته فإنها لا تقدّر زوجاً عندها، فلم تتهيأ لاستقباله، وغالباً تكون في ثيابها الرثة، فإذا فاجأها على تلك الحالة ربما رأى ما لا يريد، فانطبعت تلك الصورة في ذهنه، فيحصل هناك تخلخل في الروابط الزوجية؛ لأن الزوجة كما قالت المرأة البدوية لابنتها: لا يرى منك إلا كل مليح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح -وتنصحها بعشر نصائح معروفة- وتعهدي وقت نومه، ووقت سروره، ووقت كذا وكذا إلخ. فإذا فاجأ المرأة وهي في تلك الحالة ربما لا يعجبه هذا المنظر، وقد تلصق الصورة في الذهن، وربما تقول: الزوج غائب فرصة أذهب أزور أمي، فرصة أزور خالتي جارتي، احتاجت إلى حاجة وزوجها غائب بدلاً من أن تتثاقل إلى إنسان تذهب هي بنفسها لتقضي حاجتها، فيصادف مجيء الزوج وهي غائبة، ويأتي الشيطان يوسوس: انظر من يوم ما ذهبت وهي ما تجلس في البيت، من يوم ما ذهبت وهي خراجة ولاجة، ويجد مجالاً للإفساد، لكن عندما يخبر بأنه قادم تتهيأ. وحكيت لنا قصة: كان رجل غائباً، وأرسل للزوجة ميعاد العودة، وكانوا كما تعرفون يسافرون على الإبل، فقبل أن يقدم بيومين رأى فيما يرى النائم أن كبشين ينتطحان على فرج امرأته، فاشمأز جداً، ولذا كما يقولون: تفسير المنام إلهام، لأنها موحية، ففزع وذهب إلى طالب علم يسأله فضحك، قال: لماذا تضحك؟ هل الناس يقتتلون عليها؟! قال: لا، قال: إنها علمت بمقدمك فاستعملت المقص فجرحها، إنها تتهيأ! ويحكى أن رجلاً كان غائباً، فقدم وقال: الوقت ليل، وما عندي من أخبرهم، والمسجد الآن ما فيه أحد، فذهب وطرق الباب وكان حديث عهد بعرس، وفي البيت أبوه وأمه وزوجه، ترون هذا الليل الطويل من الذي يكون ساهراً يعد النجوم؟ ومن الذي هو نائم ومستريح؟ ومن اليقظان ومن النائم؟ الزوجة ساهرة كما يقولون: ساهرة الليالي، والأب والأم في حال النوم، وما عندهم شيء يشغلهم، فأول من سمع الطرق الزوجة، فحالاً أسرعت، ففتحت لزوجها واستقبلته، وكانت أمه كلما طلع الفجر تذهب توقظها للصلاة، فذهبت في ذلك اليوم فإذا بالرجل في الفراش وهي لم تعلم أن ابنها قد جاء، فذهبت لزوجها وقالت: أدرك زوجة ولدك ومن معها في فراشه. طبعاً أمور مثل هذه كما يقال: تغلق الذهن، ما كان منه إلا أن فزع إلى السيف، وجاء وحز رأسه، ثم قامت الزوجة، وجاءت وطرقت على أبيه الباب، ثم قالت: قم وار ولدك، ذبح ولده بيده! فقالوا: هذه نتيجة مخالفة السنة، لو كان أهل البيت علموا بمجيئه لفرحوا وهللوا، ولكن لما فاجأهم ولم يعلم البقية إما أن يقع خطأ، وإما أن يقع سوء في العشرة بين الزوجين. والآن الحجاج والزوار والعمار، والعمال الذين يسافرون ويرجعون يسر الله لهم الاتصالات، وشخص مسافر وشخص راجع، فليحذر الإنسان أن يفاجئ أهله، يقول: اتركني آتيها على غفلة أنظر ماذا تعمل! هذا ليس من المروءة في شيء! بل هي الدناءة في عينها، أنت لا تدري ما هي الظروف، وإذا كنت شاكاً في أهلك فلا يستحقوا أن يكونوا معك، يجب أن تكون الثقة متبادلة، فإذا لم يتيسر له فليأت إلى المسجد، فسيجد الأولاد في المسجد أو الجيران، وقبل أن يصلي تحية المسجد يكلف أحد المارة: أخبر بيت فلان بأنه جاء وهو الآن في المسجد. فهنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان يصلي سبحة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، كان صلى الله عليه وسلم في الغزوات يقدِّم من يأتي بالبشرى، كما في غزوة بدر، أرسل ابن رواحة وعبد الله بن زيد على راحلة رسول الله القصواء ببشرى الفتح والنصر ومجيء الأسارى، وكذلك في فتح مكة إلى غير ذلك. فإذا قدم قلنا: على الإنسان أن يبدأ بالمسجد، وكان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فإذا بدأ بالمسجد بطبيعة الحال علم أهل بيته، وإن كانوا سمعوا بالبشرى من أول، إذاً: مقدمه من مغيبه هل هذا كان لصلاة الضحى أم كان لدخول المسجد ليبدأ به؟ ابن عمر رضي الله تعالى عنه -كما في رواية موطأ مالك برواية محمد بن الحسن - كان إذا أراد سفراً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قبل أن يسافر، وإذا رجع من سفر بدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وإذا أراد أن يسلم، سيدخل على طول يسلم أم تحية المسجد أولاً؟ معروف في السنة بأن تحية المسجد تصلى أولاً. فإذاً: إلى هنا حديث عائشة وسط بين الحديث الأول وحديثها الثالث، فهي سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، يبقى هذا نفي صريح، والأول إثبات صريح، والوسط: (إلا إذا قدم من مغيبه) ، ولكنها مع النفي تقول: (وإني لأسبحها) لم يصلها وأنت تصليها على أساس ماذا؟ أنت ما رأيتيه يصليها وتقولي: (وأنا أسبحها) لا تخالفيه! لا، هنا موقف العلماء: الجمع، هل هناك جمع بين النفي والإثبات أم ترجيح؟ وكما يقول العلماء: إذا تعارض الحديثان فلا طريق إلا الجمع بين الحديثين ما أمكن، أو ترجيح أحدهما على الآخر، فبعضهم سلك طريق الجمع، وقالوا: ما صلى سبحة الضحى قط، وأنا أستحبها، (ما صلى) بمعنى: ما داوم عليها في المسجد كما تفعلون اليوم في ذلك الوقت، وفي بعض الروايات -ويسوقها بكاملها صاحب طرح التثريب- تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (ما صلى، وكان يترك الشيء الذي يحب أن يفعله مخافة أن يكتب على الناس، وكان يطلب التخفيف وإني لأسبحها) ، يعني تقول: ما كان يصلي وهو يحب صلاتها، ويترك ذلك مخافة أن تفرض لدوامه عليها، وأنت تصليها لماذا؟ قالوا: اتخذت طريق الجمع، تقول: ما رأيت، ولكن علمت بأنه يريد أن يصلي، فتخبر عن علمها بعدم رؤيتها، وتخبر عن رغبته بما سمعت من غيرها، هذا نوع من أنواع الجمع! وجمع آخر، قالوا: إن قولها: (ما صلى أبداً) -كما أشار ابن العربي وغيره- أي: ظاهراً وكان يخفيها، وبعضهم يقول: هي امرأة من تسع نسوة أمهات المؤمنين، وقد يكون وقت صلاة الضحى للنبي صلى الله عليه وسلم ليس عند زوجاته، ويكون في المسجد، فإذا جاء من يثبت صلاته كـ أبي هريرة وغيره وأنس فيكون: (من حفظ حجة على من لم يحفظ) ، ويكون هذا إما طريق الجمع بأنها تنكر حالة صلاتهم التي يداومون عليها وفي المسجد، حتى قال البعض: إنها كانت تغلق عليها الباب وتصلي الضحى، إمعاناً في إخفائها. وعلى كلٍ: مذهب الجمهور تقديم النصوص الواردة في مشروعية صلاة الضحى، وفي بيان فضلها وأجرها والوارد فيها بالأحاديث الصحيحة سواء كان في (كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة) أو في حديث البعث الذين بعثهم رسول الله، أو في حديث: من صلى ركعتين أو صلى أربعاً، أو صلى ثمان، أو حديث: (يا ابن آدم! اكفني ركعتين في أول النهار أكفك آخره) أو في حديث أبي هريرة: (أوصاني خليلي ... ) كل هذه نصوص عند الجمهور تثبت مشروعية صلاة الضحى وتبين فضلها.

شرح حديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)

شرح حديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) قال رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) رواه الترمذي. ] في أواخر هذا البحث يأتي المؤلف رحمه الله بعد أن أورد ما يشعر بالخلاف، ويشير إلى الترجيح لأول وهلة، ويبين عددها؛ أخذ يبين وقتها. فقوله: (صلاة الأوابين) ما هي صلاة الأوابين؟ وهناك الحديث الآخر: (صلاة الضحى صلاة الأوابين) ، وروي أن صلاة الأوابين ما بين المغرب والعشاء، ولا تعارض: فتكون هذه صلاة للأوابين في النهار، وهذه صلاة للأوابين في الليل، فلا تعارض في ذلك، ولكن فيما يتعلق بالضحى حين ترمض الفصال، الرمضاء: التراب الحار، وذلك عندما تشتد الشمس، وتكون الأرض رملاً، وأهل الإبل يعرفون ذلك بالتوقيت تماماً، والفصال جمع فصيل، وهو الذي انفصل عن أمه وهو صغير لم يبلغ سنة، فإذا كان يمشي وراء أمه وارتفعت الشمس كما يقال: في ربع الدائرة؛ لأن الدائرة تنقسم نصفين: نصف نهار، ونصف ليل، من نقطة طلوع الشمس إلى نقطة غروبها تتوسط الدائرة سطح الأرض الأعلى نهار، وسطحها الأدنى ليل، فالنصف الأعلى نهار يقسم إلى أرباع: الربع الأول وقت الضحى، الربعان مجتمعان يعني: النصف حينما تزول الشمس وقت الظهر، الربع الثاني وقت صلاة العصر، والربع الرابع عندما تغرب الشمس ويأتي وقت المغرب {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] دلوكها أي: زوالها عن كبد السماء. فعندما تطلع الشمس يكون في أول طلوعها أشعة هادئة باردة لطيفة أو كما يقول الأطباء: مليئة بفيتامين (د) فهو مقو للأطفال المصابين بالكساح نافع للعظام، فإذا ارتفعت الشمس إلى أن تصل إلى ربع الدائرة احترت واشتدت الحرارة، والفصيل لا يستطيع أن يتابع المشي، يربض، فأهل الإبل يحملونه على ظهر أمه وإلا لا يستطيع أن يمشي، انظروا التوقيت سبحان الله العظيم! لم يقل: الساعة الفلانية؛ لأنه لا ساعات في ذلك الوقت، ما كل إنسان يقيس النهار بالساعة، مع أنهم يعرفون الوقت بحركة الظل، وإلى الآن هناك بعض الفلاحين يقيسون الزمن بالظل، وينصبون عوداً، وينظرون إلى ظله، أول ما يكون إلى جهة الغرب، ثم يتحول، وكلما ارتفعت الشمس يقصر الظل، ويتحول إلى الجنوب أو إلى الشمال، ثم تزول الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب، ويقيسون بالأصابع ويضعون أعواداً، يجلسون يعدون اثنتا عشرة ساعة بالنصف ساعة وبالربع ساعة. والمزولة كانت موجودة في المسجد هنا في الداخل، وهي الآن موجودة عند غرفة المشايخ، فهي تقيس النهار بظلها. ولكن لما كان التشريع مبسطاً، ومقدراً للفطرة (أمة أمية) وقت صلى الله عليه وسلم بالأمر العملي؛ لأن أهل الحضر وأهل المدن عندهم التوقيت بالساعات يسهل عليهم، لكن أهل البادية وقت لهم بما يعرفونه بطبيعة حياتهم ومخالطة حيواناتهم، فوقت الضحى عندما ترمض، وهنا: متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ نجد بعض العلماء يقول: يبدأ وقت صلاة الضحى في الوقت الذي تصح فيه صلاة العيد، لكن لما كانت الشمس تأتي من تحت تكوير الأرض حينما تظهر على الحافة كأنها لاصقة في الأرض، فعندما يرتفع قرص الشمس عن حافة الدائرة قدر الرمح في الهواء، هذا وقت ارتفاع الشمس قدر الرمح، إلى متى يمتد؟ قالوا: إلى ما قبل الزوال، وهذا توقيت الفقهاء رحمهم الله، ويكون التوقيت بـ (حين ترمض الفصال) هو وقتها الأفضل لها، إذاً: يكون لوقتها بداية: وهو ارتفاع الشمس قدر الرمح، ونهاية: وهو قبل الزوال، وفضيلة: وهو وسطها عندما ترمض الفصال. وهناك قد يجد الإنسان بعض التفاصيل بين صلاة الإشراق وصلاة الضحى، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفريضة -أي: الصبح- وجلس في مكانه لا يتكلم بشيء من أمور الدنيا حتى أشرقت الشمس، فصلى ركعتين كان كحاج معتمر، ومن صلى ركعتي الضحى كان كمعتمر) إذاً: يوجد صلاة إشراق، وصلاة ضحى! قالوا: اللغة فيها: ضحى وضحىً وضحاء، ممدود ومقصور، وقالوا: ضحوة النهار أوله، والضحى وسطه، والضحاء قريب الزوال، هكذا تقول كتب اللغة، فيكون الإشراق أوائل شروق الشمس، وهو أول ما يمكن أن تصلى فيه الضحى لمن كان جالسا ًبعد الفريضة، وطلعت الشمس، فصلى ركعتين ورجع إلى بيته، يليه بعد ذلك سنة الضحى وهي مستقلة. وبعض العلماء يقول: سنة الإشراق وسنة الضحى سواء، أو أحدهما تجزئ عن الأخرى، إن صلى الإشراق أجزأته عن الضحى، وإن صلى الضحى أجزأته عن الإشراق، ولكن الإشراق مشروط بأن يصلي الصبح ويبقى في مصلاه، وهذه لها حكمة، لم يقل: في مكانه، لكن: (مصلاه) والمصلى: قد يطلق على اسم المكان الذي هو موضع الصلاة، يعني: صلى في الصف الأول وبقي في مكانه في الصف الأول، ومصلاه يطلق أيضاً لغة على عموم المسجد، كقولهم: هذا مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعضهم يقول: مصلاه بالمعنى الضيق المحدد الذي جلس فيه، يعني: لا يقوم ويذهب يدور يميناً ولا يساراً، ولا ينتقل من مكان إلى مكان، وهذا ما يشهد له فعل الصديق رضي الله تعالى عنه، كان يصلي الصبح ويجلس، فإذا ما طرأ له ما يقتضي القيام وضع رداءه، وقال: انتظروا سأعود، فبعض الناس نظر فإذا لا يوجد أحد عنده، فلما رجع قال: تخاطب من بقولك: (انتظروا سأعود) وما عندك أحد؟ قال: عندي، قال: من؟ قال: الملائكة، هم جلساء يسمعون الذكر، وأنا طرأت لي حاجة تجديد الوضوء حتى لا ينصرفون عني ويحسبون أني ذهبت، فأعلمهم أني راجع إن كان لهم رغبة بالبقاء بقوا. فمعنى في مصلاه أي: المكان الذي صلى فيه، وهذا يدل على الالتزام والمداومة، أما لو كان يطلق المصلى على عموم المسجد فإنه يستطيع أن يذهب هنا أو هنا كأنه ليس عنده ثبات أو استقرار، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا.

شرح حديث: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً ... ) [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) رواه الترمذي واستغربه] . سبحان الله! ما أعظم الجنة، وما أعظم نعيمها! قصر في الجنة باثنتي عشرة ركعة، قد يقول إنسان: الجنة رخيصة أم الاثنتا عشرة ركعة غالية، ماذا تقولون؟ الجنة والله ليست رخيصة! (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) إذاً: الجنة ليست رخيصة، عرفنا قيمتها، والسوط الذي هو نصف متر حتى لو كان مربعاً خير من الدنيا وما فيها من قصور ومن فلل ومن ومن إلخ. إذاً: الثمن يعادل المثمن، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] ، هذا ثمن غالٍ جداً النفس والمال ثمن للجنة، ولكن أيضاً المنعم بالنفس وبالمال هو الذي اشتراها، يعطيك ويشتري منك. إذاً: المسألة إكرامية من الله بأن يعطيه الجنة، إذاً: هذا يغلي قيمة ركعتي الضحى، ما دام أن المثمن غالٍ إلى هذا الحد يكون الثمن بالتالي مساوياً، وأين المساواة هنا؟ إذا أردنا أن نقرب الموضوع نأخذ الحديث الثاني وإن كان أضعف سنداً: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين، من صلى أربعاً كتب من الأوابين، من صلى ثمان غفر له ذنبه، من صلى اثنتي عشرة ركعة بني له قصر في الجنة) إذاً: هذا الذي سيداوم على اثنتي عشرة ركعة في الضحى هل نتوقع منه الغفلة عن ذكر الله؟ لا، إذا كان في غير وقت الصلاة يصلي الضحى هل يترك صلاة من الصلوات الخمس؟ ليس معقولاً أن يحافظ على النوافل ويضيع الفرائض! إذاً: هذا بيان وتقوية وتشجيع وندب للشخص أن يداوم على الصلاة المفروضة، ثم بالتالي يصلي النوافل.

شرح حديث: (صلى الضحى ثماني ركعات في بيت عائشة)

شرح حديث: (صلى الضحى ثماني ركعات في بيت عائشة) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات) رواه ابن حبان في صحيحه] الحديث الذي مضى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما كان يصلي إلا إذا أتى من مغيبه) وهنا تقول: (دخل بيتي وصلى ... ) هل هناك تعارض؟ ليس هناك تعارض، ممكن أن نقول: دخل من مغيبه فصلى، كم صلى؟ ثماني ركعات، أو نضيف هذا إلى الأحاديث التي فيها مشروعية الضحى، ويكون عن أم المؤمنين أربعة أحاديث بدلاً من ثلاثة، ويهمنا أنها أضافت إلى الأربع المتقدمة: (ويزيد ما شاء الله) ، يبقى ثبت عندنا ركعتان، وأربع، وثمان، واثنتا عشرة، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [1] إن للصلاة أهمية عظيمة في دين الإسلام، فهي الركن الثاني من أركانه، ولما لها من أهمية فقد حث الشارع على تأديتها بأكمل وجه وأحسن هيئة، وإن أكمل وجه وأحسن هيئة لأداء الصلاة تتمثل في صلاة الجماعة؛ فلذا ترى الترغيب والحث على تأدية الصلاة في جماعة، وترى أيضاً الترهيب والتهديد في ترك الجماعة، حتى إن بعض العلماء قال بشرطية الجماعة للصلاة، فلا تصح الصلاة عنده إلا بجماعة، وبعضهم قال: من ترك الجماعة صحت صلاته منفرداً، ولكنه يأثم بتركه للجماعة وبعضهم قال: هي سنة مؤكدة. والله تعالى أعلم.

أحكام صلاة الجماعة

أحكام صلاة الجماعة

أهمية صلاة الجماعة وفضلها

أهمية صلاة الجماعة وفضلها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه] . قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب المبارك أبواب الصلاة، وما يلزم لمقدماتها من الطهارة واللباس، وبيان الأوقات، والأذان والإقامة، ثم صفة الصلاة من حيث هي، وأتبع ذلك بتوابعها من النوافل الراتبة معها، وأتبع تلك الرواتب التابعة للفرائض بالرواتب المطلقة، كما جاء في الوتر وفي الضحى. وهنا يأتي إلى باب من أهم أبواب الصلاة، وهو ما يتعلق بأداء الصلوات الخمس في جماعة، والجماعة مشروعة للصلوات الخمس، ولبعض الصلوات الأخرى كالجنازة والاستسقاء والكسوف وقيام الليل في التراويح خاصة في رمضان، وما عدا ذلك تكون فرادى. فهنا بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وهو نص عند العلماء في فضل صلاة الجماعة، ويريد أن يبين كما بين غيره أن صلاة الجماعة لها فضيلة على صلاة الفذ، والفذ المنفرد. فالإنسان قد يصلي وحده لعذر، أو لضرورة، كمن هو في سفر وليس عنده أحد، أو لمرض في البيت، إلى غير ذلك. وكذلك بعض النوافل، خاصة نوافل البيت يصليها وحده. ولكن الجماعة قد شرعت، فما مدى مشروعية هذه الجماعة للصلوات الخمس؟

تعدد الروايات المعينة لفضل صلاة الجماعة

تعدد الروايات المعيِّنة لفضل صلاة الجماعة المؤلف كغيره يسوق هذا الحديث: (فضل صلاة الجماعة) أو (تفضل) ، أو: (تزيد) ، أو (تضاعف) -كل هذه ألفاظ قد وردت بها الروايات- على صلاة الفذ سبعاً وعشرين درجة، وفي رواية: خمساً وعشرين درجة. وابن عمر رضي الله تعالى عنهما انفرد برواية (سبع وعشرين) ، وأبو هريرة وأنس وغيرهما يروونه بلفظ: (بخمس وعشرين) والجمهور: على صحة حديث ابن عمر: (بسبع وعشرين) ، فقوم يقولون: الزيادة من الثقة مقبولة، والسبع والعشرون تتضمن الخمس والعشرين وزيادة، والبعض الآخر يقول: هذه زيادة من ثقة خالف فيها الثقات، فتعتبر في عرف علماء الحديث من الروايات التي تسمى شاذة، وهو ما خالف الثقة به الثقات. والخمس والعشرون متفق عليها، وهي ضمن السبع والعشرين. أما فقه الحديث ففي قوله: (صلاة الجماعة) والجماعة تصح باثنين إمام ومأموم، حتى قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن الجمعة تصح بثلاثة أشخاص؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فالنداء لا بد له من منادٍ، وذكر الله الذي نسعى إليه لابد له من شخص يذكر الله، وهو الإمام، والساعي إلى ذكر الله هو المأموم، فتم العدد: بمنادٍ للصلاة، وإمام يؤم، ومأموم يأتم. فقالوا: تنعقد الجماعة في الصلوات الخمس بإمام ومأموم ولكنهم يختلفون في حقيقة المأموم، فإذا كان المأموم صبياً ليس ببالغ، وهو مميز يدرك معنى الصلاة، وقد أُمر بواسطة وليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر) فهل تصح هذه الجماعة وتنعقد؟ وكذلك إذا كان المأموم امرأة، والمرأة لا تجب عليها الجماعة، ولكن إذا حضرتها صحت منها، وقالوا في المملوك والمرأة والمسافر: ليست عليهم جمعة. وهو قول الجمهور، فإذا حضرها أحدهم اعتبرت منه وصحت. هل يكمَّل به العدد عند من يقول بعدد معين أم لا؟

فضل صلاة الجماعة وصحة صلاة المنفرد

فضل صلاة الجماعة وصحة صلاة المنفرد يقول ابن دقيق العيد: هذا الحديث ابتداءً يدل على عدم فرضية الجماعة، وذلك أن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة في شيء وزيادة أحد المشتركين في هذا الأصل الذي يجتمعان فيه، وقال: إن الحديث فيه إثبات الفضل للفذ والأفضلية للجماعة، فلو لم تكن صلاة الفذ صحيحة لما كان لها فضل؛ لأن الباطل لا فضل فيه، وإذا لم يكن فيها فضل فلا تصح المفاضلة بينها وبين غيرها؛ لأن ما لا فضل فيه لا يقارن بغيره. فهذا الحديث يثبت أن صلاة الفذ لها فضيلة، وبالتالي تصح، وصلاة الجماعة لها فضيلة، ولكن صلاة الجماعة تزيد فضيلتها عن صلاة الفذ، ثم ناقش في الأفضلية مباحث أخرى طويلة. وبقي عندنا ألفاظ الحديث المختلفة: (سبع وعشرين درجة) ، (بخمس وعشرين جزءاً) ، (بخمس وعشرين ضعفاً) . أما الضعف فلا يتعارض مع الدرجة ولا الجزء؛ لأن ضعف الشيء ما يساويه ويتكرر ضعفين، أو ثلاثة أضعاف، أو أضعافاً كثيرة. وبقي التفريق بين الدرجة والجزاء، قالوا: الدرجة أعلى من الجزء وقالوا: الدرجة في الجهرية والجزء في السرية. وقالوا في (سبعٌ وعشرون) و (خمس وعشرون) : سبع وعشرون في الليلية، وخمس وعشرون في النهارية، ويزيد الفضل في كثرة الجماعة، وفي أفضلية المكان، وغير ذلك. فإن فضل الجماعة يختلف، فكلما كثر العدد زاد الفضل؛ لأن كل مصلٍ يدعو ويُشرك غيره في دعائه، وذلك بقوله: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم عافنا، وكذلك الإمام يدعو للجميع، فكلما كثر العدد زاد الفضل، وقالوا: المسجد القديم، والمسجد الذي فيه إمام راتب من ولي الأمر يزيد الفضل فيه عن غيره. وقال العلماء: هذا الحديث -حديث ابن عمر - لا يستدل به على وجوب الجماعة، ولكن يستدل به على فضيلتها، والأفضلية لا تقتضي الوجوب، فما هي الفضيلة؟ إنها تفضل صلاة الفذ سبعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة، أو جزءاً، أو ضعفاً. فلا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه من هذا الفضل بأن يقصر في تحصيله، وحكم صلاة الجماعة سيأتي الحديث عنه في الحديث الذي يلي هذا. فنأخذ من هذا الحديث أفضلية صلاة الجماعة، ونأخذ بما قاله ابن دقيق العيد، ففيه تنبيه وإيماء إلى صحة صلاة المنفرد، مع أنها تنقص عن فضيلة الجماعة، وهذا حدنا في هذا الحديث، وتتمة الكلام عن صلاة الجماعة إنما هي مستوفاة عند الحديث الآتي إن شاء الله. قال: [ولهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (بخمسة وعشرين جزءاً) ، وكذلك للبخاري عن أبي سعيد وقال: (درجة) ] . أبو هريرة وأبو سعيد الوارد عنهما في الصحيحين: (بخمس) ، (جزءاً) ، و (درجة) ، كل ذلك لا بأس به، لكن يهمنا أن المؤلف يسوق في رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (بخمس) ، ولذا قالوا: لم يرو السبع والعشرين إلا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، إلا أن الاختلاف في خمس وسبع أمر يُتجاوز فيه، ولا يتعارض في الفضيلة.

التهديد في ترك صلاة الجماعة

التهديد في ترك صلاة الجماعة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .

اختلاف العلماء في حكم صلاة الجماعة

اختلاف العلماء في حكم صلاة الجماعة هذا الحديث -حديث أبي هريرة - اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بوجوب الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها. ثم اختلف القائلون بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو صلى منفرداً بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطاً في الصحة، بل هي واجبة بذاتها. بمعنى أنه: لو صلى منفرداً يكون قد ترك واجباً آخر وهو الجماعة، فتكون الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك واجب. فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوباً عينياً ومنهم من يقول: هي واجبة وجوباً كفائياً ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة. والذين قالوا: هي واجبة وجوباً عينياً انقسموا إلى قسمين: قسم قال: واجبة وجوباً عينياً وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة؛ لفقدانها شرطاً من شروط الصلاة. والقسم الثاني يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفرداً صحت، ولكنه ترك واجباً فهو آثم بتركه. والجمهور على أنها سنة. والحديث لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد هممت) . وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث، منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين الشيخين، وتلك المقدمة التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها دخل في تحقيق المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم) ، أو (إلى رجال لا يشهدون الصلاة) ، أو (إلى رجال يتخلفون عن الجماعة بلا عذر) ، وبعض الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والصبيان) . فيقول بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) . ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما في الظلام والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] ، فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحداً، فما دام لا أحد يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته. والأمر الآخر أنه إذا كان الوقت صيفاً، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية برودة الجو بعد عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي الفجر يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر. وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد يخلّد إلى السكون، ومع طول الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك، ومن هنا كان الوعيد على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود والترك، ولذا جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) . وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسطى} [البقرة:238] . وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما طلبت من الكاتب أن يكتب لها مصحفاً قالت: إذا وصلت إلى هذه الآية فآذني فآذنها فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) . فهذه يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على أنها مفسِّرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في الصلاة الوسطى، منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي العشاء لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها وتر النهار ومنهم من يقول: هي العصر، كما جاء في الرواية. ومنهم من يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.

معنى هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة

معنى هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة فمقدمة الحديث قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين الصبح والعشاء) ، وهذا السياق وهذا الوعيد قالوا فيه: لقد توعد وهمَّ، فقال: (والذي نفسي بيده لقد هممت) ، والهمَّ -كما يقال-: العزم المؤكِّد، والهمُّ قد يكون حديث النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) ، فهنا الهم العزم والرغبة، لكن هذا الهم بالحسنة أو بالسيئة والرجوع عنها ليس بالعزم القاطع، بخلاف ما جاء في الهم القاطع الذي لا يمنعه عنه إلا ما هو فوق قدرته. يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) أي: عنده هم وعزم مؤكد. وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فقالوا: همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ ما أرادت إلا أن: {أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، ولحقته وشقت قميصه، وهمّه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة، وليس عنيناً أو لا إرب له، وإلا لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس الفطرية خطرت في باله، لكنه راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل الفكر النفسي معه إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه. وإذا كان الأمر كذلك فالهم همان: همٌ هو عزم قاطع، وهمٌ هو خطرة على بال، كالواحد يكون في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين تنظر، والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعاً، فهو يعلم بأن الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا يتناول ذلك الماء. وعلى هذا فقوله: (لقد هممت) ، من أي أنواع الهم؟ أهو خطرة البال أم العزم المصمِّم؟ إنه العزم المصمِّم؛ لأنه لم يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه خطة مرسومة، ولذا قال: (يُنادى للصلاة) وقال: (آمر رجلاً فيؤم الناس) ، وقال: (أخالف برجال معي بحزم من حطب فأحرق) ، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى موانع ذلك فقال: (لولا ما في البيوت من النساء) ، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛ لأنهم لا جماعة عليهم. فالهم مصمِّم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من فعله.

تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة

تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا. ويقول الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق. وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وما أمرهم، فالسواك سنة. وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فما كلفهم به. فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواماً، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون. ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن الباقين. ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوماً تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع. فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي لا دليل له. وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة. فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها. ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله. فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع العقوبة المالية مع البدنية. ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة. وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه. ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) . فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه، بل ترك أمرهم إلى الله. لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهراً، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام. وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة. فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر. ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب) . قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل! قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول الشاعر: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة) ، فكما تقول: يُرمم البنيان. والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئاً ضئيلاً لخرج إليه. فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق. فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل. وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟ فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصاً مثل عصاه. فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك) . وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم. قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد هذا. ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وانتهى أمر التحريق. وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا الموضوع- نرجع إلى كلام الأئمة رحمهم الله. فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب. والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة. والرواية الثالثة: عن أحمد: أنها سنة، كقول الجمهور. والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال بذلك داود الظاهري وطاوس، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة. ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) . وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي نبيكم) .

الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة

الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة من ظلمه ظالم، أو كان من طلب ظالم، أو مديناً في دين ولا يستطيع مواجهة الدائنين فإنهم، قالوا: هذا معذور فقد ارتكب أخف الضررين، والله يعفو عنه أو كان مريضاً لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، وقد جاء عن ابن مسعود: (كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) ، والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه في آخر الأمر جاء يهادى بين علي والعباس تخط قدماه في الأرض، حتى استوى إلى الصف وجلس. ومن آكد ما سمعت في ذلك قول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض الكلام على صلاة الخوف، قال: لو أن الصلاة -وهي وفرض- تسقط بشيء لسقطت في القتال، ومع ذلك والرءوس تتطاير تؤدى، فإن كانوا مقيمين ولا قتال، ولا فر ولا كر في أرض المعركة قسم الإمام الجماعة قسمين: قسم لحراسة العدو، وقسم يصلي معه، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة، وأنها لا تسقط بحال من الأحوال، وقالوا: إنها لا تسقط مادام العقل موجوداً وعنده إدراك. وتقدم في صفتها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً ... ) فكل ذلك يدل على وجوب الصلاة. ونحن نقول: صلاة الخوف نجد فيها الجماعة بقدر المستطاع، ولا تسقط الجماعة في صلاة الخوف إلا إذا دخل وقت الصلاة وهم في حال الكر والفر، ولا يمكن أن يقع اجتماع ولا إمامة، فكلٌ يصلي لنفسه على حالته مستقبلاً الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، ولا مانع في ذلك. وعلى هذا فأقل ما يقال: في ذلك العناية بالجماعة. قال داود الظاهري وطاوس وغيرهما: إنها واجب عيني، وشرط في صحة الصلاة، ومن صلى منفرداً بغير عذر فلا تسقط فريضته. يليهما أحمد في رواية عنه أنها: هي واجب عيني، وليست شرطاً في صحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد دون الجماعة، وهو آثم بترك الواجب، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الطواف، قال: الطهارة شرط، لكن ليست شرطاً في صحة الطواف، فيصح طوافه، وعليه دم لتركه واجباً وهو الطهارة، فللصلاة نظير أيضاً عند غير أحمد. فعند أحمد أنها فرض عين، ولكن ليست بشرط صحة، ورواية أنها فرض كفائي، ورواية أنها سنة كما يقول الجمهور. وعند الشافعي: هي فرض كفائي، وجمهور الشافعية على أنها سنة مؤكدة. ومالك وأبو حنيفة -رحم الله الجميع- على أن الجماعة سنة، وليست بواجب.

علة المضاعفة إلى خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين ضعفا

علة المضاعفة إلى خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين ضعفاً يقول الشوكاني في نيل الأوطار: إن عدد السبع والعشرين سر من أسرار النبوة وقد بحث ابن حجر في فتح الباري أوجه كون هذا العدد خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين وسبب ذلك، فمن أراد فليرجع إليه، وفي فتح الباري ذكر أقوالاً عديدة، والواجب على طالب العلم أن لا يقول: هذا ترف علمي، ولكن يقول: هذا منهج علمي، وننظر إلى أي مدى بذل العلماء الجهد في توطيد المسائل بين يدي طالب العلم. وفي الحديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) . فأراد بعض العلماء معرفة موجب التضعيف إلى الخمسة والعشرين. ثم ذكر عشرة أو اثني عشر وجهاً، ومنها أنه قال: عزمه عندما سمع النداء بأن يجيبه طاعة، والعزم على إجابة المؤذن طاعة، فأجاب المؤذن فيما قال، وأسبغ الوضوء. ومشى إلى المسجد، ثم دخل المسجد وصلى تحية المسجد، ثم وقف ينتظر الإمام حتى يقيم، ثم ائتم بالإمام وأمَّن وراءه، أو اشترك في تأمينه، وسمع القراءة في الجهرية، واشترك مع الإمام في هذا الجمع، ثم تعرف على إخوانه، وتآلف مع الآخرين، ورجع من المسجد إلى البيت ماشياً، فهذه حسنات، وكل واحدة تساوي درجة من صلاة الفذ؛ لأن الفذ ليس عنده شيءٌ من ذلك. وبعضهم يقول: إن أقل الجماعة ثلاثة، وكل واحد من الثلاثة نوى الجماعة بغيره، وغيره نيته الجماعة بغيره، فيكون هنا ثلاثة أشخاص لهم نية جماعة، والحسنة بعشر أمثالها، فتصير ثلاثين حسنة. وأحسن ما يقال في هذا الحديث أنه يتهيأ إلى الصلاة، ولأنه منذ أن يسمع النداء أو يعلم دخول الوقت يتوجه بفكره إلى أداء الواجب، ثم يسبغ الوضوء، وإن كان الإسباغ مشتركاً في كل الصلوات، ثم يخطو الخطوات إلى المسجد، وجاء في الحديث الآخر أن له بكل خطوة حسنة أو درجة، وتمحى عنه سيئة، فلا يأتي المسجد إلا وقد محيت خطاياه، وتكون الصلاة نافلة له. وهناك أيضاً حديث الوضوء، وإن كان أعم من ذلك: (إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء) فجاء الحديث في تكفير الذنوب المقترفة بهذه الحواس. ولعلنا بهذا ندرك أن كون الوضوء في هذه الأعضاء لأنها الحواس والجوارح المكتسِبة، فالظهر لم يكتسب شيئاً، والرأس لم يكتسب شيئاً، لكن العين والأنف والفم واليد والرجل كلها تكتسب، فيكون غسلها بماء الوضوء غسلاً لآثار ما اكتسبت واجترحت من سيئات. فهذه ناحية لمن أراد من طلبة العلم أن يقف عليها، ولا أقول: الوصول إلى تحقيق الغاية، أو تحقيق المناط في تضاعف صلاة الجماعة سبعة وعشرين، ولكن إلى ما حاول الفقهاء رحمهم الله أن يستنتجوه أو يرسموه؛ ليكون نوعاً من أنواع استنتاج الأحكام أو تعليلها. ونعلم قصة الشافعي رحمه الله في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقد بات ليلة كاملة صلى فيها الفجر بوضوء العشاء يفكر في هذا الحديث، ويقول: لقد استخرجت منه أربعين مسألة فقهية. فعلينا أن نطرق أبواب العلماء فيما بوبوه في كتبهم لننظر فيما ادخروا لنا في تلك الخزائن النفيسة. قال صلى الله عليه وسلم: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) ] . هذا النص صريح بأن الثقل: على المنافقين، والهم: بالتحريق كان أيضاً موجهاً على المنافقين. ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى لنا ولكم الهداية والتوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [2]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [2] إن دين الإسلام مبني على التيسير، لذلك جعل أعذاراً مبيحة لترك صلاة الجماعة، وهذا يعني أن العذر لا يكون مبيحاً لترك شيء إلا لكونه مؤكداً في حق المكلف، ولذلك اختلف العلماء في الجماعة هل هي شرط في صحة الصلاة، أم أنها واجبة، أم أنها سنة مؤكدة.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

استئذان الأعمى ودلالته الفقهية

استئذان الأعمى ودلالته الفقهية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخّص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب) رواه مسلم] . هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن الجماعة إنها واجبة على الأعيان، ثم ننظر هل هي شرط صحة، أم هي واجب مستقل؟ قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، وهذا الوصف قد اعتبره الله سبحانه وتعالى رافعاً للحرج، فقال الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] ، وإن كان أصله في الجهاده لكنه من موجبات رفع الحرج، فهذا الوصف الموجود في هذا الرجل من الأوصاف المعتبرة في رفع الحرج، فجاء الرجل بعذره معه قائلاً: ليس لي قائد، فائذن لي أن أصلي في بيتي، فرخَّص له. وما قال: فأَذِنَ وسمح، ولكن قال: (رخَّص) ، والرخصة تكون من واجب، والأعمى طلب الرخصة فرخَّص له، فلما رخّص له أخذ الرخصة وولى، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ وفي رواية: أتسمع الإقامة؟ -وكلاهما نداء-؟ قال: نعم، قال: فأجب) . فالذين يقولون: هي واجبة على الأعيان قالوا: هذا أعمى رُخِّص له ثم سلبت الرخصة، وقال به: (أجب) . فقالوا: هو أعمى يشق عليه. فقيل لهم: هل هذا كان يصلي في بيته، أم أنه من سابق كان يأتي إلى الصلاة ويعود، لكنه اعتراه شيءٌ جديد، وطلب الرخصة للمستقبل، وفي ما مضى كان يأتي؟ فما دام أنه كان يأتي ويعود سابقاً فما الذي يمنعه الآن؟! وما الذي استجد في الأمر؟! فيجب أن يحافظ على ما كان عليه. وفي بعض الروايات أنه قال: (لا أجد لك رخصة) . فالذين قالوا: هي واجب وجوباً عينياً قالوا: هذا رجل أعمى رخَّص له، والرخصة إنما تكون من واجب، ثم دعاه فقال: (أجب) . فقالوا: يجيب النداء لأنه نداء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: لو قلنا بالوجوب، لتعين أن يكون الوجوب لخصوصية الصلاة مع رسول الله، وليس في الحديث أن يجيب كل دعاء، ولا كل نداء يسمعه. فهو احتمال يُسقط الاستدلال. إذاً ففي حديث الأعمى رخص له أولاً، ثم أمره أن يجيب ثانية، وهذا كأنه يعيد إلى القاعدة شيئاً من ثباتها، مع أنها لا زالت مزعزعة، ولكن هذا قد يساندها.

ما يسقط الجماعة

ما يسقط الجماعة قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم، وإسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه] . هذا كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وجميع علماء الحديث أو الفقهاء يبحثون في سنده، وقد جاء موقوفاً وجاء مرفوعاً، وإذا كنا بصدد الاستدلال لموضوع بمثل هذه الأهمية فلا ينبغي أن يكون لضعيف السند مدخل في ذلك. قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) ، فأي الأعذار أريد هنا؟ سيأتي تفسير الأعذار بخوف أو مرض، وهل الخوف والمرض يسقط الصلاة؟ فليست -إذاً- بفرض عين، ولو كانت فرض عين فليست بشرط في الصحة، والمريض لا تجب عليه صلاة الجمعة. إذاً فالمرض والخوف يسقط الجماعة، وتصح الصلاة معهما فرادى، فصحّت الصلاة بدون شرطها. والعذر لا يسقط الواجب العيني المشروط؛ لأن الخوف والمرض لم يسقط عين الصلاة، وها هي صلاة الخوف أمام العدو يصفهم صلى الله عليه وسلم صفين: صف يحرس، وصف يصلي معه، فما أسقط الصلاة في حالة الخوف، لكنه أيضاً ما أسقط الجماعة فصلى بهم جماعة. وعند المسايفة ما سقطت الصلاة، وفي المرض إذا لم يستطع القيام فليصل وهو جالس على جنبه، فلا تسقط الصلاة للمرض، بل بقدر ما يستطيع. ولكن سقطت الجماعة للمرض. فاشتراط الجماعة لصحة الصلاة لا يؤخذ من هذا الحديث. ويكفي أنهم تكلموا في سنده، ولا يمكن أن ينهض ويقاوم ما تقدم.

إدراك الجماعة بعد الصلاة في الرحل ونحوه

إدراك الجماعة بعد الصلاة في الرحل ونحوه قال المصنف رحمه الله: [وعن يزيد بن الأسود (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو برجلين لم يصليا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة) رواه أحمد واللفظ له، والثلاثة، وصححه ابن حبان والترمذي] . هذه قضية جديدة تدور حول قاعدة الوجوب العيني. فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سألهما: صليتما جماعة أم فرادى؟ والمعهود في الصلاة في الرحال أن تكون فرادى، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤذن في الليلة المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) ، فالمطر أسقط المجيء إلى المسجد، وصحّح الصلاة بدون جماعة، فلو كانت واجبة على الأعيان شرطاً في الصحة أيسقطها المطر؟ لا. وهل أوجب عليهم وقال: ألا إن الصلاة في الرحال وصلوا جماعة في بيوتكم؟ لا، فالذين قالوا بسنيتها يقولون: الرجلان قالا: (صلينا) ، ولم يذكرا جماعة، ولم يستفسر منهما صلى الله عليه وسلم، فالأسبق إلى الذهن أن الصلاة في الرحال فرادى. فإن قيل: فلماذا يصليان مع الإمام مرة أخرى؟ قالوا: إبعاداً لتهمة الانفراد والانعزال عن جماعة المسلمين، فإذا كان الإمام في الصلاة فادخل معه؛ لقوله: (ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة) ، والضمير هنا هل يرجع إلى قوله: (صليا معه) أم لـ (صلينا في رحالنا) ؟ الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فتكون صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والفريضة في رجالهما، وكانت فرادى. بهذا استدل الجمهور على أن الجماعة سنة، وليست واجبة وجوباً كفائياً ولا عينياً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الرحلين على صلاتهما في الرحال بدون جماعة، وما قال لهم: اعتبرا الأولى نافلة وهذه فريضة؛ لأن ما سبق -على ما يقال- سد الفراغ. فهذا الحديث يسوقه المؤلف للدلالة على صحة صلاة المنفرد في رحله، ولو أنه أدرك جماعة وصلى معها فهي نافلة. ومن فاتته صلاة وأراد أن يقضي ما فاته فهل يتعين عليه أن يؤدي القضاء جماعة؟ باتفاق الجميع لا يشترط له جماعة، اللهم إلا إذا كان الحال كما نص عليه ابن قدامة في المغني والنووي: وأنه إن كانت الصلاة التي يراد قضاؤها قد فاتت الإمام والمأموم، وهم حضور فإنهم يصلونها جماعة؛ لأنهم موجودون. مستدلين بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناموا عن الصبح، ولما طلعت الشمس وتحولوا عن الوادي أذن المؤذن، وصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة لأنهم مجتمعون، وفاتت الإمام والمأموم، فهم فيها سواء. لكن من نام في بيته أو نسي، أو شُغل بأي حالة من الحالات، أو كان تاركاً للصلاة -كما يقولون-، وأراد أن يقضي ما عليه فهل يتوقف قضاء الفوائت على الجماعة؟ باتفاق الجميع ليس واجباً عليه أن يوقع القضاء في جماعة. إذاً فقاعدة الوجوب هل هي باقية على ثبوتها أم اختلت؟ لقد اختلت.

أدلة واردة في عدم وجوب صلاة الجماعة

أدلة واردة في عدم وجوب صلاة الجماعة وهناك نصوص يُفهم منها عدم وجوب الجماعة، منها: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -وفيه:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل فعنده مسجده وطهوره) ، فما اشترط الجماعة. فإذا إنسان مسافر في الصحراء وحده، وطلع عليه الفجر وحده، وستطلع الشمس قبل أن يصل إلى الناس، أيترك الصلاة حتى يجد جماعة، أم يصلي وحده؟ إن عليه أن يصلي وحده. وهناك بعض الروايات، كقوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة) . وجاءت بعض النصوص غاب عني صحتها منها، و: (أيما رجل في فلاة من الأرض، أذن وأقام وصلى، صف خلفه من الملائكة ما بين المشرق والمغرب) . فهذا فضل من الله عليه؛ لأنه ما وجد أحداً يصلي معه. لكن هل يمكن أن نستدل به على أن الجماعة شرط في صحة الصلاة؟ لا؛ لأن هذا محض تفضل من الله. فعندنا حديث: (فأيما رجل -ولم يقل: رجال ولا جماعة- أدركته الصلاة فليصل فعنده مسجده وطهوره) . والمسافر وحده الذي لم يجد جماعة لا تتوقف صحة صلاته حتى يجد من يصلي معه جماعة. فلعلنا بهذه الإعادة وبهذا الإيراد نكون قد استوعبنا الأقوال الموجودة فيما يتعلق بالجماعة والفرد، ثم نسبة هذه الأقوال لأصحابها، ثم وجهة نظر استدلالهم بهذه النصوص التي أوردها المؤلف، وبالله تعالى التوفيق.

الحرص على تحصيل الأجور العظيمة المترتبة على صلاة الجماعة

الحرص على تحصيل الأجور العظيمة المترتبة على صلاة الجماعة أقول: مَن مِن المسلمين يرضى لنفسه أن يسمع المنادي يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح) ولا يجيب بدون عذر؟ فهل تطمئن نفسه بأن يبقى خالداً إلى الأرض وهذا المنادي ينادي في السماء؟ أعتقد أن المسلم لا يرضى بهذا. ثم أي تجارة أربح فلو أن عندك ألف ريال تكسب منه عشرين ريالاً، فأنت رابح، فإذا كان الألف يكسبك ألفاً آخر -أي: الضعف- فأكبر تاجر لا يحصِّل هذا إلا في النادر، فإذا كان هذا الألف تكسب بعده خمسة وعشرين ألفاً فهذا لا يكون في أكبر تجارة في العالم. فالله سبحانه وتعالى يتفضل على عبده بأن يضاعف له الأجر خمسة وعشرين ضعفاً بخطوات إلى المسجد مع ما فيها من الفضل والخير والنفع العام والخاص، وربما تلقى إنساناً ما لقيته منذ سنة، وربما تسمع آية من كتاب الله. فأحياناً الإنسان يسمع من الإمام الآية الواحدة كأنه ما سمعها ولا علم بها قط. وأذكر أنه قبل خمس عشرة سنة كان هناك عامل في المسجد النبوي، فقرأ الإمام في صلاة المغرب سورة الضحى، فقال: يا شيخ! قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9-10] خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم للناس كلهم؟ ولو أتينا نسأل نصف الناس عن ما قرأ الإمام في المغرب فربما لا يجيبون. وهذا أبو هريرة قد آذاه الناس بقولهم: أكثر أبو هريرة، فأراد أن يبين لهم أنه قد خص بالحفظ، وأنهم ليسوا مثله، فبعد صلاة الصبح وقف على الباب، وكلما مر رجل قال له: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ فيقول: لا أدري. فقال: تقولون أكثر أبو هريرة، وأنتم حدثاء عهد بقراءة جهرية على رءوس الأشهاد في صلاة الصبح، وأكثركم ما يدري ماذا قرأ! تعيبون علي أني حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فالإنسان قد يسمع آية من كتاب الله فيشرح الله صدره، فيتبين منها أمراً، ويسلم على أخيه المسلم، ويشترك في دعاء الإمام والمأمومين، ففيها خير كثير، ولا ينبغي لإنسان أن يعول على كل هذه التفصيلات ويقول: الجماعة سنة. وقد أخبرنا ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سن سنن الهدى، وهن من سنن الهدى، فمن أجاب المؤذن أخذ بسنن الهدى، ومن لم يجبه ترك سنن الهدى، ومن ترك سنن الهدى فقد ضل. وأرجو الله أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [3]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [3] الاقتداء بالإمام في الصلاة واجب، ويكون ذلك في الأفعال الظاهرة المنصوص عليها، وفي حالة عدم سماع الإمام وعدم رؤيته فإن السنة أن يقتدي كل صف بالذي قبله، وفي الأحوال التي يكثر فيها المصلون يجوز للإمام أن يتخذ مبلغاً، ويجب على المصلين أن يسووا صفوفهم، وأن تقترب الصفوف من الإمام ومن بعضها، ويجوز أداء النافلة في المسجد جماعة، مع أن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة

وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] . وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وذكر التفصيل في حالات الائتمام، إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ] . ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث عائشة، وهو جزءٌ من تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم الصحيح القادر على القيام بالإمام المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه، ونستعين الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛ لأنها أهم المسائل في هذين الحديثين. الحديث الأول يقول فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وهذا الحديث جزءٌ من حديث طويل روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات: فصلى خلفه قوم، وبعضها: في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا) . ثم بين هذه التفصيلات التكبير أولاً، تكبيرة الإحرام ثم الركوع فالرفع فالسجود فالرفع فالسلام إلى آخره. فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش، ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن كشطت الجلدة العليا ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي يسقط عن متحرك وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر. وهنا يتكلم ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث بيان جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب الخيل لأن فيها خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر: لا نزاع ولا خلاف بين نهي عمر، وبين ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة، والتمشية، في المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك. كما جاء في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) . فيكون كلام عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي، إنما ركبها في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة الشهباء، وعنده الناقة القصواء. وعمر بنفسه لما سافر في فتح بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على بعير، ومعه رفيق في الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل واحد منهما يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل أن يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه، والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد تلبسه، فلما جيء بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي واغسلوه فغسلوا القميص المرقع، وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن أن أحداً يركب شيطاناً، ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف. فدخل إلى بيت المقدس والدور لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما قدم على دهاقنتهم، وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس. وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية قبل أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني متخلفاً عن قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني بمسحاة وقال: انقل هذا التراب إلى ذاك المكان. فنظرت إلى نفسي وقلت: ويلك يا عمر! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت. قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على دير فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا الدير فقال: والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال: والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال: أنت الذي يملك هذا الدير، ويملك بيت المقدس. قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر: عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت له، ثم قلت: أريد من يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك توصلك إلى مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ، فإنها تعرف الطريق وتعود. يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال: هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن للمسلمين عليك إذا مروا بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن تزودهم بطعام يومهم وليلهم. قال: لك عليَّ ذلك. فعن هذا الحديث يقول ابن عبد البر: فيه جواز ركوب الخيل. ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل، وأشدهم حركة عليها، وهذه هي الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في الركاب، ويمد اللجام في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على الفرس بطناً وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت بطن الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه على ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس. فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة حركته عليه لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على الحركة على الخيل، وأكرم الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم. واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه سُمعت صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لـ طلحة عرياً -أي: لا سرج عليه- وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع ولقي الناس مقدمين وهو راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا) ، فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر) ، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع الجري. وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه خيال متقن إذا ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني استحيي أن أقول: إن ما يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا لخيول فارهة سريعة الجري، إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من فروسية على ظهر جواده، وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل من يتعود ذلك. إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي يركبها، وليست جودة الجواد في سرعة جريه. فكان صلى الله عليه وسلم من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة. قوله: (جُحِش) قال ابن عبد البر: فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى قاعداً. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث: إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية. هكذا هنا. فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء أناس يعودونه) أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض الروايات: (فصلى أقوام) وليس المعنى أنه صلى معه جميع الناس. ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً، فأومأ إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم بعظمائهم) ، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً بين يدي ملوكهم، أو تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة. فنهاهم عن ذلك. ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، و (إنما) أداة حصر تحصر ارتباط المأموم بال

الأفعال التي يجب على المأموم متابعة الإمام فيها

الأفعال التي يجب على المأموم متابعة الإمام فيها الإمام والقائد كل منهم له حق المقدمة. فالإمام يصلي، وتبدأ صلاته بالنية، ثم تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك الدعاء قبل القراءة، ثم بعد ذلك الفاتحة، فإن كانت جهرية جهر بها، ومع الفاتحة ما تيسر من كتاب الله يجهر به، ثم يركع ويسبح، ثم يرفع، وهناك أشياء منصوص عليها، وهناك أشياء لا نص عليها، فهل المأموم يأتم بالإمام في كل شيء، أو فيما هو ظاهر من الأعمال؟! هناك من أخذ الحديث على عمومه باعتبار (إنما) للحصر، فقالوا: من الصلاة النية، فيؤتم بالإمام في النية في الصلاة فلو كان الإمام مفترضاً والمأموم متنفلاً أو العكس، فهل يصح ذلك مع أنه لم يقتد به؟ وإذا كان الإمام في نية عصر والمأموم في نية ظهر فهل ائتم به في نية وهي من الصلاة؟ فمن قال الإمام يؤتم به في كل شيء وأدخل النية في ذلك لم يصحح صلاة مأموم بإمام تختلف النية بينهما، وهذا واقع، ولكن وجدنا أحاديث أخرى تسمح في مغايرة النية. أما الأحاديث التي فيها مغايرة النية فمنها ما سيأتي في حديث معاذ، حيث كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يذهب إلى قباء فيصلي بهم العشاء نافلة له وفريضة لهم، فاختلفت النية ما بين فرض ونافلة. وكذلك ما جاء في حق الرجلين الذين رآهما صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح جالسين لم يصليا معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا فقال: لاتفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة) . ومن هنا قالوا لو أن إنساناً نام عن الظهر وجاء والإمام في صلاة العصر فهنا يقع الخلاف. فمَن قال يؤتم به حتى في النية لا يُجوِّز لصاحب الظهر أن يأتم بصاحب العصر. والذين قالوا: النية خارجة عن ذلك، أو أخذوا بالنصوص الأخرى، قالوا: لا مانع، وهذا رأي الشافعية، حيث يقولون بصحة صلاة المأموم المقتدي بالإمام مع اختلاف النية.

متى يشرع المأموم في تكبيرة الإحرام؟

متى يشرع المأموم في تكبيرة الإحرام؟ وقد بدأ بيان الاقتداء بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر) ، فلم ينص على النية، فبعضهم قال: إنها خارجة عن محل الائتمام. وبعضهم قال: هي مبدأ الصلاة، على عموم: (يؤتم به) ، ولكن التفصيل النبوي أسقط الكلام في النية، فأخذوا دليلها من العموم. قوله: (فإذا كبر) هي عبارة عن جملة، أي: إذا قال: الله أكبر، كما يقال: هلل إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهذه التكبيرة من الألفاظ التي لا يجزئ افتتاح الصلاة بغيرها. وقوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر) ، تأكيد بعد التأسيس، و (إذا) ظرف، والتكبير له بداية وله نهاية، وبدايته الهمزة، ونهايته الراء من (أكبر) ، فالمراد بقوله: (إذا كبر) إذا بدأ في التكبير فابدأ، أي: وتشاركونه في بعضها، فيبدأ قبلكم وتشاركون في بعضها، وينهي تكبيره قبل تكبيركم، أو إذا كبر وفرغ من التكبير كله تبدأون أنتم، فعندما يفرغ من الراء في (أكبر) تبدأون أنتم بالهمز، من (الله) . وأصل هذا مسألة (هل العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟) وهذه مسألة تدخل في كثير من الأحكام، فلو جاء القاضي سندٌ بألف ريال، وفيه: يُدفع في رمضان. فهل المراد أول يوم يدخل من رمضان، أم بعد أن ينتهي رمضان، أو قبل انتهائه بيوم؟ إن قلنا: العبرة بأوائل الأسماء فلصاحب الحق أن يطالب أول ما ظهر هلال رمضان، وإن قلنا: العبرة بأواخر الأسماء فعليه أن ينتظر حتى ينقضي رمضان. وهنا (إذا كبر) يعني: إذا بدأ وشرع في التكبير، فهل نتبعه ونشرع معه، أم حتى ينتهي من التكبير؟ الجمهور على أنه إذا بدأ وشرع فلنا أن نبدأ معه، وإن كنا نصاحبه في بعضها، وهذه دون غيرها مما ذكر في أركان الصلاة، ولو تقدم المأموم إمامه وكبر قبل أن يكبر الإمام -سواءٌ أبدأ بعده وأسرع قبل أن يفرغ الإمام، أم بدأ بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام فلا ارتباط للمأموم بالإمام؛ لأن تكبيرة الإحرام هي افتتاح الصلاة. فإذا تعجّل وكبّر قبله كأنه لم يرتبط بإمامه، وكذلك السلام.

متى يشرع المأموم في بقية أفعال الصلاة؟

متى يشرع المأموم في بقية أفعال الصلاة؟ قوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع) ، التفصيل في الركوع والرفع والسجود كالتفصيل في التكبير، فإذا كان قائماً، وأهوى إلى الركوع فهل نبدأ بالهوي ونشاركه، ويسبقنا وينتهي من ركوعه قبلنا، أم ننتنظر حتى يكمل ركوعه فنشرع نحن في الركوع؟ الكلام في هذا كالكلام في التكبير. قوله: (وإذا رفع فارفعوا) يقول العلماء: لوحصل التسابق فيما دون تكبيرة الإحرام، فركع قبل إمامه أو رفع قبله لاتبطل الصلاة، ولكنه مخالف، وهو متوعدٌ بوعيد شديد، وقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار) ، ويعلق عليه العلماء مع هذا الوعيد بتغيير الوجه، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: وليعد الصلاة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: بطلت صلاته. ولكن ذكر هذا الوعيد وسكت. ولكن تكبيرة الإحرام تختلف؛ فإن من سبق الإمام فيها لم يدخل معه في الصلاة، وكذلك السلام، فلو سبق الإمام في السلام كأنه تعجل عن الإمام وخرج عن إمامته.

حكم جمع الإمام والمأموم بين التسميع والتحميد

حكم جمع الإمام والمأموم بين التسميع والتحميد قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) هذه المسألة تقدمت في صفة الصلاة، وهل الإمام والمأموم سواء فيجمعون بين التسميع والتحميد، أم أن الإمام يكتفي بقوله: (سمع الله لمن حمده) ، والمأموم يُكمل (ربنا لك الحمد) ؟ الأرجح في المسألة أن كلاً من الإمام والمأموم له أن يقول الذكرين معاً (سمع الله لمن حمده) ، (ربنا لك الحمد) . ويأتي الخلاف أو النقاش في اللفظ: (ربنا لك) ، و (اللهم ربنا) بزيادة (اللهم) ، والصنعاني يقول: الأفضل أن يأتي بقوله: (اللهم) ، وبالواو في: (اللهم ربنا ولك الحمد) ، قال لأن زيادة هذه الحروف فيها زيادة معنى. أما زيادة (اللهم) فهي عنده باتفاق، ومعناها: اللهم ربنا استجب لنا، ولك الحمد على إجابتك لنا. فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ومن العلماء من يرى أن يقتصر المأموم على التحميد نصاً، لهذا الحديث. وبعض المذاهب الأخرى تقول: المنفرد والإمام سواءٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد، وفي تعليمه أيضاً علم الشخص بأن يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد. والأنسب في ذلك أن كلاً منهما جائز، فإن اقتصر الإمام على التسميع وكمل المأموم بالتحميد، أو جاء كل منهما بالذكرين معاً فلا بأس في ذلك. وإن جاء المأموم بلفظ (اللهم) ، وبالواو في (ولك الحمد) فلا مانع، وإن اقتصر على نص هذا الحديث فلا مانع. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد) .

مسألة: إذا صلى الإمام قاعدا

مسألة: إذا صلى الإمام قاعداً قوله: (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) . قال: في بداية الحديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) والائتمام شامل لأن تأتي بكل ما يأتي به الإمام، ولكن في التفصيل والبيان لم يذكر لنا صلى الله عليه وسلم إلا الأعمال الظاهرة، كتكبيرة الإحرام (الله أكبر) ، والركوع، والرفعُ والتسميع، والسجود. ولم يذكر لنا الدعاء أو الذكر حال كونه راكعاً، ولم يذكر لنا التسبيح أو الذكر حال كونه ساجداً، ولم يذكر لنا الدعاء بين السجدتين، فالمأموم معفيٌّ عن اقتدائه وائتمامه بالإمام في مثل هذه الحالات؛ لأنها خفية، وتُرِك لكل واحد منهما أن يأتي بما تيسر له، وليس في هذا ائتمام، ولكن الائتمام يكون في الفعل الظاهر. ثم ختم هذا البيان في الائتمام: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً) ، وهذا لا غبار عليه إلا من كان معذوراً، فمن كان له عذر لا يستطيع القيام فهو خارج عن هذا الأمر، فيُصلى الإمام قائماً، والمأمومون القادرون يصلون قياماً، والمأموم العاجز عن القيام يصلي جالساً. (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) . من طبيعة الائتمام أن تصلي قاعداً إذا كان الإمام يصلي قاعداً؛ لأنك أُمرت أن تأتم به، بقوله: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ، وقد روي: (أجمعين) ، و (أجمعون) ، وكلاهما من حيث الإعراب صحيح، فـ (أجمعين) على أنها حال، والحال منصوب، وهذا جمع مذكر سالم منصوب علامة نصبه الياء و (أجمعون) : على أنه توكيد لضمير تقديره: صلوا خلفه قعوداً، وهنا الضمير في محل رفع فاعل لـ (صلوا) ، وهنا تكون (أجمعون) : توكيداً مرفوعاً تبعاً للمؤكَّد. ويهمنا أمره صلى الله عليه وسلم للمأمومين إذا أمهم إمامهم قاعداً من مرض فإنهم يصلون خلفه قعودً. لو أن الإمام كان عاجزاً عن قعوده، وصلى مضطجعاً -ومن حق الإنسان إذا لم يستطع أن يصلي قاعداً أن يصلى على جنبه- فهل يأتمون به ويصلون على جنوبهم؟ والجواب: لا. فإذا نزلت قدرة الإمام عن الصلاة قاعداً فلا ائتمام به.

الصفوف في صلاة الجماعة

الصفوف في صلاة الجماعة

الأمر بتسوية الصوف

الأمر بتسوية الصوف قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) . رواه مسلم] . هذا الحديث يبين لنا تنظيم الصفوف، ويبين لنا فضائل أوائل الصفوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: (تقدموا فائتموا بي) -أي: الصف الأول- وليأتم بكم من بعدكم، أي من الصفوف الأخرى الثاني والثالث، وما بعدهما. فقوله: (رأى في أصحابه تأخراً) هل هو قبل أن يدخل في الصلاة، أم بعد أن دخل فيها نبههم؟ جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري) . فيمكن أن يكون رأى هذا التأخر بعد أن دخل في الصلاة، ثم نبه على ذلك، أو أنه رأى ذلك قبل أن يدخل في الصلاة وهو الأغلب؛ لأن على الإمام أن ينظر في صفوف المصلين قبل أن يدخل في الصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر في الصفوف ويسويها، وكما جاء في بعض الروايات: (كأنه يسوي القداح) أي: على صف معتدل. وإذا رأى من شخص بروزاً رده، وإذا رأى من شخص تأخراً حثه على التقدم، وهكذا.

حد المسافة التي تكون بين الصفين

حدُّ المسافة التي تكون بين الصفين ما حد التأخر وما حد التقدم؟ وما هي المساحة التي تكون بين الصف الأول والإمام، وبين الصف الأول والذي يليه؟ معلوم أن أقل ما يمكن هو ما يتسع لسجود المصلين في الصف من غير تضييق. ولذا قال العلماء فيما يتعلق بسترة المصلي: إن موقعها بينه وبين موقفه ثلاثة أذرع، أي: من قدمه إلى موضع سجوده؛ لأن هذه المسافة هي التي يتأتى للمصلي أن يتحرك فيها بيسر. وعليه قالوا: السنة فيما يكون بين الصفوف من الفراغ هو قدر ما تكون السترة من المنفرد، أي أن عليه أن يجعل بينه وبين الصف الذي أمامه قدر ما يجعل المنفرد بينه وبين سترته، أي: ثلاثة أذرع. ولو أن الصفوف قد ازدحمت فماذا يفعل؟ لقد بوّب الفقهاء باباً فيمن زُحِم يوم الجمعة، فـ عمر رضي الله تعالى عنه أمرهم أن يركعوا ويسجدوا على ظهور بعضهم، فيمكن أن يكون بين الصف والصف طول الفخذ فقط، وهو ذراع، ويسجد على ظهر الذي أمامه، وهكذا في شدة الزحام. ثم ذكر الفقهاء أيضاً أنه إذا لم يستطع أن يصل إلى الأرض ليسجد فإنه ينتظر حتى يقوم الصف الذي أمامه ويسجد، ثم ينهض فيدرك الإمام. فهذه مسائل في صلاة الأعذار، ولكن الذي يهمنا الآن في تنظيم الصفوف، فالواجب على المأمومين أن يتراصوا مع إمامهم، ولا تكون هناك الفجوات الطويلة بين الصف والإمام. وربما تجد في بعض المساجد من يصف دون الصف الذي أمامه بمسافات ومراحل تزيد على عشرة وعشرين وخمسين متراً، وهذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، أي: تقدموا فاقتدوا بي، وليقتدِ بكم من وراءكم. وتجد بعض الأحيان الإمام في المحراب والصفوف وراءه، ثم تجد صفاً بينه وبين الصف الذي يليه عشرات الأمتار، فلا يجوز ذلك ولا ينبغي، وليس من سنة الجماعة هذا العمل. فتسوية الصف أولاً، ومراعاة الإمام للمأمومين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرسل بلالاً يمر بين الصفوف يعدلها، وكان بلال يقول: (لا تسبقني بآمين) ، حيث يكبر صلى الله عليه وسلم ويقرأ، وبلال يتخلل الصفوف لينظر المتخلف أو المتقدم أو المتأخر ليعدله، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين) أي: إن فضل آمين فضل عظيم، ولا أريد أن أسبق به وأنا أؤدي المهمة.

ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين

ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) . فقبل وجود هذه الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان محدوداً، فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى أمامه الصف الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة، في الركوع والرفع، والسجود والجلوس. وفي كون المتأخرين يقتدون بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً مسبوقاً جاء ووجد الصف الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد أدرك الركعة، ولو أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه، وهو لا يدري عن الإمام رفع أم لم يرفع. ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم راكعاً والناس ركوعاً، فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة الإحرام، وركع حيثما كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعُد) وروي (تعِد) و (تعْدُ) ، وكل هذه الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء. فـ (لا تعُدْ) من العود، والفعل الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت عينه. و (لا تعِد) من أعاد يعيد. و (لا تعْدُ) ، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل اللام إذا جُزم تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله. ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه. وهنا نرجع إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث كان يُسمِع الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع، ويكبر للسجود وغيره، والناس وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع من وراءه من المصلين التكبير في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان عاجزاً عن إبلاغ الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً. ولذا قال مالك في الرواية الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب قاعداً، وصلى المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد منهم يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا نقول: إنه بدعة. ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه فلا مانع، أما أن يكون إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله تعالى في بادئ الأمر يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من الأحاديث. وقيل لـ مالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي: اتخذ مبلغين يبلغون عنك. قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ مبلغين. فالتبليغ تدعو إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في المسجد الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم بقدر الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً بعد الآخر، أو مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟ جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش. وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ، فما حاجتنا إلى مبلغين الآن؟ والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له نظر، ولكن هناك أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء هذا الجهاز يبلغ عن المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز يعمل بطاقة وآلة فهو معرض للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم يحصل من اضطراب واختلال. فمادام أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس. وقوله: (تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن، وقد جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) ، ولا يوجد شر في الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف الأول، فإن الصف الأخير لم يحصل على فضيلة الصف الأول. قال: (وشر صفوف النساء أولها) ؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في الحديث الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.

مسائل في النوافل

مسائل في النوافل

صلاة النافلة في المسجد والبيت

صلاة النافلة في المسجد والبيت قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) متفق عليه] . هذا الحديث له علاقة بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان اقتداء الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة. والحديث يتناول اتخاذ الحجرة، و (احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن ينساب في بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه الحجر على السفيه لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه اللغة- من الحجر اليابس القوي، فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه، فهو لحجريته مانع نفسه من أن يعتدي عليه غيره. والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى جارها، وتمنع جارها من أن يدخل إليها، فهي تحجر الجزء المملوك. قال: (احتجر حجرة مخصفة) ، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من الاحتجاز، وهو أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من الخوص، وإلى الآن يسمى عند الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص، فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك. وأصل هذا: أنه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة في المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس بصلاته، وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم التالي سمع أشخاص بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي قبل، وفي الليلة الثالثة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس. فقال: ارفعي عنا حصيرك) ، فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء وحصبوا باب الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) ، وهذا مصداق قوله سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، أي: إذا أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في بيته ما عدا الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة. وهنا يأتي مبحث للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء) ، فـ (صلاة) : نكرة، و (المرء) : مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة، فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة المرء النافلة في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب، كسنة الصبح، وسنة الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى أنها تصلى مع الفريضة في المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة، فقال الناس: ما أسرع ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) لكن يقولون: النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.

خلاف العلماء في أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت

خلاف العلماء في أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت وبعض العلماء يربط ويقارن بين قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، وبين هذا الحديث: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . لأن (صلاة) نكرة تعم الفريضة والنافلة، فإذا صليت الفريضة فهي صلاة في مسجده، وإن صليت النافلة فهي صلاة في مسجده، فنجد الجمهور يعممون ذلك، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: قوله: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) خاص بالفريضة؛ لأن النافلة لها مكان آخر وهو البيت لحديث: (خير صلاة المرء في بيته) قال: إذا صلاها في المسجد فهي بألف، وإذا صلاها في بيته فهي خير من هذه التي هي بألف، فما خالف الجمهور. والآخرون قالوا: كل صلاة فهي بألف صلاة. فاتفقوا على أن الصلاة مطلقاً في المسجد النبوي بألف صلاة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه مع ثبوت الألف للنافلة في المسجد النبوي فإيقاعها في البيت أفضل من ذات الألف.

أيهما أفضل صلاة المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟

أيهما أفضل صلاة المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟ وهنا قضية جانبية في قوله: (خير صلاة المرء في بيته) ومؤنث (المرء) امرأة، فهل صلاة المرأة أيضاً في بيتها خير، وهل صلاتها في المسجد النبوي أيضاً بألف صلاة؟ الجمهور يقولون: صلاة المرأة في المسجد النبوي بألف صلاة، فريضة كانت أو نافلة، ولكن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد النبوي، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في النافلة، وذلك لأمر آخر، وهو أن امرأة من بني سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، وانظر إلى التعبير، فلم تقل: أحب الصلاة في مسجدك. لكن: أحب الصلاة معك؛ لأنها إذا صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت القراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلين معه، فمن هنا أحبت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير -من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك) ، خير من صلاتك في مسجدي. فصلاتها في عقر دارها خير من صلاتها في المسجد النبوي بثلاثة أضعاف. وعلى هذا فخير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ويبين المؤلف رحمه الله بهذا أن النوافل يجوز أن تصلى جماعة؛ لأن أناساً صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.

الاحتجار في المسجد وحكمه

الاحتجار في المسجد وحكمه وهل يجوز لكل إنسان أن يحتجر في المسجد ويضيق على الناس؟ قالوا: لا، ما لم يكن في الأمر سعة. والآخرون قالوا: إنها كانت توضع في الليل عندما لم يكن هناك نداء لصلاة الفريضة، وترفع في النهار فلم تضيق. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في رمضان يوضع له سرير عند باب الحجرة، وإذا جئت إلى الروضة تجد بعض الأسطوانات مكتوباً عليها: أسطوانة السرير. كان إذا اعتكف صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير ينام عليه في حالة اعتكافه. وقد جاء عن عائشة أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله) . التحجير في المسجد إذا كان يضايق المصلين فحق المصلين مقدّم ولا يجوز ذلك، وإذا كان هناك سعة ولا تضييق على أحد فلا مانع في ذلك، وصلاة النافلة وهي قيام الليل تصلى جماعة، وعليه فالتراويح تصلى جماعة كما هو واقع الآن. قوله: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا منصب على النافلة المطلقة، والنوافل الرواتب تجوز صلاتها في المسجد، وتقدم لنا أنه كان يصلي سنة المغرب والعشاء ركعتين في بيته، ولم ينص على النوافل الأخرى في بيته، فبقية النوافل تكون في المسجد، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بيته إلا المسجد؛ لأن بابه مُشرع على المسجد، والله تعالى أعلم. فلا ينبغي للإنسان أن يترك الصلاة في البيت، بل يجعل لبيته حظاً من صلاته لبركة الصلاة، ولطرد الشيطان، ولتعليم النسوة والأطفال، وقد جاء الحديث: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم) ، وقد جاء عن عتبان بن مالك أنه كان رجلاً يؤم قومه في بني سلمة، وكان قد أنكر بصره نسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ليصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مصلىً له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أين تريد أن أصلي؟) ، فأشار إلى مكان فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي في ذلك المكان تبركاً بموضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفاضل الصلاة في المسجد النبوي

تفاضل الصلاة في المسجد النبوي وبهذه المناسبة أيضاً أقول: المسجد النبوي من جميع أطراف وحدود جدرانه الصلاة فيه بألف، ولكن هل كل المسجد سواء؟ يتفق الجمهور على المفاضلة، ولا شك أن الصف الأول أولى من الصف الثاني ولوكان الكل في المقدمة. وهنا بحث مطول في أيهمما الأفضل، الصلاة في الروضة في صف رابع أو خامس، أو الصلاة في الصف الأول في المسجد. يقول النووي رحمه الله: إذا كانت الصلاة جماعة فالصف الأول أفضل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولفعل الخلفاء من بعده بعدما جاءت التوسعة التي خرجت عن الروضة. وعلى كلٍ فذاك مبحث مستقل، ويوجد هناك بعض الأشخاص الذين يتتبعون بعض المواطن في المسجد النبوي رجاء بركة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فيقولون: لعلنا نصادف كذا. وهذه أمور عاطفية، فإن علم مكاناً فلا بأس بذلك، ما لم يحصل زحام، وما لم يعتقد عدم جواز الصلاة في غيره، والله ولي التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [4]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [4] من مسائل الصلاة المهمة التخفيف على المأمومين، ولذلك فإن الواجب على الإمام إذا صلى أن يراعي حالة المأمومين فلا يطيل الصلاة بما يشق عليهم. كما أن من مسائلها التي ينبغي علمها الصلاة وراء الإمام القاعد، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته جالساً والناس وراءه قياماً، وهذا دليل للجمهور على نسخ صلاة المأموم جالساً وراء الإمام الجالس. ومن مسائلها كذلك بيان الأحق بالإمامة، والراجح في ذلك أن الأحق بها أقرأ الناس ولو كان صغيراً في السن.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

أمر الإمام بتخفيف الصلاة وعلته

أمر الإمام بتخفيف الصلاة وعلته قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن تكون -يا معاذ- فتاناً؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، و (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (اقرأ باسم ربك) ، و (الليل إذا يغشى)) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . حديث معاذ هذا أصل في صلاة الجماعة، وفيما يجب على الإمام. ومعاذاً رضي الله تعالى عنه هو معاذ بن جبل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ، ومناقب معاذ كثيرة جداً، حتى جاء في بعض الآثار: (آمن معاذ حتى خاتمه) ، ومعاذ له في الصلاة شئون عديدة، وله موقف في التشريع، فقد قال ابن كثير وغيره: أحيلت الصلاة ثلاث مرات. الأولى: قولهم: كنا إذا أردنا الصلاة آذن بعضنا بعضاً -أي: أعلم- فقلنا: نتخذ وسيلة، فاقترح قوم ناقوساً، وقوم بوقاً، وقال قوم: نجعل ناراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا. فجاء عبد الله بن زيد ورأى أنه عُلِّم الأذان في المنام، فأُذِّن للصلاة، فهذا أول شيء. الثانية: كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم تحولوا إلى الكعبة. الثالثة: كانوا يصلون جماعة، فإذا جاء مسبوق سأل المصلين حال صلاتهم: كم صليتم؟ فيشيرون إليه بمقدار ما صلوا ركعة أو أكثر، فيكبر ويصلي ما فاته بسرعة، ثم يصحب الإمام حتى يسلم معه، فقال معاذ: والله لن آتي الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا دخلت معه فيها فجاء مرة مسبوقاً، فكبر ولزم الإمام، فلما سلّم وعرف ما فاته قام يقضيه بعد السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا) . فـ معاذ بسببه حصل تشريع في الصلاة، وهو صاحب رأي، وله أمور أخرى في اتباع الجماعة وسماع النداء، وأنا أسمي معاذاً بعثة تعليميةً متنقلةً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلّفه في مكة بعد الفتح يعلمهم الإسلام، وعمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام يعلم أهلها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن يعلم أهلها الإسلام. ففي هذه الحادثة صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وذهب إلى قومه في قباء ليصلي بهم، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم استهل بسورة البقرة، ورآه رجل كان معه ناضحان فأرسلهما ودخل في الصلاة، وبعض الروايات فيها: (كنت أسقي ماءً، فجئت ودخلت في الصلاة، فلما بدأ بسورة البقرة علمت أنه لن يركع دون إنهائها، فتركته وأتممت صلاتي) ، وسواءٌ أكان انصرافه عن الإمام للماء، أم كان للناضحين، أم كان لتعبه طول النهار. فعلم أن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه مفعمة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يُصلي الليل كله لأن حياته كلها عبادة. فعرف الطريق واختصره من بدايته، وذلك بانصرافه عن الصلاة مع معاذ. فقيل لـ معاذ: إن فلاناً تركك وذهب! قال: إنه رجل منافق. فبلغت الكلمة هذا المسلم فعظمت عليه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى معاذاً بعد أن رماه بالنفاق، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال: (يا معاذ! أتريد أن تكون فتاناً؟) ويا معاذ! ويا من يعرف الحلال والحرام! ويا من يعرف شئون الناس! أتريد أن تكون فتاناً؟! فنحن ما جئنا للفتنة، إنما جئنا لنطفئ الفتنة. وهل أمرهم بمعصية؟ لقد سماه فتاناً لكونه أطال الصلاة. وعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقوم الليل بسورة الفاتحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ البقرة والنساء وآل عمران ثم يركع، فهل في هذا فتنة؟ لا. وإنما كان التطويل هنا فتنة لأن صلاة معاذ لها تعلق بالآخرين؛ إذ إنه كان الإمام، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) . قوله: (إذا أممت الناس) الخطاب خاص لـ معاذ، وهو عام في كل إمام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن أم الناس فليخفف. وقد بين صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: (فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) ، وكصاحب الماء أو صاحب الناضحين، وقد يكون هناك إنسان له سياره محمّلة والناس ينتظرونه، أو لديه مريض ويريد أن يذهب به، أو يريد أن يرى حالته، أو أي حاجة من حاجات الناس، أو هناك إنسان يقوم في الصف ولا يستطيع أن يطيل القيام. إلخ. فعلى الإمام أن يراعي حالة الناس، وقد جاء ما هو أخص من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) . فالأم حين تسمع طفلها يبكي هل ستصلي أم تُسكت ولدها؟ إن قلبها يطير، ولهذا جاء عن أبي قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب) ، وذلك حتى لا تبكي وتصيح وتشوش عليه، فحملها ووضعها أهون من أن يسمعها تبكي. قال: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك) ، وهنا (اقرأ) في آخرها سجدة، وهذا رد على من يقول من المالكية: لا يجوز للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة. ولكن يقولون: إذا كانت القراءة سرية وسجد فإن من خلفه لا يعلمون سبب سجوده، أما إذا كانت في الجهرية وسجد فلا مانع؛ لأنهم يسجدون تبعاً له. فهذه السور على الأئمة أن يراعوها، أما إذا كان هناك جماعة متفقون على إطالة الصلاة، وكلهم يعرف ذلك فلا بأس، ويوجد هناك جماعات في بعض البلدان لهم مساجد خاصة، ويجتمعون فيها، ويطيلون الصلاة فيها، وسمعت من شخص جاء إلى المدينة وأنه رُشِّح أن يكون إماماً، فاشترط أن يسبح في الركوع ثلاث عشرة مرة، وفي السجود ثلاث عشرة مرة فرُفضت إمامته، وقالوا له: أنت لا تصلي لوحدك؛ فإن الناس وراءك ويسبحون ثلاث تسبيحات فقلت له: لماذا تشترط هذا؟ قال: أريد أن أهرب من الإمامة. والذي يهمنا في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه أن الإنسان إذا كان يعمل عملاً متعلقاً بالآخرين فيجب عليه أن يراعي حالة الآخرين، سواءٌ أكان في صلاة، أم في غيرها. وقصة الرجل الذي انفرد وصلى وحده يمكن أن نضاف إلى أدلة من يقول: إن الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن هذا الذي دخل مع الإمام، ثم رأى الإمام طول فانفرد عنه هل استأنف الصلاة من جديد، أو بنى على ما كان؟ الذي عندنا أنه خفف صلاته وانفصل عن الإمام، وأكمل تبعاً لما تقدم من تكبيرة الإحرام ودخوله مع الإمام. فهل هذا يكون عذراً أو يكون نفاقاً؟ لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ دعواه النفاق على هذا الرجل. الشيء الآخر أيضاً أنه لا ينبغي لمسلم أن يرمي مسلماً بلقب كهذا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لعن المسلم، وعن نعته بالكفر، بل قال: (من قال هلك الناس فهو أهلكَهم) ، أو (فهو أهلكُهم) ، (فهو أهلكُهم) : أي أشدهم هلاكاً. و (فهو أهلَكهم) بالفتح: أي هو الذي أهلكهم، وهم ليسوا بهالكين.

الصلاة خلف الإمام القاعد

الصلاة خلف الإمام القاعد قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها -في قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض- قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) متفق عليه] . حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، وهناك فرق بين: (مريض) ، وبين: (اشتكى) ، ففرق بين إنسان مريض وآخر رجله مكسورة، وفرق بين مريض وآخر يده مكسورة، فهذا يشتكي يده أو رجله أو صداع رأسه، ولكن هذا مريض، فالجسم كله مريض، وهذا يشعر لأول وهلة أن الحالتين متغايرتان. قولها: (وهو مريض) المعروف أنه مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، وإذا كان الأمر كذلك فتكون رواية (جُحِش) متقدمة، ورواية (مرضه) متأخرة، لنكون على وعي من الأمر في الزمن والتاريخ للحالتين. قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) . قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه متعددة، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتكى، واشتد به الوجع، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وهذه القضية استوعبت الشيء الكثير، ففي بداية الأمر لما سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك قالت: (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، فإذا قام مقامك لا يملك نفسه من البكاء، مر عمر فليصل بالناس) . قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) . فقالت عائشة لـ حفصة: (قولي لرسول الله. لأنه كلامها، فقالت حفصة: إن أبا بكر إذا قام لا يُسمع الناس من البكاء، مُر عمر. فقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر) وهذه ناحية عجيبة، فلماذا عائشة تدفع حتى لا يصلي أبوها بالناس، وهذه أكبر منزلة؟ ونعلم جميعاً أنه لن يتقدم أحد على أبي بكر، وقد جرت عدة حوادث، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في خصومة فقال لـ بلال إذا تأخرت فأمر أبا بكر فليصل بالناس. فـ أبو بكر مقدم، ومرة أخرى تأخر أبو بكر في مرض موته. فقدموا عمر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار وقال: يأبى الله إلا أبا بكر. فقال بلال: ما وجدت منك خيراً! وهنا حفصة لما قال لها صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف) ، قالت لـ عائشة: ما رأيت منك خيراً قط! وصواحب يوسف كن يخفين ما لا يبدين. وهنا يأتي دور المتأمل الذي ينظر إلى الحقائق وما وراء الأحداث، فـ عائشة لا ترفض أن يقوم أبوها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأمر من السهولة إلى هذا الحد؟ إن أبا بكر بالنسبة لـ عائشة أبوها، فإذا بلَّغت عائشة الناس أن يصلي أبو بكر وكان فيهم ما فيهم فإن الشكوك والتهم تتوجه إلى عائشة من أجل أنه أبوها، فأرادت أن تبرئ نفسها وتبعد المسئولية عنها. وقد قال عمر في السقيفة: ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا وآخرتنا، ألا نرتضيك لأمر دنيانا؟! فكان تقديمه للصلاة مقدمة وترشيحاً للخلافة بعده صلى الله عليه وسلم. فأُمِر أبو بكر، وكان يصلي مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: فبينما أبو بكر يصلي بالناس، إذ وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، وفي بعض الروايات تفصيل آخر: (أراد أن يخرج فأغمي عليه، قال: ضعوا لي ماء في المخضب) ، فاغتسل فأراد أن يخرج فعجز، وكل مرة يقول: (أصلى الناس؟! فيقولون: لا. وهم ينتظرونك) ، وأخيراً تأخر وأعاد الأمر لـ أبي بكر بالصلاة. قالت: فوجد في نفسه خفة، فخرج يتهادى بين رجلين -قال ابن عباس للراوي: هل أخبرتك من الرجلان؟ قال: لا. قال: هما علي والعباس - قالت: تخط قدماه، حتى أتى الصف، فشعر به الناس، فالتفت أبو بكر -وفي بعض الروايات: ولم يكن يلتفت- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بجانبه وهذه رواية للبخاري وهي مجملة، وللبخاري رواية أخرى مفصلة: (فجلس عن يساره) . وهنا جلس عن يسار أبي بكر، وفي بعض الروايات أراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن: مكانك وهذا في صلاة أخرى، ولكن الأخيرة التي فيها حديث عائشة تبين أنه جلس عن يسار أبي بكر. ولماذا نحتاج إلى معرفة مجلسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو يساره؟ لأن معرفة موقعه عليه الصلاة والسلام من أبي بكر -أثناء الصلاة- بين لنا الإمام من المأموم، وعليه تنبني مسائل وخلاف بين العلماء، وبعض العلماء استدل بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم على جواز ائتمام القائم بالقاعد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر صلى قاعداً وكان إماماً؛ لجلوسه عن يسار أبي بكر، ولأن موقف المأموم من الإمام عن اليمين، وموقف الإمام من المأموم عن اليسار إذا كان واحداً، فـ أبو بكر بدأ بالصلاة إماماً وانتهى فيها مأموماً، ولهذا تحرى الفقهاء مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أهو عن يمينه أو عن يساره. فهنا لما تبين أنه صلى الله عليه وسلم جاء وجلس عن يسار أبي بكر، وفي حديث عائشة: (فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأتم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون -أو يقتدون- بصلاة أبي بكر) . عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأن أبا بكر كان مؤتماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بـ أبي بكر، وجميع المؤتمين يأتمون بإمام قاعد. ولهذا قالوا: لما كان في أول الأمر -لما جُحِش- أشار إليهم أن اجلسوا، وفي آخر الأمر لما قاموا خلفه وأبو بكر يقتدي به لم يأمرهم أن يجلسوا، ولم يأمرهم بالصلاة قعوداً خلفه وقد سئل أحمد -وهو ممن يبيح للمأموم أن يصلي قاعداً خلف الإمام القاعد- فقالوا له: لقد نسخ بأمر صلاته في آخر أمره! قال: لا؛ لأن فيه احتمالاً، وذلك أن أبا بكر بدأ الصلاة قائماً، فكان القيام ابتداءً، ومجيئه صلى الله عليه وسلم للصلاة قاعداً حدث بعد أن انعقد حكم القيام للجميع، ولا ينتقض بعد ذلك. فـ أحمد يرى لمن صلى خلف إمام قاعد أن يقعد، والجمهور يرون عدم ذلك، ويقولون: إن الحالة الأخيرة ناسخة للحالة الأولى، والقيام مقتضى النص؛ لأن القيام واجب على كل مصل إلا لعذر، فإذا عذر الإمام بالقعود فما عذر المأمومين؟! والشارح وغيره يقولون: لقد أُمروا بذلك -أي: بمتابعة الإمام- والجمهور يقولون: قد جاء فعلٌ نَسَخَ هذا الأمر، أو أنه يكون للندب، أو للجواز، ولكن إذا جئنا إلى الأصل فكل من الإمام والمأموم مطالب بالقيام، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا طرأ عذر لواحد منهما لا ينجر على الثاني، وبالله تعالى التوفيق.

الفرق بين صلاة الإمام والمنفرد في التخفيف

الفرق بين صلاة الإمام والمنفرد في التخفيف قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) متفق عليه] . قوله: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) التخفيف أمر نسبي بحسب ما يعلم الإمام من حالات المأمومين، وهذا من أقوى الأدلة لإثبات تعليل الأحكام؛ فإن هناك من يقول: لا تعليل للأحكام، وإن الله يشرع ما شاء، كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] ، فلا يقال: لماذا حرم هذا؟ ولماذا أباح هذا؟ فهو غني عن التعليل. والإجابة عن ذلك أن التعليل وحكمة التشريع ليست راجعة إلى الله، فإن الله هو الغني الحميد، ولكن راجعة إلى العباد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) ، الفاء: (فاء السببية، أي: بسبب ما في الناس أو في المأمومين من ضعيف ومريض وذي حاجة وكلمة (ذا الحاجة) عامة، سواءٌ في شخصه أم في غيره. وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفف الصلاة من بكاء الأطفال شفقة على الأمهات، وهذا من الحاجة. أو نقول: هذا نص في بيان تعليل الأحكام؛ لأن علة الحكم إذا ثبتت، ثم بعد عهد التشريع وانقطاع الوحي وتمام تدوين السنة، ثم جاءت حادثة، أو جاءت صورة لم تكن منصوصاً عليها -فيما تقدم من النصوص من كتاب وسنة- بالعلة التي علل بها الحكم نستطيع أن نلحق المستجد بعد عصر التشريع بما سبق أن شُرِّع ونُصَّ على تعليله، كما جاء تعليل تحريم الخمر بالإسكار، وجاء تحليل الميتة مع ما فيها من مضرة للجسم للضرورة. إلخ. فمن هذا الحديث يستدل على تعليل الأحكام، واعتبار العلة في تأثيرها في الحكم. قوله: (فإذا صلى وحده) ، أي: منفرداً، (فليطول ما شاء) ، فتصح الصلاة منفرداً. وهذا أيضاً من أدلة صحة الصلاة منفرداً، فيطوِّل ما شاء لأنه أمير نفسه وأدرى بحاجته، وإن تعب خفف. وذكر الشارح هنا مبحثاً، وهو إذا كان يصلي المغرب أو يصلي الصبح وحده، وبدأ في الركعة الأولى بالبقرة كما فعل معاذ في صلاة العشاء، ثم بدأ في الثانية بآل عمران، فستطلع الشمس وهو لم ينته بعد، فهل (يطول ما شاء) على عمومه، أو قد قُيِّد هذا العموم بما لم يخرج وقت الصلاة؟ بعضهم يقول: حتى ولو خرج وقتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطول ما شاء) . نقول: نعم ما شاء، لكن هذا له حد لا يتعداه. قالوا: جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه صلى الصبح فأطال، فلما سلم قالوا: كادت الشمس أن تطلع علينا. قال: إن طلعت علينا لم تجدنا غافلين. ولكن هذا أثر موقوف على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بصحة هذا الأثر، وعلينا أن نتقيد بالوقت، لا أننا نطيل ما شئنا حتى يخرج الوقت.

الأحق بالإمامة وخلاف العلماء فيه

الأحق بالإمامة وخلاف العلماء فيه قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن سلمة قال: قال أبي: جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين) رواه البخاري وأبو داود والنسائي] . هذا الحديث بداية مبحث من أحق بالإمامة؟ اتفق العلماء على أن أحق الناس بالإمامة أتقاهم وأقرؤهم وأعلمهم، وكل من جمع تلك الصفات الخيرة. فإذا لم توجد كل هذه الصفات فمن أحق؟ نعلم أولاً أن هناك حديثاً -وإن كان سنده فيه شيء-، وهو مكتوب على محراب المسجد النبوي في القبلة (إن أئمتكم وافدوكم إلى الله، فانظروا من توفدون) ، فلو كان لنا حاجة عند ملك، وأردنا أن نرسل شخصاً أوشخصين فإنا نرسل الأشخاص الذين يحسنون مخاطبة الملوك. فإذا كنا -ولله المثل الأعلى- قدمنا الإمام ليدعو ونؤمن بعده فهو وافدنا إلى الله، فمن الذي نختاره وافداً لنا يفد على الله، ويسأل حاجتنا؟ إنه أفضلنا وخيرنا. والخيرية أنواع، وفي أبواب متعددة، فمنها الشجاعة، والكرم، والعلم، والمعرفة، وكل هذه من صفات الخير، ولكن هناك صفات ترجع لأمور الدنيا، وهناك صفات ترجع لأمور الدين، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع المبدأ في هذا المقام (أقرؤكم) ، و (أقرأ) هنا أفعل تفضيل، فهل معنى القراءة من مادة (قرأ) بمعنى: تلا كتاب الله، أو (قرأ) بمعنى فقه؟ نجد بعض الناس يختلفون في ذلك، ولكن إذا كان الشخص قارئاً فقيهاً ورعاً زاهداً فهو أولى، ولا شك في ذلك، وإذا وجدت بعض الصفات، بأن كان عابداً زاهداً ورعاً لكنه عامي لا يحسن التلاوة، ووجد إنسان من عامة الناس مستور الحال، وهو أجود الحاضرين قراءة لكتاب الله، بمعنى: أجود الناس قراءة -كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه تفسيره: بأن يكون مجوِّداً معرِباً لكتاب الله- فنحن في حاجة إلى من يقرأ القرآن معرِباً، لا لمن حفظ حروفه، فمجرد حفظ الحروف مع عدم إقامة التلاوة لا يصلح في هذا المقام. فـ (أقرؤكم) أي: أجودكم قراءة وبعضهم يقول: (أقرؤكم) أكثركم قراءة. فيحتمل هذا المعنى، فمثلاً: يوجد عندنا شخص يحفظ جزءاً واحداً، لكنه يقرؤه قراءة مجودة، فيعطي كل حرف حقه، ويخرج الحروف من مخارجها، ويعرف كيفية النطق بالحروف في القراءة. وشخص آخر يحفظ نصف القرآن، لكنه لا يعرف قواعد القراءة، فحفظه مجرد سرد، ولا يعرف أماكن الوقف، أو لا يحسن النطق -كما يقولون- في المد والغنة والتنوين. إلخ. فأيهما يُقدم (أقرؤكم) بمعنى: أكثركم، ولو لم يعرب القرآن، أم (أقرؤكم) بمعنى: أجودكم قراءة؟ لاشك أن الأجود قراءة هو المقدم. وهنا مسألة: هل إعراب القرآن في القراءة بمعنى الفقه، أم أن الفقه قسم مستقل، والإعراب قسم ثان مرجِّح؟ سيأتي الحديث الآخر: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) ، فأعلمهم بالسنة يتعلق بجانب الفقه. نبقى في حديث عمرو بن سلمة: أن أباه جاء وقال: (جئتكم من عند النبي حقاً) ، و (حقاً) تأكيد لمعنى النبوة؛ لأن المجيء أمر محسوس، فهو مشاهد حين ذهب وأتى، فهو يقول: من عند النبي نبوة حقيقية.

فضل الأذان والمراد بالأقرأ لكتاب الله عز وجل

فضل الأذان والمراد بالأقرأ لكتاب الله عز وجل قوله: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (أكرمكم) ؛ لأن الأذان دعاء، فالمؤذن يدعو الناس إلى الله، والمؤذنون هم أطول الناس أعناقاً، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لولا الخلافة -أو لولا الإمامة؛ لأن الخليفة كان هو الإمام، والإمام هو الخليفة- لكنت مؤذناً) لما في الأذان من عظيم الأجر. ولا يسمع صوت المؤذن شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له والأذان أمر ليس بالهين، وفي الحديث: (ثلاثة يوم القيامة على كثبان من المسك) وذكر منهم: (ورجل أذن محتسباً) . فشأن المؤذن عظيم، والأذان هو شعار الإسلام، ولذلك قال: (فليؤذن لكم أكرمكم) ، فعلى سبيل المثال، لو كنا في مخيم وفيه الخدم والمشتركون، وفيه أمير للمخيم، فجاء واحد من الخدم ونادى: هلموا تعالوا. وجاء أمير القوم أو من دونه، أو مِن مساعديه ونادى: هلموا يا قوم. فالإجابة الأكثر تكون للشخص الذي هو أعلى درجة وله مكانة في المجتمع، فكذلك المؤذن. لكن الآن كثر الأذان والمؤذنون، ولا نستطيع أن نجمع أكرم الناس ليؤذنوا، وجاء في الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فإذا وجد إنسان مستقيم الحال على قدر من الصلاح، ومعروف بين الناس بالاستقامة فلا مانع أن يؤذن لنا. قال: (فليؤذن أحدكم -وفي رواية: أكرمكم- وليؤمكم أكثركم قرآناً) . هذا اللفظ يفسر لنا: (أقرؤكم لكتاب الله) بأن المراد من وعى قرآناً أكثر من غيره، ولكن على ما تقدم ليس مجرد حفظ حروف دون تجويدها وإعرابها. يقول بعض العلماء: إن حفظ القرآن في الصدر الأول يتضمن الفقه؛ لأن السلف كانوا كما قال ابن مسعود: (كنا إذا أخذ أحدنا عشر آيات لا يجاوزهن -وفي حديث ابن عمر: خمس آيات- حتى يحفظهن ويتعلمهن ويعمل بهن، فأخذنا كتاب الله حفظاً وعلماً وعملاً) ، فقالوا: من حفظ القرآن أو حفظ بعض السور معناه أنه حفظ حروفها، وفقه معانيها، وعمل بها، فالأكثر قرآناً أكثر فقهاً وعلماً وعملاً. ولكن نجد في حديث عمرو هذا أنه كان غلاماً عمره ست أو سبع سنوات، وفي بعض الروايات: (ثمان سنوات) ، قال: (فنظروا فلم يكن أحد في القوم أكثر قرآناً مني) ، وهو ابن ست أو سبع أو ثمان سنوات. ويذكرون في سبب ذلك أنه كان غلاماً فطناً ذكياً، وكان المسلمون الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرون بهم ذهاباً، ويمرون بهم عند عودتهم، وينزلون عندهم، فيسألهم: ماذا سمعتم من القرآن؟ فيسمع منهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظ عنهم، ولم يكن يفعل ذلك من قومه أحد، فكان لتلقيه المسلمين العائدين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالهم عما لديهم من القرآن يحفظ أكثر من الموجودين في بني سلمة. ولذلك قدموه ليصلي بهم وهو ابن ست أو سبع، وفي رواية: (ابن ثمان) ، وليكن ابن ثمان فسنه -قطعاً- دون البلوغ، وفي تتمة خبره أنه كان يصلي في بردة، وكانت قصيرة فإذا سجد تقلصت، وقال نسوة: استروا إمامكم أو غطوا عنا است صاحبكم. قال: (فاشتروا قماشاً، فخاطوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك) . إلخ.

حكم إمامة الصبي المميز

حكم إمامة الصبي المميز مسألة: هل تصح إمامة الصبي أم لا؟ إن إمامة الصبي، وإمامة المرأة، وإمامة الفاسق، وإمامة الأعرابي للحضري كل هذه مباحث مفصلة في كتب الفقه، ومن أكثر من فصل في ذلك صاحب كتاب: (كشاف القناع) عند الحنابلة. فيرى بعض العلماء صحة صلاة البالغ الكبير في الفريضة خلف المميز الصغير، ونجد بعض العلماء يقول: لا تصح صلاة المفترض البالغ خلف الصبي فماذا عن هذا الحديث؟ قالوا إنه كان في النافلة، وابن عبد البر وغيره يقول: صرف هذا إلى النافلة بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) ، فيؤمهم في النافلة أم في الفريضة؟ ثم أيضاً في سياق كلام أبيه حين جاء وقال: أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نصلي صلاة كذا في وقت كذا، وصلاة كذا في وقت كذا يعني: علمهم أوقات الصلاة، وأمرهم أن يؤذن أحدهم، وأن يصلي بهم أكثرهم قرآناً، فهل السياق في النافلة أم في الفريضة؟ في الفريضة بلا شك. وقوم أخذوا بهذا الحديث، ولكن كره مالك إمامة الصبي، وكل من لم يصحح اختلاف النية في الصلاة قالوا: هل صلاة هذا الصبي التي يؤم فيها فريضة أم نافلة؟ هي في حقه هو نافلة؛ لأنه لم يجر عليه التكليف بعد. وليس عليه فريضة في الإسلام إلى الآن، فقالوا: كيف يؤم المتنفل المفترضين؟ وعدم البلوغ يدل على عدم التكليف! وآخرون قالوا: هذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ليس هذا نصاً من رسول الله، فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة، والتطبيق جاء من قومه، فهل قال: يصلي لكم عمرو بن سلمة؟ وهل قال: يصلي لكم الصبي الحافظ؟ وهل قال: أكثركم قرآناً ولو كان مميزاً صغيراً؟ لكنهم لما سمعوا قاعدة التشريع: (أكثركم قرآناً) جاؤوا يبحثون عمن هو أقرؤهم قرآناً فما وجدوا إلا هذا الغلام فقدموه. فقاعدة التشريع العامة سليمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحة لكل زمان ومكان، ولكن التطبيق العملي يكون من الناس، فهل -يا ترى- لما قدموا هذا الغلام علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك، أم أن هذا اجتهاد منهم؟ هذا اجتهاد منهم في تطبيق القاعدة. وأجاب الآخرون فقالوا: إنه اجتهاد منهم في تطبيقها على أهم أعمال الإسلام وهي الصلاة، ثم لم يأت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم: إن إمامكم لا تصح إمامته. ولم يأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم فيما بعد. وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على شيءٍ باطل، ولو كان لا يعلمه، فقد نبِّه على القذارة في نعليه، فكان يصلي وفي أثناء الصلاة أتاه جبريل وقال: اخلع نعليك؛ لأن فيهما أذى. فخلع نعليه وهو في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: أحسنتم) يعني: تأسياً بما رأوه من الفعل، وإن لم يعلموا السبب. ثم قال: (إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) ، فبين لهم أنه خلعهما عن إخبار من جبريل، أي: لم يقره الله على ما هو عليه من صلاة بأذى في النعلين. فلا يُقرُّه على إمامة الغلام لقومه، وكل هذا -كما يقال- تعليل لما ذهب إليه كل فريق. فالخلاف في إمامة الصبي، ولكن إذا اجتمع قوم لا يوجد فيهم قارئ إلا غلام مثل هذا، كما لو قدر أن قوماً في البادية ليس عندهم قارئ، فإنه يصلي بهم.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [5]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [5] إمامة المسلمين في الصلاة منزلة رفيعة وشرف عظيم، وقد جعل الشارع لذلك شروطاً وأوصافاً، فمن تحققت فيه فهو الأولى بالتقديم، فيقدم الأكثر قرآناً -أي: الأكثر حفظاً والأحسن تجويداً- ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأقدم سلماً، ثم الأكبر سناً. ولا يجوز لرجل أن يؤم آخر في سلطانه إلا بإذنه، فإن حق ذي السلطان مقدم على الحقوق المتقدمة. ولا يجوز لامرأة أن تؤم الرجل، ولا لأعرابي أن يؤم المهاجر والحاضر، ولا يجوز أن يؤم فاجر مؤمناً.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

الاعتبارات الشرعية في اختيار الإمام للصلاة

الاعتبارات الشرعية في اختيار الإمام للصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة، سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم] . حديث أبي مسعود هذا فيه تفصيل ما أجمل في حديث عمرو. فنا (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وحديث عمرو: (أكثركم قرآناً) ، فالمراد الأكثر مع أجود وأحسن قراءة، فإن وجد كثير القرآن لا يعرب القراءة، وقليل القرآن يعرب فنقدم الذي يعرب ولو كان أقل حفظاً. قال: (فإن كانوا في القراءة سواء) ، أي: كلاهما يعرف التجويد، ويحسن التطبيق، وليس المراد مجرد القراءة؛ لأن العبرة في التجويد التطبيق، فإنه أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً وسماعاً، فإن كان في ذلك سواء فمن الذي يقدم؟ وقبل هذا قال: (يؤم القوم) ، ولم يقل: سيدهم، ولا أشرفهم، ولا أميرهم، ولا أفضلهم، إنما جاء إلى وصف في الإسلام، وهو الربط بالأصل الذي هو كتاب الله، وفي هذا توجيه الأمة بأكملها أن تتجه إلى إجادة قراءة القرآن؛ لأن هذه الصفة تؤهلهم إلى إمامة القوم، ونعلم من الناحية الأخرى أن في الخلافة الكبرى، أو في أمور الرئاسة والسياسة والإدارة يتولى خلافة الأمة وسياسة أمرها أفضلها، كما جاء في تولية أبي بكر الصلاة بالناس، وسيأتي التنبيه عليه. فإن كانوا في القراءة سواءً، ونريد أن نقدم أحد الشخصين أو الأشخاص ننتقل إلى مرجح آخر وهو: (أعلمهم بالسنة) ، يعني: أفقههم بالسنة، ولماذا لم يقل: أفقههم بالكتاب، وقال: أقرؤهم لكتاب الله؟ (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، يقول العلماء: لأن فقه السنة أعم من فقه القرآن، فالسنة هي المبينة والمفصلة لجميع آيات الأحكام في كتاب الله، وما من آية في فريضة ولا في حد إلا والسنة تبين مجملها، أو تقيد مطلقها، أو تخصص عمومها، فكما قيل: الكتاب يحتاج إلى السنة أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب، ومن هنا تجب العناية بفقه السنة. وإذا جاء بعد (أقرؤهم) (أفقههم للسنة) فأقرؤهم تُحمل على معنى الفقه أم على تجويد القراءة؟ تحمل على تجويد القراءة؛ لأن الفقه جاء منصوصاً عليه في قوله: (أفقههم بالسنة) . وهنا يأتي العلماء بقضية، ويقولون إن الأقرأ لابد أن يكون الأفقه، قالوا: لأننا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس مع أنه قال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، وقال: (خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب) ، فذكر أربعة أشخاص ليس فيهم أبو بكر وعمر، وقال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، فكيف يقدم أبا بكر وقد شهد بأن أقرأهم أبي بن كعب؟ أجابوا عن ذلك بقولهم: إن تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر لا لمجرد الصلاة، ولكنه إرهاص وتنبيه وإرشاد وتعليم للأمة بأن الذي سيخلفه في مقامه هو أبو بكر، بدلالة تقديمه له في الصلاة، وعند أبي بكر من القراءة والفقه ما يصلح الصلاة. وإنما قدِّم الأفقه؛ لأن الإمام قد يطرأ عليه في صلاته ما يبطلها أو يخل بها، فلابد أن يكون فقيهاً عالماً، يتجنب ما يبطل الصلاة أو يخل بها. ولكن أمور فهم الصلاة وإبطالها أمر ضروري، وقل من يجهل ذلك، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لديه من القراءة والفقه ما يقتضي ذلك وزيادة، ولذا كانوا يقولون: أبو بكر أفقه الناس، أو أفقه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهادة عمر وعثمان وغيرهما. قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) . قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، فالذين سبقوا إلى الهجرة لهم خصوصية عمن لم يهاجر إلا بعد الفتح، ولا هجرة بعد الفتح، ثم يبحث العلماء، في أقدمهم هجرة هل خاص بالسلف الأول المهاجرين من مكة إلى المدينة، أم أن الهجرة لم تنقطع؟ قالوا: لو قدر في بلد من البلاد أنه تضايق المسلمون واضطروا إلى الهجرة إلى بلد إسلامي، فإن اعتبار التقدم في الهجرة هناك يعتبر هنا الآن. وبعضهم قال: إن أبناء المهاجرين السابقين يعطون حقوق الآباء، فابن السابق هجرة مقدم على ابن المتأخر هجرة، وكل ذلك اعتبارات للترجيح. فأحياناً كان يأتي النفر الواحد مهاجراً، وأحياناً يأتي الرجل ومعه الرجلان والثلاثة والعشرة والأربعون مهاجرين معه، فإن كان أحد سبق ولو بيوم فهو مقدم، وإن هاجروا في وقت واحد فلا ترجيح. قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) . إن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أقدمهم في الإسلام قبل أن يهاجروا؛ لأنهم -كما يقولون- كانوا يعدون المسلمين عداً، كما يقول بعضهم: (كنت سابع سبعة) ، فـ عمر (لم يتقدم عليه ثلاثون رجلاً) ، وحمزة كان قبله بثلاثة أيام. وقد أحصى المؤرخون تاريخ السابقين الأولين في الإسلام، ومتى أسلموا، فمن أسلم قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الندوة، ومن أسلم بعد أن خرج منها كل هذه التواريخ مقيدة. فإذا كانوا في الهجرة سواءً فالذي تقدم إسلامه هو الإمام، وكل ذلك مفاضلة فيما بينهم لمن يستحق الإمامة، وكل هذا مع اجتماع أقرئهم وأعلمهم وأسبقهم هجرة. أي: إذا استووا في كل ما تقدم. ثم (أكبرهم سناً) ؛ لأن الإمام كلما كان كبير السن كان موضع توقير عند الناس.

السلطان أحق بالإمامة في سلطانه

السلطان أحق بالإمامة في سلطانه ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث: (ولا يَؤُمَّنَ الرجلُ الرجلَ في سلطانه) . فكما أنه لا يؤم القوم أجهلهم، ولا عديم المعرفة بالقراءة وفيهم من هو أولى منه، كذلك لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه. والسلطان كلمة عامة، وهي في كل شيءٍ بحسبه، فهناك السلطان الأعظم -كما يقولون-، وهو ولي أمر المسلمين، وحاكم الدولة، أو حاكم الأمة، وهناك أمير المقاطعة، وهو سلطانها. وحاكم القرية هو سلطانها، فكل من كانت له ولاية على جماعة فهو سلطانها، قالوا: ويتبع ذلك إمام المسجد الراتب ورب البيت؛ لأنه سلطان البيت، كما في الحديث: (والرجل راع في أهل بيته) . وهنا قوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) فيه احترام السلطة، واحترام الحق المعنوي؛ لأن السلطنة أو السلطان أمر معنوي، فقد يختار ولي أمر المسلمين شخصاً اليوم، ثم يُتوفى ويأتي غيره، أو يعزله ويأتي بغيره، فهو أمر نسبي لشخص لأمر معنوي، فيُحترم هذ الحق؛ لأن من حقه في سلطانه أن يأمر وينهى، وأن يكون المقدم على غيره؛ لأن رعيته في سلطنته لا تتقدم عليه، ولا تفتئت عليه في أوامره، ولا في تعليماته، وكذلك إمامة الصلاة ولاية، فلا ينبغي أن يتقدم شخص أجنبي على شخص في سلطانه يؤمه، حتى إنهم قالوا: لو كان هذا السلطان المطلق على الأمة والدولة، أو السلطان المحدود السلطة في إقليم أو قرية، بالنسبة لمن معه أقلهم قراءة، فمادام يصحح الصلاة، ولا يلحن لحناً يخل بالمعنى، ولا يخطئ في أدائها، -أي: يحسن الصلاة- فيكون حينئذٍ مقدماً على من هو أفضل منه قراءة ونسباً وسبقاً للإسلام. إلى آخره. وغاية ما فيه أنها: صلاة الفاضل خلف المفضول، وصلاة الفاضل خلف المفضول صحيحة بإجماع المسلمين، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف، واختلف في أنه صلى خلف أبي بكر أو لم يصل خلفه، ويكفينا أنه صلى خلف ابن عوف. فصلاة الفاضل خلف المفضول صحيحة، وهنا لو كان صاحب السلطان أقل رتبة في مراتب الإمامة، وخلفه أو معه من هو أعلى رتبة في مقام الإمامة فلا يحق له أن يتقدم على صاحب السلطان، ولكن إن أذن له السلطان فلا بأس، ويكون قد تنازل عن حقه في سلطانه، وسمح لغيره أن يتقدم بالإمامة. فقوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) كلمة (سلطان) هنا عامة، سواءٌ أكان السلطان العام كولي أمر المسلمين عموماً ملكاً أو رئيساً أو غير ذلك، أم كان في مقاطعة أو في إقليم أو في قرية أو هجرة أو نحو ذلك.

الإمام المولى من قبل السلطان أحق بالإمامة من غيره

الإمام المولّى من قبل السلطان أحق بالإمامة من غيره وقاسوا على هذا أيضاً إمامة المسجد إذا كان الإمام راتباً؛ لأن الإمام الراتب مولَّى من قبل السلطان، فهو أحق بالإمامة من غيره، حتى قالوا: إذا تأخر الإمام الراتب ينتظرونه ما لم تكن مضرة، فإن كان مكانه قريباً أرسلوا إليه، فإن اعتذر أو لم يوجد وخيف الضرر فعلى الحاضرين أن يقدموا ويختاروا لأنفسهم من يصلي بهم. وقالوا: لو قدر أنه تأخر لعذر، وأرسلوا إليه فلم يجدوه، واختاروا وقدموا من يصلي بهم، فجاء أثناء الصلاة فمن حقه أن يتقدم للإمامة، وعلى الذي اختاروه للإمامة أن يرجع إلى الصف مؤتماً. وماذا يفعلون فيما سُبِق به، كأن جاء بعد أن صلوا ركعتين؟ قالوا: يصلي بهم الركعتين الباقيتين، ثم يقوم لاتمام صلاته، والمأمومون يبقون جالسين، فإذا أتى بالركعتين اللتين فاتتاه وأتم لنفسه الصلاة -وهم قد تمت صلاتهم- سلّم وسلموا معه، وإن ترك الإمام الذي اختاروه يتم الصلاة وائتم به فلا مانع في ذلك. فعدم إمامة الرجل الرجل في سلطانه أولاً وقبل كل شيء فيه احترام للسلطة واحترام للحقوق، وألا يفتئت أحد على أحد في مركز سلطته وسلطانه مهما كان مستواه، ومهما بلغ من أمره. وكذلك لا يؤم الرجل الرجل في بيته؛ لأنه سلطان بيته إن كان له أن يصلي جماعة في البيت، فقد تكون هناك أعذار له، كأن يكون المسجد بعيداً، أو كان هناك مرضى، وخيف من التفرق، واحتاجوا إلى أن يصلوا في البيت فحينئذٍ الأحق بالإمامة صاحب البيت، ولو كان أيضاً أقل رتبة في الإمامة من بعض الحاضرين؛ لأن حقه مقدم، إلا إذا أذن وقدم فلاناً ليصلي، فقال له: الحق لك لأنك صاحب البيت، فيقول: قد أذنت لك فحينئذٍ يتقدم من هو أولى بمرتبة الإمامة فيصلي؛ لأن صاحب البيت تنازل عن حقه وأذن له، فالصلاة في محلها. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) . نأتي إلى ناحية أخرى اجتماعية، وهي: احترام حرمة البيوت، فإذا دخلت بيتاً ورأيت مجلساً خاصاً متميزاً لصاحب البيت سواءٌ أكان كرسياً، أم كان فراشاً، أو دخلت مجلساً عاماً، وتعرف من واقع الحال أن هذا صدر المجلس وهو لصاحب البيت، فلا ينبغي لك أن تجلس في مجلس صاحب البيت إلا بإذنه؛ لأن هذا حقه، والجلوس مكانه افتئات عليه. فقوله: (تكرمته) هي الموضع الذي يُكرم به صاحب البيت، وهو مكان مميز كما تقدم، فإذا عرفت أن هذا المكان متميز عن بقية المجلس، وعرفت أن هذا لصاحب البيت، سواءٌ أكان صاحب البيت من أرباب المنازل العليا والمراكز العليا، أم كان من عامة الناس فهذا حق له لا يحق لك أن تجلس عليه إلا بإذنه، وكذلك إذا دخل إنسان في غيبة الرجل، وكان من محارم أهله، فلا يحق للمرأة أن تجلس شخصاً ما على فراش رجل إلا بإذنه، فإن كان قد أذن لها فبها وإلا منعته. وهذا من باب احترام فراش الرجل. فقد جاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم قبل فتح مكة وبعد صلح الحديبية، وقد نقضت قريش العهد، فجاءت خزاعة تستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش التي نقضت العهد، فعلم أبو سفيان فسبق وجاء يطلب تمديد الهدنة وتوثيقها، فجاء إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أنا بالذي يشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم! والله لو لم أجد إلا الذر أقاتلكم به لقاتلتكم. وجاء إلى علي، قال: والله لا أستطيع أن أشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى فاطمة، قالت: أنا امرأة لا أجير على الرجال، قال: مري ابنيك هذين الحسن والحسين، قالت: إنهما غلامان لا يملكان أن يجيرا أحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخل عليها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش فطوته، ومنعته أن يجلس عليه، وهو فراش من ليف، قال: والله يا ابنتي لا أعلم، أطويتي هذا الفراش ظناً به عليَّ، أو ظناً بي عليه، يعني: إما لأنه لا يليق بي أنا، أو لأني لا أليق به، قالت: لا، إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، لا يحق لك أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا ابنتي بعدي شرٌ، ما كنت هكذا، فهي كرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيها؛ لأن أباها ما زال كافراً، فلا يليق أن تجلسه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك: فإذا كان للرجل فراش خاص، سواءً كان فراش نومه أو غيره، لا ينام أحد في مكانه حتى أولاده، ولا يليق للولد أن ينام في فراش أبيه، ولا يحق للأم أن تأذن للولد في ذلك. وكذلك البنت لا تنام في فراش أمها، وهكذا لا ينبغي لإنسان دخل بيتاً أن يبيح لنفسه ما لصاحب البيت من مكانة مختصة به: فراش ينام عليه، أو محل يجلس فيه.

الأحق بالمكان في المسجد

الأحق بالمكان في المسجد وقد بحث العلماء مسألة قريبة من هذا، فمثلاً: المحلات العامة كالمساجد، إذا كان للإنسان مكاناً في المسجد، واعتاد الإتيان إليه، وهو ممن يحضر الصلوات الخمس، وتعود أن يأتي مبكراً، ويجلس في مكان معين، فلو أن إنساناً آخر سبق إليه، أيحق له أن يجلس فيه؟ وإذا جاء صاحب هذا المكان، أيحق له أن يقيمه منه ليجلس مكانه؟ بعض العلماء يقول: لا يقيمه؛ لأنه جاءت بعض الآثار في النهي عن أن يتوطن إنسان موقعاً في المسجد توطن البعير، لأن البعير إذا وطنته في مكان، لا يمكن أن يتحول عن ذاك المكان، يألف ذاك المكان، ولا يمكن أن يبرك إلا فيه، فنهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض العلماء قال: ما دام هذا شخص متعود وله عادة في السبق ومحافظ على الجماعة، يجب أن نحترم محافظته ومبادرته، ونكرمه بترك المكان له. وبعضهم قال بالتفصيل: فهذا الشخص الذي اعتاد مكاناً بعينه، وعرفه الناس به، ننظر أللناس مصلحة عنده، فيبقى في المكان الذي عرف به، حتى لو جاء صاحب حاجة، يريده فيما فيه المصلحة عرف مكانه، دون أن يبحث في المسجد عنه، أم أنه شخص عادي من عامة المسلمين؟! فإن كان شخصاً للناس عنده مصلحة، لم يفتي الناس، وعرف الناس مكانه، وإذا وقعت بإنسان نازلة فيعلم أن فلاناً في المسجد في المحل الفلاني، فيأتي السائل ويقال له: فلان -مثلاً- أمام باب الرحمة، أو فلان أمام كذا، فإن اشتهر بهذا المكان، وكان للناس عنده حاجة يقصدونه فيها فالأولى أن يترك له مكانه لخدمة الناس؛ لأن من يدخل ويأتي إلى مكانه سيجده هناك. لكن لو أننا أخذنا مكانه عليه فتارة يجلس في اليمين، وتارة يجلس في اليسار، وتارة هنا، وتارة هناك، كان في ذلك تفويت المصلحة على الناس. فإذا سبق إنسان وجاء ذلك الشخص الذي اعتاد هذا المكان فمن حقه أن يقيم من جلس فيه، وأن يجلس في مكانه، والله تعالى أعلم.

من لا تصح إمامته

من لا تصح إمامته

الخنثى المشكل

الخنثى المشكل قال المصنف رحمه الله: [ولـ ابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه: (ولا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً، ولا أعرابيٌ مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً) ، وإسناده واه] . بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى الممنوع من الإمامة في أمور مخصوصة، كالرجل في سلطانه، والرجل في بيته جاء بمن لا تصح إمامته بصفة عامة، لا بمن هو مخصوص بوصف معين، فقال: (ولا تؤمن امرأة رجلاً) ، وأي امرأة؟ لقد أطلقت، وأي الرجال؟ لقد أطلق، كأنه يقول: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وقيد (رجلاً) يخرج النساء، فما قال: ولا تؤمن امرأة في الصلاة فإذا أمت المرأة امرأة، أو أمت المرأة صبياً فكل ذلك جائز. والخنثى المشكل هو إنسان اجتمعت له آلتا الذكورة والأنوثة معاً، ولكن قد تكون فيه علامات الذكورة أوضح، بأن يبلغ بالاحتلام كما يبلغ الرجال، فتنبت له لحية، أو تكون فيه علامات الأنوثة أوضح، بأن يحيض كما تحيض المرأة، ولا يمني كما يمني الرجل، فإذا التبس وحصل هذا وهذا فبابه طويل ومشكل كما يقال. فإذا وجد خنثى مشكل قالوا: إذا كان مشكلاً فلا تؤمنه المرأة مخافة أن يكون رجلاً. فالمرأة تؤم النسوة، ونجد الشارح لهذا الكتاب يذكر عن الطبري وعن غيره أن المرأة لها أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يوجد قارئ إلا هي، وهذا مخالف لعمومات الشرع. فهل ستقرأ سراً أم جهراً؟ فإن قرأت جهراً فمشكل، وإن قرأت سراً تركت السنة، فالأولى كما قال الآخرون: أخروهن حيث أخرهن الله. وعلى هذا لا تؤم المرأة رجلاً، وإذا كان زوجها، وهي متعلمة وقارئة، وهو غير قارئ فإنها لا تؤمه؛ تؤمنه، فركوعها وسجودها في الصلاة أمامه ربما شغله وأفسد عليه صلاته. المرأة لا تؤم الرجل، وما قيل من جواز ذلك فهو خارج عن نطاق مذاهب الأئمة الأربعة، ويكفينا ما عليه أئمة المذاهب رحمهم الله.

إمامة الأعرابي بالمهاجر

إمامة الأعرابي بالمهاجر قال: (ولا أعرابي مهاجراً) الأعرابي: واحد الأعراب، و (الأعراب) مرادف البادية والبوادي، والبدوي: هو من تبدى في الخلاء، والأعراب يقابلهم الحضر، فإذا كان شخص أعرابياً -أي: يعيش مع الأعراب في الخلاء بعيداً عن المدن- وحياته حياة الأعراب مع الإبل والغنم في المرعى، وعلى تلك الحياة المعروفة. فإذا كان هناك حضري وأعرابي فهل يؤم الأعرابي الحضري؟ الحديث هنا -وإن كان سنده ضعيف جداً معناه العام يؤخذ منه أن الغالب على حالة الأعراب أنهم غير فقهاء في الدين، قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] ، فالغالب على الأعراب عدم الفقه في الدين، وعدم معرفة أحكام الصلاة، والغالب على المدني الذي يعيش في المدن أن يفهم ويحفظ، وإن لم يفهم ويحفظ فسيرى وينظر ويأخذ من الناس. فالحضري أسرع إلى فقه الإسلام، وأسرع إلى معرفة أحكام الصلاة من الأعرابي. وهناك قصة تعطي صورة عن بعض الأعراب، وتحمل طلبة العلم ثقل مسئولية تعليم الناس، خاصة الأعراب والبوادي، وأعجب كل العجب -ولا ينتهي العجب- من أولئك الأشخاص الذين يتبعون بعض الجماعات، ويسافرون خارج بلادهم، ويسافرون مئات الأميال، ويقولون: ندعو الناس إلى الله وبجوارهم أهلهم وبنوا جلدتهم -وقد يكونون من أقرب الناس إليهم نسباً- في البادية يجهلون أحكام الصلاة. فكيف نذهب إلى الأقطار النائية ونتغرب ونترك أبناءنا وأهلينا وأموالنا، ونذهب باسم الدعوة إلى الله، ونترك من خلفنا أناساً من بني جلدتنا يجهلون أحكام دينهم؟! وفي مرة كنا في الرياض في أحد النوادي، وكان هناك برنامج سؤال وجواب، وكان هناك تحفز لتعلم اللغة الإنجليزية في المعهد الديني، فقال صاحب البرنامج: إن هذا التعلم له مجال آخر، وإذا فرض في الدراسة في المعاهد الدينية سيقوم على حساب الدين؛ لأن اللغة الإنجليزية لا تكفيها حصة ولا حصتان ولا أربع في الأسبوع، فنحن ندرس اللغة العربية في أربع حصص في الأسبوع، -مع أننا ننطق بها- ولا نجيدها، فإذا ما أخذنا الإنجليزية بجانب الفقه والتوحيد والحديث والتفسير ستزاحمها في الوقت، وتزاحمها في المذاكرة، ويضعف الطالب في تحصيل العلوم الدينية، وليكن ذلك في العطلة، ويكون الطالب مخيراً، فقالوا: نريد أن نتعلم اللغة لندعو بها غير المسلمين. وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى علينا وعليه حاضراً، فقدم توجيهات رحمة الله تعالى علينا وعليه. ومن أحسن ما قدم تعليماً للأساتذة لا للطلاب أن قال: وقد ألقى شخص قصيدة يهجو فيها حالقي اللحى -ليس هذا بأسلوب حسن في الدعوة إلى الله، هذا تشهير وليس دعوة، إنما الدعوة تكون سراً، وتكون بالمعروف، لا جهراً، فكان عليه أن يأتي إلى الأشخاص المعنيين، وأن يخاطبهم فيما بينه وبينهم. فتعلم الأساتذة كيف يدعون إلى الله غيرهم، ثم قال: سمعنا بأن بعض الطلاب يريدون أن يتعلموا الإنجليزية من أجل الدعوة إلى الله بهذه اللغة خارج البلاد، وهذا أمر عجيب، فهل اكتفينا بتعليم أنفسنا ومن ينطق بلغتنا؟ وقال: هذه البوادي، وهؤلاء الأعراب، وهذه الدويلات من حولنا هل عممنا الدعوة فيها وانتهينا من تعليم أهلها دين الإسلام والعقيدة والفقه، حتى ننتقل إلى من لم ينطق باللغة العربية لنعلمه؟! ونحن الآن نقول: إن من الأعراب من هو في حاجة إلى تعليم سورة الفاتحة، وقد حدث أن كنا في الأحساء، فدعانا إبراهيم المهنا -رحمة الله تعالى علينا وعليه- لشرب الشاي بعد العصر في بستانه، ثم صلينا المغرب في مسجده، وكان المسجد على الطريق، فصلى بنا مدرس التجويد وهو قارئ متقن، وانتهينا من الصلاة، والمستعجل صلى النافلة ومضى إلى محل الضيافة، ولفت نظري مجيء أربعة من البادية، يحمل كل واحد حاجته على كتفه، فجاءوا بسرعة وبحركة سريعة، فألقوا أمتعتهم في مؤخرة المسجد، وتقدم واحد منهم يصلي بهم، ففرحت لحرص هؤلاء الأعراب على أداء الصلاة جماعة في المسجد، فقد قدموا واحداً منهم يصلي بهم، وهذا شيء حسن، فجعلت أنظر، فقرأ الفاتحة وأخل فيها إخلالاً شديداً، وبعد الفاتحة قرأ بهذا اللفظ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون والله عابد، والله غفور رحيم) . فهذا شيء يبكي، فأخذتني الحسرة في نفسي، وقلت: منذ كم يصلي هذا بهذه القراءة؟ وهذا إمامهم فكيف بغيره؟! فلما انتظرت فطن، وكان فطناً ذكياً جداً، ثم قام في الركعة الثانية، وقرأ الفاتحة و (قل هو الله أحد) ، أحسن من الأولى، فلما سلّم -وكان بيني وبينه حوالي عشرة أمتار- قال: أعلمني هل رأيت شيئاً مريباً؟ قلت له: إي والله لقد رأيت شيئاً مريباً. قال: وما هو؟ قلت: اقرأ. فجاء هو وأصحابه وجلسوا، فقلت: ماذا قرأت في الصلاة؟ قال: الحمد، قلت: اقرأها، فقرأها فعدلت له بعضاً منها. قلت: والتي بعدها، قال: الكافرون. قلت: اقرأها، فقرأها كما قرأها في الصلاة. قلت: على رسلك هات يدك، وعقد بأصابعه فقرأ: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ثم قال: والله غفور. قلت له: قف. ليست هذه فيها، فهذه في سورة ثانية وليست في هذه، وهذه فيها: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، قال: (والله غفور رحيم) أين؟ قلت له: في سورة أخرى. قال: أعطنيها. فقرأت عليه سورة الكافرون. قال: أعدها فرددتها عليه مرة أخرى فقال: خذها. فقرأها كما سمعها، قال: أعطنا سورة أخرى. فقرأت عليه: (قل هو الله أحد) ، فقال: هي عندي قلت: اقرأها. فقرأها، فقلت له: خذها، فأعدتها عليه، وأعادها هو مرة أخرى، قال: أعطني سورة أخرى ثم فأعطيته من قصار السور، فقال: أعدها. فأعدتها عليه، فأخذها كما سمعها، فقلت: واحدة. قال: لا يكفيني قلت: صدقت، إذا رجعت إلى بلدكم فابحث عن إمامكم أو قارئكم، واجعله يقرأ عليك وتسمع منه ويعلمك. فإذا كان هذا يوجد في أطراف المدن فما بالك بمن لا يأتي المدن! وقد سمعنا في (جبل رضوة) ما هو أكثر من ذلك. فالأعراب في حاجة إلى من يعلمهم الدين، فإذا كان في الناس شباب متحمس، وعنده استطاعة، ومستعد أن يذهب ليعلم ويدعو إلى الله فهذا أمر طيب، وليبدأ بأولئك الذين هم أولى بهذه الدعوة من غيرهم؛ لأن جارك أولى بك. فقوله: (لا يؤمن أعرابي مهاجراً -أو حضرياً كما في بعض الروايات-) ؛ لأن الغالب على المهاجر -وقد هاجر إلى لله ورسوله- الفقه في دينه، وهكذا الحضري الغالب عليه أنه يفقه دينه أكثر من الأعرابي. قال: (ولا فاجر مؤمناً) ، أي: يؤم فاجر مؤمناً وقابل الفاجر بالمؤمن، ولم يقابله بالمسلم؛ لأن الفاجر مسلم من عموم المسلمين استسلم لأمر الله، ولكنه التزم بالأعمال الظاهرة، وتكاليف الإسلام كلها أعمال ظاهرة، فالنطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم، ورحلة الحج، كل هذه أعمال ظاهرة يراها الناس، أما الإيمان فهو بين العبد وربه؛ لأنه اعتقاد في القلب. فالحديث يقابل بين الفاجر والمؤمن، وبإجماع المسلمين أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والمراتب ثلاث، كما في الحديث: (أخبرني عن الإسلام -أخبرني عن الإيمان- أخبرني عن الإحسان) ، فالإيمان درجة وسط بين الإسلام الذي هو أعمال ظاهرة، وبين الإحسان الذي هو إتقان العمل فيما بين العبد وربه في جميع حالاته، كما في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .

الصلاة خلف السلطان الفاجر ومن نصبه إماما وهو فاجر

الصلاة خلف السلطان الفاجر ومن نصبه إماماً وهو فاجر إذا جئنا لمعنى (الفاجر) ، فنقول: سمي الصبح فجراً لأن ضوء النهار ينفجر من بين ظلمة الليل، وقال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12] ، فكذلك الفاجر، كأنه يخرج من خفي الأمر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وقالوا: هو المصر، أو الملازم، أو المجاهر بالكبائر والعصيان وعدم التوبة. فإذا كان الشخص بهذه المثابة فهل نقدمه وافداً لنا بين يدي الله فإذا رده ردنا معه؟ فلا ينبغي لمثل هذا أن يؤم غيره من المؤمنين، ولو كان أقرأهم وأفقههم، فلا يؤمّن مؤمناً أي: سليماً من هذه الصفة، ولكن لو كان إماماً راتباً، أو كان سلطاناً والياً، وله حق السلطة، وله حق الإمامة وبالقوة، ماذا يفعل الناس؟ أيصلون خلفه سمعاً وطاعة، أم يتركون الصلاة خلفه ليقع العصيان وشق العصا؟ والجواب: يصلون خلفه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أبا ذر! إنه سيكون عليكم أئمة يميتون الصلاة -وفي بعض الروايات: يؤخرون الصلاة- فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة) . فإذا كان هناك سلطان جائر -عياذاً بالله- وألزم الناس بالصلاة خلفه، أو ألزم الناس بإمام، وإن امتنعوا عن الصلاة خلفه قد تقع فتن فإنه يصلي خلفه، وقد عاصرنا ذلك في بعض دول أفريقيا حينما امتنعت السلطة عن إقامة إمام فقيه عالم حر الكلمة والاتجاه، وجاءوا بشخص إمعة، كلما طلب منه شيء نسبي، وهذا أحب إليهم، وألزموا الناس بصلاة الجماعة والجمعة خلفه، وقد حوصر المسجد بالمصفحات والدبابات لإقامة الصلاة بالقوة، مع أنه لا يجوز أن تصل الأمور إلى هذا الحد. وقد قال بعض العامة: نعطيهم صلاتهم، ونعطي ربنا صلاته في أول الوقت. فإذا ابتلي الناس بمثل هذا ولا يمكن تغييره، وكان الخيار بين أحد أمرين: إما أن يصلى خلفه طاعة، وإما أن تقع الفتنة، وما أضر على المسلمين من الحروب الداخلية، والفتنة بين الراعي والرعية، أو بين بعض الطوائف، وهذا كله بعيد عن تعاليم الإسلام. قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا الصلاة لوقتها) ، لأنكم أمرتم بذلك، فإذا جاء إمامكم وصلى، وحضرتم فصلوا معه، وقد جاء في الأثر: (صلوا خلف كل بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر) ، فإذا مات فاجر أنقول هذا فاجر لا نصلي عليه ولا نجهزه؟ بل نجهزه ونصلي عليه؛ لأنه له حقاً علينا في ذلك، وكذلك إذا أمّ فيجوز أن نصلي وراءه. ويقول بعض العلماء: لقد ثبت عن العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم خلف أمراء السوء أو أمراء الظلم، ولا حاجة لتسمية أحد في هذا المقام. فلا يؤمَّنَّ فاجر مؤمناً، والنصوص العامة تؤيد هذا، ولكن بشرط ألا يكون إماماً راتباً ولاه ولي المسلمين، وألا يكون هو بنفسه الوالي والسلطان، لئلا تكون فتنة.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [6]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [6] إن إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها من المظاهر التي حث الشارع عليها، وهي رمز لوحدة المسلمين في الأمر كله، ثم إن الصفوف الأولى لها فضل ومزيد شرف على التي تليها. أما موضع المأموم من الإمام فإن كان واحداً فعلى يمينه؛ قيل: محاذياً له. وقيل: متأخراً عنه قليلاً. وأما إذا كانوا أكثر فإنهم يقفون خلف الإمام، وعليهم أن يتراصوا وأن يسدوا الفرج. وإذا اختلفت أصناف المأمومين بأن كانوا رجالاً وأطفالاً ونساءً، فليصف الرجال، ثم الأطفال، ثم النساء من ورائهم.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

موقف المأموم من الإمام

موقف المأموم من الإمام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق) ، رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] . انتهى المؤلف رحمه الله من أحكام الإمام، ثم جاء بما يتعلق بالمأمومين، وبين موقفهم من الإمام، وأين يكون، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات. ويتفق العلماء على قضية، وهي أن المأموم إما أن يكون واحداً، وإما أن يكونا اثنين، وإما أن يكونوا ثلاثة فأكثر. وهذا تقسيم عقلي، فإذا كان المأموم واحداً فلا يقال: (رصّوا) ، إلا أنه بالنسبة لإمامه كيف يكون موقفه من الإمام؟ فمن الجهة -والجهات أربع: يمين، ويسار، وأمام، وخلف- اتفقوا على أنه لا تصح صلاة المنفرد أمام الإمام، ولا جماعة أمام الإمام لغير عذر، وكذلك لا تصح صلاة المنفرد عن يسار الإمام، فإذا كان الأمر كذلك فالأمام واليسار لا تصح الصلاة فيه، وبقي الخلف واليمين. قالوا: لا يصف الواحد خلف الإمام كما لو كان صفاً كاملاً، وإنما يقف عن يمين الإمام. فالمنفرد موقفه عن يمين الإمام، وقد جاءت به السنة، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وسيأتي- قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي، فقمت فتوضأت وقمت عن يساره، فأخذ بأذني وفتلني من وراء ظهره، وأوقفني عن يمينه) ، فهذا موقف المأموم المنفرد. وبقي التدقيق في موقفه عن اليمين، فقد يكون واقفاً عن اليمين لكن على بعد ذراع، أو يكون عن اليمين وهو متقدم شبراً، أو يكون عن اليمين وهو متأخر شبراً، فأين يكون تماماً؟ منهم من قال: يقف محاذياً له، كما لو كان اثنان في الصف، والآخرون قالوا: لا يستويان. فينبغي على المنفرد أن يكون متأخراً عن الإمام بالحد الذي لو رآه الرائي لعرف المتقدم من المتأخر، أي: لو تأخر عنه قدر أصابع يد كان ذلك كافياً، ولا يكون محاذياً محاذاة كاملة كما لو كانوا جماعة في صف واحد، بل يكون متأخراً قليلاً. فهذا موقف الواحد. فإذا كانا اثنين فالجمهور على موقفهما خلف الإمام وراء ظهره، وهو أمامهما، ويروى عن ابن مسعود أو عن غيره أنهما إذا كانا اثنين فواحد يقف عن يمينه وواحد يقف عن يساره مع التأخر القليل، ولكن سيأتي حديث جابر وجبار حين كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال جابر: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي) ، وجاء في الحديث: (ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدنا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه) . فهذان اثنان، وموقفهما خلف الإمام. وعلى هذا فإذا كان المأمومون اثنين فأكثر فموقفهم عند الجمهور خلف الإمام.

التراص في الصف معناه وكيفيته

التراص في الصف معناه وكيفيته إذا كانوا جماعة في مسجد كبير وفي عدة صفوف، أو في صف واحد فعليهم أن يتراصوا كما جاء في هذا الحديث: (رصوا صفوفكم) ، والرص: هو الوقوف بالمساواة والمحاذاة. فالرصّ بمعنى الجمع، تقول: رصه. أي: شد عليه. بمعنى: شد الحبل عليه شداً، فالتشديد في الحرف يدل على الشدة في المادة، مثل: عضّ، شدّ، مدّ، حدّ إلى آخره. فقوله: (رصوا صفوفكم) يعني: لا تجعلوا بينها خللاً، ولتكن متراصة متلاصقة. وأيضاً من معاني الرص: الاعتدال؛ لأنه لو وقف واحد متقدماً، وواحد متأخراً فلا رص، ولا يتأتى الرص إلا عند المساواة والاعتدال. قال: (وقاربوا بينها) ، قوله: (بينها) هل المقصود به في الأفراد أو الصفوف؟ في الصفوف. وتقدم في الحديث: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، وهنا قال: (وقاربوا بينها) ، وتقدم هناك حد التقارب بين الصفوف، وحده ما يقوله العلماء في حد السترة، فبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من كعب القدم، وبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من أطراف الأصابع، بحيث لا يتسع الفراغ لصف آخر بين الصفين، لا أن يكون بين الصف والصف ما يسع صفين وثلاثة. ونجد الشارح هنا يتألم ويتوجع، فيقول: إن بعض المساجد تكون فيها الجماعة، فإذا أقيمت الصلاة فإنك تجدهم أوزاعاً في عدة صفوف، ولو اجتمعوا فلن يكملوا صفاً واحداً، وسيأتي التنبيه على هذا. فقوله: (قاربوا بينها) أي: لا تجعلوا بينها تباعداً، وكما تقدم ألا تزيد المسافة بين الصف والصف، على ما يكون بين المصلي وسترته للصلاة. قال: (وحاذوا بالأعناق) ، الأعناق: جمع عنق، وهو: الرقبة. وتكون المحاذاة بالأعناق في الصف بأن لا يتقدم إنسان ماداً رقبته بالتقدم ولا يتأخر. وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا قاموا في الصف حاذوا، يقول أنس: (كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه) ، فإذا كان الأمر كذلك فهذه حقيقة الرص والمحاذاة. ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفراج في الصف، وهو يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يفرج قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف إلصاق قدمه بقدم من بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فرجة في نفسه هو ما بين قدميه. فحقيقة المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف أن أسرع ما كان يتآكل من فمصهم الكتف لكثرة احتكاك مناكبهم في الصلاة. وهذه ناحية سيأتي التنبيه على خلافها أو ضدها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يقف بجوارك ويلتصق بك وتلتصق به إلا إذا كان بينك وبينه ألفة، أما شخص تنفر منه، أو ينفر منك فقلّ أن يلتصق بك، بل ربما تباعد، وربما جاء بشخص ليقيمه بينك وبينه؛ لأن القلوب متنافرة، أما مع صفاء القلب، ومع طيب النفس وعدم وجود أي موانع أخرى ستجد الإنسان يستريح حينما يأتي إنسان يلصق نفسه به ليكمل الصف ويسد الفرج، وسيأتي التنبيه على مثالب عدم المساواة، وعدم الرص الذي نبه عليه صلى الله عليه وسلم.

الأفضل في صفوف الرجال والنساء

الأفضل في صفوف الرجال والنساء قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم] . لاحظ الترتيب البديع، فبعدما بين حكم الصف في المساواة والتراص انتقل إلى الصفوف وأحكامها، والمفاضلة بينها وبين بعضها، فذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال) ، أي حينما تكون صفوف الرجال متعددة. فالحديث الأول إذا كان صفاً واحداً، وأيضاً في كل صف من الصفوف عليهم أن يتراصوا وأن يساووا الأعناق فيما بينهم. والصفوف تكون قسمين: صفوف للرجال، وصفوف للنساء، فخير صفوف الرجال أوائلها، والأول يبدأ من أول المسجد من عند الإمام، فالأول هو الذي يلي الإمام، وشر صفوف الرجال أواخرها، والعكس مع النساء، ويلاحظ هنا أن لفظة (خير) هي أفعل تفضيل، ومعناها: اجتمع الخير في الجميع وزاد الأول بزيادة في الخيرية. فكل الصفوف فيها خير. فالخيرية ثابتة للجميع، ويأتي في مقابل هذا: (شر صفوف الرجال آخرها) فالأول أثبت الخير للجميع، وهنا أثبت الشر للجميع، ولا يمكن أن يثبت الخير والشر لشيء واحد في وقت واحد، فهذا يسمونه التناقض؛ لأن الخير نقيض الشر، فكيف تجمع وصفين متناقضين؟ قالوا: هذا من باب التفضيل، ومن باب الترغيب، وليس الشر هنا على حقيقته، والحكم حقيقته في الوصف الأول، لأن الصفوف كلها فيها خير، إلا أن الأول أفضل.

العلة في تفضيل الصفوف الأولى للرجال

العلة في تفضيل الصفوف الأولى للرجال لكن لو جئنا إلى الدرجات، وإلى المقابلة، وإلى الثواب فالمتأخر فاته شيءٌ كثير، ثم قالوا: ولماذا كان خير الصفوف أوائلها؟ قالوا: لأن الإمام أفضل من المأموم من حيث الجملة، وبما أن الإمام أفضل من المأموم. فمن يلي الإمام أفضل ممن يلي المأموم؛ لأن الصف الأول يقتدي به الثاني، والثاني يقتدي به الثالث، ثم جاءت النصوص: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الصف الأول المقدم ثلاثاً، وعلى الثاني مرة) وأيضاً هناك تفضيل ميامن الصفوف، فهناك مفاضلة، وإن كانت صلاة واحدة. والذين يصلون في الصف الأول يأتون في أول الوقت، فهم يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) ، وكلما سبق إلى المسجد كلما كان أفضل. لكن لا يتأخر ثم يأتي يتخطى الرقاب من أجل أن يصل إلى الصف الأول لينال الخيرية؛ لأنه بهذا إنما يريد أن يصل إلى الخيرية على أشلاء الفضائل بإهانته للمصلين الذين يتخطى رقابهم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة قال: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) من الأين، وهو الوقت، أي: جئت متأخراً فآذيت، فإذا أردت الصف الأول فاحضر مبكراً. ولهذا كان الصف الأول خيراً من المتأخر، كما أن الأتبع للإمام من الصفين الصف الأول؛ لأنه يليه مباشرة، وإذا حدث للإمام حدث فالصف الأول أولى به. فأهل الصف الأول يتابعون الإمام بالصوت وبالرؤية، وهم الذين ينقلون عن الإمام، أو يساعدون الإمام، وإذا حدث أي شيءٍ للإمام فهم أولى به، وسيأتي زيادة إيضاح ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) . أما النساء فعلى العكس من ذلك، قال: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، وهنا تعليل عملي، قالوا: لأن أول صفوف النساء يلي آخر صفوف الرجال، فتكون النسوة قريبات من الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان خيراً لها ولو كان في الصلاة، ولهذا كانت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد.

موقف المأموم الواحد من الإمام

موقف المأموم الواحد من الإمام قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) متفق عليه] . حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أورده المؤلف مختصراً، ولكن الحديث بتمامه فيه صورة تبين الفطرة والذكاء، أو حُسن النشأة، فحينما ينشأ الإنسان في بيت كهذا البيت فإنه يكون الناشئ فيه كما جاء في الحديث: (شاب نشأ في عبادة الله) ، والشاب الذي نشأ في عباد الله سيجد عبادة الله أول ما يكون في البيت، فيتلقى العبادة والأخلاق والتوجيه أولاً وقبل كل شيء في البيت. فـ ابن عباس كان غلاماً صغيراً، وذهب إلى بيت خالته ميمونة، وبات عندها، ويقول في بعض الروايات: (فنمت في عرض الوسادة) ، وعرضها يمكن أن يبلغ شبراً أو أكثر أو أقل، ونحن نسميه رأس المخدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين ميمونة توسدا طول الوسادة متجاورين، وابن عباس توسد رأس الوسادة أو عرض الوسادة. ولا تقل لي كيف يبيت غلام عند زوج وزوجته؟! لأنها خالته، وأيضاً هو غلام، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين. فلما كان ثلث الليل أو جزء من الليل قام صلى الله عليه وسلم وذكر الله وسبح، ثم قام إلى بيت الخلاء، فلما دخل الخلاء قام ابن عباس وأخذ أداوة من ماء وملأها من القربة ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج صلى الله عليه وسلم وجد الأداوة مملوءة فقال: (من وضع هذا؟) قالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فلم يقل: اللهم كبره وأغنه وسوده، وزوجه. لأن ابن عباس أبدى نوعاً من الفقه والاستنتاج، وهذه هي المواقف التي تدل على الذكاء والفطنة، لا تلك المسابقات التي تعجز، ولا تلك الأحداث التاريخية، ففي هذه الحالة غلام لم يبلغ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، والذي دخل الخلاء إذا خرج يريد أن يتوضأ، فاستنتج الحاجة إلى الماء. فالاجتهاد والاستنتاج يكون عقلياً ويكون دينياً، فهو استنتج بفكره، وأرشده الله سبحانه وتعالى، وأنار بصيرته فجهز الماء حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الفقه، فكانت الدعوة مطابقة له، (فقهه في الدين) يعني زده فقهاً في الدين. وفي هذا دلالة على أن أشرف العلوم الدينية هو الفقه في الدين. فلو أن إنساناً حفظ مجموع السنة: صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والجامع الصغير والكبير، والموطأ، وغير ذلك، ولكن المسجلة دون أن يفقه شيئاً، وإنسان قرأ بلوغ المرام فقط، وفقه في دين الله، فأيهما أنفع للأمة؟ يذكرون عن بعض شيوخ الأزهر أنه جيء إليه برجل، وقيل له: هذا الرجل حفظ صحيح البخاري. قال: وشروحه؟ قالوا: ليس بعد. قال: زادت نسخة في المكتبة. وقد روي علي قوله: نحن في حاجة إلى من يعرب القرآن أكثر ممن يقرأ بدون إعراب. فالفقه في الدين هو الأساس، و (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) . ولكن الفقه لم يأت من ضرع الناقة، ولا من ضرع الشاة، ولا هو صيد من البحر، ولا هو طير في الهواء، الفقه مجموعة علوم، ولا يمكن لإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيها، من أحاديث الأحكام، وآيات الأحكام، وليس من الضروري أن يحفظ الأحاديث كلها أو القرآن كله، ولكن المهم أن يحفظ الآيات التي تعرضت للأحكام، فالقرآن منه ما يتناول القصص التي فيها العظة والعبرة، ومنه ما يتناول الأحكام، سواء في الدماء، أم في الفروج، أم في الأموال. وبعد أن يحفظ الإنسان آيات الأحكام وأحاديث الأحكام عيه أن يكون بارعاً متضلعاً في اللغة العربية؛ لأنها هي لسان القرآن ولسان السنة، وكيف تفقه معاني كتاب إن لم تفقه لغته! ويذكرون عن الملك فيصل رحمه الله أنه كان له صديق مستشرق، فكان يذكر له دائماً إعجاز القرآن وآياته وبلاغته فلما أكثر عليه رجع هذا المستشرق إلى القرآن، ثم بعد فترة لقيه فقال: ما وجدت كل الذي كنت تقوله لي في القرآن! قال له: كيف قرأته؟ قال: بالترجمة، قال: ما قرأته، فإذا أردت أن تدرك بلاغته، وتدرك حلاوة أسلوبه وعباراته فعليك أن تقرأه بلغته التي نزل بها. فرجع الرجل وأمعن في دراسة العربية، ثم جاء وقال: يا فيصل! ما أعطيت القرآن حقه، هو فوق ما كنت تقول. فمن أهم أدوات الفقيه تعلم العربية. فمن أراد الفقه تعلم اللغة، ثم تعلم أصول الأحكام من أحاديث وآيات، ثم تعلم أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي تلك القواعد التي عليها بني الفقه، وتؤخذ عن عالم سبق له أن أخذ عن غيره وهكذا. ولعلنا أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأنا نجد بعض الناس قد يستخف بدروس الفقه، أو لا يعنى بها، أو يقدم عليها الكثير من العلوم، وهذا خطأ. وكنا نسمع من شيخنا الشيخ محمد بن تركي رحمة الله تعالى علينا وعليه حيث قرأنا عليه فقه الحنابلة، وقرأنا عليه صحيح البخاري يقول: قبل كل شيء تبدأ بالفقه، ثم تقرأ الحديث ليكون تطبيقاً لقواعد الفقه على الحديث، والفقه يفصل الحديث أكثر مما يكون. ولهذا تجد في شروح الحديث قولهم: وهذه مسألة فرعية محلها كتب الفروع أي أن الفقهاء فصلوا في هذه المسألة أكثر مما يفصله أهل الحديث. والشافعي في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) قال: استنتجت من هذا الحديث أربعين مسألة. ولا يوجد في شروح الحديث ما يعادل هذه الثروة الفقهية من مثل هذه الألفاظ القلائل. فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أعطاه الله ملكة في الفقه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة فيها، فقال: (اللهم فقهه في الدين) ، وعرفنا أن أكبر منزلة وأعظم عطاء يناله المرء أن يفقه في دينه. ولقد جئت إلى والدنا الشيخ الأمين في المسجد النبوي، وقلت له: يا شيخ! أراك منذ أن بدأت التدريس في المدينة وفي الرياض وفي الجامعة اقتصرت على فنين فقط، مع أني أعرف أن لديك من الفنون كذا وكذا وكذا، وأنت تقتصر على التفسير وأصول الفقه؟ قال: ما سبب هذا السؤال؟ قلت له: هناك سبب، وهو أني قرأت عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سُئل: أنت في زمن جمع الرواية والحديث، وفي زمن الخوض في مسائل الكلام والتوحيد، ولم نر لك مشاركة في جمع الحديث وروايته، ولا في جدل الكلام والمنطق، واقتصرت على الفقه! قال: نعم. أما مسائل العقائد فليست للعامة كما هي للخاصة، ولن تسلم من إنسان يرميك فيها بالزندقة، فلذلك تركنا الخوض فيها، وأما رواية الحديث فلها نقاد للرجال، ولن تسلم من إنسان -عامداً أو مخطئاً- أن يرميك بعلة من العلل التي يسقط بها الحديث فتلصق بك طول العمر، والرواة مشتهرون، والحديث مروي ومجموع، ورجاله متوافرون، أما الفقه فنظرت فإذا الناس عامة إمامهم، وكبيرهم، وصغيرهم، ورجالهم، ونسائهم، وغنيهم، وفقيرهم يحتاجون إلى الفقه فاشتغلت به لخدمة الناس. فقال الشيخ الأمين: كلامه صحيح. أما أنا فنظرت فإذا في الحديث مجهود مزدوج، فتبحث عن الرجال وتوثق السند أولاً، ثم ترجع إلى المتن وتستنبط المعاني ثانياً، فهذا مجهود مزدوج. وأما التوحيد فليس من العقل أن تثير القضايا العقائدية التي قد تورث شبهاً عند عامة الناس فتهلكهم، وإنما تأتي في المناسبات، أو في البحث العلمي للتحقيق، وأما علوم العربية فهي وسيلة وليست غاية. وأما التفسير فإنه يأتي على الفقه في آيات الأحكام، ويأتي على العقيدة في آيات العقائد، ويأتي على المواعظ والزواجر في آيات قصص الأمم الماضية، وكل علم موجود الآن، مسطر عند العلماء فالتفسير يحتويه، وأما الفقه فإنك تجد -خاصة هنا- الفقه المقارن، فما تجد جماعة إلا وفيهم شافعي ومالكي وحنبلي وحنفي، وكل يريد مذهبه، وإذا أردت تحقيق مسألة فإنك تبذل جهداً رباعياً لكل مذهب جهد حتى تصل إلى نتيجة، فإن تركتها وجئت إليها بعد فترة احتجت إلى العودة إلى ذاك الاجتهاد مرة أخرى. ولكن التفسير يجيء على جميع المعاني، وما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها. قلت: ما دمت بهذه المثابة، وعندك كل ما قيل في آيات كتاب الله من خلاف ونزاع ووفاق فهذا نعمة كبرى، وهذه ما تحتاج معها إلى غيرها. ثم قلت: والأصول؟ قال: أما الأصول فلا غنى لطالب علم عنه؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء. ونحن إنما ننبه على هذا لزيادة التأكيد على دراسة الفقه، وأحب لكل طالب علم قبل أن يأخذ كتاباً في الحديث أن يأخذ كتاباً من أمهات الفقه أياً كان، كالمغني لـ ابن قدامة، والمجموع للنووي، والهداية للأحناف، أو غير ذلك، ويأخذ دقائق المسائل فيه ثم يأتي إلى كتب الحديث. فالفقه مقدم، والحديث أدلته، فإذا جاء للخلاف أو للمقارنة فهذه مرحلة أخرى تزيد على مجرد الطلب، والله تعالى أعلم.

اختلاف أصناف المأمومين وموقفهم من الإمام

اختلاف أصناف المأمومين وموقفهم من الإمام قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا) متفق عليه، واللفظ للبخاري] . حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا فيه قصة صغيرة، وهي أن أم سليم دعت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها -ومنازل بني سليم عند مسجد القبلتين- فأتى إليها وصنعت له طعاماً، وبعد أن تناول الطعام طلبوا منه أن يصلي لهم في البيت ليتخذوه مصلى، فقام أنس إلى حصير قد اسود من طول ما لبس ونضحه بالماء، وفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يصلي، وصلى بصلاته أنس واليتيم وأم سليم فكيف كان اصطفافهم؟ يبين لنا المؤلف رحمه الله إذا كان المأمومون رجالاً وصبياناً ونساءً كيف تكون الصفوف. يقول أنس: (فقمت أنا ويتيم) ، واليتيم: هو من مات أبوه قبل البلوغ، ويقولون: اليتيم في بني الإنسان من فقد الأب، وفي الحيوان من فقد الأم، وفي الطيور من فقد الأبوين. ويقال من جانب آخر: اليتيم من فقد من يرعاه ويكلؤه، والأب هو الذي يرعى الولد، والحيوان ترعاه أمه، فقد تكون في الإبل عشرات ومئات النياق، بينما لا يكون فيها غير فحل واحد، وإذا نتحت الناقة فهي التي ترضع، أما في الطير فالأبوان يتناوبان على العناية بالبيض حتى يخرج الفرخ، ثم يتناوبان على إطعامه. فهنا يقول أنس: (قمت أنا ويتيم) ، ولا يتم بعد البلوغ، فهو دون البلوغ، وهنا يقال: هذا أنس رجل كبير، ومعه غلام دون البلوغ، أيتم الصف أم يعتبر في كون المأمومين غير واحد، ويكون موقفهم خلف الإمام، أو لا عبرة باليتيم، ويكون الرجل عن اليمين واليتيم بجانبه؟ وجدنا هذا عملياً، فأن الصغير إذا كان مميزاً يطمئن الكبير على بقاء هذا الصغير معه في الصف، بخلاف ما إذا كان عمره سنتين أو ثلاث، فبينما هو واقف يقف بجانب أبيه وإذا به فجأة يجري ويتركه، فهذا لا يعتد به. فإذا كان مميزاً مدركاً، وسيقف ويتم الصلاة، فاعتد به، واعتبر الصف باثنين فأكثر، فيكون مكانهم خلف الإمام. وموقف المرأة وراءهم، فالمرأة وراء الرجال. لكن إذا قام زوجان يصليان فهل تقوم المرأة عن يمين زوجها أو تقف خلفه؟ والجواب: تقف خلفه، ولا تحاذيه في موقفها. قال: (فقمت أنا واليتيم) ، وفي بعض النسخ: (فقمت واليتيم) ، والمشهور في اللغة (قمت أنا واليتيم) ؛ لأن العطف على الضمير المتصل يحتاج إلى الإتيان بضمير مؤكِّد، ويكون العطف على الضمير المنفصل المؤكِّد، فالمشهور لغة: (قمت أنا واليتيم) ، فضمير (أنا) راجع إلى التاء، وهي الفاعل في الفعل قمتُ، فـ (قمت) : فعل وفاعل، والفاعل تاء المتكلم. فجاء هنا في بعض النسخ: (قمت واليتيم) ، والشارح ذكر أن هذا جائز، وهو لغة عند البصريين، فإذا وجدناها (قمت واليتيم) فهي صحيحة عربية، وإذا جاء (قمت أنا واليتيم) فهي صحيحة، وهي لغة الجمهور.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [7]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [7] إن للصلاة آداباً كثيرة، منها ما يتعلق بكيفيه أدائها، ومنها ما يتعلق بحال الذاهب لتأديتها وهيئته، وما يجب عليه أن يتصف به، ومن ذلك أن الواجب على الذاهب لتأدية الصلاة أن يتصف بالسكينة والوقار، حتى يدخل في الصلاة وهو مطمئن حاضر القلب يعي صلاته، فما أدركه من الصلاة فليصل، وما فاته فليتم، ولا يشرع له أن يركع دون الصف، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

حكم الركوع قبل الدخول في الصف

حكم الركوع قبل الدخول في الصف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري، وزاد أبو ذر فيه: (فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف) ] . أبو بكرة رضي الله تعالى عنه له قصة في تسميته بهذا الاسم، فلما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الطائف وطال الحصار تدلى هذا الصحابي الجليل -واسمه نفيع بن الحارث- من على سور الطائف على بكَرة، وهي: ناقة الإبل، أو التي يُسحب عليها الحبل، فإما أنه كانت ناقة عند السور فتدلى ونزل على ظهرها ثم نزل إلى الأرض، وإما جاء ببكرة وأدخل الحبل في البكرة وتدلى حتى نزل. فأياً كان سبب التسمية فيهمنا فيما فعل وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منه. يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أتيت المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكعاً، فخشيت أن يرفع رأسه فتفوتني الركعة، فركعت قبل أن أصل إلى الصف، ثم دببت حتى دخلت فيه. فصورة ما حدث أنه لما دخل المسجد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً خاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع، وفتفوته الركعة، فركع ودب ماشياً حتى دخل في الصف. فالذي فات أبا بكرة من الركعة تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة. أما تكبيرة الإحرام فعلى المسبوق في مثل صورة أبي بكرة أن يأتي بتكبيرة الإحرام قبل أن يهوي راكعاً، ويتعين عليه ذلك، وإذا كان قد ضاق الوقت عليه فهي تكفيه عن تكبيرة الانتقال من القيام إلى الركوع. فحين يكون الإنسان قائماً ويريد أن يركع يكبر تكبيرة ثانية بعد تكبيرة الإحرام، فإذا جاء والوقت ضيق، وكبر تكبيرة الإحرام وركع فإن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الانتقال، لكن إذا كبر ونوى بها تكبيرة الركوع لم تنعقد صلاته. فعلى المسبوق في مثل ذلك أن يأتي بتكبيرة الإحرام وهو قائم وصدره إلى القبلة، أو -كما يقال- ووجهه إلى القبلة. وبعد أن يأتي بالتكبيرة يكون قد أدرك تكبيرة الإحرام، ثم بعد تكبيرة الإحرام وقبل الركوع قراءة الفاتحة، وهذا ركع ولم يقرأ، فتدارك تكبيرة الإحرام قبل أن يدخل في الصلاة، وهذا فعله واجتهاده. وبعدما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد) . والنبي صلى الله عليه وسلم أحس بالدبيب، فسأل: من الذي فعل ذلك؟ قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (زادك الله حرصاً) ، فالحامل له على هذا الحرص على إدراك الركعة، فمن الممكن أن تكون ركعة ثانية أو ثالثة أو رابعة في الصلاة، لكنه حريص على أن يدرك هذه الركعة. فأقره على حرصه، لكن سيأتي في المجيء إلى الصلاة قوله: (. وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .

خلاف العلماء في قوله: (ولا تعد)

خلاف العلماء في قوله: (ولا تعُد) وقوله: (تَعُد) : نبهنا سابقاً أنها يمكن أن تكون (تَعُد) من العودة لمثل ذلك، ويمكن أن تكون (تُعِد) ، والفرق الفتحة والضمة، و (تُعِد) من الإعادة. فيكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تُعِد الصلاة أوزادك الله حرصاً ولا تعد لمثل تلك الصورة. ويمكن أن يكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تَعْدُ، من العَدْو والجري. والكلمة في التصريح صالحة لهذا كله؛ لأن: (عاد، يعود) من العود، فهو أجوف معتل العين بالواو، (عَوَد) ، والمعتل الأجوف إذا دخل عليه الجازم سقطت عينه، كقال. يقول. لم تقل، وباع. يبيع. لم يبع، فسقطت العين، ولسكون الحرف الأخير، فتكون: (زادك الله حرصاً ولا تَعُد) . (ولا تُعِد) من أعاد يعيد، فهو أيضاً أجوف معتل بالياء، فتسقط عين الكلمة بالجزم، ويكون صالحاً لمعنى الإعادة. وأما (لا تَعْدُ) من (عَدَوَ) وحرف العلة هنا اللام؛ لأن فاء الكلمة هي العين، والدال هي عين الكلمة، والواو هي لام الكلمة، فهو معتل الآخر بالواو ناقص واوي كما يقولون، والقاعدة أن الناقص الواوي إذا دخل عليه جازم كانت علامة جزمه حذف حرف العلة، مثال ذلك: (لم يسع) ، (لم يدع) ، فتحذف (الألف) من (سعى) ، و (الواو) من (يدعو) . وهنا كذلك: يعدو، فلام الكلمة حرف علة، والقاعدة النحوية أن الفعل المعتل الآخر يجزم وعلامة جزمه حرف العلة. فالكلمة من حيث هي في رسمها تُرسم بالياء، أو بالتاء، فما الذي سقط منها، هو الواو أو الياء الذان هما عين الكلمة من العود والإعادة، أم أن الذي سقط هو الواو لام الكلمة؟ كل ذلك محتمل. ونرجع إلى هذه الاحتمالات، فلو أخذناها على قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تَعُد) أي: لمثل ذلك قالوا: نهاه أن يعود لمثل هذا الفعل، فوقف عند هذا النهي قوم، وقالوا: نهاه أن يعود لمثل ذلك؛ لأنه بنى على إدراك الركعة، وقد فاتته الفاتحة، وهذا باطل. والآخرون قالوا: نهاه أن يعود لأن صورة الإنسان حين يدب وهو راكع تشبه صورة الحيوان وهو يمشي، وهذه صورة لا ينبغي للإنسان أن يفعلها. وآخرون قالوا: (ولا تَعْدُ) أي: من العدو؛ لأن هذا يتنافى مع الخشوع في الصلاة. والذين قالوا: (ولا تُعِد) معناه أن صلاتك اكتملت ولا تحتاج إلى إعادة قالوا للآخرين: إن كان قوله: (ولا تَعْدُ) (ولا تَعُدْ) كما قلتم لصورة مشي الحيوان أو لغيرها، فهل الصلاة صحيحة أم لا؟ إن قلتم: صحيحة فهذا الذي نريد، وإن قلتم: غير صحيحة. فهل أعادها أبو بكرة؟ والجواب: لم يعدها، وبعض الاحتمالات (ولا تُعِد) أي: لا تعد الصلاة لأنها كاملة. ومن هنا أخذوا أن المسبوق إذا جاء وأدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة، وسقطت عنه قراءة الفاتحة. ففي المساجد يأتي الإنسان مسبوقاً ويريد أن يتقدم إلى الصفوف الأُول، فإذا ركع الإمام هل يركع ويدب إلى الصف، أم أنه يمشي إلى أن يصل إلى الصف ويقوم فيه؟ الأولى أن يمشي سوياً إلى أن يصل إلى الصف ويركع، لا أن يركع دون الصف ويكون في صف منقطع عن الصفوف، ولا أن يركض من أجل أن يلحق ويدرك الإمام قبل أن يرفع، إلا في حالة واحدة يمكن أن يسرع فيها، وهي إذا خاف أن يسلم الإمام وتفوته الجماعة كلها، ففي هذا العاطفة تتحرك قليلاً، والبعض يقول: ولو فاتت الجماعة؛ لأن له أجر الجماعة ولو وجد الناس قد صلوا، وفيه ورد حديث صحيح. لكن إذا كان الأمر أوسع من ذلك فلا ينبغي الركض في المسجد، ولا الركوع قبل الصف وبينهما فرجة بعيدة، ولكن بقدر المستطاع يمشي سوياً إلى أن يأتي إلى الصف ويصلي.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف وخلاف العلماء فيه

حكم صلاة المنفرد خلف الصف وخلاف العلماء فيه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان، وله عن طلق بن علي رضي الله عنه: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، وزاد الطبراني في حديث وابصة: (ألا دخلت معهم أو اجتررت رجلاً) ] . هذا الحديث يعتبر في نظري من المشكلات، فيروي لنا وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة. وفي بعض الروايات رآه يصلي فانتظره حتى فرغ من صلاته فقال: (استقبل صلاتك؛ فلا صلاة لمنفرد خلف الصف) . فهذه نصوص صريحة أنه لا صلاة لإنسان ينفرد وحده خلف الصف، وتحت هذا تفريعات عديدة، فنأخذ أولاً الأصل في المسألة، ونأتيها من أعلى كما يقال. يرى الإمام أحمد رحمه الله أن الحديث على ظاهره، فمن صلى صلاة أوقع فيها ركعة كاملة خلف الصف فصلاته باطلة، ومعنى (ركعة كاملة) أنه لو جاء منفرداً وكبر والإمام يقرأ، وظل مع الإمام حتى سجد الإمام، وقام للركعة الثانية، يكون أكمل ركعة منفرداً، ثم جاء من يقف معه، فعند أحمد الركعة باطلة، أما إذا وقف منفرداً وقبل أن يركع الإمام جاء آخر وصف معه، فقد خرج عن كونه منفرداً. وغير أحمد -رحم الله الجميع- يقول: إن النهي هنا إنما هو للكراهة، وتصح الصلاة منفرداً خلف الصف. وكيف تفعلون في هذا النهي؟ قالوا: هذا للكراهة، والأولى أن يكون مع غيره، ثم جاؤوا بأمور عقلية واستنتاجية. أما الأمور العقلية فـ النووي يقول في المجموع: إن صحة الصلاة ثابتة عقلاً، قال: إذا جاء اثنان وموقفهما خلف الإمام، فكبر أحدهما والآخر لا زال يعدل في موقفه، فقد سبق أحدهما الآخر في تكبيرة الإحرام، ففي تلك اللحظة عقد تكبيرة الإحرام -وهي جزء من الصلاة- منفرداً والذي معه لم يكبر بعد، فيعتبر منفرداً، ولا يقول أحد بأن صلاة أحدهما باطلة. ويقولون أيضاً: قصة ابن عباس لما صلى عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم أداره من خلفه. فعند مروره خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، في جزء من الصلاة، وما بطلت لكونه خلف الإمام وحده. وهل هذا يرد على أحمد أم لا يرد عليه؟ الجواب: لا يرد عليه؛ لأن أحمد اشترط أن يقع الانفراد في ركعة كاملة، وهذه ليست بركعة. وابن عباس لما أداره رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان قبل الخطوة التي أداره عندها خلف الصف وحده؟ ولهذا أقول: إنه من الإشكالات، فالنص صريح، ولكن الأئمة الثلاثة يقولون: الصلاة صحيحة، ونحن نقول: النص صريح مع أحمد، والكثرة واضحة مع الجمهور. ويأتي بعد ذلك علاج الموقف، فإذا جاء والصفوف مكتملة، وما عنده أحد يصلي معه، فإنه يأخذ من الصف رجلاً معه، ويترتب على هذا تكليف آخر. فإذا جاء وحده والناس جلوس في التشهد فالحنابلة يقولون: لو جاء والناس في التشهد وليس من السهل أن يرجع إنسان وهو في جلسة التشهد فإنه يجلس في طرف الصف، أو في وسطه ملصقاً ركبتيه إلى ظهر الذي يليه.

المشروع في هيئة الإتيان إلى الصلاة

المشروع في هيئة الإتيان إلى الصلاة قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه واللفظ للبخاري] . هذا الحديث يشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: كيفية الإتيان إلى صلاة الجماعة، والمسألة الثانية: ماذا يفعل المسبوق فيما سُبِق به. ويقولون: إن سبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة فسمع جلبة (حركة) ، فلما سلم سأل ما هذه الحركة؟ قالوا: تعجلنا للصلاة. أي: استعجلنا لندرك الصلاة. ولعله كان في الركوع ليدركوا الركعة، أو كان في التشهد ليدركوا الصلاة قبل أن يسلم. فالمهم أنه حملهم على ذلك الحرص على إدراك الصلاة، بقصد الخير وفعل الخير، ولكن هذا اجتهاد منهم، فنبههم صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إذا سمعتم الإقامة) ، والتنصيص هنا على: (سمعتم الإقامة) ، وفي بعض الروايات: (ثوب للصلاة) ، أي: قال المقيم: حي على الصلاة حي على الفلاح. قد قامت الصلاة، قال: (فامشوا إلى الصلاة) ، والمشي: هو الانتقال بحركة طبيعية، والسعي والإسراع أشد من ذلك، قال: (وعليكم السكينة) . وفي حق الجمعة يقول تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فهل هي المقصودة بالمنهي عنه بقوله هنا: (لا تسعوا) ، (لا تسرعوا) ؟ قالوا: لا. فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) بمعنى قولك: سعيت في قضاء حاجة فلان. وسعيت في تحقيق الأمر الفلاني، يعني: أخذت بأسبابه. (فَاسْعَوْا) يعني: فخذوا بالأسباب التي كلفتم بها للحضور إلى الجمعة، فإذا سمعتَ الأذان فقم واغتسل حالاً، والبس، وأت إلى المسجد، ولا تسرع. وهنا يبين صلى الله عليه وسلم بقوله: (فامشوا) ، يعني: لا تجروا، ولا تسرعوا. فالسعي هناك هو الأخذ بالأسباب، وليس سرعة الخُطا. قال: (وعليكم السكينة والوقار) ، انظر إلى هذا السمت في حركة من حركات الإنسان في أداء حق لله، فأنت آت إلى الصلاة، وهي صلة بينك وبين الله، وكيف تكون الصلة؟! وكيف تصل نفسك بالله؟ تصل نفسك بالله وأنت في أكمل حالة من خشوع وخضوع وتذلل بين يدي رب العالمين. ومتى يتم لك ذلك؟ هل عندما تأتي إلى الصف وقد حفزك النفس فتلهث ولا تدري ما تقول، أو تأتي إلى الصف وأنت تعمل عملية حساب ربح وخسارة، وعمل ما كنت تعمل فيه؟ لا. قوله: (فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة) قالوا: السكينة: المشي بهدوء في خطوات مرتبة، وقالوا: الوقار: هو مرادف للسكينة، وجاء تأكيداً لها، وعلماء اللغة المحققون يقولون: السكينة لها معنى والوقار له معنى مستقل، وكلاهما مطلوب في هذا الموضع. أما السكينة فتتعلق بالحركة، فتمشي على مهل كأنك ساكن، وأما الوقار فأصله مادة (وَقَرَ) ، وهي: الثِّقَل، ومنه قوله تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25] فـ (وَقْر) يعني ثِقَل، والشخص المتأني الوقور يمشي كأنه الجمل الموقر، ليس من باب الكبر، ولا من باب العجز، ولكن من باب التواضع. فهناك الحركة والتؤدة، وليست هناك الخفة والرعونة، وهناك الحالة والهيئة، وهي الوقار وحسن السمت، وقد جاء عند البخاري رحمه الله: (حسن السمت من الإيمان) ، ولذا قالوا: المؤمن في سمته، وفي مظهره، وفي لباسه، وفي مشيته، وفي حركاته ينبغي أن يكون على أحسن ما يكون. ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب ووقاره) .

الأمر بالسكينة والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة

الأمر بالسكينة والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة فعلى هذا ينبغي أن يكون المجيء إلى الصلاة حينما تسمع المؤذن على المنارة يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح. أما إذا تأخرت إلى أن جاء الأذان الثاني وهو الإقامة وما بعدها فقد قصرت وتأخرت، وقد عاتب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عثمان رضي الله تعالى عنه لما جاء متأخراً. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي تخطى رقاب الناس: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) : تأخرت في المجيء بعد الأوان، و (آذيت) : تخطيت رقاب الناس، وحرمة الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق هذا الذي تأخر يضطر إلى أن يدرك بعض ما فات بالجري. ففي هذا الحديث أدب من آداب الإسلام، وهو حسن السمت والوقار للمسلم، ولذا جاء في بعض النصوص: (إياكم وهيشات الأسواق!) ، أي: المرج والحركة والذهاب والمجيء بدون نظام هذا في أسواق الدنيا، أما أسواق الآخرة -وهي المساجد- فيجب أن يكون فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة. وبعض العلماء يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم السكينة والوقار) : إن الذي يأتي إلى الصلاة من خروجه من بيته إلى أن يقف في الصف هو في صلاة. قالوا: إذن ينبغي عليه مادام حكمه حكم الذي في الصلاة أن يتأدب بآداب المصلي، ومنها السكينة والوقار، وجاءت الأحاديث أيضاً وفيها أنه إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يرفع رجله اليمنى إلا بحسنة، ولا يضع رجله اليسرى إلا بتكفير خطيئة، إلى أن يأتي إلى الصلاة، ويكون قد حطت عنه ذنوبه، وتكون الصلاة له نافلة. وجاءت النصوص أيضاً أن من فاته شيء من الصلاة فأتمها فله أجر الجماعة كاملاً، ومن جاء ووجد الناس قد صلوا وصلى وحده أو ومعه غيره فقد أدرك ثواب الجماعة بنية مجيئه وبقدر اجتهاده، ولكن لا يستوي مع من جاء قبل أن تقام الصلاة وقام مع الإمام من أولها. فالحديث فيه من آداب الإسلام، ففيه حث المسلم على الوقار، وتعويده على حسن السمت في هيئته ومشيته، وفيه أيضاً الحث على المبادرة إلى الصلاة أو إلى المسجد قبل أن تقام الصلاة، وفيه أيضاً الحرص على إدراك الجماعة من أول وقتها، وفيه أيضاً أن حسن السمت يساعده على أداء الصلاة بحضور القلب واجتماع الحس والشعور، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بكليته، ومن هنا أيضاً نأخذ الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي؛ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، ومعلوم أنه إذا كانت درجة واحدة فلا تكون إلا لواحد، ولن تكون إلا لسيد الخلق وأحب الخلق إلى الله، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. فالمؤذن ينادي ويقول: (الله أكبر) بأعلى صوته ليصل الصوت إلى أكبر عدد من المسلمين، ونحن حين نسمع المؤذن نقول مثلما يقول، وذلك لنستشعر عظمة الله فتسيطر على قلوبنا وحواسنا، وفي هذا تهيئة عظيمة لأداء الصلاة على أتم وجه في جماعة، وبحضور قلب وسكون. يقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فالمؤذن ينادي البائع في سوقه، وينادي الصانع في مصنعه، وينادي النائم في بيته، وينادي الزارع في مزرعته، وكل يعمل في أمر دنياه، حتى يسمع داعي الله، فإذا ما سمع لأول وهلة (الله أكبر) أربع مرات فإن كان في مزرعة يرجو ثمارها فالله أكبر، وإن كان في مصنع يرجو إنتاجه وربحه فالله أكبر، وإن كان في بيع وشراء ويرجو ربح تجارته فالله أكبر، وإن كان نائماً مستغرقاً في نومه فالله أكبر. وهكذا يستجمع كل حواسه وشعوره، ويكون مسيطراً عليه جلال (الله أكبر) . فهل يتأخر هذا عن النداء؟ لا، وهل يأتي غافلاً؟ لا. ثم يأتي قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيقول: وأنا أيضاً أشهد. فما دمت تشهد فحي على الصلاة وهلم؛ لأن الصلاة لمن يشهد الشهادتين، ثم يقول: (حي على الفلاح) ، و (الله أكبر) في آخره تأكيد لما مضى، ثم (لا إله إلا الله) . فإذا كان الحال كذلك، ونفضت يدك مما كنت فيه، وتوضأت وتوجهت إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة فإذا بك غير الشخص الذي كان في محل عمله، وإذا بك في صف الصلاة لست ذاك الصانع الذي يعمل، ولا ذاك التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن، وقمت وتركت ونفضت يدك عن كل ما كنت فيه وقلت: الله أكبر. ولذا يقول الغزالي في الإحياء: ورفع اليدين حذو المنكبين لينفض بظهر كفيه دنياه وراء ظهره، ويُقبِل بكليته إلى ربه. فهذا الحديث يجرنا الكلام فيه إلى المبادرة، وإلى السكينة، وإلى الوقار، وإلى ما تفيضه الصلاة على المصلي. ونقرأ في قصص بعض الأشخاص أنه إذا دخل في الصلاة لا يعي ما حوله، وأحد السلف كان في المسجد فسقط ركن المسجد ولم يشعر به، ولما سلَّم وفرغ وجد غبرة، فقال: ما هذه؟ قالوا: أما دريت؟ سقط ركن المسجد. فأتوها وعليكم السكينة والوقار. ومن المبادرة إلى الجماعة ما جاء في ترجمة سعيد بن المسيب أنه لم تفته تكبيرة الإحرام في المسجد النبوي أربعين عاماً. وبعضهم يقول: ما صلى في غير الصف الأول أربعين عاماً. وبعضهم يقول: ما أذن المؤذن إلا وهو في مكانه في المسجد عشرين عاماً. ومن هنا تتفق كتب التاريخ على أنه في وقعة الحرة لما خلت المدينة، وتعطلت الصلاة في المسجد النبوي ثلاثة أيام للفتنة كان سعيد بن المسيب يأتي وحده إلى جوار الحجرة، ويسمع الأذان من داخل الحجرة في جميع وقته في الصلوات الخمس. وأما كيف يسمع ومن يؤذن فهذا أمر غيبي، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامة لهذا التابعي الجليل. والذي يهمنا المبادرة إلى المساجد، وجاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد) . فعندما نشاهد حالة بعض الناس إذا كبر الإمام وركع، يركضون كأنهم في سباق، فلا حاجة إلى هذا كله، ففي الحديث: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) . ولذا في بعض روايات أبي بكرة: (زادك الله حرصا ولا تَعُد) أي: لمثل هذه الصورة، أو (ولا تُعِد) صلاتك؛ لأنك قد أدركت الركعة وأدركت الصلاة. فإذا سمعتم الإقامة فامشوا، أي لا تركضوا ولا تسرعوا ولا تسعوا، وامشوا إليها مشياً. قال: (فما أدركتم فصلوا) ، (ما) هنا عامة، فالذي أدركتموه من الصلاة صلوه، فإذا أدركت الإمام راكعاً فاركع، وإن أدركته ساجداً فاسجد، وإن أدركته في التشهد فاجلس، وسيأتي التنصيص على هذه الحالة. فهذا الجزء الأول وهو كيفية الإتيان إلى الصلاة، فينبغي أن يكون على حالة السكينة والوقار؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، فيخرج الإنسان عن سمته ووقاره، وأعتقد أن الناس طبقات، فهناك من يجري أو يقفز على عصا، ولا يعيبه أحد، وهناك من لو أسرع قليلاً لفت الأنظار إليه. فالناس طبقات، وكل بحسبه عند الناس، ولكن عند الشرع الكل سواء، فينبغي للشاب أو الشخص العجل أن يتأدب بأدب الإسلام، ويحترم مجيئه إلى الصلاة، ولا يجعل حرصه يحمله على الإخلال بآداب الإسلام. فإذا دخل من الباب وكبر الإمام راكعاً فلا يجري ولا يركض من أجل أن يدرك الركعة؛ لأنه يكون قد أخل بشيء من آداب الصلاة، وضيع أكثر مما كان يفوته ما لو مشى على سكينة ووقار.

القضاء والإتمام معناهما والفرق بينهما

القضاء والإتمام معناهما والفرق بينهما قال: (وما فاتكم فأتموا) ، وجاءت رواية أخرى بلفظ: (فاقضوا) ، فبعض العلماء يقول: دلالة اللفظين لغة سواء، لأن القضاء قد يكون بمعنى التمام والإنهاء والفراغ، (فإذا قضيت الصلاة) معناه: تمت وانتهت. يقول الشاعر: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وقضاء الدين بمعنى: دفْعُهُ وأداؤه. وقضى فلان ما عليه، أي: أداه ودفعه. وقضى فلان بحقي بمعنى: حكم، فتأتي كلمة (قضى) وما تصرف منها لمعان عديدة، ومن معانيها الإتمام، فتقول: فلان قضى الأمر الذي كان قد بدأ به. وبعض العلماء قال: هذا اصطلاح شرعي، ومعناه: أتموا ما بقي من نقص، واقضوا ما فات عليكم من قبل. وجميع شراح الحديث يقولون: المشهور والأكثر عند الجمهور لفظ (فأتموا) ، وجاءت بعض الروايات عن أحمد والنسائي -وبعضهم يعزوها لـ مسلم - بلفظ: (فاقضوا) . فاللفظان صحيحان، ولكن أحد اللفظين أشهر وأكثر من الآخر، والكثرة لها الترجيح، فإذا قلنا باللفظين، فمن أخذ برواية (أتموا) -وهي المشهورة عند الجمهور- له ترتيب في الماضي، ومن أخذ برواية (فاقضوا) له ترتيب آخر يخالف الأول، فما الفرق بين اللفظين؟ إذا جئنا إلى صلاة رباعية جهرية أو ثلاثية ولتكن المغرب، وجاء إنسان قد فاتته الركعة الأولى، وصلى مع الإمام ركعتين وبقي من الثلاث ركعة، فهل الركعة التي سيصليها بعد السلام -التي هي الثالثة- هي الأولى التي فاتته، أم هي الثالثة الباقية عليه آخر صلاته؟! هو صلى مع الإمام ركعتين، وبقي عليه ركعة واحدة، فهل الركعة الواحدة الباقية عليه هي التي فاتته ولم يدركها مع الإمام فيقضيها، أم هي الثالثة التي لم يصلها فيتمها؟ هذا هو التصوير العقلي للواقعة، وهو مطالب بركعة بلا شك، لكن بقي علينا أن نتصور الركعة التي سيقوم لأدائها بعد سلام الإمام، فهل هي الفائتة التي لم يدركها، وهي الأولى بالنسبة للإمام، أم هي الركعة الثالثة الباقية تتمة للثلاث؟ ولما كان الأمر محتملاً فمن أخذ برواية (فأتموا) فالركعة التي سيقوم لأدائها تكون هي الركعة الثالثة الباقية؛ لأنه صلى الركعة الأولى والثانية، وبقي عليه أن يكمل الثالثة، ويكون قد أتم الثالثة بالركعة التي أداها بعد سلام الإمام. وإن قلنا: هي الماضية التي فاتته فيكون قد صلى ركعتين، وفاتته واحدة، فيقوم لأداء الأولى التي فاتته مع الإمام قضاءً. وقد يقول قائل: في الحالتين تبقى واحدة وستكمل الثلاث. قالوا: لا؛ لأن القضاء يختلف عن الأداء، فإذا قلنا يتم ستكون بالنسبة له الركعة الثالثة، والثالثة في المغرب سرية، فحين يقوم بعد الإمام ليأتي بالثالثة يأتي بالقراءة سراً؛ لأنه يتم الثالثة الباقية عليه. وإذا رجعنا إلى رواية (فاقضوا) ، وسيكون قيامه لصلاة الركعة الأولى التي فاتته، والأولى جهرية فيجهر بالقراءة. فهذا الذي يترتب على (أتموا) و (اقضوا) . وإذا فعل الإنسان أحد الأمرين فهل صلاته صحيحة أم باطلة؟ إن أخذ بلفظ (أتموا) وأتى بها سرية فالحمد لله، وإن اعتبرها الماضية وأخذ بلفظ (واقضوا) ، وأتى بها جهرية فلا مانع والحمد لله. فالصلاة صحيحة على كلتا الروايتين، وكل له مستند. لكن أيهما أرجح؟ هل هي (أتموا) ؛ لأنها أرجح من جهة قوة الرواية ولأنها مشهورة؟ إذا أخذنا المسألة من جهة النظر فعلى رواية: (اقضوا) يكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الركعة الثانية؛ حيث أدرك مع الإمام الثانية والثالثة، وقد اعتبرنا ما أدرك مع الإمام ثانية وثالثة، وعليه أن يأتي بالأولى قضاءً، فيكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الثانية، ولكن لما كبر تكبيرة الإحرام، أول ما دخل مع الإمام -وتكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الأولى- ظهر أن الركعة التي دخل بها مع الإمام هي الأولى في حقه، وإن كانت الثانية أو الثالثة في حق الإمام. ولو أدرك الإمام في الركعة الأخيرة فسيتم ويقضي ركعتين، فعلى رواية (أتموا) يجهر في واحدة، ويسر في الأخيرة، وهكذا يكون التفريع على الفرق بين (أتموا) ، و (اقضوا) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [8]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [8] إن لصلاة الجماعة فضائل كثيرة، وكلما زاد العدد في صلاة الجماعة زاد الفضل، وتنعقد الجماعة برجلين، أو برجل وامرأة، وإمامة المرأة للنساء جائزة بالاتفاق، وهناك صور أخرى تتعلق بإمامة المرأة أو بإمامة الرجل للنساء فقط، اختلف فيها العلماء. وتجوز الصلاة وراء كل من قال: (لا إله إلا الله) ، كما تجوز الصلاة عليه، ما لم يأت بناقض ينقضها، مع أن الأولى أن يصلى وراء من توفرت فيه صفات الإمام المنصوص عليها شرعاً.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

زيادة الفضل في صلاة الجماعة بزيادة عدد المصلين وعلة ذلك

زيادة الفضل في صلاة الجماعة بزيادة عدد المصلين وعلة ذلك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] . يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث تحت عنوان صلاة الجماعة والإمامة. ونفهم من هذا الحديث أنه كلما كانت الجماعة أكثر عدداً كانت أفضل أجراً، وهذا هو الموضوع الإجمالي للحديث. أما الحديث من حيث هو فمسائله متعددة. منها: مسألة انعقاد الجماعة بالرجلين، فهل تنعقد الجماعة بإمام ومأموم فقط؟ أم لا بد للجماعة من ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع ثلاثة؟ فهذه أول مسألة في الحديث، والتحقيق فيها أنه تنعقد الجماعة بالاثنين. وفي حال كون الثاني امرأة -رجل وامرأة- فهل تعتبر جماعة أم لا تعتبر؟ يقولون: تصح الجماعة ولو كان المأموم امرأة فقط رداً على من يقول: لا تصح جماعة، ولا تنعقد إذا كان المأموم امرأة فقط، أما إذا كن جمعاً من النسوة فكما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الغلمان من الكتاب يقومون بنا رمضان) . وعمر رضي الله تعالى عنه نصّب إماماً خاصاً للنساء في تراويح رمضان، حتى يُسرعن ويعدن إلى بيوتهن، فكون الرجل يؤم جماعة من النسوة هذا ليس فيه خلاف. وبعضهم يستدل لصحة انعقاد الجماعة برجل وامرأة فقط بالحديث: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتباً من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) فهنا: (فصليا جميعاً) إمام ومأموم، والإمام هو الزوج، والمأموم هو الزوجة، فتنعقد الجماعة باثنين ولو كان المأموم امرأة. قوله: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى) (أزكى) بمعنى أكثر وأفضل، ومنه قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي فلا تمدحوها ولا تفضلوها. وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أكرم نفسه وتزود من الخير. والزكاة: النمو والزيادة فهنا هما اثنان، وصليا جماعة. فصحت الجماعة باثنين، وهذه من أوائل مسائل هذا الحديث. وهنا صلاة الواحد مع الآخر أزكى من صلاته وحده، قال بعض العلماء: فيه دلالة بالإيماء والتنبيه على صحة صلاة المنفرد دون جماعة، وهذا الأمر قد تقدم الكلام فيه. قوله: (وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل) ، صلاة الواحد مع الاثنين أزكى من صلاته مع واحد فقط؛ لأنهم سيصيرون ثلاثة إماماً واثنين مأمومين، وما زاد فهو أفضل. فموضوع هذا الحديث أن الجماعة كلما كانت أكثر عدداً كانت أفضل، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يحرص على أداء الجماعة في المساجد التي يكثر فيها العدد، قالوا إلا إذا كان هناك مسجد في الحي، ووجود هذا الشخص في هذا المسجد سيشجع أهل الحي على الصلاة، أو سينتفع منه المصلون في هذا المسجد الصغير بتعليم أو فتوى، أو محافظة على الصلاة، أو سيحضرون خوفاً منه أو متابعةً له، فتكون صلاته في المسجد الأقل عدداً لمصالح أخرى في حقه هو أولى. أما إذا لم تكن هناك مصالح أو جوانب خارجة عن مجرد الجماعة فكلما كان العدد أكثر كان أفضل. لأن كل مصلٍ إنما يدعو لنفسه وللمسلمين، وهو واحد من المسلمين، فتناله الدعوات من جميع المصلين، فيشارك في الفضيلة أكثر مما لو كان العدد أقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

إمامة المرأة صورها وخلاف العلماء في ذلك

إمامة المرأة صورها وخلاف العلماء في ذلك قال رحمه الله تعالى: [وعن أم ورقة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها) رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة] قدم المؤلف رحمه الله النهي عن إمامة الأعرابي للمهاجر، والفاسق، والمرأة للرجل. ولما قدم ذلك وكان سنده واهياً، جاء هنا ليبين صحة إمامة المرأة لأهل دارها، فهذا تخصيص من ذاك العموم الذي تقدم. وأم ورقة هذه امرأة أنصارية، وهي صحابية جليلة، وكانت تلقب بالشهيدة وهي على قيد الحياة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عزم الخروج إلى بدر قالت: يا رسول الله! ائذن لي أن أصحبكم لعلي أداوي الجرحى وأسقي المرضى فقال لها صلى الله عليه وسلم: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) ، فلما قال لها ذلك لقبوها بالشهيدة، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إليها ويزورها، وكانت قد جمعت القرآن، وما سمعت بامرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعت القرآن غير هذه الصحابية الجليلة. ولا أستبعد من مثل عائشة رضي الله تعالى عنها لشدة حفظها أن تكون جمعت القرآن أيضاً؛ لأنها ذكرت أنها تحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر. فهذه المرأة كانت بهذه الصفة، وكانت نهاية أمرها أن قتلها غلامها وجاريتها، فكتما نفسها بخميصة لها حتى ماتت وهربا، وكان اكتشاف ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (ما سمعت صوت خالتي أم ورقة الليلة) ، فقد كانت كل ليلة تقوم وتقرأ القرآن، وكان عمر يسمعها، فافتقد صوتها تلك الليلة، ومن الغد دخل بيتها فلم يجدها، فدخل غرفتها فوجدها مخنوقة بالخميصة ميتة، ولم يجد غلامها ولا جاريتها. فقال عمر: (من رأى هذين أو علم بهما فليأتني بهما) ، فأُتي بهما فقتلهما وصلبهما. وقضيتها -من حيث هي- حادثة تؤخذ منها أحكام عديدة قبل أن نأتي إلى موضوع إمامتها. لقد كان لها تطلع إلى الشهادة، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وغيرها أن النساء أرسلنها وافدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني وافدة النساء إليك، وجدنا الرجال غلبونا بالجهاد، أفنجاهد؟ فقال: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وفي الوقت نفسه صرح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النسوة أن يشاركن في القتال، فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تحمل الماء يوم أحد، وغيرها، وأم عطية سافرت وجاهدت، وكانت تضمد الجرحى، وتهيئ لهم الطعام. فهذه المرأة الكريمة طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها، ولم يكن الرجال يستأذنون للخروج، بل إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الجهاد هب الجميع، والمرأة ليست من أهل القتال، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول. فالمرأة ليست من أهل القتال، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لها لتخرج على غير العادة، فكفاها المؤنة، فقال: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) فبهذا الوعد لقبت بالشهيدة وهي تمشي على وجه الأرض. وإن هذه الإشارة -والله تعالى أعلم- لعلها التي جعلت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك في بلد رسولك) . قالوا: يا عمر! أتريد القتال في المدينة؟ قال: فضل الله واسع. فجاءته الشهادة في المدينة، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المحراب. أقول: لعل عمر لما سمع البشرى لهذه المرأة أن: امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة -أي: في بيتك- فطِن عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا يمكن ونالها. فـ أم ورقة دبرت غلاماً وجارية. والتدبير باب من أبواب العتق، وهو تفعيل من الدبر، والدبر: ما كان خلف الشيء، فـ (عن دبر) أي: عن خلف وعن ظهر، وعن زمن بعده. فإذا قال شخص: يا فلان! لك هذه الدار عن دبر مني. يعني: إذا مت فالدار لك. أو قال: يا أولادي! أوصيكم أن إذا مت فأسكِنوا هذه الدار فلاناً. أو يقول لغلامه: أنت حر بعد موتي فهنا تعلق العتق بموت المالك. أي: رب المال. وهنا السؤال: إذا كان العبد ينتظر الحرية بموت سيده، فحينها يطلب سرعة موته، فإذا اعتدى عليه بالقتل ألغي التدبير، كما أن قاتل مورثه يحرم من الميراث. والموقوف عليه، والموصى له إذا قتل الموقِف تسرعاً لانتقال الوقف إليه، أو تعجلاً لمجيء الوصية إليه مُنِع من استحقاق الوقف، ومُنِع من الوصية. قالوا: معاملة له بنقيض قصده؛ فإنه تعجل لأجل الميراث فنحرمه منه؛ لكي يعلم كل حريص على الميراث أنه لن ينال الميراث إذا قتل مورثه، فيكف يده حتى لا يُحرم. ونظير ذلك أيضاً لو أن امرأة أخفت عدتها، وادعت خروجها من العدة، وتواطأت مع رجل فتزوجته قبل أن تخرج من عدتها فسخ النكاح، ولا يتزوجان إلى الأبد، وهذا التحريم المؤبد؛ حتى لا تخفي امرأة أمر عدتها، فإذا علمت أنها لن تلتقي معه إلى الأبد حافظت على العدة، ومشت في طريق مستقيم. فـ أم ورقة دبرت غلاماً لها وجارية، فقد قالت: أنتما حران بعد موتي. فقاما عليها بالليل وخنقاها بخميصة حتى ماتت، وهربا. وهنا ندخل في مبحث جنائي، فأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فطِن لافتقاد سماع قراءتها، وهكذا حق الجوار، أو أنه كان من عادته أن يعس المدينة، ونحن نعلم أمر عمر في خلافته، لقد كان يخرج ليلاً ويطوف في أزقة المدينة يتحسس أخبار الناس وحاجاتهم، ومن ذلك أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء. فقالت: يا أماه! ألم تسمعي بمنادي عمر ينهى عن مزج الحليب بالماء؟! قالت: يا بنيتي! وأين عمر منك الآن؟ فقالت الفتاة: والله -يا أماه- لإن كان عمر غائباً فرب عمر حاضر. وكان عمر عند الباب يسمع، ولم يقل لهما شيئاً، وقال لمن معه: اعرف لي هذا البيت. فعرفه، ومن الغد ذهب وخطب تلك الفتاة. ونظير هذا -والشيء بالشيء يذكر- أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف بالبيت، وكانت هناك امرأة عجوز مجذومة، أي: مريضة بمرض الجذام، وهذا المنظر قد يتأذى منه الناس أو من رائحته، فمر عمر بجانبها وهمس في أذنها وقال: يا أمة الله! لو عدت ومكثت في بيتك لكان خيراً لك. فخرجت من توها، وما أكملت الشوط، ورجعت إلى بيتها، فلما توفي عمر رضي الله تعالى عنه أُتيت فقيل لها: اخرجي. إن الذي نهاك قد مات. قالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً أي: له حق في السمع والطاعة، فهذا هو التلاحم، وهذه هي حقيقة الإيمان. وقد جاء عن بعض السلف أنه قال لـ حذيفة رضي الله تعالى عنه: لقد حظيتم بصحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو كنا حضرنا لما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: يابن أخي! لا تقل ذلك، والله لاتدري إن حضرت ماذا كنت تفعل؟! والله لقد جاءت علينا ليال يخاف الواحد منا أن يخرج يقضي حاجته. وهذا في أمر الخندق وليلة الأحزاب والشدة التي لحقت المسلمين، ثم قال: قال آخر: والله وددت أني مت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهد يوم موته. فقال غيره: والله ما وددت ذلك، وتمنيت أن أعيش بعده لأطيعه بعد وفاته كما كنت أطيعه وهو حي. فهذه النماذج تعطينا مدى ارتباط الأفراد بقادتهم في الإسلام، ومدى السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد على وجه الأرض ملكاً من الملوك، أو رئيساً من الرؤساء، أو قيصراً من القياصرة تبلغ طاعته عند قومه عشر معشار هذا الحد. فـ عمر سمع المرأة، ومن الغد ذهب فخطبها لولده، وكانت جدة عمر بن عبد العزيز، والشيء من معدنه لا يُستنكر. وفي ليالي عمر وهو يعس في شوارع المدينة سمع امرأة في جوف الليل تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فتفكّر في حال امرأة في مغيب زوجها، فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له: إنها امرأة فلان، وله في الغزاة ثمانية أشهر، فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال: أخبريني: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحيت. قال: والله -يابنيتي- لولا أني أريد أن أنظر في أمر المسلمين ما سألتك هذا السؤال. قالت: تصبر شهراً وشهرين، وفي الثالث تتضجر، وفي الرابع يضيق ذرعها فأرسل لأمراء الأجناد: لا يغيبن زوج عن زوجه فوق أربعة أشهر. فكان الواحد يذهب للثغر يرابط شهراً، وعليه مرابطة شهرين، فشهر في الذهاب وشهران في المرابطة، وشهر في العودة، ولا يغيب أكثر من ذلك. فـ عمر رضي الله تعالى عنه افتقد صوت أم ورقة، فلما افتقد صوتها كان ذلك لافتاً للنظر. يقولون عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه كان له جار يهودي، وكان كل ليلة يؤذيه برفع صوته، فيمضي الإمام ولا يكلم جاره بشيء، وفي ذات يوم أصبح فلم يجد ما كان يعتاد أن يجده، وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، فاستغرب وسأل عن جاره فقيل له: إنه مسجون. فذهب إلى الوالي وطلب زيارته في سجنه فأذن له، ثم طلب من الوالي أن يطلقه له فأطلقه. إمام جليل يأتي ليطلق إنساناً من سجنه، فجاء جاره وقال: أخبرني ما الذي أعلمك أني سجين؟ قال: الأمارة التي كنت تجعلها كل ليلة افتقدتها. قال: وتسكت على ذلك، وتقابل إيذائي بأن تزورني في سجني، وأن تطلب إخراجي؟! قال: نعم. هذا حق الجار في الإسلام. قال: هذا دين يعامل أفراده بهذه المثابة. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فـ عمر افتقد أم ورقة، ولم يسمع قراءتها، وليس عندها إلا غلام وجارية، فلما أصبح د

إمامة الأعمى في الصلاة

إمامة الأعمى في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى) رواه أحمد وأبو داود] . قدم المؤلف رحمه الله ذكر محظور الإمامة من ناقص نقصاً معنوياً كأعرابي يؤم مهاجراً، والفرق بين الأعرابي والمهاجر ليس نقصاً في الخلقة، ولكنه أمر معنوي اعتباري. والأعرابي إذا جاء وهاجر وجلس مدة في المدن أصبح حضرياً، وزال عنه وصف الأعرابي، وكذلك الفاسق. فهذه أوصاف اعتبارية، وليست أوصافاً خلقِية. فلما كان الأمر كذلك جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا ببيان النقص الخلْقي في شخصية الإنسان، كأعرج، وأعور، وأعمى، فهل هذه النواقص الخلْقية تمنع من الإمامة أم لا؟ فذكر أكبر عاهة وهي العمى، وإذا جئنا إلى كتب القضاء فإن جمهور الفقهاء -ما عدا الحنابلة- يقولون: لا تصح ولاية القضاء للأعمى والحنابلة قالوا: العمى ليس نقصاً في العدالة، والمطلوب من القاضي أن يكون حاكماً بالعدل والجمهور قالوا: إن البصر والرؤية من وسائل معرفة المحق من المبطل، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] ، ومن الذي سيرى سيماهم؟ فاشتراط البصر يكون من كمال الوصف. ولقد عرضت علي قضية، حيث جاء رجل أعجمي ووقف في الباب -وكان طويلاً- يصيح صياح المرأة الثكلى: مظلوم مظلوم وكان هذا في زمن الملك فيصل يغفر الله له. فالكاتب الذي بجانبي قال: هذا مسكين فانظر كيف الظلم! فأردت أن أقول له: لا تفتح فمك، وتأمل مع هذا الصياح، والغرفة مليئة بالمراجعين والكتاب والقاضي، فإذا نظر الرجل كأنه سهم مصوب علي، فقابلته بسهم وسهم، وانتظرت. فالجندي يريد أن يدخله، ولكن الرجل ممتنع، فقلت للجندي: أحضر العصا فسمع كلمة (عصا) فمشى ووقف أمامي، وأعاد الكرة، فقلت للجندي: اصفعه على وجهه إذا لم يجلس إن هذا قد يكون جنى، لكن للقاضي أن يتكلم بما لا يريد أن يفعل. ثم إنه جلس، فقلنا له: اقرأ الدعوى، قال: لا أفهم قلت: أنت فهمت (أحضر العصا!) ، وفهمت (أعطه كفاً) فيجب أن تفهم الباقي. فذاك الصياح وذاك التوجع لو كنت خلف حجاب لقلت عنه: هذا ملأ الدنيا دموعاً وبكاء إلا أنه ما قطرة دمع واحدة نزلت من عينيه. فألزمته بالإجابة فأجاب. والمهم أنه ثبتت عليه الدعوى، وجاء أخوه وخلّصه مما لزم عليه. أقول: إن البصر للقاضي قد يعينه على حل القضايا، والعون من الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه وسائل، كما أن السمع من وسائل إيصال كلام الطرفين، ووسيلة لفهمه وعقله، كذلك البصر يساعد. فهنا يذكر المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف رجلاً أعمى، وهو ابن أم مكتوم المعروف، وكان قد استخلفه للصلاة وإمارة المدينة، وتارة كان يستخلف أبا هريرة، فجاء المؤلف رحمه الله في نهاية البحث وقال: إن كانت بعض الصفات الخلُقية تمنع من الإمامة فإن بعض الصفات الخلْقية لا تمنع منها، وعلى هذا تصح إمامة الأعمى. ومن ينازع في إمامة الأعمى يقول: الأعمى لا يعرف القبلة أين هي، وإنما سيتوجه إلى القبلة تقليداً لغيره، ولكن المبصر يعرفها! فيقال له: بماذا يعرفها المبصر، هل سيرى الكعبة؟ أنه لن يراها، ولكن بالجهات، وسيرى المحراب، فكذلك الأعمى يمكن أن يتحسس المحراب. ولهذا قال بعض الناس: المحاريب في المساجد بدعة؛ لأنها لم تكن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: نعمت البدعة، بل هي سنة حسنة؛ لأنه لو جاء أعمى في الليل ودخل مسجد قوم يريد أن يصلي فكيف يعرف القبلة، فجدران المسجد في أربع جهات ولا فارق بينها، فإذا تحسس بيده وجد المحراب وعرف أين القبلة. فإمامة الأعمى صحيحة مع الشروط الأخرى: صلاحه و (أقرؤهم لكتاب الله) و (أعلمهم بالسنة) . قال: [ونحوه لـ ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

من يصلى وراءه وعليه عند موته

من يصلى وراءه وعليه عند موته قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] . هذا الحديث سواءٌ روي بإسناد ضعيف أم بإسناد صحيح له تعلق بمباحث العقيدة. فمن قال: لا إله إلا الله اعتُبر مسلماً، لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله) . وهنا يبحث الفقهاء ويقولون: إذا كان يقول: لا إله إلا الله، وأمره سر وخفي لا نعلم عنه شيئاً فهو من أهل لا إله إلا الله، ولكن إذا كان يقولها، ويظهر منه ما يناقض قوله فهل (لا إله إلا الله) باقية أو نقضها بفعله؟ قالوا: إذا كان من يقول: لا إله إلا الله مظهراً لبدعة مكفِّرة فقد نقض قوله بفعله، فلا نصلي وراءه، ولا نصلي عليه، أما إذا كان ممن يقولها ولكنه متلبس ببدعة ليست مكفِّرة، أو كان ممن يرتكب الكبائر -والكبائر ليست مكفرة- فماذا نفعل معه؟ قالوا: أما الصلاة عليه فهو حق علينا، إلا إذا قتل في حد من حدود الله، فإن الإمام الراتب لا يصلي عليه؛ لأن في ذلك إقراراً لما فعل، أو تكريماً له، ولكن أداءً للواجب يصلي عليه أهله، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) . أما الصلاة خلفه فقالوا: أهو إمام راتب من قبل ولي أمر المسلمين وترك الصلاة خلفه شق للعصا، أم أنه شخص متبرع قال أنا أصلي لكم؟ فإن كان ولي المسلمين هو الذي ولاه الإمامة، أو كان هو بنفسه أمير البلد أو حاكمها فيصلَّى خلفه، مادام يقول: لا إله إلا الله أما إذا كان متبرعاً من عامة الناس ويرجع الأمر في اختيار الإمام للمأمومين فرفضهم له واجب. وعلى هذا إنما يكون الإمام من خيار الناس، ومن قال: (لا إله إلا الله) ولم يظهر ما يخرجه من الإسلام فحينئذٍ حق (لا إله إلا الله) علينا أن نصلي عليه، فهذا مجمل هذه القضية، والتوسع فيها يرجع إلى كتب العقائد، والله تعالى أعلم.

صلاة المسبوق ومتابعته للإمام

صلاة المسبوق ومتابعته للإمام قال رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) رواه الترمذي بإسناد ضعيف] . قوله: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال) يعني: على صفة من صفات الصلاة وأحوالها. فإذا جاء الشخص والإمام يقرأ فعليه أن يكبر ويدخل مع الإمام ويقف في الصف، وإذا جاء والإمام راكع فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ويركع مع الإمام، أو جاء والإمام ساجد فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويسجد مع الإمام، أو جاء والإمام جالس بين السجدتين فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويجلس، أو جاء والإمام يتشهد فكذلك، فعلى أي حال من أحوال الإمام في الصلاة يدخل معه فيها، لا أن يأتي فيجد الإمام ساجداً فيقف وينتظر حتى يقف الإمام فيكبر ويدخل معه، أو يجده جالساً للتشهد فما يدري أهو التشهد الأوسط أو الأخير فينتظر، فلا ينبغي هذا. وتقدم لنا ما يتعلق بـ معاذ رضي الله تعالى عنه -فيما يرويه ابن كثير وغيره- أن الصلاة أحيلت ثلاث حالات، فقد كانوا إذا أرادوا الصلاة آذن بعضهم بعضاً، فقالوا: نتخذ أداة فاقترُح الناقوس، أو البوق، أو إشعال النار، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فجاء عبد الله بن زيد وقص رؤياه في الأذان، فقال: (إن صاحبكم قد رأى رؤيا، فاخرج مع بلال إلى المسجد، فألقها عليه، وليناد بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً) ، فصاروا يؤذنون ويجتمعون بالأذان. فهذه حالة، والحالة الثانية أنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس فتحولوا إلى بيت الله الحرام (الكعبة) . والحالة الثالثة أن المسبوق كان إذا جاء سأل من في طرف الصف كم صليتم؟ ليعرف كم فاته من الصلاة، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويأتي بما فاته، ويدخل مع الإمام في الحالة التي هو عليها، فقال معاذ: والله لإن أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متأخر لأوافقنه على ما هو عليه فجاء مسبوقاً، فدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي هو عليها، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام وأتى بما كان قد فاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ فاقتدوا به) ، فكانت هذه الحالة الثالثة. وهنا يأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أتى إلى الجماعة فإنه يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها، والجمهور على أنه يكبر تكبيرة الإحرام ويدخل بها في الصلاة ثم يتابع الإمام. ثم يأتي بعد ذلك في بعض الروايات: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً) . وعن ابن عمر قال: (إذا أدركت الإمام راكعاً فركعت قبل أن يرفع فقد أدركت، وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك) . فمن جاء مسبوقاً فليدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها، فإن أدرك الإمام في الركوع واطمأن معه أقل ما يجزئ اعتد بهذه الركعة، ولا يكون قد فاته إلا قراءة الفاتحة، وإن وجد الإمام قد رفع من الركوع وهو في حالة الاعتدال بعد الركوع فليدخل معه في الرفع من الركوع، وفي السجدتين، والجلسة بينهما، ثم يقوم إلى الركعة التي بعدها، أو يسلم، ولا يعتد بهذه الركعة في صلاته، وعليه أن يأتي بالصلاة كاملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [1] إن الدين يسر، ومن يسره تخفيف الصلاة على المسافر بالجمع والقصر، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء ودققوا في فروعها، وناقشوا أدلتها مناقشة دقيقة.

حكم القصر في الصلاة

حكم القصر في الصلاة باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين.

حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ... ) فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) متفق عليه، وللبخاري: (ثم هاجر، ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول) ] . هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن القصر في السفر واجب. فقولها في الحديث: (ثم) للتأخير والتسويف. إذاً: حينما نسافر نرجع إلى الأصل، والأصل ركعتين، وهذا قول قوي. لكن الآخرون يجيبون عن ذلك: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء:101] ، فالقصر يكون من تمام الكمال. إذاً: قول عائشة رضي الله تعالى عنها ليس فيه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي لم تقل: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قالت: (أول ما فرضت الصلاة) ، فقالوا: هذا قول واجتهاد منها رضي الله تعالى عنها، ولم تسند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عن غيرها من الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض ونُقل عن غيرها معها، فقالوا: هذا يجعل الأخذ به فيه ضعف. فهنا: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم حصل تغيير فأتمت صلاة الحضر أربعاً، وبقيت صلاة السفر على ما هي عليه. ورد القائلون بأن القصر رخصة وليس بواجب فقالوا: أخبرونا عن هذا المسافر الذي تفرضون عليه ركعتين فقط: إذا ائتم بمقيم فهل: يتم أربعاً تبعاً لإمامه، أو يقتصر على ركعتين؟ وإجماع الفقهاء على أن المسافر إذا ائتم بمقيم في الرباعية فعليه أن يتم، فلو أدرك مع الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين فلا يحق له أن يسلم معه، بل يقوم ويأتي بالركعتين اللتين فاتتاه، فلو أن صلاة السفر تجب ركعتين لكان أحد أمرين: إما أن يمتنع المسافر من الائتمام بالمقيم حتى لا يلزم بالأربع، وإما أن يسلم من ركعتين التي هي فرضه، فلما لم نجد شيئاً من ذلك، ووجدنا أن المسافر يأتم بالمقيم فيتم، تبين لنا أن صلاة السفر يمكن إتمامها.

حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعا.

حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعاً ... ) قال المصنف: [وللبخاري: (ثم هاجر ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول) ، وزاد أحمد: (إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح؛ فإنها تُطَّول فيها القراءة) ] . لما ذكرت رضي الله تعالى عنها أن صلاة السفر فرضت ركعتين، وقصرت الرباعية، جاء المؤلف رحمه الله بخبر أحمد ليبين أن القصر لا يشمل الصبح فيصبح ركعة واحدة، ولا يشمل المغرب؛ لأنه ليس هناك صلاة ركعة ونصف، ولا أن يسقط النصف وتكون ركعتين، وبيّن العلة؛ لأن المغرب وتر النهار، فلما كانت صلاة النهار كلها شفع، الصبح اثنتين، الظهر والعصر أربعاً أربعاً، وكان المغرب ثلاثاً فكان وتراً لصلاة النهار، وأما الصبح فتطول فيه القراءة: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] .

حديث: (كان يقصر في السفر ويتم)

حديث: (كان يقصر في السفر ويتم) قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر) رواه الدارقطني، ورواته ثقات إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] . الذين يقولون بأن القصر رخصة يستدلون أيضاً بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني ورواته ثقات، ويقولون: إنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه: صام وأفطر في السفر، وأتم وقصر في السفر. إذاً: الإتمام والقصر جائز جوازاً مستوي الطرفين، ولكن أجيب عن ذلك: بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاة في السفر قط. إذاً: هذا معارض بفعله صلى الله عليه وسلم، أما أنه كان يصوم ويفطر فهذا ثابت، فقد صام في فتح مكة حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر بعد ذلك وأفطر الناس معه. [ورواته ثقات، إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] . يقول المصنف: إن رواية الدارقطني رواتها ثقات ولكنها معلولة، وذكر العلة في الشرح بأن فيه رجلاً سماه وهو مجهول، أو أنه يروي عن غير الثقات، أو أنه غير ثقة، وإذا كان الحديث معلولاً ومخالفاً لما هو المشهور، فلا حاجة إلى الاحتجاج به، وزاد تأكيداً على رده أن هذا الذي يقولون فيه عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يتم ويقصر، فهي التي قالت: شرعت صلاة السفر ركعتين، فكيف تقول لنا: إن أصل صلاة السفر ركعتين ثم تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتم، وهذا مغاير لروايتها الأخرى! فاجتمع فيه: أولاً: مغايرة عائشة رضي الله عنه لروايتها الأخرى: (أقل ما فرضت الصلاة ركعتين) . ثانياً: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفر أبداً. ثالثاً: أنه معلول. إذاً: لا يتحج به. ولكن المؤلف كما قدمنا إنما يورد النصوص التي يحتج بها من يحتج ويترك الترجيح والنظر للناظر فيها. قال المصنف: [والمحفوظ عن عائشة من فعلها] . يعني أن: عائشة كانت تتم وتقصر، وليس ذلك إسناداً إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها لا يستوي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن ابن عمر لما سئل عن فعلها قال: (لقد تأولت كما تأول عثمان) ، وجاء عنها أيضاً: أنها كانت تصوم وتفطر في السفر وتقول: (لا يشق عليّ) ، وسيأتي لها رواية، ويناقش العلماء في ألفاظها وفي سندها. فهنا: فعل عائشة رضي الله تعالى عنها من تمام القصر في السفر، والصوم والفطر في السفر اجتهاد منها، وكما قال ابن عمر: (تأولت كما تأول عثمان) فـ عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقصر الصلاة في السفر ست سنوات من خلافته، وقال البعض: بل طيلة خلافته، ولم يتم إلا بمنى في أخريات خلافته، -أي: كان يقصر بمنى وفي غير منى- فقيل له في ذلك؟ فقال أحد جوابين: لقد تزوجت بمنى، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج المسافر في بلد فليتم صلاته) . وبعضهم يقول: قال: لقد وجدت الأعراب فأردت أن أعلمهم أن الصلاة رباعية، لأنهم إذا جاءوا إلى الحج ووجدوا الخليفة يصلي ركعتين ركعتين رجعوا إلى ديارهم وربما اعتقدوا أن الصلاة كلها ركعتين ركعتين، فقال: أتممت لأعلم. هذا هو تأويله: إما أنه تأول إتمام الصلاة ليعلم الأعراب، أو أنه أخذ بالنص: (من سافر فنزل في بلدة فتزوج بها فليتم الصلاة) ، فجاءت عنه الروايتان. وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تأولت بأن الرخصة للمشقة، فقالت: (وأنا لا يشق عليّ) والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فتأولت أنه إذا انتفت المشقة انتفت الرخصة، ولا حاجة للأخذ بها.

حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه)

حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه) قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) . ] جاء المؤلف رحمه الله أولاً بما يشعر بالوجوب فذكر حديث عائشة (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) أي: بقيت صلاة السفر على الأصل، وهذا من أدلة الوجوب، وجاء بعد ذلك بهذا الحديث: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) وهذا الحديث قاعدة عامة. ما هي الرخصة؟ يقولون في فقه اللغة: إذا نظرت إلى المادة (الراء، والخاء، والصاد) بمعنى الرُّخص والرَّخص، رخص الأسعار يدل على على الرخاء والهدوء، وشيء رخص أي: لين رطب، واستدلوا بقول الشاعر: (ومخضب رخص البنان كأنه) (رخص البنان) يعني: لين الأصابع، وهذا وصف الفتيات والنسوة، فالرخص هو اللين، وكذلك الرخصة؛ لأن ألفاظ الشارع تنقل ألفاظ اللغة إلى ما يناسبها من التشريع، كما نقلت كلمة الصلاة من الدعاء إلى الصلاة ذات الركوع والسجود، وكما نقل الصوم وهو الامتناع عن الكلام إلى الصيام في الإسلام، وهكذا الحج وهو القصد، والعمرة: الزيارة. فقالوا: الرخصة: هي جلب الإرفاق أو دفع المشقة، أو إباحة ما جاءت الرخصة به مع بقاء الحكم الأصلي. أو هو حكم لاحق فيه إرفاق بالمسلمين، أو بالمكلف مع بقاء الحكم الأصلي الذي جاءت به الرخصة. مثال ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ثم أباح الله تبارك وتعالى للإنسان في حالة المخمصة أن يتناول الميتة، فقال: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] أي: عند الاضطرار يباح أكل الميتة. هل حينما أبيحت الميتة للمضطر رفع عنها حكم التحريم السابق أم هو باق؟ بل هو باق؛ بدليل أنه حينما ترفع عنه المخمصة أو يجد غير الميتة لا يحل له أكلها. إذاً: الحكم الأصلي باق، ولكن الرخصة جاءت مؤقتاً لإيقاف العمل بالنص في التحريم، والنص قائم والحكم موجود. إذاً: إن قلنا بأن القصر رخصة يبقى الحكم الأساسي هو الإتمام؛ لأن القصر جاء تخفيفاً، مع بقاء حكم الأصل وهو الإتمام. وكذا الفطر في رمضان، ينتهي صيام الواجب، فيقول: يا عبادي! يوم العيد أنتم في ضيافتي ومكرمتي، فمن صام يوم العيد كأنه معرض عن ضيافة الله، ولو أن شخصاً آخر دعاك إلى مكرمة وقلت: أنا في غنى عنها لا أريدها، لم يكن هذا من الأدب. فهذا الحديث وإن كان يشعر بأن القصر رخصة لكن الله يحب أن يؤتى بها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: القصر رخصة والأفضل العمل بها تمشياً مع هذا النص المحكم: (يحب أن تؤتى رخصة) (صدقة تصدق بها عليكم) ، إذا كنت تعرف إنساناً فقيراً، وجئت بصدقة مالك إليه، وقال: أنا لا أريدها، وأنت تعرف أنه محتاج ويقبل من غيرك، فإذا كان يقبل من غيرك صدقة ماله ويرفض أن يأخذ صدقتك فإنك تستغرب وتفتش عن السبب، فإذا كان الأمر من المولى سبحانه وتصدق علينا، ورخص لنا، فالواجب علينا أن نقبل صدقة الله ورخصته، وهذا أحسن ما قيل في ذلك، ولهذا تجدون الشارح الإمام الصنعاني يقول في العدة تعليقاً على العمدة لـ ابن دقيق العيد: وقد كتبت رسالة في ذلك، وحققت أن الصحيح والراجح في المسألة أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها، وهذا أحسن ما يقال في هذا الباب، والله تعالى أعلم. قال المصنف وفي رواية:: [ (كما يكره أن تؤتى معصيته) . ] معناه: أن الله يحب أن تؤتى الرخص بقدر ما يكره أن تؤتى المعصية، وإذا نظرنا إلى المقابلة: بقدر ما يكره المولى إتيان المعصية بقدر ما يؤخذ بالرخصة، وكأن الذي يرفض الأخذ بالرخصة يقدم على فعل المعصية، والعكس بالعكس، والقياس العكسي يؤدي إلى هذا. إذاً: أحسن ما قيل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ونبه عليه الشارح الإمام الصنعاني هنا بأنه كتب رسالة في ذلك، وبين أن الراجح هو أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها. قال المصنف: [وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) ] . هذه الرواية مقابلة لتلك (كما يكره أن تؤتى معصيته) لأن كره المعصية يقابلها: حب العزيمة، فيحب الأخذ بالرخصة كما يحب الأخذ بالعزيمة، وكلاهما مطلوب.

متى يقصر المسافر

متى يقصر المسافر قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين) . رواه مسلم. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين: هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا خطأ، والصحيح في ذلك يؤخذ من قوله: (إذا خرج) فلم يقل: إذا سافر، ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج. فيقول: إذا خرج في سفر طويل، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شك من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا يشرع في قصر الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث. قال المصنف: [وعنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول لله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة) . متفق عليه، واللفظ للبخاري. ] . قبل الشروع في شرح الحديث أحب أن أنبه بأن أهم المراجع التي يمكن أن يرجع إليها طالب العلم في هذه المسألة: أضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، فقد ذكر كل ما تقدم من خلاف، وله رأي في الترجيح، وأنا لا أقول شيئاً في ذلك، ولكن أحب أن أقول أيضاً بأنه عرض إلى ما عرض إليه الفخر الرازي في التفسير في نوعية القصر، ما هو القصر هل القصر في الكيفية أم في الكمية؟ ومعنى القصر في الكيفية: هو إتيان الصلاة على ما هي عليه أربعاً، ولكن مع التخفيف في الأركان. يعني: تقرأ الفاتحة فقط، وتسبح مرتين أو ثلاثاً فقط، وهناك من يقول بذلك، وقالوا: صلاة السفر تقصر ركعتين، وصلاة الخوف تكون ركعة واحدة، وبعضهم يقول: قصر الصلاة مع الخوف ركعة، ومع الأمن ركعتين، ولكن لم يأخذ بهذا التفصيل أحد من الأئمة الأربعة، فإذا مر عليها الطالب فلا يقف عندها طويلاً، اللهم إلا إذا كان استيعاباً للخلاف الموجود في المسألة، أما إذا أراد فقه المسألة وتحقيقها فليتجاوز هذه المرحلة في أول بحث الشيخ رحمه الله، ثم يأتي إلى الفروع التي أوردها في المسألة، وأقوال الأئمة رحمهم الله في تلك المسألة التي يتعلق بها الحكم. والله تعالى أعلم.

المسافة التي يجوز فيها القصر

المسافة التي يجوز فيها القصر حديث أنس رضي الله عنه يشير إلى مدة نهاية القصر، ومسافة القصر التي قدرت -وسيأتي التنصيص عليها بأربعة برد، والعبرة فيها بالمسافة البينية، أي: ما بين مسيره ومنتهاه، فإذا كانت الأربعة برد للذهاب والإياب بأن كان سفره مثلاً إلى بريدين وسيرجع بريدين، والمجموع أربعة برد فلا قصر؛ لأن العبرة فيما بين بلده وبين غايته من السفر، فإذا كانت المسافة بين بلده وبين الغاية من سفره أربعة برد قصر، وإذا كان الذهاب والإياب أربعة برد فلا قصر.

إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر

إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة) . إذاً: المسافر الذي استوفى شروط السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في السفر أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو حتى في غير طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة:2] فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي بذلك لأنه يساعده على معصيته. إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال يقصر حتى يرجع إلى بلده. ولكن قد تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنه. والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع إقامته صلى الله عليه وسلم هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح وعام الحج، وكل منهما يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام الحج له ظروف، وسنتناول حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع الإلمام الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح. ففي سفرة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ كُرَاعَ الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا -وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل مكة وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية عشر يوماً -أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) . فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي أجلسه صلى الله عليه وسلم تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟ نعلم جميعاً أن بعد الفتح كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن هوازن تجمع له، علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك اللحظات، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن. إذاً: كانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول: إنه مقيم، ولا تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً. إذاً: ما دام الأمر كذلك فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة حتى رجع من هوازن ورجع إلى المدينة. أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قدموا صبح رابعة) أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الرابع من ذي الحجة، وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة يكون يوم تسعة، فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه المدة قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها الإقامة، كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟ كم مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟! الجواب: ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى منى ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث إلى صلاة الصبح في منى، فلما أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من أقام أثناء سفره لمدة عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم فيه خمسة فروض؛ فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة أكثر من ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟ قال الإمام أحمد: الأربعة الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر لاحق، ولا يزال مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة. وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص جميعها توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا أقمنا أثناء السفر مدة معينة نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو ثلاثة فإنا نقصر من باب أولى. يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون بأن من نوى الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى كما عند الأحناف أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين القرئين، وهذه المدة جاءت بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه. إذاً: المسافر إذا نزل نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء طريقه، وكان نزوله وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى يرحل، وإن كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول ما يصل.

إذا أقام المسافر مترددا فإلى أي مدة يقصر؟

إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة يقصر؟ إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك المدة؟ سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سواء كانت في مكة أو في تبوك. قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر) ، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً) . ] كم كانت إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟ أربعة أيام، ثم بعدها سفر متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى المدينة، فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما بين وصوله إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة عشر يوماً. فيكون قطعاً ليس في الحج، إنما هو في الفتح. هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة تسعة عشر يوماً، ولماذا؟ نعم. ظل يقصر خلال هذه المدة. قالوا: لأنه لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع. إذاً: لم يكن هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها والحمد لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له من هوازن، ومن هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة آلاف مقاتل، وهناك من مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير المسلمين، حتى أن من المشركين من خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن مكة. ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين، ورجع إلى مكة توجه إلى المدينة حالاً. إذاً: هذه المدة -التسعة عشر يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها الواقع، ولما انتهت المهمة ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة. وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل هذه الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن عباس في مكة -تسعة عشر سبعة عشر خمسة عشر ثمانية عشر فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك الروايات وقال: لا تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول وحسب يوم الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج، فلا تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم الخروج أو العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة، ولكنها في علم الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة عشر، وتسعة عشر) . وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها القصر إلى تسعة عشر يوماً، فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر، والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً احتياطاً، وعدنا إلى إتمام الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما نجد من يروي عن بعض العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين يوماً، فيظل المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في شرح الحديث: مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر ولو سنين) . والجمهور يقولون: لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في الصلاة إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته) ، والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر الأربعة الأيام فنحن كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من أول يوم، فكذلك في الحالة التي لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند المدة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً. ويقول الشوكاني: نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في المدة التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في مثل هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة وعشرين يوماً، فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمسة إذا قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة. فـ الشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر من تلك المدة يكون عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن إقامته صلى الله عليه وسلم طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد العشرين؟ هل يستمر على القصر أم يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام والقصر، فإذا كان الأمر محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر مستصحباً حكم السفر، وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام الاحتمال قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما، فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه، فنرجع إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص نعتمد عليه أكثر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [2]

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [2] لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده قصر الصلاة في السفر، وجاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا هذه الرخصة والصدقة من المولى جل وعلا، وللعلماء في هذه المسألة أقوال مختلفة.

حكم القصر لطلاب البعثات الدراسية والدورات التدريبية

حكم القصر لطلاب البعثات الدراسية والدورات التدريبية الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وبعد: فقد ورد أن هناك من يرى أن المسافر مهما كانت ظروفه فله أن يقصر حتى يرجع إلى بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم حتى رجع إلى مكة، ولكن ينبغي التأمل؛ لأنهم ينزلون هذا الحكم على صور لا تنطبق عليها أحكام السفر، ولعلنا سمعنا من البعض أنه يفتي الطلاب الدارسين في الخارج أن لهم الحق في الفطر في رمضان وقصر الصلاة حتى يعودوا إلى بلادهم، وهذا لا يتمشى مع قواعد السفر، لماذا؟ لأنهم متفقون على أن من كان مسافراً ونوى إقامة، فإن نية الإقامة تقطع حكم السفر، وخالف في ذلك الأحناف فهم يقولون: البدو الذين يتتبعون مواقع القطر نية إقامتهم في موطن من المواطن لا تقطع عنهم حكم السفر؛ لأنهم في ترحال دائم، إلا إذا بنوا خيامهم ومساكنهم فتكون نية الإقامة مصحوبة بالفعل. وهؤلاء الذين يذهبون إلى الدراسة أو إلى الدورة العلمية لا يجهلون متى تنتهي دراستهم أو متى تنتهي دورتهم التدريبية، فهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم يعلمون المدة التي سيمكثونها كأن تكون الدورة محددة بكذا أسبوع أو بكذا يوم، أو بكذا شهر، وإن كانت دراسة فالسنة الدراسية معلومة. إذاً: لا ينطبق عليهم حالة الإقامة المجهولة الأمد، فهي معلومة عندهم، والإقامة المعلومة عندنا ليس رخصة فيها عندنا إلا أربعة أيام. إذاً: كل من سافر لمهمة ويظل غائباً في سفرته إلى مدة يقال له: إن كانت مدة سفرك معلومة ومحددة بأربعة أيام فلك أن تقصر حتى ترجع، إن كانت محددة بأكثر من أربعة أيام فعليك أن تتم من أول يوم تصل فيه، وإذا كانت غير معلومة فلك الحق في القصر في مثل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والزائد عن ذلك حكمه الإتمام. إذا كان كل من خرج في بعثة أو في انتداب أو في دورة يعلم مدة إقامته في ذلك المكان، فقد خرج عن كونه مجهول المدة، فلا يحق له أن يقصر نظراً لهذه الملابسات. وإن كان خلاف هذا فقد قيل عن أبي حنيفة رحمه الله أو المذهب الحنفي بالرخصة إذا كان لا يعلم متى سيخرج، ويمثلون لذلك بالجيش المحاصر لبلدة ولا يعلمون متى سينتهي الحصار، فلهم أن يقصروا إلى العشرين يوماً، والأحناف يقولون: يقصرون حتى تنتهي المدة، ولو كانت شهراً أو شهرين أو أكثر أو أقل. وهناك من يحتج بخبر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل فسأل: ما حكم المسافر وإنا نقيم هناك العشرين يوماً نبيع ونشتري. فقال ابن عمر: أو ما علمت، لقد كنا بأذربيحان، وكنا قد حاصرنا الثلج، ووجدتهم يقصرون ستة أشهر. هنا قال بعض العلماء: هؤلاء أقاموا مدة ليست معلومة وقصروا ستة أشهر. ولكن الجمهور يجيب عن ذلك ويقولون: أذربيجان ليست مدينة معينة، ولكنها إقليم، وهذا الإقليم متسع، كما لو قائل: كنت بالكوفة، كنت بالبصرة، كنت بالعراق، كنت بالشام، كنت بمصر، والغزاة هناك ليسوا مرابطين في مكان واحد، إنما هم يتجولون، فإذا انتقل في أذربيجان مسافة توجب القصر أو تبيح القصر كان دائم السفر. فلو أن إنساناً سافر إلى الشام في مهمة، تقتضي أن يتنقل من دمشق إلى حمص، ومنها إلى حلب، وهكذا بين مدن الشام؛ فهو مسافر. لو جاء الحاج إلى مكة والمدينة أو جدة، فمجيئه إلى جدة سفر، ومن جدة إلى مكة سفر، ومن مكة إلى المدينة سفر، ولو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض أو إلى القصيم أو إلى الطائف، فكل هذا يسمى في حقه سفراً، وله أن يقصر فيه؛ لأنها أسفار ومسافات تبيح له القصر. إذاً: كل الصور الموجودة في بعثات دراسية أو نحوها مدتهم معينة فلا يدخلون في الخلاف أبداً، ولا حتى عند الأحناف، أما إذا كانوا في مدد غير محددة فالأحناف يرخصون: لهم أن يقصروا، والجمهور يقولون: لا يزيدون عن المدة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا جئنا بشخصين أقاما خارج البلد لمهمة طويلة ومضت المدة، وأحد الشخصين أتم الصلاة، والآخر استمر على القصر، فنقول: يا فلان! عودك إلى الإتمام عودة إلى الأصل، وأنت يا فلان! استمرارك على القصر على أي أساس؟ وما هو الأحوط في حق الصلاة: العودة إلى الإتمام، أو البقاء على القصر بدون أصل يعتمد عليه؟ إذاً: العودة إلى الإتمام والرجوع إلى الأصل على سبيل الاحتياط يكون أولى، وهذه المسألة كما ذكرت كثر النقاش والكلام فيها قديماً وحديثاً، في هذا ما أحببنا التنبيه عليه لم هذه الحالة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.

الاختلاف في روايات مدة قصره صلى الله عليه وسلم وجمع الإمام البيهقي بينها

الاختلاف في روايات مدة قصره صلى الله عليه وسلم وجمع الإمام البيهقي بينها قال المصنف: [وفي رواية لـ أبي داود: سبعة عشر، وفي أخرى خمسة عشر] . ما صنعه البيهقي رحمه الله هو -كما يقال- منهج علمي لطالب العلم ليخرج من مأزق اختلاف الروايات بما يمكن من الجمع بينها، فقد ورد: (تسعة عشر، سبعة عشر، خمسة عشر) فما هي الحقيقة؟ الكل حقيقة، باعتبار احتساب يومي الدخول والخروج في العدد، أو إسقاطهما، أو إسقاط أحدهما، وبقيت الخمسة عشر على أصول علم الحديث شاذة؛ لأنها خالفت الثقات. ونظير هذا أيضاً في الحج: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس: عجبت من أمر الناس، لم يحج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وأراهم يختلفون من أين أهلَّ، فمن قائل: أهلَّ في مكانه وفي مصلاه في ذي الحليفة، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحتله، بعد ما صعد الناقة وقامت ونهضت، ومن قائل يقول: أهل بالبيداء، والبيداء المحل المرتفع فوق ذي الحليفة بمسافة قريبة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك، أهل في البيداء، وعلى راحتله، وفي مصلاه، والكل صادق! هذه مواطن مختلفة، ومن قواعد الخلاف اختلاف الزمان والمكان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا أخبرك، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح أو الظهر -على خلاف في الروايات- وأهلَّ من مصلاه، فسمع ذلك قوم وأخبروا بما سمعوا، فلما ركب راحلته ونهضت به أهل، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا، ولم يكونوا سمعوا ما قبلها، فلما استوى على البيداء أهلَّ، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا ولم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، والكل صادق. ولا معارضة في ذلك. وعلى هذا فالواجب على طالب العلم حينما يمر بحديث ويأتي حديث آخر فيه شبه التعارض مع الحديث الذي مر عليه، فلا ينبغي أن يستقل بنفسه، ولا أن يقف بين الحديثين موقف المتردد أمام نصين شبه متعارضين عنده، وواجب عليه شرعاً ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يرجع إلى ذوي الشأن، وهم العلماء الذين جمعوا أطراف الأحاديث، ونظروا في الخلاف بينها، ثم جمعوا بين المختلف وبينوا لنا المنهج والطريقة، وهذا هو الذي يسلم به طالب العلم ويكون على بينة من أمره. قال المؤلف: [وله عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (ثماني عشرة) وله عن جابر رضي الله عنه: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ورواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله. ] الرواية المشهورة في تبوك: أنه مكث عشرين يوماً، سواء اختلف في وصله أو انقطاعه؛ فإن الروايات الأخرى عن ابن عباس وغيره أنه مكث عشرين يوماً، وإذا وقع خلاف في العدد فيكون على ما جاء في خبر مكة: تسعة عشر، ثمانية عشر، سبعة عشر إلى آخره. إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كانت للجهاد وكان قد علم الروم جمعوا وأنذروا وتواعدوا في تبوك، ونعلم أن تبوك هي منطقة الحدود بين الحجاز وبين الشام -موقع الروم- لأنه ليس بعد تبوك إلا الشام، فخرج صلى الله عليه وسلم حسب الوعد، في حالة شدة وحرارة، وقد بدأت الثمار بالنضوج وعنايتها مطلوبة، والناس يعانون من قلة ذات اليد، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى تجهيز الجيش، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه وقدم المئات والآلاف من الإبل بأقتابها ولوازمها، وقيل: جهز جيش العسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل اليوم) . ويهمنا أنه خرج صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إلى تبوك، وكان من عادته صلوات الله وسلامه عليه في الغزوات إذا أراد غزاة أن يوري بغيرها، فإذا أراد أن يغزو في الشرق يتساءل عن أحوال أهل الغرب، وإذا أراد أن يغزو في الغرب يتساءل عن أحوال وعن طرق أهل الشرق، حتى يظن الناس أن عنده سفرة إلى الشرق وهو يريد الغرب، وهذا كما يقال: من السياسة في الحرب، والحرب خدعة، وكما جاء في فتح مكة: اللهم عم عليهم الأخبار؛ حتى باغتهم في مكة. هكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم إلا هذه الغزوة؛ لطول المسافة، ولشدة الجهد وشدة الحر، أعلمهم قبلها بشهر، فقال: الموعد إلى تبوك في الوقت الفلاني، فأخذ الناس يتجهزون عياناً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ومكث فيها عشرين يوماً ينتظر الروم، فلما بلغه أن الروم لن يأتوا قفل راجعاً إلى المدينة. هذه الغزوة كانت غزوة مباركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالح كل القبائل التي في طريقه وحولها، فأمن الحدود بالصلح مع تلك القبائل، ورجع بسلامة الله، والحمد لله. والدارس لهذه الغزوة يجد أشياء عديدة: منها المبشرات: لما رأى أحداً من بعيد أسرع وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) ، ثم كانت حادثة مسجد الضرار، وأرسل صلى الله عليه وسلم من سبقه إليه فأحرقه على قضايا كانت قبل الذهاب وقبل الخروج. ويهمنا هنا: مكثه صلى الله عليه وسلم في تبوك، فقد كان على غير تحديد للمدة؛ لأنه كانت ينتظر العدو، ولم يعلم متى يأتي هذا العدو، والله تعالى أعلم.

مناقشة في مسألة قصر الصلاة في السفر

مناقشة في مسألة قصر الصلاة في السفر أيها الإخوة: قبل أن ندخل في مبحث الجمع لعلنا نناقش بعض الأسئلة في مسألة القصر من باب الاستذكار: السؤال: ما نوع القصر في السفر: هل هو قصر كيفية أو قصر كمية بالعدد؟ الجواب: قصر كمية. السؤال: هل هناك قصر كيفية أم لا؟ الجواب: الموجود ومحل البحث عند الجمهور قصر الكمية، بحيث تقصر الركعات إلى اثنتين. السؤال: هل هناك من يقول بقصر الكيفية أم لا؟ الجواب: نعم. هناك من يقول بقصر الكيفية كما ذكره الفخر الرازي في التفسير والشيخ الأمين في أضواء البيان. السؤال: كم طول السفر الذي يكون فيه القصر؟ الجواب: أربعة برد. السؤال: كم مقدار البريد؟ الجواب: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف تقريباً. إذاً: الأربعة البرد ستة عشر فرسخاً، وستة عشر فرسخاً تساوي ثمانية وأربعين ميلاً والثمانية والأربعون ميلاً تساوي حوالي اثنين وسبعين كيلو متراً. إذاً: المسألة تقريبية. السؤال: متى يشرع المسافر في القصر؟ الجواب: يشرع للمسافر القصر إذا خرج من البلد التي هو فيها. السؤال: وكيف يعرف أن قد خرج من بلده؟ الجواب: عند آخر معالمها. أي: نستطيع أن نقول: عند نهاية الخدمات الاجتماعية، فإذا خرج الإنسان عن تلك المناطق التي تشملها الخدمات العامة في البلد من كهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها، فقد خرج من البلد. السؤال: هل مسافة الاثنين والسبعين كيلو تشترط في الذهاب والإياب أم في الذهاب فقط؟ الجواب: الذهاب فقط، فلو أن السفر ذهاباً وإياباً مجموعه اثنين وسبعين كيلو فلا يصح فيه القصر. السؤال: هل يكون القصر لضرورة كما جاء في الآية: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] أم يجوز القصر مع الأمن والاستقرار والطمأنينة؟ الجواب: يجوز مع الأمن. السؤال: هل القصر رخصة أم عزيمة؟ الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إنه عزيمة، وهذا بناء على أن قصر الصلاة في السفر واجب. والقول الثاني وقال به الجمهور: إنه رخصة، واختلف هؤلاء، فمنهم من قال: رخصة والإكمال أتم، ومنهم من قالوا: رخصة والأخذ بالرخصة أفضل، وهم الإمام مالك وأحمد رحمهما الله. الحمد لله على هذه النعمة، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يذكرنا ما نسينا، ونسأل الله أن يشرح صدورنا، وينير بصائرنا، ويفقهنا في ديننا، إنه على كل شيء قدير.

الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط

الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط: قلنا: إن الأصوليين يقولون: تحقيق المناط هو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات، ويقولون في قوله سبحانه: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] ، فالحكم الأساسي في قتل الصيد أن من اصطاد شيئاً من النعم وهو محرم في الحرم، أنه يكلف بمثله، هذا الحكم هو حكم شرعي. إذاً: تحقيق المثلية هو تحقيق المناط، وقلنا: من قتل غزالاً فالمثلية تكون بشاة، ومن قتل بقر الوحش فتحقيق المثلية في البقرة الأهلية، من قتل نعامة فتحقيق المناط فيها بدنة. إذاً: تحقيق المناط، يعني: تطبيق الجزئيات على الحكم العام. أما التنقيح فهو التصفية، مثلاً: إذا جمعت الحب ولم تنقه وجدت فيه -إن كان براً مثلاً- التبن والحصى، فيأتي الرجل المتخصص بهذا ويأخذ الغربال وينقح الحب، بمعنى: أن يطرد الشوائب الغريبة ليبقى الحب صافياً، فكذلك الأحكام الشرعية فيها تنقيح. أي: تصفية الأوصاف الطردية التي لا اعتبار لها ولا تأثير في الحكم، وإبقاء الحكم للوصف المعتبر المراد، الذي هو علة الحكم. ويمثل الأصوليون بالأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صدره، ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت -كل هذه صفات- فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما الذي أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان، قال: تعتق رقبة، قال: ما أملك إلا رقبتي هذه، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني في المهلكة إلا الصوم، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعم ... ) يهمنا هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه الكفارة، عتق صيام إطعام. إذاً: هذه الكفارة التي رتبها صلى الله عليه وسلم هل رتبها على كونه أعربياً يضرب صدره وينتف شعره، أم على كونه واقع أهله؟ فهنا يأتي العلماء ويقولون: ننقح وننظر: فكونه أعرابياً لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين الأعرابي والحضري، إذاً تعليق الحكم على وصف الأعرابي بأعرابي يلغى؛ لأننا وجدنا الشرع لا يعتبر ذلك في الأحكام، فلا فرق بين أعرابي وحضري وتركي وزنجي. ووصفه: (يضرب صدره وينتف شعره) هل الكفارة فرضت عليه لكونه كان يضرب صدره وينتف شعره؟ الجواب: لا. إذاً: هذه أوصاف لاغية. وبقي من الأوصاف قوله: (واقعت أهلي) . فأهله لو كانت جارية مملوكة فماذا يكون الحال؟ قالوا: إذاً: الكفارة أنيطت بعد التنقيح بالوقاع، فمن واقع في نهار رمضان زوجة أو مملوكة فعليه كفارة. والإمام مالك رحمه الله أتى بغربال أنعم من هذا وزاد في التنقيح وقال: يلغى وصف (كونه واقع) ، ويجعل الوصف المؤثر. هو الفطر عمداً؛ لأنه بوقاعه أفطر عمداً فهو الوصف المناسب للحكم، فقال رحمه الله: من أفطر في رمضان عمداً فعليه كفارة، سواء كان بالوقاع أو كان بغيره؛ لأنه ألغى الوقاع في التنقيحة الأخيرة، وإذا ألغي الوقاع في هذه التنقيحات فلا يبقى إلا انتهاك حرمة رمضان بالفطر، والفطر كما يكون بالوقاع يكون بالأكل والشرب. ولهذا تجدون أن من فقه مالك في الموطأ أنه أتى بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره بالكفارة، وساق بعده قصة الأعرابي، فكأنه يقول: الأصل في ذلك الفطر، ثم يأتي بالحديث الآخر الذي عليه الجمهور. إذاً: هذا يسمى تنقيح المناط.

الجمع في السفر

الجمع في السفر قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر) . ] . قال أنس رضي الله تعالى عنه: (كان) وكان هنا تدل على التكرار والاستمرار. أي: كان من شأنه ومن عادته إذا سافر. وقوله: (سافر) المقصود بالسفر هنا ما تقدم بحثه في قصر الصلاة، يعني: إذا سافر سفراً تقصر فيه الصلاة، ويبدأ المسافر الشروع في القصر إذا جاوز ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، ووقع التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، لما صلى الظهر في هذا المسجد المبارك أربعاً تامة، وخرج من وقته ووصل إلى ذي الحليفة فصلى العصر هناك ركعتين. يعني: بدأ في إنشاء القصر بعد أن غادر المدينة، وهذه هي القاعدة في ابتداء القصر، وكذلك الجمع.

الصلوات التي تجمع في السفر

الصلوات التي تجمع في السفر قال العلماء: الجمع يكون لكل صلاتين اشتركتا في الوقت، فالظهر والعصر مشتركتان في الوقت، والمغرب والعشاء مشتركتان في الوقت، فلا يجمع عصر مع مغرب، ولا عشاء مع صبح، ولا صبح مع ظهر. وبحث الجمع يدور حول صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب والعشاء، هذا هو محل البحث في الجمع بين الصلاتين، بإجماع الأمة، فيقول أنس رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) وهذه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

الاقتداء بالفعل أقوى من الاقتداء بالقول عند ابن عبد البر

الاقتداء بالفعل أقوى من الاقتداء بالقول عند ابن عبد البر يقول ابن عبد البر: إن الاقتداء بالفعل قد يكون أكثر أثراً من الاقتداء بالقول؛ لأن الفعل ليس فيه احتمال. ويستشهدون لذلك بقضية الحديبية، فإنه لما تم الصلح بين المسلمين والمشركين على أن يتحلل المسلمون في مكانهم، ويرجعون ولا يدخلون مكة، وفي العام القادم يأتون ولهم البقاء في مكة ثلاثة أيام يؤدون عمرتهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اصطلحنا على أن نتحلل فتحللوا، فلم يبادر أحد، وتأخروا لا بقصد عدم الطاعة ولكن لأنهم كانوا يؤملون أن يتم لهم الوصول إلى مكة وقد وصلوا إلى مشارف الحرم. بعض العلماء يقول: كانت خيامهم في الحل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة دخل إلى حدود الحرم وصلى في حدود الحرم؛ لأن الحديبية في حدود الحرم من جهة المشرق. إذاً: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادروا إلى الامتثال، ولما دخل على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهو مغضب، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: قد انتهينا مع أهل مكة على الصلح على كذا وكذا، وأمرتهم بالتحلل فلم يمتثلوا، قالت: اعذرهم، أتريد أن يفعلوا ما تحب؟ قال: بلى، قالت: خذ المدية أو السكين واخرج ولا تكلمن أحداً أبداً، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق ليحلق لك، ثم الزم خيمتك. وهذه سياسية لطيفة جداً، سياسة الرفق في الدعوة، بخلاف ما كان من عمر، فهو يقول: علام نعطي الدنية في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فكان يريد أن يقاتل، والذي يذهب إلى الجنة يذهب، والذي يذهب النار يذهب، ولكن أم سلمة رضي الله عنها جاءت بحل سلمي، وهو صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: أنت لا تعلمين شيئاً، أو ليس لك شغل في هذا، بل وجد صلى الله عليه وسلم أن الرأي مقبول، وهذا هو الواجب على طالب العلم، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من السماء يقبل بالرأي الصائب فكيف بنا؟ فأخذ السكين وخرج إلى هديه فنحره، ودعا الحلاق وقال: احلق، فلما رأى الصحابة ذلك لم يبق لهم مطمع في الدخول إلى مكة، وما كان منهم إلا أن بادروا حتى كادوا يهلكون من تزاحمهم على النحر والحلق. إذاً: اتباع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للفعل أسرع منهم اتباعاً للقول.

جمع التأخير إذا دخل الوقت والمسافر مرتحل

جمع التأخير إذا دخل الوقت والمسافر مرتحل هذا أنس رضي الله عنه يقول: (كان) يحكي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر. قوله: (إذا ارتحل) أي: شد الرحل على الناقة، وهي كناية عن بداية الرحلة. قوله: (كان وقت ارتحاله في النهار) (قبل أن تزيغ الشمس) : عادة المسافرين أنهم يصلون الصبح وينطلقون؛ لأن في ذلك الوقت بركة، وتكون الإبل مستريحة طوال الليل فيمشون إلى وقت الضحى، كما يقولون: (نضحي) أي: ننزل نضحي، فالضحوة قبل الظهر، (ونعشي) أي: بعد العصر قبل المغرب، فيريحون الإبل إلى أن يصنعوا عشاءهم ويدخل المغرب فيصلون. فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صادف أن ارتحل في النهار إما أن يكون قبل الزوال وإما أن يكون بعد الزوال. وقوله في الحديث: (تزيغ الشمس) بمعنى: تزول عن كبد السماء، يقول أنس رضي الله عنه: إن كان ارتحاله قبل الزوال -يعني: قبل مجيء وقت الظهر- وليس هناك صلاة لا تقديم ولا تأخير، فإنه يؤخر الظهر إلى التي تليها وهي العصر، ثم بعد ذلك ينزل، يعني: بعد أن يدخل وقت الظهر وهو في سفره، ثم يدخل وقت العصر وهو في سفره، فيصليهما جميعاً. وعلى هذه الصورة يعتبر في هذه الحالة جمع تأخير. يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (فإن كان ارتحاله بعد أن زاغت الشمس) أي: بعد دخول وقت الظهر (صلى الظهر ثم ركب) أي: لم يجمع إليها العصر. إذاً: في حديث أنس: الجمع جمع تأخير، وليس فيه جمع تقديم.

صور الجمع

صور الجمع ومن هنا نشير إلى موقف العلماء من صور الجمع وهي ثلاث صور: جمع تأخير، وجمع تقديم، وجمع صوري. ويتفق العلماء أو الباحثون أو شراح الحديث على أن جمع التأخير الذي في حديث أنس يقول به داود الظاهري وابن حزم، ولا يقولان بغيره. إذاً: جمع التأخير فقط هو مذهب داود وابن حزم لحديث أنس؛ لأن أنس ذكر لنا الحالتين، يرتحل بعد أن تزيغ، يرتحل بعد أن تزيغ، وهما حالتان متعادلتان، وذكر لنا جمع التأخير ولم يذكر لنا جمع التقديم، ورجح ابن حزم ما ذهب إليه في جمع التأخير، فقال: إن تأخير الظهر عن وقتها قد يكون عادة عند بعض الناس حيث ينامون عنها أو ينسونها، فإذا نام إنسان عن صلاة حتى خرج وقتها فإنه يقضيها في وقت الثانية. قال: إذاً: هذه لها أصل، وكونه يقضيها في وقت الثانية يؤيد جمع التأخير، لكن لا يجوز أن نقدم صلاة عن وقتها. فهذا الحديث أخذ به داود وابن حزم، ولم يقولا بغيره من صور الجمع.

دليل جواز جمع التقديم

دليل جواز جمع التقديم ولكن المؤلف رحمه الله لما أتى بحديث أنس وهو متفق عليه أتبعه بما يوجد من النصوص لما ينبغي النظر فيه من حيث صناعة علوم الحديث؛ ليبين مواقف الأئمة أو العلماء الآخرين من حديث أنس هذا، وهل حديث أنس مقتصر على ذلك أم له طرق أخرى وزيادات؟ فجاء المؤلف بما يزيد على قول أنس رضي الله عنه. فقال: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) . وفي رواية لحديث أنس عند غير البخاري ومسلم، أتى بها الحاكم في مصطلح الحديث شأنه عجيب، يقولون: الحافظ من حفظ مائة ألف حديث، والحجة من حفظ ألف ألف حديث، والحاكم من حفظ كل ما يؤثر عن رسول الله، ونحن كم حفظنا؟ والله نحن صفر في الخانة الرابعة على الشمال، لأنا ما حفظنا شيئاً، وأعتقد أن الذي يدعي في الوقت الحاضر أنه من أهل الحديث قد ظلم نفسه، ولا أقول: ظلم الحديث بل ظلم نفسه. فـ الحاكم روى حديث أنس، والحاكم حافظ استوعب كل شيء، فهو يروي حديث أنس الذي رواه الشيخان، وهل رواية الشيخان للحديث تمنع أن يرويه غيرهما؟ لا، لأنهما ما قالا: قد استوعبنا كل ما يمكن أن يكون على شرطنا، فقد يتركون من الأحاديث ما استوفى شرطهما من اللقاء أو احتمال اللقاء، مع الثقة والعدالة والحفظ في كل راوٍ، لكن ما استوعبا كل هذه الأوصاف، بل اختاروا وانتفيا. إذاً: البخاري ومسلم ساقا لنا حديث أنس على هذا الوضع، وغيرهم ساق لنا الحديث برواية أخرى. قوله: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر) ] وورودها بإسناد صحيح، معناه أنه ليس لأحد أن يناقش فيها بعد ذلك. إذاً: الحاكم حكم بأن إسناده صحيح فمن يقدر أن يعارض، فحكم الحاكم يرفع الخلاف. إذاً: وفي رواية للحاكم في الأربعين التي اختارها بإسناد صحيح. (صلى الظهر والعصر ثم ركب) . كأن أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر وصلاها مع العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب. إذاً: الفرق بين رواية الحاكم ورواية الشيخين في حديث أنس هي: ذكر العصر مع الظهر في وقت الظهر. إذاً: سكوت الشيخين في رواية أنس عن تقديم العصر يأتي في رواية الحاكم وتثبت ما أسقطه الشيخان، فهذه زيادة عما في الصحيحين، والزيادة من ثقة، وزيادة الثقة عن المحدثين مقبولة. إذاً: المؤلف رحمه الله بفعله هذا بين لنا صناعة الحديث، أن حديث أنس في رواية الشيخين اقتصر على الظهر فقط في وقت الظهر، وجاءنا غيره برواية ثقات بزيادة العصر معها. إذاً: عند الحاكم جمع تقديم وتأخير، وليس جمع تقديم فقط. وهنا وقفة أيضاً: أخذ الشافعي وأحمد أن الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت سنة عنه صلى الله عليه وسلم، إن شئت في التقديم وإن شئت في التأخير، ولكن على هذا الترتيب: إن كان الرحيل بعد دخول وقت الأولى صلاها وقدم الثانية معها، وإن كان الرحيل قبل دخول الأولى أخر الأولى إلى وقت الثانية وصلاهما معاً، فهذا قال أحمد الشافعي، وقد انتهينا من ابن حزم في قوله بجمع التأخير فقط، وجاءنا هنا أحمد والشافعي رحمهما الله بقول في رواية الحاكم بأنه كان يجمع الظهر والعصر إذا دخل وقت الظهر قبل أن يرحل، وأخر الظهر مع العصر إذا ارتحل قبل دخول الظهر، وقالوا: لك أن تجمع على أي صورة شئت تقديماً أو تأخيراً.

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [3]

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [3] لقد رخص لنا الشارع الحكيم بجمع الصلوات إلى بعضها في السفر وجاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيفية هذا الجمع ومدته وأسبابه، وكذلك رخص الشارع للمريض في الصلاة أن يصليها على الهيئة التي يستطيعها إما قائماً أو قاعداً أوعلى جنب.

الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر

الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر قال المصنف: [ولـ أبي نعيم في مستخرج مسلم: (كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) ] . زادنا المصنف رحمه الله أيضاً رواية أخرى في المستخرج على مسلم مثل ما جاءنا به عن الحاكم، والحمد لله. قال المصنف: [وعن معاذ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) رواه مسلم] . هذه عجيبة! فبعدما أتى بحديث أنس في الصحيحين ورواية الحاكم والمستخرج على مسلم، جاءنا بحديث معاذ يروي: (أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) فقوله: (جميعاً) هل هي جمع تقديم أم جمع تأخير؟! الجواب: يحتمل الاثنين! إذاً: إذا وجد احتمال بطل الاستدلال. ولكنهم يقولون: ومع الاحتمال فإن قوله: (صلى الظهر والعصر جميعاً) يشعر بالتأخير، (وصلى المغرب والعشاء جميعاً) يشعر بالتأخير، وبعضهم يقول: بل يُشعر بالتقديم. إذاً: حديث معاذ لم يعين حقيقة الجمع ما بين تقديم أو تأخير، لكنه يثبت عموم الجمع (جمع الظهر والعصر جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير، (والمغرب والعشاء جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير. إذا: حديث معاذ يثبت وجود الجمع بين الصلاتين.

أدلة القائلين بمنع الجمع مطلقا

أدلة القائلين بمنع الجمع مطلقاً وهنا يسوق المؤلف حديث معاذ رضي الله عنه رداً على الإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقول بمنع الجمع مطلقاً لا تقديم ولا تأخير، فإن قيل له: وهذه النصوص ما تعمل بها؟ قال: إنما كان جمعاً صورياً. معاذ رضي الله عنه لم يقل: أخر وقدم، أو: صلى في آخر هذه وأول هذه بل قال: (صلى الظهر والعصر جميعاً) وجميعاً تدل على أنهما مجموعتين في وقت إحداهما، وهذا هو الظاهر. وهنا يقال: بم استدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله على منع الجمع مطلقاً وحمل الحديث على الجمع الصوري؟ يقول الأحناف: الأصل في الصلوات الخمس أن تصلى في أوقاتها: (أفضل الأعمال إلى الله: إيمان بالله، والصلاة على وقتها) ، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] . وجبريل عليه السلام نزل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في أوقاتها، والأعرابي الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة فقال له: (صل معنا اليوم وغداً) ، وصلى، فأوقع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليوم الأول على أول وقتها، وأوقع الصلوات الخمس في اليوم الثاني على آخر وقتها، إلا المغرب صلاه في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاه في اليوم الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله، قال: (ما بين هذين وقت) يعني: جعل كل صلاة في وقتها، وبيَّن المسافة بين أول الوقت وآخره. فقالوا: هذه أمور قطعية بإجماع الأمة، فالخروج عنها يحتاج إلى قطعي مثله، وهذه الأحاديث كحديث معاذ وغيره أحاديث آحاد، ولا يمكن ترك القطعي إلى الآحاد. واستدلوا بقول عبد الله بن مسعود وهو أكثر الناس تمسكاً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ فقد جاء عنه عند بعض أصحاب الحديث: (والذي يحلف به ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة لغير وقتها إلا الظهر والعصر في عرفات، والمغرب والعشاء في جمع، والصبح صلاّه في أول وقته) فأخذوا بهذا الحديث، وقالوا: هذا يحلف أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة في غير وقتها، وأنتم تقولون: قدموا وأخروا.

الرد على أدلة المانعين من الجمع

الرد على أدلة المانعين من الجمع والجمهور يقولون: صح من فعله صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص الصحيحة، أنه كان يجمع بين الصلاتين. وقالوا: إن أحاديث الجمع بين الصلاتين تقيد المطلق من تلك النصوص القطعية التي جاءت في بيان أوقات الصلوات الخمس، فهذه خصصتها. أي: أن تلك الأوقات في الصلوات الخمس في الحالات العادية، وأن الجمع في خصوص السفر، وحالة السفر خاصة من عموم حالات الصلاة العادية، وبهذا أخذ الجمهور بجواز الجمع بين الصلاتين، ولكنهم يختلفون بين أن يكون جمع تقديم أو جمع تأخير. فـ ابن حزم قال بجمع التأخير فقط، وأحمد والشافعي قالا بالجمع في الحالتين تقديماً وتأخيراً. وأبو حنيفة رحمه الله ليس عنده جمع إلا في الحج، فقال: الجمع بعرفات والمزدلفة ثابت وصحيح، وقال: إن الجمع في عرفات وفي مزدلفة من مناسك الحج وليس من أجل السفر، واستدل بفعل أهل مكة معهم، فقال: أهل مكة ليسوا بمسافرين، وقال: حتى من كان يسكن في أرض عرفات فله أن يجمع مع المسلمين إن كان حاجّاً، فمن حج من أهل منى، ومن حج من أهل المزدلفة، ومن حج من أهل عرفات فله أن يجمع مع الحجاج؛ لأن الجمع نسك عند الأحناف. والجمهور يقولون: الجمع من أجل السفر وليس من أجل الحج.

مذهب الإمام مالك في الجمع

مذهب الإمام مالك في الجمع وهناك بقي علينا مذهب مالك، فـ مالك رحمه الله جاءت عنه روايات: أولاً: رواية كراهية الجمع، فقال: أن يصلي كل فرض في وقته في سفره أولى. والرواية الثانية: الجمع بدون كراهية، ولكن قال: لا يجمع إلا لحاجة، كخوف أن تفوته مصلحة. ورواية ثالثة: يجمع جمع تأخير فقط، كما قال ابن حزم ورواية رابعة يجمع جمع تقديم وتأخير بلا كراهية ولا حاجة. إذاً: مالك له روايتان في الجمع: رواية المنع ورواية الجواز، ومع هذا تفصيل، وهذا التفصيل ذكره عنه ابن عبد البر في التمهيد، فمن أراد أن يرجع إليه فهو في الجزء الثاني عشر، وذكره أيضاً الخرشي على خليل في تفصيل مذهب المالكية. إذاً: هناك من قال: هو جمع صوري ولا يوجد جمع تقديم ولا تأخير. وهناك من قال بجمع التأخير فقط ولا يوجد جمع تقديم عنده. وهناك من قال بالجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً. وهناك من جاء عنه التفصيل فيما يتعلق بالكراهية وعدم الكراهية، كما هو عند مالك.

نقض ابن عبد البر على من قال بالجمع الصوري

نقض ابن عبد البر على من قال بالجمع الصوري نرجع إلى من يقول: إنه جمع صوري، يقول بعض العلماء رداً على ذلك، وخاصة ابن عبد البر فقد ناقش المسألة نقاشاً دقيقاً وطويلاً، قال: إن القول بجمع الصلاتين تخفيف، وإن تحري آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية فيه مشقة كبيرة. والآخرون يقولون: المسألة ليست مسألة هندسية على الصفر والزاوية، بل المسألة تقريبية في الأوقات، فإذا نزل في آخر وقت الأولى وصلاها وتحرى دخول الثانية وهو في مجلسه ففيه تخفيف من كونه يتهيأ للصلاة مرة واحدة بوضوء واحد، ويأتي إلى محل الصلاة، فإذا كانوا جماعة فإنهم يجتمعون للصلاة جماعة، ويكون اجتماعهم واحداً، ففيه أيضاً إرفاق، كما جاء في المستحاضة حيث، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع الصوري. وهنا يقول ابن عبد البر -ولم أره لغيره أبداً- إن القول بالجمع الصوري يتبعه منع الجمع الصوري في غير هذه الصور. فمثلاً: إذا قلتم: إن الجمع الصوري للتخفيف، وحقيقة الحال أن كل صلاة وقعت في وقتها، فيجوز أن يؤخر العصر لآخر وقتها، ويقدم المغرب لأول وقتها، ويجمع بينهما جمعاً صورياً، وسيوقع كل صلاة في وقتها، وأنتم تمنعون ذلك، فلم المنع؟ فإن قلتم: لأنها لا تشترك معها في الوقت؟ قلنا: نحن لم نجمع حتى تقولوا ذلك، وطالما أنكم قلتم إن الجمع صوري فندعها على الصورية هذه، وما دام أن كل صلاة وقعت في وقتها فلا جمع، والإنسان لو أخر صلاة العصر إلى آخر وقتها، ولم يبق عن غروب الشمس إلا مقدار ركعتين، فصلاته أداء، فإذا دخل وقت المغرب صلاه في أول وقته وأنتم تقولون: إذا أخر صلاة العصر لشغل أو نسيان كما لو نام وقام قبل الغروب بما يسع ركعة فإنها تعتبر أداء وليست قضاءً، فلماذا هنا لا تتركونه يأتي بالمغرب في أول وقتها والعصر في آخر وقتها؟ قالوا: هذه بعذر، ولماذا يأتي بها في أول الوقت بدون عذر؟ ونحن هنا لا نناقش المسألة، لكن نورد كلام ابن عبد البر، وهو كلام دقيق جداً، فإذا كانت القضية ستدور على الجمع الصوري وكل صلاة ستقع في وقتها، فما الذي يمنع أن يجمع جمعاً صورياً بين العصر والمغرب، وأنتم تمنعون ذلك بالإجماع؟! إذاً: الجمع الصوري لا قيمة له، ولا يتمشى مع هذه النصوص الموجودة، لأنه لو كان على الصورة فالصورة تقع في غيرها، وأنتم لا تقولون بذلك. إذاً: الجمع الصوري لا وجود له في الحالات العادية، أما المستحاضة فلمرضها، وسيأتي التنبيه على هذه القضية؛ فالمرض أو الحاجة في حديث ابن عباس يأتي فيما بعد إن شاء الله. إذاً: الجمع بين الصلاتين في السفر جائز أم ممنوع؟ جائز جاءت به السنة، وله صور ثلاث: الأولى تقديم، والثانية تأخير، والثالثة صوري، والذي قال بجمع التأخير فقط ابن حزم وشيخه داود، وقال بجمع التقديم والتأخير معاً أحمد والشافعي، والذي منع من الجمع وقال بالجمع الصوري أبو حنيفة، ومالك رحمه الله جاءت الرواية عنه مختلفة.

حكم الجمع للمسافر إذا أقام مدة معلومة أو مجهولة

حكم الجمع للمسافر إذا أقام مدة معلومة أو مجهولة قبل أن ننتقل من مسألة الجمع نقول: إلى متى يجمع، ومتى يُكف عن الجمع؟ هناك من يقول: الجمع لا يكون إلا عند جد السير، أما إذا نزل في طريقه يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة على ما قلنا في قصر الصلاة بنية إقامة محددة أربعة أيام، أو بإقامة غير معلومة إلى عشرين يوماً، فهل يجمع في إقامته تلك مع قصر الصلاة أم يقصر فقط؟ هناك من يقول: لا يجمع إلا إذا جد به السير، وهذا القو لـ مالك ومن وافقه كـ الشافعي وغيره. وهناك من يقول: يجمع سواءً جد به السير أو نزل نزولاً مؤقتاً. ومن رجع إلى موطأ مالك وجد حديث معاذ بن جبل، وفيه بعض الروايات في غزوة تبوك تدل على ما يستدل به من يقول: يجمع ويقصر سواء جد به السير أو نزل نزولاً مؤقتاً على ما تقدم في التوقيت بنية الإقامة، أو لانتظار قضاء حاجته، فمدة وجود رخصة القصر تكون رخصة الجمع. والله تعالى أعلم. والشافعية أيضاً يقولون: لا يحق لإنسان أن يجمع جمع تقديم إلا إذا كان ذلك عند صلاة الأولى، ولا جمع تأخير إلا في وقت الثانية، وأن ينوى تأخيرها إلى التي بعدها قبل أن يحل وقتها، فإذا أخرها وصلاها كانت أداء ولا إثم عليه بالتأخير، وإذا لم ينو حتى خرج وقتها كان آثماً بتأخيرها، ولكن صلاته صحيحة.

حديث: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد)

حديث: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد) قال المصنف: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة. ] . عوداً على ما تقدم من المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ولعل المؤلف رحمه الله أتى بهذا النص هنا عقب الجمع ليبين لنا أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو السفر الذي تجمع فيه الصلاة. وحديث: (لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد) يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف، والتحقيق عند علماء الحديث وفي موطأ مالك رحمه الله أن هذا من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وهل ابن عباس يشرع للناس ويؤقت؟ يقول العلماء في مثل هذا -أي: ما يتعلق بالتشريع والعبادات وبالصلاة أهم أمر الإسلام-: إنه لا يقال فيه بالرأي، ولا يكون ابن عباس قال ذلك إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ابن عباس لما قال ذلك لم يقل: سمعت رسول الله، ولم يقل: قال رسول الله كما في الخبر الذي تكلم فيه ابن عباس، ولم يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ، فنأخذه عن ابن عباس موقوفاً عليه، ويحكم له بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم الكلام في الأربعة البرد.

حديث: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا)

حديث: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا) [عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا فأفطروا) أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو في مسند سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصراً. ] . هذا الحديث لا أدري كيف ساقه المؤلف على الضعف الذي فيه، ولكن بعضهم يقول يشهد لهذا المعنى العام، فقوله: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا) يشهد له قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، فهذا يتذكر إذا أصابه لمم من الشيطان، وقوله: (مبصرون) بمعنى: استغفر وتاب. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أساء العبد أو أخطأ فاستغفر غفر الله له) ، أو الحديث القدسي: (غفرت له على ما كان منه ولا أبالي) كمافي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. أما قوله: (إذا سافروا قصروا وأفطروا) فهذا موضع النزاع، وضعف الحديث يوجب ألا يعول عليه في الاستدلال على قضية كهذه.

صلاة المريض

صلاة المريض

جواز القعود للمريض في الصلاة إن عجز عن القيام

جواز القعود للمريض في الصلاة إن عجز عن القيام قال المصنف: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري] . بدأ المؤلف بالشطر الثاني من العنوان: (صلاة المسافر والمريض) ونبهنا في الأول على أنه جمعهما لجامع رفع المشقة، لأن قصر الصلاة وجمعها تخفيفاً على المسافر ورفعاً لمشقة السفر، وكذلك التخفيف على المريض في أداء الصلاة. وفي الحديث أن الرجل اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن عنده بواسير -عافانا الله وإياكم- وهي قد تحول دون القيام أو الركوع، وهذا كمثال فقط، وإلا فمراحل هذا المرض عياذاً بالله متفاوتة، فقد يكون في بدايته لا يعيق الإنسان عن أي شيء، وقد يكون مشتداً، وقد يؤدي إلى نزيف. وهنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل قائماً) لاحظوا في الجواب هو شكا إليه يطلب التخفيف أو الرخصة، فيأتيه صلى الله عليه وسلم بالمبدأ ويبني عليه، فيقول: (صل قائماً) أي: هذا هو الأصل، فإن لم تستطع القيام فصل قاعداً، فإن لم تستطع قائماً ولا قاعداً فعلى جنبك. يقولون باتفاق: يصلي على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة، فإن لم يستطع على جنبه فمستلقياً على ظهره، وإذا كان مستلقياً على ظهره فقدماه إلى القبلة ورأسه إلى عكسها؛ لأنه إذا كان القدمان إلى القبلة فاستطاع أن يجلس أثناء الصلاة سيستقبل القبلة، والله تعالى أعلم.

زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى

زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى قال المصنف: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه] . وهذا الحديث أيضاً في صلاة المريض، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً لم يسمه الراوي لنا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى، ولم يقتصر ذلك على أصحابه رضوان الله عليهم، بل عاد خادماً له كان يهودياً كما جاء في الخبر: أنه تأخر عنه غلامه اليهودي فسأل عنه، فقالوا: إنه مريض، فقال: قوموا بنا نعوده، وذهب صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى هذا الغلام الخادم، فوجده في ساعته الأخيرة، فجلس إلى جنبه وقال: (يا غلام! قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه اليهودي عند رأسه، فقال اليهودي لولده، يا بني! أطع أبا القاسم، فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبكم) . انظر إلى عظمة الإسلام! في آخر لحظة من حياته، وفي آخر نفس من أنفاسه، ينطق بالشهادتين، فتثبت له الصحبة لرسول الله صلى الله، والأخوة للمسلمين، وانقطع ما بينه وبين أبيه. المانع عظيم جداً: (تولوا أنتم أمر أخيكم) متى كان أخي وهو يهودي! ولكن: بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صار أخاً لنا، وانظروا كم في هذه الزيارة من البركة، حيث أنقذ الله بها إنساناً من النار ونقله إلى الجنة، ولم يركع ركعة ولم يسجد سجدة لله. إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يعود المرضى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم فيه تألف لغير المسلمين، وبيان مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. يذكر ابن شبة في تاريخ المدينة: أنهم أول مجيء المهاجرين في الهجرة كانوا إذا مرض الواحد من المسلمين واشتد به المرض واحتضر، آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه إلى بيته، وحضر تغسيله وصلى عليه، ثم يذهب معهم لدفنه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله وشققنا عليه، لو أننا تركنا إخباره وقمنا على ميتنا فجهزناه ونقلناه إلى رسول الله يصلي عليه في بيته، فتركوا الإخبار، وكانوا يجهزون الموتى ويأتون بهم، ويضعون الجنازة في الجهة الشرقية من المسجد -وتسمى إلى الآن: مصلى الجنائز، ودرب الجنائز أي: الطريق الذي يأتي من قبلي المسجد- وتوضع في فرش الحجر، وهو السور الموجود الآن حالياً ما بين باب جبريل وباب البقيع الجديد، فكانوا يأتون ويضعون الجنازة ويخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج ويصلي على ميتهم. إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يذهب إليهم في بيوتهم، وهذا فيه من جبر الخاطر وتطييب النفس الشيء الكثير.

صفة جلوس المريض إذا صلى قاعدا

صفة جلوس المريض إذا صلى قاعداً [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) . رواه النسائي وصححه الحاكم] أتى المؤلف رحمه الله بحديث عمران بن حصين في صلاة المريض، وعرفنا كيف يصلي قاعداً، وعلى جنبه، أو مستلقياً على ظهره. وقوله: (صل قاعداً) : القعود له عدة صور وحالات: قعود في الصلاة للتشهد، وبين السجدتين، وقعود في غير الصلاة متربعاً متوركاً، فعلى أي الحالات يصلي العاجز عن القيام قاعداً؟! يأتي المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً متربعاً) . متى صلى قاعداً؟ في النافلة خاصة، وفي مرضه، وتقول: كان يقوم ويقرأ ما تيسير من القرآن، فإذا تعب جلس أو ركع ثم جلس، وسجد من جلوس، المهم عندنا: أنه في حالة صلاته جالساً يكون متربعاً. والتربع: وضع كل من الساقين تحت الأخرى. وهل يضم في الصلاة كما لو كان قائماً أم يضع يديه على فخذيه؟ هناك من يقول: يضع يديه على صدره، قالوا: هذه صورة القيام، وهناك من يقول: يضع يديه على فخذيه، وقالوا: هذه صورة التشهد، قالوا: لكن هي الأقرب. وبعضهم يقول: إن المالكية أخذوا السدل في الصلاة من صلاة الجالس وأنه لا يقبض ويضع يديه على فخذيه، لكن الشأن في القياس أن يستوي الأصل والفرع في الحكم، وهذان لا يستويان، فهذه نافلة وهو قاعد، وتلك فريضة وهو قائم. إذاً: القياس هنا ليس له محل، لكن هذه الصورة اختارها كثير من العلماء. والبعض قال: يجلس جلسة التشهد؛ لأنها جلسة من ضمن الصلاة، فإذا عجز عن القيام فإنه يصلي قاعداً على حالته التي يقعدها في الصلاة لجزء من الصلاة وهو التشهد. وبعضهم قال: يجلس متوركاً كما في التشهد الأخير، وباتفاق: أنه كيفما جلس وصلى قاعداً على الحالة التي يستريح إليها فصلاته صحيحة؛ لأنه ما رخص له في الصلاة قاعداً إلا لرفع المشقة عنه، وهي رخصة له، فإذا كان تربع وهو بدين ومتين وساقاه ثقيلان، فذلك سيؤلم أعصابه، وإذا لم يستطع التربع ولا جلسة الصلاة فليمد رجليه وهو جالس، ولا مانع من ذلك. إذاً: يأخذ بما هو الأيسر له، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

حكم الجمع للمريض

حكم الجمع للمريض وهناك حديث تركه المؤلف هنا أو لم يأت به بالكلية، وهو حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر) ويقول ابن عبد البر: جاءت الرواية: (من خوف ولا سفر) . وتتمة لهذه الفائدة أو لهذا الموضوع يذكر العلماء الشيء الكثير في هذا. فبعضهم يقول: قد نسخ، ولا ينبغي الجمع في الحضر أبداً، وبعضهم يقول: للمطر والبرد الشديد والطين والوحل. وبعضهم يقول: هذا في المغرب والعشاء فقط كما قال مالك؛ لأن فيها المشقة. وبعضهم يقول: هذا خاص بالمسجد النبوي فقط؛ لأن الناس تحرص على الصلاة فيه لفضله، ويأتون إليه من بعيد، وتلحقهم المشقة إذا جاءوا لجميع الصلوات. وأحب أن أقول: إن هذا الجمع في الحضر يكون للمريض الذي لا يجد من يوضئه في الأوقات كلها، وكذلك الآن من كان مقدماً على إجراء عملية في وقت الأولى، وسيظل في البنج إلى الثانية فله أن يقدم الصلاة الثانية حتى لا تضيع عليه. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [1] صلاة الجمعة شعار عظيم في الإسلام، ولذلك اختلفت عن بقية الفرائض، فاختصت باشتراط الجماعة لها والعدد المعين والمكان، وغير ذلك.

التحذير من ترك الجمعة وبيان وجوبها

التحذير من ترك الجمعة وبيان وجوبها

تاريخ المنبر النبوي

تاريخ المنبر النبوي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) ] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى عن هذين الصحابيين الجليلين أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهين أقوام) ، وكان يمكن أن يأتي الحديث على صورة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهُنَّ) ، ولكنهما أتيا بصورة مصورة مشخصة، حتى لكأن السامع ينظر إلى صورة إلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها على المنبر، فأتيا بهذه الصورة المجسمة أمامنا وكأننا في حمى منبر رسول الله، أو بجواره نصغي السمع إليه صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الأسلوب من أساليب التأكيد والتوثيق؛ ليوثقا للسامع أنهما سمعا وضبطا الحديث بملابساته واقعاً وفعلاً، فليس هو مجرد سماع أو نقل عن غيرهم، بل هو سماع مباشرٌ على أعواد منبره، أي: أنه قاله في جمع من المسلمين ملتفين حول المنبر، فكان هذا مشهوراً متواتراً عظيم الشأن سمعه الجميع. وقولهما: (على أعواد منبره) تحقيق للواقع أيضاً؛ لأن المنبر أول ما صنع من أعواد، وكما جاء في تاريخ المنبر أنه صنع في السنة الثامنة من الهجرة بعد وقعة خيبر، وكان من شأنه أيضاً أنه كان مدرسة، فهذا المنبر صدر عنه ما لم تصدره أعظم منصة جامعية في العالم، فكم من قضية عالجها رسول الله على المنبر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه إذا حزب أمرٌ أو استجد أمرٌ قال: (احضروا المنبر) فيحضرون إليه. وقد صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقام للصلاة ثم ركع وهو على الدرجة الثالثة، ثم نزل القهقرى فسجد سجدتين، ثم رجع إلى المنبر، وهكذا، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فاستخدم المنبر منصة لتعليم الناس كيفية الصلاة، وهي أهم شيء في الدين، وهكذا كثيرٌ من القضايا، وكنت أتمنى أن أجد طالب علم جامعي يتتبع قضايا المنبر النبوي وما عولج عليه من قضايا، فيقدمها إلينا أثراً لهذا المنبر الشريف. ويكفي في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ أو يستند على جذع من جذوع النخل؛ لأن المسجد في أول بنائه قبل أن يجدد في السنة السابعة كان من جذوع النخل وجريده، فكان بعض أجزائه في القبلة يستند إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يطوّل قيامه جاءت امرأة من الأنصار وقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً صناعاً -أي: نجاراً- ائذن لي أن آمره فيصنع لك منبراً تجلس عليه وأنت تخطب فأذن لها، وفي مدة ثمان سنوات ما خطر على بال أحد أن يصنع منبراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لكونه طلباً لنفسه، فمجيئه من غيره أفضل، فذهب الغلام وأخذ أعواداً من الغابة بالمدينة، وجاء وصنع المنبر من أعواد، وكان ثلاث درجات، درجة يصعدها، ودرجة يقف عليها، ودرجة يجلس عليها، وهكذا ظل المنبر إلى أن احترق في حريق المسجد الأول، وبالله تعالى التوفيق. فكان صلى الله عليه وسلم يخطب على الجذع بادئ الأمر، ثم صنع المنبر ووضع في مكانه اليوم، ومن الحكمة أن المنبر في موضعه لم يتحرك شرقاً أو غرباً، ولا شمالاً ولا جنوباً، ولكن امتد طوله من الجنوب إلى الشمال؛ لأنه الآن أصبح فوق عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، فالامتداد كان إلى الأمام، وأما صدر المنبر وظهر المنبر من القبلة فهو بالأصبع في مكانه الأول. ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ليخطب، فما أن بدأ الخطبة على المنبر والجذع في مكانه حتى حنَّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمع جميع من في المسجد حنينه كحنين الناقة العشراء. فيا لها من معجزة! جذع له ثمان سنوات مقطوع من أصله ملقىً على الأرض أصبح جماداً يحنّ لرسول الله ويسمع الجميع حنينه. ومن هنا قال السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي النبي صلى الله عليه وسلم مثلها. فمعجزة موسى عليه وعلى نبينا السلام العصا يتوكأ ويهش بها الغنم، قال تعالى لموسى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19-20] ، فانقلبت من جماد يابس إلى حيوان تهتز كأنها جان، أي: لشدة حركتها وسرعتها، قال تعالى: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} [طه:21] . وضرب بها البحر ليكون فيه طريق في البحر يبسٌ. فإن كان موسى أعطي حياة العصا بمعجزاتها فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم حياة الجذع يحنّ ويسمع الجميع صوته، وعصا موسى ما تكلمت ولا سمع لها صوت، لكن كانت لها حركة، فهذه المعجزة تساوت مع معجزة موسى عليه السلام، وهناك أشياء عديدة. فينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر إلى الجذع، ويربت عليه ويضمه إلى صدره كما تفعل الأم بطفلها، ويقول: (أنت مخيّر: إن شئت أخذتك وأعدتك إلى البساتين وغرستك وعدت نخلة تثمر وتينع، وإن شئت دفنتك هاهنا وكنت من غرس الجنة) ، فقال: (أكون من غرس الجنة) ، فالجذع يؤمن بالجنة وأصحاب العقول المغلقة لا يؤمنون بها!! فيدفنه صلى الله عليه وسلم بأصل المنبر في الروضة. فهذه قضية المنبر، وهاهو أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثان أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره. ومن فضائل هذا المنبر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، والترعة لا يعلم عرضها وطولها ومصبها إلا الله تعالى، فهي أمر غيبي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، ويكفينا أن الجذع آمن بالجنة وأحب أن يكون من أهلها.

صلاة الجمعة فرض عين

صلاة الجمعة فرض عين ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ) -فأكد الفعل، ولم يسم أحداً، والأقوام: جمع قوم (عن ودعهمُ) أي: تركهم (الجمعات) ، وفي لفظ: (الجمعة) بالإفراد، والجمع جاء فيه أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير عذرٍ طبع الله على قلبه) ، فجاء التحذير من ترك الجمعة مرة واحدة، وجاء التحذير من ترك الجمعة ثلاث مرات، فحديث الباب يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) ، فهم إما أن يتركوا ذلك، أو يكون الجزاء الختم على القلوب. وهذا -والعياذ بالله- من وصف المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ، فهو وعيد شديد يتوعد به النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتركون الجمعة، فإما أن ينتهوا عن تركهم الجمعات، وإما أن يكون العقاب الختم على قلوبهم، والقلب إذا ختم عليه يكون الأمر ما جاء في قوله سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . يقول العلماء: إذا أذنب العبد ذنباً ولم يستغفر منه نكت في قلبه نكتة سوداء، ثم لا يزال يذنب وتأتي نكتة إلى نكتة حتى يغلف القلب ويصبح كالكوز مجخيا لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. فإذا ختم على القلب شبه بالإناء الذي ختم فوه فلا يسمح بدخول خيرٍ ولا يخرج منه شرٌ؛ لأنه ختم على الشر فلا يخرج الشر منه ويظل صاحبه في شرٍ دائماً، ولا يدخل الخير إليه لأنه لا طريق لدخوله، فهذا وعيد شديد لمن لم ينته عن ترك الجمعة. والقلب هو محل الذكر، وهو محل التذكر، وهو محل الإدراك، وهو محل الارتباط بالله سبحانه وتعالى، فإذا ختم عليه صار غافلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وحينئذٍ تكون البهائم خيراً منه؛ لأن قلوبها تدرك، ويكفي أن الجذع أدرك وآمن بأن هناك جنة. وقد جاء في فضل يوم الجمعة من رواية مالك في الموطأ: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر حتى شروق الشمس إشفاقاً من يوم القيامة) ، فالبهيمة في يوم الجمعة تصيخ بسمعها من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مخافة يوم القيامة. فالحيوانات تؤمن بالبعث، وتؤمن بيوم القيامة وتنتظره، وتعلم أنه في يوم الجمعة، وهؤلاء -عياذاً بالله- إذا ختم على قلوبهم لا يدركون شيئاً من ذلك، وأصبحوا من الغافلين. الوعيد الشديد لا يكون إلا على ترك واجب. ولذلك نقول: إن صلاة الجمعة فرض عين عند الأئمة الأربعة، وإن وجد من بعض أتباع بعض الأئمة من يقول بغير ذلك فمردود عليه من علماء مذهبه. وهناك من يقول: صلاة الجمعة سنة مؤكدة، وهناك من يقول: فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وكل من قال شيئاً من ذلك فإن من علماء مذهبه من يرد عليه، ويأتي بنصوص الإمام بأن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم، وكما في صحيح مسلم: (صلاة الجمعة فرضٌ على كل من سمع النداء) ، ثم يأتي هذا العموم فيخصص منه المرأة والعبد والمريض والمسافر فتسقط عنهم الجمعة، وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك مجال للتساهل فيه. وأجمعوا على أن الجمعة هي فريضة يومها وليست نيابة عن الظهر، ولكن من فاتته صلاة الجمعة بشروطها ولا يستطيع أن يتداركها؛ لأن الجمعة يشترط فيها المسجد والجماعة والعدد والخطبة، فإذا فاتت فإنه لا يستطيع أن يأتي بخطيب يخطب له، ولا بعدد من الناس يصلون معه، فلم يبق إلا أن يصلي الظهر لعجزه عن الجمعة وإدراك ما فات منها. وقد يستغرب إنسان أو يريد الاطلاع على الرد على من يقول بأن الجمعة سنة مؤكدة أو فرض كفائي أو غير ذلك، والجواب عليه من علماء مذهبه، فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند آية الجمعة فإنه سيجد ما تيسر من النقول من كل مذهب ممن يقول بالوجوب، ومن يقول بغير ذلك، والرد عليه من أئمة مذهبه بذاته، وبالله تعالى التوفيق.

وقت صلاة الجمعة

وقت صلاة الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) متفق عليه، واللفظ للبخاري] . هذا شروع في بيان وقت الجمعة، فيقول سلمة: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) . ومن المعلوم أن الظل قسمان: ظلٌ قبل الزوال يمتد إلى الغرب، وظل بعد الزوال يمتد إلى الشرق، فيقول: ننتهي من الصلاة ونخرج وليس للحيطان ظل، أما ظل الغرب الذي قبل الزوال فليس بموجود، وأما ظل الشرق الذي بعد الزوال فلم يوجد بعد فيكون هذا في وقت الزوال. والمصنف يأتي بهذا لأنهم يبحثون في وقت الجمعة، فهناك من يقول: الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فوقتها وقت صلاة العيد إلى ما بعد الزوال. والجمهور يقولون: إن وقت الجمعة هو بعينه وقت الظهر، والظهر لا يجب ولا يصح إلا بعد الزوال وهذا من أدلة الجمهور على هذا التوقيت، أي: أنها بعد الزوال كما هو الحال في الظهر. وهذا الحديث يبين أموراً تقريبية؛ لأن ظل الزوال عند الجمهور يختلف باختلاف فصول السنة، فهو في الشتاء يختلف عنه في الصيف، فإذا تساوى الليل والنهار فإن ظل الزوال يتلاشى، وإذا طال النهار يطول الظل، وإذا قصر النهار يقصر الظل -أي: ظل الزوال- ولذا يقول الفقهاء في توقيت العصر: هو حين يصير ظل كل شيء مثليه ما عدا ظل الزوال، فظل الزوال أمرٌ نسبي، فقد يطول وقد يقصر، ولكن الراوي يبين لنا تقريبياً متى كانوا يصلون الجمعة. [وفي لفظ لـ مسلم: (كنا نجمع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء) ] . هذه رواية صحيحة، ومعنى: (كنا نجمع معه) يعني: كنا نصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ننصرف نتتبع الفيء، والفيء: هو الظل بعد الزوال تقول: فاء إلى الشيء: إذا رجع إليه، ولذا قالوا الظل بعد الزوال فيء؛ لأنه قبل الزوال كان الظل إلى الغروب، وبعد الزوال فاء ورجع إلى الشرق. [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) متفق عليه] . هذا يعتبر صورة من صور المجتمع في ذلك الوقت فقوله: (ما كنا نقيل) أي: نوم القيلولة، (ولا نتغدى) الغداء: الأكل في غدوة النهار. وفي وبعض الروايات: (ولا نريح رواحلنا -أي: التي تعمل في البساتين- إلا بعد الجمعة) ، وهذا فيه إشارة إلى التبكير قبل الزوال، ولكن لما جاء النص: (نجمع بعد الزوال) انتهينا من هذا الإشكال. فقوله: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) ، وفي رواية: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يبين لنا أن هذا العمل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان يصلي بهم الجمعة ولا جمعة إلا في مسجده وبإمامته صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التوقيت الذي نقل إلينا من فعله صلوات الله وسلامه عليه، ونعلم جميعاً أن الجمعة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين جميعاً ما تعددت، ولا أقيمت إلا في هذا المسجد النبوي الشريف، حتى إن أهل العالية وما وراءها كانوا يأتون إلى الجمعة في هذا المسجد، ولم يسمح لهم بجمعة في ديارهم، ولا على مياههم.

العدد الذي تنعقد به الجمعة وخلاف العلماء فيه

العدد الذي تنعقد به الجمعة وخلاف العلماء فيه قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخطب قائماً، فجاءت عيرٌ من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً) رواه مسلم] .

شرح حديث جابر وآية الجمعة في حضور التجارة والانفضاض عن الخطبة

شرح حديث جابر وآية الجمعة في حضور التجارة والانفضاض عن الخطبة هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه يبين لنا أمرين: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، وسيوضح المؤلف رحمه الله تعالى كيفية هذا القيام والجلوس بين الخطبتين. والأمر الثاني من هذا الحديث ما يتعلق بمجيء العير -والعير: هي الإبل تحمل البضاعة- فانفض الناس إليها، وانفتلوا أو انصرفوا إليها، ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا الجزء من هذا الحديث هو موضوع عدد من تنعقد بهم الجمعة، والأصل في هذه القضية ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بمجيء العير وقت الخطبة، وكانت الخطبة في ذلك الوقت بعد الصلاة، كما هو الحال في العيدين، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الواقعة، ثم وضحها النبي صلى الله عليه وسلم. واستدلال العلماء بعدد اثني عشر رجلاً هو لما جاء في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى منهم ذلك قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فقالوا: إن أقل ما دفع عنهم أن يسيل بهم الوادي ناراً هو العدد اثنا عشر رجلاً، وعليه فلا تنعقد الجمعة بأقل من اثني عشر رجلاً، أما مناقشة هذا العدد فستأتي بعد الكلام عن الآية الكريمة في قوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] كان من عادة أهل المدينة إذا قدمت عير بتجارة أن تدق لها الطبول إيذاناً بقدومها، فيحضر التجار ومن يريد الشراء، فصادف مجيء تلك العير قيام الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فما ظن أولئك الذين انصرفوا عن رسول الله أنه بقي عليهم واجب الانتظار؛ لأنهم لما صلوا الجمعة حسبوا أن الجلوس لسماع الخطبة من باب النافلة وليس بلازم عليهم، وهذا هو المظنون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دفعاً لما يتوهمه متوهم، وما يغمز به أصحاب الأهواء بأن الذين انفضوا من المنافقين. وقد يستدل لما يقوله أصحاب هذا الرأي بما جاء بعد سورة الجمعة، حيث جاء الحديث عن المنافقين، وهذا ليس بصحيح، لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقضت الصلاة، ولم يبق إلا الخطبة ظنوا أنه ليس عليهم حرج في أن ينصرفوا ما داموا قد أدوا الصلاة. ونلاحظ هنا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ، وهم في المسجد لم يروا، واللهو لا يرى، وإنما يسمع، ولكن التعبير شمل الإدراك؛ لأن الرؤية أقوى أنواع الإدراك. كما أنه ذكرت التجارة واللهو، وأعيد الضمير على مفرد أحد الأمرين المذكورين وهو التجارة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا} [الجمعة:11] ، ولم يقل: (إليهما) . ولم يقل: (إليه) ، بل قال: (إِلَيْهَا) ، وضمير التأنيث هنا عائد على التجارة، فقالوا: لما كانت التجارة هي الأصل واللهو تابعاً لها للإعلام عنها كانت هي الأهم، فعاد الضمير عليها، ويلاحظ نظير ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] ، فلم يقل: (ينفقونهما) أو (ينفقونه) فأعاد الضمير على الفضة. وهنا يتساءل إنسان: الذهب أهم من الفضة، فلم لم يعد الضمير عليه، أو عليهما معاً؟ والجواب: أن هذا من بلاغة القرآن وإعجازه؛ لأنا لو نظرنا إلى الكنز عند الناس لوجدنا أكثر من يكنز هم أصحاب الفضة؛ لأن الفضة أكثر تناولاً وأرخص قيمة، ويمكن أن يكنزها الغني والفقير كما يقال، لكن الذهب مختص بكبار الأغنياء، فكان الوعيد في كنز النقدين، فإذا توجه إلى الأقل كان الأكثر من باب أولى، فعود الضمير على أحد المتماثلين المقترنين يكون لسرٍ في هذا التعبير، وقد تبين لنا في الذهب والفضة عود الضمير على الفضة؛ لأنها أكثر شمولاً؛ ولأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الذي يكنز الفضة متوعداً فالذي لا ينفق الذهب من باب أولى. وهنا كانت التجارة هي الأصل، واللهو إنما هو تابع لها للإعلام عنها، فرجع الضمير إليها. انظر إلى ما بعدها في المغايرة، حيث قال تعالى {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:11] ، فقدم هنا اللهو على التجارة؛ لأن المنفضين جاء بهم سماع اللهو، وهو دق الطبول، فقال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:11] أي: التي خرجتم من أجلها، واستدعاكم إليها سماع اللهو. ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، أي: إن كنتم تطلبون الربح والرزق في هذه التجارة وتركتم رسول الله قائماً فما عند الله ببقائكم عند رسول الله تستمعون إليه خير: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .

أقوال العلماء في العدد الذي تنعقد به

أقوال العلماء في العدد الذي تنعقد به ويهمنا في هذا الحديث أن المؤلف رحمه الله وغيره يسوقونه للاستدلال على أن أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا عشر شخصاً. أما موضوع المسألة من حيث هي فكما يقول الشوكاني وابن حجر نفسه في فتح الباري وغيرهما: تعددت الأقوال والمذاهب فيها إلى نحو عشرين قولاً. ولكن ينبغي التنبيه على ما هو الواجب في هذا المقام؛ لأننا وجدنا أقوالاً منها ما هو بين الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومنها ما هو خارج عن كلام الأئمة الأربعة، ولولا ما حصل من الالتباس على بعض طلبة العلم في هذه القضية ما أوردنا كل التفصيلات فيها، ولكن سبق أن نبهنا على هذا الموضوع في تتمة أضواء البيان عند هذه الآية الكريمة. يقول العلماء: اختلف الناس فيمن تنعقد بهم الجمعة، واختلفوا فيمن تسقط عنه. أما بمن تنعقد فإن الجمهور يسقطونها عن المرأة، ويختلفون في العبد، ويتفقون في المريض، ويختلفون في المسافر، فهم أربعة أصناف: العبد والمرأة والمريض والمسافر، فالبحث في العدد خارج عن هذه الأصناف الأربعة؛ لأنها موضع خلاف. فهناك من يقول: تصح بالواحد كصلاة الفرض؛ أي: كالصلوات الخمس. ولولا وجود هذا القول ما كان للتنبيه عليه مكان، ولا يساوي الحبر الذي كتب به. وهناك من يقول: تنعقد باثنين، كأقل ما تنعقد به الجماعة في الصلوات الخمس، وهذا يلحق بالذي قبله. وهناك من يقول: تنعقد بثلاثة حتى قيل: المؤذن والإمام وشخص ثالث. وهناك من قال: بثلاثة سوى الإمام ويقولون: قال تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، والواو هنا للجماعة أو للجمع، وأقل الجمع ثلاثة. وهناك من يقول: بأربعة. وهناك من يقول: بعشرة. وهناك من يقول: باثني عشر. وهناك من يرجع إلى العدد الذي بقي في هذه الواقعة، وهو اثنا عشر، أو ثمانية، أو أربعة عشر. وهناك من يقول: عشرون رجلاً ويعزونها رواية لـ مالك. وهناك من يقول: أربعون رجلاً وهو مذهب الشافعي مصرحٌ به. وهناك من يقول: ليس في انعقاد الجمعة ووجوبها عدد محدد، وإنما تجب على كل جماعة استوطنوا قرية، ويقومون بشئون أنفسهم، ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم مما يرد عليهم من أعداء، وهذا هو القول الثالث عن مالك رحمه الله.

مناقشة أدلة القائلين بتحديد العدد الذي تنعقد به الجمعة

مناقشة أدلة القائلين بتحديد العدد الذي تنعقد به الجمعة ويتفق العلماء على أنه لا يوجد نصٌ صحيح صريح يحدد عدد الذين تجب عليهم الجمعة وتصح منهم، ولذا يرجح عامة الفقهاء ما ذهب إليه مالك رحمه الله. وكذلك نرجع إلى وجهة نظر من قال بالثلاثة كما أشرنا، وبعضهم يعزو ذلك لـ أبي يوسف ومحمد، أو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح. والذين قالوا بثمانية أو بعشرة أو باثني عشرة يختلفون في العدد الذي بقي عند سماع اللهو والتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فمن ثبت عنده ثمانية، قال: أقل ما يكون ثمانية. ومن ثبت عنده عشرة قال بالعشرة، ومن قال: كانوا اثني عشر قال: أقله اثنا عشر. والجواب عمن استدل بذلك بإجماع الأصوليين وعلماء الحديث، حيث يقولون: هل الرسول قال لا تصح إلا باثني عشر؟ إنما قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) . فهؤلاء أخذوا من ذلك أن أقل ما يقع به الواجب -وهو انعقاد الجمعة- هذا العدد الذي بقي، ويقولون: إنها قضية عين؛ إذ كان من الممكن أن يبقى عشرون أو ثلاثون أو خمسة، فليست هناك قاعدة، وليس هناك ما يفهمنا ويوحي إلينا بأن عدداً معيناً كان ينبغي أن يبقى. فما دامت هذه الاحتمالات قائمة فلا ينبغي التعويل على اعتماد العدد الذي بقي أنه أقل ما تنعقد به الجمعة، أما الذين قالوا بأربعين فلأنه العدد الذي كان في أول جمعة جمعت بالمدينة، وفي سبب إقامة أول جمعة اختلاف. فقيل: بسبب مصعب بن عمير، وقيل غيره، وقيل: إن المهاجرين الأولين قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رأوا اليهود يجتمعون في يوم سبتهم ويقرءون الزبور، فقالوا: لو اتخذنا يوماً نجتمع فيه ونذكر الله! فاجتمعوا وصلوا ركعتين وذكروا الله، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فقيل لبعضهم: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين رجلاً، فقالوا: هذه أول جمعة أقيمت بالمدينة وكان العدد أربعين! فيقال أيضاً: هل هذا تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن هذا العدد الذي حصل كان يمكن أن يزيد ويمكن أن ينقص، فكونه صادف وجود أربعين رجلاً ليس بحجة ولا دليل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون رجلاً، بل في بعض الروايات أن الذي جمع لهم ذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها. وأعتقد أن الشاة لا تكفي لغداء وعشاء أربعين رجلاً ولا عشرين رجلاً، فالمسألة تدور على تقدير العدد. وناحية أخرى هي لو سلم أنهم كانوا أربعين، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمعتم أربعين فصلوا الجمعة؟ وبعض الروايات فيها مقال، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم من مكة أن اجتمعوا أو اتخذوا يوماً تجتمعون فيه تذكرون الله، فاتخذوا ذلك اليوم، ولم يحدد عدداً، فالذين قالوا بواحد أو بثلاثة ليس لهم إلا استدلال لغوي لا دخل له في الأحكام الشرعية. ومن قال بالعشرة أو بالثمانية أو بالاثني عشر كل ذلك مرتبط بقضية الذين انفضوا عن رسول الله وبقي هو في المسجد يخطب، والذين قالوا بعشرين أو قالوا بثلاثين -كما روي ذلك عن مالك رحمه الله- إنما اختلفوا في العدد. وكذلك الذين قالوا بأربعين، فقد بنوا على أول عدد انعقدت أو صليت به الجمعة، قالوا: الذين حضروا آنذاك كان عددهم أربعين رجلاً، وعلى هذا لم يكن في تحديد العدد نصٌ صحيح صريح في أي ديوان من دواوين السنة.

القول الراجح في العدد الذي تنعقد به الجمعة

القول الراجح في العدد الذي تنعقد به الجمعة بقي القول الأخير، وهو لـ مالك رحمه الله، وهو المروي عنه والثابت في مذهبه، وهو أن الجمعة تجب على كل جماعة مستقرة، بخلاف البدو الرحل، وبخلاف الجماعة المسافرين، بدلالة يوم عرفة؛ حيث توفر عدد كبير في يوم حجة النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّر بأكثر من عشرة آلاف حاج، ومع ذلك لما لم يكن مستقراً، ولم يكن مقيماً، وكان له حكم المسافر ما صلى الجمعة، وكانت الوقفة يوم الجمعة. فمن تنعقد بهم الجمعة هم قومٌ استوطنوا قرية، أي: البيوت الثابتة، وبعضهم يشترط ألا يكونوا في الخيام، أي: أن تكون البيوت مبنية ثابتة في الأرض ليست للرحيل حينما تأتي الحاجة. فإذا اجتمع جماعة يمكنهم الدفاع عن أنفسهم إذا هجم عليهم وحش أو غيره، فإنهم يعتبرون أهل قرية مقيمين، وحينئذٍ يقول مالك رحمه الله: إن كثروا أو قلوا فإن عليهم صلاة الجمعة ما داموا لا يرحلون صيفاً ولا شتاءً.

مكان إقامة صلاة الجمعة

مكان إقامة صلاة الجمعة مسألة المكان الذي تقام فيه صلاة الجمعة: الأحناف يقولون: لا تجب في قرية، بل تجب في المدن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى جمعة في قرية. والجمهور يقولون: قد تطلق القرية على المصر، بل إن مكة المكرمة سميت بـ (أم القرى) ، وكذلك أول جمعة أقيمت بعد الجمعة في المدينة كانت في (جواثاء) وهي قرية من قرى البحرين، بجهة الأحساء اليوم، فأقيمت هناك جمعة وهي قرية. وعلى هذا فمما يشترط للجمعة الموطن الذي تكون الإقامة فيه، وكما يقول المالكية: قد تكون القرية صغيرة ثم تنمو وتكبر حتى تصير مدينة، فإذا ثبت الاستقرار والإقامة ثبت شرط صلاة الجمعة. وهناك من يقول: لا اشتراط للمكان ولا للتقري، فإذا وجد جماعة في خيام رحّل: كبعض المعسكرات، أو بعض التجمعات الكشفية أو نحو ذلك، فعليهم الجمعة، والجمهور يقولون: لا جمعة عليهم. والذين يقولون: عليهم الجمعة يختلفون في العدد المشترط من ثلاثة إلى اثني عشر كما تقدم. والذي ينبغي أن يعلم أن سياق القرآن الكريم يدل على ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من اشتراط وجود القرية، والمقيمين فيها، ولوازم الإقامة؛ لأن جمهور الأئمة الأربعة يقولون: لابد في موطن إقامة الجمعة من حاكم ومن سوق قائم، ومعنى السوق: المحلات التجارية للبيع والشراء التي يمكن لأهل تلك القرية أن يأخذوا منها ضرورياتهم وحوائجهم، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى، والأئمة رحمهم الله ما جاءوا بهذا من فراغ من عندهم، وإن لم يأتِ نص صحيح صريح في هذا الموضوع، ولكنهم أخذوه استنباطاً من كتاب الله، والذي نقوله دائماً: إنه يجب على كل إنسان قبل أن يرى الرأي في نفسه في حكم شرعي أن يرجع إلى أقوال العلماء، وأن يقف على مستندهم في هذا القول. فلو تأملنا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] لوجدنا أن كلمة (فَاسْعَوْا) ليس معناها السعي الذي بمعنى الجري، بل إن الحديث يقول: (فأتوها وعليكم السكينة والوقار) ، فالسعي هو الأخذ بأسباب التوجه إلى الجمعة، كقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:205] أي: أخذ بالأسباب {لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205] . وقال الشاعر: سعى ساعي غيظ ابن مرة بعدما تبذل مع عشيرته بالدم أي: سعى بالصلح بين القبيلتين وتقول: فلان سعى بالنميمة بين اثنين، وفلان سعى بالصلح بين المتخاصمين، أي: أخذ في أسباب هذا الأمر حتى أتمه، فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا) أي: تهيئوا، ومن السعي للجمعة الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس الطيب، والتبكير إليها. ولأجل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] قال الذين قالوا تنعقد بثلاثة تتحقق تلك الصورة بمنادٍ ينادي وذاكرٍ يُذكِّر وساعٍ إلى هذا الذاكر يسعى لذكر الله، فيكفي الثلاثة لتقام به الجمعة. والآخرون قالوا: الصورة كاملة وليست جزئية؛ لأن في السياق قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع، فهل هذا الأمر بترك البيع والنهي عن الاشتغال بالبيع والشراء يوجه إلى واحد؟ فالمنادي موجود، وذاكر الله موجود، والنداء وجّه لغيرهما ليتركوا البيع، والبيع أقل ما يقع من طرفين بائع ومشترٍ. فهذا الأسلوب لا يتوجه إلى شخص واحد، بل ولا إلى اثنين، ولا إلى ثلاثة، إنما يتوجه إلى حركة تجارية فيها أخذ وعطاء وبيع وشراء، ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، ثم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ، وهل الانتشار يكون من واحد أو اثنين أو ثلاثة أو خمسة؟ فالانتشار معناه: النشور بمعنى الاتجاه في كل جهة، فواحد يتجه إلى الغرب وآخر للشمال. ؛ لأن الانتشار يدل على العدد الوفير الذي ينتشر إلى جهات متعددة. فقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ. } [الجمعة:10] ، هذه الضمائر فيه كلها لا تكون لواحد او اثنين أو ثلاثة! فلابد أن يتحقق عندنا وجود الأماكن التي تستقر فيها التجارة ويؤخذ فيها بالبيع والشراء. وهؤلاء المتبايعون المشترون بشر يقع بينهم الخلاف؛ إذ الأسواق هي مواضع الشجار والخلاف، كما قيل: المساجد بيوت الله والأسواق بيوت الشياطين؛ فهناك الخلاف، وهناك النزاع، فهذا النزاع الذي يقع بين المتبايعين من الذي يفضه؟ وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] . فالخلطاء وهم أصحاب الأغنام الذين يختلطون عند الرعي يقع بينهم نزاع، فما بالك بأصحاب السوق، فهذا ميزان راجح، وهذا غشَّ فيه، وهذه سلعة مغشوشة، فقالوا: السوق يحتاج إلى حاكم يفض النزاع، وهذا الحاكم من شروط هذا التجمع، بل جاء في الحديث: (إذا كان ثلاثة لم يؤمروا عليهم أميراً استولى عليهم الشيطان) ، فلا بد من وجود شخصٍ يرتضيه الجميع يكون المرجع إليه عند النزاع، فإذا اجتمعت قرية واجتمع سوق وبيع وشراء فلا بد من أمير، فشرط الفقهاء أن توجد قرية فيها سوق فيها أمير. وهكذا نجد أن النص القرآني الكريم في سياق هذه القضية يؤخذ منه ما توصل إليه الأئمة الأربعة رحمهم الله من ضرورة وجود قوم مقيمين، أو من ضرورة إقامة الجمعة في القرية المستقرة التي لها سوق وفيها أمير -أي: حاكم- يحكم بين الناس، وعلى هذا فإقامة الجمعة في البساتين، أو في الخلوات، أو في أماكن التنزه، أو في غير ذلك فإنها على خلاف كتاب الله، وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة، وخلاف ما عليه أصحاب السنن الست، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [2]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [2] مما يدل على أهمية صلاة يوم الجمعة أن لها آداباً وأحكاماً ينبغي مراعاتها والالتزام بها، فمن الآداب: التطيب والاغتسال والتجمل والتبكير ونحوها. ومن الأحكام: ما تدرك به صلاة الجمعة، وما ينبغي أن يتصف ويلتزم به الخطيب من كيفية إلقاء الخطبة، وتناسب مقدمتها مع صلب موضوعها، واشتمالها على معاني الترغيب والترهيب ونحوه.

من آداب يوم الجمعة

من آداب يوم الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

الاغتسال ليوم الجمعة وحكمه

الاغتسال ليوم الجمعة وحكمه فإن مما يتفق عليه العلماء أن للجمعة آداباً، ومن ذلك الاغتسال ليوم الجمعة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعني: بلغ سن الحلم؛ لأن المحتلم بالفعل يجب عليه الغسل في أي يوم أو ليلٍ. وهنا بيان لمن بلغ سن الحلم أن عليه أن يغتسل يوم الجمعة، وقد جاء في بعض الروايات أو بعض الأحاديث: (حقٌ لله على كل مسلمٍ أن يغتسل يوماً في الأسبوع) ، وإذا كنا نحن المسلمين نقول: إن هذا الدين الحنيف يفرض النظافة فرضاً، لأن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوماً في الأسبوع يغسل رأسه وجسمه بهذا النص؛ فهذا إلزامٌ يلزم الدين به أبناءه، فلا يمضي أسبوع إلا ويغتسل فيه نظافة لله سبحانه، وجاء سن الاغتسال في الشرع لكل ما فيه تجمع، كما جاء للعيدين، وجاء لدخول مكة، وجاء للوقوف بعرفات، إلى غير ذلك مما فيه تجمع المسلمين. وجاء أيضاً من رواية مسلم: (أن الناس كانوا خدمة أنفسهم قبل أن تأتيهم العلوج -أي: الأسارى في الفتوحات- فكان الواحد منهم يأتي بالعباءة فيصيبه الغبار، فيعرقون فتكون منهم الروائح، فدخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد منه هذا الريح -وفي رواية عائشة أن السقف كان ضيقاً منخفضاً فيضيق بهم المسجد ويعرقون- فقال صلى الله عليه وسلم: (حقٌ لله على كل مسلم أن يغتسل) . والحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) تمسك به من قال بوجوب الغسل، وقال: لا تصح الجمعة إلا بالغسل) . وبعضهم قال: الفرض في الغسل يقع في هذا اليوم قبل الجمعة أو بعدها، فالمهم هو الغسل، وأغفل الحكمة التي من أجلها شرع الغسل، فإنه إنما شرع الغسل لمن يحضر اجتماع المسلمين، فإذا لم يغتسل عند اجتماعه بهم وذهب واغتسل بعد العصر، فالأمر وإن كان مشروعاً في ذاته لكن لم يؤد الغرض منه. تقول أم المؤمنين: (فلما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفتهم المئونة اكتفي بالوضوء) ، وجاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فمن آداب يوم الجمعة الاغتسال.

التجمل للجمعة ولبس أحسن الثياب

التجمل للجمعة ولبس أحسن الثياب ومن آدابها أيضاً التهيؤ لها بحسن المظهر، قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: التهيؤ بما هو أليق، وما فيه التجمل، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوبين للجمعة -أو ثوباً للجمعة- سوى ثوبي مهنته) . فالفلاح يكون عنده ثوب يزرع ويسقي فيه، والجزار يكون عنده ثوب يذبح ويقطع فيه، وهكذا الحداد والنجار، فكل إنسان في مهنة تتعلق بالثياب يتخذ ثوباً خاصاً بالمهنة، أما إذا جاء للجمعة، فيجب أن يكون عنده عناية بالجمعة خاصة في لباسه، وهذا مما يتحتم على المسلمين، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه وجد حلةً عند باب المسجد تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! اشتر هذه لتتجمل بها ... ) وكانت عنده البردة يخطب بها الجمع والعيدين. وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب) ؛ لأن فيها النقاء، وفيها الجمال، وفيه -كما يقال- الفطرة، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومس من طيب أهله) ، والأهل دائماً يحتفظون بالطيب، وقد يحتفظ الإنسان بنوع من الطيب، فهذا زيادة في التجمل، وزيادة في الرفق والإمعان، وكما جاء في الأدب المفرد للبخاري: (حسن السمت من الإيمان) أي: من علامات إيمان الإنسان عنايته بسمته وبمظهره. وعلى هذا تكون العناية بالمظهر يوم الجمعة في اللباس والبدن من آداب الإسلام.

التبكير لصلاة الجمعة

التبكير لصلاة الجمعة ومن الآداب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى أو الثانية أو الثالثة. ، وعلى هذا تكون للجمعة آداب قبلها وآداب عند حضورها.

ما تدرك به الجمعة

ما تدرك به الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو غيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم الإرسال] . هذا الحديث حكمه بالنسبة للجمعة متوافق، ولكن الإشكال في لفظة [أو غيرها] ؛ لأن هذا مغاير للواقع، فإذا أدرك ركعة من العصر وأضاف إليها أخرى لم تتم صلاته، وإنما يصدق هذا على الجمعة فقط، ولفظة [غيرها] أعتقد أنها ليست في الروايات، أو أن فيها مقالاً في زيادتها أو عدم زيادتها، والذي يهمنا هنا ما تدرك به الجمعة؟ هذه هي المسألة الفقهية. وقد تقدم لنا أن من أدرك شيئاً مع الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، بل إنه جاء في شأن آخر الوقت: (من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، وجاءت رواية: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، فالجمهور على أن من أدرك الإمام في الجماعة قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، والمالكية لهم رأي في اشتراط الركعة كاملة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك. وأما الجمعة فالجمهور على أن من أدرك من الجمعة ركعةً كاملة فقد أدركها وتدرك الركعة إذا أدرك الإمام في الركوع، قبل أن يرفع رأسه من الركوع فيكون قد أدرك الركعة، وهذا رأي الجمهور، بخلاف من يقول: قد فاتته القراءة، وعلى هذا الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فرأيهم أن من أدرك ركعةً من الجمعة فليضف إليها أخرى ويكتفي بالركعتين، وقد سقط فرض يومه وهو الجمعة. والخطبة تكون قبل الصلاة، وهذا لم يدرك الخطبة، فهل يكون مدركاً للجمعة أيضاً؟ والجواب: نعم؛ لأن الخطبة انتهت قبل الصلاة وانتهى الأمر، ويستدلون بما جاء عن أمير المؤمنين عمر في رواية مالك في الموطأ أنه كان يخطب، وفي أثناء الخطبة دخل رجل، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فجئت قال: والوضوء أيضاً! فقالوا: لو كان سماع الخطبة واجباً لأفهمه، كما لو كان الغسل واجباً لأفهمه، واكتفى منه بما أدرك من الخطبة، واكتفى منه بما أوقع من وضوء. وسيأتي حكم الغسل والوضوء للجمعة فيما بعد، ويهمنا أنهم مجمعون على أن من فاتته الخطبتان، وفاتته ركعة كاملة، وجاء وأدرك الإمام في ركوعه وركع معه، واطمأن معه بقدر ما تحسب له الركعة فإنه يقوم بعد سلام الإمام ويأتي بركعة، أي: يضيف إليها أخرى وقد تمت جمعته، وهذا هو الحد الأدنى. ومع ذلك فقد جاء الحث على التبكير، كما في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ... ) إلخ. والحد الأدنى الذي ذكرناه في إدراك الجمعة قال به مالك والشافعي وأحمد، وقال الأحناف: تدرك الجمعة بما تدرك به الجماعة. فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم ودخل معه في الصلاة فقد أدرك الجمعة، فليقم وليصل ركعتين، بل هناك قولٌ عندهم بأنه لو قدر أن الإمام سها في صلاته وسجد للسهو، وجاء المتأخر فأدرك الإمام في إحدى سجدتي السهو قبل أن يسلم أدرك الجمعة، ولكن هذا الحديث الذي صححه ابن خزيمة أو النسائي وغيره فيه: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ، فهل الذي لم يدرك من الجمعة ركعة له حكم من أدركها؟ فمفهوم المخالفة أن من لم يدرك ركعةً كاملة لا يكفيه أن يضيف إليها أخرى؛ لأن الحديث يقول: (من أدرك من الجمعة ركعة) ، فهذا الحديث دليل للجمهور، وهو خاص بموضوع الجمعة. فإذا لم يدرك الركعة فالأئمة الثلاثة يقولون: إذا أتى والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فإنه يدخل معه، وإذا أتى في التشهد يدخل معه، ولكن يقوم فيأتي بأربع ركعات. والمشكلة أنه إذا دخل مع الإمام في صلاة الجمعة ونوى جمعة، فالجمعة لم تحسب له، وإن نوى ظهراً غاير نية الإمام، وهذا إشكال، ولذا قال الأحناف: أنتم أتيتم بهذا الإشكال، فدعوه يدركها بالتشهد أو بغيره. والجمهور يقولون: هي عبادة توقيفية، فيدخل معه موافقة له في نية الجمعة، فإذا سلم الإمام انفصل عنه وجدد نية الظهر. وهناك مسألة يثيرها بعض الناس، ونسمع التساؤل عنها كثيراً، وهي: مسألة من لم يحضر الجمعة كمريض ومسافر ونسوة في البيوت، ومن العجب أن نسمع بعض الناس يقولون: نصلي ركعتين؛ لأنهما فريضة اليوم، فأخذوا بهذا وتركوا لوازم الجمعة الأخرى كالجماعة والخطبة، ولهذا أجمع الأئمة الأربعة ومن وافقهم على أن من لم يصل الجمعة مع الإمام في المسجد، فإن فريضته صلاة أربع بنية الظهر. وأما هل الجمعة نيابة عن الظهر، أو الظهر نيابة عن الجمعة؛ فقد قدمنا بأن الأئمة الأربعة يقولون: إن الجمعة هي فرض يومها. فإن قيل: كيف يصلي هؤلاء الظهر على أنه فرض يومهم؟ فيقال: من توفرت فيه شروط الجمعة صار فرضه الجمعة، ومن لم تتوفر فيه شروط الجمعة بقي على الأصل، والأصل هو الظهر، ولا نزاع في ذلك ولا خلاف، والله تعالى أعلم.

آداب خطبة الجمعة وصفتها

آداب خطبة الجمعة وصفتها

قيام الخطيب في خطبة الجمعة

قيام الخطيب في خطبة الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب) أخرجه مسلم] . هنا بيان صحيح صريح في كيفية الخطبة أو الهيئة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم ويخطب، وهنا يقولون: هل خطبة الجمعة خطبتان، أم أنها خطبة واحدة مفصولة بجلسة خفيفة؟ والصحيح أنهما خطبتان كل خطبة منها مستقلة، أي: يشترط في الثانية استيفاء شروط الخطبة كما يشترط في الأولى. وقالوا: هذا الخبر إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القائل رأى بعض الخطباء -وكان خليفة من الخلفاء- يخطب قاعداً، فنظر إليه وكلّمه وقال: كيف تخطب قاعداً؟ فمن أنبأك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قاعداً فقد كذب على رسول الله وكذب عليك! وابن مسعود رضي الله عنه لما رأى خطيباً يخطب وهو جالس قرأ الآية: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وهذا استدلال بما وقع من القرآن الكريم يحكي حالة أداء النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة، وهو أنه كان قائماً. وهنا ناحية أخرى، وهي أن المشهور عند الناس أن الخطبة تحتاج إلى شيء من إيقاظ الضمير أو النفس، أو التأكيد على الموضوع الذي يتناوله الخطيب، فيحتاج إلى أهبة، ومن هنا كان عندهم أن الخطيب يكون على نشز من الأرض مرتفع؛ لأن ذلك أدعى لانتشار الصوت، أو على راحلة، وأيضاً يعتمد إما على عصا وإما على قوس. فالخطبة لا تتأتى مع الجلوس؛ لأن القاعد لا يملك حماس القائم، ولا يعطي صورة الاهتمام بالموضوع كالذي يقوم يتكلم وهو قائم. ومن العجائب أنه زارنا أخ مسئول في بعض دول أفريقيا، فسألته عن طالب كان في الجامعة وذهب إلى هناك قائلاً: كيف حال فلان؟ فنهض قائماً، فقلت: ما بالك؟ قال: لا يحق لي أن أتكلم عن فلان وأنا جالس، بل أقوم قائماً لأتحدث عنه، فقلت في نفسي: هذه مسألة على الفطرة، فالقيام في الخطبة دليلٌ على الاهتمام بالموضوع، ولهذا نبه هذا الرائي من رآه من الخلفاء يخطب قاعداً. ويقولون -والله تعالى أعلم-: أول من خطب قاعداً معاوية رضي الله عنه، ويعتذرون له بثقل جسمه وكبر سنه، والله تعالى أعلم.

من صفات خطيب الجمعة

من صفات خطيب الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم. وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) ، وفي رواية له: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار) ] . لقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب في مناسبات عديدة، فكان يخطب في الجمعة، وفي العيدين، وفي الاستسقاء، وفي غير ذلك، ومنها ما هو للتوجيه والإرشاد، وإذا حدث شيء جديد قال: (احضروا المنبر) ، فيجتمعون عند المنبر فيخطبهم فيما يريد أن يبين لهم. وهنا يبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه. فهذه الصفات الثلاث مجموعة تدل على الحماس وعلى الانفعال مع موضوع الخطبة، وبدونها يقل الحماس ويقل الانفعال، وكما قالوا: كلما كان الخطيب متفاعلاً مع موضوعه كان ذلك أدعى لانتباه السامع، فيتفاعل معه. وأضف إلى ذلك ما تقدم من أنه كان يخطب على منبر، وكان يخطب قائماً، وكان يتكئ على عصا أو على قوس، فإذا اجتمعت الهيئة من القيام فوق منبر، والاتكاء على عصا أو على قوس، مع كونه تحمر عيناه ويعلو صوته ويشتد غضبه، فماذا يظن أن ينتظر السامع؟ إنه يوقن بأن الأمر جد؛ لأن المتكلم أخذ الأهبة بصعود المنبر، والاتكاء على ما يشعر بالقوة من عصا أو قوس، ثم يتفاعل حتى تحمر عيناه، واحمرار العينين -كما يقولون- مرتبط بالقلب وبالدماء، فإذا ما علا الدم في القلب ظهر أثره في العينين، ثم نتيجة لذلك الغضب واحمرار العينين من شدة الغضب يرتفع الصوت، ولا يمكن لإنسان أن يكون شديد الغضب يتكلم بصوت منخفض؛ فإنه يصطحب مع شدة الغضب ارتفاع الصوت. ولهذا لما تشاح رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وغضب أحدهما فاحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وعلا صوته، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمات لو قالهن لذهب عنه ذلك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فلما سمعها شخص أو صحابي ذهب إليه وقال: قل كذا، قال: لست بمجنون، والذي حمله على هذا الرفض شدة غضبه. ولا نقول لكل خطيب إن عليه أن يغضب وأن تحمر عيناه وأن يعلو صوته، بل نقول: إن الخطيب مع موضوع الخطبة يجب أن يكون متفاعلاً، أما إذا لم يكن متفاعلاً معه، بمعنى أن يخطب الناس في موضوع هو لا يوقن به، أو لا يرغب فيه، أو لا يؤمن بنتائجه فهذه خطبة فاشلة، أما إذا كان موقناً بها، ويسعى إلى تحصيلها، ويتمنى حصولها وتنفيذها فإنه يتكلم من قلبه، وما كان من القلب وصل إلى القلب. ويبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ومنذر الجيش شخص يطلع على جيشٍ قادم على قومه فيسبق الجيش، ويأتي إلى القوم، ولضيق الوقت يقول: صبحكم ومساكم، أي: إما أن يصبح عندكم أو يمسي عليكم، وهذا من باب الاختصار والإيجاز؛ لأن الوقت لا يتسع لأن يطيل الكلام فيخبرهم بأن الجيش الفلاني عدده كذا، ويأتي من جهة كذا، ويصل في وقت كذا، وسرعته كذا، فلا مجال لهذا، ولكن يكفي أن يقول: صبحكم الجيش، أو: مساكم الجيش. فهذه الحالة يذكرها لنا جابر رضي الله عنه فيما كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة. ثم يأتينا بما سمع في بعض الخطب، أو ما كان يسمع مما يرد عنه صلى الله عليه وسلم في افتتاح الخطبة. وكما يقول علماء البلاغة أو علماء الأدب: يجب أن تكون للخطبة مقدمة تنبئ عن موضوعها، فإذا كان يريد أن يحث الناس على عمارة مسجد فليأت بحمد الله والثناء عليه، ثم ببيان فضيلة المساجد، فيقول: الحمد لله. إلخ، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18] ، وأصلي وأسلم على النبي المختار الذي قال: (من بنى لله مسجداً ... ) ، ثم يدخل إلى الموضوع. وموضوع الخطبة أولاً وآخراً عماده الوصية بتقوى الله والنصيحة، أما المواضيع الخاصة فتكون في غير خطبة الجمعة، فإذا اعتمدها الخطيب ورأى أن يدعو الناس إليها لما فيها من مصلحة عامة دينية وأخروية فذلك جائز، لا أن تكون دنيوية، فإذا كانت دنيوية ولها اتصال بما تئول إليه من ثواب وعقاب فلا مانع من ذلك. فإذا كانت الخطبة ذات مواضيع خاصة لا تكون في الجمعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قضية بريرة لما جاءت وطلبت من عائشة أن تعينها، فقالت لها: (إن شئت دفعت لأهلك القيمة كلها وأعتقتك ويكون ولاؤك لي! قالت: أشاور. فذهبت ورجعت وقالت: إنهم يأبون إلا أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حضر، فأخبرته عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم ما شاءوا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) ، ثم خطب الناس فقال: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط) . وبالمناسبة ليس المراد بكل شرط ليس في كتاب الله عين هذا الشرط، فليس في كتاب الله اشتراط أهل بريرة على أن يكون الولاء لهم، ولكن المعنى: كل شرط خالف ما جاء في كتاب الله فهو باطل، وهو ليس في كتاب الله، ولكن الشرط الذي جاء به كتاب الله مما فيه استيفاء الحقوق لا مانع منه، وجاء في الحديث: (إن أحق ما استوفيتم من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، و (كل شرط جائز إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) ، فكل شرط أحل حراماً فليس في كتاب الله، وكل شرط حرم حلالاً فليس في كتاب الله؛ فهو باطل. فالخطبة تستعمل للتوجيه العام وللتوجيه الخاص، وخطبة الجمعة الهدف الأول منها الوصية بتقوى الله، والموعظة، وإحياء القلوب، وبيان ما هو أنفع للناس، وتذكيرهم بعد النسيان، وهذا من خصائص الإسلام. فالإسلام بذاته يدعو ويذكر، ومن هذا التذكير خطبة الجمعة، فإنها مفروضة على الأمة، فالدعوة والوعظ والإرشاد من لوازم هذا الدين، وألزم ما يكون فريضة يوم الجمعة، ويشترط لها الخطبتان، وبعضهم يقول: الخطبة الأولى إنما هي للموعظة والوصية على ما سيأتي في بيان أركان الخطبة إن شاء الله، والخطبة الثانية إما أن تكون تتمة وتفصيلاً لما أجمل في الأولى، وإما أن تكون بالدعاء لعامة المسلمين، ودعاء الله سبحانه لولاة الأمور بالصلاح والفلاح.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3] اشتملت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على أحكام مهمة ذكرها الفقهاء في بيان ما ينبغي أن يلتزم به الخطباء، وبعضهم جعلها من أركان الخطبة، ومن ذلك: البدء بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع الصوت، والإرشاد إلى الهدي الصحيح، والتحذير من البدع والضلالات.

شرح حديث جابر في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث جابر في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله) ] .

ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على الله

ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على الله كلام جابر فيه شيء من الإيجاز أو الاختصار، وقوله: (إذا خطب) ، أي: إذا شرع في الخطبة. ويتفق العلماء على أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد لله، ويقولون: إن الخطيب يبدأ بالسلام على المصلين، فإذا سلم عليهم جلس وقام المؤذن وأذن الأذان الذي هو إشعار بدخول الوقت، وقد يسبقه أذان آخر قبل الوقت -وهذا هو الغالب- للتنبيه، وهو أذان عثمان رضي الله عنه، وهو خليفة راشد أنشأ هذا الأذان إشعاراً لأهل السوق؛ لينتبهوا لدخول الوقت، فينقلبوا إلى بيوتهم ليتهيئوا، وليسعوا إلى الجمعة. وقد يقول قائل: وكيف أنشأ عثمان هذا الأذان ولم ينشئه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهم أجمعين؟ فيقال: سيأتي في باب الغسل يوم الجمعة أن عمر رضي الله عنه كان يخطب، فدخل رجل -وسماه في الموطأ أو غيره بأنه عثمان رضي الله عنه- فقال عمر: أية ساعةٍ هذه؟ يعني: لم تأخرت؟ وقد جاء في بعض الروايات: (لم تحبسون عن الصلاة؟) ، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أن سمعت الأذان حتى توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً! فهنا رأى عثمان رضي الله عنه أن الاشتغال في السوق -كما وقع له- قد يشغل الناس، فيحتاجون إلى ما ينبههم قبل الوقت، فلما كانت الخلافة إليه أنشأ هذا الأذان قبل الوقت، وكان ينادى به على الزوراء، والزوراء كانت عندما يسمى اليوم بالباب المصري، وكان هناك مسجد صغير يقال له: مسجد الزهراء، وكان البعض يظن أنه لـ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التحقيق أن (الزهراء) محرفة عن (الزوراء) ، وكان -كما يقولون- عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت. فهناك كان الزوراء، وقد وقفت على صكٍ لبعض الأشراف يحدد ملكاً بموقع الزوراء بهذا النص، وهو مكتوب في سنة ألف ومائتين، فالزوراء كانت في منتهى امتداد السوق وخارج السور الذي هدم أخيراً عند الباب المصري كما يسمونه، أو عند سوق الحراج القديم، فـ عثمان رضي الله عنه جعل أذاناً هناك، وكان هناك سوق المدينة، فكان يؤذن في ذلك المكان إعلاماً للناس بقرب الوقت فينطلقون إلى بيوتهم يتهيئون ويسعون إلى الجمعة، فإذا ما صعد الإمام على المنبر جلس وقام المؤذن يؤذن. وقد جاء في صحيح البخاري في باب رجم الزاني: أن عمر رضي الله عنه جلس على المنبر حتى فرغ المؤذنون، فقام وحمد الله. فأول ما يفعله الإمام أو الخطيب أنه إذا جاء سلّم على من عند المنبر، ثم يصعد المنبر فيسلم على الناس من فوق المنبر، ثم يجلس ينتظر المؤذن حتى يفرغ من أذانه، فإذا أذن قام للخطبة. ويتفقون على أن الخطبة تبدأ بحمد لله، وهذا كما في الحديث: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بحمد لله أو باسم الله فهو أبتر) ، فيبدأ فيحمد الله ويثني عليه سبحانه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوصي بتقوى الله، ثم يأتي بآية من كتاب الله أو سورة قصيرة، والأولى أن تتناسب مع موضوع الخطبة. فهنا جابر يقول: (ويقول: أما بعد) ، و (أما بعد) يجب أن تكون بعد كلام، ولا تكون في افتتاح الكلام أبداً، فهي مشعرة بأن قبلها كلام، وهذا الكلام هو الذي اتفقوا على أن يبدأ به الخطيب، وهو حمد الله والثناء عليه. وهنا تظهر براعة الخطيب في حسن الاستهلال، فهو إذا قام حمد الله وأثنى عليه بواسع الرحمة، وأثنى عليه بواسع المغفرة، وأثنى عليه بواسع فضله، وأثنى عليه بجزيل نعمه، فينظر الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه فيأتي بالثناء على الله بما يشعر بذلك، وهذا -كما نبهنا عليه- هو براعة الاستهلال، وكلما كان الخطيب بليغاً كان أعلم بمداخل الكلام وإيجازه، فيجمع المعنى الكثير في القول القليل، وسيأتي الحديث بعد عن هذا المعنى.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حمد الله وأثنى عليه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نفسه باسمه (محمد) ، فما كان يقول: اللهم صل عليَّ، بل يقول: اللهم صل على محمد لأن ذلك تشريع؛ ليأتي بعد ذلك من يخطب مقامه ومكانه فيأتي بهذا الاسم، ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه. فقوله: (أما بعد) أي: بعد تلك المقدمة وهي التي ينبغي أن يأتي بها الخطيب في أول خطبته.

قوله: (خير الحديث كتاب الله)

قوله: (خير الحديث كتاب الله) وقوله: (فإن خير الحديث كتاب الله) هذا هو نص القرآن الكريم، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] ، فهذا هو كتاب الله الذي تطمئن به قلوبهم: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فالقرآن هو أحسن الحديث. وهذه الآية الكريمة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] ، تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يشتغل بغير كلام الله؛ لأن كلام الله هو خير الحديث، فإذا لم تكن لك حاجة في موضوع آخر فليكن شغلك بكلام الله تلاوة ودراسة وفهماً وتمعناً، بأي وجه من الوجوه؛ لأنه خير الحديث، ولأنه خير الكلام.

قوله: (وخير الهدي هدي محمد)

قوله: (وخير الهدي هدي محمد) وأما قول الخطيب: (وخير الهدي هدي محمد) فقد ضبطه العلماء بوجهين: (خير الهَدْي) ، و (خير الهُدَى) ، والكتابة لا تختلف، فالهَدْيُ: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهدى الناس إليه، والهُدَى: ما هَدى الله به عباده عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] . وقوله: (هدي محمد) . محمد هو رسول الله، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هديي) ؛ لأن الخطيب الذي يجيء بعده إن قال (خير الهدي هديي) ، فليس له حقٌ في ذلك، وهذا في أساليب البلاغة يسمى التجريد، كما قالوا في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فهو يحدث نفسه وما عنده أحد، لكنه أوجد أو تخيل شخصية أخرى يخاطبها، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بالحقيقة فيقول: (خير الهدي هدي محمد) ، ومحمد هو رسول الله كما نص القرآن الكريم، فخير الهدي الذي يهتدي به الإنسان في سلوكه واتباعه ومنهجه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] . وفي بعض الروايات: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) بذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وبعض الروايات بدون الصلاة، ونحن يجب علينا أن نصلي إذا ذكرنا اسمه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث: (رغم أنف امرئ ذكرتَ عنده فلم يصل عليك) ، فإذا جاء اسمه صلوات الله وسلامه عليه في أي مناسبة باسم (نبيٍ) أو (رسولٍ) أو (محمد) فإنه يجب عليك أن تصلي وتسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

قوله: (وشر الأمور محدثاتها)

قوله: (وشر الأمور محدثاتها) قوله: (وشر الأمور محدثاتها) . إذا جئنا إلى اللفظ الأول فإنه إذا كان خير الهدي هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فمفهومه أن شر الأمور ما خرج عن هدي محمد، كما جاء: (كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود، ولكن هنا يأتي بالمعنى المفهوم صريحاً فيقول: (وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) . والأمور جمع أمرٍ، ويجمع على (أمور) لا على (أوامر) ؛ لأن كلمة (أمر) تجمع على (أمور) وهي الآحاد من الأحداث والوقائع، وتجمع على (أوامر) ، وهي صيغ (افعل) : (اكتب واجلس واقرأ وأحفظ) ، فكل هذه أوامر. فمعنى الأمور هنا: أحداث الحياة. و (محدثاتها) : مأخوذة من أصل المادة: (حدث) ، والحدث والإحداث يقال: شيء حادث، بمعنى: استجد بعد أن لم يكن، فشر الأمور بدون استثناء هي محدثاتها؛ ولكن يبنغي أن يعلم أن هذه الأمور المستحدثات التي هي شر كائنة في مقابل الهدي، أي: الأمر الديني الذي يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب. فيقول هنا: (شر الأمور محدثاتها) ، فلا يدخل تحت هذا الشر من المستحدثات ما كان من شئون الدنيا، وما كان لأهلها، فقد استحدثت صور عديدة في الحياة في المآكل والملابس والمشارب والمراكب {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] وجاءت أدوات ومستحدثات وصور أحدثها الإنسان استجابة لتطور الحياة، فلا يقال: تلك المستحدثات شرٌ لأنها داخلة في عموم (شر الأمور محدثاتها) ! إذ ينبغي أن يراعى أنه جاء اللام في (الأمور) في مقابل قوله: (وخير الهدي هدي محمد) ، أي: في الدين. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك غاية الإيضاح، وذلك في قضية تأبير النخل لما رآهم يؤبرون النخل بقلع الذكر، وقال: (لمَ تفعلون؟ قالوا: لأن يلقح. قال: إن أراد الله لكم شيئاً جاء، فتركوا التلقيح في ذلك العام، فجاء النخل كله بثمرٍ شيص -أي: ليس ملقحاً- فلما قالوا له: يا رسول الله! تركنا وكان كذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فأمور الدنيا لا تدخل في باب البدع، حتى اللباس، فلكل إنسان أن يلبس على طريقته ما لم يكن شعاراً خاصاً بغير المسلمين، كربط الزنار الأحمر الذي يشده أولئك الرهبان والقساوسة على وسطهم. وكذلك القبعة التي هي شعار للنصارى أو لغيرهم، فهذا شعارٌ لهم لا ينبغي لمسلم أن يتزين به، أما بقية أنواع الأزياء، أو أنواع المآكل أو المشارب فجائز ما لم يكن في محرم، كأن يستعمل أواني الذهب والفضة، فذلك ممنوع. وعلى أي طريقة جلس فلا مانع، سواءٌ جلس على مائدة أو على خوانٍ في الأرض، فكل ذلك لا حرج فيه، فقوله: (وشر الأمور محدثاتها) منصبٌ على من أحدث في الدين ما ليس فيه. ولهذا جاء عن إمام دار الهجرة رحمه الله مالك بن أنس قوله: (ما لم يكن ديناً في أول الإسلام لن يكون ديناً في آخره) ، ويقول: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا على ما صلح عليه أولها) .

قوله: (وكل بدعة ضلالة)

قوله: (وكل بدعة ضلالة) قوله: (وكل بدعة ضلالة) : هناك جملة تأتي في بعض الروايات، وهي: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ليتم التركيب المنطقي كما يقولون، فتكون كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فينتج أن كل محدثة في النار، فهذا التركيب اختصره الراوي في هذه العبارة، وأسقط الجملة الوسطى: (كل محدثة بدعة) ، وهذا يتوافق مع المعنى اللغوي؛ لأن الشيء الذي أحدث لم يكن موجوداً، أي: ابتدع. والبدعة مأخوذةٌ من الإبداع، والإبداع: إيجاد الشيء على غير هيئة سابقة، كما في قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، أي: خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق حاكاه، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: ما أنا أول من جاء بالرسالة، بل سبقني بالرسالات أنبياءٌ عديدون، وأنا جئت على أثرهم. ويستوقفنا هنا مجيء الحديث الآخر: (من سنة سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فقالوا: كيف يسن إنسان سنة حسنة؛ إذ يمكن أن يسن سنة سيئة، ولكن كيف يسن سنة حسنة؟ والجواب: إن معنى (سن سنة حسنة) ، أحيا سنة تركها الناس، أو أتى بعملٍ له أصلٌ في الإسلام. وأصل هذا الحديث أنه لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتصدقوا على الذين جاءوا مجتابي النمار وعليهم أثر الفاقة، وكان يوم الجمعة، فندب الناس ليتصدقوا فجاء بعضهم بالسويق وجاء بعضهم بثوب، وجاء بعضهم بالدرهم، إلى أن جاء رجلٌ بكيس يحمله في يده وألقاه بين يدي رسول الله وقد كادت يده تعجز عن حمله، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس بالمبالغ الكبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة) ، أي: صاحب هذا الكيس سن سنة حسنة للمتصدقين، ونقلهم عن السويق والثياب وغير ذلك إلى المبالغ الكبيرة، فهذا له أصل وهو الندب إلى الصدقة، والناس مشوا على القليل فسن لهم سنة حسنة، فكان ممن سن سنة حسنة. وقد جاء في الحديث أنه أحيلت الصلاة ثلاث مرات، ومما أحيلت فيه أنه كان المسبوق يأتي ويسأل الرجل في الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه أنهم قد صلوا واحدة أو اثنتين، فيأتي بالركعتين أو بالركعة التي فاتته، ويلحق الإمام في الصلاة، ويسلم مع الإمام؛ لأنه أتم صلاته، فما كان فاته فقد أتى به ثم أدرك الإمام ومشى معه، فقال معاذ: لن أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وتابعته عليها، فجاء وقد صلوا بعض الصلاة، فدخل حالاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف معاذ ما الذي بقي عليه من صلاته فقام وأتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاتبعوها) ، فهذه سنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا يأتينا خبر عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يصلون التراويح أوزاعاً، فكل قارئ خلفه عدد من الناس، وكل قوم يتبعون أحسن الناس صوتاً وقراءة، فقال عمر رضي الله عنه: (أرى لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً) ، فجمعهم على إمام واحد، ثم ذهب إلى المسجد بعد ذلك فرآهم مجتمعين على إمام واحد فقال: (نعمت البدعة) ، فكيف يقول عمر: نعمت -وهو وصف مدح- لبدعة وفي الحديث: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؟ فهل المعنى: نعمت الضلالة؟ حاشا وكلا. ونقول: إن عمر رضي الله عنه سن سنة لها أصلٌ، وذلك أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة من العشر الأواخر في رمضان، وصلى في المسجد بعد أن انصرف الناس من صلاة العشاء، فكان يوجد بعض الناس فصلوا خلفه ثم انصرفوا، فسمع الناس بصلاة بعضهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا في الليلة الثانية عدداً كثيراً، فلما خرج صلى الله عليه وسلم صلى كما صلى في الليلة الأولى، فصلى وراءه العدد الكثير ثم انصرف، ثم في الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة، فلما صلوا العشاء مكثوا في مكانهم، فقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما بال الناس؟ ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى. قال: وما شأنهم؟ قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى الناس من قبل، قال: قومي واطوي عنا حصيرك) وكانت تفرش له حصيراً في الروضة، فما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى الصبح. فهنا وقعت صلاة التراويح جماعة بإمام واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما منعه من الاستمرار في ذلك إلا ما صرح به صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً -لأنهم كانوا يتنحنحون، ويأخذون الحصباء ويرمون بها باب الحجرة، كأنهم يقولون: نحن هنا فاخرج إلينا- وما منعني إلا أني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) ، فترك الخروج من أجل العلة، وهي الشفقة عليهم من أن تفرض عليهم فلا يقدرون عليها. فلما انتهى عهد الفرض ونزول الوحي والتشريع من جديد وأمن ذلك، جاء عمر، فما زاد على أن جمعهم على إمام واحد كما صلوا خلف إمامٍ واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنة، ولكن عمر سماها بدعة من حيث اللغة، أي أنه أول من جمع الناس على إمامٍ واحد، فكانت صورة مبتكرة، وإن شئت قل: مبتدعة، أي: لا نظير لها من قبل، فلم ينصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً للناس فيها، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك عمر في أول خلافته، ولكنها في تلك اللحظات وجدت، لعدم وجود نظيرها من قبل. ومن هنا قيل: إن عمر حينما قال: (نعمت البدعة) أراد المعنى اللغوي، أي: العمل الجديد الذي وجد، ولا يريد معنى البدعة التي استحدثت في الدين. إذاً: كل محدثة أو كل أمرٍ محدثٍ بدعة، وتنصب على البدعة التي تقابل هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك مبحث طويل تكلم عنه صاحب الاعتصام وغيره في درجات البدع، فهناك بدع مكفرة وهي التي تتعلق بالعقائد، وهناك بدع مفسقة وهي التي تتعلق بالعبادات، وهناك بدع مخلة بالمروءة وهي ما كانت مغايرة للمندوب؛ فهي متفاوتة عند الفقهاء بحسب موضوعها الذي يتعلق بها، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه.

خلاف العلماء فيما لو أتى الخطيب بمقدمة فيها معنى الحمد والثناء

خلاف العلماء فيما لو أتى الخطيب بمقدمة فيها معنى الحمد والثناء قال رحمه الله تعالى: [وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) ] . يقولون: إن عبارات النحت هي التحميد والتسبيح والتهليل والحوقلة، فالتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، والتهليل: لا إله إلا الله، والحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويبحث الفقهاء فيما لو أن الخطيب أتى بلفظ سوى الحمد يؤدي معناه الشكر لله والثناء عليه، فالأئمة الثلاثة على أنه لا يجزئ، وعند الإمام أبي حنفية رحمه الله أن أي عبارة تفيد الثناء فهي مجزئة، كالحال في تكبيرة الإحرام (الله أكبر) حيث لا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ، عند الثلاثة خلافاً له. فقوله: (يحمد الله) ، أي: يقول: (الحمد لله) ، وأحب أن أنبه على شيء كثر استعماله، حيث نسمع كثيراً من الخطباء يقولون: (إن الحمدَ لله) ، وهنا ورد: (الحمدُ لله) ، فهل جاء في القرآن (إن الحمدَ لله) أم أن كل الصيغ (الحمدُ لله) كالتي في الفاتحة والكهف ونظائرهما؟ يقول العلماء: إن (أل) في (الحمد) للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وحينما تقول: (الحمد لله) فهي إنشاء منك بحمدك لله، وحينما تقول: (إن الحمدَ لله) فإن (إن) تدخل على الجملة الخبرية، فالمبتدأ اسمها والخبر خبرها، فكأنك حين تقول: (إن الحمدَ لله) تخبر بأن الحمد لله، فهل الذي يخبر بأن الحمد لله يثبت له أنه حمد الله أم أن ذلك مجرد إخبار فلا يتناسب مع تقديس المولى سبحانه ولا مع أداء المعنى المطلوب، فكونهم يجدون هذا اللفظ مستجداً ويستسيغونه لا يخرجه عن أن يكون مغاير للمعنى الأصلي المراد بحمد الله سبحانه. فقول: (إن الحمدَ لله) لا تؤدي المعنى الذي جاء في كتاب الله والذي جاء في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو (الحمدُ لله) . وبجانب الحمد يأتي بذكر الثناء والشكر، فهن ثلاث كلمات، أما الشكر فهو في مقابل النعمة، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) ، وفي الحديث: (من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى ترون أنكم كافأتموه) . أما الثناء فهو امتداح شخص فعل خيراً ولو لم يكن للذي يثني عليه، كما لو سمعت بطبيب ماهر أجرى عملية جيدة لإنسان لا يتصل بك بصلة من الرحم ولا من القرابة ولا غيرها، فإنك تثني على هذا الطبيب لمهارته في فنه بأنه أجاد العمل، فأنت تثني عليه لمهارته في عمله. أما الحمد فإنه امتداح لكمال ذات المحمود، لا لخيرٍ جاءك منه ولا لضرٍ دفعه عنك، ولا مقابل جميل أو معروف أسداه لغيرك ومهر فيه، إنما هو لكمال الذات ولو لم يصدر منها شيء، ولا يكون كمال الذات إلا لله سبحانه، ومن هنا قيل: إن (أل) في الحمد للاستغراق، وتستغرق جميع المحامد التي تحتويها لغات العالم، وتدركها قلوب الناس، فكلها مجموعة لله سبحانه، لكمال ذاته وتنزهه سبحانه وتعالى.

ارتفاع صوت الخطيب وعلاقته باتخاذ المبلغين

ارتفاع صوت الخطيب وعلاقته باتخاذ المبلغين قوله: (ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) وفي رواية له: (من يهد الله فلا مضل له) .

حكم اتخاذ المبلغين في المساجد

حكم اتخاذ المبلغين في المساجد قوله: (وقد علا صوته) صوت الإنسان مهما علا له حدود، فاتخاذ مكبرات الصوت ليعلو الصوت تابعٌ لهذا، وإلا فيحتاج إلى تأمل! فإن كان في حدود صوت المتكلم فهذا مطلوب، ولا مانع من ذلك، وله أصلٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في مرضه الأخير وجلس على يسار أبي بكر كان يصلي، ولما لم يكن صوت النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الناس كان أبو بكر يرفع صوته مبلغاً عن رسول الله. ومن هنا اتخذ المبلغ، وسميت المبلغة أو المكبر في المسجد النبوي بذلك؛ لأن المبلغ يصعد عليها ويكبر تكبيرات الانتقال ليتابع المأموم حركات الإمام في صلاته. وكان في المسجد النبوي مكبرتان وكانت الثانية في مؤخرته، وتستعمل المكبرتان وقت الموسم إذا كثر الناس، فإذا سمع من في المكبرة المتأخرة صوت المكبر في المقدمة يبلغ الناس عن الإمام، وكان العلماء رحمهم الله في دروسهم إذا كبرت الحلقة يتخذون مبلغين، فيقف شخص في الوسط من هنا ومن هنا ومن هناك، والشيخ أو العالم يقرأ الحديث، والذين حوله يأخذون منه مشافهة ويكتبون أو يسمعون، والمبلغون يعيدون لفظ الحديث لمن وراءهم فيأخذون الحديث بواسطة المبلغ.

قيام مكبرات الصوت مقام المبلغ

قيام مكبرات الصوت مقام المبلغ وقد يقول قائل: لقد وجدت هذه الأجهزة وهي مبلغة عن الإمام في قراءته وفي تنقله وحركات انتقاله، فلماذا نحتاج إلى المبلغ؟ ونقول: في بادئ الأمر كان يقع في الموسم أنه قد ينقطع التيار، وقد يتعطل الجهاز فيقع ارتباك في الصلاة في هذا المسجد بالذات، فوجود المبلغ أقل ما يقال فيه: إنه سنة سابقة، وإذا وجد هذا الجهاز فيكون عن طريقه أيضاً وقع هذا التبليغ، وعدم تغيير الشيء الثابت وعدم تغيير ما عليه الناس هو الأولى، كما قال مالك رحمه الله: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وكلٌ قد ذهب بما سمع من رسول الله، وتغيير أو انتقال الناس عما كانوا عليه ثقيل، فلا بأس بإمرار ذلك. ولكن إذا كان الصوت مزعجاً، ومعنى الإزعاج أن يصدر فيه تشويش، فيعالج، وقد جاء عن أحمد رحمه الله وعند المالكية تعدد المؤذنين للأذان الواحد للفريضة الواحدة، وقد أنشأ عثمان رضي الله عنه الأذان الأول للجمعة لحاجة الناس إليه، كما كان قد شرع أذان أول في صلاة الفجر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يرجع القائم ويتسحر الصائم، فكأن الأذان الأول في الفجر وجد بعد أن لم يكن؛ لحاجة الناس إليه، وعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فرأى من المصلحة أن يزيد أذاناً قبل الوقت وفي السوق؛ ليعلم الناس بقرب الوقت. فإذا دعت الحاجة إلى تعدد المؤذنين للوقت الواحد في المسجد الواحد فلا مانع، حتى قيل: يجوز التعدد إلى سبعة أشخاص يؤذنون. وأما كيف يؤذنون فقالوا: إن كان المسجد فسيحاً والبلدة منتشرة وقف كل واحد في جانب، ويؤذن كل واحد إلى الجهة التي تليه. وبعضهم يقول: يؤذن الأول، ثم الثاني ثم الثالث، إلا إذا كانت صلاة المغرب فإنهم يؤذنون في وقت واحد ما لم يكن فيه تشويش، فإذا لم يكن تشويش فلا مانع. ونحن نقول أيضاً: إذا نظمت هذه الأجهزة بحيث لا يقع منها تشويش بعضها على بعض، أو فيما كان مداه أبعد، فلا مانع في هذا. وما يوجد الآن من بعض المساجد التي لها أجهزة تبليغ -وفي يوم الجمعة بالذات- فلا ينبغي رفع الأصوات في تلك المساجد حتى تصل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأصل، وبها يقع التشويش على الناس. فاتخاذ هذه الأجهزة له أصل في السنة، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته. وأما إذا كان المستمعون لا يبلغهم صوت الإمام لكثرتهم، فالقول بأن عليه أن يبلغ الجميع فوق طاقته. وأما هل يتخذ مبلغين، فإنه لا يتخذ مبلغين، وما حدث ذلك في إبلاغ الخطبة قط، ولكن: من كان يستمع فعليه الإنصات إلى ما يسمع، ومن لم يبلغه صوت الخطيب فلم يسمع شيئاً فهناك من يقول: يصغي حتى لا يشوش على غيره. وهناك من يقول: له أن يشتغل بالتلاوة بدلاً من ضياع الوقت. فهناك حاجة إلى إبلاغ الصوت لجميع المستمعين، فاتخاذ هذه الأجهزة إنما هو لإسماع وإبلاغ جميع الحاضرين خطبة الإمام، ولأن الخطبة إنما هي إبلاغ وبيان لما ينبغي عليه بيانه، وفيها تلقي الموعظة والإرشاد في أمر ديني أو دنيوي من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم أم في أي منبر في العالم؛ فإنه تابع لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: امتدادٌ لسنته في بقاع الأرض. فإن الإنسان إذا سمع الموعظة، وسمع التوجيه من بيت من بيوت الله، وعلى منبر يحكي سنة رسول الله، كان أدعى إلى قبولها، وكان أرجى إلى سماعها وتنفيذها، والله تعالى أعلم.

الهداية وتعلقها بإرادة الله سبحانه وتعالى

الهداية وتعلقها بإرادة الله سبحانه وتعالى قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار) ] . يؤيد قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، فمن هداه الله سبحانه وتعالى فلا مضل له، ومن أراد الله إضلاله فلا هادي له. فإن هداه فبحكمته وفضله، وإن ضله فبحكمته وعدله، وليس لإنسان أن يقف يتساءل لماذا فعل هذا؟ ولماذا فعل هذا؟ فهذه قضية منتهية في أمر العقائد؛ لأنه إن هدى إنساناً فذلك فضل منه عليه، وإذا حرم إنساناً من الهداية فإنما أمسك عنه حقه، أي: حق الله سبحانه، وليس لمخلوق أن يعترض على الله، وليس لك حق في هذا، فالمسألة تبقى على عمومها: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) . فـ أبو جهل وأبو لهب ما أراد الله هدايتهما، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أبي طالب: (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله) ، ولو بذل كل جهده ما وسعه ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [4]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [4] حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة يوم الجمعة، وجعل ذلك من علامة فقه الخطيب، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم بسورة (ق) ، لكونها مناسبة للموعظة. وقد حث الشرع المصلين على الإنصات للخطبة حتى يتحقق الغرض المقصود بها من الاتعاظ والاعتبار.

أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة

أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) رواه مسلم] . الجمعة -كما نعلم- من شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس أنها سنة مؤكدة، وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم الجمعة شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] . وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم) ، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه) ، وذلك أن في يوم الجمعة اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة، وفيها يتعرف أهل البلد بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع إجباري ومؤاخاة إلزامية. ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة العظيمة، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في كل يوم جمعة، يعلم الخطيب الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح والإرشاد، ويعالج ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس. وهنا يسوق المؤلف رحمه الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مقارناً بين الصلاة والخطبة: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي تطويل الخطبة على وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة إسماع المجتمعين آيات من كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى قدرته على التحكم في الكلام؛ لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل. وقد جاء عن الصديق رضي الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا تكثر فينسي آخر الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك ما تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي أوله. وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من كتاب الله وعلى الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع، وجمع أطرافه في كلمات موجزة فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة أم في غيرها، أنه إذا ما خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت الخطبة فإنه يستطيع أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات البين، وذكر الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر الساعين فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه. أما إذا أخذ الخطيب موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع الأول، ثم انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع، ولم يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب متعددة، ودار حول الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع بنتيجة مستوفاة، والذي يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله ويوجزه ويعطيه للمستمع. أما إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون أطول من الآخر الخطبة أم الصلاة؟ ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي خلاف ذلك، وكثيراً ما نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن الخطيب يراعي ما تعوده السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو اختصر ربما اتهموه بالعيِّ واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة، ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب السنة، وهو أن تكون الخطبة موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من أبرز ما يكون من قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك، فيعالجه بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة [وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) ، رواه مسلم. ] بعد أن ذكر المؤلف قصر الخطبة وطول الصلاة، ذكر عن أم هشام أنها تقول: (ما أخذت سورة ق إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخطب من على أعواد المنبر) ، والكلام على هذا الحديث من جهتين:

لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق)

لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق) الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر الخطبة، فهل تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ق) ؟ الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم الجمعة؟ فهاتان الجهتان هما موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث النبوي الشريف. أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة فلا تعارض بينهما؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي ويدرك الركعة الأولى، فإذا كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات، فمعناه أنها بالنسبة إلى سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة. ثم هل كان صلى الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه السورة؟ فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة. وهنا يقال: إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من صدئها، وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16] ، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] ، فترك الموعظة يترك القلوب تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير القلوب رطبة بذكر الله، ولذا جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] ، فكذلك يحيي القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون مع الموعظة التوجيه والإرشاد. وقد كانت الخطبة تستعمل لغير الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ أمراً أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر) ، فيحضرون ويجتمعون فيخطب، فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) ، ويبين صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل إعلام، وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة الجمعة، بل تعالج في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك، وأصبحت معالجتها في النوادي والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا تعارض بينهما. وفي قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله) نفهم منه أن أخذ القرآن كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة سبحانه، فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله بدون واسطة، وسمعه رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من رب العزة بدون واسطة. وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه من المصحف قراءة، بل لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام القراءة، لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن تلاوة وسماع. وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنه قال: أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت اليهود والنصارى، قال: وما ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم يعترض على قراءة بعض. فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت إلى حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد، وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ، وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل مصحف قارئ يقرئ الناس ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً. وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر، والمنبر إنما صنع في السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها لهذه السورة الكريمة، وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.

حكم قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة

حكم قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة وبقي حكم قراءة هذه السورة في الخطبة، وعلاقة هذه السورة بيوم الجمعة. أما حكمها فيتفق الجميع على أنه ليس بواجب، وأنه من شاء قرأها ومن شاء قرأ غيرها. أما علاقتها فتقدم لنا في القراءة في فجر يوم الجمعة أنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ - أي: أحياناً - سورة السجدة وسورة (هل أتى على الإنسان) ، وقالوا في ذلك: إن يوم الجمعة هو يوم أبينا آدم، وهو أول وجود الخليقة؛ لأن آدم عليه السلام إنما خلق يوم الجمعة، وأسكن الجنة يوم الجمعة، وسجد الملائكة له يوم الجمعة، وهبط إلى الأرض، وتيب عليه يوم الجمعة. فقالوا: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الإثنين للنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه دخل المدينة، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن سورة السجدة و (هل أتى على الإنسان) فيهما قصة خلق الإنسان، وفيهما ذكر المعاد والجزاء، فيذكر الإنسان بمبدئه ومعاده ليعمل لذلك اليوم، فكذلك سورة (ق) ، في علاقتها بيوم الجمعة، وعلاقتها بيوم البعث، وقد ذكر فيها أكثر علامات أو دلائل البعث على المنكرين.

سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر

سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، والحروف المقطعة كـ (ق) و (ص) و (ن) و (طه) و (يس) و (ألم) سواءٌ كانت حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن يقول فيها قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم، وغاية ما قال العلماء إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما تحدى الله العرب بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، وعجزوا عن المماثلة بسورة منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف التي تتكلمون بها، وتنظمون بها أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و (ص) و (ن) و (ألم) و (ألر) و (كهعيص) ، فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها نظم؟ وقالوا: هذا بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ الكلام، فيقول إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل مثله فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له: اصنع جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة الأساسية بين يديه. وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] ، وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2] أي: القرآن، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه:1-2] ، فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث عن القرآن، فكأنه يقول في مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ} [يس:1-2] : إن القرآن جمع من هذه الحرف. والله أعلم بالحقيقة. وفي قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن، فكيف يقسم لهم بما ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه عن جهالة. وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} [ق:2] يعني ما كذبوا بالقرآن، ولكن هذا إضراب {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2] ، فعجبوا أن الوحي يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:31-32] ، فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد قسمه بينهم، ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] . قال تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم استنكروا فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) ، وقد أجاب الله تعالى عن استبعادهم بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] ؛ لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي يجمعنا؟ ومن ذلك ما ذكره تعالى في آخر سورة يس {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ، فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء العظام وهي رميم، وقال تعالى عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . وهنا يقول تعالى عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم بالتراب، وذهب اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] ، فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ حفيظ بذلك كله. فالله تعالى يقول: (قد علمنا) ولم يقل: (سنعلم) ، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] . قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أي: مختلط عليهم. ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] أي: ألا ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس فيها من شقوق ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن الذي خلقه ورفعه،؟ قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] . قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:7] ، وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟ قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة والماء واحد ولكن النبات مختلف {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] . قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:9-10] فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً ورماناً، فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟ قال تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة على البعث. وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي ثلاثة: فمن أدلة البعث خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] . ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78-79] . ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] ، والآية الأخرى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39] . وهنا أيضاً قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10] إلى قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] واسم الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا به بلدة ميتة، ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم. وبقي من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، وطلب إبراهيم: {رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فهي عملية مشاهدة في طيور متعددة. والعزير وحماره وطعامه الذي لم يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي كان قد طبخ ليتغدى به، فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً. في مقدمة هذه السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) . ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي جزاء المحسنين، إلى آخر ما في السورة الكريمة. وهل كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب أحواله، ولم يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن يقرأ بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.

ما يجب على المستمعين حال الخطبة

ما يجب على المستمعين حال الخطبة [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً] . بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب فيما يتعلق بموضوع الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره الخطيب من المواضيع من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بما يتعلق بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق من يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما يخرج غير الخطبة في يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي هي لأمور اجتماعية. وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ، وليس لها مفهوم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب) ، معناه: أن الكلام قبل بدء الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس يقول: إذا صعد الإمام المنبر امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في خطبته، فبعض الناس كان يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما قالوا: إن مجيء الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى: أن مجيئه يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت) ، فبعضهم يقول: مجيء الإمام يمنع الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه وبين المنبر إلا خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي النافلة. ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان بيته ملاصقاً للمسجد -كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد أن يؤذن على السطح أو على المنارة الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن يصعد إلى المنبر، وإذا كان بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ من المنبر، حتى إذا قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر. وهنا نص الحديث: (والإمام يخطب) ، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب) ، وهذا عام، ويستثنى من ذلك من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء من أجل أن لا يفوت المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا الخطبة، ولما كان للخطبة كبير فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك: أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال للثاني: أنصت أنصت. لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه أن يسكت نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى أكثر عدد، وأمكن للجميع أن يستفيدوا من صوته. أما إذا كان المتحدث مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه، فلا يفوته ولا غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على سؤاله أو كلامه، ثم يستأنف خطبته. ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل وجفاف الأراضي ونحو ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة واستسقى وسقوا، ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا. فدعا الله وسأله، وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا يمشون في الشمس. وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني الإسلام، فيترك الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر ويكمل خطبته. فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع الحاضرين، فحينما دخل رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد آنيت وآذيت) . وآخر جاء وجلس، فترك الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما وتجوز فيهما) . إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل يأتي بمصلحة جديدة. وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه به القرآن الكريم علماء بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فحملوها بالقوة، ولكن لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والأسفار: جمع سفر، وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم يستفد منها بشيء، وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك علماء بني إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم كمثل الأسفار على ظهر الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا يستفيد منه شيئاً. فكذلك الإنسان حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه الأمانة ولم ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين يديه علم وهو إنما جاء لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما قال أحمد - مثل السوء. فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي، فـ الشافعي قال: ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه) ، فإن الكلب لا تكليف عليه، فلا حرمة في ذلك. فقال أحمد: ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي بهذا. وكذلك هذا المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه. ثم جاء في تتمة هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) . فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: اسكت، مرتكب لمنكر، فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القمة من العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛ لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة الظهر، فتلغى الجمعة وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر كما في الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ويبقى إجزاء الفرض وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو الخميس، أما فضيلة الجمعة فلا يحصل عليها. وبعضهم يقول: لا جمعة له ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة الظهر. والموضع موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع. ثم للعلماء مبحث آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب ولا يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع المصلي من الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟ بعضهم يقول: له ذلك إذا كان بتلاوة القرآن، وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] . والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة أو بالذكر ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون. والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله أجر المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5] أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين تحية المسجد، وإن كان الإمام يخطب، فإنه لا تعارض بين الأمر بالإنصات وبين هذه الصلاة؛ فهي من ذوات السبب التي حث عليها الشارع. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون؛ وذلك لمناسبتهما في الأمر بتعظيم هذه الصلاة، وترك التشبه بالمنافقين في التباطؤ عن الصلاة وعدم التبكير لها، وترك التشبه باليهود الذين لم يلتزموا بالتوراة ولم يعملوا بما فيها.

شرح حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل وقت الخطبة بالصلاة

شرح حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل وقت الخطبة بالصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صليت؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين) متفق عليه] . تقدم النهي عن الكلام وقت الخطبة، وأن من قال للمتكلم: أنصت فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له. ويأتينا هنا عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، ولم يسم الرجل، وعدم تسمية هذا الرجل لا يضر في الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة جميعاً لا يبحث عن عدالتهم، وأياً كان فهو رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبرة بـ جابر، وهو معروف، وهو الذي يروي القصة. فدخل هذا الرجل -وقد سمي، وهو سليك الغطفاني رضي الله عنه- والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، والغالب أن تكون الخطبة للصلاة، وليست لأمر آخر، وليست قبل الظهر أو بعد العصر أو غير ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صليت؟) بحذف همزة الاستفهام، وفي بعض الروايات: (أصليت؟) أي: أصليت ركعتين تحية المسجد؛ فقال الرجل: لم أصلهما، فقال صلى الله عليه وسلم: (قم فصل ركعتي) ن، وفي بعض الروايات: (وتجاوز فيهما) يعني: خفف القراءة وخفف الصلاة حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً. وهذا الحديث على وجازة لفظه، يتكلم عليه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بما يقرب من أربع صفحات، ويبحثه من عدة جوانب.

حكم صلاة تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب

حكم صلاة تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب وأهم ما يقال في هذا أن الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب جلس فسأله، ثم أمره، فيأتي الكلام في هذا الحديث من جهة تحية المسجد، والصلاة وقت النهي عن النوافل، والاشتغال عن الخطبة، وقد جاء به المؤلف بعد الأمر بالإنصات والنهي عن تنصيته، فما حكم هذا الحديث مع ما تقدم؟ إن أكثر العلماء جعلوا بين الحديث الذي معنا والذي قبله تعارضاً؛ لأن الأول فيه: (والذي يقول أنصت ليست له جمعة) ، وهذا سيشتغل بصلاة ركعتين والإمام يخطب، فهل أنصت؟ قالوا: اشتغل عن الإنصات والإصغاء للخطيب بالصلاة فحصل تعارض، ومن هنا وقع الخلاف بين الأئمة رحمهم الله. وابن حجر يقول: الشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: يصلي لهذا النص، ويجيبون عن حديث الإنصات بأجوبة أوصلها ابن حجر إلى تسعة أجوبة، والآخرون وهم مالك ومن وافقه يقولون: لا يصلي. فـ الشافعي عمل بهذا النص في هذا الموطن، ومالك وأهل المدينة جميعاً ما عدا ابن المسيب عملوا بالأحاديث الأخرى، وقالوا: لو أن كل داخل سيكلمه الخطيب بأن يقوم لاشتغل الخطيب بتنبيه الناس عن الخطبة، ولحصل تقطيع الخطبة وعدم المتابعة، فقالوا: لا يصلي. ثم بنوا الكلام على كون الإصغاء فرضاً أو ليس بفرض؟ ثم هل تحية المسجد واجبة أو سنة؟ ثم على وقت النهي، ونحن نعلم أن أوقات النهي سبعة، منها حين الخطبة. ولكن الذين يقولون بحديث سليك قالوا: النهي عن الصلاة وقت الخطبة للحاضر الجالس الموجود قبل أن يأتي الإمام، فلا يحق له بعد مجيء الإمام وصعوده المنبر وشروعه في الخطبة أن ينشئ صلاة النافلة؛ لأنه مطالب بأن يصغي إلى الإمام وأن ينصت، أما القادم من الخارج فهو خارج عن هذا النهي. والآخرون أيضاً كـ الشافعي قالوا: إذا صح أن يصلي القادم وقت الخطبة وهي وقت نهي فإن النهي لا يتناول عموم ذوات الأسباب، وجعلوه من أدلتهم؛ لأنه أجاز له النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمره أن يصلي وقت النهي وهو وقت الخطبة، والجمهور قالوا: إن هذه قضية عين في هذا الشخص ولعل لها أسباباً. وقالوا: من أسبابها أن سليكاً دخل بثياب رثة، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد له أن يقوم فيصلي فيراه الناس لعلهم يتصدقون عليه، وأجيب عن ذلك بأن ذلك تكرر منه ثلاث مرات، وفي أول مرة تصدق عليه بثوبين، ففي المرة الثانية جاء وعليه ثوبٌ منهما وقد تصدق بالثوب الثاني، فقيل له: لا تفعل. أي: لا تتصدق وأنت محتاج، فحمل بعضهم قول (لا تفعل) على أن المراد: لا تجلس حتى تصلي ركعتين وإذا جئنا إلى مجمل القول في تحية المسجد فإننا نعلم جميعاً بأنها من السنن وليست من الواجبات. وقد استدل ابن حزم وغيره بحديث الرجل الذي جاء من نجد وسأله: (ماذا فرض الله عليَّ من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة) ، قالوا: لو أننا جعلنا تحية المسجد واجبة كالظهر والعصر لكان المكتوب ستاً لا خمساً، بل قد تكون عشراً، فكلما دخل وجب عليه أن يصلي، ولكن جنسها يكون سادساً مع الخمس. فهي سنة وليست بواجبة.

حكم الإنصات للخطبة والترجيح بينه وبين تحية المسجد للداخل

حكم الإنصات للخطبة والترجيح بينه وبين تحية المسجد للداخل وأما الخلاف في الإصغاء أهو واجب أو ليس بواجب فالجمهور على وجوبه، بدليلٍ أن الكلام يلغي فضل الجمعة، وأما هل تجزئه عن الظهر أو لا فهذا خلاف آخر. فالإصغاء إلى الخطبة أهم من تحية المسجد، ولو كان الأمر كذلك لكان تقديم الإصغاء على تحية المسجد مقدماً، ولكن -كما يقول العلماء- لا نقيس وعندنا نص، فهذا رجلٌ دخل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوم فيصلي، وبذلك استدل أيضاً بعض العلماء على أن تحية المسجد لا تسقط بالجلوس؛ لأنه بعدما جلس قال ل: (هقم فصل ركعتين) ، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة. فالخلاف في ذلك طويل، ومالك رحمه الله وأهل المدينة يعتبرون اتفاق أهل المدينة على عدم الصلاة وقت الخطبة للقادم وللجالس على عموم النهي، ولكن جاء أن أحد فقهاء المدينة السبعة سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي الله عنه دخل ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- يخطب، فقام ليصلي ركعتين، فجاء حرس مروان الأمير ليمنعوه، فلم يمتنع حتى صلى الركعتين، ثم قال: ما كنت لأدعهما وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهما. ثم الذين يقولون بهما قالوا: ورد الأمر بالإصغاء والإنصات هو حتى لا تشغل غيرك، ولا تشوش على الآخرين، وهذا المصلي لم يتكلم مع غيره، ولم يشوش على غيره، وصلاته لا تمنعه أن يسمع خطبة الإمام؛ لأنه يصلي صلاة سرية، والخطبة تأتي إلى مسامعه، فقد يسمع ذلك ولا يفوته منها شيء. ثم مراعاة للواقع جاء في الحديث: (وتجوز) ، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لحظ ما يجب على المصلي من الإصغاء، ولحظ ما ينبغي للقادم من الصلاة، فجمع بين الأمرين: الإصغاء مع الصلاة، فالإصغاء في كونه يتجوز، أي: يخفف ويقصر الزمن، فلا يفوته الكثير من الخطبة، ويأتي بتحية المسجد فلا يضيعها، ويكون قد جمع بين الأمرين. والجمهور على أنه يترك ولا يصلي، والشافعي رحمه الله على أنه يصلي ويتجوز فيهما، وعلماء الحديث قاطبة على تقديم هذا الحديث على العمومات الأخرى، قالوا: عمومات النهي يخصصها القادم يوم الجمعة وقت الخطبة، وأحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات السبعة على ما هي عليه، وهذه خصت كما خصت الصلاة بعد العصر بقضاء الفائتة، وكما خصت غيرها بصلاة الكسوف أو غيرها في أوقات النهي، فهذا الحديث يخصص عمومات النهي عن الصلاة في تلك الأوقات. ومن أجوبتهم أيضاً: أن الحديث قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه دخل رجل والنبي يخطب، وليس فيه ذكر يوم الجمعة، قالوا: فلعل ذلك يكون في غير يوم الجمعة فيكون بعيداً من الوقت المنهي عنه. ولكن أجيب عن ذلك بأنه صرح في الحديث أنه كان يخطب يوم الجمعة، ومعلوم عندنا أن الجنس يقدم فيه أعلاه، فالخطبة أعلاها في الإسلام هي خطبة الصلاة ليوم الجمعة، ولا يكون يوم الجمعة خطبة في العادة إلا للصلاة، وقد تكون خطبة بعد العصر أو في الضحى لأمر آخر، لكن إذا أطلقت انصرف المعنى إلى خطبة الصلاة وخطبة الجمعة بذاتها، وعلى هذا فالأنسب للقادم إلى المسجد والإمام يخطب أن يصلي الركعتين متجوزاً فيهما.

وقوف المتأخر إلى نهاية الخطبة الأولى ثم يصلي تحية المسجد

وقوف المتأخر إلى نهاية الخطبة الأولى ثم يصلي تحية المسجد وقد نشاهد بعض الناس يظل واقفاً إلى أن ينتهي الإمام من الخطبة الأولى، ثم ينشئ الصلاة، أو يجلس حتى إذا بدأ الإمام في الخطبة الثانية قام وصلى، والخطبة الثانية والخطبة الأولى سواء، وما دام أنه قد أذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة حينما يدخل الإنسان وقبل أن يجلس، فليصلها ولا يظل واقفاً، حتى إن بعضهم قال: لا يدخل المسجد حتى لا يتعارض وجوب الإصغاء مع الأمر بالصلاة، وهذا شيء عجيب، فهو يفوت على نفسه سماع الخطبة ويخالف بذلك الحديث. وعلى من أتى الجمعة أن يحاول أن يبكر قبل أن يجيء الإمام؛ لأن هذا سنة، وقد قيل: أول سنة تركت هي التبكير يوم الجمعة. وعمر رضي الله عنه يعاتب عثمان رضي الله عنه حينما دخل المسجد وعمر يخطب، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين! ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فأتيت. قال: والوضوء أيضاً؟ يعني: وأيضاً ما اغتسلت! فهنا عمر رضي الله عنه ما قبل من عثمان أن يتأخر حتى يأتي وقت الخطبة، وهل عمر عاتب كل إنسان؟ وهل جاءنا أن عمر عاتب كل من تأخر؟ والجواب: لا، فالناس لهم أعذارهم، ولكن عثمان من أئمة الصحابة ومن قادتهم، وصدور الشيء من قادة الناس بخلافه من عامتهم، كما قال عمر لـ طلحة وقد رآه لابساً ثوباً مصبوغاً: ما هذا يا طلحة؟ وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الصبغ بالورس والزعفران! -والورس والزعفران يعطيان لوناً أحمر- قال: يا أمير المؤمنين! ما هو بورس ولا زعفران، وإنما هي المغرة. قال: يا طلحة! إنك من أصحاب رسول الله -أي: من طليعتهم ومن أكابر أصحاب رسول الله- فلعل رجلاً يراك بهذا فيظن أنك صبغت بورس وزعفران، وأنتم أئمة يقتدى بكم. فلما كان طلحة من الذين يقتدى بهم كان عليه أن يتباعد عما فيه الشبهة؛ لئلا يظن جاهل أنه ارتكب ما نهي عنه، فيقتدي به، وكذلك عثمان إمام يقتدى به، فإذا كان عثمان يتأخر فمن سيتقدم؟ ولكن كما يقولون: الناس لها أعذارها. ولذلك لما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه أنشأ أذاناً قبل الوقت على الزوراء، والزوراء كانت عند باب الشام الذي فيه الآثار القديمة، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي أربعمائة متر، وكان في سوق كما يقال، أو عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت، وكان في وسط سوق المدينة، فكان المؤذن بأمر عثمان يؤذن قبل الوقت لينقلب أهل السوق إلى بيوتهم ليتهيئوا للجمعة، وليحضروا إلى المسجد قبل أن يدخل وقت الأذان الذي به تكون الصلاة، وذلك لأنه لما وقع فيما وقع فيه قال: ما لبثت أن سمعت الأذان فتوضأت وجئت. يعني: لو كان هناك تنبيه قبل هذا كنت جئت، فهو أحدث التنبيه السابق ليتهيأ الناس قبل الوقت، وليأتوا متهيئين؛ لئلا يفوتهم أول خطبة الإمام يوم الجمعة. فالواجب على الإنسان التبكير، ويذكر بعض العلماء أن أهل المدينة كانوا ربما قدموا إلى الجمعة ومعهم المصابيح تضيء لهم الطريق، أي: كانوا يجيئون فيصلون الصبح ثم يقعدون، كما يحصل في صلاة العيد، حيث يبكر الناس لأجل الأماكن، وقد جاء في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة ... ) إلخ، فالواجب أن يبادر الإنسان إلى الجمعة، فإذا ما تأخر لعذر وجاء والإمام يخطب فليصل ركعتين كما في هذا الحديث. وبعضهم يجيب عن هذا الحديث بكونها قضية عين، ومعنى أنها قضية عين عند الفقهاء أنها خاصة بشخص معين، وأنه حديث غير عام، فلم يقل: من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين ويخفف فيهما، فلو جاء مثل هذا النص لكان تشريعاً عاماً، فقالوا: هي قضية عين؛ إذ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت الأنظار إلى سليك ليتصدق الناس عليه. فقالوا: لا يصلح هذا أن يكون دليلاً لجميع الناس، ولكن يجيب بعض العلماء على أن قضية العين أعقبها تشريع عام، حيث قال: (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما) ، ثم قال: (من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) ، فانتهت قضية العين وأعقبها تشريع عام لكل من أتى، وبعضهم يقول: هذا الحديث ضعيف لا يقاوم الأحاديث الأخرى. والأرجح في ذلك العمل بهذا الحديث، فعلى الداخل أن يصلي ركعتين خيفيفتين، والله تعالى أعلم.

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين) ، رواه مسلم] . تقدم عن أم هشام قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يخطب بها الناس على أعواد منبره يوم الجمعة) قالوا: إن (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فقال بعض العلماء: كان يقرأ دائماً، وأشرنا إلى أن هذا ليس بلازم، فحيناً يقرأ بها وحيناً يقرأ بغيرها، فمن شاء قرأها ومن شاء قرأ بعضها، ومن شاء قرأ غيرها من السور. وهنا يأتينا المؤلف رحمه الله بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة وسورة المنافقون، وسيأتينا حديث آخر فيه أنه كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك) ، فليس هناك ملازمة ولا مداومة ولا تعيين لسورة بعينها، ويكون ذلك من باب الأكثرية، فأكثر ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بهذه السور، ولهذا أخذت عن لسانه على المنبر، وحفظ عند الصحابة رضي الله عنهم. وقد أشرنا أن سورة (ق) اشتملت من أدلة البعث على ثلاثة من أربعة، وهنا أيضاً يتكلم العلماء عن مناسبة سورة الجمعة -وهي باسم اليوم- وعن مناسبة سورة المنافقون، فيقولون: قراءة سورة الجمعة تعزيز وتدعيم وتهييج وتقوية وإثارة للمؤمنين بما فيها من توجيهات، وحث على الجمعة والمحافظة عليها، وتعريض باليهود، وسورة المنافقون خاصة بهم، ففيها تحذير وكشف عن حقائقهم، وكشف مواقفهم، ولهذا نحب أن نلم بالسورتين إلماماً سريعاً كما ألممنا بمقدمة سورة (ق) .

قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض.

قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض ... ) ففي مقدمة سورة الجمعة يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1] ، وسورة الجمعة قبلها سورة الصف، وافتتحت سورة الصف بـ (سبح) ، وهو فعلٌ ماض، وفي أول الجمعة (يسبح) ، وهو فعل مضارع، وهذا الفعل -كما أشرنا إلى ذلك في تتمة أضواء البيان- جاء في القرآن الكريم بكل تصاريفه، فجاء بالماضي وبالمضارع وبالأمر كقوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى:1] ، وبالمصدر، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] ، فكل تصاريف هذه المادة جاءت في القرآن الكريم تنزيهاً لله سبحانه وتعالى. وقد جاء في هاتين السورتين -أي الجمعة والصف- ما يدل على عموم وشمول هذه المادة لجميع الكائنات، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وجاء التفصيل كقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13] ، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ، فجاء في حق الإنسان والملائكة والرعد والجماد وغير ذلك، وهذا لعظيم شأنه سبحانه. والتسبيح هو التنزيه، وقد أشرنا إلى ذلك في مدلول قول: (سبحان الله والحمد لله) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيهما، قوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده) ؛ لأنهما تجمعان طرفي التنزيه وكمال التوحيد، فـ (سبحان) تنزيه لله عن كل نقص، وعن كل ما لا يليق بجلاله؛ لأن مادة (س ب ح) إنما وضعت للسباحة في الماء، والسابح في الماء يبذل جهده لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح ربه، فهو يسبح في ملكوت الله، وفي علم الله، وفي مقدوره واعتقاده لينجو من هلكة الشرك بأن ينسب إلى الله ما لا يليق به. والحمد -كما قالوا-: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته، وليس لما يصدر عنه من نعم وغير ذلك، فجمع قوله: (سبحان الله وبحمده) طرفي التوحيد والكمال لله تعالى. وهنا يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجمعة:1] ، و (ما) -كما يقال - تكون لغير العاقل، وتكون للجماد، ولا تستعمل للعاقل إلا بالتنزيل، وهنا إثبات تسبيح عالم السماء وعالم الأرض لله الملك القدوس.

قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا.

قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً ... ) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة:2] ، فبعد تسبيح الله جاء تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى؛ لأنه جعل من الأمي رسولاً إلى الأميين، وهم العرب؛ ولكن ما بعث في الأميين للأميين، وإنما بعث في الأميين للعالمين. فبعث فيهم من جنسهم، ولكن للناس كافة، فقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] ، فهو أمّي ورسول، ومهمته هي كما قال تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] ، فهذا أمّي في أمة أمية يصبح معلماً للكتاب، ويزكي الأمة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الضلال إلى الهداية، أليست هذه معجزة؟ بلى إنها معجزة. فلو جيء بفيلسوف عبقري إلى جماعة يعلمهم ويرشدهم، لقيل: هذه فلسفة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسم لم يقرأ ولم يكتب، لكن كل علوم الدنيا أنزلت عليه في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء ليعلمهم الكتاب، ويعلمهم الحكمة، ويزكيهم مما كانوا عليه {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .

قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم.

قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ... ) ولم يقتصر تعليمه على من عاصرهم، بل قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] أي: لما يأتوا بعده ولما سئل صلى الله عليه وسلم:: (من هم هؤلاء الآخرون يا رسول الله؟ وكان سلمان الفارسي جالساً فوضع بيده على ظهره وقال: لو أن الإيمان في الثريّا لبلغه رجالٌ من قوم هذا) يعني: هم فارس والروم، وفي ذلك الوقت ما دخل في الإسلام منهم أحد سوى سلمان رضي الله عنه. ومن العجيب أنه في صدر الإسلام يسوق الله من جميع الأمم والأجناس أصنافاً تشترك في الإسلام، وتستظل بدوحة الإيمان، كـ سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وكما يقال: الواحد بالجنس، فإذا أسلم واحد من الفرس أمكن إسلام الجميع؛ لأنه واحد منهم، وإذا أسلم واحد من الروم أمكن إسلام الجميع، وإذا أسلم واحد من الحبشة أمكن إسلام الجميع؛ لأن الذي يجري على واحد من جنس يجري على جميع أفراد الجنس، فالإنسان -كما يقال- حيوان ناطق، فما يجري على فرد من أفراد الحيوانات يجري على جميع أفرادها، فالحيوان يجوع ويعطش ويشبع ويروى ويمرض ويموت، وكذلك جميع أفراد الحيوانات، فكذلك هذه الأجناس البشرية جاءت منها نماذج واستظلت بدوحة الإيمان في الجزيرة العربية. فمن كمال الرسالة ومن تمام النعمة أن الدعوة الإسلامية لم تقتصر على من نشأت فيهم وبين أيديهم، ولكنها ستمتد وتأتي إلى آخرين لما يلحقوا ولم يأتوا بعد، وقد جاء في الأثر -كما يذكر ابن كثير -: (إن في أصلاب رجال ونساء من أمتي قوم سيدخلون في الإسلام) ، وفي الحديث أنه قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي وسيأتي بعدكم إخوانٌ لنا. قالوا: ألسنا بإخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواننا قومٌ لم يأتوا بعد، آمنوا بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بملء الأرض ذهباً) . وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، وقد جاء رجل إلى الحسن رضي الله عنه، وتكلم عنده على ما حصل من علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال: يا هذا أأنت من الفقراء المهاجرين؟ قال: لا. قال: أأنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قال: لا. قال: ما أظنك أيضاً من الفرقة الثالثة: (الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، بل جئت تطعن فيهم، وجئت تتكلم عليهم فاخرج عنا. ولذا جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: من كره أصحاب رسول الله فليس له حظٌ في الفيء. ويهمنا هذا التقسيم الثلاثي الذي أشار إليه الحسن رضي الله عنه، فالمسلمون إما مهاجرون، وإما أنصار تبوءوا الدار والإيمان من قبل مجيء المهاجرين، وإما آتون من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . ومن هنا يعلم أن كل من كان في قلبه شائبة غل لأحد من أصحاب رسول الله، أو من أتباعهم فليحذر، وليخش على نفسه، فإنه في موضع خطرٍ عظيم عليه. وهنا يقول تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] ، و (لما) تأتي في اللغة للنفي مع ترجي الحصول، بخلاف (لم) فقولنا: (لما يأت زيد) ، معناه: لم يحضر وسيحضر، كما في قوله سبحانه في حق الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، أي: لكن يطمع في دخوله. ولذا تقول: أثمرت الشجرة ولما تونع الثمرة، أي: هي في طريقها إلى الإيناع.

قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ... ) قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] . (ذلك) اسم إشارة يرجع إلى ما قبله، فيشمل بعثة النبي الأمي من الأميين، ويشمل شمول بعثته لتعليم الأميين الكتاب والحكمة وتزكيتهم مع الذين يأتون من بعدهم. فهو فضل نعمة النبوة على الأمة التي أنعم عليها بهذا النبي الأمي الكريم، ونعمة امتداد الدعوة وشمولها لمن لم يشهد نزول الآية الكريمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) ، ولهذا كان الإنعام على العبد بالإيمان محض نعمة من الله، حتى قال العلماء: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: إيجاده من العدم، ونعمة الإسلام، ودخول الجنة. وبيان ذلك أن الإنسان قبل أن يوجد في هذه الدنيا ويبصر بعينيه كان في العدم، ولم يكن منه فعل يوجب خروجه إلى الدنيا؛ لأنه معدوم، والعدم لا يكون منه وجود، وغاية ما يكون أن أبويه تزوجا واجتمعا، وليس كل اجتماع زوجين يتأتى منه الولد، بل هي هبة من الله، كما قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] . فإيجاده نعمة من الله، وإلا فلو كان الأبوان عقيمين فمن أين سيأتي؟ فهي نعمة من الله لم يكن للإنسان فيها كسب. والنعمة الثانية: نعمة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، هذا الشخص الذي ولد من أبوين مسلمين، لو قدر له أن يولد من أبوين نصرانيين أو يهوديين فينصرانه أو يهودانه، مع أن أول مجيئه إلى الدنيا كان على الفطرة، فكون الإنسان يولد من أبوين مسلمين لا كسب له ولا عمل له في ذلك. وكذلك دخول الجنة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، فقوله تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فضلاً على الأمة التي بعث فيها، وعلى الذين يأتون بعد ذلك، فتعمهم وتشملهم الدعوة. وها نحن والحمد لله في القرن الخامس عشر بعد بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم نقرأ القرآن الذي أنزل على رسول الله، والكتاب الذي علمه أصحابه، ولكأنه نزل الآن، وكلما قرأناه فكأننا نقرأ شيئاً جديداً، وكلما نسمعه كأننا نسمع شيئاً جديداً، فلا يخلق على طول الزمن، ولا يبلى على كثرة التكرار، يصلي الإمام العشاء فيقرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين، ويصلي التراويح عشرين ركعة، ويصلي الوتر ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة في كل ذلك، وكما نسمعها في أول الصلاة في العشاء في الركعة الأولى نسمعها جديدة في آخر ركعة في الوتر، لا تمجها الأسماع، ولا تستثقلها القلوب، بل يستأنس لها الإنسان كلما سمعها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] .

قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة.

قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ... ) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] . في هذا تعريض باليهود وهم موجودون ويسمعون، وكل التوراة أنزلت على موسى وأتباعه من اليهود، وقد علموا أن هذا النبي الأمي للناس جميعاً، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ومع ذلك يعرضون، فكأن خطبة الجمعة وصلاتها مقارع على رءوسهم، فهذه النعمة التي فاتتهم، وهذا الفضل من الله الذي حرموه؛ مثلهم فيه كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5] . ففيها تأييد للمؤمنين، وفيها تقريع لليهود، وتأتي بعدها سورة المنافقون فتشمل القسم الثالث. قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5] أي: وهم يعلمون صدقها، ويعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون على الأوس والخزرج قبل البعثة بأنه سيبعث نبي آخر الزمن ونتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] .

قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا.

قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا ... ) {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. } [الجمعة:6] أي: أنتم تقولون: نحن أولياء الله، وتقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فإن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس -أي: من دون المسلمين- فتمنوا الموت لأجل أن تذهبوا إلى من أنتم أولياؤه في زعمكم، فتجدون الكرامة، وتجدون الحنان، وتجدون الرضا، وتجدون النعيم، فأنتم أولى به من غيركم؛ وهذا قول بعض العلماء. وبعضهم يقول: تمنوا الموت للظالم الضال، على حد قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، فواحد من الفريقين هو الضال. إذاً تمنوا الموت للفريق الضال ليصفو المكان وتبقى الولاية لكم: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] أي: في زعمكم، والواقع هو قوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7] ، فلا يمكن أن يتمنوه؛ لأنهم يعلمون ماذا يكون مصيرهم إذا ماتوا. وبعضهم يقول: هذه مباهلة مع اليهود، كما وقعت مع نصارى نجران حين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ، فقال بعض السادات منهم: تعلمون -والله- أنه ما بوهل نبي إلا أهلك من باهلوه، والله لو باهلتم رسول الله لرجعتم بغير مال ولا أهل. فاعتذروا وقالوا: يا محمد! نعطيك ما تطلب وتتركنا على ما نحن عليه، ففرض عليهم الجزية، ورجعوا على دينهم. فمعنى (تمنوا الموت) اجتمعوا واطلبوا الموت لأضل الفرقتين. وهناك من يقول: تمنوه لأنفسكم لتلحقوا بمن تزعمون، ولكن لعلمهم بحقيقة الأمر فإنهم لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم من التكذيب والتضليل وإضلال الناس وكتمان الشهادة. قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7] فهم ظالمون، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] ، فإذا كنتم خائفين من الموت فالموت لا بد منه، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] .

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ... ) وبعد هذا التقريع الكامل لليهود وتحديهم رجع إلى تذكير المؤمنين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. } [الجمعة:9] أي: فيا أيها المؤمنون! اعلموا أن اليهود حرموا من ذلك، وفاتهم هذا الفضل من الله، أما أنتم فحافظوا عليه، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله. ويرى بعض العلماء أن السعي سرعة المشي، والسعي: هو الأخذ بالأسباب، فالسعي هنا هو الأخذ بالأسباب للذهاب إلى الجمعة، وليس الجري؛ للنهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار) . قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله، وقدمنا مراراً التنبيه على أن هذا الموطن من هذه السورة الكريمة يبين أن الإسلام يجمع بين منهجي الروح والمادة إشباعاً لحقيقة الإنسان لتكوينه من روح وجسد، والجسد يحتاج إلى ما يقيم حياته وهو الأكل والشرب، والروح تتطلب ما يقيم وجودها وهو ذكر الله. فجمع بين الأمرين، خلافاً لليهود حيث غلبوا جانب المادة واحتالوا على ما حرم الله في استباحة الصيد وجمع الشحوم وأكلها، وشغلوا عن غذاء الروح، فكانوا على جانب واحد، والنصارى بالعكس، كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فاليهود أخفقوا لترجيح جانب المادة، والنصارى أخفقوا لترجيح جانب الروح، والإسلام جاء وسطاً وجمع بين الأمرين، فكان الدين الوسط، وكان الجامع لما يقيم أمر الإنسان، فاستقام الإنسان على هذا الدين، وكان أتباع الدين خير أمة أخرجت للناس. قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] أي: هذا للتشريع، فاتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله فهو خير لكم من بقائكم في البيع والشراء {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .

قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة.

قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة ... ) قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فإذا أتيتم بالواجب عليكم من طاعة الله، وأتيتم حظكم من الموعظة والتذكير وذكر الله، فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله. والانتشار: الاتجاه في جميع أرجاء الأرض، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، فذللها لهم. فقوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) معناه أنه ليس الكسب بجهدك وقدرتك، بل هو فضل من الله عليك، ومع ابتغائك من فضل الله بفعل أسباب الرزق لا تنشغل عن ذكر الله، سواءٌ أكنت في مصنعك، أم في مزرعتك، أم في بيعك وشرائك، ففي مزرعتك تبذر الحبة وتدفنها في التراب وتسقيها الماء وتقول: يا رب: أنبتها واحفظها. وتقول في متجرك: يا رب! ارزقني وبارك لي. وتقول في مصنعك: يا رب أشهر صناعتي، ووفقني للابتعاد عن الغش، فمراقبتك لله في وزنك وفي كيلك وفي زرعك وفي صناعتك كل ذلك ذكر لله فضلاً عن ذكر اللسان. وفي أوائل الستينات كانت توجد هذه الصورة في المدينة المنورة، فتمر بالسوق سواءٌ سوق العياشة أم سوق الحبابة أم سوق التمارة أم سوق البزازين أم سوق الصاغة، إذ لكل طائفة سوق في مكانه معروف، فتأتي بعد العصر وكل في محله الميزان أمامه والمصحف بين يديه يقرأ القرآن، فإذا جاء مشتر وضع علامة على موضع القراءة ثم أغلق المصحف ليبيع للمشتري، ثم إذا فرغ رجع إلى مصحفه، وهكذا كان القرآن بين أيدي الباعة خاصة في رمضان، وكنت تمر في أزقة المدينة في الليل فتسمع القراءة كدوي النحل، ولم يكن ذلك قاصراً على الرجال، بل كان النسوة والأطفال كذلك في بيوتهم. فالبائع في دكانه يبتغي من فضل الله، ولم يغفل عن ذكر الله، حيث أمامه المصحف والكتاب والميزان معاً، فالميزان لعمله، والكتاب لقراءته، فكان تطبيقاً لقوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .

قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها.

قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ... ) ثم جاءت قضية عتاب الذين انفضوا عن رسول الله، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] ، وهذا حين كانت الخطبة بعد الصلاة، وكانوا يظنون أن الخطبة نافلة فإذا تمت الصلاة فمن شاء جلس أو استمع ومن شاء انصرف، ثم بعد ذلك انتقلت الخطبة قبل الصلاة لئلا يذهب أحد. ويبحث بعض العلماء في الضمير في هذه الآية، حيث يقول تعالى: (انفضوا إليها) و (إليها) ضمير مؤنث، واللهو مذكر والتجارة مؤنثة، والضمير راجع إلى التجارة، يقول بعض علماء اللغة: العود على أحد المذكورين يشمل الثاني، ولكن لماذا رجع على المؤنث دون المذكر؟ والجواب: رجع على التجارة لأنها الأصل وهي السبب؛ لأنه كان من عادتهم إذا قدمت تجارة أن يدقوا لها الطبول، وهذا هو اللهو؛ ليعلم بقدومها التجار، فيجتمعون ويتساومون ويبيعون ويشترون، فلما كانت التجارة هي الأصل رجع الضمير عليها. قال تعالى: {انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] يقول صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فرحمهم الله بهذا العدد الباقي. {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} [الجمعة:11] أي: مما دعاكم إليه {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فأنتم خرجتم للتجارة تطلبون الرزق في البيع والشراء، وما عند الله بالسمع والطاعة والبقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما انصرفتم إليه، والله خير الرازقين، فالرزق عند الله ليس من عند هذه التجارة. وحاصل الكلام أن هذه السورة الكريمة بينت حق الله سبحانه وتعالى على الكائنات، وأنه يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض. ثم بين فضل النبي صلى الله عليه وسلم ونعمته عليه وعلى الأمة، وعلى من يأتي بعد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ثم قرعت اليهود في كونهم يكتمون الشهادة، وفي كونهم لم يؤمنوا أو لم يستفيدوا مما آمنوا به، وضرب لهم هذا المثل السيئ، ثم ذكر المؤمنين وحثهم على الحفاظ على الجمعة وما فيها من فضل لهم. والسورة الثانية تعقبها مباشرةً في رسم المصحف، وهو سورة المنافقون، فبعد أن بين حقيقة اليهود جاء إلى حقيقة المنافقين، وهي الطائفة الثالثة في ذلك الوقت، فقد كان في المدينة مسلمون ويهود ومنافقون، فتكلم عن المنافقين وكشف عن أحوالهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة المنافقون؛ لاقترانهما وترتيبهما في المصحف، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يقرأ في الجمعة (سبح اسم ربك الأعلى) والغاشية. فلهذه المناسبات، ولمضمون هاتين السورتين الكريمتين كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة، حيث يجتمع الجميع والكل يسمع في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [6]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [6] من أحكام وسنن يوم الجمعة الترخيص لمن صلى العيد يوم الجمعة مع الإمام في أن يتخلف عن صلاة الجمعة؛ لوقوع المقصود من صلاة ركعتي العيد والاستماع إلى الخطبة، وأن يقرأ الإمام بسورتي الأعلى والغاشية كما فعل صلى الله عليه وسلم.

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) ] . يقول المصنف رحمه الله: وله، أي: لـ مسلم الذي روى ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون) . أنه كان يقرأ في الجمعة وفي العيدين (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (هل أتاك حديث الغاشية) . ولا حاجة إلى تتبع السورتين في بيان المناسبة، فقد ذكرنا فيما يتعلق بسورة الجمعة والمنافقون ما يكفي من بيان مناسبة اختيار هاتين السورتين في يوم الجمعة، وكذلك هاتان السورتان، أي: الأعلى والغاشية. والجمعة والمنافقون متتاليتان في المصحف، وكذلك سبح والغاشية متتاليتان في المصحف، وكل من الثانية تكمل موضوع الأولى. ويهمنا هنا زيادة [في الجمعة والعيدين] ، وربط الجمعة بالعيدين هو لأن يوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، والعيدان هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وسمي العيد عيداً لعوده، أي: لمجيئه وعودته في كل سنة. وهنا لفتة بسيطة فيما يتعلق بالعيد في الإسلام. فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وللناس أعياد كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى) ، وبالتأمل في هذين العيدين نجدهما يتميزان، أو أن العيد في الإسلام يتميز عن العيد في غير الإسلام بأمر عملي؛ لأن الأعياد في غير الإسلام إنما هي ذكريات لا حقائق، بمعنى أن أعياد غير المسلمين لأحداث قد وقعت ثم انتهت، فإذا جاء موعدها من السنة الثانية عيدوا ذكرى لما تقدم، فمثلاً صوم يوم عاشورا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه قالوا: هو يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه موسى شكراً لله، وصامه اليهود، ويعيدون صومه كيوم عيدٍ عندهم، وذكر الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل مع نبي الله عيسى قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} [المائدة:112] قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:113] ، فالمسألة مسألة أكل وشرب، فقال عيسى فيما حكى الله تعالى عنه: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114] . فكانوا يجعلون يوم نزول المائدة عيداً، والمائدة نزلت مرة واحدة، وكانوا يعيدون في يومها من كل سنة، فالأعياد التي جاءت بعد يوم نزول المائدة ليس فيها مائدة، ولكن ذكرى المائدة، وكذلك الأعياد والطقوس والعادات عند الناس. أما أعياد الإسلام فهي حقيقة، وليست ذكريات؛ لأن كل سنة يأتي فيها العيد بموجبه ومسبباته، فعيد الفطر سببه أنه لما أكرم الله المسلمين بأداء واجب صوم هذا الشهر المبارك، جعل لهم ختام صيامهم عيدا، فعيد الفطر في كل سنة ذكرى لحدث حاضر يتجدد في كل سنة بذاته، فكل عيد فطرٍ في الإسلام مستقل، وليس لذكرى ماضية، وكذلك عيد الأضحى، فلما منّ الله على المسلمين بالحج وجاءوا من كل فج عميق، وأمّن لهم السبيل، وأمّن لهم الطعام، وأدوا مناسكهم قال: هلم إلى المائدة. ومائدة الإكرام ثلاثة أيام، فالموائد يطعمون منها ويأكلون ويطمعون القانع والمعتر أيام منى. ومن هنا كان الصائم يوم العيد معرضاً عن ضيافة الله. فالعيد في الإسلام حقيقة، والأعياد في غير الإسلام من باب الذكرى. ومن هنا شرفت الأعياد في الإسلام بشرف أسبابها ومسبباتها، وسن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدين أن يخرج جميع الناس حتى النساء والحيض وربات الخدور، فاللواتي لا يخرجن من بيوتهن يخرجن، والحيض يحضرن ويعتزلن المصلى، ويشهدن بركة ذلك الجمع بالدعاء بالخير تكثيراً للمسلمين. ومن هنا كان التدرج في اجتماع المسلمين، فيجتمع أهل الحي في خمس صلوات خمس مرات للجماعة، ويجتمع أهل القرية كل أسبوع مرة للجمعة، ويجتمع أهل المصر والقطر وضواحي القرية والمدينة في عيدٍ في صعيد واحد في الخلاء، ويجتمع العالم الإسلامي ممثلاً في أفراده الذين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج عميق، في الحج الأكبر أو في يوم عرفة. فدين الإسلام دين اجتماعي، ودين جمع الأمة وتوحيدها، فكان صلى الله عليه وسلم بمناسبة هذا الجمع في الجمعة يقرأ هاتين السورتين (سبح والغاشية) .

الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة

الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي فليصل) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] . يأتي المصنف رحمه الله تعالى بعد بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة سورة (ق) ويقرأ في الصلاة تلك السور الأربع، ببيان ما إذا اجتمع عيد الأضحى أو الفطر ويوم الجمعة، فالجمعة عيد مستقل، والأضحى والفطر عيد مستقل، وصلاة الجمعة مرتبطة باليوم لا تنفك عنه، فلا تصلى الجمعة في السبت أو في الخميس، فهي مرتبطة بيومها، ولكن عيد الفطر وعيد الأضحى إنما يدوران في الزمن مع القمر، فالأيام تدور دورة شمسية، والأشهر تدور دورة قمرية، فدورة الشمس في أربع وعشرين ساعة، فتأتي بالأيام وبالصلوات الخمس، ودورة القمر في فلكه تأتي بالأشهر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] . فهي أشهر قمرية وأيام شمسية، لا تتغير الأيام منذ خلقها الله، فالعيدان مرتبطان بالقمر، فيأتي عيد الفطر في صيف أو في شتاء أو في خريف في أي يوم من الأيام حسب الشهور، وكذلك عيد الأضحى. وما دام العيدان متنقلين فيمكن أن يوافقا يوم الجمعة، فيجتمع عيدان: عيد الجمعة ليومها، وعيد الفطر أو عيد الأضحى لمناسبته، وكل منهما يحتاج إلى اجتماع وإلى خطبتين، وإلى صلاة ركعتين، فهل نصلي العيدين معاً الجمعة والعيد الذي حضر، أو نكتفي بواحد منهما؟ فجاء المصنف بهذا الحديث ليبين ماذا يكون على الناس إذا اجتمعت الجمعة مع أحد العيدين، فقال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة) . و (ثم) للترتيب والتراخي، فصلى العيد في يوم العيد ورخص في الجمعة بعد ذلك. قوله: (ثم رخص) الرخصة عند الأصوليين مأخوذة من المعنى اللغوي، أي: الشيء اللين، كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان. ومنه الثمن الرخيص؛ لأن العيشة فيه تكون لينة، بخلاف الثمن الغالي حيث تكون شديدة، فرخص البنان: لينه، ورخص السعر لين العيش، فرخص معناه: ليّن وخفف في الحكم، ولذا تكون الرخصة مع الشدة، والشدة تقتضي الترخيص، ولذا حينما تقع مجاعة أو يكون الإنسان في خلاء، ويشتد عليه الجوع، ولم يجد إلا الميتة -والميتة محرمة- رُخص له أن يأكل الميتة تخفيفاً عليه من حكم المنع الذي يؤدي إلى وفاته. فالرخصة: رفع حكم بحكم آخر مع بقاء الحكم الأصلي، أو: إباحة ممنوع بنص متجدد بعد المنع مع بقاء حكم المنع، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فلما أباح الله ورخص للمضطر أكل الميتة أبقى الحكم على التحريم، وأعطى المضطر رخصة الأكل منها حتى يجد كفاف العناء، فهي في الحال محرمة، ولكن أبيح له، ولذا قالوا: الحدث يمنع الصلاة، وقد لا يجد الإنسان ماء أو قد يجده ويعجز عن استعماله، فجاء التيمم بديلاً عن الوضوء، فهل التيمم يرفع الحدث الذي كان يتطلب الماء، أو أنه أباح له الصلاة مع وجود الحدث؟ فالجمهور على أنه أباح له الصلاة والدخول فيها رخصةً، لكن المنع الأساسي موجود، والحدث باق، ومنهم من يقول: التيمم يرفع الحدث. والصحيح أنه مبيح له مع بقاء الحدث، والدليل على ذلك أن رجلاً كان في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل الصبح، فمضى إليه رسول الله، فقال له: ألست مسلماً؟! قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، ثم جاءت قضية التيمم فتيمم وصلى، فلما جيء بالمرأة ومعها المزادتان قال: أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا. قال: خذ فأفرغه على جسمك. أي: من حدث سابق، فهو تيمم رخصة للصلاة، ولكن تيممه الذي صلى فيه لم يرفع عنه الحدث، بدليل: (خذ فأفرغه على جسمك) . فالرخصة: إباحة الممنوع مع بقاء حكم المنع. فحكم الجمعة باق، ولذا من أتى الجمعة مع صلاة العيد أجزأته. وفي بعض الروايات: (وإنَّا لمجمِّعون) . وعند مالك في الموطأ أن عثمان رضي الله تعالى عنه: اجتمع في عهده العيد ويوم الجمعة، فصلى العيد، ثم رخص لأهل العالية، وأهل العوالي كانوا يأتون يصلون الجمعة في المسجد النبوي في المدينة، فلما اجتمع العيد ويوم الجمعة في عهد عثمان رضي الله عنه صلى العيد بمن حضر، ثم رخص لأهل العوالي إذا رجعوا ألا يرجعوا مرةً أخرى؛ لأن فيه مشقة في الذهاب والمجيء مرتين للعيد وللجمعة، وهنا رخص صلى الله عليه وسلم في الجمعة. وجاء في بعض السنن أن في خلافة ابن الزبير -وكان في مكة- اجتمع العيد والجمعة فصلى العيد بالناس، ثم جاء الناس للجمعة فلم ينزل إليهم، وطلبوه للجمعة فلم يأت، وكان ابن عباس بالطائف، فلما جاء أخبروه بما فعل ابن الزبير، فقال: أصاب السنة.

خلاف العلماء في سقوط الجمعة يوم العيد

خلاف العلماء في سقوط الجمعة يوم العيد ويبحث العلماء في قوله: (رخص في الجمعة) ، فإذا جاء وقت الجمعة ولا جمعة فهل يصلون ظهراً أو أن الجمعة هي فرض اليوم وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فمنهم من يقول: لما رخص في الجمة سقطت وسقط فرض الظهر في ذلك اليوم؛ لأن الجمعة هي فرض يوم الجمعة، ويكون الظهر لمن لم يدرك الجمعة، أو كان من أهل الأعذار كالمريض والنساء والعبيد والصبيان والمسافر، فإذا سقطت الجمعة عن أهل الأعذار لأعذارهم صلوا ظهراً، وهولاء رخص لهم في تركها. فمن نظر إلى أصل الرخصة قال: رخص لهم وبقي الأصل، فيصلون الظهر، واستدلوا بما فعل أصحاب ابن الزبير، فإنهم صلوا وحداناً، وقالوا: كيف يترك -وهو إمام وصاحب بيعة- المجيئ إليهم؟ فقالوا: لعله صلى الظهر في بيته. ولما لم يخرج إليهم وصلى الظهر جماعة يكون قد سن ظهراً يوم الجمعة، وهذا ممنوع. وهل الرخصة في ترك الجمعة يوم العيد لمن كان من الضواحي كأهل العالية كما فعل عثمان، أو أنه على عمومه ويترك الجميع حتى الإمام كما فعل ابن الزبير؟ فهناك من يقول: يرخص لعامة الناس، ما عدا من يحضر مع الإمام لإقامة شعار الجمعة، وهناك من يقول: إنما يكون الترخيص لمن كان بمثابة أهل العالية، وهناك من يقول: رخص ولكن نصوص الجمعة الواجبة والتحذير منها تعارض هذا الترخيص، فعلى الناس أن يصلوا عيداً وجمعة، كما قال الشافعي رحمه الله. والراجع أن الترخيص في ترك الجمعة لمن كان يتكلف المجيئ إلى الجمعة كتكلفه المجيئ إلى العيد، أما من لم يتكلف ذلك، فالله تعالى أعلم. فالتعارض قائم، والأحوط المجيء، ولكن الذي عليه الجمهور أن على الإمام أن يصلي الجمعة حضر معه من حضر، ومن لم يأتِ الجمعة وقد حضر العيد فلا يعنف، ولا يقال له: لم تركت؟ فله من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرج، والله تعالى أعلم. [ثم قال: (من شاء أن يصلي فليصل) ] . قوله: (من شاء) ، أي: من شاء أن يصلي الجمعة، فالتخيير قائم مع وجود الرخصة، فمن شاء استعمل الرخصة، ومن شاء تركها ورجع إلى الأصل، وهذا هو أرجح الأقوال.

السنن الواردة بعد صلاة الجمعة

السنن الواردة بعد صلاة الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) رواه مسلم] . هذا شروع في بيان السنة يوم الجمعة، والسنة يوم الجمعة نجد فيها خلافاً، فهناك من يقول: ليست هناك سنة راتبة. وفرق بين السنة الراتبة والسنة المطلقة، وقد جاء في السنن الرواتب حديث ابن عمر أنه حفظ عن رسول الله عشر ركعات، وجاء حديث آخر فيه: اثنتا عشرة ركعة، قبل الصبح ركعتان، وقبل الظهر أربع وبعده ركعتان أو أربع، وأربع قبل العصر، وبعد المغرب ركعتان وركعتان بعد العشاء، فهذه سنن راتبة مترتبة مع الفريضة، لكن سنة الضحى ليست مرتبة مع غيرها، ولكن قائمة بذاتها، وكذلك صلاة الليل نافلة مطلقة. أما الجمعة فبعض العلماء -كالأحناف- يقولون: راتبة الجمعة كراتبة الظهر، أقلها ركعتان قبلها، وركعتان بعدها، ولكن الحديث فيه: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، وصلى ما تيسر له ... ) ، فقال: (ما تيسر) ، وليس فيه عدد معين. ولذا قال الآخرون: لا راتبة للجمعة. قالوا: إذا جاء مبكراً فله أن يصلي ما تيسر له، سواءٌ أصلى ركعتين أم صلى أربعاً، أم صلى ستاً، أم صلى أكثر من ذلك، فليس هناك شيء محدود قبلها. ولكن جاء في الحديث هنا أنه يصلي بعدها أربعاً، وجاء التفصيل بين أن يصلي في المسجد وأن يصلي في بيته، فإذا صلى نافلة بعد الجمعة في المسجد فليصل أربعاً لهذا الحديث، وإن لم يصل في المسجد وصلى في بيته صلى ركعتين. فالحديث عامٌ، ولكن يحمل على ما جاء في الحديث الآخر، فمن تنفل للجمعة بعدها في المسجد صلى أربعاً، ومن أخر تنفل الجمعة إلى البيت اجتزأ بركعتين، كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، وبهذا تكون الراتبة أو النافلة بعد الجمعة بحسب ما سيصيلها فيه، فإن كان في المسجد فأربعاً، وإن كان في البيت فركعتين، والله تعالى أعلم. فإن قيل: كيف تجزئ ركعتان في البيت عن أربع في المسجد؟ ولماذا لا تكون أربعاً في المسجد أو في البيت، أو ركعتين في البيت أو في المسجد؟ والجواب: أنه قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع من باب الإيماء والتنبيه قوله: (خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة) ، فالتي في البيت معها الأفضلية، وما دام أن معها الأفضلية فإن ركعتين تساويان الأربع. وقالوا أيضاً: صلاة المرء في بيته فيها فوائد جانبية: أولاً: التماس البركة بذكر الله والصلاة في المكان؛ لأن البيت الذي لا صلاة فيه ولا تلاوة فيه كالقبر المهجور. ثانياً: أن في البيت أطفالاً ونسوة يعلمهم الصلاة، وفيه كذلك حث الأهل الموجودين الذين لم يصلوا على الصلاة، وحث للنسوة اللواتي ما عليهن جمعة أن يصلين الظهر، وذلك حينما يأتي ويصلي النافلة. فما دامت الصلاة في البيت لها عدة فوائد عامة وخاصة فتكون لها الأولوية، ويجزئ فيها الركعتان بدلاً عن الأربع في المسجد. وقوله صلى الله عليه وسلم: [ (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ] هل معناه: فليصل بعدها فوراً، أم أن قوله: (بعدها) يصدق على التسويف. والواقع أننا نجد أحاديث وآثاراً في أن الإنسان لا يصل النافلة بالفريضة، وجاء عن بعض السلف: أن لا يتنفل حتى يتكلم، ويرى بعض العلماء أنه يندب له أن يتحول من مكانه، أي أنه يُوجِد فاصلاً حسياً بين الفريضة والنافلة، حتى لا يظن ظان أن هذه النافلة متممة لتلك الفريضة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ليس معناه بعدها على الفورية والمتابعة حتى تكون كجزء منها، بل يفصل بين النافلة والفريضة بفاصل محسوس، إما بكلام، وإما بانتقال إلى مكان آخر.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [7]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [7] جمع حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صلاة الجمعة جملة من الآداب المطلوبة يوم الجمعة، وبين أن الذي يمتثلها ينال الأجر والثواب والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الآداب: فمنها الاغتسال للصلاة، والتبكير إلى المسجد، ثم الانشغال بالصلاة حتى يخرج الخطيب، فإذا خرج أنصت واستمع للخطبة، مع الحرص على اغتنام الساعة التي يستجاب فيه الدعاء يوم الجمعة.

تابع أحكام صلاة الجمعة

تابع أحكام صلاة الجمعة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

الغسل يوم الجمعة ووقته عند العلماء

الغسل يوم الجمعة ووقته عند العلماء فيقول المصنف رحمه الله: [وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن معاوية رضي الله عنه قال له: (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بالصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نصل صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج) رواه مسلم] . المؤلف لما جاء بحديث: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) أراد أن يبين لنا البعدية هذه بما جاء عن معاوية رضي الله عنه في قوله لمحدثه: لا تصل نافلة بالفريضة، وبيّن له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصل نافلة بفريضة حتى تتكلم بكلامٍ خارج عن الصلاة يعلن انتهاءها، أو تخرج من المسجد فتصلي في بيتك، وهذا هو الذي أشرنا إليه سابقاً. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) رواه مسلم] . هذا المبحث أطال فيه العلماء الكلام، ونصيحتي للإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في هذا المبحث إلى فتح الباري. وسنأخذ الحديث كلمة كلمة، وتحت كل كلمة مبحث كامل. قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل) : الغسل معروف بصورته وهيئته، وفي بعض الروايات: (كغسل الجنابة) ، حتى يرفع احتمال الوضوء؛ لأن الغسل والوضوء كلاهما يدخل في عموم النظافة، فقوله: (من اغتسل) يراد به الغسل الكامل الشبيه بغسل الجنابة. قوله: (اغتسل ثم أتى) ، ثم للعطف والترتيب والتراخي، فيبحث العلماء في وقت الغسل يوم الجمعة. وقد جاء في صحيح البخاري ما يشعر بأن الغسل يوماً في الأسبوع حق على كل مسلم، ويأتي الحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، وعقد العلماء البحث في: هل الغسل لليوم أو للجمعة؟ فقال داود الظاهري وابن حزم: الغسل لليوم، فمن اغتسل بعد الفجر أو قبل غروب الشمس أجزأه. وجاء في صحيح البخاري: (حق لله على كل مسلم أن يغتسل لكل أسبوع مرة) ، فالإسلام دين النظافة، وهذا الحديث يجعل هذه الطهارة طهارة واجبة ولو لم تكن جنابة. وفي رواية لـ مالك: (ثم راح) بدل: (أتى) فالغسل قبل الرواح، فلو اغتسل بعد الفجر ثم -بعد التراخي- نودي للصلاة فذهب فإنه يصدق عليه أنه اغتسل ثم راح. وقد وقع الخلاف في تعيين الوقت الذي يغتسل فيه؛ لقوله: (اغتسل ثم أتى الجمعة) ، والإتيان يصدق على أي جزء من النهار قبل الجمعة، ومالك رحمه الله قال في قوله: (ثم راح) ، إن الرواح والغدو اسمان للسعي قبل الزوال وبعده، فيقال للزمن قبل الزوال: الغدو، ويقال لما بعد العصر العشي، ويقال لما بعد الظهر: الرواح، وبعضهم يقول: العشي يدخل من بعد الزوال، فرواية مالك: (ثم راح) تدل على أن الغسل يكون قبل أول النداء، وأن يذهب بهذا الغسل إلى الصلاة، أي أنه إن اغتسل في أول اليوم ثم انتقض وضوؤه سن له أن يجدد الغسل ويصلي الجمعة بطهارة الغسل؛ لأن الرواح يكون بعد الزوال، فيغتسل ويذهب، وسيأتي عند مالك أن الساعة الأولى والساعة الثانية ساعات لغوية، أي: لحظات متقاربة تبدأ من بعد الزوال. والجمهور على أنها ساعات توقيتية، والنهار اثنتا عشرة ساعة، والساعة الأولى من النهار والثانية منه مقدرة على الساعة الزمنية التوقيتية. فقوله: (ثم أتى) يصدق على الإتيان للجمعة في أي وقت قبل النداء، ولذا قال الجمهور: من اغتسل بعد الفجر من يوم الجمعة أجزأه، ويقول مالك: لا يكون الغسل إلا عند الرواح للصلاة، فيصلي به الجمعة، وسيأتي زيادة إيضاح لهذه المسألة. وفي قوله: (ثم أتى الجمعة) يقال: هل الإتيان للجمعة أم لمكان الجمعة؟ فهما متلازمان، فالجمعة لا بد لها من مكان، والمكان لأجل الجمعة، فيقال: أتى إلى المسجد في صلاة الجمعة.

ما يفعله من دخل المسجد يوم الجمعة قبل دخول الإمام

ما يفعله من دخل المسجد يوم الجمعة قبل دخول الإمام قوله:: [ (فصلى ما قدر له) ] . يفهم منه أن إتيانه إلى الجمعة بعد أن يغتسل يكون قبل وجوب الصلاة والأذان لها، لا بعد وجوب الصلاة، والدليل قوله: (فصلى ما قدر له) ، فلو أنه أتى إلى الجمعة بعد النداء، فليس بعد النداء صلاة نافلة، وإنما الواجب الإصغاء بعد النداء لخطبة الإمام، ويستثنى الداخل بعد ذلك، فيركع ركعتين ويتجوز فيهما. فإتيانه في هذا الحديث إتيان قبل الزوال، وقبل الأذان الذي للوقت. وقوله: (فصلى ما قدر له) . أي: كل واحد بحسب ما يتيسر له. وقوله: (ثم أنصت) ، أي: إلى الإمام حينما يصعد المنبر حينما ينادى للجمعة عند دخول الوقت، أي عند الزوال. قوله: (ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته) ، أي: أنصت وقت الخطبة، وقبل الخطبة لا مانع أن يتكلم، ولا مانع أن يصلي بعد الخطبة، وبعض الناس يتحرج من الكلام بعد فراغ الإمام من الخطبة حتى يدخل في الصلاة، وهذا ليس بصواب، فالمنهي عنه يكون من شروع الخطيب في الخطبة إلى أن ينتهي، وقبل ذلك وبعده لا حرج فيه. قوله: (ثم يصلي معه) أي: لا يسمع الخطبة وينصرف قبل أن يصلي معه. قوله: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) ، هذا الحديث صالح لبيان فضيلة الغسل يوم الجمعة، وفضيلة الجمعة في ذاتها، فمن اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى الجمعة، ثم أنصت للإمام، ثم صلى مع الإمام، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، والأسبوع سبعة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وزيادة ثلاثة أيام على الأسبوع يصير بها اليوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها. ونقف هنا وقفة بسيطة، فبعض المسلمين -هداهم الله- قد يتساهلون في حضور الجمعة، ويجعلون يوم الجمعة للتنزه، وكأن يوم الجمعة ليس له أثر، وكل ما عندهم من أعمال في الأسبوع يؤخرونها إلى يوم الجمعة، ويشتغلون يوم الجمعة، ويضيعون الجمعة، فلا يبكرون، ولا يصلون ما تيسر لهم، فأي فضيلة بعد ذلك؟ والذي ينبغي هو أن يتنظف الإنسان، ثم يأتي المسجد فيصلي ما تيسر له، فهو يستريح من عناء العمل الذي كان فيه، فالموظف مع مراجعيه، والصانع مع عماله، والزارع في مزرعته، وكل إنسان طيلة الأسبوع في جهد بدني وفكري، فشرع الله له يوم الجمعة ليستريح ويتنظف ويسترجع قواه، فتجدد العافية، ويتغذى لروحه، ويحصل على مغفرة عشرة أيام، فأكبر تاجر في البلد يوم الجمعة لا يحصل من تجارته مثل ما يحصل يوم الجمعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] . فالعاقل لا ينبغي له أن يتهاون بأمر الجمعة ما دامت فيها هذه الفضيلة، وكذلك الغسل، وسيأتي في الحديث عند البخاري: (ومس من طيب أهله) . وقد جاء في حديث آخر: (غسَّل واغتسل) يقول بعض العلماء: غسل ثوبه واغتسل في بدنه. وبعضهم يقول: (غسَّل واغتسل) لفظ يفيد اشتراك طرفين. فيستحب يوم الجمعة أن تغتسل، وأن تتطيب وتلبس أحسن ما عندك من الثياب، وتأتي لتقابل إخوانك. فكيف تشتغل عنها وتتركها؟ نسأل الله السلامة والعافية. ومن المباحث الغسل يوم الجمعة والمقارنة بينه وبين الوضوء، لحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) وقد أطلق الاغتسال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة) وبعض العلماء يقول: لو أن شخصاً أجنب فأوقع غسل الجنابة بعد طلوع الفجر، ونوى بهذا الغسل رفع الجنابة وسنة اغتسال الجمعة، فإنه يجزئه عند من يقول الغسل سنة، ومن يقول الغسل واجب يقول لا يجزئ واجب عن واجب، فيغتسل للجنابة ثم يغتسل إذا راح إلى الجمعة، ويكون غسل الجمعة مستقلاً. ولكن الجمهور على أن المراد اغتسال يوم الجمعة بسبب أو بغير سبب، ونظروا كما يقول الشافعي وغيره إلى علة الغسل يوم الجمعة -وهو سنة- فهو معلل بالحث على النظافة في هذا الاجتماع، كما قال ابن عباس: كان الناس يعملون لأنفسهم، ويلبسون الصوف والخشن من الثياب، فيأتون من أعمالهم والمسجد ضيق والجو حار، فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضاً. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يأتون من عملهم في الغبار ويعرقون، فدخل أحدهم على رسول الله وهو عندي، فقال: (غسل يوم الجمعة واجب) ، فأمر بالغسل، فقالوا: إن الأمر بالاغتسال يوم الجمعة من أجل النظافة. والجمهور قالوا: إن كانت العلة النظافة فقد صار مشروعاً لذاته، فلو أن إنساناً في الظل، وعلى فراش النعيم، وفي بعد عن الغبار، وأراد أن يأتي الجمعة، فإن عليه أن يغتسل للجمعة، كما أنه لو كان قبل الجنابة في الحر الشديد ودخل الحمام واغتسل للتبريد ثم جاءت الجنابة بعد الغسل بدقائق فلا يكفيه الاغتسال الذي قبل الجنابة، فالجنابة جاءت بوجوب الغسل، فكذلك الجمعة جاءت بسنة الغسل، وكثير من الأشياء تشرع لأسباب فتزول أسبابها وتبقى المشروعية. فالهرولة في الطواف كان سببها لما دلس إبليس على المشركين ووسوس لهم وقال: لو ملتم عليهم ميلة رجل، فقد أنهكتهم حمى يثرب والسفر فلما هرول الصحابة وأظهروا القوة قالوا: والله إنهم لكالجن، ثم جاءت السنة الثامنة وفتحت مكة، وأمن المسلمون، وجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حاجاً فهرول، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه: كنا نهرول عند الخوف وقد أمنا فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! سألتني فيما سألت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو قال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهرولنا، ثم حج فهرول ونحن في أمن فهرولنا. فالعلة وجدت ثم زالت وبقيت المشروعية. وكذلك رمي الجمار، فإبراهيم عليه السلام حصب الشيطان لما جاءه ووسوس له: كيف تذبح ابنك؟ فقال: اخسأ يا لعين! ورماه بالحصيات، والآن ما عندنا شيطان يوسوس، ولا أحد يذبح ولده، ولو كان ولده أتقى خلق الله فلن يطيع الله في ذبح الولد حتى لو قال له: اقطع يده فلن يقطعها إلا أن يشاء الله. وبعض الصحابة قيل له: أكنتم تطيعون رسول الله في كل شيء؟ قال: نعم. والله لو أمرنا بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا. وهذا ليس من الطاعة العمياء بل هي الطاعة المبصرة؛ لأنه يعلم أنه يطيع الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] . ومما شرع لعلة ثم بقي مع زوالها القصر لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] . فإذا كنا آمنين مطمئنين حال سفرنا من مكة إلى المدينة فلنا أن نقصر الصلاة، فزال السبب وبقيت المشروعية. فكان السبب في اغتسالهم يوم الجمعة كونهم يعرقون وتخرج منهم روائح العمل والغبار. ولذا جاء في الحديث: (فلما كفوا المئونة) ، أي: لما جاءت الفتوحات، وجاءتهم العلوج -أي: العبيد- وكفتهم المئونة رخص لهم في ترك الغسل. ونقول: الترخيص بنص؛ لأنه جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فالأمران مشتركان في الأفضلية، وعثمان رضي الله عنه لما دخل رضي الله عنه وعمر يخطب فقال: أي ساعةٍ هذه؟ قال: ما إن سمعت الأذان أو النداء حتى توضأت وأتيت. فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ وأقره على الوضوء جميع الصحابة الحاضرين الذين يسمعون عمر، فالجمعة تصح بالوضوء، ولكن الغسل من أجلها أفضل.

ساعة الإجابة وخلاف العلماء في تعيين وقتها

ساعة الإجابة وخلاف العلماء في تعيين وقتها [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) متفق عليه. وفي رواية لمسلم (وهي ساعة خفيفة) ] هذا الحديث من خصائص يوم الجمعة وفضائله، وهو ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجمعة فذكر فيها ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلم قائم يصلي يدعو الله أو يسأل الله إلا أعطاه إياه. ثم جاء المؤلف رحمه الله تعالى بعد ذلك بتوقيت هذه الساعة، وأنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، أو من حين يصعد الإمام المنبر إلى أن تتم الصلاة، ويذكر غيره أن الأقوال فيها متعددة، وقد ذكر المؤلف نفسه في فتح الباري ثلاثة وأربعين قولاً في تعيين هذه الساعة. ويقول ابن عبد البر: أجمع حديث وأصحه فيما يتعلق بهذه المسألة ما جاء في رواية مالك رحمه الله تعالى، وتعرف هذه الساعة عند الفقهاء بساعة الإجابة. ورواية مالك التي قال عنها ابن عبد البر: إنها أشمل وأجمع، هي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجت إلى الطور - يعني: يصلي فيه - فلقيت كعب الأحبار، فجلسنا فحدثني عن الكتاب - يعني: عن التوراة - وحدثته عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما ذكرت له: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الجمعة ساعة ثم بين تلك الساعة وقللها، فقال: كعب الأحبار: إنها في السنة مرة. قال: فلقيت عبد الله بن سلام وكعب الأحبار من أحبار اليهود أسلم وحسن إسلامه في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، أما عبد الله بن سلام فهو صحابي أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ما كان بيني وبين كعب الأحبار فقال: كذب -أي: في قوله: إنها في جمعة واحدة في السنة- إنها في كل جمعة، ثم قال عبد الله بن سلام: وإني لأعلم أين تلك الساعة، قال: أبو هريرة فقلت له: أخبرني بها ولا تضن عليّ قال: إنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال أبو هريرة: فقلت لـ عبد الله بن سلام إنها ساعة لا يصلى فيها! أي: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وهذا استدلال صحيح، فقال عبد الله: صدقت! أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة وبقي في مجلسه فهو في صلاة) قلت: بلى. قال: هو ذاك. يقول ابن عبد البر في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد: إن هذه المناظرة بين أبي هريرة وعبد الله بن سلام وما ذكر له تعطينا أصل المذاكرة بين العلماء والمفاهمة، والأخذ عن أهل التوراة إذا علم صدقهم وأمن الكذب فيهم. ثم يقول عبد الله بن سلام: (لقد ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنا نجد في الكتاب -يعني: في التوراة- أن في الجمعة ساعة لا يصادفها عبدٌ يصلي يدعو الله إلا أعطاه سؤله، فقال صلى الله عليه وسلم: أو بعض ساعة؟) قال عبد الله: نعم والله يا رسول الله أو بعض ساعة. ثم قال: أخبرني أي ساعة هي يا رسول الله؟ قال: (ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) ، وهكذا يسوق مالك هذا الحديث. ومما ساقه أيضاً أن أبا هريرة في عودته من الطور لقي غلام أبي بصير الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور، قال: لو أني أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت. قال: ولماذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد، النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى) . ومما ساقه مالك أيضاً في هذا السياق أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، أو: (إن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس، فيه خلق آدم، وفيه أسجد إليه، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط من الجنة إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس شفقاً من قيام الساعة) . وذكر صاحب منتقى الأخبار -الذي شرحه الشوكاني في نيل الأوطار- رواية فيها: (إن السماء والأرض والملائكة والرياح لتشفق في ذلك اليوم من يوم الجمعة) ، ويقول صاحب القبس: إن الله سبحانه وتعالى يخلق في البهائم فزعاً يوم الجمعة. والذي يهمنا في هذه الساعة ما أشار إليه ابن حجر من اختلاف الناس في تعيين أوقاتها، وإذا كان اليوم اثنتي عشرة ساعة، فهي ساعة من هذا اليوم. واختلفت الأقوال ابتداءً من أذان الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوع الشمس إلى الضحى، ومن نهاية الساعة الثالثة من يوم الجمعة إلى زوال الشمس، ثم إلى أذان الجمعة، ثم إلى جلوس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الخطبة، وحتى تنتهي الصلاة إلى ما بعد صلاة العصر، ثم إلى أن يكون ظل الشيء مثليه، ثم إلى أن تصفر الشمس، ثم إلى أن تضيف الشمس للمغيب. وكل هذه الأوقات جاءت فيها الأخبار بأنها موضع تلك الساعة، حتى قال ابن حجر وابن عبد البر: اختلف الناس فيها هل هي باقية أم نسخت؟ ويردون قول من يقول: إنها رفعت وانتهت. ثم يقولون: أهي جمعة في السنة، أم في كل جمعة؟ ويرجحون بأنها في كل يوم جمعة، ثم هل هي ثابتة في يوم الجمعة أو تتنقل فأحياناً قبل الصلاة وأحياناً بعدها، وأصح ما في ذلك حديث أبي موسى الأشعري -كما قال الشوكاني رحمه الله- وهو أنها بعد العصر. وابن عبد البر ساق في التمهيد ما يزيد على ستة أصول أو سبعة في أنها بعد العصر، ثم قال: إن المذاكرة بين أبي هريرة رضي الله عنه وبين عبد الله بن سلام في كلمة (قائم يصلي) لم يثبتها بعض العلماء، وأن اللفظ: (لا يوافقها عبد يسأل الله حاجة إلا أعطاه الله إياها) ، ولم يذكر قيد (قائم يصلي) بل قال: إن بعض الشيوخ كان يأمر طلابه أن يحذف لفظ (قائم يصلي) من الحديث، ثم ساق النصوص التي تثبتها، وقال: إن الصحيح أنها ثابتة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها، فيصلي ويسأل الله حاجته. ثم رجح ابن عبد البر أن معنى (قائم) أن عنايته واجتهاده من أجلها، كما تقول: قام فلان بالأمر حتى أتمه، وكما تقول: قمت بعمل واجتهدت فيه. أو: قمت بتأليف هذه الرسالة، أو: قمت بكتابة هذه المقالة، وليس الأمر بالقياس حتى يكون المراد الانتصاب الذي هو ضد الجلوس. يقول ابن عبد البر: لولا سلامة التأويل الذي أورده عبد الله بن سلام على أبي هريرة ما سلم به أبو هريرة؛ لأن أبا هريرة لم يجادله في ذلك، بل قبله وقنع به. وعلى هذا فبعض العلماء يذهب إلى الترجيح، وبعضهم ويذهب إلى النسخ، والصحيح الترجيح. وبعضهم يقول: الأنسب أن يكون الدعاء وقت الخطبة إلى أن تتم الصلاة، قالوا: وكيف يدعو في ذلك الوقت وهو يصغي إلى الإمام؟ فقالوا: إنها ساعة خفيفة، كما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (وأشار بيده صلى الله عليه وسلم يقللها) ، فبعض الناس قالوا: لفظة (وأشار بيده يقللها) من الراوي، وبعضهم قال: إنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قال له عبد الله بن سلام: إنها ساعة في الكتاب قال صلى الله عليه وسلم: (أو بعض ساعة) قال بلى يا رسول الله: أو بعض ساعة! فقال بعض العلماء: وضع صلى الله عليه وسلم الأنملة على الوسطى أو الخنصر، يعني: كأنها قليلة، وبعضهم قال: قبض يديه وقلب هكذا، وهكذا أي: معنى التقليل، أي: ليست ساعة زمنية محددة بستين دقيقة كما هو المتعارف عليه. قال بعض العلماء: لقد رأيت شاباً يعتكف في بيت المقدس يوم الجمعة من بعد صلاة الفجر إلى الضحى، والجمعة الثانية من الضحى إلى زوال الشمس إلى صلاة الجمعة، وفي الجمعة الثالثة من بعد الجمعة إلى العصر، وفي الجمعة الرابعة من بعد العصر إلى غروب الشمس، يتحرى تلك الساعة على اختلاف تلك الأقوال. فقال له قائل: وما يدريك لعله يصادفها إذا كانت تتنقل؟! فقد تكون في اليوم الذي اعتكف فيه من الصبح إلى طلوع الشمس بعد العصر. ويهمنا في هذا ما قاله ابن عبد البر رحمه الله: إن هذه الساعة لا شك في فضلها، فينبغي للإنسان إن يجتهد طيلة يوم الجمعة، وأن يبذل جهده ما استطاع، وخاصةً في الأوقات التي هي مظنة لها، وأكثر الأحاديث أو أصحها أنها فيما بين صعود الإمام أو جلوس الخطيب على المنبر إلى أن تنتهي الصلاة، وأحاديث ما بعد العصر. وأما كيف يجمع بين قوله: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، وما جاء أن خير يوم هو يوم عرفة؛ فقد قالوا: إن الساعة التي في يوم الجمعة، وليلة القدر التي في شهر رمضان، ويوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر كل هذا لا معارضة ولا منافاة فيها. فقالوا: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام بالنسبة لأيام الأسبوع، فهو أفضل من السبت والأحد والأربعاء والخميس، والساعة التي في يوم الجمعة أبهمت ليجتهد الناس، كما أن ليلة القدر أبهمت أولاً في كامل رمضان، ثم أبهمت في العشر الأواخر ليجتهد الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة) أي: بالنسبة لأيام السنة كاملة. وعلى هذا فلا منافاة، فيوم الجمعة أفضل بالنسبة لأيام الأسبوع، ويوم عرفة بالنسبة لأيام العام كله، وكذلك العيد لفضيلته. فتلك الأقوال بكاملها

شرف يوم الجمعة

شرف يوم الجمعة وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ذكر خلق آدم يوم الجمعة، وكانت خلقة الأنبياء في أيام متعددة، فخلق آدم ما فضيلته؟ قالوا: لأنه بخلق آدم وجد الإنسان، وبوجود الإنسان كان التكليف، وبوجود التكليف كان التوحيد، فعبد الله، وأرسلت الرسل، وجيء بالكتب، وكل ذلك نتيجةً لخلق آدم ابتداءً، فخلق آدم كان أساساً لوجود الخلائق، وسبباً لوجود التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقالوا: إن كان آدم سبباً في هذا الخير فإن من أبناء آدم من جاءوا بالمعاصي ملء البحر والأرض، فقالوا: ساعة من ساعات من توحيد رب العالمين خير من ملء الأرض كلها من المعاصي. ولذا جاءت الآية بأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وجاء: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) . فمهما كان عند العبد من عصيان، أو ما يقع في الأرض من عصيان، فإن ما يوجد في الأرض من طاعة وعبادة وتوحيد خير من الدنيا وما فيها. فوجود آدم في هذا اليوم سبب في هذا الخير الكثير، وبه عرف الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث القدسي: (خلقت خلقاً وبه عرفوني) ، ويقولون: إن ثلاثة أشياء خلقها الله بيده، وبقية الكائنات قال لها: (كوني) فكانت، فقال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين, وقال للجبال: (كوني) فكانت، ولكن خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وأيضاً غرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، فقالوا: هذه ثلاثة أشياء أوجدها بيده، فشرفت لذلك. ولا يقال: كيف خلق آدم بيده؟ وكيف غرس الجنة بيده؟ وكيف كتب الألواح لموسى بيده؟ فالكيف لا يرد على الله سبحانه أبداً في أي شيء كان، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . ثم بعد ذلك شرف آدم بأن أسجد الله الملائكة له، وهل سجدوا له ابتداءً أو سجدوا له بعد أن أظهر الله شرفه؟ بعد أن أظهر الله شرفه بتعليمه، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:31-32] ، فلما أنبأهم كانت النتيجة أن أسجد الله الملائكة له تكريماً، وليست عبادة كما يظن الجهلة، بل تكريماً له على العلم. وقد وجدنا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أن العلم يكرم أهله، وبالتأمل نجد أن العلم يكرم المتعلم، ولو كان حيواناً ولو كان طائراً، فالهدهد لما غاب عن نبي الله سليمان، وتفقد الطير فقال -كما حكى الله تعالى عنه-: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20] قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] فكأنه ألغى العلم بالوحي، وكل ما يأتيه، والجن يعملون بين يديه، وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ، وذكر له أمر بلقيس وشأنها بعد ما قال نبي الله: {لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] . فلما جاء بهذا السلطان، وتوسم فيه نبي الله الصدق قال: (سننظر) فتراجع عن تنفيذ الحكم، أو أوقف التنفيذ، وهذه الحكمة والسنة تجب على العالم الإسلامي، خاصة طالب العلم، فإذا جاءه أمر مستغرب لم يقف على حقيقته لم يبادر في الإنكار، ولا يسارع بالقبول، بل يقول كما قال نبي الله سليمان، مع أن لديه وسائل الاكتشاف والاطلاع، فالريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك قال: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) ، وقدم الصدق لأنه وجد مخايل الصدق في تأكيد الهدهد على خبره، فقال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:28] . فهذا طائر لم يتعلم، ولم يدرس أصول الفقه ليستنتج، وهو في طيرانه اكتشف ما كانت تعبده بلقيس، فرجع يخبر عنها، فما أعمل المقاييس ولا أعمل الأجهزة، ولا استنتج النتائج، فجاء ونجا من الذبح ومن القتل، وبعد أن كان في تلك الحالة أصبح كبيراً مفوضاً من نبي الله سليمان إلى الملكة، وجاء بها مسلمة. وما أكل السبع فهو ميتة إلا ما أدركته وذكيته، بينما الكلب يمسك عليك، وتأكل مما أمسك إذا أطلقته وسميت اسم الله عليه، كما إذا رميت بالسهم وسميت اسم الله عليه، ولو أن الكلب كان غير معلم فهو سبع، لكن إذا أصبح معلماً فإذا أرسلته انطلق وإذا دعوته أجابك، ولا يأكل لنفسه، حلَّ صيده وما يمسكه عليك فهو لك حلال تأكله، وما أصابه الأسد -وهو سيد الوحوش كما يقولون- فإنه ميتة، إلا أن تذكيه أنت فيحل بتذكيتك إياه. وهكذا العلماء، فهم كما قال صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء. فلما علم الله آدم الأسماء، وعرضهم على الملائكة فلم يعلموها اعتذروا إلى الله -ولهم الحق- فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، وهذا منهج لطالب العلم، فإذا سئل عما لا يعلم قال: لا علم لي، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا يقتحم أبواب النار، وقد قيل: اشد الناس اقتحاماً للنار أجرؤهم على الفتوى؛ لأنه قد ينطق بغير علم، ولا ينبغي للإنسان أن يفرح بسؤال يرد عليه ويفرح بالإجابة، إلا إذا كان موقناً كإيقانه بوجود الشمس. وكانت الفتوى تأتي إلى علماء المدينة السبعة ويتدافعونها كلٌ يحيل على الآخر حتى ترجع إلى الأول، كل ذلك فراراً وخشية من الإفتاء بغير علم. فشرف يوم الجمعة بخلق آدم، وتشرف آدم بالعلم، ثم أسكنه الله الجنة، قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] ، والجنة كانت كلها مباحة له غير هذه الشجرة، وتلك حكمة الله، وكما يقول بعض المحققين: الله خلق آدم ليعمر الأرض، كما هو الواقع، فإذا قال له: ادخل الجنة فإنه سيأتي وقت يدعى فيه للنزول إلى الأرض وهذا لا يكون من طبع الكرماء، فلو كان عندك ضيف وأنت كريم، ومكث عندك فإنك تستحيي أن تخرجه دون أن يخرج، لكن جعل الله سبحانه وتعالى تلك الشجرة حتى يشعر آدم بذنبه، فإذا قيل له: اهبط إلى الأرض عرف لماذا أهبط، فلا يكون بخلاً من المولى عليه، ولا يكون تقتيراً عليه، ولا يكون إخراجاً بغير سبب، على أن هذه أمور لا ينبغي الخوض فيها. فنزل إلى الأرض يوم الجمعة، واستغفر ربه، وسأل الله التوبة والمغفرة وأناب، فاجتباه ربه فهداه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] ، فتيب عليه يوم الجمعة، ونحن أيضاً في حاجة إلى عرض التوبة وإلى تكرارها، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى كثرة الصلاة والتسليم عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإلى الاستغفار وكثرة العبادة، حتى قيل: إن الصدقة تضاعف في يوم الجمعة. وفي الحديث الذي في الموطأ: (وما من دابة على وجه الأرض. إلخ) . عموم الدواب، فما من دابة إلا وتدخل في هذا العموم أياً كانت، حتى الطير الذي يطير بجناحيه ويدب على وجه الأرض. ومعنى: [تصيخ] بالخاء أي: تصغي سمعها يوم الجمعة. والإنسان والجان لا يصيخون، فالحيوانات تدرك يوم الجمعة وتميزه عن الخميس والسبت وتصيخ بسمعها، قال ابن عبد البر: إن الله يخلق لها ما يروعها أو يفزعها. وهذا شي لا ندخل فيه، فالله أعلم بأي كيفية تصيخ؛ لأن لله تعالى سره في خلقه، فجميع الكائنات تعرف ربها، وجميع الكائنات تسبح لله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهذا الحال فوق طاقتكم، وفوق عقولكم، ومرجعه إلى الله سبحانه وتعالى. ومن هنا ينبغي على العاقل أن يجعل له من يوم الجمعة -كما يقال- نصيباً يجتهد فيه، فعنده ستة أيام يعمل فيها لدنياه، وعنده يوم الجمعة الوحيد، وقد يعمل فيه إلى أن ينادى للصلاة، فليكن سعيه يوم الجمعة باستغراق وتفرغ، ويبكر قبل ذلك ما شاء الله له، كما في الحديث الآخر: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) إلخ، ويجعل يوم الجمعة للأمور الآتية: أولاً: يستريح فيه من عمل الدنيا. ثانياً: يروح على نفسه من هذا العناء. ثالثاً: يتذوق فيه العبادة والذكر والدعاء، وقد حث صلى الله عليه وسلم على كثرة السلام عليه. كما يجعله لقراءة القرآن والتسبيح والاستغفار، وكل ذلك مما يتهيأ به الإنسان ويتزود. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [8]

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [8] مما يتعلق بصلاة الجمعة اختلاف العلماء في عدد من تنعقد بهم الجمعة، وفي المعذورين ممن لم يحضرها، وهل تنعقد بهم إذا حضروها، وكذلك آداب المستمعين في الجلوس وقت الخطبة، ومشروعية اتخاذ الخطيب عصا أو قوساً يتكئ عليه حال الخطبة.

وقت الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة

وقت الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه أياه، وأشار بيده يقللها) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (وهي ساعة خفيفة) ] . قوله: (خفيفة) كأنها تفسير (يقللها) ، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم وضع طرف الإبهام على الوسطى أو الخنصر، أي: أنه شيء قليل جداً، فليست ساعة من الساعات الزمنية المعروفة التي ينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها. [وعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) رواه مسلم، ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة. وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند ابن ماجة وعن جابر رضي الله عنه عند أبي داود والنسائي: (أنها ما بين صلاة العصر وغروب الشمس) وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري. ] . هذان الحديثان يعتبران أصح الأقوال التي قيلت من ثلاثة وأربعين وقتاً، وابن عبد البر رحمه الله أورد تلك الأقوال بأسانيدها، ومن يقول بها، وهذا شيء لا نستطيع أن نحفظه ولا نستطيع أن نورده بكامله، ولكن نرشد طالب العلم إلى محله وهو في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد، لمن أراد أن يرجع إليه. ويهمنا باتفاق العلماء بأن كل الأقوال التي جاءت بتحديد وقت قبل جلوس الإمام أو قبل الأذان للجمعة كلها مردودة أو ضعيفة، ولكن الأحاديث الصحيحة التي يعوّل على أسانيدها هو هذا الذي جاء ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تتم الصلاة، وهناك من يقول: إلى أن تتم الخطبة، ولكن نقول: إن التمديد إلى الصلاة أشمل؛ لأنها تجمع الخطبة معها. والقول الثاني: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أن وقتها ما بعد صلاة العصر، ثم ما بعد صلاة العصر فيه عدة أقوال، حتى قيل: حينما يشرع القرص في الغروب، وقالوا: إن فاطمة رضي الله عنها كانت تأخذ بهذا القول، وتوصي غلاماً لها ينظر لها قرص الشمس إذا أخذ في الغروب أخبرها فقامت تدعو. وقالوا: كان أحد السلف إذا صلى العصر جلس ولم يكلم أحداً إلى أن تغرب الشمس، يدعو الله سبحانه وتعالى انتهازاً أو تحرياً لتلك الساعة إلى غروب الشمس. ثم إن بعضهم يقول: حتى يكون الظل كذا حتى تصفر الشمس حتى يغرب القرص، فكان ما بعد صلاة العصر يجلس في مكانه إلى أن تغرب الشمس، والله تعالى أعلم.

العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة

العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة [وعن جابر رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] . هذا الحديث موضوعه في عدد الذين تنعقد بهم الجمعة. وأعتقد أنه تقدم الكلام في مثل هذا، ومن رجع إلى تتمة أضواء البيان عند الكلام على سورة الجمعة يجد الأقوال هناك متفاوتة، ولم يصح نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد الجمعة. والمتأمل يجد أن هناك من يقول: ثلاثة أشخاص مع الإمام، أو شخصان مع الإمام، وهناك الإمام والمؤذن أخذاً من قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة:9] فهناك منادِ {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وهناك من يسعى، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وهناك من يذكر الله، فقالوا: إذاً هناك المنادي وهو المؤذن، وهناك من يذكر الله وهو الإمام، وهناك من كلف بالسعي، وأقل الجمع ثلاثة. فقوله: (فاسعوا) يصدق على الواحد والثلاثة، فإذا كانوا ثلاثة يسعون وواحد يؤذن وواحد يذكر الله، فهؤلاء خمسة، فإذا وجد خمسة أشخاص وجبت عليهم الجمعة. وهناك من قال: أقل عدد يكون اثني عشر أخذاً من قصة التجارة، لما كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم قام يخطب فجاءت التجارة، ودقت لها الطبول، فخرج الناس إليها ولم يبق ممن كان عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال الوادي عليهم ناراً) ، فقالوا: هذا العدد حفظ الله به الصحابة من أن يهلكوا، وسماع الخطبة جزء من الجمعة حتى أنهم قالوا: هي بدل الركعتين الأخريين، ويأتي الخلاف في سماع الخطبة هل هو واجب أو سنة، وهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟! وأجيب عن هذا وذاك: أن أول جمعة أقيمت في المدينة المنورة كانوا نحواً من أربعين رجلاً، فقالوا: كون الذين بقوا عند مجيء رسول الله وقت الخطبة عند مجيء العير للتجارة اثني عشر، هذه خطيئة وقعت فجأة ويمكن كان أن يبقى عشرون، ويمكن أن يبقى عشرة أو خمسة، فهذا ليس منضبطاً بعدد، إنما صادف أن الذين بقوا اثنا عشر رجلاً، كذلك صادف الذين صلوا الجمعة أول ما كانوا أبعين رجلاً، ثم جاء خبر جابر، ولكن نبه المؤلف رحمه الله على ضعف هذا الحديث. فالذي قال ثلاثة أبو حنيفة رحمه الله، والذي قال اثنا عشر رجلاً أحمد ومن وافقه، والذي قال أربعون الشافعي رحمه الله، والذي قاله مالك هو ما يمكن أن يكون كقاعدة عامة ليست مرتبطة بعدد هندسي ولا حسابي، فقال: كل جماعة أقامت في قرية واستقرت، وفيها أميرها وسوقها وجبت عليهم الجمعة سواء كانوا كثيراً أو قليلاً؛ لأنها وحدة سكنية قائمة بذاتها. وأشرنا سابقاً -أيها الإخوة- بأن هذا القول هو الذي يفيده السياق في آخر السورة الكريمة؛ لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، أي: اتركوا البيع، فلو كانوا اثنين أو ثلاثة لم يكن هناك بيع كثير حتى يحتاج أن نقول: اتركوه؛ لأنها صفة حصلت وأنت ماش ما تستغرق شيئاً، لكن تدل على وجود سوق وأن البيع قائم، والناس يتبايعون ويُشغلون عن الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] . {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] هل يقال لاثنين وثلاثة: انتشروا؟! الانتشار يكون للعدد الكثير. إذاً: هل وجدتم سوقاً قائماً في الخلاء أو في الفلاة دون وجود قرية لها رئاسة؟! لابد من وجود خادم ووجود ولي أمر وحاكم ليفض النزاعات التي تقع في الغالب بين المتبايعين في الأسواق وإلا حلت الفوضى. إذاً: هذه وحدة قروية كما يقال مستكملة وقائمة بذاتها، فهذه المجموعة عليها أن تصلي الجمعة سواء كانت عشرين أو مائتين أو أكثر أو أقل، وعلى هذا يضيف المالكية: ويمكن لهذه الجماعة أن تدافع عن نفسها، بمعنى: لو داهمها حيوان أو وحش أو قطاع طرق لكانوا بمجموعهم يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولذا قال: تجب الجمعة على قرية يستقرون فيها احتياطاً من بيوت الشعر، وهم الذين يتبعون القطر والغيث والمرعى فلن يستقروا في مكان، فهؤلاء ليست عليهم جمعة كما يقول مالك رحمه الله. إذاً: قضية العدد ليس فيها نص، وإنما كلها اجتهاديات، وأولى الأقوال في ذلك ما جاء عن مالك رحمه الله؛ لأنه كلام من واقع الحياة ومن وجود القرى والمستوطنين فيها، والله تعالى أعلم.

من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات

من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعة) رواه البزار بإسناد لين. ] الغرض هنا الدعاء في الخطبة (للمؤمنين المؤمنات) أي: على العموم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لآحاد الناس، وهذه سنة للخطيب أن يستغفر في خطبته للمؤمنين والمؤمنات، ونتناول موضوع دعاء الخطيب لولي أمر المسلمين. فبعضهم يقول: لا مجال له، لأن هذه عبادة لله، ولا ينبغي تعظيم غير الله. وقال الآخرون: إن الدعاء لإمام المسلمين بالصلاح والإصلاح والبطانة الصالحة، هو خير للمسلمين جميعاً، كما قال أحمد رحمه الله: لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها إلى ولي أمر المسلمين؛ لأن في إصلاحه صلاح المسلمين. إذاً: لا مانع أن يدعو الخطيب لما يصلح الإمام في الدين والدنيا لا في مصالحه الخاصة والشخصية، ولكن لمصلحة عموم المسلمين، فعندما يقول: اللهم وفقه لما فيه الخير، اللهم سدد خطاه، اللهم انصر به الإسلام والمسلمين، اللهم اجعله عوناً على طاعتك، وأيد له بطانة تدله على الخير وتعينه عليه، فهذه كلها دعوات ليست راجعة لنفس ولي الأمر في ذاته، بل راجعة لعامة المسلمين. إذاً: لا مانع في ذلك وهذا الحديث أصل في هذا وبالله التوفيق.

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة [عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن؛ يذكر الناس) رواه أبو داود وأصله في مسلم. ] تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) على المنبر، وهنا أتى بهذا الحديث ليبين أن من شروط الخطبة: أن يأتي بآيات من كتاب الله فيها موعظة وتوجيه وآداب، فسورة (ق) طويلة وكلها مواعظ، وفيها إثبات البعث وفيها خلق الإنسان وغير ذلك. ولا يستطيع كل إنسان في كل جمعة أن يقرأها، فربما يطول الأمر على الناس، لكن لابد للخطيب أن يأتي بآية من كتاب الله في الخطبة، وجعلوها ركناً من أركان الخطبة التي هي: حمد الله، والشهادتان، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآية من كتاب الله، ثم يأتي بالموضوع الذي يريده.

الأشخاص الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة

الأشخاص الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة [وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض) رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى] . هذا الحديث يبين حكم الإتيان إلى الجمعة وأهل الأعذار الذين تسقط عنهم؛ لأن هذين الأمرين متلازمين وهنا: (الجمعة حق على كل مسلم) ، ثم جاء الاستثناء لأربعة، وجيء بخامس وهو المسافر، وكل هذه الأصناف لها بحثها إن شاء الله، لكن يهمنا قوله: (حق على كل مسلم) ؛ لأن الموجود في أذهان كثير من الناس: أن إتيان الجمعة مندوب أو سنة مؤكدة، ولكن ليعلم الإخوان بالتتبع، ومن أراد فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند هذا المبحث، فسيجد نقول المذاهب الأربعة على أن الجمعة فرض عين على كل مكلف ممن لم يستثن ولم تسقط عنه الجمعة من الأصناف الأربعة أو الخمسة. ويكفي وعيداً في عدم المجيء إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير عذر طبع الله على قلبه) ، وهذا ما جاء إلا في المنافقين والعياذ بالله، وكما قالوا رحمهم الله في الاتفاق: هي فرض يومها، أما الذين سقطت عنهم أو لم يدركوها سواء كان بعذرٍ قام بهم كالمملوك والمرأة والصغير والمريض والمسافر، أو لشيء نقص عليه وهو مستكمل الشروط، كأن غلب عليه نوم أو شغل أو بعد عليه السبب أو المسافة، فحينئذٍ يصلي الظهر، إذاً: القادر المستطيع الذي يدخل تحت تكليف يوم الجمعة واجب عليه أن يأتيها. وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يأتون إليها من العالية ومن قباء، وكان يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا لصلاة الجمعة بالمسجد النبوي الشريف، ثم بعد ذلك أذن لهم لما كثر الناس وشق عليهم النزول، وصار الأمر على خلاف ما كان سابقاً، وتقام كل جمعة في نفس القرية لا في قرية أخرى وهذا سيأتي عليه بحث آخر إنشاء الله. إذاً: الجمعة حق على كل مسلم وفرض عين كالعصر والمغرب والعشاء والظهر في غير يومها. أما من تسقط عنهم الجمعة فمنه ما هو موضع اتفاق ومنه ما هو موضع خلاف. [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسافر جمعة) رواه الطبراني بإسناد ضعيف. ] تقدم الكلام على مقدمة هذا الحديث من حديث طارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم) ، واستثنى الأربعة من عموم المسلمين: المملوك والمرأة والصبي والمريض، وسمعنا المؤلف رحمه الله يقول: إن الحديث ضعيف، وقالوا: إن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث مرسلاً؛ لأن طارقاً تابعي، وبعضهم يقول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يسمع منه فيكون حديثه مرسلاً، ولكن قالوا: جاء الحديث برواية طارق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث تلقى بالقبول وعليه العمل، ولكن الخلاف في بعض تلك الأصناف وفيها تفصيل، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) ، فهذا تقدم الكلام عليه من أن الجمعة في يومها فرض عين، وهي فريضة اليوم وقوله: (في جماعة) شرط في الجمعة، أي: لا تصح فرادى، ومن فاتته لعذر أو غير ذلك فلا يصلي جمعة وإنما يصلي ظهراً، والأصناف التي استثنيت هي كما يلي:

أولا: المملوك

أولاً: المملوك والمملوك يصدق على الذكر والأنثى الأمة والعبد، وهو المعبر عنه بملك اليمين، وهذا أمر مفروغ منه، وفيه خلاف بين الجمهور والظاهرية؛ لأن داود بن علي رحمه الله يقول: إنه عليه الجمعة مستدلاً بعموم قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقال: إنه من عموم الذين آمنوا، وأخذ بذلك ابن حزم رحمه الله، يقول ابن قدامة في المغني: هي رواية عن أحمد. ولكن الجمهور والرواية الأخرى عن أحمد أن المملوك في حكم مالكه ومنفعته لسيده فلا تجب عليه؛ لأنه مطالب بحق آخر، وإذا أذن له سيده فعليه أن يحضر، وإذا حضر أجزأت عنه وأغنت عن الفريضة يومها. إذاً: الجمهور على أن المملوك لا جمعة عليه أساساً، وإذا إذن له سيده بحضور الجمعة أجزأته، ولكن يرى الجمهور أن حضوره لا يمكن أن يعتبر في تمام العدد عند من يشترط عدداً معيناً، فمن يشترط اثني عشر رجلاً قال: لا يكون فيهم مملوك، ومن اشترط الأربعين قال: لا يكون فيهم مملوك، بل يكون المملوك زائداً عن عدد الأربعين، وزائداً عن عدد الاثني عشر أي: يجب أن يوجد ممن تجب عليهم الجمعة ابتداءً العدد المطلوب.

ثانيا: المرأة

ثانياً: المرأة النوع الثاني: المرأة، وهذا بالإجماع، ولكن بعض العلماء يقول: المرأة إذا أرادت أن تحضر الجمعة لسماع الموعظة أو لتتثقف في دينها، فإنه ينظر: إن كانت امرأة كبيرة في السن فلا مانع، وإن كانت شابة يخشى فتنتها فلا تحضر. والآخرون يقولون: مطلق امرأة إذا أذن لها زوجها أو وليها، بالشروط المعتبرة في خروج المرأة كالتستر الكامل الذي تصح به صلاة المرأة وهو أن تكون لابسة درعاً وخماراً سابغاً، أي: أن الدرع يغطي ظهور القدمين، وكذلك عدم التعرض للطيب، ولا لمواطن الزحام، فإذا أمنت من هذه الجوانب وحضرت الجمعة فإنها تجزئها ولا تطالب بظهر.

ثالثا: الصغير

ثالثاً: الصغير والثالث: الصغير: وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الصغير دون سن التكليف ليس بواجب عليه أن يحضر الجمعة، وإذا حضرت المرأة أو حضر الصغير أيضاً فلا يحسب في العدد الذي تصح به الجمعة. ويكون حضور المرأة أو الصغير أو المملوك زائداً عن العدد الذي يشترطه من يشترط عدداً معيناً.

رابعا: المريض

رابعاً: المريض الرابع: المريض: قالوا: والمريض على قسمين: - مريض يمكن أن يتحمل ويأتي الجمعة، فإذا حضرها أجزأته، وعد من العدد المطلوب؛ لأن سقوطها عنه ليس أصالة كالصبي أو كالمرأة، ولكن سقوطها عنه لمرضه تخفيفاً عليه، فإذا تحمل وحضر يكون قد تحمل في سبيل حضورها وهو أصلاً من أهلها، فحينئذٍ تصح منه وتنعقد به. - أما إذا كان المرض ثقيلاً يشق عليه الحضور سقطت عنه الجمعة.

خامسا: المسافر

خامساً: المسافر ثم يأتي بالرواية الأخرى ويضيف إلى ذلك خامساً وهو: المسافر. والمسافر في الجملة حصل الاتفاق على أنه لا جمعة عليه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر في غزوات عدة ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم في أي غزوة ولا في أي سفرة صلى جمعة، بل بالإجماع كان السفر للحج والوقوف بعرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، ولم يثبت أنه صلى الجمعة، بل صلى الظهر ركعتين قصراً والعصر ركعتين وجمع بينهما. ولما جاء أبو يوسف ولقي مالكاً رحم الله الجميع وتذاكرا هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات جمعة أم صلى ظهراً؟ فقال مالك: صلى ظهراً. فقال أبو يوسف: ألم يصل ركعتين ويخطب بالناس؟ قال مالك: بلى. قال: هذه هي الجمعة ركعتان مع الخطبة. قال: أرأيت جهر بالقراءة أم أسر بها؟ قال: أسر بها. قال: هذا الظهر، والجمعة يجهر فيها بالقرآن، وهكذا أيها الإخوة أسلوب العلماء في المذاكرة دون مناكرة أو شقاق أو غضب أو شيء من ذلك، فرجع كل إلى الأصل واقتنع أبو يوسف رحمه الله أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كانت ظهراً، وبهذا اتفقوا في الجملة على أن المسافر لا جمعة عليه. ولماذا لا جمعة عليه؟ قالوا: لأن المسافر تلحقه مشقة، ومن عناء السفر قصرت عليه الصلوات الرباعية فهو في حاجة ومشقة، فتكليفه بحضور الجمعة بما لها من شروط قد يلحق به مشقة زائدة. ولهذه النظرة نجد بعض الفقهاء يفصل قالوا: المسافر على حالتين: - مسافر عابر سبيل، نزل بقرية في يوم الجمعة وهو على نية الرحيل في يومها، أي: أنه على ظهر طريق، فهذا يتفقون على أنه لا جمعة عليه. - مسافر نزل في قرية قبل الجمعة بيوم أو يومين وسيستمر بعد الجمعة بيوم أو يومين فقالوا: هذا مسافر، ولكن نزل واستقر، فانتفت عنه مظنة التعب والمشقة، فهذا عليه أن يأتي، والجمهور قالوا: مادام أن له حكم المسافر وله يقصر الصلاة على ما تقدم في مدة المقيم إقامة مؤقتة، فحينئذٍ حكم السفر مازال معه واليوم كاليومين إلى الأربعة الأيام سواء. إذاً: المسافر والذي نزل نزولاً مؤقتاً في طريقه فإنه لا جمعة عليه، وإذا حضر، قالوا: إذا حضر تحتسب له وتجزئه عن يومها، ولكن لا يكون في عدد الجمعة لماذا؟ لأن الأصل سقوطها عنه. إذاً: هؤلاء الخمسة الأشخاص لا جمعة عليهم. نجد أن هناك قولاً منفرداً، وهو يأتي عن أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة رحمه الله؛ يقول: يلحق بهؤلاء الخمسة الأعمى؛ لأنه تلحقه المشقة في حضور الجمعة، ولكن كما قال ابن قدامة في المغني: هذا قول شاذ؛ لأن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن حضور الجماعة وقال: بيني وبين هذا المسجد هذا الوادي وليس لي قائد، وفي الطريق كذا وكذا واسترخص بأن يصلي في بيته فأذن له، وبعد أن أدبر دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: بلى قال: أجب، فيقول الجمهور: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في ترك الجماعة في الصلوات الخمس، والجمعة آكد، فلأن لا يرخص له في الجمعة من باب أولى. إذاً: الذي عليه الجمهور هو أن الجمعة تسقط عن خمسة أصناف: المملوك والمرأة والصبي والمريض والمسافر على ما تقدم، وبالله تعالى التوفيق.

من آداب المستمعين مع الخطيب استقباله بوجوههم

من آداب المستمعين مع الخطيب استقباله بوجوههم [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا) رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة. وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] . بعد أن بين وجوب الجمعة على الأعيان وأنها فرض عين، ومن استثنى من ذلك من تلك الأصناف الخمسة ذكر آداب المصلين مع الخطيب فقال: إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر -أي: للخطبة- استقبلناه بوجوهنا. العادة الطبيعية أن المصلين مستقبلون القبلة، والمنبر في قبلية المسجد، فإذا صعد الإمام اتجه إلى الشمال والمصلون متجهون إلى القبلة، فهم مستقبلون بوجوههم، ولكن هذا يصدق لمن هو باتجاه المنبر سواء، أما ميمنة الصف وميسرة الصف فليسوا مستقبلين، إذاً: على من يكون في الميمنة أو في الميسرة أن يستدير ويستقبل الخطيب بوجهه، وليس بلازم أن يستدير بجسمه كاملاً بأن يكون واجهته إلى المنبر. ولو كان جالساً وأدار وجهه إلى الخطيب مستقبلاً القبلة بصدره، ومديراً وجهه إلى الإمام على المنبر مستقبلاً إياه بوجهه، فهذا من علامات الأدب والإصغاء، والنظر إلى الخطيب وهو يخطب ومتابعته في هذه الحالة توكيد للسماع وتقوية للمعنى؛ لأن حواسه كلها مع الخطيب يسمع بأذنه ويرى بعينه. وعلى هذا تكون السنة ونحن بالمسجد النبوي فيها مشكلة؛ لأنه دون بقية المساجد، فالمنبر يوجد في حد المسجد النبوي الأول في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت الزيادة التي في القبلة على سمت باب السلام إلى الحجرة، وكانت تسمى الطُرقة (طُرقة باب السلام) طرقة المُسلّمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآن مكان المنبر لا يمكن أن يغير؛ لأنه موضوع على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف المنبر إلى القبلة عدة صفوف أربعة خمسة ستة على حسب الزحام، ماذا يفعل أولئك الذين في جلوسهم مستدبرين المنبر؟ السنة أن يواجهوا الخطيب بوجوههم ولا يعطونه ظهورهم؛ لأن هذا من علامات الإعراض، وبعضهم يقول: كيف نستدبر القبلة ونستقبل المنبر، ولكن لم أجد من استثنى ذلك المكان، فاستقبال الخطيب بالوجه في عامة المساجد هي السنة، ولا يوجد تساؤل إلا في هذا المسجد النبوي وبالنسبة لطرقه فقط. كذلك الخطيب في مكة المصلون مستقبلون المنبر طبيعياً؛ لأنهم يستقبلون الكعبة بشكل دائمٍ، والمنبر لاصق بالكعبة، فغاية ما هناك أن الذين تقع الكعبة بينهم وبين المنبر لا يستطيعون أن يتطاولوا عليها ولا أن يزيلوها، لكنهم استقبلوا الخطيب بوجوههم، فسواء حصل حاجز أو لم يحصل فذلك ليس بأيديهم. إذاً: السنة في المستمع أن يستقبل الخطيب بوجهه. ولذا اتفق الجميع -ما عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح عنه كقول الجمهور- أن السنة في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبله بوجهك وتستدبر القبلة؛ لأن أدب الخطاب أن تواجه من تخاطب، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي فأرد عليه السلام) ، فهل تريد أن يرد عليك السلام وأنت مدبر عنه؟ وعند الإمام أبي حنيفة كما ينقلون عنه: إن الأدب أن يقف بجانب الحجرة فيجعلها عن يساره أو عن يمينه، ويستقبل القبلة عند السلام؛ لأن السلام قربة وعبادة، وقبلة القربة والعبادة الكعبة، فيستقبل الكعبة بوجهه ويسلم على النبي من جانبه كما يحدث شخص إنساناً آخر عن جانبه، ولكن الذي رأيناه في مسند أبي حنيفة رحمه الله -وهو مطبوع مع مسند الشافعي رحمهما الله- رواية أبي حنيفة أن السنة والأدب أن تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحجرة الشريفة عند السلام عليه. فيكون قد وافق الجمهور في أن الأدب عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل الحجرة الشريفة فيستقبل وجه النبي صلى الله عليه وسلم.

اتكاء النبي صلى الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة

اتكاء النبي صلى الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة [وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] . توكؤ الخطيب على شيء في يده مظهر من مظاهر الخطابة عند العرب قبل وبعد الإسلام، فكانوا إذا كان الخطيب في قوم لابد أن يكون على نشز مرتفع أو على ظهر ناقته أو جواده؛ لأنه بارتفاعه يشرف على أكثر عدد ممكن، وبارتفاعه يبلغ صوته أكثر مما لو كان منخفضاً. ومن هنا كانت الخطبة على المنبر، وإن كان أصل المنبر في المسجد النبوي الشريف شفقة بطول قيام رسول الله، كان صلى الله عليه وسلم يقوم على قدميه في الروضة فيخطب متكئاً على جذع، فكان يتكئ عليه ويخطب، فرأت امرأة من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف ويطيل القيام، ويبادل بين قدميه لطول الوقوف، فقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً نجاراً فهل تأذن له أن يصنع لك منبراً تجلس عليه حين تقوم، فأذن له، فذهب الغلام وجاء بأعواد من الطرفة من الغابة عند ملتقى الأسيال وراء بئر رومة وصنع المنبر من ثلاث درجات، درجة أولى، والدرجة الثانية عليها القدمان، والدرجة الثالثة يجلس عليها، فانتقل صلى الله عليه وسلم من موقفه واقفاً إلى موقع المنبر للجلوس عليه. وكان من شأن الجذع أن حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع المصلون حنين الجذع لرسول الله ونزل إليه فالتزمه كما يهدئ الأب ولده أو الأم طفلها وقال: (إن شئت أخذتك فغرزتك فأورقت وأثمرت وأينعت، وإن شئت كنت من غرس الجنة؟ قال: أريد أن أكون من غرس الجنة، فدفنه صلى الله عليه وسلم في الروضة في أصل المنبر) . إذاً: صنع المنبر ابتداءً لراحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ثلاث درجات كما هو معلوم، فجاء الناس وصنعوا المنبر واعتبروه من جهة راحةً للخطيب ومن جهة للإشراف عليهم ليكون أدعى لانتشار الصوت وبعده. ولهذا كانت السنة أن الخطيب يكون على مكان مرتفع فإلم يكن فعلى ظهر بعيره، وإلا فعلى ظهر فرسه، فجاء الإسلام وجعل المنبر للخطيب، وكان الخطيب يعتمد على قوسٍ أو عصا، فالقوس من أدوات القتال والعصا من أدوات التوكؤ فيقول الأدباء: إذا كان موضوع الخطبة يتعلق بالقتال والجهاد من هذه الناحية كان الاتكاء على قوس إشعاراً بجدية الموضوع، وإن كانت الخطبة مثلاً في أمور سلمية اتكأ على عصا؛ لأن العصا تشعر بعدم الحرب، والقوس يشعر بالشدة والقتال. فهنا كلمة (أو) تكون مشعرة بالشك، أو أنه أحياناً يتكئ على قوس وأحياناً على عصا، فأحياناً صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويهيئ الجيوش فيندبهم إلى القتال، والذي يناسب في هذه الحالة أن يكون متكئاً على قوس. وأحياناً يخطبهم ويبين لهم بعض ما يرد عليه أو بعض ما يعرض لهم من إشكالات وأحياناً يقول: أيها الناس! احضروا المنبر، ويكون لأمر دنيوي أو تشريعي فيكون الاعتماد على عصاً، ولو كان على المنبر، والاتكاء -أيها الإخوة- أثناء الخطابة يساعد الخطيب على استرساله في موضوعه. ومن العجيب أنهم كانوا في أثناء القتال في التاريخ الأول يأتي الخطيب وبيده السيف، فيصعد المنبر وهو مستل سيفه يتكئ عليه، فيخطب وهو متكئ على السيف بدلاً عن القوس وإذا جئت إلى بعض مساجد الأرياف خارج المملكة تجد السيف مصنوعاً من خشب على المنبر يحاكي ما كان سابقاً فيأتي الخطيب ويصعد المنبر وبيده سيف من خشب، لا حول ولا قوة إلا بالله! تقليد! والسيف الخشب سيشعر بقتال. إذاً: انتقلت تلك العادة حتى أدت إلى هذا التقليد بهذه الحالة، ولكن لابد إما أن يكون عصاً فعلاً وإما أن يكون قوساً، فإذا لم تدع الحاجة لذلك ولا يوجد، ولا تعود الناس على ذلك صعد وأمسك بيده جانب المنبر، وبعضهم يقول: يضع اليمنى على اليسرى، وبعضهم يقول: اليدين على جانبي المنبر إلى آخره. ويذكر بعض الأدباء في عادة الخطباء أنه لابد أن تكون يده في شيء محسوس. وبعض النكت عن بعض الأدباء يقولون: مفتاح عقل الخطيب في شيء يتعوده، وذكروا عن خطيب غير عربي كان بليغاً جداً، ولاحظ شخص أنه عند الحديث يمسك زرار السترة، ويعبث به طيلة ما يتكلم، فجاء إنسان وعند بدئه للصعود للخطبة قطع هذا الزرار، فوقف ليخطب فأخذ يحسس ويطلب الزرار فلم يجده فضاع عليه المفتاح، فلعله من باب شيء في يده محسوس على حسب ما تعود يساعده حتى يسترسل في موضوعه إلى غير ذلك، لكن الأصل كما يقول الأدباء: أن يعتمد الخطيب على شيء إما عصا أو قوس وذلك بحسب مناسبة الخطبة، وكما يقال: لكل مقال مقال. وهنا يا إخوان ينبه العلماء: أنه إن اعتمد على عصا أو قوس إنما يكون لمجرد الاعتماد، لا أن يرفعها للتهديد أو يدق المنبر بها، إنما تكون في يده يعتمد عليها، إذاً: عمل للعصا ولا للقوس، وإنما هي اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يدق بها درج المنبر أو يشهرها على الناس أو يهدد بها.

كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف

كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف صلاة الخوف من الصلوات التي فرضت علينا، وهي صلاة من اسمها تبين أنها لا تؤدى إلا في حالة وجود سببها، وهو الخوف، ولها صفات عديدة، وقد أداها النبي عليه الصلاة والسلام عدة مرات بصفات عدة.

أحكام صلاة الخوف

أحكام صلاة الخوف

مشروعية صلاة الخوف

مشروعية صلاة الخوف الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [عن صالح بن خوات رضي الله عنه، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصلوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، ووقع في المعرفة لـ ابن مندة عن صالح بن خوات عن أبيه] . تقدم الكلام على مشروعية صلاة الخوف، وعلى أهميتها، وعظيم دلالتها على وجوب الجماعة؛ لأنها إذا كان يحافظ عليها عند مصافة العدو فلأن يحافظ عليها في السلم والأمن من باب أولى. ولنقف على هذا الترتيب النبوي الكريم لهذا العمل الذي يعتبر من الدقة بمكان، وكونها قد لا يعمل بها الآن لا يستدعي تركها؛ لأنها من الفقه، ومن يدري ماذا يئول الأمر إليه، فإن كثيراً من العلماء الاجتماعيين أو السياسيين أو الدينيين يقولون: سيرجع الناس في قتالهم إلى السيف والوتر والقوس؛ أي: حينما يتغير الوقت، ولسنا بصدد ذلك، ولكن يهمنا -كما أسلفنا- الوقوف على كيفية وصفة هذه الصلاة، كما جاء في الأثر: تعلم مسألة فقه خير من عبادة ستين سنة، عمل بها أو لم يعمل. والكيفيات -كما أشرنا- متعددة، ولكن الصور التي تعتبر أساساً قرابة ست صور. وبدأ المؤلف بصورة منها، وهي التي تتفق مع سياق القرآن الكريم، ونحاول إن شاء الله بيان ذلك بالإشارة، أو بالعبارة، أو بما ييسره الله سبحانه وتعالى، والآن نمضي مع هذا النص خطوة خطوة. قال المؤلف رحمه الله: [عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الرقاع] . ذات الرقاع هي اسم غزوة، قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب المغازي: واختلف العلماء في سبب التسمية كما اختلفوا في تاريخها، أما سبب التسمية فقد جاء عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنه قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الستة النفر يعتقبون على البعير -أي: يركب كل واحد منهم مسافة ثم ينزل- قال: فحفيت أقدامنا، وتناثرت أظفارنا، فكنا نأخذ الرقاع ونلفها على أقدامنا) . وقال آخرون: سميت بذلك لأن الأرض كانت متلونة. وقول ثالث: لأنهم رقعوا راياتهم وألويتهم. وقال بعضهم: نسبة لجبل هناك فيه ألوان متعددة كالرقع في الثوب. وسبب التسمية لا يعنينا. بقي الخلاف في تاريخها، فبعض العلماء يرى أنها قبل الخندق، وبعضهم يقول: إنها بعد خيبر. وبينهما فرق بعيد، ويحقق البخاري رحمه الله أنها بعد خيبر، وهي قطعاً بعد الخندق؛ لمجيء أبي موسى رضي الله تعالى عنه بعد ذلك، ويهمنا في التاريخ: قضية غزوة الخندق؛ لأنهم ما صلوا العصر حتى غربت الشمس، وجاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال -يدعو على المشركين-: (شغلونا عن الصلاة ملأ الله عليهم قبورهم وبطونهم ناراً) . ولم يصلوا صلاة الخوف، وفي بعض الروايات الأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: (أصليتم العصر؟ قالوا: لا) . وقال بعضهم: لم تكن صلاة الخوف شرعت. وقال بعضهم: كانت مشروعة في ذات الرقاع، على أن ذات الرقاع قبل الخندق. والآخرون يقولون: كانت مشروعة لكن الناس شغلوا عنها، كما قال عمر: (شغلونا) . أو نسيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سأل: (أصليتم العصر؟) ، والتحقيق كما ساقه البخاري، وبيّنه والدنا الشيخ الأمين في أضواء البيان في الجزء الأول في كلامه عن الآية الكريمة: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ. } [النساء:102] أن ذات الرقاع بعد الخندق. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف قيل: أربع مرات، وقيل: ست مرات، وابن العربي في القبس يقول: أربع عشر مرة، ولكن لم يبينها. ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف عدة مرات، وجاءت صفتها في عدة صور، فبعضهم يقول: في كل مرة كانت الصلاة على كيفية، وبعضهم يقول: الصلاة تغيرت صفاتها وتعددت كيفياتها بحسب حالة الميدان.

الصفة الأولى لصلاة الخوف

الصفة الأولى لصلاة الخوف المؤلف رحمه الله بدأنا بهذه الصورة، وهي مروية عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في ذات الرقاع. ففي تلك الصلاة في ذات الرقاع أن طائفة صفت معه -صلى الله عليه وسلم-، وطائفة صفت تجاه العدو. وصلاة الخوف تدور بين أمرين: استقبال القبلة، والحذر من العدو. وفي هذه الصورة العدو ليس في جهة القبلة، فصفت طائفة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفت الطائفة الأخرى تجاه العدو، فهذا هو التقسيم الأول، فطائفة خلف الرسول إلى القبلة، وطائفة وجاه العدو. قال: [فصلى بالذين معه ركعة] كبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكبر الجميع، الذين خلفه والذين تجاه العدو، فأصبحت الطائفتان في صلاة، مع اختلاف الموقف، فهذه خلف الإمام مستقبلة القبلة، وهذه تجاه العدو، والكل كبر للصلاة. ثم قرأ، وركع فركعت الطائفة التي خلفه معه، ورفع فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، والطائفة الأخرى قائمة تجاه العدو. قال: (ثم ثبت قائماً) . أي: ثم قام وثبت قائماً. فالذين صفوا خلفه صلوا معه ركعة كاملة، فقام للركعة الثانية، واستوت الطائفتان قائمتين، هذه صلت ركعة، وتلك لم تصل شئياً. قال: (وأتموا لأنفسهم) . أي: هذه الطائفة التي خلف الإمام لما قام الإمام للثانية صلوا لأنفسهم، فركعوا ورفعوا وسجدوا سجدتين، فالطائفة التي صفت خلف الإمام صلت ركعتين، ولكن ركعة اقتدت فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وركعة صلتها لنفسها. قال: (ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو) . أي: هؤلاء ذهبوا إلى العدو، وهؤلاء رجعوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم. فالطائفة التي كانت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلت ركعتين ركعة مقتدية فيها وركعة لنفسها ذهبت تجاه العدو. قال: (وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت) . أي: الطائفة الأخرى التي كانت تجاه العدو، جاءت وصفت خلف النبي عليه الصلاة والسلام. قال: فصلى بهم الركعة التي بقيت. أي: فصلى بهم الركعة الثانية، ركع فركعوا، ورفع فرفعوا، وسجد فسجدوا. فصلى النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين، وصلت الطائفة الأولى ركعتين، وصلت الطائفة الثانية ركعة واحدة، فالطائفة الأولى حينما صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلت ركعة واحدة مقتدية، وأتمت لنفسها، وهذه الطائفة التي جاءت صلت أيضاً ركعة واحدة اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى من السجدتين جلس للتشهد، فقامت هذه الطائفة التي كانت وجاه العدو وصلت خلفه ركعة، ثم قامت وأتمت لنفسها، كما فعلت الطائفة الأولى، فاقتدت به ركعة، وأتمت لنفسها ركعة. وحينما أتمت الطائفة الثانية لنفسها الركعة الثانية يكون الجميع قد صلوا ركعتين، فهذا يعني أن الجميع أكمل صلاته، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل سلم في مكانه، وما طائفة فازت على طائفة بشيء، فكل طائفة من الطائفتين اقتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعة، وأتمت لنفسها الركعة الثانية، ولما سلم كان الجميع قد أتم صلاته، فسلموا جميعاً معه. الصورة الثانية: إذا كان العدو تجاه القبلة، فيكبر الجميع، ثم يركع ويركع الجميع، ثم يسجد ويسجد الصف الأول فقط، ويبقى الصف الثاني في الحراسة، وعندما يقوم الصف الأول يسجد الصف الثاني السجدتين، والصف الأول يحرسه ويتقدم الصف الثاني المتأخر، ويتأخر الصف الأول المتقدم، ثم يقومون إلى الركعة الثانية فيركع الإمام ويركع الجميع، ويسجد الإمام فيسجد الصف المتقدم، ويجلس الإمام والصف المتقدم للتشهد ويطيل فيه، ويتم الصف المتأخر ما عليه -السجدتين- ويلحقون الإمام والصف الأول في التشهد، ثم يتشهدون معهم، ويسلم الإمام ويسلمون جميعاً، وهذه الصورة ستأتي في حديث جابر الآتي. ونستطيع أن نقول: إن هاتين الصورتين هما الأساس، وقد وضحتا ولله الحمد. وهناك صور أخرى سيمر عليها المؤلف، لكن -كما يقال- قد تتداخل مع هاتين الصورتين، وقد تنفرد. لذلك نمشي مع المؤلف خطوة خطوة، وحديثاً حديثاً؛ لأن هناك صوراً متقاربة جداً، فما بين أن يتموا لأنفسهم في مكانهم خلف الإمام، وبين أن يذهبوا ويتموا لأنفسهم في أماكنهم.

الصفة الثانية لصلاة الخوف

الصفة الثانية لصلاة الخوف قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو فصاففناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاؤوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد فيهم فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين] . قوله: (وازينا العدو فصاففناهم) ، يعني: ليس هناك اشتباك، بل كلٌ منهما مواجه للآخر، وحينئذ حانت الصلاة؛ فكانت صلاة الخوف. قال: (فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ... ) . قوله: (ثم انصرفوا) . أي: صلوا ركعة واحدة ولم يتموا لأنفسهم، وذهبوا هناك، فذهبوا بركعة واحدة، ثم جاء أولئك وصفوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين ثم سلم. ] . في هذه الصورة الثانية التي ساقها المؤلف كل طائفة صلت مع النبي ركعة واحدة، والأولى بعد الركعة الأولى ذهبت للحراسة، وطائفة الحراسة جاءت وصلت الركعة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم والأولى لها، فأصبحت كل طائفة صلت ركعة واحدة، والإمام صلى ركعتين، فيكون الإمام قد أتم صلاته والطائفتان بقيت على كل واحدة منهما ركعة، فالإمام هنا سلم؛ لأنه أتم صلاته. قال: [فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة] . بعدما صلت كل طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، الأولى صلت مع النبي الركعة الأولى وانصرفت، والطائفة الثانية جاءت وصلت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ركعته الثانية وهي الأولى في حقها، فالإمام أتم صلاته ركعتين، وكلتا الطائفتين كل منهما صلى واحدة، فبعد أن سلم الإمام كل طائفة تصلي لنفسها ركعتها الباقية. لكن هل بعدما سلم الإمام تقوم كل طائفة تصلي لنفسها، وتصبح الطائفتان في وقت واحد في صلاة، أم أن واحدة تكمل لنفسها والأخرى تبقى في الحراسة؟ الصحيح أن تبقى واحدة في الحراسة وتتم الأخرى؛ لأنه لو كل طائفة بادرت بإتمام ما عليها لضيعت الحراسة، كما يقول ابن حجر: هل هو في وقت واحد أو على التعاقب؟ والصحيح أنه على التعاقب؛ لأنهما لو قامتا لإتمام ما فاتهما، أو إتمام ما بقي عليهما ضيعت الحراسة، والغرض من هذا كله الحفاظ على الحراسة. ففي هذه الصورة كل طائفة صلت ركعة واحدة وذهبت، ولم تتم لنفسها، والطائفة الثانية أيضاً جاءت وصلت ركعة واحدة، وسلم الإمام، وبقي على كل طائفة ركعة، فعلى كل طائفة أن تأتي بالركعة التي بقيت عليها، ولكن ليس في وقت واحد، بل على التعاقب، والأولى أن الطائفة التي وراء النبي صلى الله عليه وسلم تتم لنفسها أولاً، ثم تتم الأخرى لنفسها في مكانها، والله تعالى أعلم. قال: [فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين] . يعني: أتم الركعة الثانية.

الصفة الثالثة لصلاة الخوف

الصفة الثالثة لصلاة الخوف قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وأقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه فذكر الحديث) وفي رواية: (ثم سجد وسجد الصف الثاني) ] . الصورة التي أشرنا إليها قبل الصفة الثانية جاءت الآن في حديث جابر. قوله: (والعدو بيننا وبين القبلة) ، يعني: صاففناه وواجهناه واستقبلنا القبلة. قوله: (فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً) أي: الصفان كبرا جميعاً. قال: (ثم ركع وركعنا جميعاً) أي: ركع فركع الجميع، فالصفان ركعا معه؛ لأن العدو أمامهم. قال: (ثم رفع من الركوع ورفعنا جميعاً) قال: (ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه) أي: لما سجد سجد صف واحد، ففي القراءة والركوع والرفع من الركوع الصفان متساويان؛ لأنهم في ركوعهم وفي رفعهم في حراسة، لكن لما جاء وقت السجود سجد والصف الذي يليه، والصف الثاني بقي قائماً للحراسة. قال: (وأقام الصف المؤخر في نحر العدو) أي: الصف المتأخر قام حارساً. قال: (فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه فذكر الحديث) أي: فلما سجد السجدتين وقام للثانية. وقوله: (وذكر الحديث) يعني: أن الصف الذي سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخر مكان الصف الذي كان في الحراسة، والصف المتأخر الذي كان في الحراسة تقدم وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ وركع فركعوا جميعاً، ورفع فرفعوا جميعاً، وعندما سجد عليه الصلاة والسلام سجد الصف الذي يليه الذي كان في الحراسة في الركعة الأولى. (وفي رواية: ثم سجد وسجد الصف الأول) هذا صحيح. [فلما قاموا سجد الصف الثاني وذكر مثله، وفي أواخره: ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً. رواه مسلم] . لأن كلاً قد أتم ركعتين خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقط التفاوت في حالة السجود. قال رحمه الله: [ولـ أبي داود عن أبي عياش الزرقي، وزاد: إنها كانت بعسفان] . هذا ليبين تاريخ مشروعية صلاة الخوف، وصلاة الخوف اختلف في تاريخها، فجاء أولاً أنها في ذات الرقاع، وجاء أنها في عسفان، وعسفان في عمرة الحديبية، ويذكرون خبراً بأن خالد بن الوليد يقول: صاففناهم- أي: المسلمين-، ثم صلوا صلاة الظهر، فقلنا: لو غافلناهم -يعني: في صلاة الظهر-، فقيل: إنها ستأتيهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أموالهم وأولادهم، فنغدر بهم فيها، فجاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فكر فيه المشركون، فأقام صلاة الخوف، وأوجد الحراسة في الصلاة. فصلوا الظهر بدون صلاة الخوف، والعدو انتبه، فلما انتبه العدو وانتظر أن تحين الفرصة في الصلاة التي تليها جاء جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى العصر على حالة صلاة الخوف التي فيها الحراسة. قال: [وللنسائي -من وجه آخر- عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم] . هذه الصورة من صور صلاة الخوف، وهي أيسر ما تكون، فقد قسمهم طائفتين طائفة تجاه العدو وطائفة معه، فصلى بالطائفة التي معه ركعتين، وسلم وسلموا، ثم لما سلموا ذهبوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة وصلى بهم مرة أخرى ركعتين، فصلى مرتين مرة بالطائفة الأولى، ومرة بالطائفة الثانية، وكل طائفة صلت مرة واحدة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرتين، والفريضة لا تكرر، فتكون الأولى فريضة والثانية نافلة. ومن هنا قال الشافعي: يصح اقتداء المفترض بالمتنفل. مع أن قضية المفترض والمتنفل جاءت أيضاً في قصة عثمان في صلاته في أهل قباء، لكن هنا كانت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: [ومثله لـ أبي داود عن أبي بكرة] .

الصفة الرابعة لصلاة الخوف

الصفة الرابعة لصلاة الخوف قال رحمه الله: [وعن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهولاء ركعة، وبهولاء ركعة، ولم يقضوا. رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] . هذه صورة جديدة أيضاً، حيث قسمهم صفين، فصلى بالذين خلفه ركعة واحدة، وذهبوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى وصفت خلفه، وصلى بها ركعة واحدة، وسلم وسلموا. يقول: [ولم يقضوا] . ففي الصورة الأولى قضوا الركعة الباقية كل في مكانه، وهذه الرواية ليس فيها قضاء، حيث اكتفى كل بركعة، فهذه صورة جديدة. وبعضهم يقول: كيف تجزئ ركعة؟ فنقول لهم: لأن الصلاة في السفر تقصر إلى ركعتين، وصلاة السفر تقصر في الخوف إلى نصفها، فتبقى ركعة واحدة، وهذا ما رجحه والدنا الشيخ الأمين في أضواء البيان، والله تعالى أعلم. ويهمنا إدراك الصور التي ساقها المؤلف رحمه الله. قال: [ومثله عند ابن خزيمة عن ابن عباس رضي الله عنهما] .

الصفة الخامسة لصلاة الخوف

الصفة الخامسة لصلاة الخوف قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان) رواه البزار بإسناد ضعيف] . المؤلف عندما ساق الكيفية السابقة وفيها غرابة، حيث تكتفي كل طائفة بركعة واحدة جاء يؤيد هذه الكيفية بهذه الرواية. فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان) هذه صفة جديدة، حيث يصليها كل واحد منفرداً على أي وجهان، فلا قبلة، ولا ركوع ولا سجود إلخ، وكيف تؤدى هذه الكيفية؟ يقول ابن حجر وغيره: إنما هو الذكر والإيماء. فهذا الخبر جاء به المؤلف عقب ذكره اكتفاء الطائفتين بركعة واحدة ليؤكد ويستدل على هذه الصفة، وفيه زيادة: (على أي وجه كان) ، وليس في هذه الصورة وجود طمأنينة ولا ركوع ولا سجود، بل يشعر أنه في حالة الحركة الدائبة والكر والفر في الميدان، فتكون هذه الرواية مؤيدة للصورة الأولى نوعاً ما. والذي أخذ بهذه الصورة استدل بهذه الرواية، فقال: تصلى ركعة واحدة. والله تعالى أعلم. قال: [وعنه مرفوعاً: (ليس في صلاة الخوف سهو) أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف] . السهو مرفوع في صلاة الخوف حال القتال لأن المقاتل يذهب ويأتي، ويَضرب ويُضرب، وقاتل ومقتول، فما فيها سهو؛ لأنه قد ترك الركن والواجب أصلاً.

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [1] جعل الله يوم العيد يوم فرحة للمسلمين، وشرع لهم فيه الخروج إلى الصلاة رجالاً ونساء، وشرع ليوم العيد آداباً وسنناً، وجعل للمسلم الحق في التوسعة على أهله وعياله مع مراعاة حقوق إخوانه وجيرانه.

ذكر بعض المظاهر والآداب في يوم العيد

ذكر بعض المظاهر والآداب في يوم العيد

سنة خروج عموم نساء المسلمين إلى المصلى

سنة خروج عموم نساء المسلمين إلى المصلى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى) متفق عليه] . حديث أم عطية هذا له عدة جوانب في باب التشريع للصلاة، وفي النواحي الاجتماعية في الإسلام وفي المدينة آنذاك. وهذا الحديث فيه قولها: (أمرنا) ، والآمر هنا معروف؛ لأن الذي يملك سلطة الأمر في ذلك الوقت هو النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض المراجع أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع النسوة في بيت، ثم بعث إليهن عمر رضي الله تعالى عنه، فوقف في الباب، فسلم ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن تخرجن إلى المصلى. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر النسوة أن يخرجن يوم العيد إلى المصلى كما يخرج الرجال، وأم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا مدى عمق وشمول هذا الأمر لجميع النساء حتى العواتق. والعواتق من النسوة: اللاتي لا يخرجن، فهن قاصرات في بيوتهن مخدومات مكفيات مئونة الخروج؛ لأن النسوة على أقسام حسب مراتب الحياء، فهناك امرأة تخرج وتلقى الرجال، وربما باعت واشترت في الأسواق، ومن النسوة من تخرج من بيتها لقضاء حاجتها فقط وترجع، ومن النسوة من لا تخرج حتى من بيتها. وقد قال بعض الشعراء يبين حالة امرأة تزور جارتها: كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحاب بلا ريث ولا عجل فعابت عليه امرأة فقالت: جعلتها خراجة ولاجة، هلا قلت كما قال الآخر: تعتل عن جاراتها فيزرنها أي: تعتل وتعتذر من أن تزور الجيران، وجيرانها يأتين لزيارتها، وهي معتكفة في بيتها، فهذا الصنف من النساء خروجه قليل وثقيل عليه، فالمرأة التي لم تعهد الخروج يكون الخروج ثقيلاً عليها، كما أن المرأة المعتادة الخروج يكون جلوسها في البيت ثقيلاً عليها. فتبين لنا أم عطية بأن الأمر شمل الحيّض، والنسوة غير الحيّض يمكن أن يصلين، وأما خروج الحيض، فقد قالوا -كما في هذا الحديث-: ليشهدن بركة ذلك اليوم، ويشهدن الدعوات بالخير. وناحية أخرى عند العلماء: وهي أن الغرض من إخراج النسوة مع الرجال في ذلك اليوم إظهار كثرة عدد المسلمين أمام العدو، فكأنه استعراض للعدد الموجود عند المسلمين، وآنذاك كانت في المدينة اليهود بقبائلها المتعددة إلى أن انتهى أمرهم في آخر الأمر مع غزوة الأحزاب في السنة الرابعة من الهجرة.

التعاون الاجتماعي يوم العيد

التعاون الاجتماعي يوم العيد هناك مسائل في هذه الحديث، منها ما ذكره البخاري رحمه الله حيث أورد أن الحيض يعتزلن المصلى؛ فهذا جانب فقهي؛ لأنهن لا يصلين، فإذا كانت صلاة العيد في المسجد هل يدخلن المسجد، أم يكن خارج المسجد؟ ومن ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تخرج امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد لا يكون عندها ما تلبسه لتخرج به أمام الناس، ولهذا بعض العلماء يقول: إذا أردتم أن يجلسن في البيوت فلا تلبسوهن ثياباً فاخرة؛ لأن المرأة إذا وجدت ثياباً فاخرة دعاها ذلك للخروج لتفاخر بلباسها، فإذا لم تجد شيئاً فترت نفسها وقعدت. وقد جاء في الأثر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله: أمرت النساء يخرجن، وإحدانا لا يكون لها جلباب تخرج به! والجلباب: هو الشيء الذي فوق الثوب العالي، مثل العباءة ونحوها. فلم يعذرها صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (لتلبسها أختها من جلبابها) فأتانا بتعاون اجتماعي، فمن لم يكن عندها ما تخرج به وأختها عندها زائد من اللباس فعليها أن تعطيها؛ لتشاركها فرحة ذلك اليوم. فمن الناحية الاجتماعية نقول: إن على كل إنسان أن يتفقد جيرانه في العيد، فكما تذهب بصرتك وتأتي بثياب جديدة لأبنائك، وهم سيلبسونها خارج البيت، فانظر إلى أبناء الجيران هل عندهم من ذلك شيء، أم أنهم أيتام ليس هناك من يأتيهم بشيء فتنكسر قلوبهم. إن ألزم ما يكون على الإنسان من باب البر والطاعة، ومن باب المراعاة مراعاة حال هؤلاء في ذلك اليوم، وقد جاء ما هو أبعد من هذا، وهو أن المرأة إذا طبخت وخرجت ريح قدرها فلتغرف لجيرانها، وإذا اشتريت الفاكهة لأبنائك فمرهم أن يدخلوا بها داخل البيت، فإذا خرجوا بها في الشارع فأطعم منها أولاد جيرانك؛ لأنهم رأوها، فإن تأخذها إلى بيتك وتطعم أولادك ولا أحد ينظر فلا مانع، لكن أن يخرجوا بها في الشارع، وينظر إليها أولاد الجيران، وليس عندهم منها شيء، ولا استطاعة لهم على شرائها، فإنك تكون قد كسرت قلوبهم. ففي هذا الحديث من التوجيه الاجتماعي الشيء العظيم، فالمرأة أشد ما تكون بخلاً حين تملك الحلي وأدوات الزينة، وهنا يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعطي أختها، وليست أختها بنت أمها وأبيها، لكن أختها في الإسلام، كجارتها ونحوها.

حكم الضرب بالدف يوم العيد

حكم الضرب بالدف يوم العيد جاء في شأن هذا اليوم ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد وعندي جاريتان للأنصار يغنين بغناء يوم بعاث، ويضربن على الكربال) والكِربال بالكاف المكسورة، وبعض الناس يحرفها فيقول: (الغُربال) ، والكربال: هو الدف الذي لا شناشين فيه، فإذا وضعت فيه شناشين سمي المزهر. قالت: (فدخل أبو بكر علي، فأخذ يلهزني ويعاتبني: أمزامير من مزامير الشيطان في بيت رسول الله؟) . والجواري هنا إما بمعنى مملوكات، أو بمعنى: بنات صغار، فإذا بلغت الجارية تسعاً فهي امرأة، وتطلق الجارية على الفتاة الصغيرة دون البلوغ. وقالت: (فدخل رسول الله فتمدد على فراشه، وغطى وجهه، واستدار عنا) ، وهنا يقال: أسمع ذلك من الجاريتين أم لا؟ أسمع الكربال يضرب عليه أم لا؟ ولكنه سكت صلى الله عليه وسلم، فدخل أبو بكر فعاتب عائشة، فكشف وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر، إن هذا عيدنا) تقول رضي الله تعالى عنها: فلما غفل غمزت إليهما أن انصرفا. فهاتان جاريتان تدخلان على عائشة تغنيان عندها، وفي بعض الروايات: (وليستا بمغنيتين) أي: تحكيان الغناء، وليستا محترفتين للغناء؛ وهذا مثلما يقع في البيوت، فالذي عنده بنات أو حفيدات يوم العيد أو في مناسبة أخرى إذا لم يكن عندهم هذا الكربال يأتون بغيره يدقون عليه ويغنون، وليس هذا من باب احتراف الغناء، ولكن محاكاةً وفرحة وبهجة. فالجاريتان أتتا إلى بيت رسول الله فاستقبلتهما عائشة، وفسحت لهما، فيدخل رسول الله ويشاهد هذا الحدث، وليس هو بالراغب في سماعه، وليس بالممانع من وقوعه، فنام وغطى وجهه، فتغطيته لوجهه دليل على أنه مترفع عن مثل هذا، وكونه على فراشه يسمع دليل على إقراره، أي: أقر ما يكره مما لا يتناسب مع مقام النبوة، ولكنه بحاجة إلى هؤلاء الناس، فأباحه لهذا ولم ينكر عليهم. فأنت -أيها الداعي- كن حكيماً فراعِ شعور الناس، وراع المناسبات، وإذا كان هناك ما تكرهه وأنت مترفع عنه في درجة عالية، فانظر إلى الآخرين، وليكن ذلك بحكمة، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يراع ما راعاه رسول الله، فأنكر المنكر في بيت رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له العلة: (إنه يوم عيدنا ... ) وفي رواية ساقها ابن حجر في فتح الباري أنه قال: (يا أبا بكر! دعهما؛ لتعلم يهود أن ديننا دين السماحة) ، فليس هناك تشدد وغلو إلى أقصى حد، وكذلك ليس هناك انسياب وضياع، فهي مراعاة ليوم واحد في السنة، وليس هناك منكر، وليستا مغنيتين محترفتي الغناء، وإنما هو لعب أطفال في بيت من البيوت، وهذا أمر يغتفر ويسامح فيه. وزد على هذا ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل الأحباش المسجد يلعبون بحرابهم. والأحباش: جمع حبشي، من أهل الحبشة، وأهل الحبشة يحبون الطرب، وكل الأفارقة يحبون الطرب، فأخذوا يلعبون في المسجد بحرابهم. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إما سألني وإما طلبته، وجاء في بعض الروايات قال: (أتحبين أن تري يا عائشة، فقامت وقام معها رسول الله، تقول: وقف خدي على خده يسترني، وأنا أنظر، ثم يقول: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني أرفدة) وهذا لقبهم، ومعنى (دونكم) انتظروا واصبروا. فإذاً: سمح لهم رسول الله، ثم سمح لزوجه أن تنظر إليهم، وقد دعا هذا إلى استغراب شراح الحديث، إذ كيف تنظر إلى الأجانب، وكيف يرضى لها بذلك صلى الله عليه وسلم، والجواب: أن عائشة في ذلك الوقت لم تبلغ خمس عشرة سنة؛ لأنها عقد عليها صلى الله عليه وسلم وعمرها سبع سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات، في أول سنة أو ثاني سنة من الهجرة، وهذا اللعب كان سنة خمس، فلم تكن قد بلغت. وهذا كله لا يلزم ما دام أن الرسول معها وهو يسترها، وسمح لها أن تنظر، فلا حاجة إلى ذلك، فما المانع -لو وجد مثل هذا- أن يسمح الرجال للنساء ما دام هناك ستر وليس هناك اختلاط، فهي في بيتها وفي حجرتها، وهم في المسجد.

حال المسلم مع أهله وإخوانه من المسلمين يوم العيد

حال المسلم مع أهله وإخوانه من المسلمين يوم العيد وقد تكلم العلماء -وخاصة الشافعية- على أن يوم العيد ينبغي أيضاً أن تظهر فيه البهجة للصغار، وأباح بعضهم أن يلبس الصغار من الثياب المصبغة بالألوان -أعني الأولاد الذكور- ولو حلُّوا بالذهب، ولو ألبسوا الحرير؛ لأنهم ليس عليهم تكليف. والآخرون يقولون: التكيف على وليهم، فكيف يلبسهم الحرير، والحرير ممنوع على الرجال؟ ولكن ينبغي أن نعلم أن تحلية الأولاد بالذهب خطأ، ولا ينبغي لنا، سواء أكان بنتاً أم ولداً إلا إذا كانوا داخل البيت لا يخرجون إلى الشارع؛ لأن في تحلية الصبية بالذهب خطر على حياتهم، كما حصل في قضية الجارية مع اليهودي كما سيأتي في الحديث، فقد وجدها في أطراف المدينة في خربة، وعليها أوضاح من ذهب، فرضخ رأسها بين حجرين وأخذ الذهب منها، فأُتيت وهي في الرمق الأخير، وأخذوا يقولون: من فعل بك هذا؟ لكن لم تستطع أن تتكلم، ثم أخذوا يعرضون عليها الأسماء: فلان. فلان. فلان، حتى ذكر اسم يهودي فأومأت برأسها أن نعم، فجيء به فاعترف، فرض رأسه بين حجرين. فسبب قتلها هو الذهب، فبريق الذهب سلب بصره وبصيرته، فقتلها من أجل هذه الأوضاح، ولو كثرت معنا الأموال فعلينا أن نصونها، وإذا جعلنا للطفلة حلياً فليس هناك مانع، وبعض الآباء عندهم عقل، فكل هدية تأتي للطفلة من الذهب يخزنونها إلى وقت زواجها، لكن أن تلبس الذهب وتخرج تنظر يميناً ويساراً هذا خطر عليها، فالعلماء -خاصة الشافعية كما ذكره النووي في المجموع- يقولون: لا بأس أن يجمل الصبيان بالحرير، وبالثياب المصبغة الملونة. ونحن نرى الطفل عمره ثمان سنوات أو سبع ونصف وعليه حلة ضابط برتبة مقدم، وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه، لكن من باب الزينة ومن باب التجميل وتفريح الأولاد؛ لأن يوم العيد يجب أن تكون فيه سعة، ويجب أن يكون فيه إدخال السرور على الجميع، ويجب أن يكون فيه توسعة على العيال. وكما قلنا: مع مراعاة حقوق الجوار، فلا توسع على نفسك وأولادك وفي بيتك، وبجوارك أيتام جياع لا يجدون كسرة، ووالله لو لم يأت دين ولم تأت سنة في ذلك، لكانت المروءة والإنسانية توجبها. وقد روي أن عروة بن الزبير كان كريماً جداً، وكان في سفر ومعه غلام، فانقطعا في ليلة وضلا عن الطريق، فرأيا ناراً فقصداها، فإذا بعجوز وشيخ كبير وبيت من الشعر، فحياهما، ثم دخل الشيخ على العجوز وقال لها: ما عندك لضيفنا؟ قالت: والله ليس عندي إلا تلك الشاة التي تسقي حليبها ابنتك، ولا تأكل شيئاً إلا حليبها. فقال: اذبحيها للضيف، قالت: أتقتل ابنتك؟ قال: لابد من ذبحها، فذبحها وأطعم الضيوف! وفي الصباح قال عروة لغلامه: هل بقي معك شيء؟ قال: نعم، معي ألف دينار، قال: ادفع خمسمائة للرجل، قال: خمسمائة وشاته تساوي نصف دينار! قال: ويحك، إنه أكرم منا، قال: كيف؟ قال: لقد أكرمنا بما فيه حياة ابنته، أما أنت فتكرمه بنصف ما معك، فهو والله مع ذلك أكرم منا. وهذا يؤيد ويوضح لنا ما كنا نستكثره في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف هذا يا رسول الله؟ قال: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) ، فصاحب الدرهمين أكرم؛ لأن صاحب الدرهين تصدق بـ (50%) من رأس ماله، وصاحب المال الكثير تصدق بأقل من ذلك من رأس ماله، وبقى له شيء كثير جداً، فدرهم أكرم وأجود وأعظم صدقة من مائة ألف درهم. فمن التوسيع في يوم العيد أن تُلبس المسلمة أختها جلبابها إذا كانت لا تملك ولا مانع، وقد ذكر لي أنه في زمان كان الرجل يستر قريبته بكيس السكر أو الأرز من الفقر، وكان رجل عنده ثوب، فكل امرأة لها حاجة تأتي وتستعير ثوبه، حتى أصبح مشهوراً، فتذهب به إلى حاجتها وترجع، وهذا من التعاون، فيجب على الموسر أن يفيض على المعسر، والواجد يجب أن يفيض على من لم يجد، ولا ينبغي أن ينسى الإنسان إخوانه، وقد قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل فالغني لا يدري متى يعيل ويفتقر، والفقير لا يدري متى يغنيه الله وقيل: وما تدري وإن زمرت ثقباً يكون لك أو لغيرك الفصيل فإذا أنتجت الناقة عندك، ونظفت ولد نتاجها عند ولادته واعتنيت به، فإنك لا تدري أيكون لك، أم تتركه ويكون لغيرك. فعلينا أن نتفقد أحوالنا في أيام العيد، وليس في العيد فقط، فالعيد نموذج ومظهر عام، فعلينا التفقد في جميع أحوالنا وفي جميع أوقاتنا، والتوفيق من الله.

مكان صلاة العيد والأفضل فيه

مكان صلاة العيد والأفضل فيه وحديث أم عطية الذي بيْن أيدينا فيه أن الخروج كان إلى المصلى، وقد جاء في فتح الباري عن زيد بن ثابت أنه سئل -وكذلك رواية ابن عباس -: أتعرف العلم الذي كان في المصلى؟ قال: نعم، عند دار فلان بن الصرد، والآن مسجد الغمامة يقال له -أيضاً-: مسجد المصلى، فمصلى العيد كان هناك. فكان صلى الله عليه وسلم يخرج بالناس إلى ذلك المكان لسعته، ويصلي العيد هناك، ووردت كلمة العَلَم لكون أمية بن الصلت كان قد وضع منبراً، أو وضع علماً هناك؛ لأن بيته كان قريباً منه. فوضع العلم لمكان مصلى رسول الله فيه حفظاً للأثر، قالوا: لم يكن هناك منبر؛ لأن المنبر ما بني أو صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وضع في المسجد النبوي منبر إلا في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ذلك كان يخطب متكئاً على الجذع. قال بعضهم: ما بين باب المسجد إلى موضع منبر رسول الله من مصلى العيد ألف ذراع. وبعد ذلك جاءت خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره لصلاة العيد موضع منبر رسول الله تأدباً مع رسول الله، فأخذ ميمنة، فمسجد أبي بكر على ميمنة مسجد الغمامة، ثم جاء عمر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره موضع منبر رسول الله، ولا موضع منبر أبي بكر، ولابد له أن يتحول، فإن ذهب وراء أبي بكر بعد كثيراً عن مصلى رسول الله، فجاء إلى اليسار مقابل أبي بكر. ولذا يجد من ورد هذا المكان أن هناك هذه المساجد، مسجد المصلى، ومسجد أبي بكر، ومسجد عمر، ولم يكن لـ أبي بكر ولا لـ عمر رضي الله تعالى عنهما أن يتخذا لأنفسهما مسجداً ويتركا مسجد رسول الله، ولكن بعد مائة سنة جاء عمر بن عبد العزيز وكان أميراً على المدينة لبني أمية، فوضع مكان ذلك المعلم، ومواقع مصلى أبي بكر وعمر ما يشبه المسجد حفاظاً على المكان، ثم تطور بعد ذلك، فما يسمى الآن بمسجد أبي بكر ومسجد عمر لا يصح أن يظن أحد أن أبا بكر وعمر يتخذان مصلى ومسجداً ويتركان مسجد رسول الله. وبناءً على هذا فالأصل خروج الناس إلى الخلاء لصلاة العيد؛ لأن الخلاء فيه سعة، فيسع الرجال والنساء والصبيان، والمبحث في هذا سيأتي لمناسبة في نهاية الباب حيث كانوا في حالة مطر فصلى بهم رسول الله في المسجد النبوي. ومن هنا يقول العلماء: إذا كان المسجد يسع الرجال والنساء والصبيان، فالأفضل أن تكون الصلاة في المسجد؛ لأن بقعة المسجد خير من بقعة المصلى، ولهذا قالوا: أهل مكة وأهل المدينة يصلون في مسجديهم ولا يخرجون منهما. وأما بقية المدن وبقية القرى فيكون لها مصلى يسع الرجال والنساء حينما يخرج الجميع لصلاة العيد، فـ أم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا بأن ذلك بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وراء ذلك من الحكمة ما جاء النص عليه: (يشهدن بركة ذلك اليوم) فهؤلاء العواتق يخرجن، يوماً في السنة، وكذلك الحيض يشاركن في دعوة الخير، ويحصلن دعوة الخير ويرجعن إلى بيوتهن، والله سبحانه وتعالى أعلم.

أحكام تختص بها الحائض

أحكام تختص بها الحائض وأما اعتزال الحيض فلأنهن لا يصلين، وكأن أم عطية تقول: الحائض لا تدخل المسجد، وهذا واحد من عشرة أو اثني عشر حكماً تتعلق بالحيض، فالحيض يمنع المرأة من عدة أشياء، فبعضهم ذكر أنها عشرة، وبعضهم ذكر أنها اثنا عشر، وبعضهم ذكر أنها خمسة عشر. أما المكث في المسجد فممنوع؛ إذ قد أجمعوا على منع الحائض من المكث في المسجد. وأما مرورها إن كانت لها حاجة، فقد استدلوا له بحديث عائشة رضي الله عنها -وغيرها من أمهات المؤمنين- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال لها: (ناوليني الخمرة) وهو في المسجد -والخمرة: شيء يشبه السجادة من خوص النخل- فقالت: إني حائض، قال: (حيضتك ليست بيدك) وهذا بخلاف الأحناف القائلين: الحيضة حلت في اليد فلا تمس المصحف. والذي يهمنا أنها جاءت بالخمرة ودخلت وناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالوا: مجرد العبور جائز إن وجدت حاجة، فلو أن الحائض تمشي في الطريق ولحقها ما يؤذيها، ولم تجد فراراً إلا إلى المسجد فدخلت المسجد، وخرجت من الباب الثاني فلا مانع. وأما حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) فقد اتفق العلماء على أن الشخص إذا أجنب وكان الماء في المسجد كما هي حالة الناس سابقاً، فله أن يدخل ليأخذ ماءً من بئر المسجد ليغتسل، إذا لم يجد غيره. فمما يمنع منه الحيض ما سبق. وكذلك يمنع الوطء؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، وكذلك يمنع الصلاة، وبعضهم يناقش هنا فيقول: هل يمنع الحيض فعل الصلاة، أو يرفع وجوب الصلاة؟ وهذه ناحية أصولية ليس لنا شغل بها، وأحسن من ناقشها الباجي لمن يريد أن يرجع إليه، فيمنع فعل الصلاة ولا تصح منها، وهي آثمة إن تعمدت فعلها، وكذلك صحة الصوم، والمباشرة فيما دون الفرج على خلاف، وحمل المصحف ومسه، وقراءة القرآن -وهذه عند المالكية فيها نقاش- والطلاق، والاعتكاف، فكل ذلك تمنع منه الحائض بسبب الحيضة، وأم عطية رضي الله تعالى عنها هنا إنما نصت على اعتزال المصلى. فهذا الحديث فيه جوانب عديدة، ولعل ما أوردناه فيه الكفاية، وبالله تعالى التوفيق. وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النسوة ومعهن الحيض، يشعر بمغايرة معاملة الحائض في الإسلام عما كانت عليه من قبل، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يعاشروها، ويخرجونها من محلها إلى محل تنزوي فيه، حتى الإناء الذي تأكل فيه ما كانوا يأكلون فيه، والقدح الذي تشرب منه لا يشربون منه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، حتى قال اليهود: هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا ويريد أن يخالفنا فيه. فهنا تخرج مع الجميع، ولا تنعزل في بيتها، ولا تنعزل عن أهل بيتها ومخالطتهم، بل تخرج مع عموم نسوة المسلمين إلى المصلى، وتشهد بركة ذلك اليوم، وتشارك في الدعاء؛ لأن الحائض وإن منعت من قراءة القرآن لكنها لا تمنع من الذكر والتحميد والتسبيح، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء والاستغفار، فهي تشارك في هذا كله، كما قال لـ عائشة: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ، والحاج يلبي ويذكر ربه.

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [2]

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [2] من الأحكام المتعلقة بصلاة العيدين تقديم الصلاة فيها على الخطبة، والتكبيرات في الصلاة وعددهن، والسور التي تسن القراءة بها في الصلاة، والخطبة وما تشمل عليه، إلى غير ذلك مما شرحه الشيخ في هذه المادة.

صفة صلاة العيدين

صفة صلاة العيدين

تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد

تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) متفق عليه] . قبل الكلام على الحديث ينبغي أن يعلم أن الاغتسال للعيد سنة، فيغتسل الإنسان للعيد كما يغتسل للجمعة، قالوا: إن الأحاديث في غسل الجمعة أشد تأكيداً منها في العيد، ولكن السبب مشترك، وهو اجتماع الناس في يوم عيد والجمعة، فألحقت الجمعة بالعيدين وسميت عيداً. وأما متى يغتسل؟ فقالوا: من الفجر إلى صلاة العيد. وبعض المالكية قالوا: لو اغتسل قبل الفجر فلا مانع من ذلك. والشافعية قالوا: ولو بعد منتصف الليل؛ لأنه يحتاج إلى إخراج الزكاة والذهاب إلى المصلى، فلو أخر الاغتسال إلى ما بعد صلاة الصبح فقد ينشغل ويتأخر عن الحضور إلى المصلى. وأما الحديث هنا ففيه أنه كان صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من بعده، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من بعد أبي بكر -أي: الشيخان- يصلون العيد قبل الخطبة، فالخطبة بعد الصلاة. والمؤلف يأتي بهذا ليبين الواقع، وليرد على ما أحدثه بعض الأمويين في المدينة، حيث كان عاملاً لـ معاوية فخطب قبل الصلاة، فقام أبو سعيد الخدري وقال: والله لقد غيّرت. كان رسول الله وأبو بكر وعمر يصليان قبل الخطبة! قال: يا أبا سعيد: الأمر لا كما تعلم. قال: والله ما أعلمه خير مما تعلمه. فقال: يا أبا سعيد! إن الناس كانوا ينتظرون الخطبة بعد الصلاة زمن رسول الله، وأبي بكر وعمر، فأصبحوا بعدهم لا ينتظرون، فإذا قضوا الصلاة نفروا وذهبوا. وقيل: إن أول من غيّر وقدم الخطبة معاوية، وكان هؤلاء عماله في الحجاز -أي: في المدينة ومكة- فتبعوا معاوية وقدموا الخطبة؛ لأن الناس ملزمون بالبقاء للصلاة، على مذهب من يرى أن صلاة العيد فرض عين، وهناك من يرى أنها فرض كفاية، وقيل: هي سنة. فالمؤلف رحمه الله ذكر لنا هذا الأثر ليبين لنا السنة النبوية في أن الصلاة أولاً، كما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم خرج وقال: (أول عمل لنا هذا اليوم الصلاة) أي أن الخطبة بعدها، ويذكر ابن حجر أيضاً وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلى استقبل الناس، وقال: سنخطب، فمن أراد أن يجلس فليجلس، ومن أراد أن يذهب فليذهب. إذاً: فالأصل في الخطبة والصلاة في العيد أن تكون الصلاة أولاً، ثم بعد ذلك الخطبة، والخطبة تكون للمواعظ والإرشاد والتوجيه، فبعض الناس يجلس يستمع إليها، وبعض الناس يذهب عنها.

حكم صلاة العيد وعدد ركعاتها

حكم صلاة العيد وعدد ركعاتها [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) أخرجه السبعة] . ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هنا بيان عدد ركعات العيدين، وسيأتي بعد ذلك بكيفية صلاتهما من حيث التكبيرات والقراءة، فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ركعتين، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه في أثر يرويه أو يسوقه العلماء: (صلاة السفر ركعتين، وصلاة الجمعة ركعتين، وصلاة العيد ركعتين، تمام بلا نقصان) . فالأصل الثابت في صلاة العيدين أنهما ركعتان. ولكن المستدرك هنا في حق من فاته العيد، فهل يصلي عيداً؟ وكم يصلي؟ فقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لما خرج لصلاة العيد في المصلى، قيل له: إن هناك أناساً عجزة -أي: يشق عليهم الخروج مع الناس إلى المصلى- فاستخلف من يصلي لهم، قال: (لو استخلفت لأمرت أن يصلي أربع ركعات) . وقبل الشروع في الغرض ينبغي أن يعلم أن من فاتته صلاة العيد إن شاء صلى وإن شاء ترك، فهو إن شاء صلى هناك، وإن شاء رجع إلى المسجد، وإن شاء ترك الصلاة بالكلية؛ لأن صلاة العيدين ليست فرض عين، خلافاً لمن يقول بذلك، وأشد من يتشدد في ذلك الأحناف، فيرون أنها واجبة، والواجب عندهم غير الفرض، فالفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل آحادي، وبقية العلماء يقولون: هي فرض كفائي، ولو تركها أهل قرية لقاتلهم الإمام عليها. ومنهم من قال: هي سنة مؤكدة، كما يقول الشافعية.

ما يفعله من فاتته صلاة العيد

ما يفعله من فاتته صلاة العيد ويبحثون فيمن فاتته لعذر أو لغير عذر إذا أراد أن يتدارك ذلك. فمنهم من يقول: يصلي. والآخرون يقولون: إن شاء ترك ولا شيء عليه؛ لأن الواجب قد أدي بغيره. والقائلون: إنه يصلي يختلفون، فمنهم من يقول: يصلي ركعتين، ومنهم من يقول: يصلي أربعاً، ويستدلون بحديث علي المذكور، وهو موقوف عليه، وقياساً -وإن كان القياس فيه نقاش- على الجمعة، فإن فاتته الجمعة يصلي أربعاً، ولكن هل الأربع هذه بدل الجمعة، أم الأربع هي الظهر؟ والجواب: الأربع هي الظهر، فلا علاقة لها بالجمعة. وجاء في الحديث: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ؛ لأنه أدركها مستكملة شروط الجمعة في مسجد، ومع الإمام في جماعة، وفي وقتها، (ومن لم يدرك ركعة فليصل أربعاً) ، فمن لم يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك الإمام بعد الاعتدال من الركعة الثانية بعد أن يرفع ظهره، فعليه أن يصلي أربعاً، وإن كان عند الأحناف أن من أدرك أي جزء من الركعة الثانية فإنه يصلي ركعتين، فإذا أدرك الإمام وهو في التشهد، وكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم الإمام فإنه بعد سلام الإمام يأتي بركعتين فقط، والأئمة الثلاثة يقولون: إذا لم يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك ركوعها فإنه يأتي بأربع، فلو جاء والإمام قد رفع رأسه وقال: (سمع الله لمن حمده) ، فوقف في الصف وكبر فعليه أن يأتي بأربع؛ لأنه لم يدرك ركعة كاملة. فقال البعض: من فاتته صلاة العيد يصلي أربعاً، قياساً على من فاتته الجمعة. ولكن يجاب عن هذا بأن القياس كائن مع الفارق؛ لأن من فاتته الجمعة انتقل إلى فرض آخر وهو الظهر، والظهر أربع، والأربع التي يصليها ليست عوضاً عن الجمعة، إنما هي فرض مستقل بذاته، وهنا يأتي المؤلف ليبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، ولذا فالجمهور على أن من فاتته صلاة العيد وأراد أن يصلي فإنه يجزئه أيضاً ركعتان، سواءٌ أصلاها في المصلى أم ذهب إلى المسجد، أم صلاها في بيته، فكل ذلك يجزئه، والأمر فيه سعة. والله تعالى أعلم. ومما يتعلق بمن فاتته صلاة العيد أنه إذا كان معه آخرون هل يصلون جماعة أم فرادى؟ وهل يأتون بالخطبة كما جاء بها الإمام في صلاة العيد في المصلى أم لا؟ والجواب عند العلماء أنهم إن كانوا قليلين لا تقوم بهم الجمعة، أو كانوا متخلفين أشتاتاً، وأرادوا أن يصلوا صلاة العيد، أو يقضوا صلاة العيد فلا يعيدون الخطبة، ولو أن الإمام خرج إلى المصلى وهناك من ضعفة الناس من استخلف لهم ليصلي بهم فإن المستخلف لا يعيد الخطبة، فيصلي بلا خطبة؛ لأن الخطبة أساساً مع الإمام، وهؤلاء ليس لهم عيد مستقل، إنما هم أهل أعذار يصلون عوضاً عما فاتهم مع الإمام؛ لأنهم لو تركوا الصلاة بالكلية فليسوا آثمين؛ لأن صلاة العيد ليست فرضاً عينياً كالظهر والعصر، وغاية ما تكون أنها فرض كفائي، والفرض الكفائي قد أدي بمن خرج مع الإمام، وعلى هذا فمن فاتته صلاة العيد، وأراد أن يصلي فليست عليه خطبة، سواءٌ أكان وحده أم كان معه جماعة.

لا أذان ولا إقامة في صلاة العيد

لا أذان ولا إقامة في صلاة العيد [وعنه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة) . أخرجه أبو داود، وأصله في البخاري. ] . هذا الحديث يتعلق بهيئة وكيفية وآداب صلاة العيدين، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد -والعيد هنا اسم جنس يراد به العيدين، أي: عيد الفطر أو الأضحى- بلا أذان ولا إقامة. وبالتأمل نجد أن كل صلاة لم يشرع لها أذان إلا الصلوات الخمس، فصلاة الاستسقاء ليس فيها أذان، وصلاة الكسوف ليس فيها أذان، والتراويح والجنازة والصلوات العامة التي تؤدى فرادى وجماعة لم يشرع لها أذان.

قصة مشروعية الأذان في الإسلام

قصة مشروعية الأذان في الإسلام الأذان من خصائص الصلوات الخمس، وكانوا في بادئ الأمر يعلم بعضهم بعضاً حينما يأتي وقت الصلاة، ويخرج المبكر ويمر على بيوت الآخرين في الطريق يقول: جاء وقت الصلاة، والثاني من جهة، والثالث من جهة، ثم كثر الناس وثقل هذا الأمر، فاجتمعوا ليختاروا وسيلة إعلام بدخول الوقت، فقوم اقترحوا الناقوس، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا للنصارى، وقوم اقترحوا البوق، فقال: هذا لليهود، وقوم اقترحوا أن يشعلوا ناراً، فقال: هذا للمجوس. ثم افترقوا ولم يتفقوا على شيء، وإذا بـ عبد الله بن زيد يرى في منامه أنه رأى رجلاً يلبس بردين أخضرين يحمل ناقوساً على كتفه -وفي بعض الروايات: عوداً على ظهره- قال: أتبيع هذا الناقوس؟ قال: ماذا تفعلون به؟ قال: نؤذن به للصلاة قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تقولون: (الله أكبر) أربع مرات، ثم ذكر ألفاظ الأذان كاملة، ثم تنحى عنه، ثم قال: ثم تقولون: (الله أكبر الله أكبر) وذكر الإقامة كاملة، فاستيقظ وجاء فرحاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه ما رأى، فقال: إنها رؤيا صدق، قم فألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً، فقام بلال يؤذن وقت الصلاة، فإذا بـ عمر يأتي يجر رداءه مسرعاً فقال: يا رسول الله! والله لقد رأيت مثلما سمعت، رأيت في النوم مثل هذا الذي سمعته من بلال! قال: قد رأى عبد الله مثل ذلك. وقد يقال: إن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة وهي فريضة وركن الإسلام الأكبر، والرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي ليلاً ونهاراً، فكيف لا ينزل عليه الوحي ويترك ليراه صحابي في النوم! مع أن الوحي قد جاءه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة وفي نعليه أذى ليقول له جبريل: اخلع نعليك يا محمد؛ فإن فيهما أذى، فكيف لا يأتيه بالأذان؟ والذي يبدو لي أن هذا هو عين الحكمة؛ لأن الأذان فيه أعظم منقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم شرف ومكانة، وذلك حين يقرن اسمه صلى الله عليه وسلم بـ (لا إله إلا الله) ، فيقول المؤذن بأعلى صوت: (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله) فلما كان فيه تكريم لرسول الله إلى هذا الحد ترك المجيء به عن طريق الوحي إلى أن يراه شخص من الناس، فيقول: رأيت فيما يرى النائم. ويذكر الأذان. فحينما يُعلم بهذا على المنائر لا يمكن لمنافق رغم أنفه أن يأتي ويقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يمدح نفسه على المنائر فيقرن نفسه مع (لا إله الله) ، فالوحي تخلى عن ذلك وتركه حتى يأتي لفظ الأذان مشروعاً على لسان رجل من عامة الناس. وليس التشريع لرجل من عامة الناس! ولكن لما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها لرؤيا حق) فأقرها، وحينما قال: (رؤيا حق) دخلت بذلك في التشريع، فنقول: شرعها رسول الله. أي: صادق عليها. فكان الأذان أساساً لإعلام الناس وهم متفرقون في بيوتهم للصلاة، ولكن يوم العيد ليس الناس فيه بحاجة إلى من يناديهم، فكلهم مجتمعون منذ الصباح، فقد مضت أيام وهم ينتظرون مجيء العيد، فهم متواعدون على الاجتماع قبل أن يأتي وقته، فلا حاجة إلى هذا النداء، وهذا أمر. والأمر الثاني وهو أدق -أن المؤذن ينادي ويقول: (حي على الصلاة) ، ومعنى ذلك: أقبلوا يا سامعين، فيتعين على كل من سمع أن يقبل، وصلاة العيد لا تتعين على كل من يسمع. إذاً: فلما لم تكن صلاة العيد متعينة لم يكن النداء عاماً يشمل الجميع، وعلى هذا كانت صلاة العيدين في واقع أمرها في غنى عن أن يشرع لها أذان أو إقامة.

هل ينادى لصلاة العيد بغير الأذان؟

هل ينادى لصلاة العيد بغير الأذان؟ وأما المناداة بما فيه تنبيه للناس فبعضهم يقول: لا مانع أن نقول: الصلاة الصلاة، ولكن لا حاجة لذلك؛ لأن في العيدين إشعاراً أكبر، وهو سنة التكبير، فالتكبير للعيدين من شعائر الإسلام، ويكبر لصلاة عيد الفطر من غروب شمس آخر يوم من رمضان، فالليلة التي هي ختام أيام رمضان محسوبة من شوال، فيبدأ التكبير من غروب شمسها، فالنداء من قبل من الليل، فيكبر الناس في الطرقات، وفي المسجد، وفي البيوت، وفي كل مكان، فلا حاجة أيضاً إلى النداء إليها، ويستمر التكبير حتى يخرج الإمام ليعلو المنبر ويخطب. وفي عيد الأضحى يبدأ التكبير من عشية يوم عرفة، ولكن يستمر إلى نهاية أيام التشريق الثلاثة؛ لأنها أيام عيد أيضاً، أو تبع للعيد، فيستمر التكبير فيها، وبعضهم يقول: يترك التكبير، أو تترك التلبية عند رمي جمرة العقبة، ثم هو بالخيار، فيسبح، أو يحمد، أو يكبر، أو يهلل. فالعيدان في غنىً عن الأذان، وفي غنىً عن أي إشعار آخر؛ لأن الأذان للإعلام؛ ولإخبار الناس المتفرقين، وهم عالمون ومجتمعون، فلا حاجة إلى الأذان.

كيفية التكبير في العيدين

كيفية التكبير في العيدين والتكبير يكون فرادى ويكون جماعة، ومعنى (جماعة) أن يكون الجميع في وقت واحد يقولون: (الله أكبر الله أكبر) ، ويكون بالدور، فقوم يكبرون والآخرون يرددون تكبير هؤلاء القوم، وربما سمعنا، أو نشرت الصحف قول بعض من يعترض ويمتنع، بل هناك من تقدم إلى المحراب، وأخذ وآلة تكبير الصوت من يد الذي يكبر وقال: هذه بدعة. وهذه والله جرأة، ولا ينبغي هذا أبداً؛ فالتكبير بالتدوير موجود في الزمن السابق، ويذكر العلماء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان يكبر منذ أن يخرج من بيته إلى المصلى والناس يكبرون بتكبيره، وعمر كان يكبر في منى وهو في مكانه، ويسمع الناس تكبيره فيكبرون بتكبيره حتى ترتج منى بالتكبير. فالتكبير بالدور لا مانع منه، والتكبير بالصيغ المعروفة التي ألفها الناس وورد النص بها، وترديدهم هذا التكبير في أنفسهم، أو بصوت يسمعه الآخرون، لا مانع منه.

حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى أو في المسجد

حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى أو في المسجد [وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) . رواه ابن ماجة بإسناد حسن] . الصلوات الخمس كل صلاة منها لها نافلة قبلها أو بعدها، أو قبلها وبعدها، وهذه تسمى الرواتب، أو النافلة الراتبة، فللصبح ركعتان قبلها، وللظهر قبلها وبعدها ركعتان وركعتان، أو أربع وأربع، وللعصر قبلها أربعٌ، وللمغرب بعدها ركعتان، ويستحب أيضاً ركعتان قبل المغرب، لحديث: (صلوا قبل المغرب ... ) والعشاء لها ركعتان بعدها. فهذه نوافل راتبة مع الصلوات الخمس، واختلف في الجمعة: هل لها نافلة راتبة قبلها أم لا؟ فبعضهم يقول: راتبتها قبلها هي راتبة بديلة عن التي قبل الظهر، ولكن جاء الحديث: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر ثم صلى ما كتب له ... ) الحديث، فليس هناك عدد معين قبل الجمعة، أما بعدها فهناك حديث: (إن شاء صلى بالمسجد أربعاً، أو صلى بالبيت اثنتين) ، فبعضهم يقول: هذه راتبة الجمعة، والتحقيق أنها ليست راتبة كراتبة الصلوات الخمس؛ لأن الحديث قبلها: (وصلى ما تيسر له) أي: ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو أكثر من ذلك. وعدد رواتب الصلوات الخمس جاء فيها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: (حفظت عن رسول الله اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على اثنتي عشرة ركعة ضمنت له الجنة) . وأما العيدان فيقول العلماء: إن كان سيصلي الإمام بالناس في المصلى فلا صلاة، فيأتي ويجلس، وليس للإمام أن يأتي قبل وقت الصلاة، وإنما يأتي من مكانه، ويخرج على الناس حينما يحين وقت الصلاة، ويبدأ بالصلاة حالاً. وإذا كان مكانه بعيداً ويريد أن يأتي مبكراً فلا يأتي إلى مكانه الذي سيصلي فيه، بل يجلس جانباً وحينما يحين وقت الصلاة يأتي إلى مصلاه، فليس هناك سنة قبل الصلاة في المصلى. وأما إن كانت صلاة العيد في المسجد فبعضهم يقول: لا صلاة؛ لأن الرسول كان يصلي العيد مباشرة، ولا يصلي قبلها. فقالوا: عند المجيء إلى العيد ليس هناك صلاة. وبعضهم يقول: ما دام العيد في المسجد فمن جاء إلى المسجد فعليه تحية المسجد، فإن كانت صلاة العيد في المصلى فباتفاق أنه لا صلاة قبلها ولا بعدها، وإن كانت صلاة العيد في المسجد فهناك الخلاف، فمن يقول: الحكم مطرد يقول: ليس لها صلاة قبلها ولا بعدها، وهناك من يقول: هذا حق في جانب وهذا حق في جانب آخر، فلو جئت بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فليس هناك صلاة تحية ولا غيرها، وإن جئت بعد بزوغ الشمس، والإمام تأخر فلم يأت بعد، فإنك تؤدي تحية المسجد. والحديث هنا أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء لصلاة العيد لا يصلي قبلها ولا بعدها، ولكن إذا رجع إلى بيته صلى ركعتين، فإن شئت فعلت كذلك، اقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فصليت ركعتين، والمهم عندنا في هذا الباب فقهه، وهو أنه ليس هناك نافلة راتبة للعيد قبله ولا بعده.

ما يفعله الإمام بعد الصلاة وهيئة المستمع للخطبة

ما يفعله الإمام بعد الصلاة وهيئة المستمع للخطبة [وعنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه. ] . في هذا الحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، والخطبة بعد الصلاة، وفيه أنه كان ينصرف من مكانه الذي كان يصلي فيه، فكان يصلي مستقبل القبلة، ثم ينصرف عن القبلة إلى المصلين والناس على صفوفهم جالسين فيعظهم ويأمرهم وينهاهم بالإرشاد والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يراه مناسباً، والموعظة من أساس الخطبة، سواءٌ كانت هذه الموعظة وهذا الأمر هو الخطبة أم غير ذلك، فإن الوعظ وقع بعد الصلاة. وهذا حديث طويل اختصره البخاري، وتتمته أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلى خطب الناس بما فيه الموعظة، وبما فيه الأمر، وبما فيه النهي، والناس على صفوفهم وهو مستقبل الناس، فسنة الخطبة أن الإمام يستقبل الناس، لا أن يستقبل القبلة وظهره إلى الناس، وكذلك المصلون يستقبلون الإمام بوجوههم. وقد يكون هذا الأمر عادياً في غير المسجد النبوي، ولكن في المسجد النبوي في الطرفة من باب السلام إلى الحجرة الشريفة يكون الناس أمام المنبر، والإمام يخطب، وجلستهم العادية أنهم يكونون مستدبرين الإمام مستقبلين القبلة، فإذا بدأ الإمام بالخطبة ينبغي أن يستقبلوه بوجوههم، وكذلك من كان في أقصى الصف، الآن المسجد يمتد إلى ألف تقريباً من الشرق إلى الغرب، ومن كان في وسط الصف محاذياً للمنبر لا يعادل مكان من كان في طرف الصف شرقاً أو غرباً، فيلتفت بوجهه إلى الإمام ليسمع الخطبة. فهؤلاء الذين هم أمام المنبر عليهم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة. وأما إذا لم نسمع الإمام بذاته، ولم نره بأعيننا، وكان هناك آلات تكبير الصوت في جدار المسجد القبلي وأتانا صوت الخطيب من أمامنا، فهل نعتبر أنفسنا مستقبلين للخطيب، أم نستدبر هذا الصوت ونستقبل المنبر؟ والجواب أن هذه مسألة جديدة تحتاج إلى فتوى. وعندي أنه إذا كنت في الصف الأخير والمنبر بعيداً فسماعي من الإمام مباشرة أحسن مما أسمع من السماعة، وإن كنت عند الجدار في آخر الصف، والصوت فوق رأسي، وإذا التفت لا أرى الإمام ولا أسمعه مباشرة، وسيأتيني الصوت عن طريق السماعة فالسماعة هذه أولى. والمهم عندنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى الصلاة قال: (صلينا، وسنخطب، فمن شاء جلس، ومن شاء انصرف) وسماع الخطبة يوم العيد ليس كسماعها يوم الجمعة، والذين قدموها رأوا أن الناس ما كانوا يجلسون إلا وهم يستمعون، والرسول أباح لمن يريد أن ينصرف أو يجلس، ولكن الأولى والأفضل أن يجلس؛ لأنه لن يعدم الوصية بالخير والنصيحة والتوجيه، ومع جماعة المسلمين تشمله كلمة (آمين) في الدعاء.

موعظته صلى الله عليه وسلم للنساء

موعظته صلى الله عليه وسلم للنساء ومن تتمات هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن وعظ الرجال انصرف إلى النساء، فالنساء لم يختلطن بالرجال، فالرجال في جهة والنسوة في جهة متميزة عن الرجال، فأتى إليهن في مكانهن، ومعه بلال يتوكأ عليه، وأخذ يعظهن ويخوفهن ويأمرهن بالصدقة، فأخذن يلقين من أقراطهن ومن فواتخ أيديهن -الخواتم- في حجر بلال. وقد جاء في هذه الخطبة للنساء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقامت امرأة منهم تستفسر عن ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير) . وكون المرأة تتصرف في مالها في غيبة زوجها فالجمهور على جوازه ما دامت تملكه لنفسها، أما لو كان ملكاً للزوج وهو عندها أمانة تتزين به فلا يحق لها ذلك، والمالكية يقولون: لا يحق للمرأة المتزوجة أن تتصرف في مالها الخاص إلا بإذن زوجها؛ إذ قد يكون مالها من دواعي رغبته فيها، فإذا عريت عن المال، وعريت عن الحلي أصبحت هناك مشكلة. والذي يهمنا في ذلك أن النسوة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذن يلقين في حجر بلال من حليهن.

عدد التكبيرات في صلاة العيد، والسنة فيما يقرأ

عدد التكبيرات في صلاة العيد، والسنة فيما يقرأ [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى، والقراءة بعدهما كلتيهما) أخرجه أبو داود، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه. ] بدأ المؤلف رحمه الله في تفصيل كيفية صلاة العيدين، فذكر هنا حديث: التكبير في الفطر سبعاً في الأولى. والتكبير في العيدين من شعار العيدين، ومن خصائص الإسلام، والتكبير -كما يقولون- تكبير عام وتكبير خاص، فالتكبير العام: ما يكون من الليل، وفي البيوت، وفي الطرقات ونحو ذلك، والتكبير الخاص: ما يكون في الصلاة وما يكون في الخطبة، وما يكون عقب الصلوات، فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التكبير في الفطر) . وكلمة في (الفطر) ، بعضهم يقول: لا مفهوم لها، فالتكبير في الأضحى كالتكبير في الفطر، وبعضهم يقول: التكبير في الفطر مخصوص، والأضحى أقل من ذلك أو أكثر، فبدل السبع تسع أو خمس. وهنا ينص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التكبير المختص بالصلاة التي هي صلاة العيدين؛ لأن هناك تكبيرات في الصلوات الخمس، كتكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال عند الركوع، وعند الرفع من السجود، وعند القيام للركعة الثانية التي تليها، فهذه تكبيرات تسمى تكبيرات الانتقال. فالتكبيرات التي هي من صلاة العيدين في الأولى سبع، وهناك من يقول: إنها سبع من غير تكبيرة الإحرام، وهناك من يقول: هي سبع مع تكبيرة الإحرام، فيكبر تكبيرة الإحرام لتنعقد بها الصلاة، ثم يأتي بعدها بست تكبيرات، وبعضهم يقولون: التكبيرة الأولى للدخول في الصلاة، ولا تعتبر من تكبيرات الصلاة، وتكبيرات الصلاة في الركعة الأولى سبع. وأما هل يأتي بها سرداً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أو يفصل بينهن بالأذكار نحو: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) ، فالجواب أن من شاء جاء بها سرداً، ومن شاء جاء ببعض الأذكار بين كل تكبيرة وأخرى، فإذا أنهى التكبيرات قرأ. وسيأتي الحديث بعد هذا يبين كثرة ما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ به في العيدين، وهذا على سبيل البيان، وليس إلزاماً، ويتعين ولا يحاد عنه، ففي الركعة الأولى يكبر سبعاً بعد تكبيرة الإحرام، وبعد ما ينتهي من التكبيرات يقرأ الفاتحة وبعدها سورة (ق) أو غيرها، أو على ما سيأتي النص عليه في الحديث الذي بعده، ثم يركع ويرفع ويقوم للركعة الثانية، وعند قيامه للركعة الثانية يكبر، فتلك تكبيرة الانتقال لا يحسبها، ويبدأ فيكبر خمساً. ففي الأولى يكبر سبعاً لا يحسب معهن تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً لا يحسب معهن تكبيرة الانتقال التي هي معهودة في الصلوات الخمس، ثم يقرأ في تلك الركعتين بعد التكبيرات السبع أو الخمس.

القراءة بـ (ق، واقتربت) في صلاة العيد

القراءة بـ (ق، واقتربت) في صلاة العيد قال المؤلف: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ (ق) واقتربت) أخرجه مسلم. ] . لما ذكر في الحديث الأول أنه يكبر ثم يقرأ في كلتا الركعتين بعد التكبير، جاء هذا الحديث ليبين ماذا كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، وهم يتفقون على أنه لا تعيين ولا تحجير، فما رآه الإمام ليقرأ به قرأ، ولكن روي أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة (ق) وبسورة {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وكلتا السورتين فيها المواعظ وفيها التذكير، وفيها الحث على فعل الخير. فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله ماذا كان يقرأ، ويهمنا هنا أن مقدار سورة (ق) ليس مثل مقدار سورة الضحى، ولا (ألم نشرح) فالإمام يقرأ بما يراه مناسباً للحاضرين، فإن شاء طول بـ (ق) وأمثالها، وإن شاء اختصر بالضحى و (ألم نشرح) ، إلى غير ذلك من قصار السور.

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [3]

كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [3] في العيد يظهر فضل الله تعالى على عباده المؤمنين بما شرع لهم من أسباب الترويح عن النفس والأهل، كما أن من فضله عليهم تلك الآداب الواردة في كيفية الذهاب إلى المصلى والرجوع منه، حيث يشرع للمسلم الذهاب من طريق والرجوع من آخر ليلقى أكثر إخوانه ويسلم عليهم ويدعو لهم، وكذلك الخروج إلى المصلى، إذ فيه إظهار فضل الله على عباده المؤمنين بإعزاز دينه وأهله، وإغاظة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.

من آداب العيدين

من آداب العيدين باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

حكمة المخالفة في الطريق يوم العيد

حكمة المخالفة في الطريق يوم العيد فيقول المصنف: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أخرجه البخاري، ولـ أبي داود عن ابن عمر نحوه] . هذا من آداب يوم العيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى المصلى وصلى العيد خالف بين الطريق، وهذا عندما يكون للمصلى طرق متعددة بالنسبة للإمام وكذلك المصلي، وقد اختلفوا في هذه المغايرة هل هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذين في الطرقات أو في البيوت ينتظرون مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ويسلم عليهم وتنالهم بركات سلامه عليهم ودعواته، أم أن ذلك عام لكل مصل؟ فبعضهم يقول: هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس ينتظرون عودته ورواحه، وهنا يذكر ما يفعله بعض الناس من التهنئة بيوم العيد، وربما نسمع بعض الناس يقول: هذه بدعة! وهي سنة عن رسول الله، والسلف رضي الله تعالى عنهم ينقل العلماء عنهم أنه كان بعضهم يقول لبعض: تقبل الله منا ومنك، وهذه هي التهنئة بيوم العيد. فالذهاب من طريق والعودة من طريق قيل: إنها ليرى الإنسان من لم يره من قبل، وقيل: هذا من جانب المقيمين، ليكون لهم حظ من سلام الإمام ودعوته لهم في ذلك اليوم بالخير. فمغايرة الطريق قيل: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل هي عامة لكل مصلٍ، والله تعالى أعلم.

العيد يوم راحة المسلم وسعادته مع إخوانه المسلمين

العيد يوم راحة المسلم وسعادته مع إخوانه المسلمين [وعن أنس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد] . في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً صلوات الله وسلامه عليه، وجد لأهل المدينة يومين يلعبون فيهما، وهذه من عادات الشعوب، فلها -حسب العادات والوقائع- أيام يفرح فيها الناس ويلعبون فيها، كما هي العادة المشهورة عند كثير من الأمم، وسبب هذين اليومين لم أقف عليه حتى الآن. وهنا لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب اللعب في هذين اليومين، ولكنه لما كان من عمل الجاهلية وقبل الإسلام، ولم يتضح لهما سبب شرعي لم ينههم عن ذلك، وهذه مسألة ينبغي التنبيه عليها؛ لأنها قاعدة إسلامية إصلاحية عظيمة جداً، فإذا رأيت إنساناً يرتكب أمراً مخالفاً فقبل أن تنهاه عنه انظر إلى البديل الذي يصلح لتقدمه إليه ليتخلى عن غير الصالح، إنسان كفيف له عصا يتوكأ عليها، لكن تلك العصا متنجسة، أو فيها شوك، أو أنها على وشك الانكسار، أي أنها غير صالحة لمهمتها في نظرك وأشفقت عليه، فلا تقل له: ارم العصا من يدك، بل قبل ذلك، وقبل أن تقول له إن العصا غير صالحة ائت بعصا صالحة، وقل له: خذ هذه فهي خير مما في يدك، وألق التي في يدك. فستجد أنه عندما يحصل على شيء خير من الذي بيده سيلقي ما بيده قبل أن تقول له: ألق ما في يدك؛ وهكذا لو وجدت شخصاً في طريقة مبتدعة وطريقة منكرة لم تجد لها أصلاً في الدين. فلا تأت إلى إنسان لتنزع ما بيده استنكاراً قبل أن تهيأ له البديل عن ذلك المنكر.

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور وهنا النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يلعبون على حال من الترفيه البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب باليومين، فقال: (قد أبدلكم الله خيراً من هذين اليومين يوم الفطر والأضحى) . ولو جئت من باب الترفيه، ومن باب التسلية، ومن باب إظهار السرور لا تجد يومين في حياة الأمة كيومي العيد، بخلاف الأفراد؛ لأنه قد يكون للفرد في حياته يوم خير من العيد، كما وقع لـ كعب بن مالك حين كان مع الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، فعندما تخلفوا عن تبوك وجاءوا يعتذرون قبل عذرهم إلا ثلاثة، ومنهم كعب بن مالك، حتى جاءت توبتهم من عند الله، وليس المخلفون الذين تخلفوا عن الغزوة، فالذي تخلف عن الغزوة عدد كثير، لكن كلهم جاءوا فاعتذروا فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأمر، وترك حقيقتهم إلى الله إلا هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا وقالوا: والله ما كان عندنا عذر فخلفوا عن قبول توبتهم وعذرهم، فيوم أن نزلت توبتهم وذهب إلى كعب رجل ونادى وقال: أبشر يا كعب، وركض إليه رجل بالفرس فكان صوت المنادي أسرع من ركض الخيل، فلما جاء الذي صرخ له أعطاه ثوبه الذي عليه وقال: والله ما عندي غيره، ثم استعار ثوباً من جماعته وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله بالبشر وقال له: (أبشر -يا كعب - بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس من حين ولدتك أمك) ، فأسعد يوم مر عليك هذا اليوم، رغم أنه قد مرت عليه أعياد، وشارك في الجهاد، لكن هذا اليوم الذي تاب الله عليه فيه كان أسعد يوم مر عليه. فالأيام السعيدة ذات الذكرى الجميلة قد تكون للفرد، وكلنا له يوم أو أيام حسب ظروفه ومشاغله، لكن لا يوجد للأمة يومان أفضل من يومي العيدين، وتقدم لنا أن الأعياد عند الأمم لمناسبات سببها حدث في يوم واحد تبقى ذكراه مع التكرار، لكن في الإسلام في كل سنة عيد حقيقي؛ لأن عيد الفطر عيد بصيام رمضان، وهذه نعمة كبرى؛ لأن الله وفق الناس وأعانهم على أنفسهم وعلى الشيطان والهوى، وحجزوا النفس عن الأكل والشرب والشهوات حتى أكملوا الشهر، كذلك الحج جاءوا من كل فج عميق، واجتمعوا في واد غير ذي زرع، وأدوا المناسك بحمد الله، فكان عيد الأضحى. فهما يومان عظيمان مرتبطان بيومين متكررين وعبادتين متكررتين في كل سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم انتقد اليومين ولم ينتقد اللعب، وأشعرهم أن الله قد أبدلهما خيراً منهما.

إباحة اللعب والترفه يوم العيد

إباحة اللعب والترفه يوم العيد فمن باب الإيماء والتنبيه يكون هذا الحديث: (إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما) فيه إباحة اللعب في العيد، ولا شك أنه لم ينكر اللعب عليهم، ولكن أنكر التوقيت الزمني، فأخبرهم أن الله تعالى أبدلهم يومين بيومين، واللعب على ما هو عليه. والله أعلم. ولو أن للناس عادة ويوجد نظير ذلك من السنة من الشرع فالأولى أن يأخذ البديل من السنة، بل قد يتعين؛ لأن المسلمين أمروا باتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] والخير كل الخير فيما جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان يخالف عادات وطباع الناس، وعلى الناس أن يتطبعوا على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن يخضع الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به لأهوائهم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) . دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصنع له الطعام، وكان رجل بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الطعام من الدباء، فالرجل يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة، قال: فما زلت أحب الدباء من ذلك اليوم) ، فبسبب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للدباء صار الصحابي يحب الدباء، وهل هناك حب أكبر من هذا؟ فكأنه يقول: اخترت ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت الحديث الذي يدل على لعب الأحباش في المسجد النبوي وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (ربما سألني -أو سألته-: أتحبين أن ترينهم؟ قلت: بلى. فقمت وهو يسترني من الناس وخدي على خده، وهو يقول لهم: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني رفيدة) وكان يقول لـ عائشة: (هل اكتفيت) وهي تقول: لا. قالت: والله ما بي رؤيتهم، وإنما أردت أن يعلم زوجات رسول الله بقيام رسول الله معي ليعرفن مكانتي عند رسول الله، فهل يمكن أن تتسع لإنسان أخلاقه مع الزوجة في مثل هذا الباب إلى هذا الحد فيتحمل من أجلها ويصبر؟ فانظروا إلى مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. فلا مانع من اللعب في يومي العيد، وفي القديم كان يوجد مكان للعب الصبيان في المدينة، وكان أهلهم يجمعونهم ويحملونهم على العربات التي تنزل من القرى محملة بالبرسيم أو الدباء، وهي التي كانت تستعمل في التنقل في المدينة، فكانت هذه العربات التي تجرها البهائم يوم العيد تزين، ويجعل لها صندوق، ويجمع الأطفال بلباسهم يوم العيد والزينة، ويذهب بهم للتنزه واللعب، وتظهر ألعاب جديدة منها الجائز ومنها المحرم، فكان أطفال المدينة يظلون ثلاثة أيام في لعب ومرح وبهجة، ولا يعكر عليهم شيء. فلا مانع أن يسمح للكبار والصغار، ولا مانع أن يسمح أيضاً للأطفال ذكوراً كانوا أو إناثاً، ماداموا في السن الذي ليس فيه فتنة، وكان عندهم كبير يرعاهم حتى لا يتأذون، فلا مانع أن نسمح لهم، ونجعل لهم أماكن للعب، بشرط أن تكون تحت إشراف مسئولين، وبأنواع جائزة بعيداً عن المقامرات. ومما جاء في هذا أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على عائشة، وأنكر عليها وجود الجاريتين تغنيان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (دعهن يا أبا بكر؛ ليعلم اليهود أن ديننا دين سماحة) ، أي: ليعلموا أن في ديننا الترفيه البريء. فسعادة الإنسان إن يجد شيئاً كان يفتقده، وهذا ما يحصل في يوم العيد، ومما يذكر عن بعض الفلاسفة أن إنساناً جاء يشتكي إليه الضيق والقلق، فسأله: هل أنت متزوج؟ قال: لا، قال: هل ينقصك من الدنيا شيء؟ قال: عندي أموال كثيرة، قال: هل أحد ينغص عليك وظيفتك؟ قال: أنا أعمل عملاً حراً، فأخذ يسأله عن كل الجوانب فرأى أن كل شيء متوفر عنده، فقال له: اكتب لي أن تعمل ما آمرك به حتى تنال السعادة؟ قال: أعَملُ ما أردت، فأخذه ودخل به على الطبيب وقال له: اثنِ رجله إلى فخذه وغطها بالجبس، فخدره فنام، وجاء من المشرحة برجل مبتورة ووضعها بجانبه على السرير، فلما استيقظ إذا به يبحث عن رجله فلم يرها، ووجد رجلاً مبتورة بجانبه، فظن أن رجله قد بترت، فقال: أنا ما قلت لك أن تفعل هذا، قال: لقد كتبت لي أن أعمل ما أشاء حتى أوصلك إلى السعادة، ثم قال له: إن أردت أن أرجع لك رجلك، فإني أريد مالاً، قال له: خذ ما تريد، فخدره وفتح الجبس وأعاد تلك الرجل إلى المشرحة، فلما استيقظ قال: أنا الآن أسعد مخلوق؛ لأنه افتقد شيئاً عزيزاً عليه ثم وجده وظفر به. ورجل هرب عليه عبد، فقال: من يأتيني بعبدي فله عشرة آلاف. فقيل له: العبد لا يساوي أكثر من ألف! قال لهم: ائتوني به، فلما أتوا به دفع العشرة الآلاف، فعوتب على ذلك، فقال: إنكم لا تعرفون لذة الظفر، فالعشرة الآلاف لم أدفعها لعودة العبد، ولكن لأظفر بمطلوبي. وقد روي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قيل له: شاركت في المعارك، ولك أموال وصحة، فما هي أمنيتك بعد هذا؟ فقال: (أن تكون ليلة شديدة البرد عاصفة الرياح غزيرة الأمطار وأقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله) . فسعادة الإنسان في أن يجد شيئاً كان مفقوداً، وإذا ما استكملت له كل أغراضه افتقد السعادة، فيوم العيد يجد فيه الأطفال والكبار والصغار البهجة ودواعي السرور وما يسمى الترفيه البريء، وليس غير البريء، والذين يذكرون بعض الحروب المتأخرة يعرفون الترفيه البريء ماذا كانت نتائجه، سواءٌ على إسرائيل أم على غيرها.

سنة المشي في الذهاب إلى المصلى

سنة المشي في الذهاب إلى المصلى [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً. ] . هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وهذا اصطلاح علماء الحديث، والسنة لغة: الطريقة، والسنة: نهج الحياة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل أمة سنة وإمام فالسنة: الطريقة التي تعارف عليها الجماعة. والسنة في الشرع تطلق على معنيين، فتطلق على النصوص التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب القرآن، فتقول: الكتاب والسنة، فيكون الكتاب نصوصه وحي من الله والسنة وحي لرسول الله، وكلاهما وحي كما قال السيوطي: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فهذا تعبدنا الله بتلاوته، قال: ووحي لم نؤمر بكتابته ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة. وكان كلامه وحياً لنص القرآن الكريم في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ، لكن اتفقوا على أن الحديث القدسي كلام الله، ولكن فرق في الاصطلاح بين القرآن المأمور بكتابته المتعبد بتلاوته وبين الحديث القدسي، وكذلك هناك فرق بين الوحي الثالث والسنة النبوية. وتطلق السنة على منهج العمل، فالسنة في الأكل والشرب أن تأكل بيمينك، نسبة إلى الحديث الذي يقول: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك) ، والسنة في النوم أن تضطجع على شقك الأيمن، فالسنة: الطريق والمنهج الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة. فهنا علي يقول: (من السنة) ولم يقل: من السنة قوله صلى الله عليه وسلم فتكون سنة قولية، لكنه هنا ينقل لنا سنة فعلية، فقال: (أن تذهب إلى العيد ماشياً) وتخرج من بيتك إلى مصلى العيد ماشياً، ولا يكلف كل إنسان أن ينزل من ذاك المكان ماشياً، ويمكن أن نقول: في الزمن الأول لا بأس بذلك، الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد جاوز الخمسين- كان يخرج إلى قباء تارة ماشياً وتارة راكباً، لكن قد تغير الناس في زماننا، فقالوا: لو ركب يركب من منزله حتى يقارب مشارف مصلى العيد فينزل ويمشي. وقالوا: المشي هنا لأنه ذاهب إلى عبادة، ويكون ممشاه له فيه بكل خطوة أجر. وعند الرجوع لم يذكر لنا علي سنة، قالوا: العودة على حسب العادة راكباً أو ماشياً، والفرق بين الذهاب والعودة أن الذهاب من البيت إلى المصلى بقصد العبادة، فهذا يتمحض فيه المشي للطاعة والعبادة، لكن في العودة تكون العبادة قد انتهت. فالسنة في الذهاب لمن كان يقدر على المشي أن يذهب ماشياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المصلى ماشياً، وكان يغاير بين الطريقين، فقالوا: ذلك سنة فعلية نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: لأن في المشي نوعاً من التواضع وإظهار الإخبات إلى الله، فيكون منذ خروجه من بيته إلى مصلاه في إخبات وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

حكمة الخروج إلى المصلى، ومتى يصلى في المسجد

حكمة الخروج إلى المصلى، ومتى يصلى في المسجد [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد) رواه أبو داود بإسناد جيد] . لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاة العيدين إلى المصلى، وذلك لأمرين: لضيق المسجد، ولإظهار الكثرة العددية، والكثرة العددية في ذلك التاريخ كان لها أثر كبير؛ لأن مجتمع المدينة كان فيه المسلمون والوثنيون واليهود والمنافقون، والوثنيون واليهود والمنافقون يتربصون بالمسلمين، وكان في نواحي المدينة أعراب لا يعرفون شيئاً، ولا يقدرون إلا القوة والمنفعة. فالأعداء في داخل المدينة وخارجها كانوا لا يعرفون إلا منطق القوة، فعندما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بهذا العدد الكبير رجالاً ونساء وأطفالاً حتى الحيض يخرجن مع المسلمين إلى صلاة العيد، يرى أعداء الإسلام الكثرة فيعملون لذلك حساباً، ومن هنا كانت الكثرة قوة، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على التكاثر، فقال: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) ، بل يذكر في تاريخ العصور الحديثة والدول الكبرى والصغرى أن جولدا مائير كانت كل صباح تسأل مصلحة المواليد الإسرائيلية عن عدد المواليد الإسرائيليين والمواليد العرب تنتظر العدد والكثرة،؛ لأن الكثرة قوة وغلبة. وقد ذكر أن محاضراً ذهب يحاضر في الصين عن خطورة القنبلة الذرية ويحذرهم منها، فضحك الحاضرون، فسأل المحاضر: لم يضحكون؟ قالوا: لأن الصين تفرح ولا تهتم إذا جاءت قنبلة وأخذت مائة ألف أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى في الصين من يرث العالم كله بالتعداد، فالعدد في الأمة إنما هو قوة. وحدث في مؤتمر ماليزيا عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة -وشاركنا فيه- أنهم قدموا قراراً بتحديد النسل تتدخل فيه الدولة، فقلنا لهم: نحن قبل أن نأتي إلى ماليزيا درسنا التعداد السكاني والوضع الاجتماعي حتى نكون على بينة، فعرضنا على رئيس اللجنة عدد سكان ماليزيا، فالمسلمون فيهم خمسة وخمسون في المائة، والصينيون خمسة وأربعون في المائة، والصينيون لم يكونوا يحددون النسل عقيدة في ذلك الوقت، أما اليوم فأصبحت القضية عامة، فإذا أصدرتم قراراً بتحديد النسل في ماليزيا الذي سيعمل به المسلمون، فإذا عمل المسلمون بهذا القانون ولم يعمل به الصينيون -وهم أعداؤكم- فبعد خمس سنوات سيقضي هذا القرار على ماليزيا دون أن تشعروا، فألغي القرار وألغي الموضوع؛ بسبب ما سيئول إليه التعداد من الكثرة أو القلة. وهنا كانوا يخرجون إلى مصلى العيد لإظهار تلك الكثرة أمام الأعداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الشباب على الزواج، ونهى عن تحديد النسل على الصحيح، فنهى عن العزل أو كرهه، والله تعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وأقل شيء أن كل واحدة تأتي بواحد. وسوداء ولود خير من حسناء لا تلد. إذاً: كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين لمصلى العيد لأمرين: الأول: التوسعة على المسلمين، فقد كان مسجده ضيقاً لا يسع لجميع الناس، فخرج بهم إلى الصحراء، وقد كانت الصحراء واسعة قبل أن يحدث البناء الموجود اليوم. ولما نزل المطر وعم الجميع، وأصبح المصلى ممطوراً صلى بهم في المسجد، وهنا يبحث الفقهاء مسألة صلاة العيدين في المسجد. فالفقهاء يقولون: إن كان المسجد يسع المصلين فهو أولى وأفضل؛ لأنه معد للعبادة طوال السنة فهو أولى من الخروج إلى المصلى. والآخرون قالوا: ولو كان يسع فإن السنة الخروج. ومن قال: إن تعذر الخروج، أو كان فيه مشقة على الناس، فإنهم يصلون في المسجد، ولكن إذا ضاق المسجد بالناس فإنهم يصلون حوله؛ ولهذا ينص المالكية على أن الجمعة تصح في تلك المحلات المحيطة بالمسجد إذا كان يدخل إليها بدون استئذان، مثل المعارض المفتوحة، والدكاكين التي بجوار المسجد، ففي هذه المحلات تصح الجمعة، فإذا امتدت الصفوف من المسجد إلى الشارع إلى المعرض والدكان صحت الجمعة لمن صلى في الدكان ما دام الصف متصلاً بالمسجد، فإذا كان الحال كذلك في الجمعة -وهي آكد من العيد- وحصل مطر وتعذر الخروج إلى المصلى صلينا في المسجد. وفي الحرمين من زمن بعيد يصلون صلاة العيدين في المسجد، فلو جئت إلى مكة الآن، أو سألت أهل مكة: هل يوجد مكان يمكن أن يصل الإنسان إليه بقدمه أوسع من المسجد الحرام وما حوله؟ يقال لك: لا. وهل يوجد مكان بسعة المسجد النبوي يمكن أن يصل إليه إنسان برجله؟ خاصة بعد التوسعة الأخيرة والتخلية التي حولها، فالمدينة كلها دخلت في التوسعة، ولم يبق بيت واحد مما كان داخل السور الرسمي للمدينة إلا دخل في توسعة المسجد النبوي. فالمؤلف رحمه الله يختم البحث بهذا الحديث ليبين لنا أنه إن كان المسجد ضيقاً، ويوجد مصلى للعيد، وليس هناك عذر فالسنة الصلاة في المصلى، وإن كان هناك عذر مانع، أو ما يشق على الناس معه الذهاب إلى المصلى صلوا العيد في المسجد، سواءٌ أكان في المسجدين الشريفين أم المسجد الأقصى، أم أي مسجد كان في أي قرية كانت، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف

كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف إن الحوادث الكونية من آيات الله عز وجل العظيمة التي يخوف بها عباده، والتي يبين بها سبحانه للخلق كلهم أنه لا طاقة لهم بها، ولا يستطيعون دفعها، ومن هذه الآيات كسوف الشمس والقمر، وكذلك الزلازل والرياح العاصفة الشديدة وغيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يشرع للمسلم فعله عند وقوع آية من هذه الآيات.

أحكام صلاة الكسوف

أحكام صلاة الكسوف

الكسوف وسببه

الكسوف وسببه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ] . في هذا النص الكريم أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي أحدث هذا في عهده، فبين لنا وشرع لنا ماذا نفعل. وأحب أن أنبه على بعض المعتقدات الجاهلة -ولا أقول: الجاهلية-، فعندما يقع كسوف أو خسوف للقمر يدق بعض الجهال الطبول، ويطوفون بالشوارع ويلعبون، فهل دق الطبول واللعب يرفع الكسوف عن القمر؟ فنحمد الله أن هذا الحدث وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا ماذا نفعل، وهؤلاء الذين يدقون الطبول ربما لم يعلموا السنة، أو أنهم علموها ولكن لم يطبقوا شيئاً منها، فنحمد الله سبحانه على أن الرسول علمنا. قوله: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم) . إبراهيم ولد من مارية، ومن الكنى التي كني بها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو إبراهيم) ، وتوفي إبراهيم وهو صغير، وحين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يحضر قال: (أن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ... ) ، ووقع هذا الحدث -الكسوف- متزامناً مع موته، فقالوا تلك المقالة؛ لأن الكسوف عندهم في اعتقادهم لا يكون إلا لأحد أمرين: إما أن يحدث ذلك لموت عظيم حزناً عليه، وإما لوقوعه في غير ما اعتادوه في علم الفلك عندهم. ويجب أن نعلم أن العرب هم أول أمة عنيت بالفلك، وأول أمة برعت فيه، وأول أمة وضعت خرائط للأرض، وأول أمة بينت وحددت رقعة وتضاريس الكرة الأرضية من بحار وجبال، وهذه الخرائط الأساسية هي المبدأ الأساسي في أوروبا في دراسة الفلك في العالم. فالعرب كان لديهم علوم في الفلك ما سبقهم إليها أحد، ونعلم استفادة العرب في تقدير الزمن بحركة النجوم، كما قال الله عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، وكما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] ، فكانوا يعرفون الاتجاه ويعرفون المسير، ويؤرخون لظهور كل نجم من النجوم السيارة الاثني عشر، فهم كانوا يعرفون متى تكسف، ومتى لا تكسف، فاستغربوا كونها كسفت في غير وقتها، ولا نقول: إنهم يجهلون ذلك. كلا؛ فالنبي صلى الله عليه بيّن أن هذه المقالة خاطئة، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) ، وآيات الله كثيرة وعظيمة، كالرياح والجبال والبحار والأشجار والسموات والأرض، فالآيات الكونية عديدة جداً، وكل آية لها مهمتها، ولكن هنا قال: (يخوف الله بهما عباده) ، وهذا هو الواقع، فأنت لو تأملت في القمر فإنه يكون في تمامه وهو مكتمل، وفجأة يضيق عليه ويبدأ بالتناقض. وبعض العلماء يقول: إن حركة الكسوف لا دخل لها في تعارض الأفلاك بعضها مع بعض، وإنما هو أمر يتجلى الله فيه للكوكب فيحدث له ذلك، ولكن لا نستطيع أن نقول هذا، وإنما هي أقوال تقال، وقد حدث أنهم عينوا أنه سيكسف الكوكب كسوفاً جزئياً في وقت كذا في مكان كذا، وكسوفاً كلياً في الساعة الفلانية في مكان كذا، وحدث كما عينوا، وقد اجتمع علماء الفلك في موريتانيا في مرة من المرات وعلقوا المراصد ورصدوا الكسوف كاملاً للشمس. قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) . إذا عرفنا أنهما لا ينكسفان لموته فكيف لحياته؟ قالوا: ربما كان مريضاً مرضاً شديداً وتعافى، فنقول: المعافاة نعمة فكيف انكسفت لها الشمس؟ قالوا: يمكن أنها انكسفت لولادة شخص سيئ سيسيئ إلى العالم، فانكسفت لما سيلحق بالعالم من مضار ومفاسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالمتقابلين فقال: (آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد) وتأكيداً لهذا النفي أنها لا تنكسف لموت أحد قال: (ولا لحياته) . والله أعلم.

الواجب عند كسوف الشمس أو القمر

الواجب عند كسوف الشمس أو القمر قوله: [ (فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا) ] ؛ لأن هذه حالة شدة وحالة إنذار، فالذي يحدث في النظام العالمي شيئاً من التغيير هو قادر على أن يغير العالم كله في لحظة، ولذا فإن الكوارث الأخرى تحدث في لحظة من اللحظات وكم تدمر، وكم يحصل فيها من التغيير، كما سيأتي في آخر الباب إن شاء الله. وقوله: (فادعوا الله) أي: إلى أن يأتي وقت الصلاة ادعوا الله أن يرحمنا، وادعوا الله أن يكشفها، وادعوا الله أن لا ينزل بنا سوءاً، وادعوا الله بكل ما فيه اللجوء إليه سبحانه وتعالى أن يكشف ما بنا، ثم مع الدعاء الصلاة. قوله: [ (فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف) ] . أي: حتى تنكشف الشمس، أو ينجلي القمر. [وفي رواية للبخاري: (حتى تنجلي) ] . ذلك لأنها تظلم عند كسوفها، ويجب على المسلمين أن يبحثوا في هذه المسألة أبحاثاً علمية، وقد تكون هذه الأبحاث موجودة ولكن نحن ما وقفنا عليها. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعز سبب الكسوف إلى عارض، حتى إنه لم يقل: حتى يزول العارض ولكن قال: (حتى تنجلي) فهذا الأثر في الكسوف قد يكون في عين الشمس بذاتها، وقد يكون حتى تنجلي الشمس عما بها، وقد يكون حتى تنكشف الشمس عما حل بها. قال المؤلف رحمه الله: [وللبخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) ] . هنا (حتى ينكشف ما بكم) أي: من الغم والخوف والرهبة التي حصلت بوقوع هذا الحدث المغاير للمعتاد.

صفة صلاة الكسوف

صفة صلاة الكسوف قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] . هنا المؤلف رحمه الله بعد أن جاء بحديث: (ادعوا وصلوا) جاء بحديث عائشة لتشرح لنا فيه كيفية هذه الصلاة المطلوبة. فذكرت رضي الله تعالى عنها أن الصلاة في الكسوف تكون على الصفة الآتية: أولاً: الجهر بالقراءة، والجهر بالقراءة مبحث فقهي طويل، فهل قولها: (جهر بالقراءة) في خصوص الشمس أو في خصوص القمر؟ لأن الشمس نهارية والصلاة في النهار سرية، والقمر ليلي والصلاة في الليل جهرية، فهل نجهر في كلتا الحالتين أو نجهر فيما يجهر فيه فقط؟ المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: نجهر في الحالتين؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (جهر) ، والبعض يقول: يكون الجهر في الذي محله الجهر، ويكون الإسرار في الذي محله الإسرار، ومن العلماء من يقول: يسر في كلتا الحالتين. ثم قالت: (يصلي أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات) . في قولها: (أربع ركعات في ركعتين) -كما يقولون- المشترك اللفظي؛ لأن المراد بالركعة هنا: الركوع، لأنها قالت: (في ركعتين) وقالت: (أربع سجدات) ، والأربع السجدات لا تكون إلا لركعتين لكل ركعة سجدتان، فقولها: (أربع ركعات) هذه الركعات أين تكون؟ وكم عددها؟ قالوا: في الركعة الأولى يركع ثم يرفع، ثم يركع مرة ثانية ثم يرفع، ثم يسجد، وفي الركعة الثانية كذلك، وأما عدد الركعات في الركعة الواحدة فسيأتي الخلاف في ذلك. فالإجماع على أن صلاة الكسوف ركعتان، وإنما الخلاف في عدد ركعات كل ركعة، فهنا في الحديث ركوعان، وجاءت روايات بثلاثة ركوعات، وستة ركوعات، وثمانية ركوعات. والذي عليه الجمهور هوما جاء في حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بصلاة الكسوف، وأنه صلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات، بمعنى: أربعة ركوعات في الركعتين. وسيأتي التفصيل بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة، ثم قرأ طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع نحواً من ذلك، ثم رفع وقرأ نحواً من ذلك، ثم ركع نحواً من ذلك، وهكذا حتى أتم الركعتين. وبعض العلماء يأخذها بالتفصيل الهندسي ويقول: يقرأ في الركوع الأول سورة البقرة، وفي الركوع الثاني مقدار سبعين في المائة منها، وفي الذي بعده مقدار خمسين في المائة، وهكذا يتدرج وينزل، وليس بلازم أن تكون سورة البقرة بعينها، بل مقدارها؛ لأن الموقف موقف شديد وعصيب ومخيف، مما يقتضي أن يكون العبد في تلك الحالة بين يدي الله سبحانه وتعالى. قوله: [وفي رواية له: (فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة) ] . هنا الزائد في هذه الصلاة عن صلاة العيد: (فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة) الصلاةَ بالنصب، منصوبة على الإغراء والتحريض، وأما بالضم فلا أعرف له وجهاً، وهذا من أجل أن يحثهم ويحرضهم على الحضور إليها. وقد تقدم أن العيد لا يحتاج إلى نداء؛ لأن الناس يذهبون بأنفسهم إلى المصلى، فقد انتظروه من قبل يوم أو يومين، ولكن الكسوف أمر طارئ طرأ والناس في بيوتهم وأعمالهم، فينبههم، ولا ينبههم بالآذان؛ لأنه خاص بالصلوات الخمس. فمن المصلحة أن يرسل في الطرقات وعلى المياه وفي مجامع الناس، وفي الأسواق من ينادي: الصلاة جامعة، وهذا هو المعمول به الآن في المدينة النبوية، وفي كثير من البلدان، والله تعالى أعلم.

حديث ابن عباس في صفة صلاة الكسوف

حديث ابن عباس في صفة صلاة الكسوف قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فقام قياماً طويلاً) ] . الذي عليه الجمهور أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف مرة واحدة، فكيف اختلف الروايات في عدد الركوعات؟ فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يبين لنا التفصيل في كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف، قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبعضهم يذكر يوم موت إبراهيم، وبعضهم قد يترك هذا التاريخ- فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) . والسلف رضوان الله عليهم كانوا يقدرون الزمن بالقراءة، أي: بقدر ما يمكن أن يقرأ الإنسان في ذلك التوقيت، كما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في الصيام حين سأله سائل: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: (قدر خمسين آية) ، فالتقدير للزمن بمقدار القراءة أمر تقريبي؛ لأن هناك من يسرع في القراءة، وهناك من يبطئ، والكل يعرف مقدار قراءة سورة البقرة أو آل عمران فـ ابن عباس وصف لنا طول قيامه صلى الله عليه وسلم من أول ما دخل في الصلاة. ولنعلم أن الفاتحة تُقرأ قبل البقرة؛ لأن الفاتحة في كل ركعة، ولكن هل يعيدها المصلي عندما يرفع من الركوع الأول للركوع الثاني حينما يجدد القراءة؟ قالوا: لا؛ لأنها ركعة واحدة فتكفي فيها الفاتحة مرة واحدة. فالنبي صلى الله عليه وسلم قام طويلاً بقدر ما تقرأ سورة البقرة مع الفاتحة، وبعضهم قال: يأتي أيضاً بدعاء الاستفتاح. وابن عباس لم يحدد ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال الذين قالوا بالجهر: ابن عباس لم يسمع القراءة؛ لأنه كان بعيداً. والذين قالوا بالسرية قالوا: ابن عباس كان بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع ماذا قرأ؛ لأنه لم يجهر وسيأتي هذا في مبحث الجهر والإسرار. قال: (ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) . هنا لم يحدد لنا مقدار الركوع، لكنه أيضاً ركوع طويل، وقوله: (ثم رفع) أي: رفع بعد الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً لكنه دون الركوع الأول، وبعضهم ينص ويقول: بقدر قراءة سورة آل عمران؛ لأنها تنقص عن البقرة قليلاً، فهناك من حدد القيام الثاني، وهم مجمعون على أن كل قيام هو أقل من الذي قبله، سواءٌ أكان في الركوع الثاني، أم الثالث، أم الرابع عند من يقول بتعدد الركوع. قال (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) . أولاً ركع ركوعاً طويلاً، ثم قام قياماً أقل من الأول، ثم ركع ركوعاً ثانياً وهو أقل من الركوع الأول، ثم سجد في حديث ابن عباس، فركع ركوعين ثم سجد، ولم يفصل لنا ابن عباس طول السجود من عدمه، وغيره يقول: سجد سجوداً طويلاً، ففي قوله: (وسجد) عندنا سجدتان وجلسة بين السجدتين، ومقدار هاتين السجدتين والجلسة لم يذكره ابن عباس، وغير ابن عباس ذكره وقال: (سجد سجوداً طويلاً، ثم جلس -أي بين السجدتين- ولم يطل، ثم سجد السجدة الثانية وهي دون السجدة الأولى، ثم قام) أي: إلى الركعة الثانية. قال: (ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) . أي: قام إلى الركعة الثانية، وقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، والأول بالنسبة لهذه الركعة الثانية هل يكون هو الثاني بعد الركوع الأول، أو هو القيام الأول الذي هو أول قيام في الصلاة والذي هو بقدر البقرة؟ الاحتمال موجود، وقد قيل بالقولين، ولكن نظراً لأن الصلاة تأخذ بالتناقص تدريجياً نحمل هذا القيام على القيام الذي هو دون البقرة. فنقول: في الركعة الأولى قرأ -مثلاً- بمائتي آية، وفي القيام الثاني من الركعة الأولى قرأ بمائة وخمسين، فلما قام إلى الركعة الثانية قرأ في قيامه الأول من الركعة الثانية بمقدار مائة آية، أي: أن كل قيام يكون أقل من الذي قبله. قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) ] . دون الركوع الأول الذي يعتبر الركوع الثاني بالنسبة للركعة الأولى، أي: أنه تدرج في تنقيص الزمن في كل من القيام ومن الركوع، أي: كل ركن أقل من الذي قبله. قال (ثم رفع، فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) . أي: دون القيام الأول في الركعة الثانية. قال (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) . أي: دون الركوع الأول في الركعة الثانية. قال: (ثم رفع رأسه ثم سجد) . أي: ثم سجد بعد الركوعين اللذين في الركعة الثانية. قال: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس) . قبل الانصراف كان هناك السجود والجلسة بين السجدتين، وكذلك التشهد، والمعنى: ثم انصرف بعد أن أتم الصلاة وقد انجلت الشمس. و (انجلت) معناه: ظهر نورها؛ لأن الكسوف تغير اللون إلى سواد، والخسوف -كما يقولون- هو النقصان، فقوله: (انجلت) أي: انجلى ما عليها من غشاء، أو ما عليها من ظلمة، وصارت ناصعة نقية كالمعتاد.

الخطبة بعد صلاة الكسوف

الخطبة بعد صلاة الكسوف قال: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس) . في قوله هنا: (فخطب الناس) اختلف العلماء أيضاً في الخطبة، فبعضهم يقول: خطب. وبعضهم يقول: لم يخطب، وإنما وقف وبين للناس خطأ ما كانوا يعتقدون، فقال: (إنما هما آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ، وجاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم حث الناس على الاستغفار وعلى الصدقة وعلى العتق) ، فالذين قالوا: خطب هذه هي شروط الخطبة عندهم؛ لأنه حمد الله وأثنى عليه، ثم حث على التقوى والاستغفار، وأمر ونهى. والآخرون قالوا: هذه لا تسمى خطبة، وإنما تسمى موعظة، أو تصحيح خطأ، أو إرشاداً لما ينبغي أن يعملوه، ولهذا فأكثر الأئمة الأربعة لا يرون للكسوف خطبة، ويرون أن ما توجه به صلى الله عليه وسلم من كلام بعد الصلاة إنما هو بيان للحقيقة، وتوجيه لخلاف ما كانوا يعتقدون في الجاهلية.

الخلاف في عدد الركوعات في صلاة الكسوف والراجح في ذلك

الخلاف في عدد الركوعات في صلاة الكسوف والراجح في ذلك قال: [وفي رواية لـ مسلم: (صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات) ] . في رواية ابن عباس عند البخاري ومسلم التي ساقها المؤلف أولاً أربعة ركوعات في ركعتين، يعني أن في كل ركعة ركوعين، ثم جاءنا بزيادة عند مسلم فيها أنه صلى ثماني ركوعات، أي أنه ركع في كل ركعة أربعة ركوعات، فرواية ابن عباس بذاتها يختلف فيها البخاري ومسلم، فـ البخاري يتفق مع مسلم على أن الركوع ركوعان في الركعة، ومسلم ينفرد بزيادة أن الركوعات كانت ثمانية. وهنا بداية الخلاف بين العلماء، وكما يقول الشوكاني رحمه الله: إن قدر أن الصلاة تعددت فالأمر سهل، وتُحمل كل واحدة من الصلاتين على عدد، فمرةً صلى صلاة بأربعة ركوعات، ومرةً أخرى صلى بثمانية ركوعات، ويكون ذلك بحسب انجلاء الشمس وعدمه؛ لأن في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوكَّل رجلاً بعد كل ركعة أن ينظر إلى الشمس هل انجلت أو لا فإن قدر أو احتمل أن الصلاة تعددت فيكون الجمع هيناً، فيقال: تارةً انجلت بسرعة فاكتفى بركوعين، وتارةً طال الكسوف فأطال في الصلاة وركع أربعة ركوعات في كل ركعة. أما إذا لم تثبت صلاة الكسوف أكثر من مرة، ورجح وصح عند الجميع أنه صلاها مرة واحدة، وأنها لم تكسف في عهده صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة يوم أن مات إبراهيم، فلا يمكن أن يقع في صلاة واحدة ركوعان وأربعة وخمسة وثمانية. فإن قيل: فما العمل؟ قلنا: إن منهج علماء الحديث فيما تعارض واختلف أنه إن أمكن الجمع صير إليه، وإن لم يمكن الجمع يصار إلى الترجيح، وإمكان الجمع لا يتأتى في هذه؛ لأنها صلاة واحدة والموقف واحد، بخلاف ما إذا أمكن الجمع، فعلى سبيل المثال -فيما يمكن فيه الجمع- جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: يا ابن عباس! والله إني قد وجد في صدري شيء، قال: ماذا يا ابن أخي؟! قال: ما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وإني لأسمع من يقول: إنه لبى من مصلاه -أي: قبل أن يركب الراحلة-، وأسمع آخر يقول: لبى حينما انبعثت به راحلته -يعني: على ظهر الناقة-، وأسمع من يقول: لبى بالبيداء -أي: بعد أن طلع من الوادي إلى البيداء- وهي حجة واحدة، فكيف يكون هذا الخلاف؟ قال ابن عباس: تعال -يا ابن أخي! - أبين لك -وهذا هو فقه الحديث، وهو الجمع بين الروايات المختلفة التي يمكن الجمع بينها بحيث لا تتعارض رواية مع أخرى- قال: يا ابن أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم لبى في مصلاه، فسمع بذلك أقوام فأخبروا بما سمعوا، ثم لما استوت به راحلته لبى فسمع بذلك أقوام، ولم يكونوا قد سمعوا التلبية الأولى فأخبروا بما سمعوا، فلما أتى البيداء لبى فسمع بذلك أقوام لم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، وكل أخبر بما سمع، وكل صادق. فهنا أمكن الجمع ولم يوجد تعارض لاختلاف الزمان، ولكن هنا الصلاة واحدة، فقالوا: إما الترجيح وإما النسخ، والنسخ لا يأتي إلا في حادثتين إحداهما متأخرة عن الثانية، وتكون الثانية ناسخة للأولى. فإذا لم يثبت التعدد لم يبق إلا الترجيح، فنظروا في تلك الروايات التي جاءت بالتعدد تارة بعدد، وتارةً بعدد آخر، فرجحوا بعضها على بعض، وأول خطوة في الترجيح هي الترجيح بالصحة، فحديث ابن عباس الذي جاء بركوعين في الركعة الواحدة متفق عليه بين الشيخين، والذي جاء بأربعة ركوعات في الركعة الواحدة انفرد به مسلم عن صاحبه، وعند علماء الحديث أن الذي يرجح هو أقوى الروايات، وهي الرواية المتفق عليها، ويليها ما انفرد بها واحد منهما، ثم يليها ما جاء في بعض السنن والمسانيد وهي صحيحة، فإذا جاءت الرواية متفقاً عليها بين الشيخين: البخاري ومسلم فهذه رواية عالية في سندها وصحتها، فإذا تعارض الحديث المتفق عليه مع ما انفرد به واحد منهما، فالأقوى والأرجح هو المتفق عليه. وكما يقولون في باب العول في الفرائض: كان علي رضي الله عنه لا يرى العول، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرى العول في مسائل الفرائض، وقال به وأمضاه. ولما آلت الخلافة إلى علي جاءت إليه قضية فيها عول، فقال: أنا لا أرى العول، قالوا له: لقد وافقت عمر عليه! فقال: لقد كان رجلاً شديداً مهاباً فقالوا: لأمر اتفقت معه عليه أحب إلينا مما انفردت به. فالمتفق عليه بين عمر وعلي أقوى من الذي انفرد به علي. فهذه طريقة من طرق الترجيح، فعندنا رواية ركوعين وأربعة ركوعات، فعمدنا إلى الترجيح فوجدنا أن رواية الركوعين في ركعة واحدة هي الأرجح. وقد يقول قائل: ماذا نفعل في رواية مسلم وهو من أئمة الحديث؟ نقول: إذا جاءت رواية صحيحة وعارضت رواية أصح منها، مثل رواية اتفق عليها الشيخان والأخرى انفرد بها أحدهما، فهي شاذة، وبعض العلماء يقول في هذه الرواية: ضعيفة؛ لأن فيها فلاناً وهو مدلس، ولكن الصحيح هو أن نعتبر الحديث الذي خالف أصح منه شاذاً، والشاذ لا يعمل به، فيعمل بالمتفق عليه ولا يعمل بالشاذ. ونظير هذا أيضاً ما جاء في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، فهناك من يروي: أنه تزوجها وهو حلال بعد أن تحلل من العمرة، ومنهم من يروي: أنه تزوجها وهو محرم، وكل من الأئمة قد أخذ بأحد هاتين الروايتين، فبعضهم أخذ بأنه تزوجها وهو حلال، وبعضهم أخذ رواية أنه تزوجها وهو محرم، فاختلفت الروايتان وكلتاهما صحيحتان، قالوا: لما تعارضت الروايتان جمعنا الطرق فوجدنا من يروي بأنه تزوجها وهو محرم ليس له علاقة بالقضية، ووجدنا من يروي أنه تزوجها وهو حلال كان هو السفير بينهما، أي: الواسطة بين رسول الله وبين ميمونة رضي الله تعالى عنها، فيكون على ذلك الأعرف بالقضية هو من كان الواسطة. كما وجدنا أن ميمونة نفسها صاحبة القصة أخبرت بأنه تزوجها وهو حلال، فرواية (تزوجها وهو محرم) صحيحة، ورواية السفير بينهما ورواية صاحبة القصة بأنه تزوجها بعد أن تحلل أيضاً صحيحة، فنأخذ برواية السفير بينهما، وبرواية صاحبة القصة، ونقول في الرواية الأخرى: هي شاذة؛ لأن فيها ثقة خالف الثقات. قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك] . أي: مثل حديث ابن عباس، ونقول: ليس عندنا إلا الترجيح. قال المؤلف رحمه الله: [وله عن جابر (صلى ست ركعات بأربع سجدات) ] . أي: أن في كل ركعة ثلاثة ركوعات، ونعود إلى حل هذه القضية بالترجيح، فـ مسلم انفرد برواية ابن عباس بأربعة ركوعات في كل ركعة، وبرواية جابر بأنها ثلاثة ركوعات في كل ركعة، فكل هذا مما انفرد به مسلم عما اتفق عليه مع البخاري. قال المؤلف رحمه الله: [ولـ أبي داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (صلى فركع خمس ركعات وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك) ] . وهذه الرواية دون الروايات الأولى المتفق عليها بين البخاري ومسلم، والتي انفرد بها مسلم، وهذه الرواية أخرجها أبو داود فتكون أنزل من التي قبلها. ورواية الخمس أخذ بها العترة كما يقول الشوكاني. فنخرج من هذا الخلاف ونقول: إن تعدد الركوعات قد جاءت به الروايات، وكلها لا يمكن أن تقاوم رواية (ركوعين) ، ولهذا أخذ الجمهور بأن صلاة الكسوف ركعتان، وأن في كل ركعة ركوعين. وهناك من يرى الجمع ويقول: لا نلغي تلك الروايات كلها، ولكن ننظر إلى الحالة؛ لأن في الرواية الأولى لـ عائشة ولـ ابن عباس: (ثم انجلت الشمس) فإذا صلينا ولم تنجلِ، فبعض العلماء يقول: نطيل في الركوع إلى أن تنجلي أو نأخذ برواية الأربعة أو برواية الخمسة الركوعات حتى تنجلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى حتى انجلت، وحالات الكسوف ليست سواءً كما أشرنا، فقد يكون الكسوف جزئياً بسيطاً، وقد يكون كاملا مطبقاً. وبعضهم يقول: بل نبقى على ما رجح وثبت، وهو ركوعان في كل ركعة، فإذا انتهت الركعتان بركوعين في كل ركعة وانجلت فالحمد لله، وإذا لم تنجلِ فلا نطيل ولا نعيد الصلاة من جديد، ولكن نلزم الاستغفار والدعاء والتسبيح وذكر الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة للآيات الكونية كالريح والزلازل

حكم الصلاة للآيات الكونية كالريح والزلازل قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما هبت الريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: اللهم! اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً) رواه الشافعي والطبراني] . هذه الرواية يسوقها المؤلف مقدمة للحالات الكونية العامة، فكسوف الشمس والقمر آية كونية، وتقدم لنا كيف نعمل، ولكن إذا وقعت آية أخرى مثل ريح عاصف شديدة أو زلزال أو شيء آخر من النوازل الكونية الشديدة، فماذا يكون الحال؟ بين لنا ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هبت الريح جثا على ركبتيه، وهي صورة تذلل وخضوع واستكانة والتجاء واعتراف بالضعف والافتقار إلى من جثا إليه، وجاء نظير ذلك حينما قام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس في أمر ما، فقام رجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً خاصاً به، فغضب صلى الله عليه وسلم، والسؤال هو أن الرجل قال: (من أبي؟ قال: أبوك فلان ونسبه إلى أبيه، وقام آخر وقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان، ونسبه إلى غير أبيه، وظهر الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلا أن قام وجثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نستغفر الله ونتوب إليه يا رسول الله! آمنا بالله وبأنك نبينا، وجعل يقول مثل هذا بين يدي رسول الله حتى سري عن رسول الله) . فهذه الحالة إنما تعطي صورة اللجوء والاستكانة والضعف وإظهار الذلة، وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فكان إذا رأى الريح الشديدة خاف؛ لأن أمماً كثيرة قد أُهلكت بالريح، فخاف أن تكون عذاباً، فجثا على ركبتيه وسأل الله أن تكون رحمة لا أن تكون عذاباً، وهكذا ينبغي للأمة عند هبوب الريح الشديدة المخيفة أن يتضرعوا إلى الله بأن يجعلها الله ريح رحمة لا ريح عذاب. قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى في زلزلة ست ركعات وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات) رواه البيهقي] . جاء أن الرياح لا يصلى لها، والزلزال يصلى له، فإذا وقع الزلزال صلى الناس حتى لا يتواصل أو يزيد، وذكر لنا هنا ستة ركوعات في ركعتين، وهذا العدد أيضاً مختلف فيه، وهذه الرواية رواها البيهقي، فهي خارجة عن الكتب الستة وهي: - البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، هذه الكتب الستة هي المعتبرة بالدرجة الأولى عند علماء الحديث، وما جاء بعد ذلك فهو دونها في الرتبة، فقد يأتي بالصحيح وقد يأتي بما دونه. فمن قال بالصلاة في الزلزال قال: إن صورتها كصورة صلاة الكسوف، وبعضهم يقول: لا مانع إذا زاد في عدد الركوعات في الزلزال. فالحوادث الكونية يجب على العالَم كله أن يرجع إلى الله فيها؛ لأنه لا طاقة له بها، سواءٌ في الزلزال أم في غيره من الحوادث الكونية، فإنه لا قدرة له بها، فهذه مسائل تدل على القدرة الإلهية، وليس للخلق فيها طاقة إلا بالرجوع إليه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء [1]

كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء [1] إن دين الإسلام هو دين التوحيد، فما من مناسبة إلا ويربط الإسلام الناس فيها بربهم سبحانه، ففي حالة الجدب وشحة الأمطار دلنا الإسلام على الطريق الصحيح الذي يربطنا بالله سبحانه، فشرعت لنا صلاة الاستسقاء، وبينت لنا كيفيتها وآدابها، وتعددت طرق الاستسقاء تيسيراً لنا، تارة بالخروج إلى المصلى والصلاة والدعاء، وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة ورفع اليدين لذلك، وتارة بالدعاء المنفرد لمن أراد من المسلمين.

أحكام صلاة الاستسقاء

أحكام صلاة الاستسقاء

كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء

كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان] . مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المؤلفين قدّم لهذا الباب أحاديث ترد الإنسان في قوته وغناه وضعفه وفقره إلى الله، ومن ذلك ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا شباب خشّع، وبهائم رتّع، وأطفال رضّع لصب عليكم العذاب صباً) . وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى في السهام بين المجاهدين في غزوة بدر، فقال سعد: أتجعل من أبلى كمن ليس كذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك! وهل تنصرون إلا بضعفائكم) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وهل ترزقون إلا بضعفائكم ودعواتهم) ، وهكذا رواية أخرى: (لولا شيبان ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم في الخلاء رتّع لصب عليكم العذاب صباً) ، فقد يغيث الله الناس لا لذواتهم، ولكن لما حولهم، ولبعض من معهم من المخبتين إلى الله، ومن الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ونحن نعلم قصة هاجر وابنها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف سقاها الله في ذلك المكان، وفي ذلك الوقت الحرج. ويذكرون أيضاً أن نبي الله سليمان خرج يستسقي، ثم رجع من الطريق، فقيل له: لم رجعت؟ قال: قد سقيتم بدعوة غيركم، قالوا: ما رأينا أحداً! قال: رأيت نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك فاسقنا. فرجع نبي الله سليمان وقال: سقيتم بدعوة غيركم. فكيف رأى النملة وهو يمشي في الطريق؟ وكيف سمع نداءها؟ لقد قص لنا القرآن ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا} [النمل:18] خطبة طويلة عريضة بلسان المقال، أو بلسان الحال، فهذه معجزة خاصة به عليه السلام لا نعلم كيفيتها ولا يعلم ذلك إلا الله. فقد يرحم الله العباد بالحيوان، وقد يرحم الله العباد بالأطفال الرضع، وبالشيوخ الركع، أي: بمن يظهر العبادة والضعف إلى الله، وقد تكون رحمته لمخلوقاته الأخرى من بهائم وحشرات وغيرها. قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً) . الخروج يكون من الداخل إلى الخارج فمن أين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والى أين خرج؟ قالوا: خرج إلى المصلى، فخرج بالناس إلى الفضاء يستسقي ربه، والحديث يبين لنا كيفية الحالة التي خرج بها صلى الله عليه وسلم في طلب السقيا؛ لأن الهمزة والسين والتاء للطلب، فـ (استسقى) أي: طلب السقيا، كما أن (استغفر) معناها: طلب المغفرة والغفران، وهكذا. فنخرج إلى الله تعالى تاركين كل ما لدينا، مظهرين الفاقة والحاجة، رافعين أكف الضراعة إلى الله، قائلين: ها نحن جئناك يا رب لا حول لنا ولا قوة، ولا مال لنا ولا غنى إلا بك، نسألك الغيث والرحمة، ولا نخرج في عروض الخيل وأبهة السلاح وزينة الثياب، بل نخرج متواضعين منكسرين. وبعض المحتالين في السؤال قد يكون عنده مال وفير، وهو معافى في بدنه، لكنه لما يخرج يتكفف الناس يبحث له عن ثياب قديمة، أو يتصنع عاهة؛ ليخدع الناس بمنظره وعاهته، مدعياً الحاجة والفاقة. فنحن نخرج للاستسقاء في حالة الضراعة والذلة والتواضع وإظهار الفاقة والحاجة للمولى عز وجل، فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (متواضعاً) التواضع حساً ومعنىً ألا يكون رافعاً رأسه، ولا مصعراً خده، ولا ضارباً للأرض بقدمه، وإنما يمشي في سكينة وتواضع. قال: (متبذلاً) . يوجد جناس بين التبذل والبذلة، فالبذلة: الهيئة -أي: الثوب الخلق- وقوله: (متبذلاً) معناه لابس لها، أي: خرج في ثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له حلة، وكان له لباس خاص يلبسه يوم العيد، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه وجد حلة جميلة تباع عند باب المسجد، فجاء بها إلى رسول الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: اشتر هذه تلبسها يوم العيد، وتتجمل بها عند الوفود -لأن هذه أماكن تحتاج إلى إظهار الغنى والسعة وشكر النعمة- فنظر فيها صلى الله عليه وسلم وقال: (يلبس هذه -هذه الحلة التي جئتني بها- من لا خلاق له، وبعد قليل أرسلها إلى عمر، فجاء عمر يجري قائلاً: يا رسول الله! أنت قلت فيها: (يلبسها من لا خلاق له) ثم تعطينيها! فقال رسول الله: لا يا عمر! ما أرسلتها إليك لتلبسها) أي: استنتاجك وتقسيمك -يا عمر - ناقص، فمن الممكن أن تلبسها، ومن الممكن أن تلبسها غيرك، أو تهديها لإنسان آخر، أو تتخذها فراشاً، فإن لاستعمالها أوجهاً متعددة. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على تخصيص حلة للعيد والوفود، ولكنه اعترض على نوع قدم إليه، وقد كانت له البردة، وكان يخطب فيها أيام العيد؛ لأنها أيام زينة، وأيام إظهار النعمة شكراً لله على عطائه، وكان يلبسها عند مقابلة الوفود حتى يكون في مظهر الغني الموسع عليه، لا في مظهر الفاقة فيطمع الناس فيه. والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، ولهذا ينبغي على كل من شارك في صلاة الاستسقاء أن يخرج إليها في حالة تواضع في مشيته ومنطقه في الطريق متبذلاً في ثيابه، ولا يخرج بثياب الفخر والعز، والتواضع صفة خُلقية، والتخشع صفة خَلقية، فقوله: (متخشعاً) معناه أنه ليس سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، أي: في خطوات متقاربة، وليس كمن يركض إلى غنيمة أو جهاد ويظهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، بل يمشي بهدوء ورفق وتؤدة. وقوله: (متضرعاً) : يستوي أن يكون بكلماته أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر. قال ابن عباس: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) . وحديث ابن عباس هذا أصل من أصول مباحث صلاة الاستسقاء. فحديث ابن عباس أول حديث جاء به المؤلف في مشروعية صلاة الاستسقاء، وفيه أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ويقولون في التشبيه: ليس من الضروري أن يشبه المشبهُ المشبَهَ به في كل الصور، فقد يقال: فلان كالنخلة، والنخلة طويلة، ولها جذع خشن، وعلى رأسها الجريد، وتثمر البلح ثم الرطب، فهل هو كالنخلة بهذه الصفات كلها، أو أنه كالنخلة في بعض صفاتها؟! فحين نقول: فلان كالنخلة. أي: في الطول. ولا يعني ذلك المشابهة في الثمرة والجريد والجذع الخشن، بل يكفي أن يشبهها في صفة واحدة. وقوله: (كما يصلي في العيد) صلاة العيد ركعتان، فيها تكبيرات وخطبة، ففي أي صفة من تلك الصفات شابهت. منهم من قال: كصلاة العيد في العدد، أي: ركعتان، ومنهم من قال بالتكبيرات، أي: بتكبيرات كتكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قال: في الخطبة، فلها خطبة كصلاة العيد. والآخرون يقولون: كصلاة العيد في الركعات فقط، وحذفوا الصفات الأخرى، وسيأتي إن شاء الله بيان أنواع الكيفية والخلاف فيها، وبيان الجائز من ذلك كله إن شاء الله.

الخطبة في صلاة الاستسقاء

الخطبة في صلاة الاستسقاء قال ابن عباس: [كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه] . شبه ابن عباس صلاة الاستسقاء بصلاة العيد، وعلم أن العيد فيه خطبتان، فقال: (ولم يخطب) ؛ لأن الخطبتين داخلتان في التشبيه بصلاة العيد، فأخرجها بنص مستقل، ولكن هل قال: ولم يخطب. أم أنه نفى خطبة معينة؟ نقول: نفى خطبة معينة، وذلك بقوله: (كخطبتكم) ، كأنه يقول: خطبتكم التي توقعونها في صلاة الاستسقاء مغايرة لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يثبت خطبة، ولكنه ينفي عنها صفة خطبتهم. فنأخذ من حديث ابن عباس: أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، وفيها خطبة، ولكن ليست (كخطبتكم) هذه، أي: من حيث عدم الإطالة، وعدم الزجر ومن حيث إنكم تجعلونها خطبتين تجلسون بينهما، فكأنه يقول: وكان يخطب فيها خطبة ليست كخطبتكم هذه. وسيأتي المؤلف -إن شاء الله- بنصوص تدل على ما كان منه صلى الله عليه وسلم، سواء أعتبرنا ذلك مجرد دعاء، أم اعتبرناه خطبة مع الصلاة، وأيدنا ذلك بتشبيهها بصلاة العيد.

الخروج إلى المصلى للاستسقاء

الخروج إلى المصلى للاستسقاء قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بالمنبر فموضع له بالمصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رُئي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابةً، فرعدت وبرقت ثم أمْطَرَت) رواه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد. وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: (وحول رداءه ليتحول القحط) ] . حديث عائشة رضي الله تعالى عنها من أجمع الأحاديث فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وكيفية فعله صلى الله عليه وسلم، وقولها رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر) أي: غياب المطر، وتخلفه عن موعده، حتى قحط الناس. ويذكر العلماء أن تلك الشكوى سبق نظيرها في مكة قبل الهجرة، حينما اشتد أمر المشركين على المسلمين، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف) فاشتد الأمر بالقحط على أهل مكة، فجاء أبو سفيان في ذلك الوقت وهو على دين قومه وقال: يا محمد! إنك تدعو إلى صلة الرحم، وقد دعوت على قومك، وقد قحطوا، فادع الله أن يسقيهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فأمطروا. وقضية استشفاع المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت مرة ثانية بعد الهجرة، وذلك في قصة ثمامة بن أثال، وهو سيد بني حنيفة باليمامة، خرج معتمراً وهو على دين قومه فأخذته خيل المسلمين، فجيء به أسيراً، وربط في سارية المسجد، وكان يراح عليه بالحليب وهو مربوط في السارية، وكان صلى الله عليه وسلم كلما خرج مر عليه وقال: (كيف بك يا ثمامة) فيقول: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن ترد مالاً أعطيتك ما يرضيك، وإن تمنن تمنن على كريم، وبعد ثلاثة أيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة) فأطلقوه فأتى إلى بعض الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينطق بالشهادتين، فذهب إلى بيرُحاء -وكان بستاناً قريباً من المدينة إلى عهد قريب- فذهب واغتسل، ثم رجع، وبعد صلاة الظهر جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطق بالشهادتين مسلماً، فقيل له: لم لم تشهد قبل ذلك؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم بعد ذلك قال: يا رسول الله! والله لقد كنت أبغض الناس إليّ، ولأنت الآن أحب الناس إليّ، وإني قد كنت خرجت معتمراً، فماذا ترى، قال: (اذهب فأتم عمرتك) ، فلما أتى إلى مكة علموا بإسلامه، فنالوا منه، فأقسم بالله لن تصلكم حبة بر من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورجع إلى بلده، ومنع الميرة أن تؤخذ إلى مكة من وادي اليمامة، وكان وادياً خصباً يمول مكة، فاشتد الأمر على أهل مكة لعدم إرسال الميرة إليهم، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن ثمامة أسلم ومنع الميرة عن مكة، وأقسم أن لا يسمح بها حتى تأذن له، وإن لك بمكة -يا محمد- الخالة والعمة -أي: الرحم- فمر ثمامة أن يسمح بالميرة إلى مكة، فكتب إليه أن مر بالميرة إلى أهل مكة؛ فأمر بها وسمح. المشركون استشفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة قبل الهجرة عندما قحطوا، ومرة بعد الهجرة في الميرة.

مسألة استسقاء أهل الذمة

مسألة استسقاء أهل الذمة وهنا يأتي بحث في الاستسقاء، فلو أن أهل الذمة طلبوا من المسلمين أن يستسقوا من أجلهم، أو طلبوا أن يخرجوا معهم، أو طلبوا أن يستسقوا لأنفسهم، فماذا يكون الحكم؟ يرى الجمهور: عدم الخروج معهم، وألا يمكنوا من الاستسقاء بأنفسهم، وإن طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم فعلوا. وذلك لأنهم قالوا: لو خرجوا وحدهم، وصادف أن سقاهم الله رحمة من عنده لا استجابة لدعائهم، ربما ظنوا أنهم على حق، وأن الله استجاب لهم، وإذا خرجوا مع المسلمين وسقوا من أجل المسلمين، ربما ادعوا بأنهم سقوا بوجودهم معهم، أما إذا طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم، فهذه هي السنة، فيخرج المسلمون، فإن رحمهم الله فبفضل من عنده، وإن لم ينزل المطر، فهذا أمر خارج عن نطاقهم وقدرتهم. ومن عجيب ما سمعت أنه في زمن مضى بعض الدول الأوربية حدث فيها قحط فاستسقى المسلمون فسقوا، أو أن أهل البلاد قحطوا فطلبوا من المسلمين أن يخرجوا ليسألوا الله نزول المطر فخرجوا فأمطروا. ومما يهمنا في هذا الخبر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله) ، وهكذا حال المسلمين، فإذا نابهم أمر هرعوا إلى الرسل، وسألوهم أن يكونوا شفعاء لهم عند الله، فيسألونه رفع الضر الذي نزل بهم.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله قحط المطر، فأمر بمنبر) . ابن القيم رحمه الله يشكك في كلمة المنبر، وابن حجر في فتح الباري يقول: كان ذلك سنة ستٍ من الهجرة في رمضان، والمعروف في تاريخ المنبر أنه صنع سنة ثمان من الهجرة، فالله تعالى أعلم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن صح الحديث وإلا ففي النفس منه شيء. فأمر بمنبر وخرج، أي: خرج من المدينة إلى المصلى ليستسقي للناس هناك. قالت: (فقعد على المنبر (القعود على المنبر ليس في حالة الخطبة؛ لأن الخطبة إنما يكون الخطيب فيها قائماً، فبعضهم يقول: قعد ليدعو، وبعضهم يقول: خطب قاعداً وبعضهم يقول: قعد ثم قام وخطب قائماً. ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون معه فيه، وفي ذلك اليوم، أمر بالمنبر فأخرج إلى المصلى، وخرج الناس معه، فقعد على المنبر. قالت: (فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله) . هناك من يقول: التكبر في صلاة الاستسقاء كالتكبير في العيدين، سبع في الأولى، وخمس في الثانية وبعضهم يقول: كبر مرة واحدة، ولم يأت هنا عدد، فيحمل الحديث على حديث ابن عباس المتقدم: (كما يصلي في العيد) . قولها: (وحمد الله) يقولون: هذا افتتاح الخطبة بالحمد؛ لأن السنة في ابتداء الكلام إما بـ (باسم الله) ، وإما بحمد الله، أو بهما معاً، فهنا بدأ بحمد الله، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله -أو لم يبدأ باسم الله- فهو أجذم، وفي رواية: أقطع، وفي رواية: أبتر) يعني: ناقص. (ثم قال) يخاطب الناس: (إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) . يبين ويذكّر العباد بما جاء عنه سبحانه وتعالى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء بقدر ما أهتم بإلهامي الدعاء) . لأن الإجابة وعد من الله، فقد قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فبقي الدعاء منا، فنحن نهتم بأن يلهمنا الله الدعاء أكثر من اهتمامنا بأن يستجيب الله لنا؛ لأنه وعد بذلك. قالت: (ثم قال: الحمد لله رب العالمين) بعد أن أمرهم بأن يتوجهوا بالدعاء قال: (الحمد لله رب العالمين) ، وهذه فاتحة سورة الفاتحة، وقرأ صلى الله عليه وسلم من سورة الفاتحة جملة: (الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) . يقول بعض العلماء: في هذا الحديث ترجيح إحدى القراءتين؛ لأنه قرئ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وفي الأخرى: (ملك يوم الدين) ، وهي قراءة مالك، فقالوا: في هذا الحديث قرأ صلى الله عليه وسلم (مَالِكِ) بمد الميم، من الملك. وقد يقول المالكية: ومن الذي يحتم بأنه أراد القراءة، ربما أراد الافتتاح أيضاً، والله تعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) . هذا التسليم والتفويض لله؛ لأنه الإله الخالق الرازق المدبر: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] يعني: أراد القحط فوقع القحط، ويريد الخصب فيأتي الخصب، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه. ولهذا يقولون من باب التندر: إن عمرو بن عبيد -وهو من رؤساء القدرية- جاءه أعرابي وقال: إن حماري قد ضاع فادع الله لي أن يردها. فرفع يديه وقال: اللهم إن حماره سُرق ولم ترد أن يُسرق، فقال: يا هذا! امسك عليك دعاءك، والله لئن كان سرق ولم يرد أن يُسرق فقد يريد أن يرد ولا يُرد عليّ، أمسك عليك دعاءك. فقوله: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) يدل على أنه إن أراد خيراً فعل ولا أحد يرده، وإن أراد شراً فعل ولا أحد يدفعه، فلا يسوق الخير إلا الله، ولا يرد الشر إلا الله. وقوله: (اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت) . (اللهم) بمعنى: يا الله. والميم في الآخر بدل عن الياء في الأول، والياء ياء النداء. وقوله: (أنت الله لا إله إلا أنت) أي: أنت الفعال لما يريد، ولا إله إلا أنت، ولا غالب لما أردت. وقوله: (أنت الغني ونحن الفقراء) هذا هو التضرع، فأنت الغني بيدك خزائن الملك وملكوت كل شيء، ونحن الفقراء لا نملك شيئاً إلا ما أتانا من عندك، وهذه هي الضراعة، وهذا هو الالتجاء إلى الله، كما تقدم أنه خرج متبذلاً متخشعاً متواضعاً، وهنا يظهر الفاقة والحاجة لرب العالمين، ويعترف بأن الغنى المطلق هو لله سبحانه وتعالى. قوله: (أنزل علينا الغيث) أي: ما دمت غنياً ونحن فقراء عاملنا بفقرنا، وأعطنا من غناك، وأنزل علينا الغيث؛ لأنه من عندك. قال: (واجعل ما أنزلت) ، ولم يكن الغيث نزل عند كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزلت) لأنه صلى الله عليه وسلم موقن بمجيء الغيث، وكأنه قد نزل بالفعل. قال: (واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً) : قوله: (قوة وبلاغاً) أي: لا بطراً ولا هلاكا، ً والبلاغ والبلاغة والبلوغ: الشيء الذي يُبَلِّغُكَ الغاية التي تريدها. أي: اجعل ما أنزلت من الغيث قوة لنا، وقد يقال: وهل الغيث فيه قوة؟ والجواب: الغيث مطر ينزل، ولكن المراد: اجعله سبباً لما ينشأ عنه من إحياء الأرض وإنبات النبات وإيجاد الثمار التي تكون قوة لنا. قال: (وبلاغاً إلى حين) أي: ليس طغياناً نطغى به، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، ولكن اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا في ديننا ودنيانا نستعين به على ما تحبه وترضى وقوله: (إلى حين) أي: إلى أجل.

رفع اليدين في الاستسقاء

رفع اليدين في الاستسقاء قالت رضي الله عنها: (ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه) . في هذا الحديث: (ثم رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه) يقال: كيف هذا الترتيب؟ فهل كونه رفع ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه هو قبل الرفع أو بعد الرفع؟ هنا حذف خفي على بعض الناس، فادعى أنه لم يرفع يده في دعاء إلا الاستسقاء، كما جاء في أثر أنس: (ثم رفع يديه ولم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه) يعني: بالغ في رفع يديه في دعائه في الاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه، بخلاف المواقف الأخرى، فيمكن أن يرفع يديه حذو منكبيه، أو حذو أذنيه ولا يرى بياض إبطيه، لكن هنا في شدة الضراعة واللجوء إلى الله وإظهار الحاجة بالغ في رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه. وهنا ينقل العلماء عن النووي رحمه الله، أنه أنكر على من ينكر رفع اليدين في الدعاء مطلقاً، ويقول: لم يأتِ رفع اليدين إلا في الاستسقاء، كما في حديث أنس: (ما رفع يديه إلا في الاستسقاء) وأجاب العلماء عن قوله: (ما رفع يديه) أي: على تلك الحالة التي رئي فيها بياض إبطيه إلا في الاستسقاء. يقول النووي رحمه الله: ولقد جمعت في ذلك رسالة فوق الثلاثين حديثاً في رفع اليدين، في عموم الدعاء، وذكر ذلك في كتاب (المجموع) في نهاية باب الصلاة، وينقله العلماء عنه لنفاسته. وقال بعد أن ذكر الأحاديث: ومن ظن أنه لا ترفع الأيدي إلا في هذه المواطن فهو جاهل. أي: إن العبرة بعموم الأحاديث في رفع اليدين عند كل دعاء، ومن أعم ما جاء في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحيي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يعني: لابد أن يجيبه، كما لو جاءك السائل فإنك تستحيي أن ترده بلا شيء، فتعطيه ما تيسر، فكذلك الله تعالى يستحي من عبده إذا مد إليه يديه، لم يعين ولم يحدد صلى الله عليه وسلم في أي شيء يمد يديه بل جعله على العموم. وقولها: (رفع يديه ولم ينزل) أي: لم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.

تحويل الرداء في الخطبة قبل الدعاء

تحويل الرداء في الخطبة قبل الدعاء قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) كان على المنبر يحمد الله بهذه الكلمات الكريمات مواجهاً للناس. واجهة الخطيب للمصلين تكون بطبيعة الحال معاكسة لجهة القبلة، فتكون القبلة وراءه، وليس معقولاً أن يستدبر الناس ويخاطبهم، فليس هذا من الآداب، بل سنة الخطبة أن يواجه الخطيب من يخاطبهم. قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) أي: لما استقبل القبلة. قالت: (وقلب رداءه) ، وجاء: (حول رداءه) ، وجاء: (كانت عليه طنفسة غليظة فأراد أن يحولها فثقلت عليه فقلبها) ، وجاءت عدة ألفاظ. والراجح من كل تلك الألفاظ أنه حول، وجاء التصريح أنه جعل الطرف الأيمن على الكتف الأيسر، والطرف الأيسر على الكتف الأيمن، والفرق بين (قلب) و (حول) أن القلب معناه أنه كان طرف الرداء الأعلى على رأسه، فإذا كان (قلب) فسينزل هذا الطرف إلى أسفل، ويأتي بالطرف الأسفل إلى أعلى، وتبقى أطراف اليمين في اليمين، واليسار في اليسار، لكن التحول معناه أنه يأخذ الرداء كله ويرفعه، فالأيمن يجعله أيسر، والأيسر يجعله أيمن. والمشهور أو الراجح أنه حول، وبعض العلماء يقول: تارة قلب، وتارة حول وكل ذلك تفاؤل واستشعار بتحويل الحال التي هم عليها إلى حال أحسن منها، أو قلب الوضع من جدب إلى خصب، وكل ذلك لا بأس به. يقول ابن حجر: وكان رداؤه صلى الله عليه وسلم ستة أذرع في ذراعين، وبعضهم يزيد: وشبرين. فالمهم أنه حول الرداء، والآن لا أحد يلبس الرداء. فإذاً: كان ما يلبس قابلاً للتحويل فيحول، فإن كان مشلحاً حوله، فيجعل كم اليد اليمنى في اليسرى، وما كان في اليد اليسرى يجعله في اليد اليمنى، وجعل المشلح بهذا الحال يقتضي القلب؛ لأنه ما كان في الداخل سيكون في الخارج، وما كان خارجاً سيكون داخلاً. وعلى كل إذا لم تكن هناك عباءة أو مشلح فهناك ما يضعه على الرأس فيحوله أو يقلبه. وفي ذلك الاستشعار والتفاؤل بتغيير الحال الذي هم فيه إلى حال أخرى أحسن منها. قالت: (وقلب رداءه وهو رافع يديه) . في حالة رفع اليدين أمسك بالرداء وقلبه أو حوله. قالت: (ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين) . بعدما أجرى حركة الرداء تحويلاً أو قلباً استقبل الناس بوجهه، ونزل من على المنبر، أي: عاد إلى حالته الأولى،:ثم قام فصلى ركعتين، ومن هنا بعض الناس يقول: خطبة الاستسقاء تكون قبل الصلاة وقال آخرون: لا. فقد جاءت أحاديث أخرى تفيد أن خطبة الاستسقاء بعدها. فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان دعاء، وليس خطبة؟! سيأتي البحث: هل يخطب لها أم لا، وهل يخطب بعدها أم قبلها، وسيأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الآتية إن شاء الله.

استجابة الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم

استجابة الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم قالت: (فأنشأ الله تعالى سحابة) . أسندت عائشة رضي الله عنها الإنشاء إلى الله، فهو الفعال لما يريد، وليس كقول الجغرافيين، ولا كقول الفلكيين: بنوء، أو بتبخر ماء البحر، وإنما أنشأ الله سحابة، وستأتي الرواية: (فوالله ما بيننا وبين سلع من سحابة ولا قزعة) . والسحابة: السحاب المتواصل المتراكم، والقزعة: السحابة المتقطعة، كما في الحديث: (نهى عن قزعة الشعر) ، أي: أن الإنسان يحلق جزءاً ويبقي جزءاً، وهذا لا يجوز، وابن حجر يذكر رواية: (والسماء كالمرآة صافية) ، أي: ليس فيها شيء، فأنشأ الله سحابة من وراء سلع -من جهة الغرب؛ لأن المدينة شمالها إلى أحد، وغربها إلى وراء سلع- فأنشأ الله سحابة من وراء سلع، وبعضهم يقول: كرجل الطير، وبعضهم يقول: كالترس والترس: هو الآلة التي يمسكها المقاتل يتترس بها من ضربات العدو بالسيف أو الرمح. يعني: لا يزيد قطرها عن خمسين أو مائة سنتيمتر. وفي الحديث: (فجاءت ريح فساقتها، حتى أقلت سماء المدينة، فانتشرت فأمطرت) ، وهذا الذي أشرنا إليه سابقاً بأن سوق السحاب وإنشاء السحاب وإنزال المطر إنما هو من الفعال لما يريد سبحانه وتعالى. قالت: (فرعدت وبرقت ثم أمطرت) . الرعد والبرق يذكر بعض العلماء أنه من عوامل السحب، أو من تنقيحها. قالت: (ثم أمطرت) أي: تلك السحابة التي نشأت، وجاءت وهم يرونها. قال المصنف: [رواه أبو داود، وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ] . الزيادة هنا أنه في صلاته جهر بالقراءة، وعائشة رضي الله تعالى عنها أخبرتنا أن خروجه كان حين بدا حاجب الشمس، وصورة الشمس في أول خروجها تشبه استدارة الحاجب على العين، وذلك في أول ظهور حافتها العليا، فتكون في صورة حاجب العين، أو في صورة الهلال، فحينما بدا كان قبل أن يكتمل القرص في الظهور، ولما وصل إلى هناك، أكتمل القرض بالظهور، وصحت الصلاة بعد شروق الشمس. قال المصنف: [وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: (وحول رداءه ليتحول القحط) ] . هناك (قلب) ، وهنا (حول) ، فالرواية باللفظين، وأيهما فعل فلا مانع في ذلك، وزادنا هنا: (ليتحول الحال) ، أي: تفاؤلاً.

الاستسقاء في خطبة الجمعة

الاستسقاء في خطبة الجمعة قال المصنف: [وعن أنس (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا. فرفع يديه، ثم قال: اللهم أغثنا. اللهم أغثنا) وذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها، متفق عليه] . الحديث الأول فيه أنه وضع له منبر وخرج، فتلك صورة من صور الاستسقاء. والحديث الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً يخطب يوم الجمعة، فليست خطبة استسقاء، فدخل رجل -يعني: بعد الشروع في خطبته- فالخطبة ليست لمجيء الرجل، وإنما الخطبة للجمعة، فقد يقع الاستسقاء مستقلاً بخروج الإمام وخروج الناس معه، وقد يقع ضمن خطبة الجمعة في المسجد. فهذا رجل دخل -ويقال: من باب مقابل المنبر- (فقال الرجل: يا رسول الله! هلكت الأموال ... ) أي: من القحط، فما بقي شجر، ولا بقيت دواب، ولا أنعام، وما بقي مرعى، فإذا لم يبق مرعى هلكت الأنعام. قال: (وانقطعت السبل) . السبل: جمع سبيل، وهي الطريق، والطريق ممدود في الأرض فكيف تنقطع؟ والجواب: أن المراد أنقطع استعمالها، إما لأن الإبل وهي سفينة الصحراء -كما يقال- لم يبق عندها ما تأكل، فلا تستطيع أن تذهب أو أن تسافر، كما لو انعدم الآن البنزين، فالسيارات ستبقى في محلها، كذلك هنا، فإذا المرعى للإبل انقطع لن تقوى الإبل على السير، أو أن السبل كانت تستعمل لنقل المنتجات وغلات الزرع، ولم يبق هناك زرع ولا ثمار، فلا يبقى هناك أسفار؛ لأن موجب الأسفار تعطل. قوله: (فادع الله عز وجل يغيثنُا) روي: (يغيثنا) بالرفع، و (يغيثَنا) بالنصب، فعلى رواية الرفع يكون التقدير: (فادع الله إن دعوته) . وعلى رواية النصب يكون التقدير:: (ادع الله عز وجل أن يغيثَنا) فكلا الروايتين وارد وموجود، وله توجيه في الإعراب، والغرض من ذلك: ادع الله لنا بالغيث. قال أنس:) فرفع يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ... ) هذا الحديث -حديث أنس - فيه زيادات: فقد ذكر فيه قضية السحابة ومجيئها، حيث قال: فأمطرت، فوالله ما رأينا الشمس سبتاً. أي: أسبوعاً. وفي بعض الأقطار يسمون الأسبوع جمعة، فالجمعة الأولى والجمعة الثانية، والشهر عندهم أربع جمع، أي: أربعة أسابيع، ويرمزون إلى الأسبوع بجزء منه وهو يوم الجمعة. يقول بعض العلماء: هذا الصحابي قال: (ما رأينا الشمس سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً من صلاة الجمعة إلى يوم السبت الآتي بعدها. يقول بعض العلماء: إن كلمة (سبت) أخذها الأنصار من اليهود؛ لأن اليهود يعتبرون يوم أسبوعهم هو يوم السبت، والنصارى يعتبرون أسبوعهم يوم الأحد، والمسلمون يعتبرون أسبوعهم يوم الجمعة، فكان مستعملاً قبل ذلك وعرفاً سارياً، فاستعمل الكلمة على ما هي جارية على ألسنتهم. والغرض من ذلك أنهم أمطروا، وما رأوا الشمس سبتاً، أي: استمر المطر من حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مر عليهم السبت الآتي بعد يومهم ذلك. وجاءت روايات: (فأمطرت كالجبال) ، وجاءت روايات: (وكان هم الرجل أن يصل إلى مكنة) يعني: ما يكنه من المطر من شدة ما نزل من الماء.

جواز الدعاء بإمساك المطر إذا خشي الضرر

جواز الدعاء بإمساك المطر إذا خشي الضرر قال المؤلف رحمه الله: [وذكر الحديث وفيه الدعاء بإمساكها متفق عليه] . اختصر الحديث اختصاراً شديداً، وتتمة الحديث في يوم الجمعة الثانية دخل رجل من نفس الباب، وفي بعض الروايات (دخل الرجل) فاللام للعهد، أي: الرجل الأول، وبعضهم يقول: لا ندري أهو بعينه أم غيره. فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعو الله أن يمسكها عنا. فضحك صلى الله عليه وسلم، وتبسم لشدة خلف ابن آدم، فمن قبل تشتكون الجدب، والآن تشكون المطر! ثم أجابهم، وقد نقل ابن حجر وغيره عن قتادة: أن فيه إظهار كرامة الله لنبيه كما أشرنا سابقاً أن الاستسقاء فيه إثبات المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء وللصالحين، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة، وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية، ومنابت الشجر، ويشير بيده) ، فيقول الراوي: والله إنا لنرى السحاب يتفتق ويتقطع وينفلق، فطلعت الشمس وخرجنا نمشي في الشمس. وبعضهم يقول: تحولت حول المدينة، وأصبحت المدينة كأن عليها التاج أي: كان السحاب محيطاً حول المدينة، وعلى سماء المدينة ما في سحاب ولا مطر، فسبحان الله، ولا إله إلا الله يفعل ما يريد. وهنا جواز الدعاء بإمساكها، وهنا ينبه بعض العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أمسكها عنا ولكن طلب رفع الضرر، وأنه قد اشتد أمر نزولها علينا فتضررنا، فحولها إلى ما لا ضرر فيه، فإنها إذا نزلت على الآكام، -وهي المرتفعات- وعلى الجبال، وعلى بطون الوديان جرت الوديان، وسقت الأرض، وشربت الدواب، فكان في وجودها وجريانها في مجراها خير كثير، بخلاف ما إذا أمطرت على البيوت فإنها قد تهدمها، فلم يسأل صلى الله عليه وسلم ربه أن يمسكها؛ لئلا يقع في طلب الإرسال أولاً، ثم طلب الإمساك، وإنما طلب رفع ضررها بأن تتحول إلى الأماكن التي لا يحدث منها فيها ضرر.

كتاب الطهارة - باب صلاة الاستسقاء [2]

كتاب الطهارة - باب صلاة الاستسقاء [2] إن للاستسقاء آداباً، منها أن يكون الداعي فيه من صالحي الناس، لا سيما إذا كان من آل بيت النبوة فإنه يقدم للاستسقاء، وأيضاً من آداب دعاء الاستسقاء أن يكون دعاءً جامعاً شاملاً فيه الثناء على الله وإظهار الفاقة إليه والحاجة، وفيه التوسل بأسماء الله وصفاته المناسبة للمقام، وإن مما ينبغي الحرص عليه في الدعاء أيضاً تقديم الضعفاء والفقراء؛ فإن سليمان عليه السلام قد اكتفى باستسقاء نملة.

تابع أحكام صلاة الاستسقاء

تابع أحكام صلاة الاستسقاء

الدعاء في الاستسقاء وممن يكون

الدعاء في الاستسقاء وممن يكون باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس -: أن عمر رضي الله عنه كان إذا قُحطوا استسقى بـ العباس بن عبد المطلب وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون) . رواه البخاري] . هذا العمل من أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يدل دلالة عظيمة جداً على مكانة عمر أولاً، وعلى مكانة العباس ثانياً، وعلى ما ينبغي مراعاته في الاستسقاء بأهل الخير. أما من جانب عمر رضي الله تعالى عنه فإنه أمير المؤمنين الملهم المحدث، الذي وافقه ربه في نزول القرآن في ستة مواطن، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر) ، فهو بهذه المثابة، وخليفة رسول الله، وهو خليفة راشد، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق، ومع هذا يتنحى أن يتقدم يستسقي للمسلمين بوجود من هو أفضل منه في هذه الميدان. فهناك رجال يصلحون للعبادات والدعاء لقربهم من الله، وهناك رجال يصلحون لسياسة الملك، وقهر العدو، وإصلاح أمر دنيا الناس. فـ عمر يبين لنا هذه الخصائص، وقد جاء عن مالك رحمه الله قوله: لقد تركت تحت سواري هذا المسجد رجالاً إني لأرجو دعوتهم عند الله، ولم آخذ منهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن. فهم ليسوا من أهل هذا الشأن، تفوتهم بعض صفات الرواة، فيمكن أن يتساهلوا، ويمكن أن لا يضبطوا، فهم في شأن آخر. فخصائص الناس تختلف، فمنهم من يصلح لأمر ولا يصلح لأمر آخر، وهنا عمر تواضع وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أمر المسلمين، ومع ذلك يتأخر، ويقدم العباس. وذلك ما ينبغي على الإمام وكل من أراد أن يستسقي، وهناك حديث مكتوب في منبر عثمان رضي الله تعالى عنه: (أئمتكم وافدوكم إلى الله، فتخيروا من توفدون) ، فالإمام الذي يصلي بنا وافدنا إلى الله قدمناه يسأل الله لنا، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا} [الفاتحة:5-6] ، فهو وافدنا يسأل لنا الله، وقوله: (فتخيروا) أي: انظروا. (من توفدون) ، أي: أفضلكم وأقرؤكم لكتاب الله. ومن هنا نعرف مكانة العباس، وجاء في بعض الروايات عن عمر: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل العباس منزلة والده فتأسوا برسول الله) يعني: رأيت رسول الله يكرم عمه العباس كما يكرم أباه، أو كان يعزه أو يجله كما يُعَزُّ الوالد، فتأسوا برسول الله وقدموه. وهنا العباس رضي الله تعالى عنه عرف هذه المكانة، فقام عمر بين يدي الله قائلاً: اللهم إنا كنا نتوسل أو نستسقي برسول الله فتسقينا. والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة. وفي فتح الباري أن رجلاً أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الاستسقاء، فرأى في المنام أن: ائت عمر. وهذا يعلق عليه الشيخ ابن باز في طبعته بأنه لم يصح. والذي عليه الرواية الصحيحة هنا أن عمر لم يأت إلى القبر، ولم يأت أحداً، ولكن توجه إلى الله بالأصل، ولم يبعد عمر عن الأصل -أي: رسول الله-؛ لأنه قدم واحداً من آل بيت رسول الله، ألا وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول العلماء: إذا أراد الإمام أن يستسقي وفي الناس من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالحين فإنهم أولى بأن يقدموا على غيرهم؛ لأن معهم زيادة فضل، وهو نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: وإنا الآن نتوسل إليك بـ العباس -ولم يكن التوسل بشخصه ولكن بدعاءه قم- يا عباس -فاستسق لنا. أو: قم- يا عباس -فادع لنا. فلو كان الاستسقاء بذاته لكان سيبقيه في مكانه، ولكن بدعائه، فقام العباس وسأل الله بمكانته من رسول الله، وبطاعته لله أن يسقي الناس فسقوا في حالهم.

ما يفعل عند السقيا بنزول المطر

ما يفعل عند السقيا بنزول المطر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه) رواه مسلم] . بدأ المؤلف رحمه الله يذكر بعض جوانب أو آثار الاستسقاء لمن مطروا بغير استسقاء، أو بعد الاستسقاء، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى ماء المطر، وخاض بساقيه، وحسر ثوبه، وقال: (إنه حديث عهد بربه) تبركاً بهذا الماء النازل غوثاً للمسلمين. يقول العلماء في تفسير قوله: (حديث عهد بربه) : إن المطر جاء من السحاب، والسحاب دون السماء الأولى، والله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه كما بيّن سبحانه وتعالى، وهذه أمور لا يدركها العقل. قالوا: أي أن الله سبحانه وتعالى ساقه برحمة منه، فهو حديث عهد برحمة الله التي رحم بها أهل الأرض. ومن هنا يتبرك به صلى الله عليه وسلم فيغمس قدميه فيه، وفي بعض الروايات: (رُئيَ المطر ينزل من لحيته) ، وفي بعضها: (حسر عن رأسه، وقال: أصيبوا منه) ، إلى غير ذلك، حتى قيل بأنه كان يشرب منه، وكان يتوضأ منه، وكان يخرج إلى وادي قناة، وكان أغزر أودية المدينة مطراً، إلى غير ذلك من الروايات، فلا مانع أن يصيب الإنسان من المطر إذا كان عند نزوله، أو يأتي إلى الوادي ويغسل يديه أو رجليه منه، أو يشرب منه إن طابت له نفسه إذا كان صافياً صالحاً للشرب، أو غير ذلك، فكل ذلك تبرك بهذا الماء الجديد لأنه حديث عهد بربه، أي: بأوامره وبإنزاله، وبإغاثته للعباد برحمة منه سبحانه.

الوارد عند رؤية المطر

الوارد عند رؤية المطر قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيّباً نافعاً) أخرجاه] . تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر -أي: إذا نزل ورآه رأي العين وتأكد من نزوله- قال: (اللهم صيّباً نافعاً) . و (الصيّب) أصله: صيْوِب، وعند علماء الصرف أنه إذا اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، كما في (جيّد) ، فأصله (جَيْوِد) ، من الجودة. وأصل (الصيب) من الإصابة، تقول: صوب السهم فأصاب الرمية. وسمي المطر صيباً لأنه ينزل ويصيب مكانه، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم المطر دعا الله أن يجعله صيباً نافعاً، وذلك مخافة أن يكون صيباً ضاراً؛ لأنه إذا زاد المطر عن مقدار تَحمُّل الخلق أو الأرض كان ضرره أكثر من نفعه، ونحن نشاهد ونسمع بالكوارث والحالات التي يأتيها المطر غزيراً فيهلك الزرع، ويهدم البنيان، ويكسر الطرق والجسور، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة منه بالأمة حينما يرى المطر يقول: (اللهم صيباً نافعاً) . و (صيب) من أسماء المطر أيضاً، ومنهما (الوبل) ، ومنها (الرذاذ) ، ومنها (الهتان) ، وكلها أسماء تأتي على حسب صفاته وحالاته وشدته ورقته، والله تعالى أعلم.

ما يحسن الدعاء به عند الاستسقاء

ما يحسن الدعاء به عند الاستسقاء قال المصنف: [وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: (اللهم جَلّلْنا سحاباً كثيفاً ... ) ] . الجلال: جمع جلالة، والجلالة: الثوب الذي يوضع على البُدْن حينما تساق هدياً إلى بيت الله، وتقول: فلان جلل فلاناً بالنعم. أي: غطاه وغمره، فكذلك كانوا إذا ساقوا الهدي إلى بيت الله تكريماً وإمعاناً في القربة إلى الله، يزينون تلك البدن بنوع من الأقمشة الجديدة، فيجعلونها عليها تجميلاً لها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى إلى البيت كسا هديه من الجلال في أول خروجها، ثم إذا أراد أن يشعرها كشفها عنها، ثم بعد ذلك يلبسها إياها، ثم ينزعها حتى تدنو من مكة، فإذا دنت من مكة جللها وذهب بها إلى الموقف، ثم إذا رجع وأراد أن ينحرها، أخذ الجلالة عنها حتى لا يصيبها الدم، وتصدق بجلالها مع لحمها. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم جللنا سحاباً) . أي: ارزقنا سحاباً يكون عامّاً شاملاً كما تشمل الجلال بهيمة الأنعام من البدن. وفيه إشارة لطيفة بأن تكون تلك السحابة من باب الجلال، أي: لطيفة نافعة؛ لأن الجلال لا تضر الإبل، فتحملها الإبل متزينة بها، فكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بطلب السحاب، وأن يكون شاملاً مغطياً عاماً كشمول الجلال لبهيمة الأنعام في البُدْن، والله أعلم. وقوله: (سحاباً كثيفاً) السحاب يأتي خفيفاً، ويأتي كثيفاً متراكماً، والخفيف يسمى الكهام أو الجهام، وهي التي أمطرت ما فيها وأصبحت خفيفة، وتجد السحب الخفيفة سريعة المشي؛ لأنها خفيفة على الرياح، فتمضي سريعاً، أما السحاب المحمل بالماء فتجده بطيئاً في المشي؛ لأنه مثقل بالماء ومحمل به، فالكثيف المتراكم بعضه فوق بعض والمحمل بالماء بخلاف الكهام أو الجهام الذي أراق ماءه، أو لم يحتمل الماء. وقوله: (قصيفا) . القصيف: فعيل من القصف يقال لصوت قصف الرعد، فالقصيف: الصوت الشديد، كقصف المدافع والأصوات الشديدة، فهذا يدل على كثافة السحاب وغزارة المطر. قال: (دلوقاً) . الدلوق: فعول من (دلق) ، والعامة قد تقول: دُلق ماء الإناء. بمعنى: أُفرغ ما فيه، وتقول: الماء اندلق، والكأس اندلقت، بمعنى انكفأت وسقط ما فيها، فـ (دلوقاً) ، معناها: غزير الماء. ويقال: إبل دلوق، إذا كانت سريعة، أو: خيل دلوق، إذا كانت سريعة، وكذلك الإناء أو الكأس، فما أسرع خروج الماء منه فهو اندلاق. قوله: (دلوقاً ضحوكاً) . السحاب الضحوك هو الذي يكون فيه البرق، كأنه يتبسم، فهي أوصاف عجيبة جداً، من أنواع البلاغة، واستعمال اللطيف من العبارات، فيسمى أو يعبر عن ضوء البرق الذي يلمع بأنه ثغر آدمي يضحك. قال: (تمطرنا منه رذاذاً) . (تمطرنا منه) كل ما تقدم صفات للسحاب، فإذا اكتملت تلك الصفات لهذا السحاب فكان مجللا، كثيفاً، قصوفا، ً دلوقاً، ضحوكاً قيل: ماذا ينزل من هذا كله؟ مخافة أن تكون هذه الصفات فيها من جرم الماء وكثرته ما يضر، فيكون الدعاء: ابعث لنا سحاباً هذه صفاته، وتمطرنا منه رذاذاً. وفي فقه اللغة أن الصوت يوحي بالمعنى، ومن ذلك قول عباد الصيمري من علماء اللغة: إن بين اللفظ ومعناه رائحة شمها أولوا الألباب. بمعنى أن الفطن صاحب الفطرة الصحيحة إذا سمع لفظة فهم معناها من جرس صوتها، واستدل بذلك على أسماء الأصوات في اللغة، وبعض المصادر تدل على معانيها ولو لم تعلمها من القاموس، فتسمع -مثلاً- كلمة (غليان) ، و (جريان) ، فهذا النطق فيه حركات متوالية، ففي (جَرَيَ) ثلاث حركات متوالية بالفتح، فـ (جريان) ، لا يدل على الجلوس، وإنما يدل على الانطلاق، و (غليان) ، تدل على أن الماء تحرك. وحين تقول: (حفيف الشجر) فكلمة (حفيف) ، توحى بأن شجرة تحركها الرياح وراءك، ولما تسمع (زقزقة العصافير) وتكررها بقولك: (زق زق زق) فكأن عصفوراً في القفص وراءك. فقالوا: إن أسماء الأصوات مأخوذ من معانيها ما يدل عليها بجرسها، فهنا لفظة: (رذاذاً) كأنها تعطي المعنى، أي: خفيف خفيف. قال: (تمطرنا منه رذاذاً قِطْقِطْاً) . قوله: (قِطْقِطْاً) هو كقولك: ليقطر نقطة نقطة، فليس هو صب القرب حتى تغرق الدنيا، ويكسر الشجر وتهدم البيوت، وإنما شيئاً فشيئاً، فكأنه شيء غير متواصل، فهو خطوة خطوة، ومقاطع منفصلة. قال: (قِطْقِطْاً سَجْلاً) . قوله: (سَجْلاً) منه السِجل، والذَنُوب، وهي أنواع من أواني المياه.

استحباب الدعاء بأسماء الله وصفاته بما يتناسب مع الحاجة

استحباب الدعاء بأسماء الله وصفاته بما يتناسب مع الحاجة قال: (يا ذا الجلال والإكرام) . هذه صفات الله سبحانه وتعالى، يتوسل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة في قضاء ما سأله إياه، والجلال والعظمة والكبرياء صفات هي صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى، ومن صفات العظمة والكمال والجلال الأسماء الثلاثة: الملك، والإله، والرب، وكلها جاءت في سورة الفاتحة، وفي المعوذتين في آخر المصحف. وأما كونه ذا الإكرام فنحن نسأل ونطلب، فتسأل حاجتك وتطلبها من كريم، فنظهر ونتوسل بهذا الاسم وبتلك الصفة التي تناسب الحاجة. ومن هنا يقول العلماء في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، وفيما جاء الحديث (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) يقولون: هل معنى (أحصاها) حفظها كما هي مكتوبة في آخر المصحف -كما في بعض الطبعات الهندية-، أن (أحصاها) فقه معناها؟ وحضرت مجلساً انعقد بين والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع في بيت الشيخ، وتذاكرا وقتاً طويلاً، وأخيراً استقر الأمر على أن (حفظها) بمعنى: صانها من التحريف والتأويل، وتأدب بها، فإذا قرأ أو إذا ذكر اسم الله الكريم فلا يبخل، وإذا ذكر اسم الله الرحيم فلا يتجبر، وإذا ذكر اسم الله الرزاق فلا يمنع، وهكذا يتخلق بأخلاق مدلول أسماء الله سبحانه وتعالى. وهنا يقولون في هذه الآية الكريمة: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يقولون: لن يتأتى لإنسان أن يسرد تسعة وتسعين اسماً، ويقول: يا رب: أعطني، أو يا رب: ارزقني. أو: يا رب: اغفر لي. قالوا: المراد هنا والمناسب أنك إذا سألت الله شيئاً انظر من أسمائه سبحانه ما يتناسب مع هذا الذي سألته، وتوسل إليه سبحانه بهذا الاسم، فإذا كان الإنسان فقيراً ويريد التوسع في الرزق، فهل سيقول: يا قهار، يا جبار، أم سيقول: يا رزاق، يا كريم؟ سيقول: يا رزاق، يا كريم. وإذا كان يطلب المغفرة فهل سيقول: يا شديد العقاب يا شديد العذاب، يا جبار؟ إنه سيقول: يا غفار. يا رحيم، وهكذا. وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل ليلة القدر، فقالت يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني) . أي: من صفاتك العفو، وأنت تحب العفو، وتحب من يعفو عمن ظلمه، فأسألك بما تحبه، وما أنت متصف به أن تعفو عني. فالسؤال يكون بذكر الصفة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، والتي يحبها في عباده، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها لم تقل: يا رزاق، يا كريم. ولم تقل: يا غفور، يا رحيم. ولم تقل: يا ذا الجلال والإكرام. ولم تقل: سبوح قدوس. وكل ذلك من صفاته سبحانه وتعالى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمها أن تأتي لمسألتها فتسأل الله بالصفة التي ترتبط بهذه الحاجة، وهكذا هنا: (يا ذا الجلال والإكرام) .

استسقاء نبي الله سليمان عليه السلام

استسقاء نبي الله سليمان عليه السلام قال المصنف: [رواه أبو عوانة في صحيحه.

استسقاء النمل مع سليمان عليه السلام

استسقاء النمل مع سليمان عليه السلام قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خرج سليمان عليه السلام يستقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) رواه أحمد، وصححه الحاكم] . هذا الحديث يستوقف كل مسلم وقفة طويلة، لا للاستسقاء فحسب، ولكن للتأمل في عجائب قدرة الله، وللتأمل فيما وهب الله لأصغر مخلوقاته من معرفته سبحانه، وما أهمه وجعل فيه من غرائز. تفوق عقل الإنسان في تصرفاته وعقائده. وهذا الحديث يمكن أن يدخله العلم في عدة أبواب، فمثلاً في الأصول يدخل في مسالة (شرع من قبلنا هل هو شرع لنا) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا ما وقع لمن كان قبلنا، وهو نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وسليمان عليه السلام قد خصه الله بملك لم يأته لأحد من بعده، فعلمه منطق الطير، وسخر له الجن والريح، وأعطاه -كما في كتاب الله- ما لم يؤت أحد من العالمين. وها هو كما في كتاب الله يسمع خطاب النملة، ويفقه ما قالت، ويتبسم ضاحكاً من قولها، وها هو صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يخبرنا بأن نبياً قبلنا -وهو نبي الله سليمان- خرج يستسقي. فالاستسقاء قديم في الأمم الماضية، وهو دأب المسلمين الذين يعلمون بأنه لا يسوق الخير إلا الله، ولا يدفع الشر إلا الله، ولا يقوى على إنزال المطر سواه، فخرج نبي الله سليمان يستسقي -أي: يطلب السقيا، وبمن معه- فإذا به يرى النملة. وأما كيف رأى النملة وكيف سمعها فهذا أمر لا يقوى عقل البشر على إدراكه، وإنما عليه أن يؤمن بما وقع، ويترك كيفية وكنه ذلك لله رب العالمين. وإن قيل: كيف يراها على صغرها وهو خارج في جمع من الخلق؟ نقول أيضاً: وكيف سمعها وهو في جنده وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. } [النمل:18] فالله سبحانه وتعالى أعطاه القدرة على رؤيتها وهو في حالته، فلو كان جالساً أو ماشياً على قدميه فإنه يتفقد ما تحت رجله، أو ينظر إلى القريب منه، ويمكن أن نقول ذلك في هذه الحالة، لكنه خرج في جمع من أمته يستسقون رب العالمين، فكيف رآها؟ وعند هذه الآية الكريمة يروي بعض العلماء أن النملة رأتهم من مسافة ستة أميال قبل أن يصلوا، ثم أنذرت قومها، وسنرجع إليها إن شاء الله. في موضوع الدرس هنا أن نبي الله سليمان خرج يستسقي -أي: يطلب السقي- فإذا به يرى نملة، ولم يرَ النمل كله، فيراها على تلك الحالة، ورأى قوائمها التي تكاد تكون أنحل من الشعر، وهي رافعة قوائمها إلى السماء، ولها ست قوائم. فاستلقت على ظهرها ورفعت قوائمها، وهذا فيه رد على من لا يرى رفع اليدين في الدعاء، فهذه نملة تعرف أين تتوجه، وتسأل المولى لا من بطن الأرض، ولا من شرق ولا غرب، ولكن من السماء من العلو، ترفع قوائمها إلى الله كالذي يرفع يديه مستصرخاً ضارعاً، كما تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه -أي: في هذه الحالة بالذات-، وهذه النملة مستلقية على ظهرها، ورفعت قوائمها تسأل الله. ثم يروي لنا أنها قالت: (اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك) ، أو (بذنوب العباد) كما في رواية أحمد: (فلا تهلكنا بذنوب العباد، لا غنى لنا عن سقياك) ، وفي بعض الرويات -كما يذكرها الجاحظ: (إن لم تسقنا تهلكنا، إن لم تسقنا فأمتنا) أي: لنستريح من عذاب القحط. فهذه نملة وهي أيسر ما تكون تأتي بهذا العمل، فمن أحق باللجوء إلى الله الإنسان أم هذه الحشرة؟ ومن أحق بالضراعة إليه الإنسان أم هي؟ ومن أحق بالاعتقاد بأن كل شيء بيده سبحانه؟! فما كان من نبي الله سليمان إلا أن اكتفى بدعائها، وقال لمن معه: (ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) . فالله تعالى سمع دعاء النملة، كما يقول الزمخشري: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل فالمولى سبحانه يسمع ويرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، فهذه هي القدرة الإلهية والعظمة الربانية، فهو الله ذو الجلال والإكرام سبحانه. فإذا بسليمان ومن معه يرجعون. فلله خلائق أخرى، ولله أمم وأجناس، فهو أرحم الراحمين. وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ، فالطيور والوحوش والحشرات إنما هي أمم ولها نظامها.

النمل وبدائع صنع الله فيه

النمل وبدائع صنع الله فيه وفي هذه الآية الكريمة يذكر المفسرون عجائب النمل، وكتب الحديث والتفسير، وكتب العلوم العامة كعلم الحيوانات، وعلوم الحشرات، وكتب مليئة بأخبار النملة، وهذا من العجب. يقولون عن هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} [النمل:18] : هل للنمل وادٍ؟ والجواب: نعم. وأتثبت الكتب والدراسات الحديثة أن في بعض الدول -خاصة في أمريكا وفي أفريقيا- ودياناً لا يسكنها إلا النمل، وقد يتخذ له بيوتاً، أو مساكن كما قالت النملة: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18] ، فللنمل مساكن، ويتفق علماء الحيوانات والحشرات وكتب التفسير على أن نظام النمل في بيته كنظام الإنسان سواءً، ففي بيوته دهاليز وطرقات وحُجَر، فحجرة يخزن فيها الطعام، وحجرة يضع فيها البيض الخاص بالنمل، وحجر لتصريف المياه، فإذا دخل المطر فإن حجر المياه تكون منخفضة إلى أسفل، والحجر التي فيها الطعام تكون مرتفعة إلى أعلى. ويذكر بعض العلماء أن النمل يبني له قرية يسمونها (مستعمرة النمل) على اصطلاحهم، وتكون هرمية الشكل، فمن أعلى تنتهي برأس، ومن أسفل تنتهي بقاعدة، يقول بعض الكتّاب: ربما تسع اثني عشر رجلاً. وتكون على طبقات ودرجات، وكل طبقة فيها عدة بيوت، ومجموعها يسمى (قرية النمل) ، أو (مستعمرة النمل) ، وذكر الجاحظ عن أبي موسى الأشعري أنه قال: إن للنمل سادة. فسئل قتادة: وما معنى السادة؟ وقال: ساداته الذين يخرجون طلائع يطلبون الغذاء من كل جانب، ثم يرجعون وينذرون جماعتهم فيأتون إليه، وكلهم يتفقون على أن النمل أعطي من الحكم والسياسة ما أعطيه ساسة الأمة، أي: ساسة الدول، ومن الهندسة والمعرفة والقوة ما لا يرى نظيره عند البشر. فمن الحكمة عند النمل أنه يجمع طعام الشتاء في الصيف، فإذا جمعه وخزنه فلقه نصفين -وانظر إلى الإلهام والغريزة-. وبعض العلماء يقول: إنه يفلق الحبة نصفين حتى لا تنبت، وبعضهم يقول: هو لا ينصفها، وإنما يأتي إلى منبت الزراع فيخرم الحبة منه، ويخرج ما سيكون نباتاً مخافة أنه إذا بقي في الجحر وجاءته رطوبة يزرع وينبت، فلا يستفيد منه شيئاً، إلا حبة الكزبرة، فإنه يقسمها أربعة أقسام، فالبر والذرة وغيرهما يأخذ منه محل المنبت، وحبة الكزبرة بالذات يقسمها أربعاً؛ لأن حبة الكزبرة بذاتها فلقتان، وكل فلقة صالحة أن تنبت وحدها، فلو فلقت الكزبرة فلقتين فكل فلقة ستنبت نبتة، كما تنبت حبة البر الكاملة، فالنمل لا يكتفي بكسر حب الكزبرة نصفين كما يفعل في حبة البر، لكن يكسرها أربعاً ليقسم كل نصف حتى لا ينبت النصف وحده. وإذا قدر ودخل المطر عنده، أو جاءت الرطوبة انتظر طلوع الشمس، وأخرج كل ما عنده في مستودعاته ونشرها في الشمس، أو في الليالي المقمرة؛ لأنه يستفيد من ضوء القمر كما يستفيد من حرارة أشعة الشمس، فإذا ما جف وأمن عليه العفونة رده في مكانه، ويذكرون من عجائب النمل ما لا يستطيع إنسان أن يحصيه؛ فإن هناك أشياء كثيرة وغريبة وعجيبة، ولتقرأ في هذا كتب الأدب، ككتاب الجاحظ، ومن كتب الثقافة العامة (حياة الحيوان) ، أو أنواع التفسير، ومنها تفسير الفخر الرازي، ولكنه أشار إشارة خفيفة إلى عموم وأصول سياسة النمل وحياته. ويتفق العلماء إلى أن أقوى مخلوق هو النملة، بمعنى أنه يحمل أضعاف وزنه، بخلاف الإنسان، فإنه في علم الرياضة أول درجة في البطولة هي من يحمل وزنه، فمن استطاع أن يحمل وزنه دخل في درجة البطولة، وكلما استطاع حمل أكثر من وزنه دخل في البطولة أكثر، أما النملة فتحمل أضعاف وزنها، حتى قال بعضهم: تحمل الصفف ثلاث مائة مرة. ومن طبائع النمل أنه لا يجب الكذب، بل يقتل الكاذب، وذكروا عن بعض الأشخاص أنه كان في فلاة، وكان يتناول طعاماً، فسقطت منه فتاتة من طعامه، فإذا بنملة تأتي، ومن العجيب في شأن النمل والذباب أنك تكون في مكان لا نمل فيه ولا ذباب البتة، فإذا أخرجت طعاماً وسقط منه شيء على الأرض فسرعان ما تجد نملة عندك، أو ذبابة تحوم حولك، فتلك النملة هي رائدة القوم، فإن استطاعت أن تحمل ما سقط على الأرض أخذته بفيها وذهبت إلى جحرها، وإن لم تستطع أخذت قليلاً منه -إن أمكنها- وذهبت إلى جحرها، واستدعت جماعة يتعاونون على هذا الطعام الصغير، ويحملونه إلى الجحر، فهذا الشخص سقطت منه فتاتة، فجاءت النملة تحملها فما قدرت فذهبت، ولم تلبث أن جاءت بمجموعة من النمل، ففطن أنها ذهبت تدعوهم، فلما اقتربوا من تلك الفتاتة حملها هذا الرجل، فأخذ النمل في البحث في المنطقة فما وجد شيئاً فرجع، ثم وضعها بعد ذلك، فجاءت نفس النملة ووجدتها، فرجعت إلى جماعتها، فجاءت فحمل الرجل تلك الفتاتة، وفي المرة الثالثة لما لم يجدوا تلك الفتاتة جاءوا إلى النملة التي أخبرتهم وقتلوها لأنها كذبت عليهم. فهو ينظم عمله، وينظم جماعته، ولديه ترتيب في بيضه، وفي حضانته، وفي غير ذلك، حتى قال بعض الناس: إنه يختزن طعاماً يكفيه عدة أعوام، ولسنا نطيل الأمر في ذلك، ومن أراد التوسع في أخباره فليرجع إلى تلك المراجع التي أشرنا إليها أو غيرها. ويهمنا في هذا البحث الطلب والرجاء، وأن ندرك أن هذه النملة أدركت حياتها، وأيقنت بربها، وآمنت بقدرته وأنه القادر على ذلك، وإدراك النمل وإدراك الحيوان ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية أيضاً. ففي القرآن الكريم ذكر الهدهد، وهو طائر من الطيور -كما أن النملة حشرة من الحشرات- ذهب فمكث غير بعيد، وجاء إلى نبي الله سليمان وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] ، وأخبره عن بلقيس، ثم كان من أمره أن أنكر عليهم السجود للشمس والقمر من دون الله، فلم يكن أن أكتشف بلقيس فحسب، بل أنكر عليها الشرك بالله في عبادة الشمس والقمر، ثم كان من أمره ما كان. وذكر مالك رحمه الله في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه تقوم فيه الساعة، وقال: وما من دابة إلا تصغي بسمعها بعد طلوع الفجر من كل يوم جمعة مخافة أن تقوم الساعة، أو شفقاً من الساعة. فالدواب تميز بين الخميس والجمعة والسبت، وتصغي بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر، وليس في الظهر والعصر، وتؤمن بأن القيامة تقوم في يوم الجمعة، وتصغي بسمعها. وعلى هذا فجميع الحيوانات تدرك، ومن ذلك البعير الذي ند عن صاحبه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب الرسول إليه، وأراد أن يدخل، فقال أبو بكر: على رسلك -يا رسول الله- فالجمل هائج فقال: (على رسلك أنت) ، ودخل صلى الله عليه وسلم، واستقبله البعير، ووضع فمه على رأسه صلى الله عليه وسلم، وأصغى إليه رسول الله، ثم انتهى بعد ذلك وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) أي: إن قانون المعاوضة لم يعتدل، ولم يتزن، فتكلفه أكثر مما تعلفه، وهذا ليس عدلاً، فلما انتهى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! لكأن الجمل يعلم أنك رسول الله، فكيف جاءك وكيف خضع لك، وكيف جاء وكلمك وفهمت منه؟ فقال: (يا أبا بكر! ما بين لابتيها -أي: لابتي المدينة، وهي الحجارة الحارة الشرقية، والحجارة الحارة الغربية- من شجر أو حجر أو مدر أو حيوان أو طير إلا ويعلم أني رسول الله) . وقد نكون أطلنا في هذا الموضوع، ولكن يهمنا تنبيه العقول، وتنبيه الضمائر، ولفت الأنظار إلى أن الكائنات كلها تعلم بوجود الله، وتؤمن بالله، وتؤمن باليوم الآخر، وهذا الذي أردنا التنبيه عليه، وإن كان خارجاً عن موضوعنا.

استحباب الخروج بالحيوانات للاستسقاء

استحباب الخروج بالحيوانات للاستسقاء يقول بعض العلماء: لا مانع عند الاستسقاء أن نخرج البهائم؛ لأن الله سقى الأمة بنملة فلو أخرجنا البقر والأغنام والإبل كان ذلك أيضاً أدعى لأن يرحمنا الله إذا سمع رغاءها وسمع خوارها فلعل الله يرحمنا بها لهذا كانت صلاتها في الخلاء لتسع فيما لو اخرجوا البهائم. وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذلك. وهنا مسألة، وهي: هل يجوز قتل النمل أم لا يجوز؟ فمما يذكرونه عن عبد الله بن أحمد أن رجلاً رأى جارية له تقتل نملة، فقال: لا تقتليها. وطلب كرسياً وجلس عليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها النمل! أخرجوا عنا. وفي بعض الروايات قال: إني لا أحب أن تقتل في بيتي، وبعضها يقول: اخرج عنا وإلا أحرقتك. قال: فأخذ النمل يخرج أرسالاً. وجاء في الحديث أن نبياً من الأنبياء كان في طريقه -وبعضهم يعزوها إلى نبي الله موسى، فقال: يا رب! تهلك قرية لرجل فيها فاسق! -أي: لمعصية إنسان تهلك قرية بكاملها- فأراد الله أن يريه الآية، فخرج مرة ثم جلس في ظل شجرة، واتكأ ونام، وفي أثناء نومه -كان بجانبه بيت للنمل-، فجاءت نملة وقرصته، فانتبه مذعوراً، فقام وأفسد قرى النمل كلها، فقال له الله سبحانه وتعالى: أمن أجل نملة تهلك القرية كلها؟! فتذكر سؤاله الأول. وأخبار هذه الحشرة كثيرة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل والصرد والهدهد.

كيفية رفع الكفين أثناء الدعاء

كيفية رفع الكفين أثناء الدعاء قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء، أخرجه مسلم] . تقدم أن من هيئة صلاة الاستسقاء رفع اليدين حتى يُرى الإبط، وكيف يكون وضع اليدين في حالة رفعهما؟ يذكر العلماء أن الإنسان إذا سأل الله فإن سؤاله في أحد أمرين: إما أن يسأله جلب نفع، أو يسأله دفع ضر، وهذان الأمران هما مقاصد العقلاء في الدنيا، فلا تجد عاقلاً في أي بقعة من الأرض من أي جنس من الأجناس على أي دين من الأديان. إلا وهو يسعى لأحد أمرين، إما ليجلب نفعاً، أو ليدفع ضراً، فيقولون في آداب الدعاء: إن كان الدعاء لطلب نفع طلب بأكف يديه، وجعل أكفه إلى السماء، وجاء الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده أن يمد يديه فيردهما صفراً) ، وإذا كان الدعاء لدفع مضرة. قالوا: يجعل ظهور يديه إلى السماء، كأنه يريد أن يدفع هذا الذي نزل، والاستسقاء فيه طلب نفع، وفيها دفع ضر، ولكن دفع الضر مقدم؛ لأن دفع الضر هو السبب لطلب الخير، والضر النازل هو القحط. فقالوا: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه إلى الاستسقاء قدم جانب دفع الضر الواقع بهم، كما في حديث عائشة (شكوتم إليّ قحط بلادكم) ، والقحط ضر، فكان يجعل ظهور كفيه إلى السماء، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب اللباس [1]

كتاب الصلاة - باب اللباس [1] من شروط الصلاة ستر العورة بلباس طاهر، وللباس أحكام وآداب بينتها الشريعة، كما بينت الفرق بين لباس الرجل ولباس المرأة، والمتأمل في هذه الأحكام يدرك حكمة الشريعة وكمالها.

أحكام اللباس

أحكام اللباس

حرمة لبس الذكور للحرير

حرمة لبس الذكور للحرير الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير) رواه أبو داود، وأصله في البخاري] . أبو عامر هذا غير أبي موسى الأشعري، فهو رجل آخر. قوله: (يستحلون) استحل الشيء: جعله حلالاً، فهل هو حلال في ذاته أو أنه محرم؟ لو كان حلالاً في ذاته لما قيل: استحله؛ لأنه حلال، وتحليل الحلال تحصيل حاصل، فهو حرام، ولكنهم يستحلونه، وهل يستحلونه تكذيباً للتحريم الثابت عن رسول الله، أو يستحلون استعماله مع اعتقادهم بتحريمه؟ إن من استحل شيئاً محرماً ورد به دليل التحريم فإنه يكون قد رد حكم الله الوارد على لسان رسول الله، ومن حرم ما هو حلال بالضرورة أو استحل ما هو محرم بالضرورة فهو مرتد عن الدين، ولكن من اعتقد أنه حرام، واستعمله فهذه تكون معصية، ولا يخرجه العصيان عن الإسلام. وهذا اللفظ استدل به الجمهور على أن هذا الذي يستحله أقوام أصله محرم، فما هو موضوع الاستحلال؟ قال هنا: (الحر) بالحاء والراء، والحر: هو الفرج، فالمعنى يستحلون الفروج بالزنا، والحرير باللباس. وأكثر علماء الحديث يروونه بالحاء والراء المهملتين -أي: ليس فيها نقط-، وبعضهم يرويه معجماً بالنقط، والحاء إذا كتب عليها نقطة صارت خاءً، والراء إذا صارت عليها نقطة صارت زاياً، فروي (الحر) و (الخز) ، والكتابة واحدة، ولكن الخلاف بكون الحرفين منقوطين أو بدون نقط. والجمهور على أنه الخز؛ لأنه متناسب مع ذكر الحرير، والآخرون يقولون: إذا حرم الحرير فالخز نوع منه، فيكون تكراراً، فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر. وجاء في بعض النصوص الأخرى: (يستحلون الحر والمعازف) ، واستحلال الفروج مع المعازف متجانس؛ لأنه من باب اللهو والاستمتاع المحرم، فعلى أنه الحر لا يدخل معنا في البحث، وهذا راجع إلى باب حد الزنا، وإذا كان (الخز) ، فما الفرق بين الخز وبين الحرير؟ وكيف ذكر معه؟ قالوا: الحرير ما كان من دودة الحرير، فهو إنتاج دودة معروفة باسم الحرير بصفة خاصة، والخزّ: هو وبر دابة يكون ناعماً كالحرير، وبعضهم قال: الخز: ما كان فيه حرير مخلوط مع غيره. والزرقاني في شرح هذا الحديث -على رواية الخز بالخاء والزاي- ذكر عن مالك أنه روى عن خمسة وعشرين صحابياً أنهم كانوا يلبسون الخز، وكذا عن خمسة عشر من التابعين، فيكون (الخز) موضع الخلاف، و (الحرير) موضع الاتفاق، ويكون النهي عن الخز للكراهية، والنهي عن الحرير للتحريم، وتحقيق المناط أنه إن كان الثوب مخلوطاً بالحرير فإنه يبقى فيه جزء من المنهي عنه، فهو يحمل جزءاً من النهي، لكن لا يصل إلى حد التحريم؛ لأنه ليس خالصاً من الجنس الذي دخله التحريم والنهي عنه لذاته.

حكم استعمال الذهب والفضة ولبس الديباج والحرير وافتراشهما

حكم استعمال الذهب والفضة ولبس الديباج والحرير وافتراشهما قال المصنف رحمه الله: [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه) رواه البخاري] . إذا وجدت صنفين مقرونين في الحديث بالطلب أو بالنهي فلابد أن بينهما علاقة، فالآنية واللباس كلاهما يستعمله الإنسان، فهذه آنية لطعامه وشرابه، وهذا ثياب للباسه، فبينهما ارتباط، وهو الاستعمال، ونحن بحاجة إلى بيان ما يجوز منهما وما لا يجوز، ونحو هذا الحديث سبق في باب الآنية، وتقدم هناك، والنهي جاء بالوعيد، وهو حديث: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، وفاعل (يجرجر) هو النار، كأن الطعام والشراب الذي يدخل إليه نار تجرجر، أو هو الفاعل للجرجرة، فيجرجر ناراً، ومهما يكن فهو وعيد شديد. فنهى صلى الله عليه وسلم عن استعمال أواني الذهب والفضة، وهذا مبحثه واسع تقدم في باب الآنية، وأهم ما يتطرق إليه البحث هنا هو ما إذا كان الإناء الصيني والفخار والزجاج مطلياً بالذهب، وفرق بين المطلي بالذهب والمموه بماء الذهب، فالمطلي: هو أن يؤخذ الذهب مذاباً ويطلى عليه كما يُطلى الدهان على الخشب وعلى البنيان، أما المموه بماء الذهب فهو أخف، ولا جرم للذهب فيه، إنما هو اللون، وتمسحه بأي شيء، والفرق بين المطلي والمموه ما قاله النووي رحمه الله في المجموع، وهو أنه إذا أخذت سكيناً وحككت اللون الأصفر عن هذا الصيني الأبيض فإن حصلت باحتكاك السكين على هذا اللون الأصفر على جرم مادي ملموس فهو مطلي، وإن لم تحصل على شيء فهو مموه، وكذلك إذا أدخلته النار فذاب هذا الأصفر، وخرج منه مادة سائلة ذابت بعد أن كانت مجمدة فهذا مطلي، وهذا عين الذهب. وإن لم يذب ولم ينحل عنه شيء فهو المموه. وقد ذكروا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى المدينة فوجد في جدار المسجد النبوي عهود الخلفاء، وهذه كانت عادة كل خليفة أموي، حيث يكتب خطاب عهده، وهو خطاب العرش -أي: سياسة ملكه في الرعية-، ويكتبه على جدار المسجد النبوي إعلاناً لسياسته في الأمة، فكانت تكتب بماء الذهب، أو تكتب بالذهب، فرآها عمر وأراد أن يحتها، فقال له العلماء: إن كنت ستحصل من هذه الكتابة على مادة من الذهب فافعل، وإن كنت ستفسدها ولن تحصل على شيء لأنها مموهة فقط فاتركها فجرب فإذا به لا يحصل منها على شيء، بل كانت كتابة بمادة ذهبية لا يحصل منها على جرم، فتركها. فما تجده على غلاف الكتاب، أو في بعض الأواني وبعض الزخارف إن كان مطلياً بالذهب فهو محرم، وإن كان مموهاً فلا شيء في ذلك. مسألة: إذا وجدنا إناء من الجواهر النفيسة من الزمرد أو الياقوت أو غير ذلك فهل يحرم استعماله؟ الجواب: لا، كما لا يحرم على الرجل أن يلبس ويتختم بالخاتم الذي فيه فص من الفيروز، أو من الزمرد، أو من الألماس، ولو كانت قيمته أضعاف الذهب والفضة، فيجوز أن يلبسه، لكن الذهب والفضة حرام، وبعضهم يقول: لأنهما قيم الأعيان، والأثمان لا تكون للاستعمال، حتى لا تتعطل مهمتها النقدية فتتعطل الأسواق. وقالوا: إن عامة الناس لا يميزون بين خرز وبين عقيق، والفقراء لا تنكسر قلوبهم من تلك الأحجار الكريمة كما تنكسر قلوبهم من الذهب والفضة؛ لأنهما معروفان للصغير وللكبير. والله تعالى أعلم. قوله: [وعن لبس الحرير والديباج] الحرير عرفناه، والديباج: هو عين الحرير، ولكن نسيجه متين، والحرير شفاف، ويقولون: يمكن أن تأخذ خيط حرير بأدق ما يمكن. فالحرير إذا نسج على رقته كان رقيقاً شفافاً، كما قيل: شف عنها رقرق جندي، فـ (رقرق) أي: رقيق جداً، و (جندي) : نسبة إلى جند، أو إلى بلد تسمى بهذا الاسم، فإذا نسج غليظاً سمي ديباجاً، فنهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير على طبيعته، أو أن يكون ديباجاً. أي: حريراً متيناً مكثفاً في النسيج. وقوله: (وأن نجلس عليه) أي: على الحرير والديباج. وقالوا: الجلوس على الثياب نوع من اللباس، فكأنه لبسه، والكل ملبوس بحسب حالته، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟) فعمد الصحابي إلى حصير قد اسود من طول ما لبس -أي: لكثرة الاستعمال- فأخذ ماءً فنضحه، قال العلماء: استعمال الحرير باللباس واستعمال الحرير في الجلوس سواء، والنهي فيهما سواء، فلا ينبغي للرجل أن يتخذ مجلساً به حرير يجلس عليه إذا كان مباشراً له. وقد يقول قائل: الحرير مباح للمرأة تلبسه وتجلس عليه، فإذا اتخذت المرأة لنفسها ثياباً من حرير، واتخذت فراشاً من حرير فهو جائز لها، فهل تبيحون للزوج هذا الفراش تبعاً لها أو تمنعونه؟ والجواب: أعتقد أن المرأة إذا اتخذته لنفسها، ودعت زوجها إليه فله ذلك؛ لأنه ليس مستقلاً به، وإنما كان تبعاً لها في هذا الاستعمال، وهو مباح لها، ولا نفرق بين الزوجين، ولا نقول: كل واحد يتخذ له فراشاً على حدة.

الترخيص في لبس قدر أربع أصابع من الحرير

الترخيص في لبس قدر أربع أصابع من الحرير قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . تبين لنا من إيراد المؤلف رحمه الله ما يجوز لبسه بالنسبة للرجال، وما لا يجوز لبسه بالنسبة للرجال أيضاً، ومن ضمن اللباس الجلوس عليه، وجاء هنا بحديث النهى عن الحرير عن لبسه، وعن الجلوس عليه، ولكن هناك حالات استثنائية بمثابة الرخصة، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا مقدار إصبعين، أو ثلاث، أو أربع، وموضع هذه الأربعة الأصابع يكون في أطراف الثياب، مثل طرف الجبة، أو عند الرقبة عند الحاجة إذا كانت عنده حكه، أو طرف الكم الذي يباشر الجلد، فإذا احتاج إلى ملطف لحاجة في جسمه فلا مانع أن يتخذ من الداخل جزءاً على قدر أربعة أصابع على دائرة الفتحة، وإذا كان للثوب فتحات فلا بأس أن يتخذ من الحرير على تلك الفتحات -ويقال لها: الفروج- بقدر أربعة أصابع.

الترخيص في لبس الحرير للعلاج

الترخيص في لبس الحرير للعلاج قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـ عبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير في سفر من حكة كانت بهما) ، متفق عليه] . الاستثناء الأول في أطراف الثياب أربعة أصابع، وهذا الحديث رخص في الثوب كله. والرَخْص: الشيء الناعم، والرخيص الناعم من الثياب، ورخص البنان. لين الأطراف، وسعر رخيص: لين هين كل إنسان يقدر عليه، والرخصة: هي التهوين من شدة، فالصوم واجب لكن المريض المسافر يشق عليه، فرخص له في الفطر، أي: لين له، وكذلك الميتة محرمة، لكن قد يضطر الإنسان إليها للإبقاء على حياته، فرخص وهون له، فالرخصة تكون من ممنوع ومن محرم؛ لأن الحرمة منع، والمنع شدة، فالرخصة تكون من شيء محرم فكونه رخص يبقى الأصل عدم الترخيص، وهو العزم والمنع. فرخص صلى الله عليه وسلم لـ ابن عوف والزبير في قميص الحرير في سفر من حكة، وحكة الجسم الآن تسمى (حساسية) أو (حرارة) أو (التهاباً في الجلد) ، وما هي خاصية الحرير؟ قالوا: طبيعة الحرير حيوانية رطبة، وهو لين، ويعالج بالحرير الجلدُ، فهو ألطف ما يكون استعمالاً بدون حائل لجلد الإنسان، فمن كان عنده حكة إذا لبس القطن جاءته الحكة، وإذا لبس الصوف كانت الحكة أكثر وأكثر، فالذي يناسبه الحرير، فمن أجل علة الحكة رخص له ما كان محرماً، وليست العلة كونه في سفر، ولكن الترخيص في السفر أحوج منه في الحضر؛ لأن الذي في الحضر يمكن أن يحصل على علاج، ويمكن أن يحصل على شيء يخفف عنه هذا، ويمكن أن ينزع القميص ويقعد في بيته، لكن هذا في سفر وفي حركة، فهو أحوج منه حينما يكون في غير سفر. فيرخص الممنوع، وهذا وجدناه في جميع أبوب الفقه، ويقولون: المشقة تجلب التيسير. ففي العبادات ينتقل إلى التيمم عند التضرر باستعمال الماء، والانتقال إلى الجلوس في الصلاة عند عدم استطاعة القيام، والانتقال إلى صيام عدة أيام أخر إذا كان في مرض أو سفر. وهكذا نجد الرخصة تأتي عند الشدة وعدم الاستطاعة، مع بقاء التحريم؛ لأن الحكم قائم، وإذا انتفى الحكم يكون هذا نسخاً لما تقدم، وجاء هذا بديلاً عنه، ولكن الرخصة إباحة الشيء بخطاب جديد مع بقاء الحكم الأول على ما هو عليه، وتكون الرخصة مؤقتة بحالتها وبأسبابها وبدواعيها، فإذا انتفت الحكة انتفى جواز لبس القميص الحرير، والله تعالى أعلم.

جواز إعطاء الرجل ثوب الحرير ليكسوه نساءه

جواز إعطاء الرجل ثوب الحرير ليكسوه نساءه قال المصنف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: (كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها بين نسائي) ، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] . الحلة: هي إزار ورداء من جنس واحد، فهي قطعتان، أما الجبة فهي قطعة واحدة، وهي مثل العباءة، لكنها طويلة حسب عادة الناس في اللباس، وهي ثياب تلبس فوق اللباس العادي. يقول علي رضي الله تعالى عنه: كساني النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أعطاني كسوة، والكسوة: اللباس. وتكون كسوة إذا كانت مكتملة. قوله: (سيراء) هي نوع من الحرير الرقيق، وليست حريراً خالصاً، قال: فخرجت بالحلة فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والوجه يعبر ولو لم يتكلم، فالبشاشة والهش والبش والتكشير كلها صور معبرة، فـ علي رضي الله تعالى عنه عرف من وجه رسول الله الغضب، كأنه يقول: لماذا لبستها؟! ففهم علي ذلك بدون أن يتكلم، قال: (فشققتها بين نسائي) ، وفي بعض الروايات قال: (فقسمتها بين الفواطم) ، وليس هنالك اختلاف؛ لأن الفواطم جمع فاطمة، وهن نساء علي، فمنهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي زوجته، ومنهن فاطمة بنت أسد، وهي أمه، ومنهن فاطمة بنت فلان، وهي قريبة له، فكلهن من بيت علي رضي الله تعالى عنه، فقوله: (كسوتها نسائي) و (كسوتها الفواطم) معناهما واحد. ونأخذ من هذا الحديث أن تغيير المنكر قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون بالنظرة، ولذا يقول العلماء في باب التعزيرات: إذا ارتكب إنسان أمراً محظوراً واقتضى الأمر تعزيره فيعزر الأشخاص بحسب ذواتهم، فشخص لا ينفع فيه التعزير إلا بالضرب والجلد، وشخص يكفي أن يقال له: يا فلان! والله ما كان يليق بمثلك أن يفعل هذا. وشخص يعزر بأن تعرض عنه، فإذا أقبل عليك أعرضت عنه، وهذا أثقل عليه من السب ومن الضرب، ويكفي هذا في تعزيره. فالشخص الأبي الكريم تكفيه النظرة، والشخص الأقل منه كرماً يحتاج إلى كلام وإلى إيقاف، والشخص فاقد الإحساس يعزر بالضرب، فهنا أدرك علي رضي الله تعالى عنه إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه لبس هذا النوع، وحالاً قطعها وقسمها بين نسائه. وهذا النوع لا يجوز للرجال ويجوز للنساء.

أحكام الذهب بين الرجال والنساء

أحكام الذهب بين الرجال والنساء

جواز لبس الذهب للنساء خاصة

جواز لبس الذهب للنساء خاصة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب لنساء أمتي، وحرم على ذكورها) ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه] . هذه قاعدة الباب التي يدور عليها فقه هذا الباب كله، حيث يخبر صلى الله عليه وسلم: أن الحرير والذهب حرام على ذكور أمته، حلال على نسائها، وهل المراد أن لا يقتنيه؟ وهل الرجل لا يضع في بيته ثوب حرير، ولا يضع في بيته ذهباً؟ لا. إن المراد انه حرام في استعماله الشخصي، أما إذا اقتنى من الذهب قناطير مقنطرة لتجارة وصناعة فلا مانع من ذلك؛ لأنه لم يلبسه، وإذا تاجر في الحرير وخزنه في بيته، أو في مستودعاته، وباع واشترى فيه، ولم يلبسه فلا مانع من ذلك. فحلال للنساء استعماله، وحرام على الرجال استعماله، أما القنية فلا دخل لها في ذلك، والذهب حلال للنساء مادام أنه غير مصنع، فإذا صنع نظرنا، فإن صنع أواني فلا يجوز للرجال ولا للنساء استعمال أواني الذهب والفضة، لكن المرأة تستعمله زينةً وحلياً لها فلا مانع، وإن صنعه الرجل بيده ليبيع ويشتري في صنعته حلياً للنساء فلا مانع، لكن أن يصنع ملاعق وصحوناً ونحوها فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز تصنيعه، ولا استعماله، ولا اقتناؤه في البيت للرجال ولا للنساء. وهنا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحرير والذهب حرام على الرجال بأي نوع من أنواع الاستعمال، وحلال للنساء على الوجه الذي تقدم، فيجوز للمرأة الحرير استعمالاً ولبساً، ما لم يكن لباس الحرير شفافاً يشف عن الجلد ويصف البشرة على ما سيأتي إن شاء الله؛ لأن المرأة مأمورة أن تستر نفسها، والذهب حلال لها أيضاً ما لم يكن في صورة الممنوع، وهو الأواني والاستعمال المباشر، أما للزينة وللحلي فلا مانع من هذا، وهذا الحديث هو القاعدة الأساسية.

خلاف العلماء في تحلية الأطفال بالذهب

خلاف العلماء في تحلية الأطفال بالذهب بقي عندنا من فقه الحديث مسألة الأطفال الصغار، فالآباء يفرحون بالمولود الصغير، فإذا جاءت مناسبة أو جاء العيد قد يأتون للطفلة بأنواع من الحلي على قدرها، وأنواع من الحرير على قدرها، وإذا كان المولود ذكراً وأرادوا أن يفرحوا به ويجملوه فهل يلبسونه الحرير والذهب؛ لأنه صغير لا يجري عليه القلم، أم هم المكلفون والمسئولون عن ذلك؟ فعند الشافعية جواز ذلك في الأعياد والمناسبات؛ لأنهم غير مكلفين، وعند مالك رحمه الله عدم جواز ذلك؛ لأن النهي عام، فالذكر وهو في بطن أمه ذكر، فإذا جاء إلى الدنيا ما تغيرت الذكورة، فيشمله وصف الذكور، فلا يجوز مالك أن يلبس الصغير حريراً أو ذهبا في عيد ولا في غيره، وغير مالك يقول: هذا طفل صغير، ولا مانع أن نفرح به ونزينه، وفي نظري أن مما يؤيد مذهب مالك مبدأ سد الذريعة، وهذا باب واسع جداً، وللأسف إلى الآن لم أجد من طلاب العلم من خصه برسالة جامعية، فقد كتبوا في كثير من أبواب الفقه إلا هذا الباب على حد علمي. وسد الذريعة: هو ترك المباح خشية الوقوع في غير المباح، فالنهي عنه لغيره، وأصله في كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، فسب الذين يدعون من دون الله جائز، فلك أن تسب الأصنام وتحطمها، ولكن إذا كان سبك لأصنامهم يحملهم على أن يسبوا الله لأنك سببت آلهتهم فلا يجوز لك ذلك، كما في الحديث: (لعن الله من لعن والديه) ، وهل أحد يلعن والديه؟ نعم، كما في الحديث الآخر: (يلعن أبوي الرجل فيلعن الرجل أبويه) ، فهو سبب في لعنهما فهذا هو سد الذرائع وهو باب مهم جداً. وأجد كثيراً من العلماء يتحاملون على المالكية لأنهم أكثروا من هذا الباب، ولا يوجد أحد من المذاهب الأربعة إلا وقد أخذ منه ما قل أو كثر. وأقول: مما يمكن أن يستدل به لـ مالك ويستأنس به أن الطفل إذا عودته على حلوى معينه، أو على لعبة معينة، أو على شيء معين فكبر وقد تعود على شيء أصله ممنوع فإنك تحتاج إلى معاناة في أن ترده عن هذا الذي شب عليه وعودته إياه، أما إذا عرفته من الصغر أن هذا ممنوع فقد استرحت واستراح. فالأولى ألا يلبس الصغار الحرير، بل ينشأون على الجد وعلى الرجولة، ولا يحلى الصبي بالذهب حتى لا يكون هو وأخته سواء، فالصبي الذي على الفطرة عندما تلبسه هو وأخته بالحرير والذهب أعتقد أنه يغضب، ويقول: هذا للبنت. ويرميه. فحينما يكون عند الطفل إحساس بما يخص البنات فإنها بادرة خير. فمما يؤيد مذهب مالك رحمه الله سد الذريعة حتى لا ينشأ الطفل ويتعود على الحرام. والآن تجد الطفلة عمرها ست سنوات تخرج مع أمها، وقد تأتي بها إلى المسجد، وثيابها إلى الركبة، فهذه حينما تنشأ على ذلك، وتبلغ الثانية عشر من عمرها، وتريد أمها أن تلبسها ساتراً إلى الكعبين هل تستطيع ذلك؟ إنها -حينئذ- ٍتقول: أريد هذا أريد القصير الذي تعودت عليه لكن لو كان في أول الأمر عرفتها بأن هذا لباسها، وذاك لباس أخيها، حينئذ يسهل على الأم أن تأمر ابنتها، وأن تستجيب البنت لها، والله تعالى أعلم.

التحدث بنعم الله

التحدث بنعم الله قال رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه) ، رواه البيهقي] . (أنعم) (ونعمة) : مأخوذان من النعومة، يقال: هذا حرير ناعم. أي: لا يؤثر على اليد، ولا يؤذي، بخلاف الصوف الخشن أو الشعر، فالوسادة التي تكون من الشعر تكون خشنة، حتى لو جلست عليها تتعب، والأرض الناعمة تستطيع أن تتكئ وتجلس عليها، ولو كانت خشنة تقلق إذا جلست عليها، وكذلك يقولون: حياة ناعمة، وفي عين النعيم، فالنعيم والنعمة من النعومة، وهو لين الملمس، وهو يدل على الراحة والدعة والطمأنينة، ويقابل هذا الخشونة، يقال: عيش خشن أو: عيشة خشنة، بمعنى: ضيق وعدم سعة وتقتير، بخلاف النعمة والنعيم. قوله: (إذا أنعم الله) إنعام الله سبحانه وتعالى على الخلق لا حصر له، قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، وفي سورة الفاتحة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والاستقامة. لأن النعم تكون دنيوية، ودينية بالهداية والتوفيق والقبول، وأعظمها لطالب العلم أن يشرح الله سبحانه وتعالى صدره، وينير بصيرته، وييسر له الفقه والفهم في الدين، ثم يكمل هذه النعمة بالتوفيق للعمل بما علم، وهذه أعظم النعم عند الله. فإذا أنعم الله على عبد نعمة، سواءٌ أكانت في البدن، أم كانت في العقل والعلم، أم كانت في المال، أم كانت في الجاه، أم كانت في أي مجال من مجالات النعم فإن الله يحب أن يرى أثر هذه النعمة على عبده، فلا ينعم عليك ثم أنت تخفيها، فلو شاء لأعطاها لغيرك، فإذا أخفيتها كأنك تخفي نعمة الله عليك، لكن بين أثرها؛ لأن من شكر النعمة أن تظهرها اعترافاً منك بالمنعم عليك، فإذا أعطاك الله مالاً يجب أن يظهر آثار المال عليك، بأن تكرم الجيران، وتعطي المحتاج، ويظهر هذا العطاء بنعم الله على ما تنفقه، وكذلك على نفسك، وابدأ بنفسك أولاً. فأول ما ينبغي إظهار نعمة المال على صاحبه، ثم على من يليه من أصحاب الحقوق علية، وفي الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) . ثم وسع الدائرة حتى يظهر أثر هذه النعمة، وحتى يتحدث الصالحون: فلان يشكر النعمة ويبذلها في طريقها وإذا أنعم الله عليك بالجاه يحب أن تظهر أثر هذه النعمة عليك، بأن تسعى في مصالح الآخرين، وترفع حوائجهم إلى من لم يصلوا إليهم، وإن أعطاك الله صحة في البدن فكذلك، فإذا مشيت في الطريق ووجدت إنساناً مريضاً ساعدته، أو حملته وحملت متاعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل ذبح شاة ويريد أن يسلخها ولا يعرف السلخ، والرسول يعرف، فشمر عن كمه، وأدخل يده صلى الله عليه وسلم بين الجلد واللحم وسلخها، وقال: (هكذا فافعل) ، فيعلم الصنعة، ويرشد الضال، وكل هذا من إظهار النعم، فإذا رزق الإنسان مالاً فيلزم على صاحب المال أن يظهر النعمة؛ لأنه إذا أخفاها كأنه يجحد نعمة المنعم عليه، فيظن أنه مسكين ما عنده شيء، وقد أعطاه مالاً، ولكنه يدفنه في التراب ويكنزه. ذكر ابن حجر في فتح الباري (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل ثياباً رثة قديمة، فقال: يا فلان! إذا آتاك الله مالاً فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك) ، وقد قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، والتحدث بالنعمة بأن تتحدث عنها، أو هي تتحدث عن نفسها. فكونك تتحدث عنها أن تقول: الحمد لله. إن ربنا أنعم علي هذه السنة بكذا. أو: جاءتني صنعة كذا. أو: المحصول هذه السنة كثير والحمد لله. أو: التجارة -والحمد لله- ربحت كذا، لأشياء تتحدث بها إظهاراً للنعمة وشكراً لله، أو أنك حينما تخرجها هي بنفسها تتكلم، كما يقال: أبت الدراهم إلا أن تطل أعناقها. فهي بنفسها تتحدث عن نفسها. وإذا كان هذا في باب اللباس فليس معنى ذلك أن نظهر في أبهة وفي زهو وخيلاء، والبخاري رحمه الله صدر باب اللباس في الجزء العاشر من فتح الباري بحديث: (كل واشرب والبس ما شئت في غير مخيلة ولا إسراف) ، قال ابن حجر: مهما لبست من طيب الثياب وأغلاها ثمناً بلا خيلاء ولا إسراف فلا مانع. وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت من الرجل يلبس الصوف والخشن من الثياب ويترك الناعم من الكتان، ويأكل الخشن من العيش ويترك اللين من الخبز! فهذا التقشف مع وجود النعمة يعتبر جحوداً لها وإخفاء لها، وهذا لا يليق، فالمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث لأن الإنسان إذا حرم عليه الحرير لأنه ناعم ولين ومريح قد يظن أن بقية الثياب أيضاً كذلك، فكأنه قال لك: لا. بل أظهر نعمة الله عليك في مطعمك، وفي ملبسك، وفي مسكنك، وفي جميع حالاتك، من غير خيلاء، ومن غير إسراف، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة - باب اللباس [2]

كتاب الصلاة - باب اللباس [2] إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في كل شيء، ومن ذلك اللباس، فأباحت الشريعة لبس أحسن الثياب وأجملها بلا إسراف ولا مخيلة، ومما يدعو إلى المخيلة لبس الحرير والذهب للرجال، وإرخاء الثوب أسفل من الكعبين، ولبس المعصفر، وكل هذا حرمته الشريعة على الرجال.

تابع أحكام اللباس

تابع أحكام اللباس

حرمة الخيلاء في اللباس

حرمة الخيلاء في اللباس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: إن الله تعالى يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، فليلبس الإنسان مما أنعم الله عليه من غير خيلاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة) ، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة مرجلاً جمته إذ أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه البخاري. فهذا أعجبته نفسه، وهذا هو البطر والخيلاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) ، والغمط: هو أن يستخف بالآخرين لقلة ما عندهم. فإذا وجد نفسه في نعمة زائدة نظر للآخرين بنظرة أقل مما ينبغي، فهو يقيس الناس بالمال، والمال ليس مقياساً، فالله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، كما قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:34-35] . والرجل المذكور في الحديث هو قارون، وقيل: هذا الرجل مبهم، ولعله قارون حينما خرج في زينته، وأعجب بنفسه، وغمط الناس حقهم. فالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده من غير بطر، والصديق رضي الله تعالى عنه حينما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطراً، قال: يا رسول الله! إن جانب إزاري يرتخي إلا أن أرفعه. فقال: لست ممن يفعل ذلك بطراً) ، فلابد من نية من يلبس هذا اللباس، فإما أن يلبسه ستراً، أو شكراً، أو بطراً، وقد جاء حديث أكثر توضيحاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل لثلاثة: خيل أجر، وخيل ستر، وخيل وزر) ، فالخيل ما تتغير، ولكن ذلك بحسب قصد صاحبها، فمن اقتناها للجهاد عليها في سبيل الله فهي له أجر، فكل ما علفها وكل ما سقاها ونحو ذلك له فيه كله حسنات وأجر. وهي ستر لمن يقتنيها للنسل والبيع، ويستتر بمنافعها ونسلها، ويستعفف عن سؤال الناس، ففيها نوع من الربح والتنمية. وخيل وزر لمن اقتناها بطراً ورئاءً وكبرياءً. فاختلف الحكم والخيل واحدة، فكذلك الثياب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى نصف ساقه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) ، ومن جرهما فهو بطر ورياء ومخيلة، يقول ابن حجر: العبرة بما في نفسه. فلو لبس الثياب الرخيصة بطراً ومخيلة وكبرياءً فهو آثم ولو كان مشمراً ثوبه إلى نصف الساق، وإذا كان الثوب إلى الكعبين ولم يخطر في باله كبر ولا بطر كعامة الناس فهذا أمر عادي، وإذا ما شمر الثوب، وأعجب بنوعه وبغلاء ثمنه، وأخذ يمشي على الناس متفاخراً فيدخل في الوعيد، ويقع في البطر بالثياب والخيلاء، فليست العبرة في الخيلاء بطول الثياب وقصرها، ولكن العبرة بنية اللابس. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يظهر أثر نعمته عليه) ، وقد كان أهل المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في أوائل الصيف إذا ظهرت باكورة الثمرة حمراء أو صفراء، يفرح بها صاحب البستان، ويأتي بها حالاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليريه إياها شكراً لله أن أنعم الله عليه قبل الناس الآخرين؛ لأنه بعد أسبوع الزهو سيمتلأ البلد، فيأخذها صلى الله عليه وسلم ويدعو له بالخير، وينظر إلى أصغر طفل في المجلس فيعطيه إياها ليفرح بها. فالباب واسع، فإذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه أياً كان هذا الإنعام، وأياً كان نوعها، فيحب الله تعالى إظهارها.

حرمة لبس القسي والمعصفر

حرمة لبس القسي والمعصفر قال المصنف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن لبس القسي والمعصفر) رواه مسلم] . قوله: (القَسي) اختلف في حركة قافه، فقيل بالفتح، وقيل بالكسر وكلاهما صحيح، والقِسّيّ بالتشديد: هو ما غلظ من الثياب وبعضهم يقول: هو الخز أو غيره فيه خطوط وبعضهم يقول: فيه مثل الأترجة من الحرير، مثل هذه الثياب التي تأتي مطرزة، أو يكون بين خيوطها خيط حرير، وتكون جامعة بين الحرير وغير الحرير، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع، ويتفقون على أن النهي هنا للتنزيه، أي: للكراهة وليس للتحريم؛ لأن أصلها ليس حريراً، ولكنها نوع من نسج الثياب نسبت إلى قرية مصرية تسمى (قسا) أو غير ذلك، والله تعالى أعلم. قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟) ، رواه مسلم] . تأمل هذا الأسلوب، ف عبد الله بن عمرو يرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، و (المعصفر) : كقولك: المزعفر ومثلما تقول: المسكر والمملح فهو شيء يضاف إليه شيء آخر، فالمعصفر: هو الذي أضيف إليه العصفر، والمزعفر: هو الذي أضيف إليه الزعفران، والمسكر: هو الذي أضيف إليه السكر. والعصفر: هو زهر القرطم، ولونه يشبه الزعفران، وليس له رائحة، والزعفران لونه أحمر يميل إلى الصفرة، وله رائحة عطرية، فلما رآهما عليه سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال: أمك أمرتك بهذا؟ كأنه يتلقى الأوامر من أمه، والذي يتلقى الأوامر من أمه في أمور عادية فهو من بر الوالدين، وهو واجب إذا كانت الأم حصيفة عاقلة توجه ولدها، لكن هذا المنهج وهذا الأسلوب فيه قرينة كراهية ما رأى عليه من اللباس، وهل يكون مدحاً للأم التي أمرته، أم ذماً له لأنه يتلقى الأوامر من أمه ويترك السنة؟ فمن تلقي الأوامر من أمه، أو من أبيه، أو زوجه وترك السنة النبوية يقال له مثل ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] ، فهنا الرسول كلمه بهذا لأنه كره هذا اللون. والحلة التي كساها النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي هي السيراء، وفيها ألوان، فقال: رأيت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فقطعتها وقسمتها بين الفواطم زوجته وأمه وبنت جعفر. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال ل عبد الله بن عمرو: (أمك أمرتك؟) ، ولو قال له بأسلوب هادئ: يا عبد الله! هذا لا يجوز ولا ينبغي. ورده لأمه فأمه يمكن أن تلبس هذا النوع. فاستنتج العلماء من قوله: (أمك امرتك؟) أن هذا من حلي النساء، وأن أمه هي التي أعطته، وأمه التي كسته، وأمه عندها هذا النوع، وأمه يجوز لها هذا النوع، وفي رواية أنه قال: (فذهبت إلى أهلي وهم مسجرون التنور فسجرتها) ، وفي بعض الروايات أنه قال: أغسلها يا رسول الله؟! قال له: (احرقها) ، وفي بعض الروايات أنه لما رجع قال له رسول الله: (ماذا فعلت الحلة يا عبد الله!) قال: سجرتها التنور، قال: (هلا كسوتها أهلك!) فكيف قال له: (احرقها) ، ثم قال: هلا (كسوتها أهلك) ؟ بعضهم يقول: قوله: (احرقها) نوع من التشديد في النهي عن المنكر، وهذا ما يسمى في القانون الجنائي: مصادرة الآلة التي استعملها في الجريمة. فلو أن جماعة ذهبوا وسرقوا محلاً بسيارة فالسيارة التي استعملت تصادر؛ لأنها ساهمت في الجريمة، وهذه الحلة للنساء، ولكن لما استعملها في غير محلها صودرت عليه وأحرقت. وبعضهم يقول: أحرقها عبد الله بنفسه تأثراً وأسفاً عما لحقه من استعمالها، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أمك أمرتك؟) ، بينما علي رضي الله تعالى عنه رجع وقسمها بين نسائه. وفي ترجمة عبد الله بن رواحة أمر عجيب في السمع والطاعة، فقد كان ذاهباً إلى المسجد يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في المسجد، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: (اجلس) ، فسمعها ابن رواحة وهو في الشارع فجلس في مكانه حتى أنهى صلى الله عليه وسلم الخطبة، فقيل لرسول الله: إن ابن رواحة سمعك تقول: اجلس فجلس في مكانه عند بيت بني فلان! قال (رحم الله ابن رواحة! زادك الله طاعة لله ولرسوله) . وعلي رضي الله تعالى عنه لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر قال: (أنفذ على رسلك، ولا تلتفتن وراءك) ، فمضى علي بعض الخطوات، ثم وقف ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهمته، ولم يلتفت، بل رجع القهقرى بظهره وقال: يا رسول الله! علام أقاتلهم؟ فهذا هو منتهى الطاعة والامتثال، وما نقول: هي الطاعة العمياء كما يقول العسكريون، بل نقول: الطاعة المستبصرة طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. ومن شعر الشباب الذي كانوا يقولونه: قالت وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفهُ ولا تنقص ولا تزد أي: صفه لي فقط، كيف حالته، من زمان ما رأيناه، كيف حالته؟ فقلت لها لو كان رهن الموت من ضمأٍ فقلت قف عن ورود الماء لم يرد أي: لو كان عطشان وهو رهن الموت، والماء أمامه فقلت له: لا ترد الماء؟! لن يرده. فإذا كان هذا السمع والطاعة فيما بين البشر لأثر المحبة فكيف بالسمع والطاعة لله ولرسوله؟ فلا نستغرب ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أمك أمرتك بهذا؟) ، فرجع متأثراً ونادماً على ما وقع منه. وأبو طلحة رضي الله تعالى عنه قام يصلي في بسان نخل له، فإذا بطائر الدُبس -وهو معروف عند أهل المدينة، رأسه أبيض، صغير الذنب، وهو طويل سريع الحركة- يطير، ويريد أن يخرج من البستان، فلم يجد منفذاً لتشابك أغصان بستانه، قال: فتبعته بنظري معجباً، فانتبهت، فلما انتهيت من صلاتي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته وقلت: يا رسول الله! كفارة ذلك أني أتصدق ببستاني في سبيل الله. لقد أعجب بالبستان، وشغل عن عبادته بحسن بستانه، فرأى أن تكفير ذلك أن يخرج عن بستانه. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترعى غنمي، فجاء الذئب وأخذ منها شاة، وأنا بشر من بني الإنسان أغضب فلطمتها، ثم أسفت على ذلك أفأعتقها كفارة لذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) ، فهذا وجد أنه أخطأ، وأراد أن يكفر خطأه بما يتناسب مع ذنبه، فأخرج الجارية من ملكه وأعتقها، مع أنه يمكن أن يضربها من باب التأديب أو الحرص أو الشح على المال، لكن شعر بأنه رجل، وهي امرأة ضعيفة، وماذا تفعل مع الذئب؟ لكن الغضب جعله يضربها فتنبه، فوجد كفارة هذه الخطيئة أن يعتقها. فـ عبد الله بن عمرو هو الذي سجرها بنفسه، وكان يمكنه أن يقسمها بين نسائه. وقد أخذ العلماء من الحديث منع لبس الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة باللون الأحمر، وقد أخبر بعض الصحابة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، فقالوا: هذا للجواز، وهذا للكراهية وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً مصبوغاً بأحمر، فقال ما هذا -يا ابن عوف - وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المعصفر؟ قال: والله ما هذا بعصفر إنها المغرة. والمغرة: نوع من الطين يعطي لوناً أحمر، وهو مر، ولذا كان أهل المدينة يجعلونه في خشب النخيل ونحوه، وكانوا يضعونه في الثياب الصوف أو الخشنة حتى لا يأتيها ما يفسدها. فهذا ليس من المنهي عنه، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ بباب سد الذريعة، فقال: يا ابن عوف! إنكم رهط يقتدى بكم. فانظر إلى التفريق بين الناس في الأحكام والفتوى، قال: إنكم رهط يقتدى بكم. أي: فلعل شخصاً يرى عليه هذا اللون، ولا يفرق بين مغرَة وعصفر، فيقول: ابن عوف يصبغ بالأحمر. فيذهب ويصبغ به إقتداء بالصحابي. فيجوز هذا اللون بالمغرة من العامة، ولا يجوز من الخاصة؛ لأن الخاصة يجب عليهم أن يبتعدوا عن كل ما به شائبة شبهة، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأهل القدوة أو لأهل الخير الذين ينظر الناس إليهم أن يستعملوا الأشياء المنهي عنها ولو للكراهه؛ لأنهم أولى الناس بالابتعاد عنها.

صفة جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

صفة جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم] . أسماء بنت أبي بكر أخت لـ عائشة بنت أبي بكر، وأسماء هي ذات النطاقين، وكانت جبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند عائشة، فلما توفيت عائشة انتقلت إلى أسماء، فكانت تخرجها للناس، وكان في أكمامها وفي فتحة صدرها ديباج، وتجد أسفل بعض الثياب من الجانب الأيمن والجانب الأيسر فتحة بمقدار عشرين أو خمسة وعشرين سنتيمتراً تعطي الثوب سعة عند مد الخطوة، وهذه تسمى (الفُرَج) ؛ لأن (الفَرْج) هو الفتح، والفرجة: الفراغ في الصف، فكانت تلك الفُرج -أي: فتحات الجبة- في كمها، وفي صدرها، وفي جيوبها، ومن أسفلها عليها من الديباج قدر إصبعين، والذي يرى لباس أهل المناصب في مصر وفي الشام وفي المغرب يجد هذا الشيء موجوداً إلى الآن، ويسمونه (الشريط) ، وهذا لا يوضع إلا في الثياب النفيسة محافظة على الكم حتى لا يتقطع، ومحافظة على الفتحات حتى لا تنشق، ثم في الثياب الفخمة، مثل ما يسمونه (الجوخ) ، ونظير ذلك، يكون خشناً على الجلد، فيجعل في أطراف الفتحة شيء من الديباج يلاصق الجلد، وهو ألين وأنعم، وهذا يبين لنا جواز استعمال هذا الحرير بقدر إصبعين أو ثلاثة أو أربعة أصابع عند الحاجة، وهذا مباح مستثنى من عموم المنع، ومن هنا يقول ابن حجر في فتح الباري: مثل هذا كيس المصحف، وغلاف الكتاب، وخيط السبحة، فهذه الأشياء لو جعلت من الحرير الخالص لا ينبغي تحريمها؛ لأنها يسيرة، وقد رخص في أمثالها بقدر إصبعين في طرف الثوب أو في الفتحة، فلا ينبغي الاعتراض على ذلك، لا سيما إذا استعملت لتكريم المصحف أو حفظ الكتاب. فكانت جبة النبي صلى الله عليه وسلم في أطرافها قدر إصبعين من الديباج، وهو الحرير المتين. فـ أسماء تروي أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين، وذلك عند قص المقص من طرف الثوب، فإن من الخيوط ما يتناسل، فإذا ثنيته إلى الداخل وخيطته كف عن أن يتناسل، ولذا يقولون في الخياطة: مكفوف. أو: غير مكفوف. قولها: [ (مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج) ] . الجيب: هو فتحة الصدر. وقولها: [كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها] كانت جبة النبي عند عائشة أمانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) ، ولو كانت ميراثاً لكان لكل زوجات رسول الله مثلها، لكن كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها أمانة، وكونهن سمحن لها وسكتن عنها لا ندخل فيه، وهذا لا يخصنا ولا نتدخل فيه، فالمهم أنها كانت عند عائشة ما تغيرت وما تبدلت، وهي عين جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتقلت منها إلى أختها وما انتقلت إلى زوجات رسول الله الأخريات، إنما انتقلت إلى أختها؛ لأنها ليست ميراثاً. قولها: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يلبسونها] . كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها مع وجود الديباج في فتحاتها، أي أنه يقر استعمال هذا النوع من الثياب، وهذا فقه الحديث في باب اللباس. وجاء في بعض الروايات: (كان يلبسها في الأعياد والجمع وللوفود) ، واللباس أنواع، منه ما هو للزينة وشكر النعمة والمناسبات، ومنه ما هو للمهنة، ومنه ما هو لأمور عادية. وقولها: [فنحن نغسلها للمرضى] ينبغي أن يقف عنده طالب العلم بالعقيدة وبالعقل وبالاقتداء والاتباع، فـ أسماء رضي الله تعالى عنها كانت تأخذ جبة رسول الله التي كان يلبسها، وعرقه فيها، فتبلها في الماء ثم تخرجها، وتأخذ الماء الذي خالط تلك الجبة التي فيها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطيه للمرضى يتعالجون به؛ لأن المرضى أحوج من كل الناس. وبإجماع المسلمين أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي حقاً من آثاره، فكانت أم سلمة رضي الله عنها تخرج جلجلاً -أي: حقاً مثل الجرس- فيه شعرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنت أغمسها في الماء وأعطيها للمحموم فيشافيه الله. وقد يقول قائل: هذا من فعل أسماء من بعده، وهذا فعل أم سلمة من بعده، لكن ماذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: كلنا يعلم أنه في صلح الحديبية جاء سهيل بن عمر ليفاوض المسلمين، أرسلته قريش وقالت: اذهب إلى هذا الرجل، فجاء -وكان رجلاً عاقلاً- ثم كلم رسول الله كلاماً طويلاً، وانتهى الأمر إلى ما هو معلوم، ورجع إلى قريش وقال: يا معشر قريش! والله لقد دخلت على قيصر وعلى كسرى في ملكهما، فما وجدت أمة تعظم سيدها أو ملكها كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما توضأ وضوءاً إلا تسابقوا عليه، وما تفل تفالة إلا وقعت في كف أحدهم يدلك بها وجهه. وفي حجة الوداع أو في عمرة القضية: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة عندما حلق له الحلاق، فناول الحلاق شق رأسه الأيمن فقال: احلقه. فحلقه. فأعطاه أبا طلحة وقال: اقسمه على الناس، ثم حلق شقه الأيسر فقال لـ أبي طلحة: خذه لك) . وهذا من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لإنسان أن يجد منفذاً لإسقاطه، أو لإضعافه، أو لنسبته إلى غير رسول الله، فهو عين فعله صلى الله عليه وسلم. وجاء عن أم سليم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها، فلما قام وجدها تأخذ في إناء صغير عرقه من الحصير الذي كان عليه وتجمعه، فقال: ماذا تفعلين بهذا؟ قالت: نجعله في طيبنا نتطيب به، وأم أيمن رضي الله تعالى عنها كانت تقم البيت، وفي يوم من الأيام سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعلتِ بالقدح الذي تحت السرير؟) -وكان قدحاً من أعواد يبول فيه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل- فقالت: القدح الذي تحت السرير شربته فقال: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ، والآن عند الأطباء إذا إنسان شرب البول يأمرونه أن يعمل غسيل البطن؛ لأن البول مليء بالجراثيم، وهذه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ؛ لأنه بوله صلى الله عليه وسلم. فما ثبت لنا في هذا الباب فعلى العين والرأس، وقسماً بالله لو وجدنا التراب الذي كان يمشي عليه لاكتحلنا به في عيوننا تبركاً برسول الله، ولكن لا يحق لنا بعد ذلك أن نأتي إلى الحديد ونتمسح به وما باشره، ولم يكن في عهده، إنما وضع بعد مئات السنين من موته، ولم يلمسه، ولم يمس جسده الطاهر، ولا يجوز أن نأتي إلى أبواب المسجد ونتزاحم عندها ونتمسح بها. ثم بعد ذلك هل نفعل هذا بغير رسول الله، مثل سادة القوم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ جمهور المسلمين يقولون: لا ينبغي التبرك بهم، ولا بغيرهم من الصالحين، والتابعون أعلم بحق رسول الله وبحق أصحابه، وماداموا لم يفعلوا ذلك بكبار أصحاب رسول الله فلا نفعل ذلك بعلمائنا، لكن يجوز أن نسألهم الدعوة الصالحة، وكل من عرفته صالحاً قد أصلح ما بينه وبين الله فألح عليه أن يدعو لك، فهذا أويس القرني رجل من اليمن قال صلى الله عليه وسلم فيه لـ عمر: (يا عمر! إذا رأيته فاسأله أن يدعو الله لك، وهو بار بأمه، وفي جسده علامة) ، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد من اليمن يسألهم: أفيكم أويس؟ فيقولون: لا. حتى قيل له: نعم. هو فينا. فطلبه فجاءه، فقال: يا أويس: ادع الله لي قال: أنت أمير المؤمنين، فأنت ادع لي. قال: لا. فلما ألح عليه أخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له. وكان يتعامل مع الله فقط لا مع الخلق، فجلس فترة فعرفه الناس من خبر عمر فقال: يا أمير المؤمنين! اسمح لي أن أخرج من المدينة. قال له: إلى أين؟ قال: أريد أن أذهب إلى العراق. فقال له: إذا أردت الخروج فآذني لأكتب معك كتاباً للوالي هناك. قال: لا. لأن أكون في عامة الناس أحب إلي. وخرج دون أن يخبر عمر، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد العراق يسألهم عنه، إلى أن لقي رجلاً أخذ أويساً أجيراً عنده، وكان يشق عليه، فقال: أتعرف كذا؟ أتسمع عن كذا؟ قال: عندي رجل مسكين خامل ما يقدر على العمل. فقال عمر: إذا جئته فقل له: عمر يقول لك: ادع له. قال: ذاك يدعو لك؟! قال: قل له هكذا. فلما سافر الرجل قال: يا أويس! اغسل يديك واترك عملك، واجلس هنا وسيأتيك طعامك وشرابك ومن يخدمك. قال: والعمل أين؟! قال: تستريح. قال: ألقيت عمر؟ قال: نعم لقيته. فإذا به يخرج ليلاً ولا يعرفه أحد!. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر بن الخطاب: (إذا لقيته فاسأله أن يدعوا لك) ، وتقدم معنا في باب الاستسقاء أن عمر رضي الله عنه قال: (اللهم! إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقينا، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك لصلاحه ولصلته برسول الله) ، وفي بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم ينزل العباس عمه منزلة أبيه، فتأسوا برسول الله) ، فقام العباس ودعا الله فسقاهم الله. فالدعوة الصالحة من كل رجل صالح على العين والرأس، لكن لا نتبرك بهم؛ لأننا ليس عندنا اليقين أنه يعطى حق النبي صلى الله عليه وسلم في التبرك به، فهذا ما أحببنا التنبيه عليه عند هذا الأثر، وبالله التوفيق. قال المصنف رحمه الله: [وزاد البخاري في الأدب: وكان يلبسها للوفد والجمعة] . أي: كان يلبسها في الجمع والأعياد، وقد أشرنا

الجنائز

كتاب الجنائز [1] خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعلها دار ابتلاء واختبار، بعدها ينتقل المرء إلى ربه، فعلى المسلم ألا يغتر بالدنيا، وأن يزهد فيها دون رهبانية ولا تواكل. وعلى المرء أن يستعد للموت بتذكره، وبزيارة المرضى، وزيارة القبور، وذلك يتطلب أن يتعرف الإنسان على آداب زيارة المريض، وزيارة المقابر، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يجهله المسلم.

كفى بالموت واعظا

كفى بالموت واعظاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان. بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث تنبيهاً للحي، كي يتعظ بالموت (أكثروا ذكر هاذم اللذات) وهاذم اللذات كما تبين هو الموت؛ لأن كل إنسان مهما كانت حياته منعمة إذا كان في القمة في العالم كله أغنى أغنياء العالم أقوى أقوياء العالم أسعد سعداء العالم، حينما يتذكر الموت فإنه تنهزم أمامه كل لذة، ولو ذكر العريس ليلة عرسه الموت لما دخل على عروسه. فذكر هاذم اللذات الذي هو الموت هو أكبر واعظ، وأكبر زاجر، وأكبر دافع لفعل الخير. وبعض العلماء يفتتح هذا الباب بغير هذا الحديث، ولكن المؤلف من فقهه افتتح كتاب الجنائز بهذا الباب. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بزيارة القبور أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) وجاء في بعض الروايات: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذُكر في قليل إلا كثره، ولا ذُكر في كثير إلا قلله) بمعنى: إنسان يعيش عيشة كفاف، ولديه القليل القليل من متاع الدنيا، فإذا ما تذكر الموت رأى أن الذي عنده كثير؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، وإذا كانت عنده كنوز قارون، وتذكر الموت؛ صارت قليلة في نظره، ماذا يفعل بها؟! لا تنفعه في شيء، وليس هناك أنفع للإنسان من دوام ذكر الموت، يهوّن عليه مصائب الدنيا وشدائدها. وكنت دائماً أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يزهد في الدنيا، ويبسط أمرها في قوله: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي كأن الدنيا ما لها قيمة. وكذلك الإنسان فيما أعطاه الله، إن كان مريضاً مبتلىً متألماً وذكر الموت هان عليه المرض والألم، وإن كان متعافياً وينظر إلى نفسه في حالته، فذكر الموت قامن من رأسه وقامن من تطاوله. وهكذا أيها الإخوة: المؤمن لابد أن يؤمن بما وراء الموت، فإن الدنيا مزرعة حصادها في الآخرة، والإنسان ما بين أمرين: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بشر خاب مسكنه وإن بناها بخير طاب بانيها وكما قال بعض الناس في الزهد وفي الترهيب: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

الأمة أمة وسط بين الأمم

الأمة أمة وسط بين الأمم الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى، فنترك الدنيا دون أن نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية وانهماكاً في موادها أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأمة أمة وسطاً، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] ، وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست في المعنوية، وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت وعملت. فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي منشؤه التراب {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] ، والعنصر الثاني الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، فبمجموع الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته ومتطلباته، فالعنصر المادي يرجع إلى المادة، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ، ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي عالم ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى. فاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في العبادات، والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا في جانب المادة، وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين لا مادية لاهية، ولا رهبانية طاغية. فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] هذه روحانية {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] ، فالاستجابة إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض بعد الصلاة لمتطلبات البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من فضل الله وتذكر الله وأنت في عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين، وكانوا شهداء على الناس، كل المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ رسلهم رسالة ربهم، ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم استطاعوا أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح، فاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح ويميل. أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت سيراً متوازياً منذ أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم شهداء على الناس في تطبيق المنهج الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب، في الوقت الذي أفلست فيه الأمم التي من قبلنا لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، كما تكونون شهداء على الناس في الآخرة. وعلى هذا لا يكون الإنسان المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن الدنيا وراءها آخرة، وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي لا يؤمن ببعث، ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها على كل ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب. ولهذا نجد بعد قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] من هم؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] وهو كل ما غاب عنك، وما جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] ، إيمان بالغيب وعمل في الحاضر {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:3-5] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] وهكذا القرآن يفسر بعضه بعضاً.

زيارة المريض حكمها وآدابها

زيارة المريض حكمها وآدابها المؤلف هنا بدأ الباب بهذا الحديث: (أكثروا) ، وهناك من العلماء من يبدأ هذا الباب بالحث على عيادة المريض، وعيادة المريض حق للمريض، ولكن هنا حق للإنسان في نفسه، ثم بعد ذلك لما يأتي المرض نقول له: اذهب فعده، ولذا المؤلف كان دقيقاً جداً في ترتيبه وإيراده هذا الباب، وجمعاً بين المنهجين إذا مرض الإنسان كان حقاً على أخيه المسلم أن يعوده، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاله: (حق المسلم على المسلم ست -وذكر منها-: وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) بدأ بالسلام، ثم بالإجابة إلى الوليمة، ثم بالنصح إلى آخره. وجاء في عيادة المريض عدة أحاديث، كما يذكر البخاري في الأدب المفرد (من زار مريضاً في المساء خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى الصباح، ومن عاد مريضاً صباحاً خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى المساء) وجاء في الحديث أيضاً (من عاد مريضاً فإنما يمشي في مخرفة من الجنة) والمخرفة هي: الأشجار المثمرة تذهب فتخرفها، تمشي بين أشجار من أشجار الجنة المثمرة، تخرف منها من الثمار ما شئت.

آداب زيارة المريض

آداب زيارة المريض ذكر العلماء في آداب عيادة المريض أن على الزائر أن يغلب عند المريض جانب البشرى، وآمال العافية، وأن يرقيه، ويفسح له في الأجل. وألا يتبع نظره أثاث البيت الذي هو فيه؛ فإنه ربما تكون الحال متوسطة، أو دون ذلك، فيستضر صاحب البيت من أن تتأمل حالته بأنها رديئة أو قليلة أو غير ذلك. وألا يطيل الجلوس عنده، فقد يكون في حاجة إلى خدمة أهله فتحجبهم عنه، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعود المريض بعد ثلاثة أيام؛ لأنه في أول يوم يمكن أن تكون وعكة خفيفة وتذهب، فليس هناك حاجة في أن تثقل عليه، أو تعطل نفسك، فتكون الزيارة بعد ثلاثة أيام. ويقول بعض العلماء: لا بأس أن يزور المسلم المريض الكافر لعله يعرض عليه الإسلام في آخر لحظة فينفعه الله بذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم، يهودي، فغاب الخادم فسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقيل: مريض، قال: قوموا بنا نعوده، فيذهب صلوات الله وسلامه عليه إلى خادم، ليس إلى أمير أو رئيس أو نحوه، بل خادم ويهودي!! أي أنه جمع النقيصتين، فلما أتاه وجلس عنده، وكان في لحظاته الأخيرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه، وكان عند رأسه -كأنه يستشيره- فإذا بالأب يقول: أطع أبا القاسم يا بني!) الله أكبر! وأنت لماذا لا تطعه؟ لنعلم يا إخوان أن قضاء الله، وقدر الله فوق كل شيء، الولد في حالة الاحتضار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإيمان، فيلتفت إلى أبيه كالمستشير، فإذا بالأب يشير عليه أن يطيع الرسول، فلم يقل له الرسول: وأنت أيضاً أطعني، عملاً بسنة التدرج، فقالها الغلام، وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاضرون من الصحابة، ثم فاضت روحه، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من المسلمين: (تولوا أنتم أمر أخيكم) انظر محاسن الإسلام! انظر فضل الله على عباده! مجرد أن نطق بها صار أخاً من إخوانهم، صار صحابياً بين يدي رسول الله، وهذا من بركة زيارته صلى الله عليه وسلم. وهذا باب كما يقولون يأتي في الآداب والأخلاق وحقوق الجوار. إلى آخره.

زيارة القبور

زيارة القبور نأتي إلى هذا الباب الذي معنا: (أكثروا) وهذا عام للرجال وللنساء، حتى إن العلماء عندما اختلفوا في زيارة النساء للقبور لحديث: (لعن الله زوارات القبور) وجاء حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) واو الجماعة في قوله: (فزوروها) هل يشمل النسوة، أو يبقى النسوة على المنع؟ فقالوا: إن في الحديث معنى يجمع بين الرجال والنساء وهو قوله: (فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) فكما أن الرجل في حاجة إلى ذلك فكذلك المرأة في حاجة إلى ما يذكرها بالآخرة، فتكون مشمولة بالإذن، والمعروف عند علماء اللغة أنه لو وجد ألف امرأة ورجل واحد فإنهم يخاطبون جميعهم بواو الجماعة تغليباً للمذكر. وكلمة: (أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون للغفلة، لكن من الصعب أن يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره: اذكر الموت اذكر الموت ولكن لا تطل الغفلة، ومن هنا كلما صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد، إذاً: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ألا وهو الموت. وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى من الموت: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] ولن يستطيعوا إرجاعها: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة بل تصدق على لحظة، فلا يملكون حتى التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه الآية الكريمة {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] فهناك الحشرجة في الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى الساقين إلى الفخذين إلى البطن إلى الصدر فتحشرج الروح أو النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها، في تلك الحالة وهم حوله ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً واحداً يستطيعون أن يزيدوه: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] يوم الحساب والجزاء {إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] غير ميتين ولا محاسبين، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] صحيح نحن لا نرى، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] . {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87] لا والله لا تستطيعون إرجاعها، {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] ما مصيره؟ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89-91] يقول المفسرون: منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا سلام من الله باسم رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر وأوضح، والله أعلم. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92] عافانا الله وإياكم. إذاً: أكثروا من ذكر هادم اللذات.

باب كراهة تمني الموت

باب كراهة تمني الموت

حكم تمني الموت لنزول الضر

حكم تمني الموت لنزول الضر وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه. (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به) لأن تمني الموت لنزول الضر معناه عدم الرضا بالقضاء والقدر، ومعناه عدم الاستسلام لأمر الله، ومعناه الجزع وعدم الصبر، وهذا لا يتناسب مع الإيمان بالله، وإما إذا كان تمني الموت مخافة فتنة في الدين فبعضهم يقول: لا مانع؛ فإن تمني الموت لميتةٍ كريمة كالشهادة في سبيل الله لا مانع منه. وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه في حجته الأخيرة جاء الأبطح واستلقى على ظهره فسمعه أحدهم يقول: [اللهم كبرت سني، وضعف عظمي، واتسعت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مفتون] . ما طلب لشيء نزل به، لا، إنما خاف من فتنة في الدين، أو على المسلمين، وقد أصبح الأمر ثقيلاً عليه، فطلب لقاء ربه. فمثل هذا ليس داخلاً في هذا الأمر، أما لضرٍ نزل به: فقر، مرض مزمن، مضايقة من أي جهة من الجهات، فلا ينبغي أن يتمنى الموت بسبب ذلك، بل يصبر ويحتسب. والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل في رسله النماذج للمثاليات الكاملة في كل شيء، فجعل -مثلاً- نأخذ من إبراهيم عليه السلام صبره وصموده؛ حتى كان أمة، وشدة توكله على الله عندما ألقي في المنجنيق ليلقى في النار، فيأتي جبريل يقول له: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وإلى ربي بلى. مثال في أعلى ما يمكن من اليقين بالله والتوكل عليه. تأتي إلى نوح في صبره، وعزمه، وطول أجله, و. إلخ. تأتي إلى موسى تأتي إلى يوسف عليه السلام مثالية نموذجية إلى أقصى ما يمكن أن يتصوره العقل البشري في العفة والطهارة: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] . والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل الجوانب، ولا شك في ذلك، كذلك نبي الله أيوب أصبح مثالاً عند الناس في الصبر، صبر على الابتلاء، وعلى فقد أهله، وعلى فقد ماله، و. و. والملائكة تقول: يا رب! ارحم عبدك، فيقول: إذا اشتكى لكم فأغيثوه، إن شكى لكم فأجيبوه، وهو ما زال يقول: ما دام قلبي سليماً لا يفتر عن ذكر الله وأخيراً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فكان المثل. فالمؤمن عندما يبتلى بمرض، أو أي شيء الصبر أفضل له، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليكتب للعبد المنزلة فلا يصلها بعمله، فيصيب منه ليبلغ تلك المنزلة) يكتب له الأجر مائة في المائة، ولكن عمله خمسون في المائة فليس قادراً أن يصل إلى هناك، فيبتليه بالمرض ليصبر، وليصعد الباقي بالصبر على مرضه. إذاً: ليس هناك شر عليه، وإذا صبر وجد الخير، وفي بعض الروايات أيضاً أن المريض يئن لمرضه، فالملائكة تقول: (يا رب! عبدك كان يقوم الليل، كان يصوم، كان يفعل، كان يذكر وهو الآن عاجز، فيقول: أنينه -هذا العبد الصالح- في مرضه خيرٌ من صوت الآخرين بالذكر والعبادة) إذاً: لا ييأس الإنسان ولا يجزع، وليعلم أن ربه أرحم به منه، وإذا كان سيد الخلق: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6] هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك برب النبي؟! إذاً العاقل المؤمن يسلم أمره لله، ويحمل نفسه -عقلاً وإيماناً وعقيدة- بأن ما أتاه الله به فهو الخير؛ لأنه أعرف بعبده من نفسه، ولهذا: لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به, ولكن إذا ضجر وكان تنفيساً له، فليقل مفوضاً الأمر لله الذي أنزل به الضر: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) لم يقل: أحيني لأن الحياة خير لي، لا، أنت الذي تعلم إن كانت الحياة خيراً لي، أي: يطول العمر، ويستقيم في العبادة، ويعمل صالحاً، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله. فقد كان هناك أخوان صالحان، فمات الأول قبل الآخر، وكان الأول أصلح من الآخر، فبقي الآخر بعده، فذكروا ذلك لرسول الله، قالوا: (والله مات الأخ الصالح، قال: والثاني، قالوا: ليس مثل الأول، قال: لعله يصلي بعده، ويصوم بعده، ويذكر الله بعده فيلحقه) إذاً: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) أي: وأنت الذي يعلم ذلك، (وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي) حتى لا أفتن؛ لأن الذي يعلم ذلك هو الله، فكأنه أيضاً رجع إلى الله سبحانه وتعالى.

باب صفة النزع للمؤمن

باب صفة النزع للمؤمن

شرح حديث: (المؤمن يموت بعرق الجبين)

شرح حديث: (المؤمن يموت بعرق الجبين) وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يموت بعرق الجبين) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان. بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان لابد متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الممات خيراً لي) وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان حالة موت المؤمن، فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق الجبين) هذه حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين: جانب لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة الشدة عند النزع. وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن المؤمن يسعى ويكدح ويعمل حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة، ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن الموت له شدة، وقد جاء: (اللهم هوّن علينا سكرات الموت) ولما دخلت فاطمة رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت: (واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي) وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد عليه أمر الموت غمس يده في الماء، ثم مسح بها جبينه) وذلك لشدة ما يعاني. وجاء عند الترمذي: (نفس المؤمن تخرج رشحاً) والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً عن سرعة النزع فلا يطيل إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك. ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وأعوذ بالله من موتةٍ كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟! قال: موت الفجأة) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة. وقد بين العلماء بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، وبعض الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن كان في النزع شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون عند المؤمن فرصة في هذا الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة، ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما سمعنا إن شاء الله. إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة والحالة التي تعتري الإنسان في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال) وكان صلوات الله وسلامه عليه يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.

كتاب الجنائز [2]

كتاب الجنائز [2] الموت حق، وهو حتم واقع على كل إنسان، وحدث يتردد على بيوتنا وجيراننا بين الحين والآخر؛ فلذلك كان من الواجب علينا أن نتعلم الأحكام المتعلقة به، لنتمكن من توديع موتانا ودفنهم وفقاً للسنة، ولنتجنب البدع التي كثرت في العهود المتأخرة في مراسم الموت. وعلى هذا فإن هناك أحكاماً كثيرة متعلقة بالاحتضار، والتجهيز، والدفن، والتلقين، والقراءة للميت، والصدقة عنه وغير ذلك من الأحكام؛ موضحة أحسن توضيح، مدعمة بالأدلة الشرعية، مردفة بأقوال الأئمة والفقهاء.

باب تلقين الموتى لا إله إلا اله

باب تلقين الموتى لا إله إلا اله وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه مسلم والأربعة.

التلقين بين حقيقة الموت ومجازه

التلقين بين حقيقة الموت ومجازه في هذا الحديث: (لقنوا) التلقين هو أن تقول الشيء ويقوله غيرك من بعدك، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم) وموتانا جمع ميت، والميت حقيقة من فارق الدنيا وفاضت روحه، فهل هنا موتاكم على حقيقتها بعد الموت، أو على المجاز: ما قارب الشيء يعطى حكمه باعتبار ما سيكون؟ وعلى هذا يقول بعض العلماء: لقنوا موتاكم، أي: من حضره الموت؛ لأن الذي مات وانتهى وفارق الحياة لا يسمع التلقين، ولا يستفيد منه، ولا يفيده بشيء، إذن الذي يستفيد من موتانا التلقين هو الذي حضره الموت، والذي يمكن أن يسمع التلقين ويعيه ويتلقنه ويقوله، وهذا هو الصحيح.

آداب كيفية تلقين الميت لا إله إلا الله

آداب كيفية تلقين الميت لا إله إلا الله والعلماء في كيفية التلقين يبينون أن السنة في ذلك ألا تتوجه بالأمر فتقول: يا فلان! قل لا إله إلا الله، بخلاف ما يقوله بعض المتأخرين في بعض كتبهم، فإن علماء السلف يقولون: إذا كان الميت مشغولاً بسكرات الموت أو غافلاً عن ذلك مشغولاً بنفسه فحينئذ يذكّر حتى يقول: لا إله إلا الله. ويقولون: لا ينبغي التكرار المتوالي، ولا ينبغي توجيه الأمر إليه بقل؛ لأن الإنسان في حال الحرج والضيق لا يتحمل؛ لأن صدره ضيق، وهو مشغول بنفسه، فإذا أكثرت عليه ربما ضجر لهذا الإكثار، وربما كره أن يقول ما تلقيه عليه، وربما تكلم بكلام من منطلق تعبه وضجره فتكون أنت السبب، فقالوا: لا ينبغي أن يوجه إليه الأمر، ولا ينبغي أن يكثر عنده. وإذا قال: لا إله إلا الله، تلقيناً من الحاضر وسكت بعدها فإنه لا ينبغي أن يعاد التلقين؛ فإن مات في هذا السكوت كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، أما إن تكلم بعد ذلك وأطال الكلام فإنك تعيدها وتقولها أيضاً دون أن توجهها بأمرٍ إليه، ودون أن تكثر عنده. ولهذا على من يحضر عند الميت أن يكون حكيماً رفيقاً، حتى قالوا: ينبغي له أن يعرض على الميت محاسن أعماله؛ ليعظم جانب رجائه فقد ورد عند الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو يحتضر فقال: (كيف أجدك يا غلام؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع هذان في مثل هذا الموطن في قلب رجل إلا أعطاه الله مأمنه، أو أعطاه الله مطلبه) والذي ينبغي على الإنسان في تلك اللحظات أن يغلّب دائماً جانب الرجاء، يقول العلماء: الإنسان في حياته دائماً وأبداً بين الخوف والرجاء، بين الطمع والعطاء، فهو يخاف من الشر ويرجو الخير، فإذا كان الأمر كذلك فهو يعمل لتحقيق ما يرجوه ويعمل لاتقاء ما يخافه، فإذا كان في سعةٍ من الدنيا فالأولى أن نغلّب جانب الخوف؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، فإذا قدم جانب الخوف كان دائماً وأبداً على حذر {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] . وإذا كان في اللحظات الأخيرة يجب أن يغلب جانب الرجاء؛ لأن الخوف الآن ليس له مجال، وقد جاء في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وجاء في الأثر أيضاً: [إذا عرجت الملائكة بروح العبد وصحيفته فكان في أولها كلاماً حسناً وفي آخرها كلاماً حسناً يقول الله سبحانه: أشهدكم بأني قد غفرت له ما بين هذين] وهكذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّب للغلام جانب الرجاء، ما اجتمع هذان في قلب مؤمن في هذا الوقت إلا أعطاه الله ما أنال وإلا غفر له. فجانب الرجاء مقدم في تلك اللحظة. ولما أصيب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه دخل عليه شاب قال: يا أمير المؤمنين! والله لا أسفاً على أمرك، إنك قسمت بالسوية، وعدلت في الرعية. وكذا وكذا، وذكر له محاسن أعماله، وعزاه في نفسه في حياته بحسن فعاله، فلما ولى الشاب قال: ردوه، فجاءه قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك -لأن ثوبه طويل، تحت الكعبين-؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك. أنقى للثوب؛ لأنه إذا جره على الأرض فإنه يجمع كل ما علق به، وأتقى لربه؛ وفي الحديث: (ما جاوز الكعبين فهو في النار) فـ عمر وهو في تلك الحالة لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أن الشاب جاء يعزيه بأحسن شيء، وما جامله في أمر نفسه بل نصحه أيضاً. ونحن يهمنا في هذه الحال أنه يجب على من يحضر الميت من أن يغلب عنده جانب الرجاء، يذكره بحسن أفعاله التي يعرفها عنه، يذكره بأن رحمة الله وسعت كل شيء، يذكره بأن يحسن الظن بالله، ويتحين الفرص لتلقينه: لا إله إلا الله.

التزام الحكمة والصبر وقول الخير عند خروج الروح

التزام الحكمة والصبر وقول الخير عند خروج الروح من الآداب أيضاً أنه حينما تصعد الروح إلى باريها ينبغي على الموجودين تعزية الحاضرين وحثهم على الصبر، وعدم التكلُّم بكلمات غير لائقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قولوا خيراً، ولا تقولوا إلا الخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون) وقد جاء عن بعض السلف بأنه كان يحذر وينهى ويوصي أهله إذا هو مات ألا ينعوه نعي الجاهلية، وجاء عن ابن رواحة رضي الله تعالى عنه لما أغمي عليه ثم أفاق أنه رأى الملائكة تقول له ما كان يقوله بعض أهله: كنت لنا كنت لنا كنت لنا، أهكذا كنت؟ أهكذا كنت؟ يعاتبونه على ذلك، فلما أفاق نهاهم عن هذا كله. إذاً: ينبغي على الحاضر أن يلتزم الحكمة والصبر، وحسن اللفظ، وتثبيت الحاضرين، وأن يقول قولاً طيباً، وأن يحملهم على الصبر وحسن العزاء. والله تعالى أعلم.

حكم التلقين للميت بعد الدفن

حكم التلقين للميت بعد الدفن يقول بعض الناس بعد الدفن: يا فلان ابن فلان! اذكر ما كنت عليه عندنا في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا أتاك ملكان يسألناك: من ربك؟ وما نبيك؟ وما دينك؟ . إلى آخره، فيرى بعض الناس أن هذا من البدع، وينهى عن ذلك، وربما تخاصموا في المقبرة، في الموضع الذي تذرف فيه الدموع، والذي تخشع فيه القلوب، والذي هو موضع الموعظة والعبرة (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتجدهم يتخاصمون، ويتناكرون في أمر هل هو سنة أم بدعة؟ والسلف رضوان الله تعالى عليهم منهم من فعل هذا ومنهم من تركه، ويروون عن أحمد رحمه الله أنه مر على رجل يلقن إنساناً فقال: أسكتوه، ثم أدركه رجل وقال: إن شعبة قد فعل، وسفيان قد فعل وكذا، قال: اتركوه يقول ما يقول. فالمسألة خلافية من سابق الأمر، وجاء في العموم أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن الميت قال: (سلوا الله له الثبات؛ فإنه الآن يسأل) فهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نسأل الله أن يثبته عند السؤال: اللهم ثبته، اللهم ارحمه، اللهم أفسح له في قبره، على ما سيأتي من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة عندما أغمض عينيه، ودعا له الدعوات الكريمات، وسواء فعل ذلك بعض السلف أو لم يفعلوه، وقد جاء عن عمرو بن العاص أنه طلب من أهله فقال: [إذا مت ودفنتموني فانتظروا عند قبري قدر ما تنحر الجزور وتقسم؛ فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين] ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليسمع حفيف نعالكم) إذاً: هناك عمومات صريحة أن ندعو للميت بأن الله يثبته. وبعض السلف أوصى أن ينتظر عند قبره بقدر قراءة سورة (يس) ، وسيأتي الكلام على قراءة (يس) .

حكم قراءة يس على الموتى

حكم قراءة يس على الموتى أما حديث (اقرءوا يس على موتاكم) فقد جاء الخلاف: هل نقرأه على موتانا بعد أن يموت، أو نقرأه على موتانا بعد أن يدفن، أو نقرأه على موتانا حينما يحضره الموت؟ جاءت بعض النصوص تؤيد المعنى الثاني، وهو (ما من إنسان يحضره الموت وتقرأ عنده (يس) إلا خفف الله عنه النزع) إذاً: قراءة (يس) على موتانا تكون على من حضره الموت. والحكمة في ذلك أن الروح تنشط ويخف عليه نزعات الموت، ويكون أخف عليه مما لو ترك. إذاً: (موتاكم) هنا تصرف إلى المعنى الثاني المجازي بقرينة يخفف عنه سكرات الموت، أما أن نذهب إلى الميت، أو إلى القبر ونقرؤها فبعض العلماء يقول: كان بعض السلف يحب أن يقرأ عنده يس، وبعضهم يحب أن تقرأ عنده سورة الرعد، وبعضهم سورة البقرة، كل ذلك من أقوال السلف ومن أفعالهم، فلا ينبغي الإنكار في ذلك إلى حد الخصومة، ولو أن إنساناً عرض وجهة نظره واكتفى بذلك فقد أدى ما عليه، لكن أن تؤدي إلى الخصومة والمنازعة والمدافعة فهذا ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان، وفي الدعوة إلى الله أو إلى سنة رسول الله.

حكم إهداء ثواب الأعمال من الحي إلى الميت

حكم إهداء ثواب الأعمال من الحي إلى الميت هل يستفيد الميت من قراءة الحي لـ (يس) أو غيرها أم لا؟ هذه مسألة يمكن إدراجها تحت عنوان: ما علاقة الميت بفعل الحي؟ هناك فريقان: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها أخذوا بقوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] فليس للميت من الحي أي شيء إلا ما جاء به النص. وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له) فقال أولئك: ينتفع بهذه الثلاث: ولد صالح يدعو له، صدقة جارية، علم ينتفع به. وجمهور العلماء يقولون: إن عمل الحي -كما هو معروف- في العبادات ينقسم إلى قسمين: - عمل بدني محض: كالصلاة، والصيام وقراءة القرآن، والدعاء. - وعمل مالي بحت: كالصدقة، والكفارة، وسداد الدين، والحج يجمع بين الأمرين.

حكم وصول العبادات المالية إلى الميت

حكم وصول العبادات المالية إلى الميت قال بعض العلماء: ما كان من عمل مالي فهو يصل إلى الميت قطعاً، فهو داخل في عموم الصدقة، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه بعد الهجرة ربما ذبح الشاة وقسمها صدقة عن خديجة لصاحباتها، حتى قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: خديجة، حتى بعد الممات خديجة. فهذا فعله صلى الله عليه وسلم. وكذلك سداد الدين؛ فإن المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أمها: [إن فريضة الله في الحج، أدركت أمي أفأحج عنها؟] كان الجواب يكفي: نعم أو لا، ولكن يأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام بقياس؛ لنأخذ نحن الحكم من أنفسنا: (أرأيتِ -أخبريني وأعلميني- لو أن على أمك دين فقضيتيه -أي: عنها- أكان ينفعها؟ قالت: بلى. قال: كذلك فدين الله أحق) إذن قضاء الدين ينفع. وكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان في بادئ الأمر إذا قدمت جنازة يسأل: (هل على ميتكم دين؟ إن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا. صلى عليه. فأتي بميت فسأل قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا عليه، قال أبو قتادة: يا رسول الله! صلِّ عليه وديناراه عليَّ أنا، قال: في ذمتك؟ قال: نعم. قال: برئت منهما ذمة الرجل؟ قال: بلى. قال: عليك أنت؟ قال: نعم. فصلى عليه) فهنا بين يدي رسول الله لم يسدد، لكن التزم واعترف وقال: (برئت منهما ذمته - أي بضمانك وكفالتك؟ - قال: بلى) وفي نفس الخبر أنه لقيه رسول الله من الغد فقال له: (ماذا فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله! الرجل مات -بالأمس فقط- من الغد، قال: ماذا فعل الديناران؟ -يعني يطالبه- قال: سددتهما، قال: الآن بردت جلدته من النار) لأن الميت يرهن في قبره بدينه. ثم لما وسع الله على المسلمين وجاءت الفتوحات والغنائم، وبقي عند المسلمين بيت مال، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وله مال فماله لورثته، ومن مات وعليه ضياع أو دين فعليَّ) فكان صلى الله عليه وسلم يصلي على المدين وغير المدين، والمدين يوفي دينه من بيت مال المسلمين. والذي يهمنا هنا بيان أن العبادة المالية: الصدقة سداد الدين الكفارات المالية. إلى غير ذلك، تصل إلى الميت.

حكم وصول العبادات البدنية إلى الميت

حكم وصول العبادات البدنية إلى الميت العبادات البدنية تبدأ من الذكر باللسان: الدعاء، الاستغفار، تلاوة القرآن، البدن: صلاة، صيام، فجاءوا في الأذكار والدعاء وقالوا: لا شك أن الدعاء يصل الميت، وقد وجدت للإمام ابن تيمية نحواً من المائة صفحة في هذا الباب يدلل على وصول عمل الحي للميت بدنياً كان أو مالياً، والدعاء -يقول- أكبر شاهد، حيث إنه يؤتى بالميت ونقوم فنصلي عليه، وفيها قراءة الفاتحة، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندعو للميت، ولولا أن الميت ينتفع بدعاء المصلين له لما كان له فائدة {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} [الحشر:10] إخواننا من؟ {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] يدعون الله بالمغفرة لهم ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، فهذا نص القرآن الكريم بأنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة، ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، أي: الذين ماتوا قبلهم، فالدعاء لا شك فيه ولا غبار. أما الصلاة فجاء الحديث: (كان لي أبوان أبرهما في حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فذكر صلى الله عليه وسلم: تتصدق عنهم، وتدعو لهم مع دعائك، وتصلي لهم مع صلاتك) فقالوا: هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنه يصلي لوالديه مع صلاته. ونجد في الحج أن يُحج عن الميت، وبعد الطواف هناك صلاة ركعتي الطواف، فهذا طواف عن الميت، وهذه الصلاة عن الميت، نقول: هو الذي طاف، ليس هناك مانع، لكن باسم غيره. أما الصوم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وعليه الأئمة الثلاثة ما عدا المالكية يقولون: إن كان الصوم نذراً فإنه هو الذي أوجبه على نفسه فيقضيه، أما إذا كان صوم رمضان فالله هو الذي كلفه وهو الذي أماته فليس عليه قضاء، لكن الحديث عام وصريح: من مات وعليه صوم} بالتنكير دون تعيين نوع من أنواع الصيام. والحج جاء فيه: (أحج عن أبي؟ قال: بلى) (أمي ماتت أحج عنها؟ قال: نعم ... ) والحج عن الغير أمر مشهور عند الجميع. لكن بقي الخلاف والنزاع الطويل في قراءة القرآن، فمن يرجع إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله في المجموع وفي كتاب الجنائز يجده رحمه الله يرتب الموضوع فيقول: نحن اتفقنا على أن الميت ينتفع بدعاء الحي: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وهذا متفق عليه، ما معنى: اللهم ارحمه؟ معناه: يا رب! أنا ليس عندي شيء، ولكن أتوجه إليك، وأسألك من عندك رحمة للميت، فإذا كان الله سبحانه يرحم الميت برحمة من عنده بسؤالك أنت إياه، فرحمة الله نزلت على الميت فضلاً من الله وليس لك في ذلك شيء إلا المسألة، فالرحمة من الله لعبده ماذا فعلت أنت؟ دعوت. يقول: نأتي إلى القراءة حينما تقرأ الفاتحة يس آية من كتاب الله، لك بكل حرف عشر حسنات، فأنت عملت وبعملك وعدك الله الأجر، فأصبح لك -بمقتضى وعد الله وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم- بكل حرف عشر حسنات تكتب في صحيفة أعمالك، فأنت تقول: يا رب! هذا الذي عملت، وهذا الذي وعدتني وهو حق لي، أسألك أن تعطيه لفلان، فإذا كان الدعاء وهو طلب الرحمة من الله وأنت لا تملك منها شيء يصل إلى الميت، فكيف بالحسنات التي استحققتها أو التي وعدت بها وتكتب في صحيفتك فأنت تقول: أنت وعدتني به وأنا أتبرع به للميت، أيهما أولى بالقبول الشيء الذي كان عن عمل منك، أو الشيء الذي هو مجرد سؤالك رحمة من الله؟ الذي كان عن عمل منك؛ لأنك عملته، وبوعد من الله كنت تستحقه، ويكتب لك في صحيفة أعمالك، فهو موجود عن سبب منك أنت. وبهذا المنطق يسترسل رحمه الله في إثبات انتفاع الميت بعمل الحي. ثم نحن نقول: هل نحن نحجر فضل الله؟ هل نمنع رحمة الله عن عباده؟ فإنك إذا ما عملت عملاً وطلبت من الله أن يجعل ثوابه لوالديك أو لمن شئت من المسلمين، فإنه يكون صدقة جارية ذا ثمرة تدوم بعدك، مثل بناء مدرسة، أو مسكن للمساكين، أو حفرت قناة، أو بنيت جسراً، أو مهدت طريقاً، أو بنيت مسجداً، أو ورثت مصحفاً، فأنت بصلاحك وبفعلك الخير لهذا الرجل بقي من أثر عملك عنده ما جعله يدعو الله لك، إذن لك أثر في هذا العمل؛ لأنه لا يوجد أحد يقرأ لك قرآناً ويهب ثوابه إليك وبينك وبينه عداوة، بل لابد أنه كانت هناك صلة، كان لك عمل من الخير يجعله باقٍ عنده يعطفه عليك حتى يهب لك من عمله الخير. إذاً: الصدقة الجارية باقية. وكذلك عمل الولد: (ولد صالح يدعو له) (ولد الرجل خير كسب أبيه) فإذا دعا الولد أو عمل الولد صالحاً فإنه داخل لا يمنعه. وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] فقد أجاب ابن تيمية رحمه الله حيث قال: الآية تقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم:39] أي: من نفسه إلا ما سعى هو به، فالآية ما منعت أن يكون له من سعي غيره، نعم. سعيه انقطع لحديث: (إذا مات العبد انقطع عمله) لكن إذا انقطع عمله فإنه لا يمنع أن يستمر له عمل من غيره، إذن الميت انقطع عمله، لكن هذا لا يمنع أن يأتيه من عمل الغير خير له. وأرجو من كل طالب علم أن يرجع من هذا الموضوع إلى هذا المرجع المجموع ليرى الأسلوب والمنهج والهدوء، وعدم الخصومة، وعدم النزاع، وليرى أسلوب السلف في معالجة الأمور، وكيف كانوا يقيمون الأدلة عليها، وأرى إن شاء الله أنه ما من طالب علم يقرأ هذا البحث إلا سيجد الخير الكثير، وبالله تعالى التوفيق.

باب القراءة عند الميت

باب القراءة عند الميت وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا على موتاكم يس) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان. على ما تقدم في معنى (موتاكم) أنه حين الاحتضار أو بعد الوفاة، والجمهور على أن هذا الحديث بالذات إنما يراد به عند الاحتضار؛ لأن القرائن في النصوص الأخرى تؤيد ذلك (فإنه ما قرئت يس عند محتضر إلا خفف عنه) وهذه قرينة على أنها تقرأ عند احتضار الموت وعند النزع.

تسبيح الجمادات

تسبيح الجمادات قد يتوقف بعض الإخوان في بعض النصوص، ولكن أكرر وصيتي مرة أخرى لكل طالب علم أن يرجع في البحث إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله. مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر -أو لا يستنزه- من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) إلى هنا الحديث متفق عليه، وهناك زيادة في الحديث: (فأخذ جريدة رطبة فشقها ووضع على كل قبر شقاً منها وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) فقالوا: هذا يدل على انتفاع الميت بشيء خارج عن عمله، وأين عمل الغير؟ وإنما هو انتفاع بالرطوبة الموجودة، وقالوا: إن النبات والشجر ما دام رطباً يسبح الله، فلعل الله يخفف عنهما بالتسبيح الصادر من هذه الأغصان، مع أنه جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] أخضر أو يابس، نبات أو جماد أو حيوان أو أياً كان: {إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] . وجاء عند بعض السلف أنهم كانوا جالسين على خوان فقال أحدهم لصاحب البيت: أيسبح هذا الخوان؟ -على عموم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]- قال: نعم. كان يوماً يسبح، يعني حينما كان نباتاً أخضر. وقد جاءتنا حادثة معجزة محسوسة ملموسة شاهدها الناس، وسمعوها بآذانهم، وهي حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم نطق الحصى وسبح في كفه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً لما كان يخطب متكئاً على الجذع ثم انتقل إلى المنبر، فلما تحول صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله حنين الناقة العُشَراء، حتى سمعه كل من في المسجد، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم وربت عليه وقال: (إن شئت أخذتك فغرستك فعدت نخلاً غضاً تثمر، وإن شئت كنت من غرس الجنة، فقال: -والكل يسمع- بل أكون من غرس الجنة، فحفر له في أصل المنبر ودفنه) فهذه الجمادات الله سبحانه وتعالى أعلم بأمرها، ولكن ثبت في العيان أنها تسبح الله، وأنها تتكلم ويسمعها الناس، أنطقها الله الذي أنطق كل شيء إذاًَ: نترك الأمر لله سبحانه وتعالى.

باب إغماض عيني الميت

باب إغماض عيني الميت وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، وقد جاء ناس من أهلي فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه) رواه مسلم.

الصلاة على الجنازة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

الصلاة على الجنازة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن أبي شيبة في تاريخه: كانوا في سابق الأمر، أول مجيئهم إلى المدينة، إذا مرض إنسان واحتضر آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فيأتي إلى بيته، ويجلس معهم ينتظر، فإذا ما قضى الله أمره، جهزوه، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في محله، وذهبوا إلى دفنه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله، وقد يحضر الميت الوفاة بالليل، فيشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن لندع رسول الله يستريح، وإذا ما جهزنا ميتنا حملناه إليه، وهناك يصلي عليه. فكان بداية مصلى الجنائز من ذلك الوقت إلى الآن، ومصلى الجنائز هو السور الصغير، أو الحوش الصغير الذي ما بين باب جبريل، وغرفة المشايخ التي يصلي فيها الإمام هناك، وهو الجانب الشرقي من المسجد.

حقيقة الروح

حقيقة الروح حضر صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة، فأغمض عينيه، وبيَّن: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) وهنا وقفة استسلام ماذا يرى هذا البصر؟ يرى الروح، {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وهل الروح جرم وجسم له حيِّز يرى، أم أنها أمر معنوي لا نعلم كنهه، أم هي جسم شفاف، أم هي متوزعة في جميع خلايا الجسم، تحت كل شعرة جزء منها، وتكون بها الحياة، أم ما أمرها؟ نقف موقف العاجز الذي لا يدرك، كما قال سبحانه: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] . جميع ما يتعلق بها: بكنهها بتصرفها في الجسم بخروجها منه بمصيرها إلى الآخرة كل ذلك من أمر ربي؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، النفخ من روحه سبحانه وتعالى، وهو نفخ جبريل أو أن (روح) مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، كل ذلك أمره ومرجعه إلى الله.

استحباب تغميض الميت عند خروج الروح والحكمة منه

استحباب تغميض الميت عند خروج الروح والحكمة منه إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا عملياً أن نغمض العينين عند تلك الحالة، قبل أن تستكمل الروح خروجها؛ لأن العين إذا شخصت وذهب أثر الحياة منها، يصعب أن تنطبق؛ لأن الباقي جرم مادي ليس فيه أثر الحركة، فلا يمكن أن يرجع الجفن على ما كان عليه، وإذا بقي الميت على تلك الصورة ربما أفزع النساء أو الأطفال أو بعض الأشخاص، فالنبي صلى الله عليه وسلم أغمض عينيه؛ ليبقى في صورة النائم على وضع طبيعي، وقال: (إن الروح إذا قبض) إذاً: الروح تصعد إلى الله، وكل روح تصعد سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن هناك روح تتفتح لها أبواب السماء، حتى تصعد إلى الجنان، ويأمر الله بها أن توضع في طيور خضر. إلخ، وهناك -عياذاً بالله- من توصد دونها الأبواب، وترد إلى سجين. إذاً: ينبغي على الحاضر عند الميت أن يلاحظ تلك الحالة، فإذا وجد الميت يشخص ببصره إلى السماء، في تلك اللحظات يغمضه برفق، لا بشدة ولا بعنف، حتى يصبح الميت كأنه إنسان نائم.

حقيقة الموت

حقيقة الموت ما هي حقيقة الموت؟ نجد أن الأطباء يقولون: الموت موت الدماغ، وليس موت القلب؛ لأن القلب عضو يعمل آلياً، وبقية الأعضاء تعمل ميكانيكياً، بمعنى: أن اليد منفردة لأن العضلة منبسطة، فإذا أراد الله لليد أن تنقبض جاءت هناك عملية مواصلات واتصالات، فتنقبض العضلة فتسحب الذراع، كما لو كان هناك ذراع مربوط ببكرة بها حبل، فإذا ارتخى الحبل نزل الذراع، وإذا شُدَّ الحبل ارتفع، فهذه عملية ميكانيكية، وكذلك الحاجب، فكل عضو متحرك إلا القلب فإنه يعمل آلياً، أي: أن حركته منبعثة من داخله هو، وليس هناك عضو يسيطر عليه؛ لأن حياة الإنسان بحركة القلب، فإذا ما توقف لحظات مات الإنسان. وآخرون يقولون: يعمل آلياً بعمل الروح، والروح ساكنة في القلب، ومنتشرة في الجسم كله بأحاسيس. إلخ، وهذا أمر في التشريح لا ندري عنه. إذاً: هم يقولون: حقيقة الموت موت الدماغ، وذلك بأن يصبح الدماغ لا يدرك ولا يدير شيئاً في الجسم، وتتعطل إشاراته إلى الأعضاء، أما القلب فهو مضخة تعمل، يجمع الدم ويدفعه، مثل أي دينامو يسحب من الخزان الأسفل ويدفع للخزان الأعلى، ومن هنا يمكن الاستعاضة عن القلب في الجسم بقلب صناعي، ويكون القلب الصناعي يعمل دورة في الدم في الجسم بدلاً من القلب الطبيعي، وعلى هذا باستطاعتهم الآن تحت آلات الإنعاش أن يديموا حركة القلب بعد وفاة الدماغ لمدة يوم إلى أسبوع إلى شهر، ولعلكم سمعتم عن بعض العظماء في أنفسهم أو عند قومهم، أنه عند وفاة أحدهم بقي قلبه يعمل تحت الآلات إلى ستة أسابيع، وأخيراً ليس هناك أي فائدة، ما دام أن الدماغ قد مات فإن الحياة قد انتهت.

علامات الموت

علامات الموت للموت علامات عند الفقهاء تدل عليه، حيث لم يكن عندهم موت الدماغ ولا موت القلب، إنما إذا توقف النفس علموا أن الموت قد حصل، إلا موت الفجأة، فينتظرون له ست ساعات أكثر أو أقل، وأحياناً يأتون بالمرآة ويضعونها عند فم الميت، فإذا كان هناك نفس فإن البخار يتكاثف على المرآة في شكل الماء، فيعلمون أن النفس ما زال موجوداً وأحياناً يضعون آذانهم على القلب لعلهم يسمعون شيئاًً، وهو بدل السماعة وأحياناً تميل أرنبة الأنف إلى جانب، أو تظهر زرقة في الأنف، أو زرقة في القدمين، أو تميل القدمان إلى غير ذلك من العلامات التي يعرفونها بالعادة، وهذا كله راجع إلى التجارب. إذاً: من حضر عند المريض وهو في آخر اللحظات، ورأى بصره شاخصاً، فعليه أن يغمض عينيه، وذلك حينما يرى تلك العلامات أو تلك الأمارات.

إحساس بعض العباد بدنو أجله

إحساس بعض العباد بدنو أجله من نوادر الأمور: أن الله سبحانه قد يجعل عند بعض الأشخاص إحساساً بقدوم الوفاة، فقد جاء في بعض التراجم لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في يوم وفاتها بعد أن صلت العصر حضَّرت الماء، واغتسلت، ولبست ثيابها النظيفة أو الجديدة، وقالت لمن عندها: لقد اغتسلت والآن قد حضر الموت. ثم نامت على فراشها بثيابها، وما أذن المغرب إلا وفاضت روحها. ويذكرون أخباراً نسمعها من أناس كثيرين، يقول بعضهم: يا بني! قد حضر الأوان يا بني! إن الشمس على أطراف الجريد يعني في آخر النهار وهكذا. وهذه أمور نوادر قد يطلع الله بعض عباده بشيء من الإحساس بشيء من الخواطر بشيء مما يكشفه لبعض العباد، وهذه أمور لا حكم لها؛ لأنها نوادر، وقد يجعلها الله إكراماً لمن شاء من عباده. ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) . الروح إذا قبضت صعدت، وتبعها البصر إلى أعلى.

كراهية البكاء والعويل عند الميت

كراهية البكاء والعويل عند الميت قالت أم سلمة: (فضج ناس من أهله) لما رأوه يغمض بصره عرفوا أنه قد مات فضجوا، فهناك قال لهم: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي: لا تقولوا إلا خيراً، كما في بعض الروايات: (لا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة تؤمن) أي: أن الملائكة تحضر عند الميت، إما ملائكة الرحمة، وإما ملائكة العذاب، عياذاً بالله! إذاً: الملائكة تحضر عند الوفاة، وتؤمن على ما يقول أهل بيته.

الدعاء للميت

الدعاء للميت ثم دعا لـ أبي سلمة فقال: (اللهم اغفر لأبي سلمة) وههنا لطيفة، وهي أنه كان يمكن أن يقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولكنه سماه باسمه فكأنه نوع من التلطف، ونوع من المواساة، بحيث أبرز الظاهر بدل الإضمار عنه، وهذا فيه شدة عناية به؛ لأنه يحب أبا سلمة. ولا شك أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولهذا قال بعض الصحابة لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لميت: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وذلك لمكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وارفع درجته في المهديين)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وارفع درجته في المهديين) ثم قال: (وارفع درجته في المهديين) . من هم المهديون؟ لو تأملنا قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] أي: أنعمت عليهم بالهداية، وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] . فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لـ أبي سلمة أن يرفع الله درجته في المهديين، ليس فقط: وألحقه بهم، أو أن يكون معهم، بل أن يكون معهم في درجة رفيعة، وهذا والله هو سيد الدعاء. وفاز بها أبو سلمة رضي الله عنه، وهو حري بذلك، ومن قرأ ترجمته في هجرته وفي حياته وجهاده عرف أنه يستحق فعلاً (وارفع درجته في المهديين) .

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وأفسح له في قبره)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وأفسح له في قبره) ثم قال: (وأفسح له في قبره) . القبر محدود، وهو على قدر الإنسان، فكيف يفسح له فيه أو يضيق عليه؟ هذا أمر غيبي، وأمور البرزخ غيبية لا يمكن إدراك شيء منها قط. وهناك محاولات عديدة رغبة في الاستطلاع، ولكنها باءت بالفشل. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن القبر أنه بين أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة، ورياض الجنة لن تكون ضيقة بل فسيحة، وإما حفرة من حفر النار، عياذاً بالله! ولا مجال للعقل أن يتدخل في الكيفيات، لكنه يتدخل في التصور، فيتصور روضة الجنة، ويتصور حفرة النار، لكن كيف يصير القبر واحدة من هاتين؟ هنا يعجز العقل؛ لأننا نجد الموتى في المقبرة متجاورين، وهذا في نعيمه وذاك في جحيمه، عياذاً بالله! فدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفسح الله له في قبره يدل على أن هذا ممكن؛ لأنه لو لم يكن ممكناً لما كان لسؤاله حاجة. وقد ذكرنا فيما سبق ما جاء عند ابن كثير في قصة العلاء بن الحضرمي، لما رجع من البحرين، وفتح الله على يديه، أصيب بعد عبور النهر، فتوفي فدفنوه في مكانه، فأتاهم أناس من أهل ذلك المكان وقالوا: إن كان صاحبكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه في هذا القبر، فإن هذه الأرض لا تقبل الموتى، تلفظهم على وجهها!! ماذا فيها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26] ؟ فالله جعل الأرض أماً للإنسان، في حياته تطعمه وفي مماته تؤويه، وهذه الأرض خرجت عن القاعدة، فكيف أعطاها الله هذه الحالة؟ لا ندري، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهباً للسباع. ما دامت الأرض سوف تلفظه ستأتي السباع وتأكله، ومن حقه علينا أن نكرمه، فرجعوا إلى القبر وحفروه وهم حديثو عهد به، فلما فتحوا القبر لم يجدوا فيه أحداً، ووجدوا القبر ممتداً على مرمى البصر. وقد ذكرت لكم مصدر هذا الخبر؛ لأن الروايات التاريخية مبناها على الإثبات، وابن كثير ليس رجلاً عادياً، بل هو محدث، ومفسر، وهو سلفي، وبعيد عن الترهات. وقد جاء في الحديث الآخر ما يتعلق بسؤال الملكين، وأنه أول ما ينزل الإنسان القبر يأتيه الملكان ويسألانه، ثم إن كان صالحاً فتحت له نافذة إلى النار، وقيل له: هذا مكانك لو لم تؤمن، ثم تغلق، وتفتح له نافذة إلى الجنة، ويقال له: هذا مكانك، ويفسح له في قبره مد البصر، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة. فجاء الإخبار عنه صلى الله عليه وسلم بأن القبر يفسح فيه ويضيق، وهنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن يفسح الله له في قبره.

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ونور له فيه)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ونور له فيه) ثم قال: (ونور له فيه) . لا شك أن القبر مظلم، وهو أشد ظلمة من ظلمات الدنيا، لا يأتيه ضياء ولا هواء، إلا رحمة الله، وهنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن ينور الله له في قبره ومن أين يأتي هذا النور؟ لا توجد شمس، والعالم كله يقول بأن الشمس هي مصدر النور، حتى القمر يقولون: يستمد ضوءه من الشمس، وقد خالف في ذلك بعض العلماء، ونحن لسنا بفلكيين في هذا الموضوع. وقد جاء عن علي رضي الله عنه لما رتب أمير المؤمنين عمر صلاة التراويح في المسجد جماعة، وأمر بإسراج المساجد في رمضان، فدخل علي رضي الله عنه فقال: نور الله عليك قبرك يا ابن الخطاب كما نورت مساجدنا. وتنوير القبر إنما هو من رحمة الله، فنحن لا ندري، وليس لنا طريق أن ندري كيف يكون نور القبر؟ إنما هو من رحمة الله بالعبد، وما دام أن قبره روضة من رياض الجنة فإن الجنة ليس فيها ظلام. إذاً: يأتيه النور من رحمة الله وجزاءً لحسن عمله، وهو إكرام من الله مهما يكن له من عمل، وهذا النور إلى أن تقوم الساعة، ولو حسبنا كل أربعة وعشرين ساعة بدرهم لما وفى حقها، لكنها رحمة الله. هذا هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل في جهره صلوات الله وسلامه عليه بالدعاء ليسمعه الحاضرون فيتذكروا ويعلموا أن الإنسان أحوج إلى أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، وأن أخوف ما يكون عليه ضيق القبر وظلمته، كي يعمل لذلك اليوم، ويرجو في الله خيراً. وقد جاء عن بعض السلف أنه كان يداوم على صلاة ركعتين من صلاة الأوابين، وهي كما قيل ما بين المغرب والعشاء، فكان يصليها بنية أن ينور الله عليه قبره. ومهما يكن من شيء؛ فقد جاء الحديث يبين حالات غيبية من خصائص ذلك اليوم، وجاء القرآن {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، وجاء الحديث: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) وتتمة الآية: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] . إذاً: الله سبحانه وتعالى ينير القبر للمؤمن، ويرزقه نوراً يوم القيامة، وكذلك تنور مواطن الوضوء، نسأل الله أن يرحمنا جميعاً.

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واخلفه في عقبه)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واخلفه في عقبه) ثم قال: (واخلفه في عقبه) دعا له بشخصه بالرحمة، وبسعة القبر وبنوره، فلا تحزن - أبا سلمة - فالقبر فسيح، ولا تخف فالقبر مضيء لك لا تخف فإن دعوة رسول الله لك بالرحمة مستجابة. وأهلك وعقبك لا تخف عليهم، فإن الله يخلفك فيهم، ومن أخلفه الله في عقبه فلن يضيعوا. ولقد خلفه الله في عقبه، نعم. إنه تصديق للدعوة؛ فإنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وقال لها: (قولي: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها، قالت في نفسها: ومن سيكون خيراً من أبي سلمة؟) ولكن امتثالاً وطاعةً قالتها، فأخلفها الله خيراً من أبي سلمة. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حقق بعض هذه الدعوات المباركات؛ فإنه دليل على تحقيق بقية الدعوات التي صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة.

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه نظرة سريعة أيضاً في أمر أبي سلمة، لنرى الروابط والصلة الإسلامية والدينية والروحية بين سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأفراد أمته: لو أن إنساناً قرأ جميع سجلات التاريخ في العالم، فلا يمكن أن يشم رائحة هذا العطف، ولا هذا التراحم، والتلاحم، بين قمة الأمة وأفرادها وآحادها، كما نجد هنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا في عيادة المريض من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان له خادم يهودي ذمي، وأنه مرض، فكان يذهب إليه ليزوره، ويعرض عليه الإسلام، ويكرم الله ذلك الغلام بالإسلام بعرض رسول الله عليه فمن يفعل هذا؟! أعتقد أنه لو لم يأت نص في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولا وصية من صحابي من أصحاب رسول الله بوجوب محبة رسول الله على النفس والمال والولد؛ لكان حرياً بذلك، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .

كتاب الجنائز [3]

كتاب الجنائز [3] من أصابته مصيبة، أو مات له قريب، فليتذكر مصابه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها مصيبة عظيمة، وفيها من العبر والعظات ما يذكر المرء بحقارة الدنيا. وقد استنبط الفقهاء من حادثة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحكام الشرعية في أبواب الجنازة. ومن الأمور التي لابد للمسلم من الاهتمام بها، قضاء دينه قبل موته أو الوصية بذلك، ودين الميت تتعلق به أحكام وضح الشيخ حفظه الله كثيراً منها في هذه المادة.

باب تسجية الميت

باب تسجية الميت

شرح حديث استحباب تسجية الميت

شرح حديث استحباب تسجية الميت عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة) متفق عليه. ننتقل إلى شرح هذا الحديث وهو إخبار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض سجي ببرد حبرة، والتسجية هي: التغطية، بـ (برد حبرة) : هو نوع من نسج اليمن فيه خطوط، وكانت -كما يقول بعض العلماء- من أحب أنواع اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسنة في الميت أن يُسجى من قدمه إلى شعره، بحيث يُغطى جميعه؛ وذلك أستر له وأوقى وأحفظ، سواء سجي ببردٍ، أو سجي بقطن، أو سجي بصوف أو بأي شيء موجود -ما لم يكن الحرير؛ فإنه محرم على الرجال.

شرح حديث: تقبيل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

شرح حديث: تقبيل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وعن عائشة: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، رواه البخاري. هذا الأثر ساقه المؤلف رحمه الله في باب الأحكام، وهو يدل على جواز تقبيل الميت بعد موته، وهذا موقف تتحكم فيه العاطفة؛ لأنها أواخر لحظات الميت من أهله، والعاطفة تدفع أهل الميت لتوديع صاحبهم؛ فلا مانع أن يقبل الإنسان الميت في الموضع الذي قبل فيه النبي أبو بكر رضي الله تعالى عنه. بل في الموطن هذا -أيضاً- حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قبل عثمان بن مظعون وقال: أخي، وقال: رحمه الله) . إلخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص في صفة ذلك بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل بين عينيه ثلاثاً، وقبل رأسه ثلاثاً، إلى غير ذلك. وهذا المشهد في الواقع لا يكفي أن يمر عليه الإنسان، ولكن لابد أن يعرف دواعي هذا التقبيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما آنس الوجع، تقول عائشة (كان صلى الله عليه وسلم يمر بي -أي: في غير نوبتها- فيقول كلمة ينفعني الله بها -سواء مؤانسة في الدنيا، أو تنبيهاً للآخرة- فمر مرةً فلم يقل شيئاً، ومر ثانية فلم يقل شيئاً، فأخذت في نفسي؛ فقلت: يا جارية! قدمي الوسادة عند الباب، وشددت عصابة على رأسي -استدراراً للعطف- فمر فرأيته؛ فقلت: وارأساه؛ فقال: يا عائشة! وارأساه أنا، وتكلم خيراً وذهب، ثم نزل به المرض، ثم استأذن أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها) ثم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وقال في أول الأمر: (مروا من حضر للصلاة، فأمروا عمر، ولم يكن أبو بكر موجوداً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت عمر حينما كبر، فرفع الستار وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر -ثلاث مرات- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر، وأخذ يصلي بالناس) كم صلى أبو بكر رضي الله عنه؟ خلاف: فقيل: خمس صلوات، وقيل: عشر صلوات، وقيل: عشرين صلاة، وفي يوم الإثنين في اليوم الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر يصلي صلاة الصبح، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار، وتبسم معجباً بما يراه من انتظام المسلمين في الصلاة، نعم إنها بمثابة الثمرة لجهاد ظل ثلاثاً وعشرين سنة، من أول البعثة إلى ذلك التاريخ، وإذا بالأمة قد تقبلت الإسلام، وإذا بأصحابه قد قاموا بواجبهم على أكمل صورة.

نعي النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النصر

نعي النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النصر في حجة الوداع نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، وهنا لفتة بسيطة عن ترتيب السور، لو قرأ. بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ثم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] لو تأملنا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وجدناها تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، ففيهما: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] أي: كل في جانب، وبعد التميز ما كانت النتيجة يأتي نصر الله والفتح. وتقدم مراراً ما قاله ابن عباس في تفسير سورة النصر لما سأله عمر بحضرة الشيوخ الكبار من الصحابة؛ فقال: نعي لنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، قال: وكيف ذلك؟ قال: قد جاء بالرسالة، فبلغها، وأدى الأمانة، وانتشر الإسلام، وأصبح الناس يدخلون في الدين أفواجاً، فلم يبق إلا أن يلقى ربه؛ فيجتهد في عبادته لله، ولذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] ، قال عمر: وأنا أقول ذلك. تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: لما رفع الستار تبسم ضاحكاً استحساناً لما يفعل المسلمون، فسمع الناس ذلك، فكادوا أن تصيبهم فتنة؛ فرحاً بسماعهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليهم أن مكانكم، وأتموا صلاتهم، وكان آخر عهد العامة به صلى الله عليه وسلم.

موت النبي صلى الله عليه وسلم كما روته عائشة رضي الله عنها

موت النبي صلى الله عليه وسلم كما روته عائشة رضي الله عنها أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإنه لما صلى الصبح دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بارئاً، وقال: يا رسول الله! أراك بخير والحمد لله، إن هذا اليوم يوم بنت خارجة -زوجه التي تزوجها من الأنصار- أفأذهب إليها؟ قال: نعم) وكانت زوجته رضي الله عنه بالسنح، والسنح من العوالي، وهو في المثلث ما بين ما يسمى اليوم بمستشفى الزهراء وبلاد السديري، وبلاد الخريجي -في هذا المثلث تقع السنح- فذهب بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في ضحى ذلك اليوم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الخبر إلى أبي بكر فأسرع بالعودة. وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحكي أحداث ذلك اليوم، فتقول: مات في يومي، في بيتي، لم أظلم فيه أحداً، أي: لم يكن في نوبة واحدة أخرى وهو عندها في بيتها، مع أنه صلى الله عليه وسلم من وفائه ومكارم أخلاقه لما اشتد به الأمر، استأذن زوجاته أن يمرض عند عائشة فأذنّ له، وكن يأتين لزيارته عندها. وتقول: قُبض في دولتي ما ظلمت فيه أحداً، ومات بين سحري ونحري. وتذكر قضيتها مع السواك؛ فتقول (سمعته يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ويشخص بصره إلى السماء، وقلت: والله لقد خير ولن يختارنا أبداً، وذلك أنها سمعت منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: ما قبض الله نبياً إلا بعد أن خيره وأراه مصيره، فقالت: والله لقد خُير، ووالله لن يختارنا بعد ذلك أبداً؛ فعلمت أنه ميت) وهكذا ذكرت وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن أراد زيادة التفصيل فليرجع إلى كتب السيرة في هذا الحدث، وأكثر من ذكر الأخبار والصور والأحداث ابن كثير في التاريخ.

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه -من شدة هول المصيبة على المسلمين- أنه حينما جاء إلى المسجد، ليدخل إلى حجرة عائشة وطريقها من المسجد، وجد الناس مضطربين، وعمر قائم يقول: والله ما مات رسول الله، وإنه غاب كما غاب موسى عن قومه وسيرجع، وسيقطع أيدي وأرجل رجالٍ قالوا إنه مات، ولن يموت حتى يقضي على المنافقين، فلما سمع أبو بكر ذلك ورأى تلك الحالة، ترك الناس ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: وحوله نسوة، فخمرن وجوههن، إلا ما كان من عائشة؛ لأنها ابنته، وهذه الكلمة يستفاد منها في مسألة كون الوجه عورة أو ليس بعورة- فكشف الحبرة ونظر إليه، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بين عينيه، ثلاث مرات على الجبين والرأس إلى أن رق ورد الغطاء كما كان، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أما الميتة التي قد كتبها الله عليك فقد متها، ودعا بخير. ثم خرج، فوجد عمر على حاله والسيف بيده، فقال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، ثلاث مرات، فوقف عند المنبر، وقيل: صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وإنا والله لعلى ما كنا عليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن بغى أو حدَّثته نفسه شيئاً لنقاتلنه كما قاتلنا مع رسول الله، ولسيوفنا بأيدينا -هذا موقف الثبات- ثم تلا قوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] إلى آخر السياق، فيقول عمر: هي في كتاب الله؟ والله لكأني لم أسمعها إلا اليوم، وعقرتني قدماي] أي: سقط من شدة ما سمع. وفي هذا الموقف يقال: هل عمر ينكر الموت؟ الجواب: لا، ولكن عظم عليه المصاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصيبة إذا عظمت أذهلت، وقد يتوقف العقل -كما يقولون: انشل التفكير- وعمر له نظرة بعيدة فيما يتعلق بنصرة الدين، ويرى في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المصاب، يقول بعض الصحابة -وأظنه أبو سعيد -: [لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأنارت واستنار فيها كل شيء، وقُبض فأظلمت وأظلم منها كل شيء، والله لقد أنكرنا قلوبنا قبل أن نفيض التراب عليه] . فلا شك أن وجوده صلى الله عليه وسلم في أصحابه له أثر عظيم، فقد كان مرجع أصحابه في جميع أحوالهم، فهذا حنظلة يأتي ويقول (نافق حنظلة -لماذا؟ - قال: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا، فتخشع قلوبنا، وتذرف عيوننا، فإذا انقلبنا إلى أهلينا، وعافسنا أموالنا ذهب عنا كل ذلك، قال: ساعة فساعة، لو دمتم على ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولزارتكم في بيوتكم) فلا يمكن للإنسان أن يقوى على تلك الحال. وهذا عمر لما سمع قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ. } [آل عمران:144] قال: ما كنت أظن أنها آية من كتاب الله، وما كأني سمعتها قبل ذلك. ذهل عنها. ثم بعد ذلك شرعوا في تجهيزه صلى الله عليه وسلم، وقيل: قد بايع البعض أبا بكر في ذلك الوقت، ثم كانت سقيفة بني ساعدة، ثم كان تجهيزه صلى الله عليه وسلم وتتمة البيعة، وهذا خبر طويل، ويهمنا أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن حاضراً ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد ذهب لزوجه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رآه نشطاً، وفي حالة أحسن من ذي قبل، ثم لما قدم كان منه ما ذكر لنا المؤلف رحمه الله أنه قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه. وهنا يقول الفقهاء: إذا مات الميت، وأراد أهله أن ينظروا إلى وجهه ويقبلوه فلا يمنعون من ذلك، وخاصة من كان غائباً فحضر، فهذا مشروع من فعله صلى الله عليه وسلم ومما فعله أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم.

باب نفس المؤمن معلقة بدينه

باب نفس المؤمن معلقة بدينه وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وحسنه. بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى حق الميت عند احتضاره من تلقينه لا إله إلا الله، وإغماض بصره، وجواز تقبيله، وقد يذكر بعض الناس استقباله إلى القبلة، أي: جعل قدميه إلى القبلة، ومنهم من ينكر ذلك، إلى آخر هذا مما ينبغي أن يعمل للميت في شخصه وذاته انتقل المؤلف رحمه الله إلى حقوقه، وما ينبغي للأحياء بالنسبة لميتهم، فجاء بهذا الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة في دينه)

الخلاف في النفس

الخلاف في النفس فقوله: (نفس المؤمن) يحتار العلماء في مدلول النفس، فمثلاً: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] أهو البدن أم البدن مع الروح؟ الله تعالى أعلم، وقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:27-28] هل ترجع الروح والبدن أم الروح فقط؟ وكذلك السؤال، العذاب، النعيم هل هي للروح فقط، أم للروح والبدن؟ تجدون الكلام في هذا كثير، ولكن الذي يعنينا هنا أن المؤمن مرهون بدينه، والتعبير بالنفس ليشمل الروح، وأما البدن فقد يفنى، ولكن الله سبحانه وتعالى يجمعه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] . والرجل الذي أوصى أهله إن هو مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يأتون به في يوم شديد الريح، وعلى حافة البحر فيذرونه في الهواء، فجمع الله جسده، وقال له: ما حملك على هذا؟ قال: يا رب! خوفاً من عذابك، قال: قد غفرت لك، فمهما تنقص الأرض من أجسادهم يجمعها الله، نحن نعلم شخص المؤمن بروحه وببدنه، ولكن النقاش قائم فيما يتعلق بعذاب القبر وفي نعيمه إلى أن تقوم الساعة، أعني: هل هو للروح أم للبدن، ما عدا الشهداء والأنبياء؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا تأكل الأرض أجسادهم، وحياتهم في قبورهم فوق مستوى الإدراك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنه لقي جميع الأنبياء، بل أكثر من هذا: مر على موسى وهو قائمٌ يصلي في القبر الذي هو ذارع في ذراع! أي أنه وسع له في قبره! ثم إذا به يلقاه مع الرسل في بيت المقدس، ثم لقيه في السماء السادسة حينما عرج به، فهل عنده براق آخر وبأي صفة بروحه فقط وبدنه؟! كان قائماً يصلي ببدنه أمور لا دخل للعقول فيها، وهذا خصوصية المؤمن؛ أن لديه علوماً كثيرة جداً لا يمكن أن يصل إليها غيره؛ لأنها تأتيه عن الله بالوحي. في هذا المسجد، وفي هذه الروضة أيام وقعة الحرة سنة ستين من الهجرة، خلت المدينة، وتعطل الأذان والصلاة ثلاثة أيام في هذا المسجد خوفاً من الجيش الغازي، إلا سعيد بن المسيب فإنه ما خرج ولا هرب، ولا ترك المسجد، وكان يأتي وحده، ويجلس بجوار الحجرة الشريفة في الروضة، فيسمع الأذان من الحجرة في الأوقات الخمسة، فمن الذي كان يؤذن هناك بلال هاجر إلى الشام، وأكرر وأقول: لا تحاول أن تسمح للعقل أن يتحكم في هذا ويكفيك أن تؤمن وتسلم لذلك، ولما انتهت الأزمة ورجع الناس، وأذن المؤذن في المسجد اختفى الصوت. إذاً: هذه أمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنفس المؤمن مرهونة، وهذا عام لا يخرج منه أحد، حتى المجاهد في سبيل الله يكون شهيداً لكنه محبوس.

الحث على قضاء الدين وعدم التهاون به

الحث على قضاء الدين وعدم التهاون به وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله عن الشهادة وما تكفر من الذنوب فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ قال: نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك) فلو تأملنا يا إخوان! لوجدنا أن الدنيا بكاملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمؤمن يكون مديناً لمؤمن آخر بعشرة دراهم، أو درهمين، أو درهم، يحبس فيها؟! يا سبحان الله! إذا كان الأمر كذلك فينبغي على المؤمن أن يتحرى، وأن يفك نفسه قبل أن يحتاج إلى من يفكه، وإن كان عاجزاً أوصى. وتقدم لنا أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الموتى في أول الأمر، وسؤاله عن الميت فإن كان عليه دين، قال لأهله: (صلوا عليه) حتى جيء بميت وقالوا: عليه ديناران، فقال أبو قتادة: هما عليَّ، وتأكد منه صلى الله عليه وسلم فلما تحملها أبو قتادة صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام. الحقوق المتعلقة بتركة الميت خمسة، حق الميت في تجهيز كفنه وما يلزم لذلك حتى يدفن حقوق دينية، وتنقسم إلى: دين للعبد، ودين لله سبحانه وتعالى، وسواء كان دين العبد موثقاً برهن أو غير موثق، فعند الشافعي رحمه الله يقدم على كل شيء سداد دينه، حتى يقدم على تجهيزه، وتجهيزه يكون من بيت مال المسلمين، وذلك لأنه لو كان في الحياة معدماً ليس معه ما يأكل، فنفقته من بيت مال المسلمين. وقال أحمد: يقدم تجهيزه؛ لأنه أحق بنفسه، كما لو كان مفلساً فللغرماء بيع ما عنده ولكن تترك له ثيابه. إذاً: قضاء الدين أحق، قال به الشافعي، ابدأ بنفسك قال به أحمد، إلى غير ذلك، ثم تأتي بقية الحقوق من وصية وميراث. فيبادر بسداد دينه قبل تجهيزه عند الشافعي، وإذا كان المال موجوداً فباتفاق الجميع لا نجعله مرهوناً بدينه بل ينادى في الناس: من كان له حق عند فلان فليتكلم، وهذا الذي ينبغي على أولياء الميت أن يبادروا به ليفكوه. وقضاء الدين له شواهد كثيرة تؤكد أهميته، فهذا ثابت بن قيس خرج في غزوة كان يقودها خالد بن الوليد، فجاء إلى رجل وأيقظه من النوم، قال: يا فلان! أنا فلان فاسمع مني، إن فلاناً مر عليَّ وقد خلع عني درعي، فوضعه في آخر المعسكر، ووضع عليه برمة، وعلى البرمة رحله، فمر خالداً فليأخذ درعي من عنده، وإذا جئت إلى المدينة فأخبر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن لفلان عندي عشرة دراهم في قرن، وعبدي فلان عتيق، فجاء الرجل إلى خالد وأخبره، فدعا الرجل الذي سماه وقال: أين رحلك؟ قال: في مكان كذا، فأرسل خالد رجلاً من الحاضرين وقال: اذهب إلى رحل فلان وانظر ماذا تحته، فذهب فوجد الدرع، فجاء به، فقال خالد: هذه قرينة، فكتب إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه: لقد حدث كذا وكذا، فاستدعى أبو بكر رضي الله عنه الرجل وسأله: ألك دين عند فلان؟ قال: بيني وبينه الله، وقد سامحته فيه، قال: أخبرنا ما هو؟ فأخبره أنه عشرة دراهم، فأمر بسدادها حالاً، ثم دعا العبد فأعتقه. يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: وهذا من فقه أبي بكر عنه؛ أن أنفذ وصية الميت لما رأى من القرينة. وهكذا أيها الإخوة! ينبغي على الإنسان أن يعنى بنفسه وأن يتخلص من دينه أولاً وقبل كل شيء، فإذا لم يكن عنده سداد وجب عليه أن يكتب، وهذا من دواعي كون الوصية واجبة، فإنها تكون واجبة، وتكون مندوبة، فحين تكون هناك ودائع، كديون ليس فيها سندات، ولا صكوك، ولا شهود، فعليه أن يكتب ذلك ليتولى أهله إنفاذها.

كتاب الجنائز [4]

كتاب الجنائز [4] من إكرام الميت أن يغسل بعد موته، فلا يدخل قبره إلا طيباً، وهذا التغسيل واجب على الأحياء بالقدر الذي يطهر به بدن الميت، ويكون على الصفة الواردة في السنة في الرجل أو المرأة.

غسل الميت المحرم

غسل الميت المحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي سقط عن راحلته فمات (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه) متفق عليه.

حكم الغسل والتطيب وتخمير الرأس لمن مات محرما

حكم الغسل والتطيب وتخمير الرأس لمن مات محرماً يذكر المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب -كتاب الجنائز- أن رجلاً سقط عن راحلته فوقصته فمات، فقال صلى الله عليه وسلم (غسلوه وكفنوه ولا تخمروه ولا تحنطوه وكفنوه في ثوبين) والرواية الأخرى: (في ثوبيه) . هذا الحديث يسوقه المؤلف رحمه الله تعالى من قصة مشهورة، ذلك أن هذا الرجل كان محرماً وواقفاً بعرفات، فسقط عن راحلته، فوقصته راحلته -أي: رمحته- فمات وهو محرم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامل معاملة الموتى بأن يغسل ويكفن، ثم نهى عن إلحاق هذا المحرم بعامة الموتى، وألا يقرب بما لا يجوز للمحرم من جانب الطيب وتخمير الرأس، واستدلوا على أن الوجه من الرأس؛ لأن بعضهم يذكر: (ولا تخمروا رأسه ووجهه) والخلاف في ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا نام وهو محرم خمر وجهه، والجمهور على أنه لا يخمر الرأس ولا الوجه، فقد جاء في الحديث: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وهذه التتمة تبين العلة في سبب النهي عن تغطية الرأس، وكذلك النهي عن الطِيب كما ينبغي التنبيه في الوقت الحاضر على ما يقع من حوادث السيارات -عافانا الله وإياكم- لبعض الحجاج، أو المعتمرين، وينتج عن ذلك الوفاة، فنجد البعض يجهز هذا الميت المحرم، ثم يكفنه ويغطي الرأس ويحنطه كما يحنط الموتى، وهذا لا ينبغي؛ لأن من مات قبل أن يقضي نسكه فإنه يعامل معاملة المحرم الحي، من حيث اجتناب الطيب، وعدم تغطية الرأس. وقال بعض العلماء: إن هذه إكرامية للمحرم، مثلما أن الشهيد لا يغسل ولا يذهب عنه الدم؛ لأنه يكون شهادةً له عند الله؛ كما جاء في الحديث: (يبعث يوم القيامة، اللون لون الدم والريح ريح المسك) فقالوا كذلك من مات متلبساً بعبادة فإنه يبعث يوم القيامة عليه أثر تلك العبادة، والله تعالى أعلم. إذاً من مات وهو محرم يغسل ويكفن.

صفة الكفن لمن مات محرما

صفة الكفن لمن مات محرماً قال في الحديث: (وكفنوه في ثوبيه) بالإضافة إليه، والمحرم ثوباه الإزار والرداء، فبدأ المؤلف أيضاً ليبين بأنه يمكن الاكتفاء في الكفن بثوبين، وكلمة (ثوب) هنا مجاز، ولكن قالوا: هذا لباس المحرم، ويكفن فيهما ما دام يمكن ستره في ذلك من قدمه إلى رقبته. وجاء في رواية أخرى: (في ثوبين) وروايتان: (في ثوبين) ، (وفي ثوبيه) لا مغايرة بينهما، ولكن (ثوبيه) إشعار بأنه يكفن في هذا اللباس الذي خالط جزءاً من تلك العبادة، فهو أولى من ثوب جديد لم يشارك في تلك العبادة بشيء، كما في وصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن يكفن في ثوبه، ويؤتى بثوبين آخرين ويكفن فيها، فقالوا: ربما أوصى بذلك لخصوصيةٍ في هذا الثوب، إما أن يكون قد شهد العبادات معه، وإما أنه كان قد أعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون تبركاً، أو غير ذلك على ما سيأتي الكلام عنده. ويستدل أيضاً بقوله: (بثوبيه) أنه كفن في ثوبين ليس فيها قميص، ولا عمامة، كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، وسيأتي الكلام عليه، (ليس فيها) أي: ليس في العدد ثلاث وتكون العمامة والقميص زيادة عن الثلاث، ولكن ليست معدودة فيها، أو ليست فيها بالكلية، فلم يعمم ولم يلبس قميصاً، بل في ثلاثة أثواب. وسيأتي بيان الكفن في ثلاثة أثواب أو في أكثر من ذلك عند النصوص الأخرى إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.

المحرم الميت يبعث ملبيا يوم القيامة

المحرم الميت يبعث ملبياً يوم القيامة في الحديث أن هذا الميت قد مات وهو متلبس بهذه العبادة، فإذا بعث يوم القيامة بُعث ملبياً، وفي ذلك إشعار بأنه إظهار لعمله يكون ذلك كرامةً له، وامتداداً لعمله في الدنيا، ويكون في ذلك إمتاعاً له بأنه يلبي كما كان يلبي في الدنيا. وقد يقول قائل: التلبية عبادة، والعبادة تكليف، والآخرة ليست فيها عبادة ولا تكليف، فكيف يلبي؟ ويجاب عن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى أهل الجنة في الجنة ما تشتهيه الأنفس، فلو أن إنساناً في الجنة اشتهى أن يصلي ركعتين فإن الله يعطيه الصلاة؛ لأنه من توابع إرضائه وإكرامه لعبده، ولو أن إنساناً تمنى أو اشتهى أن يقرأ القرآن فإن الله يعطيه أيضاً قراءة القرآن، وقد يؤيد ذلك ما جاء في الحديث: (يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق) (اقرأ) (ارق) هذا تكليف، لكن الغرض منه ليس القراءة، ولكن إلى حيث ينتهي في قراءته ينتهي رقيه في درجاته في الجنة. إذاً قد تكون هناك قراءة قرآن أو صلاة في الجنة، لا على التكليف بالثواب والعقاب في الامتناع، ولكن تتمةً أو إرضاءً أو إكراماً أو تحقيقاً لما تشتهيه الأنفس، حتى قال بعض العلماء: لو اشتهى الفلاحون أن يزرعوا لمكَّنهم الله من أن يزرعوا ويحصدوا. إلى غير ذلك من الأقوال. إذاً المحرم يبعث يوم القيامة ملبياً إكراماً له وإتماماً لعمله وقد يكون إرضاءً له فيما تشتهيه نفسه أن يكمل نسكه، وإن كانت بقية المناسك قد انتهت، وليس هناك مكانٌ لها. والله تعالى أعلم.

تغسيل رسول الله بعدما قبض

تغسيل رسول الله بعدما قبض

اختلاف الصحابة في تجريده من ثيابه أثناء غسله عليه السلام

اختلاف الصحابة في تجريده من ثيابه أثناء غسله عليه السلام وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا أم لا؟ الحديث) رواه أحمد وأبو داود. يأتي بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بأنهم لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بعدما قُبض صلى الله عليه وسلم- وأخبرتنا رضي الله تعالى عنها بأنه خُير فقال: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى) فالصحابة عندما أرادوا أن يغسلِّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترددوا فيما بينهم، فهم يعلمون من حالة الموتى أن يجردوا من الثياب ويغسلوا، وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي ببرد حبرة -والتسجية: التغطية من الرأس إلى الظفر- والتسجية عادةً تكون بعد تجريد الميت من ثيابه العادية، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجردوه في تلك الحالة، بل سجي مع ثيابه. والصحابة يعلمون أن من حالات الموتى عموماً أن يجردوا ويغسلوا، ومع التجريد يجعل على العورة ما يسترها، وكان الحاضرون من ذوي القرابة المعروفون بالأمانة، … إلخ، فتهيبوا أن يجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل سنة نبينا كسنة بقية الموتى في التجريد والتغسيل، فنغسله كما نغسل الموتى؟ إن كان الغسل للنظافة فهو أنظف الناس، وإن كان للطهارة فهو أطهر الخلق، وإن إلخ، أم ماذا؟ هل له خصوصية؟ فترددوا؛ لأنه ليس عندهم سنة في ذلك ولم يسبق لها نظائر، ولم يسبق لهم من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يخبرهم به. والواقع -يا إخوان- أنه وقع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم في ذلك اليوم اختلافٌ وترددٌ في ثلاث حالات: الحالة الأولى: عندما اختلف الصحابة في تجريد الرسول من ملابسه فجاءهم الحل كما يقول الحديث: (فألقى الله على الحاضرين جميعاً النعاس، ولم يبق أحد منهم إلا وذقنه في حجره -ناموا جميعاً، سبحان الله! - ثم سمعوا من يخاطبهم من جانب البيت ولا يعلمون من هو) هل نستطيع أن نفسر هذا أم لا نستطيع؟ لا شك أنه ملكٌ أرسله الله سبحانه وتعالى يخبرهم، فسمعوا من يقول لهم ولم يعلموا من هو: (غسلوا رسول الله ولا تجردوه) كان من الممكن أن يعفى من التغسيل كما يعفى الشهداء؛ لأن الشهيد لا يغسل، وهو سيدهم وإمامهم، ولكن لما التبس الأمر جاء بالأمرين: الغسل، وعدم التجريد: (غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجردوه) فغسل صلى الله عليه وسلم من فوق القميص، والمغسل يحرك يده فوق القميص، وغسله علي، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان العباس حاضراً ولم يشارك، وهؤلاء خاصته وآل بيته، فغسل صلوات الله وسلامه عليه من فوق القميص دون أن يجردوه، هذه واحدة.

اختلاف الصحابة في موضع دفنه عليه السلام

اختلاف الصحابة في موضع دفنه عليه السلام الحالة الثانية: لما أرادوا مكان القبر قالوا: أين ندفن رسول الله؟ هل نرده إلى مسقط رأسه مكة عند إسماعيل، أو نرده إلى الشام عند أبيه إبراهيم، أو نرفعه إلى مقبرة موتى المسلمين في البقيع، أم ماذا نفعل؟ حتى قال الصديق رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض الله روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه) يعني: إذا أريد دفنه لا ينقل من مكان موته إلى مكان آخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختار له المكان الذي يدفن فيه ويقبض روحه فيه، فعزموا على أن يدفن في مكانه الذي قبض فيه وهو حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.

اختلاف الصحابة في نوع دفنه عليه السلام

اختلاف الصحابة في نوع دفنه عليه السلام الحالة الثالثة: عرفنا كيفية الغسل، وتعين مكان الدفن، بقي نوع الدفن، وكان في المدينة طريقتان: طريقة الشق، وطريقة اللحد. والشق هو: أن يحفر وينزل بعمق في الأرض إلى مستوى -كما يقولون- صدر الرجل العادي، فيوضع الميت في هذا الشق، ويبنى عليه باللبن على هيئة العقود? ثم يهال التراب فوق تلك اللبنات. أما اللحد: فبعد أن ينزلوا بالحفر إلى المستوى المطلوب يأتون إلى أحد الجانبين في القبر -وغالباً يوضع الميت على شقه الأيمن ما بين الغرب والشرق في المدينة والقبلة أمامه- فيحفرون من جانب القبر الشمالي بقدر ما يسع جسم الميت، ويدخلونه تحت هذا اللحد المائل، وإذا ما أدخلوه في هذا اللحد وصار مسامتاً لحافة القبر في الشق، سدوا هذا اللحد باللبن، وأصبح الشق خالياً والميت تحت الأرض من جهة ما ألحدوا له، ثم أهالوا التراب في الحفرة على ما كان. وهنا قالوا: ماذا نفعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشق له شقاً، أم نلحد له لحداً؟ لأن الحالتين كانتا موجودتين في المدينة، بعد أن فكروا في هذا -وليس عندهم أيضاً خبر يقفون عليه ليعملوا بمقتضاه- قالوا: أرسلوا رسولاً للذي يشق ويدفن في الشق، وأرسلوا رسولاً للذي يلحد ويدفن في اللحد، أيهما جاء أولاً يبدأ في الحفر، فجاء صاحب اللحد، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعيين مكان قبره عليه السلام

تعيين مكان قبره عليه السلام وإلى هنا -أيها الإخوة- يكاد يكون إجماع الإجماع -يعني فوق الإجماع بإجماعٍ آخر- تعيين مكان قبره صلى الله عليه وسلم، ولذا يقال: لا يُعلم على سبيل الجزم على وجه الأرض قبرٌ معين بذاته سوى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الأنبياء وجميع الرسل لا يُعلم بالتحديد، قد يقال: هذا قبر الخليل، وهذا قبر يوسف، وهذا قبر فلان، وهذا قبر كذا، لكن على سبيل التعيين لا على سبيل اليقين، بخلاف قبره صلى الله عليه وسلم فهو على التحديد يقيناً في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها. ثم جاء الصديق رضي الله تعالى عنه، وجاء الفاروق رضي الله تعالى عنه وعُينت أيضاً مواقع القبرين الشريفين من قبره صلى الله عليه وسلم، من أن قبر أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل إلى جهة الشرق بحيث يكون رأس أبي بكر عند كتف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر وراء أبي بكر ووضع رأس عمر تحت كتف أبي بكر بقليل. وضعوا بهذا الترتيب حتى لا يكونوا على قدم المساواة، وبهذا تتعين هذه القبور الثلاثة يقيناً جزماً بدون أي ريبٍ ولا شك.

حكم تغسيل الميت

حكم تغسيل الميت يهمنا في موضوع الباب: أنهم عندما سمعوا من يقول لهم (غسلوه ولا تجردوه) فأصبح الغسل هنا واجباً، وهو فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد نجد من يورد بأن الغسل سنة وليس بواجب، ولكن كما قال بعض العلماء: إذا لم يكن واجباً فلماذا هو سنة؟ قالوا: للتطهير والتنظيف -على ما سيأتي (وجعلنا فيه سدراً وكافوراً) ولكن يقول بعضهم: إذا كان سيد الطاهرين، وسيد الطيبين قد غسل ما قيمة الكلام والخلاف في ذلك؟ إذاً: غسل الميت واجبٌ وهو فرضٌ كفائي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.

أولى الناس بتغسيل الميت

أولى الناس بتغسيل الميت من أولى الناس بتغسيل الميت: نجد هناك من يقول: إن كان قد أوصى بأن يغسله شخصٌ بعينه لا مانع، والفكرة العامة أن يكون أولى الناس به آمنهم وأتقاهم؛ لأن الميت بين يديه أمانة، وقد يوجد من الميت ما لا يحب الميت لو كان حياً أن يرى منه، فينبغي على من يغسل الميت أن يكون أميناً لا يفشي سر الميت، وهذا لا يكون إلا ممن كان أولى الناس به. ومن الناحية التكليفية، أو ناحية الجواز قالوا: أولى الناس بتغسيل الميت الزوجان أحدهما للآخر، الزوج يغسل زوجته، والزوجة تغسل زوجها، على خلاف عند الأحناف، وأما الحنابلة فقالوا: هو يغسلها وهي لا تغسله؛ لأنها لو قدر بأنها في الحياة وفارقها فإنها في العدة، وفي العدة تكون تابعة للزوجية، والآخرون قالوا: العكس، والأحناف قالوا: إنه بالموت انقطعت الصلة، وأجابوا عن ذلك بأجوبة نقلية وعقلية. أما انقطاع الصلة فليس بصحيح؛ لأن الميراث عقب الوفاة بصلة الزوجية، ولأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (رجع النبي صلى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع فمر عليَّ فقلت: وارأساه، قال: بل أنا يا عائشة وارأساه، وماذا عليكِ لو مت قبلي فقمتُ عليكِ فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ) فهذا نصٌ صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم يغسل زوجه، وجاء عنها رضي الله تعالى عنها قالت: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه) . وجاء عن أسماء بنت عميس زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنهما لما توفي وغسلته هي وخرجت على الناس في يومٍ شديد البرد فقالت: (ماذا ترون، هل عليَّ من غسلٍ وقد غسلت أبا بكر؟ قالوا: لا. ليس بواجبٍ عليكِ) وقد جاء في ذلك حديث متكلم فيه: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فـ أسماء أخبرت بأنها غسلت زوجها، وهذه أم المؤمنين تقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا زوجاته) وهو صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة (وماذا عليكِ لو متِ قبلي وقمتُ عليكِ فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ) فهذا منه صلى الله عليه وسلم لزوجه. إذاً: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى غسله خواص آل بيته. ابنا عمه علي رضي الله تعالى عنه، والفضل، وأسامة حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، والعباس عمه كان حاضراً، ولهذا قالوا: يغسل الميت أولى الناس به، وإذا لم يكن من أهل الميت من يحسن تغسيل الميت؛ لأنه في بعض البلاد لا تجد في القرية بكاملها من يحسن تغسيل الميت إلا شخصاً واحداً أو شخصين، والبقية لو مات عندهم ميت لا يعرفون كيف يغسلونه، وهذه من المشاكل. إذاً: يتعين على كل مسلم ما دام أنه واجب كفائي أن يتعلم تغسيل الميت؛ لأنه قد يصادف أنك تجد ميتاً فيكون متعين عليك أنت غسله، أو كان هناك ميت ولا أحد يحسن التغسيل، فكن أنت متعلماً عارفاً، وعلى هذا سيأتي بيان كيفية تغسيل الميت في تغسيل ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

باب كيفية غسل الميت

باب كيفية غسل الميت .

عدد غسلات الميت

عدد غسلات الميت وعن أم عطية رضي الله عنها قالت (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور) يأتي المؤلف رحمه الله -بعدما قدم لنا ما يتعلق بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم في غسله وعدم تجريده- بما يتعلق بغسل عامة المسلمين، ويأتي بحديث أم عطية رضي الله تعالى عنها، قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته) . فهل معنى قولها: (دخل علينا) أي: عندها، ينظر إليها وهي تغسل؟! لا، بل معنى (دخل علينا) يعني البيت الذي نحن فيه، فقال لهن: (اغسلنها -كم؟ - ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك) وهي بعض الروايات أو أكثرها، وهي دليل بعض العلماء حيث يقول: السنة في تغسيل الميت هو تغسيله ثلاثاً، وهذه السنة في الطهارة للحي، وسنة الوضوء التثليث، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه توضأ فغسل مرةً مرة -غسل كفيه مرة، وتمضمض مرة، واستنشق مرة، وغسل وجهه مرة، ويده اليمنى مرة… وهكذا- وقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاةً بدونه. -فلا يصح الوضوء بأقل من مرة- ثم توضأ فغسل مرتين مرتين، ثم قال: هذا وضوء الأنبياء قبلي، ثم توضأ وغسل ثلاثة، فقال: هذه سنتي) فتثليث الغسل في الوضوء وغسل الجنابة بأن يفرغ الماء عليه ثلاث مرات -على ما جاء في تفسير الغسل فيبدأ بما ينبغي إزالته، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن ثم الأيسر… إلخ ثلاث مرات. وهنا قال لـ أم عطية ومن معها: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً) . يقول بعض العلماء: خمسة أو سبعة تكريم أو أفضلية أو موجب، قالوا: لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن رأيتن) ، كأن الزيادة عن الثلاث مرهونة برأي من يتولى التغسيل، على ما يطرأ له حتى يزيد، المهم أن يكون الغسل وتراً: ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو تسعاً، قالوا: إذا غسلوا الميت ثلاثاً ثم كان في حالة ربما خرج منه شيء يحتاج إلى غسل؛ فيعيدون الغسل ويزيدون رابعاً وخامساً؛ فإذا انتهوا ثم رأوا شيئاً آخر، ورأوا أن يزيدوا في الغسل إكراماً للميت وأداءً للواجب، زادوا غسله وتراً بحيث تصير سبعاً… وهكذا، لقوله: (إن رأيتن ذلك) .

الحد الأدنى للغسل

الحد الأدنى للغسل إذاً: الحد الأدنى كما يقول بعض العلماء: ما يؤدي الواجب غسله وهو واحدة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا (اغسلنها ثلاثاً) فنقول: ثلاثاً، وجعل الزيادة عن الثلاث لرأي الذين يقومون بعملية الغسل، إذا اقتضى حال الميت أن يزاد في غسله مرة أو مرتين زيادة عن الثلاث إلى خمس أو سبع، ولا يزيدون عن السبع كما يقول البعض، ثم بعد ذلك يتولون ويدبرون أمرهم بما يمكن عمله. وللعلماء والفقهاء تفصيلات فمن أراد الاستزادة فليرجع لها في كتب الفقه. واستعمال الطين الحلو، والقطن، والكافور. إلى غير ذلك في تلك المواطن.

مادة السدر وحكم قلع شجرها

مادة السدر وحكم قلع شجرها ثم قال صلى الله عليه وسلم (واجعلن فيه سدراً) السدر: هو شجر النبق، والمراد بالسدر الورق، وهنا تكلم الفقهاء عن حكم الماء الذي خلط بالسدر، وكيف نعمل بالسدر؟ فبعضهم قال: يفرك باليد حتى يكسر، وبعضهم قال: يدق، وبعضهم قال: يجعل في الماء ويخبط خبطاً شديداً، والسدر من طبيعته أن يخرج رغوة، وهو من أدوات التنظيف، وبعضهم يقول: السدر فيه بركة، وجاء عند ابن ماجة النهي عن قلع شجرة السدر، إلى غير ذلك.

بعض خصائص السدر

بعض خصائص السدر ذكر ابن القيم رحمه الله في باب فك السحر أن من أخذ عن زوجه أو ظهر به سحرٌ فليأخذ سبع ورقات من سدرٍ ويدقها بين حجرين، ثم يجعلها في ماء ويخبطها ويغتسل به، ثم يكرر ذلك من ثلاث إلى سبع وسوف يفك الله عنه السحر. إذاً: للسدر خصائص.

هل الماء المخلوط بسدر يجزئ في الوضوء؟

هل الماء المخلوط بسدر يجزئ في الوضوء؟ وأما كلام الفقهاء عن جعل السدر في الماء، أي: الماء إذا كان مخالطاً هل يرفع حدثاً؟ أو أنه يصبح متغيراً طاهراً غير طهور؟ ويقولون في الماء الطهور: هو ما بقي على خلقته في لونه وطعمه وريحه، ونحب أن نقول للإخوان بأن أوراق السدر لا يغير صفة من صفات الماء، لا ريح له، ولا طعم فيه، ولا لون.

قاعدة حول تغير الماء بالمجاورة أو المخالطة

قاعدة حول تغير الماء بالمجاورة أو المخالطة إذاً فالسدر من المجاور لا المخالط، والفقهاء عندهم قاعدة: إذا تغير الماء بمجاور فلا يسلب الماء حكم الطهورية، وإذا تغير بمخالط سلبه، ومثال هذه المجاورة: لو أن هناك -كما يقولون- غديراً صغيراً وعليه أشجار، فتساقط ورق الشجر فيه، فتعفن، هذا الورق لم يخالط الماء ولم يمتزج بذرات قطرات الماء، ولكنه بجواره فتغير برائحته، قالوا: هذا متغير بمجاور وليس بمخالط فلا يسلبه الطهورية. وقالوا كذلك في النفط، لو وقع القاز في الماء فلا يسلبه الطهورية، وكذلك لو وقع الأزفلت، وكذلك الكافور، فإنه لا يذوب في الماء، وجميع الزيوت لا تذوب في الماء، إنما تكون على وجهه، أو في جانب من جوانبه، ولا تمتزج بالماء أبداً، إلا بطريقة معينة يعرفها أهل الاختصاص في الصيدلة لها طريق خاص، فعلى هذا قالوا: الماء المتغير بمجاور لا يسلبه الطهورية. إذاً: النقاش في كون السدر في الماء عند غسل الميت يسلبه الطهورية ويجعل الغسل للنظافة لا محل له أبداً, فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنظف الناس، وقد غسل على تلك الحال. وهناك من يقول: الأمر تعبدي؛ لأننا لا ندري ما الحكمة، وكونه يقول (اجعلن في الأخيرة كافوراً) لماذا خص الكافور بالأخيرة؟ الآن له رائحة؟ ورائحته نفاذة قوية، كما يقولون: عطر طيار يطير في الهواء، لو تركت قطعة دهن الكافور معراة للهواء فإنك بعد فترة لا تحصلها، مثل (النفثالين) الذي يضعونه لحفظ الصوف، لو تركته لتبخر مع الهواء، فيقول بعض العلماء: إنما جعل في الأخيرة بعد أن استوفى الغسل المشروع بغسلات ماء طهور. وبعضهم يقول: لأن الكافور له خصوصية تتناسب مع حالة الميت، منها: أنه يلين الجلد، ومنها: أنه يحفظ الجلد من التأثر، ومنها: أن رائحته لا تقوى عليها الحشرات، فلو تأخر دفن الميت وقد جعل في تغسيله كافور فلا تقربه الحشرات، لا نمل ولا ذر ولا شيء يقترب منه؛ لأن رائحة الكافور تطردها. إلى غير ذلك من التعليلات التي من أجلها جعل الكافور في غسل الميت وفي الغسلة الأخيرة. والله تعالى أعلم.

نقض شعر الميت إذا كان له ظفائر

نقض شعر الميت إذا كان له ظفائر ثم قالت (ثم ظفرنا شعرها ثلاثة قرون) وفي بعض الروايات (فنقضنا شعرها) أي: أنه كان مظفوراً، وصار شعراً مرسلاً، وبعد أن غسِّل وسرِّح ورجِّل ظفرنه ثلاث ظفائر. فهنا يقول العلماء: إذا كان الميت رجلاً أو امرأة وله شعر مظفر -بعض أهل البادية قد يعنى بشعره- وكان له ظفيرتان كظفيرتي المرأة، أو ظفيرة واحدة، فإذا كان للمرأة شعرٌ مسترسل ومظفر نقض، ومن المعلوم أنه في غسل المرأة من الجنابة لا تنقض المظفور، بل تجمعه بين كفيها وتضغطه حتى يتخلل الماء بين الشعر، أما في غسل الحيض فإنها تنقضه. وهنا تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها: (فنقضنا شعرها) . إذاً: غسل الميت آكد من غسل الجنابة؛ لأن نقض الشعر لا يكون في غسل الجنابة، ولكن يكون في غسل الحيض.

تظفير شعر المرأة بعد غسلها

تظفير شعر المرأة بعد غسلها ثم بعد ذلك ظفرنه، وهذا يذكرونه خلافاً للأحناف الذين يقولون: إنه لا يظفَّر بعد الغسل، ويلقى على وضعه الطبيعي من جوانبها، أو من خلفها، أو من أمامها؛ حتى ولو على وجهها، ويقولون: هذا فعل صحابية ولا نص عليه من رسول الله، ولكن يقال: لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وكذلك الحاضرات ما أنكرن عليها، وإذا كان الأمر يدور بين اجتهاد شخصٍ عادي، وبين فعل صحابية أو صحابيات، فالأولى الأخذ بقول الصحابية أو الصحابيات، كما هو معلوم عند الأصوليين، أن قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف فهو أصل يتبع. والله تعالى أعلم.

استحباب البداية في غسل الميت بالميامن ومواضع الوضوء

استحباب البداية في غسل الميت بالميامن ومواضع الوضوء وقال في الحديث (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) التيامن مطلوب في كل شيء، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي تعالى عنها (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في كل شيء) فكان يتيامن في لبس النعلين، ويتيامن في لبس القميص فيدخل يده اليمنى، ويتيامن في أول نومه فينام على شقه الأيمن، ويتيامن في أكله الطعام وتناول الشراب بيده اليمنى، ثم قالت (وفي شأنه كله) وهنا قال صلى الله عليه وسلم (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) وهذه سنة -أيضاً- في غسل الجنابة والحيض، فقد تقدم معنا في باب الغسل أن الإنسان لا يفيض الماء على جسمه مرة واحدة، ولكن يبدأ -كما في غسل الجنابة- بغسل فرجه، ثم يضرب يده بالتراب في الأرض، ثم يتوضأ، وجاء في بعض الروايات (وضوءه للصلاة) وجاء في بعض الروايات: ويؤخر غسل قدميه حتى ينتهي من إفاضة الماء، ثم يتحول من مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر؛ فيغسل قدميه. إذاً: الوضوء مقدمةٌ للغسل، فهنا أمرهن أن يوضئنها، أي: يبدأن في تغسيلها بالوضوء، وعند الغسل يبدأن بالميامن، ثم يكملن الغسل على ما بين لهن، ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر، قال: (إن رأيتن ذلك) . ثم قال (فإذا فرغتن فآذنني) من آذن يؤذن، والإذن كله راجع في اللغة إلى مادة الأذن؛ لأن اللغة أول ما توضع توضع للمحسوسات المادية، ثم تنقل إلى المعنويات. قالت (فلما فرغنا آذناه، حقوه) أي: الإزار الذي على الحقو، والحقو هكذا، محل عقد الإزار، ثم قال (أشعرنها به) وهذا منه صلى الله عليه وسلم عطفاً عليها، وشفقة بها، والتماساً لبركته معها؛ لأن هذا الحقو قد خالطه، وقد يكون مس من عرقه أو غير ذلك. إلخ، على ما سيأتي في أمر بن أبي، وهذه ابنته رضي الله تعالى عنها زينب، وعطفه على ابنته لا شك فيه، ففعلن وأشعرنها، أي: اللباس يكون قسمين: شعارٌ ودثار، كما جاء في حديث الأنصار لما رجعوا من فتح مكة، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فبلغته مقالة؛ فجمعهم، ثم قال (ما مقالة بلغتني عنكم يا معشر الأنصار؟! أتأخذون عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوامٍ، إني لأعطي أقواماً أتألفهم على الإسلام، وأترك أقواماً لما وقر في قلوبهم من الإيمان، والله يا معشر الأنصار! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وطريقاً، وسلك الأنصار وادياً وطريقاً، لسلكت وادي الأنصار وطريقها) فقوله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار شعار) . الشعار: هو الثوب الذي يلاصق شعر الجلد على الإنسان، والدثار هو ما يتدثر به فوق الثياب، كالمشلح، أو العباية، أو البالطوا، أو أي شيء آخر، هذا دثار يتدثر به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي: المتغطي، والدثار هو الغطاء فوق اللباس. فأشعرنها إياه، وكما أشرنا أن هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته ورغبته في إنالة ابنته البركة.

كتاب الجنائز [5]

كتاب الجنائز [5] من الآداب الشرعية الواجبة على الأحياء للميت تكفينه في أثواب تستره، على تفصيل فيما يكون للرجل وما يكون للمرأة، مع استحباب أن تكون بيضاء واسعة بدون مغالاة ولا مباهاة.

كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض

كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض

صفة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم

صفة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) متفق عليه.

الفرق بين الثوب والقميص

الفرق بين الثوب والقميص هذا شروع من المؤلف في بيان كيفية الكفن للميت، وبدأ ببيان كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بحديث أعرف الناس بذلك، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) ثلاثة أثواب ثم بعد ذلك تقول: (ليس فيها قميص) مما يدل على أن المراد بالثوب هو اللفافة التي يلف فيها الميت، والقميص هو ما كان مخيط الطرفين، أي: لو جئت بطرفٍ من القماش على ما هو معروف الآن، القماش الأبيض عرضه -كما يقال: ياردة (تسعون سنتيمتراً) ، أو عرضه متر، وأخذت منه بقدر طول الإنسان مرتين، أي: أخذت ثلاثة أمتار وثنيت طرفيها معاً ثم جئت في الوسط حيث ثنيت وفتحت فتحة تُدخل الرأس، فأدخلت رأسك -وأنت إنسان على قيد الحياة- وصار النصف أمامك والنصف وراءك، إذا خطت الطرفين من اليمين والطرفين من اليسار، وتركت موضع اليدين سمي قميصاً، فإذا لم يكن مخيطاً لا يسمى قميصاً، فالقميص هو ما كان مخيط الطرفين. والأثواب: يمكن أن يقال في كل قطعة من لباس المحرم، -الإزار والرداء- أنه ثوب، كما تقدم لنا في الحديث في الرجل الذي سقط عن راحلته فوقصته فقال صلى الله عليه وسلم: (كفنوه في ثوبيه) وثوباه وهو محرم هما عبارة عن الإزار والرداء، أما ما يطلق الآن على الثوب الذي يلبسه عموم الناس فهذا اصطلاح آخر. قميص طويل، وعند بعض الناس قميص قصير قميص نصف كم قميص كم كامل، فالقميص لغة هو ما كان مخيط الطرفين، وأصبح محيطاً بالجسم بالخياطة.

كيفية تكفين الميت

كيفية تكفين الميت وهنا الثلاثة الأثواب التي تقول عنها أم المؤمنين رضي الله عنها ليس فيها مخيط، لا قميص ولا سروال ولا شيء من ذلك، كيف تكون الثلاثة الأثواب. يقول ابن قدامة في المغني: يؤتى بالثلاثة الأثواب بعد أن ينتهى من تغسيل الميت، ومما ينبغي التنبيه عليه أن يغسل الميت على شيء مرتفع، لا على الأرض مباشرة، فإذا ما غسل جفف أو نشف، وكذلك يحسن ألا يغسل تحت السماء في الكشف مباشرة، بل يكون تحت سقف في غرفة أو في صالة، وإذا لم يكن ففي خيمة، وإذا لم يكن ظلل بغطاء يحجب بينه وبين السماء، فلا يكون مكشوفاً إلى السماء مباشرة، فإذا ما غُسِّل -على طريقة الغسل التي لها تفصيلات عديدة لم نذكرها، وهي مدونة في كتب الفقه- وانتهوا من تغسيله، نشفوه، فإذا ما انتهوا من تنشيفه، وكان المكان الذي هو عليه مبللاً بسبب الغسل، فإنه يوضع في مكان آخر أو يفرش له فراش في الأرض، ويؤتى بالثلاثة الأثواب، فإن كانت متفاضلة -أي: بعضها أفضل من بعض في الجودة- يجعل الأفضل منها أولاً، ثم يؤتى بالثاني فوقه، ثم يؤتى بالثالث فوقه، فتكون الأثواب الثلاثة قد رصَّت على المكان الذي ينقل إليه، أو على فراش على الأرض، وكل واحد من الثلاثة يسمى ثوباً. فينقل الميت من موضع غسله، إلى هذه الأثواب الثلاثة، فتؤخذ اللفافة الأولى -أي: الثوب الأول الذي هو ثالث الأثواب من جهة الأخذ- فيثنى عليه الطرفان، فما كان في جهة اليمين، يؤتى به إلى اليسار، وما كان في اليسار يؤتى به إلى اليمين، ويصبح ملفوفاً في الثوب الأول، ثم يجعل فوق هذا الثوب الأول حنوط وطيب وكافور، ثم يؤخذ الثوب الثاني أي الوسط فيفعل به كذلك أيضاً، القسم الذي إلى اليمين يجعل إلى اليسار، والقسم الذي على اليسار يجعل إلى اليمين، وتكون تلك الأثواب الثلاثة زائدة عن طول الميت تتجاوز القدمين وتتجاوز الرأس، ويكون الجزء المتجاوز للرأس أطول من الجزء المتجاوز للقدمين، فلو جعلنا زيادة على القدمين عشرين سنتيمتراً، نجعل أربعين سنتيمتراً من جهة الرأس، ونأتي أيضاً بالحنوط ونجعله على اللفافة الثانية الذي هو الثوب الوسط، ثم يؤتى باللفافة الثالثة وهي الأخيرة وتكون أفضلها وأحسنها أي موضع تجملٍ للكفن، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (من كفن أخاه فليحسن تكفينه) وجاء في هذا (من كفن مسلماً كان كمن كساه إلى يوم القيامة) وعلى هذا يؤخذ الثوب الثالث الذي هو الأخير، ويفعل به كذلك ويلف على الميت الطرف الأيمن يرفع ويجعل إلى اليسار، والطرف الأيسر يرفع ويجعل إلى جهة اليمين. إلى الآن أصبح الميت مندرجاً في ثلاثة أثواب، يؤتى بعد ذلك إلى جهة القدمين فتجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وقيل: تربط، وقيل: تلف، ثم توضع تحت القدمين، وكذلك من جهة الرأس، تجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وتلف من عند الرأس، وتثنى تحت رأسه، أو تربط حتى لا تنفك، حينما يحمل وحينما ينزل في القبر، وحينما يوضع على شقه الأيمن في اللحد، هذه كيفية تكفين الميت في الأثواب الثلاثة.

تفصيل الروايات في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم

تفصيل الروايات في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو أصح الروايات في تكفينه صلى الله عليه وسلم، وهو أعدل الأقوال وأفضلها عند الجمهور، وقد اتفقوا على أنه عند الحاجة إذا اقتصر على لفافةٍ واحدة على هذا الوضع وسترته من رأسه إلى ظُفر قدمه أجزأت، يعني: أقل المجزء في الكفن ما يستره، والثلاثة هي أقل الكمال، وبعضهم قال هي نهاية الكمال، أي الأفضل. وكما يقول العلماء، لا ينبغي لأحد أن يزيد في الكفن على كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك روايات جاءت في كفنه صلى الله عليه وسلم سوى ذلك ولم تسلم من مقالات. ستجدون في كتب الحديث وفي حديث عائشة هنا (. ثلاثة أثواب سحولية من كرسف) الكرسف: القطن، سحولية: نسبة إلى قرية، وهي ثياب بيض، وهذا صفة الكفن أو أثواب الكفن وأنها من القطن. قولها هنا: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يقولون ليس فيها: يعني في العدد، فهي ثلاثة فقط من غير أن نحسب القميص والعمامة، فيكون القميص والعمامة موجودين لكن ما عدتهم، أو ليس فيها: في جنسها، ولم يتجاوز الكفن الثلاثة الأثواب، والجمهور على أن ظاهر اللفظ ليس فيها -أي في الأثواب الثلاثة- قميص ولا عمامة، يعني ليس قميص وعمامة يكملان العدد، لا. بل القميص والعمامة منفية الوجود بالفعل. وسيأتي في بعض الروايات: (كُفِّن في قميصه الذي مات فيه) وفي روايات أخرى: (كفن في حلة حبرة) وفي بعض الروايات: (كفن في حلة لـ عبد الرحمن بن أبي بكر) ولكن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين لنا تلك الروايات. أما موضوع القميص فقالوا: إنه جرد عنه، أي بعد ما غسل وسجي، وبعضهم يقول: موجود، والبعض الآخر يقول: أما الحلة فإن عائشة رضي الله عنها قالت (لقد جيء بالحلة فردوها) إذاً: عند الكفن جيء بالحلة لتجعل في كفنه، ولكن الذين قاموا بتكفينه صلى الله عليه وسلم ردوها، ولم يجعلوها في الكفن، وفي بعض الروايات: (فنشفوه بها، ثم ردوها) إذاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين قضية الحلة فيما يتعلق بالكفن وأنها فعلاً جيء بها، ولكن لم تكن في الكفن؛ لأنهم ردوها ولم يكفنوه فيها. وهناك من يقول أن النبي كفن في سبعة أثواب: الثلاثة الأثواب التي في حديث عائشة، والقميص الذي مات فيه، والعمامة والحلة، والحلة من قطعتين، إذاً: مع هذه الروايات ومع توضيح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في خبر الحلة نعلم بأنه ما كان الكفن إلا ثلاثة أثواب. والذين يقولون بالقميص، يقولون: تجعل اللفافات اثنتين، ويؤتى بدل الثالثة التي هي الأولى أي التي تكون في الأعلى، والتي تكون كما وصفنا من القماش طول الإنسان مرتين، ويجعل فتحة في وسطه عند الثنية، ويدخل فيها الرأس ويثنى عليه طرفاها، كما يثنى الثوب على التفصيل المتقدم. ومن يضيف السروال، يقول: يؤتى أيضاً بقطعتين من القماش، ولكن يفتح كما تلك الفتحة ويدخل من الرجلين إلى الحقو، ويكون طرفا القماش واحدة تلف على الساق اليمني والأخرى تلف على الساق اليسرى دون أن تجعل مثل الكم للرجل، أي: لا يوجد خياطة، فعلى هذا الجمهور يقولون: (لا ينبغي التعمق ولا التزيد في الكفن ولا المغالاة) وكما ثبت في أصح الروايات في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، الثلاثة الأثواب السحولية البيض التي ذكرتها أم المؤمنين رضي الله عنها.

كفن المرأة والصغير

كفن المرأة والصغير بقي فيما يتعلق بالصغير والمرأة: قالوا: الصغير أي لفافة يلف فيها تجزئه، والمرأة يزاد فيها القميص والمقنعة، والخمار وثالث يلف على وسطها ويربط، فتكون في خمسة: الثلاثة الأثواب المذكورة، والخمار على رأسها وشعرها ووجهها، والثالث في وسطها يشد ويلف عليها، حفظاً لها وصيانة، هذا ما يتعلق بموضوع الكفن.

حكم المغالاة في الكفن

حكم المغالاة في الكفن واتفقوا على أنه لا يجوز المغالاة في نوعية القماش، فلا نذهب إلى القماش الفاخر الغالي الذي صفته كذا، ونقول إكراماً للميت واعزازاً، لا. فكل ميت ليس أكرم من رسول الله على الله، ويكفي أنه كفن في هذه الثلاثة الأثواب البيض السحولية كما قالت أم المؤمنين عائشة. هناك اجتهادات للفقهاء رحمهم الله، في نوعية الثياب، على ما سيأتي التنبيه عليه عند ذكر كفن أبي بكر رضي الله عنه.

التبرك بثياب العبادة واتخاذها كفنا

التبرك بثياب العبادة واتخاذها كفناً قالوا: لو أن إنساناً، تخير ثوباً يكون لكفنه من الثياب المعتادة، سواء أكان إزاراً ورداء أو قميصاً يلبسه، ثم لبسه ليصلي فيه عدة صلوات، ثم خلعه وركنه ليكون كفنه، وتكون صلاته فيه من باب التبرك ويشهد له، سئل أحمد رحمه الله عن ذلك قال: (لا بأس) وكذلك ما سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى قميصه لـ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أجل أن يكفن فيه والده، هذا من سبيل التبرك أو على ما سيأتي العلة مع ابن أبي بأنه كان قد كسى العباس قميصاً حينما جيء به أسيراً من بدر، سيأتي الكلام عليه في محله. لكن قالوا: لو أن الإنسان اختار ثوباً لكفنه وعمل فيه من القربات، ثم كفن فيه لذلك فلا مانع. وقد كان كثير من الحجاج قديماً يأتي بكفنه معه من بلده، وذلك لشدة الخوف وعدم الأمان فإذا مات في الطريق كان كفنه معه، وبعضهم كان إذا كتب الله له السلامة يغسله بماء زمزم، ويأخذه معه ويبقيه ليكفن فيه بعد أن غسل بماء زمزم، يفعلون ذلك للتبرك، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحالات، من ذلك ما ذكر عنه صلوات الله وسلامه عليه، أنه في يوم بارد شديد البرد، أهديت إليه شملة، مثل الرداء على كتفيه، فقال رجل من الحاضرين (اكسنيها يا رسول الله! فأخذها وأعطاها إياه، فقالوا له بعد ما ذهب النبي: تطلبها من رسول الله وأنت تعلم أنه في حاجتها وتعلم أنه لا يرد سائلاً؟ قال: والله ما طلبتها إلا لتكون كفني) أي ليكفن فيها، وعلى هذا لا مانع أن يتخذ الإنسان الثوب في العبادة. ونعلم أيضاً ما كان في معتقد الجاهلية بقياس العكس، قبل الإسلام كانوا إذا أراد الإنسان أن يطوف وهو محرم، يعتقدون بأن الثياب التي عليهم، شاركت وحضرت ما ارتكبوا من الآثام من سفك الدماء وأكل الحرام وو إلخ، فيعتقدون بأن من أراد أن يخرج من ذنوبه، يجب أن يفارق هذا الثوب عند الطواف؛ لأن الثوب قد دُنس بتلك الذنوب، فكانوا يطوفون عراة، إلا من كان عنده سعة، فيشتري ثوباً جديداً لم يلبس ولم يدنس بمعصية، فيطوف به، فإذا انتهى من طوافه، خلعه وجعله عند الكعبة، وكان لسدنة البيت، أو يأتي إلى شخص من سدنة البيت ويستعير منه ثوباً يطوف فيه، بناءً على أن سدنة البيت لا يرتكبون الذنوب فثيابهم طاهرة، إذاً كانوا يعتقدون بأن ملابسة الشر في الثوب تؤثر عليه، وكانوا يعتقدون بأن الثوب الذي لم يشارك في معصية، يكون أولى بطوافه، فما بالك إذا كان يشارك في الطاعة، نحن نذكر ذلك من تأثير المعتقدات في أثر الثياب الذي يشهد الخير والذي يشهد الشر. وعلى هذا ما ذكر عن أحمد رحمه الله تعالى حينما سئل عن الرجل يلبس الثياب ليصلي فيه ثم يجعله كفناً له، قال: لا بأس، لكن لا يطيل اللبس حتى يدنسه، أي يوسخه. لا؛ لأن السنة أن يكفن الإنسان في ثوبين أبيضين جديدين أو نظيفين غسيلين، كما يتعلق بالإحرام، فما ينبغي أن يبدأ إحرامه في ثياب مدنسة، إما أن تكون جديدة نقية، وإما أن يحتفظ به ويغسله ويحرم فيه كل سنة، فلا مانع في ذلك، هذا ما يتعلق بنوعية الكفن، والسنة فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا والله أعلم.

باب تكفين الميت بغير قميصه

باب تكفين الميت بغير قميصه .

حكم تكفين الميت في قميص غيره

حكم تكفين الميت في قميص غيره وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه إياه) متفق عليه.

تعريف موجز بعبد الله بن أبي بن سلول ومواقفه

تعريف موجز بعبد الله بن أبي بن سلول ومواقفه قصة هذا القميص وعبد الله بن أبي بن سلول طويلة، ولكن أقول بإيجاز: عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين لنا خبره سعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة (ركب النبي صلى الله عليه وسلم ومر على مجلس فيه عبد الله بن سلول، وفيه جماعة من المسلمين، وجماعة من المشركين، وجماعة من جماعة ابن أبي، فلما مر من هناك عرض عليهم القرآن، فقال ابن أبي: يا هذا! والله إنه لكلام حسن لو كان حقاً، الزم رحلك، ومن أتاك فاقرأه عليه، فقال ابن رواحة: لا يا رسول الله! بل اغشنا به في مجالسنا وائتنا واقرأه علينا، فإنا والله نحبه، فتلاحى ابن رواحة ومن معه من المسلمين، وابن أبي وجماعته والمشركون وغيرهم، حتى أخذ صلى الله عليه وسلم يسكت في القوم ويهدئهم خشية الفتنة. ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى جاء إلى سعد بن عبادة، فقال: ألا ترى ما فعل أبو الحباب؟! -كناه- قال: ماذا فعل؟ فأخبره بما قال، وقال: يا رسول الله! اعذره؛ -وتأمل معي هذا الكلام! - فإنك جئت بما أعطاك الله من الحق، وكانوا قد اجتمعوا على أن يتوجوه عليهم ملكاً، ففات عليه ما كان يريد بالحق الذي جئت به) انظروا -يا إخواني- كيف تكون مراعاة النواحي النفسية، فبعد أن أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، نجد هذا الصحابي الأنصاري الجليل يعتذر عنه. كان قبل أيام على وشك أن يُنصَّبُ ملكاً، فَسُلِبَ ملكه، فهو بهذا لا يحتمل شيئاً بل هو قد فاته الملك بمجيء هذا الدين. إذن: كان موقفه موقفاً حرجاً في ذاته وفي شخصه. ثم أسلم إسلام النفاق وهو باقٍ على دينه، يكيد للإسلام والمسلمين. وهو صاحب المقالة الشنيعة التي قيلت في عودتهم من غزوة بني المصطلق، حينما نزل المسلمون عند ماء، وتلاحى غلام لـ عمر رضي الله تعالى عنه وغلام للأنصار على الماء، فغلب غلام عمر غلام الأنصار، فقال غلام الأنصار: يا للأنصار! وقال الآخر: يا للمهاجرين! فبلغت المقالة ابن أبي فقال: أوفعلوها؟!! والله! ما نحن وإياهم إلا كمثل القائل: سمِّن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، غلام الأنصار سمع هذه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فشغل الناس بأنفسهم، وحان وقت القيلولة -الوقت الذي ينامون ويرتاحون فيه- وواصل السير إلى الليل وإلى الغد، فقالوا: هذه حالة من رسول الله غير عادية، ما الذي حمله على ذلك؟ فعلموا ما قاله ابن أبي، فذهبوا يعنفونه، فعلم أن الخبر وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر: يا رسول الله! سمعت أنه بلغك أني قلت كذا وكذا والله ما قلت، هذا كلام كذب، ما قلت، الغلام يكذب عليَّ، يقول الغلام: والله كدت أن تنشق بي الأرض أن أكذَّب، فنزل القرآن بذلك: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا. } [المنافقون:8] إلى آخره. وهنا يقول الأصوليون: قضية القول بالموجب وهي قاعدة أصولية {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] لم يقولوا من هو الأعز ولم يقولوا من هو الأذل، لكن يزعمون العزة لمن؟ لأنفسهم، بصفتهم أصحاب الأرض وأصحاب المال، فنزل القرآن: (يقولون) ثم جاء القرآن وقلب عليهم القضية، وميز من هو الأعز ومن هو الأذل حقيقة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] يبقى من هو الذي سيخرج الثاني؟ بمقتضى مقالتهم جاء الحكم عليهم، فجاء الوحي وصدق الخبر.

مواقف عبد الله بن عبد الله بن أبي المشرفة

مواقف عبد الله بن عبد الله بن أبي المشرفة عبد الله بن عبد الله صحابي جليل، وكان من أبر الأبناء بآبائهم -على نفاق أبيه- وكان براً بأبويه، لما حصلت هذه المقالة -وهي ليست بهينة- حينما وصلوا إلى المدينة جاء عبد الله ابن رئيس المنافقين ووقف على باب المدينة، واستلَّ السيف حتى وصل أبوه، فمسك بزمام راحلته وقال: [والله لا تدخلنَّها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله] من الذي وقف لهذا المنافق؟ ولده. بلغ الخبر رسول الله أن عبد الله منع أباه أن يدخل، قال (مروه فليأذن له فليدخل) فدخل بإذن من رسول الله، وهذه تكفي، ملك الأمس يرده ولده حتى يعلم أنه الأذل وأن العزة لغيره، لمن؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] . بعد فترة -وأنتم تعلمون أن مثل هذا ليس بسهل، ولا يمر بسلام، بل لا بد أن تكون له بقايا- أشيع -والشائعات دائماً تزيد المسألة قليلاً- أشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي لمقالته، هذه الإشاعة بلغت عبد الله ولده، ماذا يفعل، وهو أبر الناس بأبيه، أبوه يقتل غداًَ أيمنع أمر رسول الله أم ماذا يصنع؟ أمر محرج له جداً!! فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (يا رسول الله! بلغني -أو علمت، أو سمعت- أنك قاتل ابن أبي -لم يقل: أبي، حتى لا يقول أنه جاء يستعطف، من هو ابن أبي؟ - إن كنت فاعلاً لا محالة -يعني لست عافياً عنه- مرني أنا آتيك برأسه -قتل أبيه مصيبة، وأن يكون بيده مصيبة أكبر، فماذا فعل رسول الله إزاء هذه الشائعات- قال: لا يا عبد الله! دعه) وتركه ولم يقتله، هذا الولد مع أبيه في موقفه في منعه من دخول المدينة حتى يقر ويعرف، يعني: حطم التاج الموهوم الذي كان يتخيله في ذهنه، وأوقفه على باب المدينة، ثم بعد ذلك هاهو مستعد بأن ينفذ أمر القتل لو صدر، أي مكافأة تكون لهذا الابن لو فعل ذلك؟ ماذا تقولون أينصب ملكاً بدلاً عن أبيه؟ لم يعد هناك ملك، الأمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي خاطر عبد الله في أبيه، أما أبوه فهو الذي رجع بثلث الجيش في غزوة أحد.

تكفين رئيس المنافقين في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك

تكفين رئيس المنافقين في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك إذاً: مواقف الأب لا نقول: إنها ليست مشرفة! لكنها مخزية، ولكن مواقف ولده مشرفة، من هنا لما مات أبوه جاء وقال (يا رسول الله! أعلم أن قميصك لن ينفعه إذ لم يكن مؤمناً، ولن يضرك إذا أعطيته إياه -انظر العقيدة!! - ولكن أعطنيه حتى لا تكون سُبَّةً علينا مدى الدهر) انظروا السياسة!! ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا هذا كان وكان، وهذا رجع بثلث الجيش، وهذا وهذا، هل عدد له مفاسده، أو أخطاءه؟ لا أبداً، بل رحب بذلك الطلب وأعطاه قميصه. وقيل: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال (أعطني القميص الذي هو شعارك -ليس الذي فوق بل الذي تحت- فخلعه صلى الله عليه وسلم وأعطاه إياه، وذهب وكفنه فيه) هنا بعض الناس يقول: وهل بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع المنافق؟ وبعض الناس يقول: ما حابى عبد الله في أبيه المنافق، إنما كان يرد جميلاً، كان ابن أبي حينما جيء بأسارى بدر وفيهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وضيئاً وجسيماً، وكذلك ابن أبي، يقولون كان طويلاً وضخماً، يعني: هيئة الملك موجودة فيه، فكسا العباس من ثيابه، فالرسول كافأ ابن أبي على ذلك القميص، يعني: ما كافأه إلا في ذلك الوقت؟! لو كانت مكافأة كانت في وقتها، بعد الغنائم التي جاءت، وكان يرد الجميل في حينه، ولكن نأخذ من هذا الرفق والرحمة، وإذا قلنا بمعنى المجاملة -وإن كان مجالها واسعاً لا نقدر أن نحدده- ولكن مراعاة وكرامة لهذا الابن البار المؤمن، صاحب المواقف الفاضلة الكريمة، الذي وقف تلك المواقف بجانب المسلمين ضد أبيه عدو الإسلام، ولا بأس بذلك، وكما قال عبد الله بنفسه (أعلم أنه لن ينفعه لأنه لم يؤمن، ولن يضرك، وإنما يرفع عنا سُبَّة الدهر) وكان ذلك مصانعة لـ عبد الله في أبيه. والله تعالى أعلم. يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز لـ ابن أبي أن يكفن في قميصه. إذاً: لا مانع أن يكون في الكفن قميص، ولكن يمكن يقال: إن ابن أبي لا يقاس عليه بقية المسلمين. والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.

استحباب الكفن الأبيض

استحباب الكفن الأبيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي. هذا توجيه لنوعية ثياب الكفن ولباس الحي، وكما قالوا أيضاً: إن المحرم وهو في حالة الإحرام يكون في أحسن حالاته؛ لأنه متلبس بأفضل العبادات وخامس الأركان، فاستحب له أن يكون في إزار ورداءٍ أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين.

استحباب الثياب البيض لطالب العلم

استحباب الثياب البيض لطالب العلم جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أحبُ لطالب العلم بياض الثياب) هذه خصوصية لطلبة العلم، وقد يكون الإنسان صاحب مهنة لا ينفع معها لبس البياض، لكن -كما تقدم- تكون ثياب المهنة للمهنة، وثياب المجتمعات والمناسبات خاصة بها، فلا مانع في ذلك.

ميزة الثياب البيض

ميزة الثياب البيض إن البياض قليل الحمل للدنس، فلو جاءت ذبابة ونزلت على الغترة البيضاء وتركت أثراً بسيطاً فإنه يظهر بوضوح عليها، لكن لو كانت الغترة أو الشماغ ملوناً وجاء ذباب الدنيا ونزل وعشش فيها لا يظهر فيها شيء. إن بياض الثياب قليل التحمل للأوساخ فأقل شيء يجيء عليه يظهر، فيكون عاملاً مساعداً على نظافته بصفة دائمة، وهنا التوجيه (البسوا من ثيابكم البياض) بصرف النظر عن نوعيتها: (كرسف) أو (كتان) أو أي نوع آخر ما لم يكن حريراً ولا من الممنوع لبسه. وقوله: (وكفنوا فيها موتاكم) وعلى هذا يستحب في حالة السعة وحالة التيسير أن يكون الكفن من الثياب البيض، أما في حالة الاضطرار؛ فالضرورات لا حكم لها -كما قيل- ولها ظروفها، ولا يقاس عليها حالات السعة واليسر.

باب تحسين كفن الميت

باب تحسين كفن الميت وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم. إحسان الكفن يكون في طريقة العمل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بالبقيع فوجدهم يحفرون لجنازة، فوجد في القبر مَيلاً، فأمر بتعديله، وقال: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه) وجاء الحديث الآخر: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ونعلم حديث جبريل عليه السلام في الإسلام، والإيمان، والإحسان، فالإحسان هو أعلى المراتب، والمراحل التي تنتاب العمل. ومن أجل الإحسان يقول المولى سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1-2] لم يقل: أكثر أو أقل أو أنقص، بل قال: (أحسن عملاً) . فكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن) . والإحسان هنا -في حالة السعة- أن تكون اللفائف واسعة، وأن يُحكم لفها، حينما يأتي بالطرف الأيمن إلى اليسار، والطرف الأيسر إلى اليمين بأن يحكمها على جسم الميت، لا أن يلقيها إلقاءً بدون إحكام، لا، وكذلك إذا وضع الحنوط، وإذا أراد أن يلفها من عند رأسه، ومن عند قدميه فيحسن ذلك، وكما جاء الأثر: (من كفن أخاه كان كمن كساه إلى يوم القيامة) . إذاً: ينبغي لمن كفن الميت أن يحسن عمل التكفين بإتقان اللفائف عليه، ويحسن الحنوط، كذلك إذا كان هناك ثياب قديمة، رثة، وثياب نظيفة جديدة، فمن الإحسان أن يختار له النظيف الجديد، ولا يبخل عليه.

كتاب الجنائز [6]

كتاب الجنائز [6] الصلاة على الأموات فرض كفاية، على خلاف في الصلاة على بعض أصناف المسلمين، فإذا دفنوا فيجعل كل ميت على حدة، إلا في بعض الحالات التي يجمع فيها أكثر من ميت في قبر واحد.

تقديم حفظة القرآن في اللحد

تقديم حفظة القرآن في اللحد وعنه قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم) رواه البخاري.

كيفية ترتيب الموتى في القبور الجماعية

كيفية ترتيب الموتى في القبور الجماعية جميع ما تقدم في طريقة تغسيل الميت وتكفينه هي في الحالات العادية، لكن هناك حالات تطرأ في المجتمع يكثر فيها الموتى، سواء كان في حالات الحروب والكوارث، أو في حالات الأمراض السارية -كما يسمونها- كالطاعون، أو الكوليرا وأنواعها، فقد يبلغ عدد الموتى في القرية في اليوم الواحد عشرة أو خمسة عشر، وكذلك في المعارك والكوارث الأخرى، ماذا يفعلون مع كثرة الموتى في حفر القبور؟ أعتقد أن بعض الإخوة يذكر ما حصل في حدث الطائرة، والتي كان فيها عدد كبير من الناس، فعندما سقطت ماذا فعلوا؟ لم يحفروا لكل واحد قبراً. الذي يهمنا هنا أن في حالات كثرة الموتى، ومشقة حفر قبرٍ لكل فرد يجمع الاثنين والثلاثة والأكثر والأقل في القبر الواحد. والآن البقيع موجود فيه غرفتان تسمى في عرف الناس: الفسقية أو الفساقي، وهي غرفة تحت الأرض بعمق القبر، وهي تسع عشرة أشخاص أو خمسة عشر شخصاً متراصين متجاورين، وهذه توجد في بعض البلاد في الأرياف للعوائل الكبيرة، ويكون لكل عائلة فسقيتين: واحدة للرجال وأخرى للنساء، ولهم مدة معينة تفتح الفسقية فيها لا تفتح قبل ذلك، وهم لم يجعلوها للموت الجماعي، وإنما يجعلونها لجمع موتاهم في مكانٍ واحد، ولا مانع في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى على عثمان بن مظعون ودفنه، ووضع الحجر عنده، قال (لأعرفه، لأجمع إليه من أهله) فلا مانع أن يكون للجماعة أو للأسرة مكانٌ يجمع فيه موتاهم، حتى إذا أتوا للزيارة والسلام يكونون في مكان مجموعين فيه. ففي هذه الحالة لو أتي بعدد من الموتى ووضعوا في تلك الفسقية أو الغرفة تحت الأرض لا مانع. فإذا لم تكن هذه موجودة وليست معدة من قبل كما هو الحال في غزوة أحد، إذ لا يمكن أن يحفروا سبعين قبراً في وقت وهم على حالتهم -مصابون وجرحى. إلخ- فكانوا يجمعون الاثنين والثلاثة والأكثر في قبرٍ واحد. ففي مثل هذه الحالة كيف يكون ترتيب الدفن؟ أولاً: اتفقوا على أنه يجمع الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، والصبية الصغار دون السابعة حيثما دفنوا، وبعد السابعة يأخذ حكم الجنس ذكراً أو أنثى، وبعضهم يقول: لو اقتضت الضرورة وكانت الكارثة كبيرة وفيها رجال ونساء، ولم يمكن أن نميز النساء معاً والرجال معاً! لا بأس أن نجمع الرجال والنساء بحيث تكون النساء وراء الرجال، ويوضع بين النساء والرجال حاجز. ولكن الجمهور على المنع، ونحن قدمنا بأن حالة الضرورة لها حكمها، ولا يقاس عليها غيرها، فإذا جاء الأمر واضطر الناس على أن يجمعوا العدد من الموتى في قبر واحد للعجز، أو للمشقة، أو لعدم الإمكان بأن يجعل لكل ميت قبر مستقل، فلا مانع. وعند الوضع في القبر يسأل صلى الله عليه وسلم (أيهم كان أكثر أخذاً للقرآن؟) لم يقل: أيهم أغنى مالاً، أو أيهم أعلى جاهاً، أو أعظم وأفخم نسباً وحسباً؛ كل هذا قد التغى بالموت، انتهى الأمر، وأصبح الشخص بنفسه، فمن يكون أكثر أخذاً للقرآن قُدم إلى جهة القبلة، ثم الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا. وهذا يكون في حالة الضرورة ومشقة أن يحفر قبر لكل إنسان فإنه لا مانع أن يجمع العدد منهم في القبر الواحد.

لا ينقل الشهيد في المعركة من قبره حيث مات إلا لمصلحة

لا ينقل الشهيد في المعركة من قبره حيث مات إلا لمصلحة وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن أباه كان من شهداء أحد، فدفن مع رجل آخر، ثم بعد مدة يقول جابر: (والله عزت علي نفسي أن يكون أبي مع غيره في قبر، فذهبت لأفرده في قبرٍ، قال: فذهبت، فوجدت كأنه مات بالأمس) ، ونقله وأفرده في قبر مستقل، ومعلوم أن الشهداء الذين سقطوا في المعركة وماتوا فيها يدفنون في مكانهم، ولا ينقلون إلى جهة أخرى، اللهم إلا في حالة الضرورة ولمصلحتهم ينقلون إلى أقرب مكان كما وقع لسيد الشهداء حمزة رضي الله تعالى عنه، ومن كان معه دفنوا حيثما أصيبوا وكان في مجرى الوادي. فلما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه قناته، جاء السيل واحتفر القبور وظهرت الأقدام فضج الناس -وذلك بعد أربعين سنة من وقعة أحد - فذهبوا إليهم فوجدوهم كأنهم دفنوا بالأمس! فما كان إلا أن رفعوهم إلى المكان المرتفع على عدوة الوادي الذي هم فيه الآن، وكان هناك بقايا القبة التي كانت من قديم، وتسمى (المصرع) يعني المكان الذي صرع فيه حمزة رضي الله تعالى عنه ودفن فيه، ثم نقل بعد ذلك إلى المكان المرتفع، فنقله كان لمصلحته؛ لأن السيل قد جرف القبر وظهر، والسيل لا يؤمن في أي وقت يأتي، فرفع إلى مكان بعيد عن السيل. وقد جاء في غزوة أحد أن بعض القتلى جاء أهلهم وحملوهم إلى المدينة، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا. ردوهم وادفنوهم حيث أصيبوا) وهكذا شهيد المعركة. أما من صُوب في المعركة ولكنه لم يقتل وذهب به إلى بيته أو إلى مكان آخر، وعاش حتى أكل وشرب فإنه يعامل معاملة جميع الموتى من أن يغسل ويكفن بلا خلاف ويصلى عليه بلا خلاف، ويعامل كما يعامل جميع موتى المسلمين. وعلى هذا عند الضرورة سواءً كان في حال معركة، أو كان في كارثة، مثل مواضع الزلزال -عافانا الله وإياكم- يكون هناك موتى كثيرون، ومتى يستطيعون أن يحفروا لهؤلاء في وقتٍ واحد؟ فيتخذ لهم هذه الطريقة والله تعالى أعلم.

معنى قوله: (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد)

معنى قوله: (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد) قوله رضي الله تعالى عنه (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد) يقول بعض العلماء: هل يبقى الثوب على ما هو عليه، ويلف الرجلان بهذا الثوب معاً كأنهما شخص واحد؟ أو أن الثوب الواحد يقسم قسمين ويعطى لكل واحد منهما قسم؟ وهذا يدل على قلة وجود ما يكفن به القتلى عند العدد الكثير، والذين قالوا: إنما يشق الثوب قسمين، قالوا: لئلا يجمع بين رجلين بجسد متلاصق في ثوب واحد، ولكن هذا غير وارد؛ لأن الشهداء لا يغسلون ولا يجردون من ثيابهم، بل يلفون في ثيابهم التي كانت عليهم، ولكن يبعد عنهم ما كان فيه من الجلود أو الحديد، فإذا كان محتزماً بمنطقة جلد، أو ترس فيه جلد، أو درقة فيها جلد، أو قميص فيه شيء من الجلود فهذا يبعد عنه، وكذلك إذا كان هناك شيء من الحديد كالدرع مثلاً أو الخوذة على رأسه أو شيءٌ في يده، فهذه تنزع عنه ويلف في أثوابه التي هي عليه، فيكون الكفن زيادة على ثيابه التي هي عليه. وتكون مهمة هذا الثوب هو تغطية أطراف الميت أو الشهيد من رأسه إلى قدميه، حتى قالوا: لو أن الثوب الموجود لشخصٍ واحد، وكل واحدٍ له ثوب لكنه قصير لا يبلغ ما بين الرأس إلى القدم، قالوا: يقدم جانب الرأس فيغطى، وبقية الجسم من جهة القدمين يوضع عليه من نبات الإذخر أو نحوه ويغطى في قبره، ولا تترك الجثة مكشوفة. فقول جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين في الثوب الواحد) هذا الحديث يسوقه المؤلف ليبين بأن أقل الكفن هو ثوب واحد، وإن تعذر الثوب فبعض الثوب، وهذا عند الضرورة، وكما تقدم أن الضرورة لا يقاس عليها، كما لو أن إنساناً كان عليه غسل جنابة وعنده ماء لا يكفيه للغسل فعليه أن يتوضأ به، ثم يتيمم بالباقي، وكذلك إذا كان لا يملك ثياباً تستره من السرة إلى الركبة يغطي به السوءة، وكذلك الكفن يكون بقدر المستطاع. إذاً: يجمع بين الرجلين في ثوبٍ واحد، إما على معنى: يجمعهما في لفافة واحدة، ولا محظور في ذلك؛ لأن ثياب كل منهما تحول بينه وبين ملاصقة جسم الآخر، وإما أن يشق هذا الثوب الموجود ويعطى لكل واحد منهما ما يجزئ عنده، إن كان يكفي طول الجسم فالحمد الله، وإن كان لم يكف عني بجانب الرأس وستر بقية الجسم بالنبات أو بنحوه

الصلاة على الشهداء

الصلاة على الشهداء أما القسم الثالث من الحديث: (ولم يصل) هذا مبحث طويل، هل الشهداء يصلى عليهم أم لا؟. أولاً: تقدم تقسيم الشهداء إلى قسمين: شهداء المعركة، وشهداء غير المعركة. قال عمر رضي الله تعالى عنه: (اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك ودفناً في مدينة رسولك) ، قالوا: ماذا بك يا عمر! تريد تأتي بالقتل إلى المدينة؟! قال: الله كريم. فقتل وهو في الصلاة وكتبت له الشهادة، ولكن ليست شهادة المعركة، فهذا يعامل معاملة عامة الموتى. أما الذي في أرض المعركة فيختلف الفقهاء في كونه يصلى عليه أم لا. أولاً: وقبل كل شيء: أجمع العلماء على أن شهداء المعركة لا يغسلون، ويقولون: يبقى بدمه ليبعث يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللون لون الدم والريح ريح المسك) ويقولون: هنا قسمان: مداد العلماء، ودماء الشهداء، تأتي يوم القيامة اللون لون الحبر، والريح ريح المسك، فالشهداء لا يغسلون بإجماع المسلمين دون أي خلاف، ولو وجد خلاف لا عبرة له؛ لأن شهداء المعركة لا يغسلون. أما الصلاة عليه فيقول جابر: (ولم يصل عليهم) إذا جئنا إلى هذه المسألة بعنوان مستقل: (الصلاة على الشهداء) هل يصلى على الشهداء أم لا؟ نجد الآثار الواردة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد، وجابر يقول (ولم نصل عليهم) ونجد الآثار متعددة، ولا يسلم واحد منها من مطعن ومقال، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عمه حمزة رضي الله عنه فكبر سبعاً -سبع تكبيرات- ومنها: أنه صلى عليه وبقي في مكانه وكان يؤتى بالشهداء الآخرين فيوضعون بجواره ويصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: على الشهيد الثاني وحمزة موجود فيشهد حمزة صلاة على غيره معه- ثم يؤتى بآخر إلى سبعين صلاة بعدد الشهداء في أحد. ونجد بعض الروايات تقول: كان يؤتى بهم عشرة عشرة، ويصلي على العشرة مرةً واحدة، وتكون صلاته على السبعين سبع مرات يصلي عليهم عشرة عشرة وحمزة موجود، فقال بعض العلماء: صلى على حمزة سبعين مرة، أي: بتكرار الصلاة على الأفراد، سبع مرات أي: بتكرار السبعين وتقسيمهم عشرة عشرة، كبر سبع تكبيرات أي: على صلاته وحده. والآخرون يقولون: لا، لا نصلي على أحد. وإذا جئنا إلى مجموع هذه النصوص نجد: أن كل نص جاء بأنه صلى عليهم لا يسلم من مقال أو أنه موقوف على صاحبه كـ أبي أمامة وابن عباس وغيرهم، وإذا جئنا إلى: (لم يصل عليهم) وجدنا الأحاديث الصحاح بأنه لم يصل عليهم. ولنعلم أن الغزوات التي وقعت من بدر إلى الخندق إلى حنين إلى فتح مكة إلى خيبر لا شك وقع فيها شهداء، يقول الشوكاني: لم يرد نص واحد أنه صلى، ولم يرد نصٌ واحد أنه لم يصل، وإنما النصوص المختلف فيها إنما هي في غزوة أحد فقط، وعلى هذا نجد الأئمة رحمهم الله اختلفوا في كون الشهيد يصلى عليه أم لا، فنجد مالكاً والشافعي والمقدم في مذهب أحمد أنه لا يصلى على شهيد، كما أنه لا يغسل فكذلك لا يصلى عليه. ونجد الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: يصلى عليه. إن جئنا للأحاديث فهي متعارضة: صلى كذا مرة، لم يصل عليهم، وأحاديث الإثبات -كما يقولون- (الإثبات مقدم على النفي) لكنها أسانيد ضعيفة، ونجد للمالكية قول عن مالك: عدم الصلاة على الشهداء لماذا؟ قالوا: لأنهم أحياء عند ربهم والحي لا يصلى عليه، فما داموا أحياء عند ربهم والصلاة شفاعة ودعاء للميت، وصلاة على الميت المفارق للحياة، فقالوا: هؤلاء أحياء ولا يحتاجون إلى شفاعة الناس، شهادتهم تكفيهم. هذا تعليل قد يكون مناسباً أو الوصف المناسب لحالة الشهداء، فإذا كان الأمر مع تاريخ الجهاد في سبيل الله وجاء بعد ذلك الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ونعلم كم من المواقع وكم من الغزوات وكم من الجهاد، ولم ينقل بأنهم كانوا يصلون على شهداء المعارك في ذلك التاريخ. إذاً الجمهور على عدم الصلاة، والأحناف على أنهم يصلون، فإن وجدنا من يصلي لا ننكر عليه، وإن وجدنا من لم يصل لا ننكر عليه، كما قال بعض العلماء: الصلاة فيها الخير. ونسأل الله أن يأتي بعهد الشهداء، وأن يرفع راية الجهاد ويعلي كلمة المسلمين ويكون هناك شهداء، أما مسألة أن يصلى أو لا يصلى، عليهم فهم في غنىً عن ذلك. يهمنا تتمة البحث في هذا الحديث، ولم نكن أكملنا الكلام عليه. إذاً في ثوب واحد، إما أنه يلفان معاً، وإما إنهم يشق لهما -وهذا بعيد- والثاني: أيهما يقدم في اللحد؟ يجمعهم في ثوب واحد في الكفن، ويجمع أكثر من واحد واثنين في قبر واحد للظروف الطارئة. قوله (ولم يصل عليهم) تقدم الإيراد فيما هو عند الجمهور من الصلاة على الشهداء وعدم الصلاة عليهم. ونؤكد مرةً أخرى بأن ينبغي علينا أن نفرق بين الصلاة على شهيد المعركة وغير شهيد المعركة، والخلاف في شهيد المعركة، وبعض العلماء يقدم في هذا الباب الصلاة على الجنائز، الميت في الحالة العادية والشهيد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: لما قُبض صلى الله عليه وسلم، وتم التجهيز ماذا فعلوا؟ قالوا: كانوا يدخلون عليه صلى الله عليه وسلم يصلون لأنفسهم بدون إمام، لم يتعين إمام بعده صلى الله عليه وسلم، ولم تتم البيعة بعد لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والبعض يروي بعض الآثار لكنها ضعيفة بأن أبا بكر هو الذي صلى بالناس، ولكن الجمهور على أنهم يدخلون، قيل أفراداً وقيل: جماعات، وقدموا الرجال، فلما انتهى الرجال أدخلوا النساء، فلما انتهى النسوة أدخلوا الصبية المميزين الذين يحسنون الصلاة. ويمكن أن يقال: كثيراً ما يتساءل بعض الناس: هل المرأة تصلي على الجنازة أم لا؟ سيأتي لنا حديث عائشة في سعد وأبي بياضة أنه صلى عليه في المسجد، وكذلك النسوة في محضر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يدخلن أفراداً أو جماعات ويصلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعض الناس كان يقول: أولئك الذين يدخلون، لا يصلون صلاة الجنازة المعروفة، ولكن كان مجرد دعاء. ولكن كلمة (صلاة) تحمل على معناها الشرعي ولا تحمل على معناها المجازي أو اللغوي إلا لضرورة أو لقرينة، وليس هنا ضرورة ولا قرينة فصلوا عليه صلوات الله وسلامه عليه.

باب كراهة المغالاة في الكفن

باب كراهة المغالاة في الكفن وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سريعاً) رواه أبو داود. تقدم الكلام على هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغلو في الكفن؛ لأنه يسلب سريعاً، فلا حاجة إلى المغالاة فيه. والمغالاة هنا إما بزيادة عدد اللفائف والأثواب بدل ثلاثة سبعة أو تسعة، وإما في نوعية الأثواب. الرسول صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب من الكرسف سحولية، فإذا كفن الميت في لفائف من الخز -الحرير- أو الصوف أو الأقمشة الثمينة النفيسة في الثمن فهذا من المغالاة!! الغلو يصدق بنوعية الثوب أو بعدد الأثواب، وهذا كله منهي عنه كما تقدم، وعلينا الاكتفاء -بالاقتداء- بما كفن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام. والله أعلم. والمغالاة في الكفن ليست من السنة، وقد بين صلى الله عليه وسلم سبب ذلك بقوله: (فإنه يسلب سريعاً) أي: تأكله الأرض ويذهب، وجاء عن الصديق رضي الله عنه أنه قال في مرضه الأخير، وكان عليه ثوب فيه زعفران: (اغسلوه وكفنوني فيه مع ثوبين آخرين) فقالوا: كيف نكفنك في هذا وهو قديم وكذا، وجاءوا بجديد؟ فقال: (الحي أولى بهذا، إنما هو للمهلة) أي: هذا جديد تعطوني إياه لماذا؟ أنا ذاهب، وكلمة: (المهلة) قالوا: من الإمهال، يعني: مهلة بسيطة، أي: ليس هناك حاجة أن يكون الكفن جديداً ويضيع عليكم، أو (المهلة) أي: ما يسيل من جسم الإنسان، ويتلف الثوب الجديد ويبليه، ولكن نحن نعلم جميعاً بأن أبا بكر رضي الله عنه وأمثاله لن تأكل الأرض أجسادهم. فهذا من الصديق رضي الله عنه، ويكفينا قوله: (الحي أولى بهذا) وكونه قال: اغسلوا هذا الثوب وكفنوني فيه فهو على ما تقدم من أنه كان يشهد الخير فيه: كالصلاة، وذكر الله، ومن جانب آخر عدم المغالاة في الكفن، والله تعالى أعلم.

باب جواز غسل الرجل امرأته (أوصت فاطمة أن يغسلها علي)

باب جواز غسل الرجل امرأته (أوصت فاطمة أن يغسلها علي) .

جواز غسل الزوج زوجته

جواز غسل الزوج زوجته وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: (أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها علي رضي الله تعالى عنه) رواه الدارقطني. يأتي المؤلف أيضاً بعد حديث عائشة لقول رسول الله (لو مت قبلي لغسلتك) دل هنا على أنه يجوز للرجل أن يغسّل زوجته، وأن هذا الأمر مستفيض معروف عند الجميع، فهذه فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي إن هي ماتت أن يغسلها زوجها علي.

مسألة غسل الميت قبل موته وحكم ذلك

مسألة غسل الميت قبل موته وحكم ذلك وجاء في ترجمتها في كتب السير والتراجم: أنها يوم أن توفيت بعد صلاة الظهر أحضرت ثيابها، وأحضرت الماء، وتغسلت وغيَّرت ثيابها، وتوجهت على فراشها إلى القبلة، وأخبرت جاريتها وقالت: (أخبريهم إن مت أني قد اغتسلت) ولكن يُجمع العلماء بأن الغسل قبل الموت لا يجزئ عن غسل الميت بعده. الذي يهمنا في هذا الحديث أن فاطمة أوصت، ومن المعلوم أن عندها رضي الله عنها وأرضاها علماً، والذي تحمَّل الوصية عنده علم، والموصى إليه -وهو علي رضي الله عنه- عنده علم، إذاً تغسيل الزوج للزوجة مستفيض مشهور. والله تعالى أعلم. هناك من يقول يا إخوان: إن كان أحد الزوجين يغسل صاحبه فيجب أن يستر العورة، بأن يضع شيئاً ساتراً على العورة، وإذا احتاج موضع العورة لغسل، فمن تحت خرقة أو حجاب عازل عن العورة، ولا يلامس العورة، أما بقية الجسم فله ذلك.

باب جواز غسل الرجل امرأته (تغسيل الرجل لزوجته)

باب جواز غسل الرجل امرأته (تغسيل الرجل لزوجته) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (لو مِت قبلي لغسلتك) الحديث. مت: بالضم والكسر والكسر أفصح. عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي حديثها الذي أشرنا إليه سابقاً (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع من جنازة بالبقيع، فمر عليها عاصبة رأسها تقول: وا رأساه! فقال: بل أنا يا عائشة! وا رأساه، ثم قال لها: وما يضرك إن أنتِ مِت قبلي، فقمتُ عليكِ، وغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك؟ قالت: ما إخالك إلا أن تُعرِّس على فراشي من ليلتها) والمؤلف يسوق هذا من حديث عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) وهذا فيه دليل على أن الزوج يغسل زوجته. إذاً: لم يبق حاجة إلى وجود الخلاف في أن الموت هل ينقضي به العقد الزوجي، أو أنه يرفع المحرمية فيما بين الزوجين؟ فالرسول يقول لـ عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) إذاً أثر الزوجية باقٍ، والذين يقولون هي تغسله وهو لا يغسلها، أو هو يغسلها وهي لا تغسله، كل هذا استنباط بعيد عن هذا النص الموجود، وقدَّمنا بأن عائشة قالت (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل رسول الله إلا أزواجه) إذن من الطرفين. وأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر (لما توفي الصديق رضي الله تعالى عنه غسلته، ثم خرجت على الناس وهم ينتظرون، قالت: ما تَبِعُون عليَّ -اليوم شديد البرد- وقد غسَّلت أبا بكر فهل ترون عليَّ من غسل؟) وذلك لحديث: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فحمل الجمهور معنى: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) على عموم الموتى، لأن الميت عادة ربما يكون عليه أو على ثيابه أشياء إذا جاءها الماء انتشر الرذاذ فيصل إلى الإنسان المغسِّل، فينبغي أن يغتسل من هذا السبب. وإذا حمل ميتاً فليتوضأ؛ لأنهم كانوا يحملون الموتى من بيوتهم إلى مصلى الجنائز؛ فإذا أراد الحامل له الصلاة عليه فلابد أن يكون متوضئاً من أجل أن يصلي مع الناس، قالوا: وليس حمل الميت من نواقض الوضوء، وليس تغسيل الميت موجباً للغسل، ولكن أعتقد والله تعالى أعلم أن الغسل والوضوء قبل أن يباشر تغسيل الميت؛ لأن ذلك أفضل؛ لأنهم قالوا: لا ينبغي لحائض ولا لجنب أن يغسل ميته. إذاً: حالة غسل الميت قربة ودعاء يقدم بين يدي الله، فينبغي للشخص الذي يتقدم لهذا أن يكون على حالة طيبة. وكذلك حمله، إذا حمله وهو متوضئ، ودعا الله له، واستغفر له ولنفسه، فإنه يكون على حالة من حالات التهيؤ للعبادة، فيكون الغُسْلُ ليس بعد الغسْلِ، ولكن كما قيل: ما قارب الشيء يعطى حكمه، مثل (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) لا يقول ذلك حينما يدخل، بل إذا أراد الدخول وذلك قبل أن يدخل. ومثله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] أي: إذا أراد القراءة. فالذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الندب للغسل لمن سيغسل الميت من باب كمال الحالة من ناحية عبادية أو ناحية روحية تكون مصلحة للمغسل. ويشهد لهذا ما سيأتي في موت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا إنزالها في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (من لم يقارف الليلة فلينزل) من لم يقارف، معلوم بهذه الكناية أنه يراد بها: من لم يأت زوجته تلك الليلة فلينزل، والذي أتى زوجته يبعد، سبحان الله! لأن الذي قارف زوجته حديث عهد بأمر دنيوي وشخصي، والذي لم يقارف كأنه بعيد عن هذا، مع أن بعض العلماء يقول: الذي قارف زوجته حينما يلحد امرأة يكون أبعد من أي شيء، بخلاف الذي له مدة لم يقارف، وقيل: هذه الحالة خاصة. فنزل عثمان بن مظعون، وبعضهم قال: الذي نزل كانت مهمته لحد الموتى، وعثمان زوجها كان موجوداً، وبعضهم يقول: إنما أراد الرسول شيئاً آخر بالنسبة لـ عثمان. الذي يهمنا هنا هو أن الإنسان الذي يغسل الميت يجب أن يكون على حالة تكون أقرب إلى الكمال للإنسان المسلم من غيرها. وفيه أن الزوج يغسل الزوجة، والزوجة تغسل الزوج، وقد تقدم الكلام على تغسيل النسوة الأجانب للرجل الأجنبي، وعدم التغسيل، وقلنا بأنهم يتفقون بأنه إذا ماتت امرأة في جمع من الرجال، ولا توجد امرأة تغسلها ولو حتى كتابية -فإذا وجدت امرأة كتابيه فإنها تغسليها- وبعضهم يقول: الكافر لا يغسل مسلماً أبداً؛ لأن تغسيل الميت عبادة يحتاج إلى نية، والكافر لا تصح نيته، فنحن ننوي ونغسلها أفضل من أن ندفنها بدون تغسيل، وقال بعض العلماء: الرجال ييممون المرأة، والنسوة ييممن الرجل. أما الأطفال الذين ليست لهم عورة، وهم من دون السبع سنوات، فمن حضره من رجال أو نسوة فلا مانع من غسله، وإن كان أحمد رحمه الله يكره للرجل أن يغسل الفتاة في سن السابعة فما بعدها. والله تعالى أعلم.

الصلاة على المقتول حدا

الصلاة على المقتول حداً .

أصناف الموتى بالنسبة للصلاة عليهم

أصناف الموتى بالنسبة للصلاة عليهم وعن بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجمها في الزنا، قال (ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت) رواه مسلم. هذا مبحث في الصلاة على عامة الناس في حالات مختلفة، عامة الناس يصلي عليهم -كما تقدم لنا- أولى الناس بهم إن لم يكن الميت قد أوصى، فإن لم يكن أوصى ولم يوجد أولى الناس به فالإمام الراتب، وفي هذا الحديث امرأة أقيم عليها حد، فهل يصلي الإمام الراتب على من أقيم عليه الحد أم لا؟ لنعلم أولاً أن الإمام الراتب لا يصلي على فاجر أو مشهور بالفجور والفسق، أو أنه رُجم حداً بغير توبة، أما إذا تاب وقدم نفسه كـ الغامدية وكماعز وغيرهم، فسيأتي الكلام عليه. الغالّ الذي أخذ من الغنائم ومات لا يصلي عليه الإمام الراتب؛ لأن في صلاته عليه تشجيعاً على ذلك الفعل، ولكن لا يترك بدون صلاة، إنما يصلي عليه عامة الناس. إذاً فالموتى على أقسام: عامة المسلمين يصلي عليهم أولى الناس بهم، أو الإمام الراتب، أو من أوصى بأن يصلي عليه. الشهداء لا صلاة عليهم عند الجمهور. الذي مات بسبب أو بحادث إن كان فيه خطيئة، كالذي غلّ من الغنيمة، والذي قتل نفسه عمداً -لا أن يكون تسبب في قتل نفسه دون قصد- لأنه وقع في خيبر أن رجلاً قاتل قتالاً شديداً، ثم رجع سلاحه عليه فقتله، فتكلم الناس وقالوا: قتل نفسه بسلاحه. يعني: شكّوا في شهادته، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (له أجره مرتين) يعني: له أجر شهيدين. إذاً: الذي يقتل نفسه عمداً لأمر من أمور الدنيا، فهذا لا يصلي عليه الإمام الراتب، وإنما يصلي عليه أهله، كما تقدم. المدين الذي ليس عنده وفاء لدينه، ما كان يصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر أهله أو يترك غيره يصلي عليه.

حكم الصلاة على من قتل في حد

حكم الصلاة على من قتل في حد أما الذي قتل في حدٍ بأن أخذ قسراً، أو تقدم بتوبة إلى الله وإلى ولي الأمر وأقام عليه الحد، فهل يصلي عليه الإمام أم لا يصلي عليه؟ الجمهور أنه يصلي عليه، وهذه الغامدية لما جيء بها أول ما جاءت وهي حامل قال لها صلى الله عليه وآله وسلم (اذهبي حتى تضعي حملك) لأنه إذا رجمها مات الحمل، وما ذنب الحمل يموت في هذه الحال فذهبت، حتى وضعت الحمل ثم جاءت، فقال لها: (اذهبي حتى تفطميه) لأنها إذا أقيم عليها الحد فمن سيتولى هذا الطفل؟ فذهبت حتى فطمته، وجاءت به وفي يده كسرة خبز يأكل منها، قالت: قد فطمته، فأقام عليها الحد، فقال رجل كلمة بمعنى أنه ردها وجاءت وجاءت، فهذه تموت كميتة. ، قال كلمة ما كانت تناسب أن تقال، فقال رسول الله (مه! لقد تابت إلى الله توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وبعض الروايات (لو قسمت على سبعين رجلاً لوسعتهم، أتجد أكثر من أن تجود بنفسها لله؟!) قالوا: وصلى عليها. هناك من يقول: لا ينبغي أن يصلى على من مات في حد ولو جاء تائباً؛ لأن في ذلك تشجيعاً على الفعل، والآخرون ينظرون إلى الحالة ما كل من قتل في حد يتساوى مع الآخرين، فهذه جادت بنفسها وتركت حتى تضع الحمل ثم حتى ترضعه حولين كاملين، ثم بعد ذلك ما تركت، وكان يقول الراوي: وكنا نرى لو لم تأت لم يطلبها رسول الله إذاً: في مثل هذه الحالة طرفان: من كان آثماً في موته فلا يصلي عليه الإمام، ومن كان تائباً كهذه الغامدية فبعضهم يلحقها بالتائبين، وكأنه لا أثر لذنبها الأول، وبعضهم يقول: هذه قتلت في غير حالة عادية، أو في حد عليها، فيصلي عليها أهلها والله تعالى أعلم.

باب لا صلاة على من قتل نفسه

باب لا صلاة على من قتل نفسه .

مسألة: الصلاة على قاتل نفسه حيث أنه مازال مسلما

مسألة: الصلاة على قاتل نفسه حيث أنه مازال مسلماً وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه) رواه مسلم. هذا يبين عكس المتقدم (أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص) المشاقص جمع مشقص، وهو نوع من آلة الحديد، وجاءت روايات على أن رجلاً هاجر إلى المدينة فاجتوى هواءها ولم يصح، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقلني بيعتي يا رسول الله -لأنه كان قد بايع رسول الله على الإسلام- قالها مرتين أو ثلاث فلم يجبه، فذهب ووضع ذبابة السيف في صدره وقتل نفسه، فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم) وبعضهم يأتي برواية أخرى: أن رجلاً قاتل ثم قطع إصبعه، فتأذى فأجهد عليه فنزف فمات. كل هذه الحالات وكل هذه الروايات تبين أن من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام، ولكن لا يترك بدون صلاة؛ لأن قتل النفس لا يخرجه من عموم الإسلام، هو مسلم بصفة عامة، وحقيقة أمره مردها إلى الله. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن من قتل نفسه بآلة أو بسبب فهو يعذب بذاك السبب إلى يوم القيامة (من تجرع سماً فمات فهو يتجرعه إلى يوم القيامة من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يُوجأ بها إلى يوم القيامة)

الانتحار أو قتل النفس سببه ضعف في الإيمان

الانتحار أو قتل النفس سببه ضعف في الإيمان فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس -وكما يسمى: الانتحار- والإسلام ليس فيه انتحار قط، والمسلم الحقيقي لا يجد مأزقاً ينتحر فيه؛ لأن الانتحار إما لضيق معيشة، أو لنزول مصيبة، أو لفرار من عدو. وضيق العيش قد نفاه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] . ويذكرون أن أعرابياً كان يمشي فسمع قارئاً يقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فنحر ناقته وقسمها، ثم مضى بقية العام ثم جاء إلى مكة وعندما كان يطوف سمع ذاك القارئ مرة أخرى يقرأ تلك الآية وقرأ بعدها: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] فقال: أغضبوه فأقسموه، أغضبوه فأقسموه، وخر ميتاً! عظم عليه أن يسمع القسم من الله على أنه يرزقهم: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23] يعني: في السماء رزقكم حقاًَ فعندما سمع قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الذاريات:23] صعق عندما سمع هذا القسم بعد أن قال: أغضبوه فأحلفوه.

عدل الحاكم يساعد على تقليل أو إغلاق باب الانتحار

عدل الحاكم يساعد على تقليل أو إغلاق باب الانتحار إذاً: المسلم ليس عنده ضائقة رزقٍ يمكن أن ينتحر بسببها، وقد ضمن بيت مال المسلمين حصة للفقراء والمساكين بما يكفيهم، سواء كان من الزكاة، أو كان من الفيء من الغنائم وغيرها، بل يقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لو مات رجل وسط حي من الناس فاقةً وجوعاً، لحملتهم ديته؛ لأنه كان عليهم حقاً أن يطعمونه) . وعلى هذا ليس هناك انتحار بسبب ضائقة مالية. وما جعلت العدالة والخلافة والإمامة والسلطان إلا لتأمين الخائف وكذلك رفع الظلم. إذاً: يكون ضيق في النفس فقط، ولهذا إحصائيات العالم في الانتحار تحصى بالدقائق في أوروبا وفي أمريكا وفي غيرها. ومن فضل الله ولله الحمد والمنة حالات الانتحار في المسلمين أقل ما يمكن أن تكون نسبة، لماذا؟ لأن المؤمن من قواعد إيمانه الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن بأنه من عند الله، إذن هو يؤمن بأن قضاء الله ماضٍ، ويعلم بأن الله أعلم له بمصلحته، وعلى هذا لا يتفق أبداً انتحار مع إسلام، إذن لماذا يقتل نفسه؟ يكون في غيبة عن الإيمان، كما جاء الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لا يقتل، لا يشرب، لا يسرق وهو مؤمن، كأن الإيمان كما قال ابن رواحة: (الإيمان كالقميص تلبسه فإذا أنت خلعته. ] . وهكذا يكون الإيمان في وجوده مع الإنسان وفي يقظة ضميره مع الله، مستحيل أن يقدم على انتحار، أما إذا غفا هذا الضمير وغاب هذا الإيمان، وضعف هذا الوازع، هناك يفعل ما قدر له. والله تعالى أعلم.

باب الصلاة على الميت بعد دفنه

باب الصّلاة على الميت بعد دفنه .

حكم الصلاة على الميت في قبره

حكم الصلاة على الميت في قبره وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني، فكأنهم صغَّروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها) متفق عليه وزاد مسلم (ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) . فمن فاتته صلاة على الميت، هل يصلي عليه في قبره، وهل يصلى على الموتى في قبورهم أم لا؟ هذا عنوان المسألة، ولكن جاء المؤلف بهذه القصة، والتي تدل دلالة واضحة على أعلى وأقصى ومنتهى مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومنتهى رحمته ورأفته بالمؤمنين، في الحديث: امرأة سوداء، تقم المسجد، أي: تكنس المسجد، مرضت فافتقدها صلى الله عليه وسلم، ولذا فبعض الروايات تقول (وكان صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويتفقدهم، ويزورهم إذا مرضوا) فافتقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، ما هي امرأة تطعم المصلين، ولا تكسو العارين، ولا تفعل ولا تفعل، بل تقم المسجد، وفي الحديث (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وفي حديث (حتى القذاة ترفعها من المسجد) فهذه امرأة تقم المسجد، فمرضت، فافتقدها صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، قالوا: مريضة، قال: (إذا ماتت فآذنوني) أي: أعلموني بموتها، قالوا: فماتت ليلاً، فكرهنا إزعاج رسول الله من أجلها. فهنا تعارض العقل مع العاطفة، العقل يقول: امتثلوا الأمر: (آذنوني) ، والعاطفة تقول: لا تزعجوا رسول الله، فعدم إزعاجه أمر عاطفي ليس عقلياً، وإعلامه بموتها ولو في منتصف الليل، في الليلة المطيرة الباردة أمر عقلي امتثالاً للأمر، وكما يقال في ذلك: إذا تعارض العقل مع العاطفة حصلت الحيرة الشديدة، فقدموا جانب العاطفة؛ لأنهم لم يؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً واحتراماً وإراحة لرسول الله من عناء الليل، فدفنوها، فلما أصبح ما نسيها، فسأل عنها، قالوا: ماتت، قال: (أفلا كنتم آذنتموني، قالوا: كرهنا أن نوقظك ليلاً) فاعتذروا بالعاطفة. وهنا نجد أن رسول الله لم يعتب عليهم ولم يعنفهم، ولم يعاقبهم، ولم يجعل عليهم إثماً في عدم امتثال الأمر، بل عذرهم بتقديم العاطفة، ولكن ماذا يفعل علاجاً للواقع؟ فقد وقع أمر لم يكن يريد وقوعه صلى الله عليه وسلم، قال: (دلوني على قبرها) تداركاً لما فات، فدلوه على قبرها، فذهب إلى البقيع، ووقف على قبرها، وصلى عليها. هنا عنوان مسألة: الصلاة على الميت في قبره، والصلاة على الغائب، وهما مسألتان مقرونتان، أما الصلاة على الغائب فسيأتي للمؤلف صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي، يوم أن مات فنعاه لأصحابه، وخرج بهم وصلى عليه في يومه وهو في الحبشة، وأما الصلاة على القبر فبعض العلماء يقول: لا صلاة على القبر، وبعضهم يقول: يصلي مطلقاً بدون حد، وبعضهم يقول: إلى حدود الشهر، إن كان دفن وهو ممن يحب أن يصلي عليه، أو أنه دفن ولم يوجد من يصلي عليه، فدفن بدون صلاة، قالوا: إنه يصلى عليه في القبر، وإذا دفن بدون غسل أو كفن، وكان الوقت قريباً (قبل أن تتبدد الجثة) نبش وغُسِّل وكُفِّن وصلي عليه، وأعيد دفنه، أما إذا غسل وكفن، ولم يوجد من يصلي عليه، ثم دفن، فيصلى على قبره، بعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام قبل أن تتغير الجثة، وبعضهم يقول: إلى شهر، ويستدلون بفعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر. ثم زادت رواية مسلم عبارة تبيّن ميزة صلاته صلى الله عليه وسلم على الميت (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) وهذا من فضل دعائه صلوات الله وسلامه عليه للميت المقبور، فالله يستجيب دعاء رسوله، وينور القبر على صاحبه.

فوائد مستفادة من حديث الصلاة على المرأة التي كانت تقم المسجد

فوائد مستفادة من حديث الصلاة على المرأة التي كانت تقم المسجد الحديث من حيث هو يسوقه المؤلف رحمه الله دليلاً لجواز الصلاة على القبر، ثم فيه تكريم أهل الصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن شخصياتهم، ثم فيه عناية النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة المساجد، هذه ثلاث نقاط محل البحث في هذا الحديث: أولاً: تكريمه صلى الله عليه وسلم لأهل الخير وفعل الخير، فهذه امرأة من عامة المسلمين، يعنى بها صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في خبرها أنه افتقدها (فقالوا: إنها مريضة، فقال: إذا ماتت فآذنوني -أي: أعلموني- فماتت ليلاً، قالوا: فكرهنا أن نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفناها، فلما أصبح سأل عنها، قلنا: ماتت، قال: هلا آذنتموني؟ -يعني: كما أخبرتكم- فاعتذروا فقالوا: كرهنا أن نشق عليك ليلاً) وفي رواية (كأنهم تقالوا أمرها) يعني: لأنها امرأة من عامة الناس، ما هي من ذوات المناصب، أو الحسب، ولا يوجد من كبار الصحابة من ينتمي إليها فتكرم من أجله، فهي امرأة عادية، فبين أبو هريرة أن فضلها وعناية النبي بها إنما هو لذاك العمل الجليل الذي كانت تقوم به، وهو أنها تقم المسجد، أي: تجمع القمامة من المسجد، أي: تقوم بعمل الكناسين، وتنظف المسجد، ومن هنا كانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها. وفيه خدمة النساء للمساجد، ما لم توجد خلوة مع أحد من المصلين، وليس لها عمل أهم منه، فهي تقم المسجد، والمؤلف رحمه الله ساق الحديث لجواز الصلاة على القبر. أما العناية بالمساجد فقد تقدم في هذا الكتاب المبارك في أول باب المساجد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف) تلك هي العناية بالمساجد، بل قال صلى الله عليه وسلم (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) وقال (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في جدار القبلة في مسجد من المساجد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يحتها بطرف ردائه، وقال لهم لا يؤمنكم إمامكم هذا بعد اليوم) أي أنه عزل الإمام عن الإمامة؛ لأنه لم يراع حرمة المسجد، وبعضهم قال: لأنه تنخم وهو في الصلاة أمامه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يبصق أمامه في الصلاة، وقال (فإن الله تجاه وجهه، فليبصق تحت قدمه اليسرى) وقالوا: في المنديل أو في نحو ذلك. وقبل هذا كله جاء الأمر بذلك في كتاب الله، وذلك في موطنين: منهما قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أن ترفع، أي: حساً ومعنى، لأن رفعة البناء تدل على عظمته وتقديره، والعناية به، وانخفاض البناء يدل على تحقيره وعدم أهميته، وترفع معنوياً أيضاً بالذكر وبالعلم، وبالحفاظ عليها. والموطن الثاني في مقارنة بين البناء وبين الصيانة والحفاظ، ففي بيت الله الحرام يقول سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] يرفع إبراهيم: إسناد رفع القواعد من البيت لإبراهيم وإسماعيل جاء معطوفاً على إبراهيم كالمساعد؛ لأن إسناد رفع القواعد لإبراهيم وحده، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لكن في العناية وفي النظافة، وفي الرعاية؛ جاء إسناد ذلك لإبراهيم وإسماعيل معاً على المشاركة، {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:125] أي: وعهدنا إليهما معاً: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} [البقرة:125] بألف التثنية، فشرَّك بينهما في العناية بالبيت الحرام في تطهيره من الأرجاس، ومن الأصنام، ومن الأوساخ، إلى آخره. ومن هنا يتضح لنا أن العناية أهم من البناية، لأن البناية تقام مرة واحدة، فهذا المسجد النبوي الشريف، وجدنا هذه البناية الفخمة الضخمة العظيمة، انتهى أمرها بتكاليفها وميزانيتها، وبقيت الصيانة والعناية، فالبناية مرة واحدة أياً كان المشروع؛ محطة تصفية -أي تحلية المياه-، محطة توليد الكهرباء، فإذا انتهت إقامتها بقيت العناية والرعاية بها، مدة تشغيلها طول عمرها، إذاً: العناية والرعاية لكل مشروع أهم من إنشائه، فكان هنا {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا} [البقرة:125] أي: فهذه رعاية البيت أسندت إليهما معاً. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالمساجد، بل كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل خاص يجمر المسجد، أي: يأتي بالمجمرة وفيها الجمرة، وعليها العود، ليطيب بها المسجد، وكان هذا الأمر معمولاً به إلى عهد قريب حضرناه، ولا يزال حتى الآن يوم الجمعة، وكان يعهد به الأمير في رمضان في صلاة التراويح، ويطيب المسجد بالعود ويجمر. إذاً: هذه المرأة لكونها تقوم بهذا العمل، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو حمراء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عني بها وكرمها، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] كرمها بحسن عملها، وبعنايتها ورعايتها للمسجد في أنها كانت تقمه، هذا من جانب تكريمها. الجانب الثاني: الصلاة على قبرها، من الناحية الفقهية نجد العلماء قد يختلفون: هل يصلى على القبر بصفة عامة أم لا؟ فأول الأقوال: لا يصلى، والذين قالوا: لا يصلى استدلوا بالزيادة التي زادها مسلم (فإن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) فقالوا: (بصلاتي) هذه خاصة به صلى الله عليه وسلم، وليست صلاة كل إنسان ينور الله بها قبر من صُلِّي على قبره، والمجيزون قالوا: لقد ذهب معه أشخاص وصلوا معه، فهذه صلاة غير رسول الله من أصحابه معه، فقال المانعون: التابع ليس كالأصيل، هم تبع لرسول الله، والمجوزون قالوا: لو أنه لا يجوز أن يصلى على القبر لبيَّن صلى الله عليه وسلم وقال: لا تفعلوا أنتم، كما جاء في بيان الخصوصيات، فالذين قالوا: يصلى قالوا: لفعله صلى الله عليه وسلم ولتقريره هذا، وهو يعلم أنهم يرونه ويشاركونه في الصلاة، ويتأسون بفعله صلوات الله وسلامه عليه. ثم اختلفوا: إلى متى يصلي، فبعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام، وجاء أيضاً (أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبر رطب فصلى عليه) يعني: مدفون حديثاً، ولا يزال ترابه طرياً، وقوم قالوا: إلى شهر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن أم سعد توفيت وهو غائب، فلما قدم صلى عليها صلى الله عليه وسلم بعد دفنها) قيل: بشهر. إذاً: الحديث جيء به لبيان الأحكام من حيث جواز الصلاة على القبر، فهناك من يمنع ويقول: هذه خصوصية، ولكن دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، والمجوزون يختلفون، فمنهم من يقول: إلى ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: إلى شهر، والبعض من يقول: ما لم يترب، أي: ما لم يصر تراباً. فالجمهور على جواز الصلاة على القبر، ويختلفون في المدة التي يمكن أن يصلى فيها، والكلمة المجملة أن يقال: ما دام يغلب على الظن أن الميت لم يتفسخ.

كتاب الجنائز [7]

كتاب الجنائز [7] مسألة نعي الميت لها حالات منتشرة بين الناس: فهو إما لتجهيزه والصلاة عليه، وإما للصلاة عليه فقط، وإما للمباهاة والمفاخرة بهذا الميت، وإما نوحاً عليه وتفجعاً وندبةً، وفي هذه المادة بيان هذه المسألة وما يتعلق بها

باب كراهية النعي

باب كراهية النعي

حكم نعي الميت

حكم نعي الميت وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان ينهى عن النعي) رواه الترمذي وحسنه.

أنواع النعي والجمع بين النهي والفعل

أنواع النعي والجمع بين النهي والفعل يلاحظ في هذا دقة العلماء وأن فن التأليف ليس مجرد جمع نصوص! ففي هذا الحديث كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، وبعده مباشرة يأتي المؤلف بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى، فقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم موت النجاشي، فكيف ينهى عن النعي، وكيف نعى؟! وهذا كما أشرنا سابقاً فيما يظهر ذلك بدقة أكثر في الموطأ وصنيع الإمام مالك في الموطأ في إيراد الأبواب يفسر بعضها بعضها، فهنا اتفق الجميع. ما هو النعي؟ قالوا النعي: خاص بالإخبار عن الميت، مات فلان، ثم يقول ابن عبد البر: النعي على ثلاثة أقسام: نعيٌ لمجرد إخبار أهل وأصدقاء الميت من أجل القيام بواجبه من تجهيزه والصلاة عليه والدعاء له ودفنه، فهذا لا بأس به. ونعي للمكاثرة والمفاخرة وأن يذهب أشخاص إلى الأسواق أو إلى غير ذلك، ويعلنون موت فلان، فهذا للمكاثرة والشهرة والكثرة، وهو لا يجوز. ونعي كنعي الجاهلية: يا سندنا يا سيدنا يا صفوتنا يا كذا، ويصفونه بصفات أكثرها زور وبهتان، فهذا من النعي المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: النعي إخبارٌ بموت الميت، هذا الإخبار إن كان لمجرد الإعلام بموته عند ذويه وأقاربه وأصدقائه، ومحبيه ليشاركوا في مصالحه: من تجهيز ودفن وصلاةٍ عليه، ودعاء له، فهذه سنة، وما عدا ذلك فهو داخل في النهي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن النعي، نعى النجاشي لأصحابه. إذاً بهذين النصين واقترانهما نجد أن هناك نعياً منهياً عنه، ونجد هناك نعياً واقعاً بالفعل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يجتمع النهي والفعل، كما أن السلب والإيجاب لا يجتمعان؛ لأنهما نقيضان لا يجتمعان. إذاً النعي المنهي عنه: ما كان فيه من صفات الجاهلية. والنعي المثبت المشروع هنا: ما كان من حق الميت وفي مصلحته، ثم إن العلماء ذكروا ناحية أخرى وهي أن الميت إذا نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإذا وضع في القبر أتاه الملكان يعذبانه ويقولان: أأنت كذا؟ ويضربانه، فيقول: أنا ما قلت، كما جاء عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: (أنه مرض فأغشي عليه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعاده وقال: اللهم إن كنت جعلت له بقية في العمر فعافه، وإن كنت كتبت له كذا فسهل عليه، فتعافى وصح وقال: يا رسول الله! أمي كانت تقول كذا أو أختي كانت تقول كذا، فكنت أعذب على ذلك. من هنا قالوا: من نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإنه يعذب بهذا النعي، فقيل: وما ذنبه وإنما كان النعي من الآخرين، فأجابه: أنه إذا كان يعلم من طبيعة أهله أنهم يفعلون ذلك، فوجب عليه أن يحذرهم، وأن يمنعهم في حياته كما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا مت فلا تنعوني أي كنعي الجاهلية، فإذا كان يعلم من حالهم أنهم يفعلون شيئاً من ذلك، وأوصاهم أن لا يفعلوا وقال: أنا لا أقبل ذلك، برئت ذمته، ومن فعل أقاربه شيئاً من ذلك بعد هذا فعلى أنفسهم، ويكون هو قد خرج من العهدة.

نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه

نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه نأتي إلى الحديث الثاني وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه في اليوم الذي مات فيه) وعرفنا بأن نعي النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجرد الإعلام ولا شك، والنجاشي كان في الحبشة وهم بالمدينة، لا توجد هواتف ثابتة ولا جوالة ولا وسائل إعلام حديثة، لم يكن إلا الوحي، ولم يكن إلا المعجزة، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يقع لبعض صالحي الأمة، كما وقع لـ عمر حين قال: (يا سارية الجبل) وإن كان بعض الناس، يطعن في هذه القصة وفي الرواية ويرتب عليها أشياء لا طائل تحتها، بل قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم كشف له ما بينه وبين الحبشة. نقول: الرسالة والنبوة والأمور الغيبية، لا نتدخل فيها، ويكفي أن نثبت الخبر، وقد جاء في غزوة مؤتة، وكان ثالث الأمراء ابن رواحة وذلك لما أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، وأميرهم زيد بن حارثة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أصيب: فـ جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فـ عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليختر المسلمون رجلاً منهم) ثم كشف الله له عن سير المعركة في يومها، فجلس على المنبر ثم قال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم قال: أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم قال: أخذ الراية عبد الله وصمت، فلما صمت شك أو توهم الأنصار أنه وقع بـ ابن رواحة ما يكرهون، ثم أعاد وقال: أخذ الراية عبد الله بن رواحة فأصيب) فكان أشد إيلاماً على الأنصار في هذه الواقعة. فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي أخذها أصيب ثم أخذها فلان، وجاء في ترجمة ابن رواحة أيضاً، وفي قصة مؤتة أن رجلاً جاء بخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخبرتنا، وإن شئت أخبرتك بالواقع، قال: أخبرنا يا رسول الله! فذكر له ما وقع بالفعل، فقال: والذي بعثك بالحق: ما غيرت حرفاً واحداً مما وقع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: الآن أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله ألا وهو خالد بن الوليد يفتح الله عليه أو يفتح الله إليه) يهمنا بأن الله سبحانه وتعالى يفعل لرسوله ما يشاء، وقد يلهم إنسانٌ عن أمر بعيد عن الواقع، ويكون حقاً، هذه أمور بعيدة عن الحس، وليس للعقل فيها تحكم، ولكن الأمر للواقع الفعلي. فهنا نقول: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي لأصحابه -أي أعلمهم بموته- والنجاشي كما يقولون، لقب مُلك، وليس لقب شخص، فكل من حكم الحبشة يسمى (نجاشي) . وكان نجاشي الحبشة آنذاك اسمه أصحمة وقيل بالحبشية معناه: عطية، وقيل: ألفاظٌ أخرى، وقيل: كل من ملك الروم قيصر، وكل من ملك الفرس كسرى، وكل من ملك القبط في مصر فرعون، وكل من ملك مصر في غير القبط يسمى العزيز وكل من ملك اليمن يسمى تبعاً، وهكذا ألقاب للملوك وليس للشخص بذاته. فـ النجاشي في ذلك الوقت كان لقب ملك الحبشة، فمن كان قبله يسمى نجاشياً، ومن كان بعده يسمى نجاشياً، كما هو معروف عند الناس في كسرى وقيصر. بقي عندنا ما يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن هذا النجاشي في ذلك الوقت، تجدون في منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار تأتي روايات (مات اليوم رجلٌ صالح بالحبشة) وفي رواية أخرى (إن أخاكم النجاشي قد مات) فوصفه بأنه كان رجلاً صالحاً، وسماه أخاهم. وكونه يخرج ويصلي عليه، فهل النبي يصلي على مسلم أم على غير مسلم؟ هذا أكبر دليلٍ على أن النجاشي رضي الله تعالى عنه أسلم وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد نذكر ما كان من شأنه في السيرة النبوية، بأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع لما اشتد الأمر على المسلمين بموت عمه وبموت زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت تسمى سنة الشدة، أو عام الحزن، واشتد حزنه صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه بعض من كان لا يتجرأ في حياة عمه، وخرج إلى الطائف ثم رجع ثم قال لأصحابه (إن بالحبشة ملكاً عادلاً، أرى أن تهاجروا إليه لا يضام أحد في جواره) فقال: (ملكاً عادل) لأنه آنذاك، لم يبلغه خبر رسول الله، وفرقٌ بين كلمة (عادل) وبين (عدل) ؛ لأن العادل الذي يعدل في حكمه ويعادل بين المتساويين، وذلك مأخوذ من العِدْلة، والعِدْلة هي ما يكون في أحد شقي البعير، عِدلة عن اليمين وعِدلة عن اليسار، فإن تعادلت العدلتان في الوزن والثقل، وكان الحمل معتدلاً استراح البعير، وإن كانت إحدى العدلتين ثقيلة مال وكان البعير تَعِباً في هذا الحمل. فالعادل يصدق على كل من عدل في الحكم، وكما هي كلمة عمر رضي الله تعالى عنه: لما بلغه أن عامله في مصر، أخذ دار امرأةٍ حينما أراد أن يبني الفسطاط، وجاءت واشتكت إلى عمر إلخ، كتب إليه كلمة ونصف فقال: (نحن أحق بالعدل من كسرى) المرأة تعجبت، هذا صاحب الهيمنة وصاحب كذا، يعطي هذه الرقعة وفيها هذه الكلمة، ماذا عساها أن تجدي؟!! وكانت تستثقل رحلتها من وإلى مصر، فلما وصلت وأعطتها إياه، وضعها على رأسه، وأمر العمال أن يهدموا كل ما بنوه على أرض المرأة، وأمر أن يقيموا لها بيتها على أحسن ما كان، قالت: واعجباً أميرهم هناك، وبهذه الرقعة يفعل كذا، والله هؤلاء الناس على حق!! وأسلمت! فنحن يهمنا قوله: (نحن أحق بالعدل من كسرى) . إذاً: العدل صفة في الملك لمن أراد دوام ملكه، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) . إذاً ملكٌ عادل: وهذا من عقلاء الملوك، فأشار النبي على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليه، فلما هاجروا أرسل أهل مكة بعد بدر للذين هاجروا إلى الحبشة ليثأروا لقتلى بدر، وأرسلوا عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وصديقاً للنجاشي في ذلك الوقت، أرسلوه بهدايا، فجاءه وسجد له على ما كان يتعامل معه، وقال: يا أيها الملك! إن أُناساً منّاً فارقوا ديننا ودين آبائهم، ولجئوا إلى بلادك وليسوا على دينك، وقد أرسلنا قومهم إليك لتردهم إلى قومهم، فقال: ما كان لي أن أرد قوماً اختاروني على غيري حتى أدعوهم وأسمع ما عندهم، وأعرف ما لديهم، فدعاهم، وكان جعفر رضي الله تعالى عنه، هو خطيب القوم. وقال: لا يتكلم أحدٌ غيري، فلما دخلوا على النجاشي وعمرو بجانبه، لم يسجد للملك، فقال: انظر! لم يسجدوا لك كما نسجد، -بأسلوب فيه إثارة- فقال النجاشي: ما لك لا تسجد كما يسجد القوم؟ قال: أيها الملك! نحن لا نسجد إلا لله، قال: وما ذاك، قال: كنا في جاهليةٍ جهلاء يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل كذا، ونفعل كذا -وعدد المنكرات- ثم قال: فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة الله وحده وبالصدق، وبالأمانة وصلة الأرحام و. و. إلخ. وجد النجاشي كلاماً حسناً، كما قال دريد بن الصمة لما أرسل ولده من الطائف إلى مكة انزل وأتني بخبر هذا الرجل، فرجع إليه وقال: والله إنه ليأمر بالصدق وبأداء الأمانة وصلة الأرحام وكذا وكذا، قال: والله يا بني! إن لم يكن ديناً فهو مكارم الأخلاق. فهذا قول رجل جاهلي، فكذلك النجاشي سمع كلاماً حسناً فغاظ عمرو بن العاص، وقال: اسأله ماذا يقولون في مريم وابنها عيسى. انظروا يا إخوان! الأعداء كيف يكيدون للمسلمين، وكيف يثيرون الشبه، ليحرضوا عليهم أعداءهم، فسأله، فقال: أيها الملك! نقول ما قال الله فيه، قال: وماذا يقول الله فيه؟ فقرأ عليه مطلع سورة مريم ثم قال: نقول فيه: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم. إلخ. فما كان من النجاشي إلا أن أهوى إلى الأرض، وأخذ عوداً ثم قال: والله ما زاد صاحبكم على عيسى ومريم مثل هذه القشة على ما جاء في التوراة والإنجيل. ومن هناك دخل الإيمان في قلب النجاشي، ثم قال لبطارقته: ردوا عليهم هداياهم، لا حاجة لي في هداياكم -أي: هدايا كفار قريش-، فإن الله لم يأخذ مني الرشوة على أن رد لي ملك أبي، وكانت له قصة مع أبيه ومع أخيه، ثم قال لـ جعفر وأصحابه: سبحوا في بلادي لا يؤذيكم أحد، من اعتدى عليكم كأنه اعتدى عليّ، فصاروا آمنين. بعد فترة فإذا بـ عمرو يأتي إلى النجاشي مرةً أخرى، ويدخل رجل مُرسَل بكتاب من رسول الله إلى النجاشي، يشكره على ما صنع بالمسلمين، فذهب عمرو مع أصحابه ودخل على الملك، أو كانوا فروا من مكة لما سمعوا بالنصر في بدر، ولما سمعوا بظهور الإسلام، قالوا: نذهب عند النجاشي ليس لنا طريق إلا هو، ضاقت بنا الأرض، واجتمع عدد من الصحابة فراراً بالإسلام عند النجاشي يعيشون في ظل ملكه، فرأى عمرو هذا الرسول، فدخل على النجاشي وقال في نفسه: (لئن طلبت هذا الرجل من النجاشي أضرب عنقه، لرأت قريش أني صنعت شيئاً) ، فدخل على النجاشي، وقال: أيها الملك! أطلب منك أن تعطيني هذا الرجل أضرب عنقه، لترى قريش أني فعلت لها شيئاً! يقول: فما كان منه إلا أن صكني على وجهي، حتى سال الدم من أنفي ولطخ ثيابي، ثم كأنه أسف على ذلك، ثم قال: أتطلب مني رسولَ رسول الله الذي يأتيه الناموس من السماء، قال: أيها الملك! أتعلم بأنه رسول الله؟ قال: يا عمرو! والله إنه لرسول الله، ولينصرنه الله كما نصر موسى وعيسى قال: يا أيها الملك! أتبايعني على الإسلام له، قال: نعم، فبسط النجاشي يده وب

صلاة الجنازة على الغائب

صلاة الجنازة على الغائب ومن فقه الحديث: هل لنا أن نصلي على الغائب أم لا؟ يقولون في الصلاة على الجنازة: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) والجنازة أمامنا وبين أيدينا، فإذا كان غائباً كيف نصلي عليه بالنية أو بالقصد؟!! فهناك من قال: لا يصلى على غائب، وهناك من قال: يصلى؛ لصلاته صلى الله عليه وسلم، وهناك من قال: هذه الصلاة خصوصية لماذا؟ قالوا: لأن الله لما كشف لرسوله موت النجاشي، كشف له عن جنازته، فلكأن النجاشي بين يديه وهو يكبر ويدعو له. والآخرون يقولون: والذين خرجوا معه، وصفوا خلفه، وكبروا وصلوا على النجاشي هل كانوا يشاهدون الجنازة؟ ما كانوا يشاهدونها، وإنما صلوا تبعاً له، ومن هنا يختلفون في الصلاة على الغائب. فبعض العلماء قال: إذا مات إنسان في بلد، ويغلب على الظن أنه لا يوجد فيها من يصلي عليه، ودفن بغير صلاة، صلينا عليه، ولكن وجدنا ذلك كما يقول الآخرون مدفوعاً، بأن لا تخلوا الحبشة من بعض المسلمين، وكذلك أيضاً ما دام قد فعل صلى الله عليه وسلم، ولم يخصص ذلك وذكروا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى على معاذ بن مقرن أو فلان، وهو في تبوك، والميت في المدينة، والحديث تكلم عنه ابن كثير بضعف؛ لأن جبريل أتاه وقال (إن فلاناً قد مات، فأسف عليه، قال: هل لك أن تصلي عليه؟ قال: بلى، فقال: بيده هكذا، وفرج له ما بينه وبين المدينة، فصلى عليه وهو يرى جنازته) . فقالوا: هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، والجمهور على جواز الصلاة على الغائب، وأخذاً من هذا الحديث ومن فعله صلى الله عليه وسلم.

من صلى عليه أربعون رجلا موحدا يشفعون فيه

من صلى عليه أربعون رجلاً موحداً يشفعون فيه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواه مسلم. بدأ المؤلف يتجه إلى الصلاة على الجنائز، وبدأ ببيان فضل العدد الذين تتاح لهم الفرصة في الصلاة على الجنازة. أولاً: هذا الحديث (ما من رجل يصلي عليه أربعون رجلاً ... ) جاءت روايات متعددة في هذا المعنى: (لا يشركون بالله شيئاً) وجاء: (مائة رجل) وجاء: (صلى عليه أمة يبلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف) ومن هنا استحب بعض العلماء: إذا كان العدد قليلاً أن يقسمهم الإمام إلى صفوف ثلاثة، ولو كان الصف شخصين فقط، لتعدد الصفوف على رواية ثلاثة صفوف، وجاء: (وصلى عليه أربعة من جيرانه الأدنين) وجاء: (صلى عليه أربعة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أو ثلاثة؟ قال: أو ثلاثة، قال: أو اثنان؟ قال: أو اثنان، يقول: وسكت أن أسأله عن الواحد) فهذه النصوص، جاءت أن من صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً أو مائة رجل أو أربعة رجال؛ يشهدون له، أو يشفعون فيه، إلا شفعهم الله فيه، وشفاعتهم فيه قالوا: يخلصون له الدعاء، فيدعون له بالمغفرة، وبحسن الجزاء إلخ، بنية خالصة، وبقصدٍ طيب بأن الله سبحانه وتعالى يغفر له، وبعضهم يقول: يشفعون، أو يشهدون له بالثناء عليه خيراً، وورد (بأن جنازةً مرت، فأثنوا خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، وقيل: قالها ثلاث مرات، وجبت، وجبت، وجبت ومرت جنازة أخرى، فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، وجبت، وجبت، فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟! قال: وجبت الجنة بالثناء عليه، ووجبت النار بذمه، أنتم شهداء الله على خلقه) وبعضهم يقول: هناك رواية الله أعلم بصحتها: (إن لله ملائكة تنفث على ألسنة الخلق بما تشهد به) كل هذه الروايات متكلم فيها، ولا ينبغي تعمد قول: ماذا تقولون؟ أو على ماذا تشهدون؟ لأن هذه أمور فيها إحراج، ولا ينبغي ذلك، إنما يكون عفوياً إذا اجتمع جماعة، وصلوا على ميت، وأخلصوا الدعاء له، هم بأنفسهم كانوا شفعاء له عند الله بدعواتهم وصلاتهم عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع أو ما صلى أربعون رجلاً على مسلم، أو على ميتٍ، لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) وعلى ما تقدم من أن العدد ليس قاصراً على الأربعين ولا على المائة، وبعض العلماء يقول: هذا عدد لا مفهوم له، يعني: ليس له مفهوم مخالفة، فلو جاء عدد مائة ونقص واحد أو عشرة وصاروا تسعين، لا نقول إن هذا يبطل العدد، لا. وبعضهم يقول: إن تلك الحالات أجوبة عن أسئلة قد صدرت. بمعنى واحد يسأل: يقول: يا رسول الله! رجل صلى عليه أربعون رجلاً، أيشفعون فيه؟ قال: نعم. ثم جاء رجل آخر وقال: رجل صلى عليه مائة رجل يشفعون فيه؟ قال: نعم. يعني لم يكن ذلك ابتداءً وتحديداً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كانت أسئلة، والأسئلة مختلفة، تارةً يسأل عن أربعين، وتارةً يسأل عن أربعة، وتارةً يسأل عن مائة، وفي كلٌ يجيب: بنعم يشفعون فيه. والله تعالى أعلم.

كتاب الجنائز [8]

كتاب الجنائز [8] الصلاة على الجنازة حق من حقوق المسلم على أخيه المسلم، لكن لهذه الصلاة أحكام وسنن كثيرة ينبغي على المسلم استكمالها، حتى يحوز الأجر ويفوز بالفضل

باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه

باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسْطها) متفق عليه. هذا شروع في كيفية الصلاة على الجنازة، وذلك أن الميت إما أن يكون رجلاً أو امرأة أو أن يكون عدد من الموتى رجالاً أو نساءً، أو رجالاً ونساءً، فأين يكون موقف الإمام من الجنازة إن كانت واحدة رجلاً أو امرأة؟ وكيف توضع وترتب الجنائز إن اختلفت وتعددت، هنا يقول: (صليت وراء النبي على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها) الوسْط بالتسكين للمحسوس، والوسَط بالحركة للمعنوي، خير الأمور الوسَط، تقول: جلس فلان وسْط الدار، جاء يمشي وسْط رجلين، فبالتسكين للمحسوس، وبالتحريك للمعنوي، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم في وسْطها، لم يقف عند رأسها، ولا عند قدميها، بل في الوسْط، وهذه هي: سنة الموقف عند الصلاة على المرأة. وإذا كان الميت رجلاً فإنه يقف عند كتفيه، أو في الجانب الذي يلي الرأس وليس في الوسْط، وإذا كان هناك جنازات متعددة، فإن كانوا رجالاً جعلوا الأفضل مما يلي الإمام، وقال قوم: الأفضل يقدم إلى القبلة، كما جاء: (قدموا أكثرهم أخذاً للقرآن) في دفنهم في القبر. وإذا كان هناك رجال ونساء فإنهم يجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة، هذا مجمل ما في المسألة، وسيأتي له تتمة إن شاء الله في ترتيب الصلاة على الجنائز المتعددة. هناك صورة تكلم عنها صاحب وفاء الوفاء، وهو إذا تعددت الجنائز هل نرصهم بالطول، بحيث يكون رأس هذا عند رجلي ذاك، أو نرصهم يميناً ويساراً إلى عرض المسجد، أو نرصهم شمالاً وجنوباً هذا بجانب هذا، ورأس هذا محاذاة لرأس ذاك، وأقدام هذا محاذاة لأقدام ذاك؟ الذي عليه الجمهور أنهم يرصون الأول والثاني مما يلي القبلة في عرض واحد وتكون رءوسهم متساوية من جهة الرءوس، وأقدامهم متساوية من جهة الأقدام، لا أن يمددوا الواحد تلو الثاني إلى اليمين واليسار. وهناك تتمة لكيفية وقوف الإمام بالنسبة للرجل، وهو أن يكون عند صدره، وهذه المسألة لها صور بالنسبة للواقع مختلفة؛ لأن الجنازة إما أن تكون واحداً: رجلاً أو امرأة، أو متعددة رجالاً أو نساء، أو متنوعة رجالاً ونساء، فإذا كانت الجنازة واحدة فالمرأة يقف الإمام وسْطها، والمصلون يصفون من وراء الإمام، والقاعدة يا إخوان! بهذه المناسبة أن صفوف الصلاة في الجماعة تبنى وتنشأ من خلف الإمام مباشرة، ثم تمتد من اليمين ومن اليسار، لأننا ربما نجد بعض الإخوان في صلاة الجماعة (الصلاة العادية) يصفون من طرف الصف من الميسرة أو من الميمنة، وهذا خطأ، وصحة بناء الصف الجديد أن يبدأ من خلف ظهر الإمام، ثم يمتد يميناً أو يساراً، وهكذا في صلاة الجنازة، الإمام يقف في الموضع الذي بيَّنه الفقهاء ابتداءً من هذه المرأة، يقف وسْط المرأة والمصلون يصفون وراءه يميناً ويساراً. وتقدم بأنه كلما كثرت الصفوف، ولو لم تكن مكتملة إلى النهاية، فهو أفضل بالنسبة للجنازة، أما الصلوات الخمس فأتموا الصف الأول فالأول. فالحاصل في الوقوف على الجنازة أن المرأة يوقف عند وسطها، والرجل عند صدره، فإن كانوا رجالاً متعددين، فمهما كان العدد فيصلى عليهم صلاة واحدة بأربع تكبيرات، ولكن كيف يُصَفون أيُصَفون تباعاً من القبلة إلى الإمام ويتأخر الإمام إلى الوراء؟ أم يُصَفون سلسلة، بحيث يكون رأس كل واحد عند قدمي الآخر، ويمتدون يميناً ويساراً بالنسبة للإمام؟ الذي عليه الجمهور أنهم يرصون تباعاً، يبدأ بالأول من جهة القبلة ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ويكون الإمام عند الأخير منهم، وتتحاذى رءوسهم وأقدمهم، ويصلي على الجماعة كما يصلي على الواحد أربع تكبيرات على ما سيأتي، ويقف أيضاً عند محاذاة صدر الأخير في الرجال، وإن كن نساء كان الوضع أيضاً تباعاً، ويقف وسْط المرأة الأخيرة، هذا إذا كان الجنس واحداً. فإذا كانت الجنائز رجالاً ونساءً، فالجمهور يقولون: يقدم النساء إلى القبلة، أي: يبعدن عن الرجال، ويكون الرجال وراء النساء مما يلي الإمام، فالنسوة يقدمن إلى القبلة، والرجال يكونون حاجزين بين جنائز النسوة وبين الإمام والمصلين. وبعضهم يقول وهو خلاف الجمهور: العكس؛ لأن الرجال أفضل، فيقدمون في الصلاة، ولكن المسألة ليست بالأفضلية، لأننا نظرنا المغايرة في الموقف بين الرجل والمرأة، ولم ننظر في الأفضل. إذاً: ما قاله الجمهور هو السنة المتتابعة أو المنقولة، وعليها عمل الجماهير. فإذا وجد طفل فأين يوضع؟ قالوا: إذا وجد طفل دون السابعة فإنه يوضع مع تلك الجنائز؛ سواء مع امرأة أو مع رجل، فإن كانت هناك امرأة والطفلة أنثى فتوضع مع المرأة على خشبتها (على جنازتها) وإن كان الطفل ذكراً، وكان الميت رجلاً وضع مع الرجل على جنازته، وإن كانت امرأة وحدها ويوجد طفل وكان صغيراً وضع معها على الخشبة التي هي عليها، وكان تبعاً لها في الصلاة. هذا هو ترتيب وضع الجنائز في صلاة الإمام عليها، واحداً أو واحدة، أو جماعة ذكوراً أو إناثاً، أو كانوا من الجنسين معاً. والله الموفق.

باب الصلاة على الجنازة في المسجد

باب الصلاة على الجنازة في المسجد وعن عائشة رضي الله عنها قالت (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني نيضاء في المسجد) رواه مسلم. هذا الحديث الذي تقسم عليه عائشة رضي الله عنها، ونحن نعلم في سر البلاغة في العربية أن من أساليب الكلام: الأسلوب الابتدائي، والأسلوب الإنكاري، والأسلوب الطلبي، فالأسلوب الابتدائي مثلاً: إنسان يكون له شخص غائب -كأخيه مثلاً-، ويكون جالساً تقول له: جاء أخوك؛ لأنه ليس منكراً لمجيئه، ويترقب الخبر عن مجيئه، تقول: جاء أخوك، وتلقي إليه الخبر بدون عوامل تأكيد، لكن إذا كان هو يشك: هل أخوه يأتي أو لا يأتي، تقول له: لقد جاء أخوك، إذ إن كلمة جاء أخوك لا تكفي، فلذلك تزيد في أسلوب التأكيد ما يعادل التشكيك الذي عنده فتقول: لقد جاء أخوك، باللام و (قد) فإذا استبعد ذلك وقال لك: لا أبداً، أنا عندي خبر أنه لن يأتي، فإنك عندئذٍ تقول له: والله لقد جاء أخوك، وتزيد التأكيد بالقسم. إذاً: القسم لا يأتي ابتداءً؛ لأن هذا ليس من أسلوب البلاغة العربية. هناك ناحية أخرى كما يقولون: إذا نُزل غير المنُكِر منزلة المنكر، أو العكس، وهذا فن في البلاغة ليس لنا حاجة للانشغال به الآن، فهنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأتينا بالجملة الخبرية ابتداءً مقدمة بالقسم، إذاً: لابد من وجود شيء قبل ذلك حملها على أن تُقسم هذا القسم!! وهو أن أصل هذا الحديث أنها قالت لما توفي سعد رضي الله عنه: (مروا به على المسجد لأصلي عليه) فأنكروا عليها، كونهم يدخلون الميت المسجد، فقالت: والله، أي: أقسمت، ترد على المنكرين طلبها إدخاله المسجد.

حكم الصلاة على الجنازة في المسجد

حكم الصلاة على الجنازة في المسجد وهنا يأتي البحث: هل يصلى على الجنائز في المسجد أو خارج المسجد، أو عند المقبرة، أو في بيته حيثما جهز؟ إذاً: حديث عائشة رضي الله عنها في تحديد أو تعيين أو بيان مكان الصلاة على الجنائز، ويذكر العلماء في أصل هذه المسألة كما أشرنا سابقاً، وقد يكون من زمن طويل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة كان في بادئ الأمر يتفقدهم، وإذا مرض إنسان يسأل عنه ويعوده، فإذا احتضر رغب أن يحضر تجهيزه، ويصلي عليه في بيته، ويحملونه من بيته مجهزاً ومصلىً عليه وينطلقون به إلى البقيع، فكانوا إذا احتضر الشخص آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي ويحضر، وتتم المهمة، ويُحمل ويتبعه من يتبعه إلى البقيع، فلما كثر مثل ذلك قالوا: إننا نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤاذنه على جميع موتانا، فالأولى أن نصبر حتى نجهز الميت ونذهب به إلى رسول الله ليصلي عليه هناك دون أن نكلفه المجيء، وقد يكون نزول الموت في الليل أو غير ذلك، فاتفقوا على هذا. وكلكم يعلم ما يسمى بفرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، وهو الحوش الصغير الذي ما بين باب جبريل وباب البقيع الذي فتح مؤخراً، هناك حوش صغير يمتد من باب جبريل إلى الجنوب بجوار المسجد، خارج المسجد -تلاحظون هذا أم لا- هذا قديماً كان يسمى فرش الحجر؛ لأنه مفروش بالحجر المنحوت، فكان هذا الحوش هو مصلى الجنائز، وكان شرقي الحجرات ملاصقاً لها، وليس كالوضع الحالي الآن، والحجرات كانت في السابق جدار الحجرات هو جدار المسجد من الشرق، والطرقة الموجودة الآن ما بين الحجرات، والجدار الذي فيه باب جبريل وباب البقيع ما كانت هذه الطرقة موجودة، إلا بعد ما وقعت قضية الأعاجم الذين جاءوا وأرادوا أن ينقلوا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصتهم طويلة في السيرة وفي تاريخ المدينة. فلما حفروا حول القبور الشريفة، وصبوا الرصاص حولها، وأمنوا في ذلك جعلوا هذه الطرقة؛ لأن الذين جاءوا نزلوا في رباط كان ملاصقاً لجدار الحجرات من الجهة الشرقية، فنزلوا في ذاك الرباط، وحفروا في مكانهم، وبعمق حتى وصلوا إلى مستوى القبر الشريف، وهناك أُنذر الخليفة العثماني، ورأى في النوم. إلى آخر القصة الطويلة، فلما عمروا المسجد بعد ذلك جعلوا هذه الطرقة لئلا يتوصل إنسان بعد ذلك بأن يحفر بجوار الجدار، ويأتي إلى الجثمان الطاهر الشريف. إذاً: تكون الطرقة مانعة من إمكان الوصول كما وصل أولئك في السابق. فكان مصلى الجنائز، وفرش الحجر ملاصقاً لجدار الحجرات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جيء بالجنازة خرج إليها وصلى عليها في هذا المكان.

حكم إدخال الجنازة إلى المسجد

حكم إدخال الجنازة إلى المسجد وهنا اختلفوا في صلاة الجنازة على الميت في المسجد، فقالوا: كان يصلي عليها خارج المسجد، وهذا مصلى الجنائز معروف، والطريق الذي كان قبلي المسجد في المدينة سابقاً يسمى درب الجنائز، يعني: طرق مجيء الجنائز من أطراف المدينة، وتأتي إلى أن تأتي إلى الشرق وتأتي إلى المصلى -مصلى الجنائز الموجود حالياً- فهنا الناس منهم من يقول: لا يدخل الميت المسجد، وهناك من يقول: لا مانع من دخول الميت المسجد. الذين منعوا الدخول، وأقسمت لهم عائشة، وبينت لهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس عندهم حديث يمنع دخول الميت المسجد، ولكنهم يقولون قولاً مردوداً، يقولون: الموت يأتي بالنجاسة، وكل حي مات تنجس. ويُرد عليهم بأن الإنسان مكرم، والمسلم لا ينجُس حياً أو ميتاً كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول (كنت أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذكرت أني جنب، فانخنست عنه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فلحقت به، فقال: أين كنت؟ قال: كنت نجساً فاغتسلت، ففهم صلى الله عليه وسلم منه أنه أراد نجساً -يعني: جنباً- قال: يا أبا هريرة! إن المؤمن -المسلم- لا ينجس حياً ولا ميتاً) وعلى هذا قالوا: تعليل عدم دخول الميت المسجد للصلاة عليه بموته ونجاسته مرفوض، وهنا عائشة رضي الله عنها تأتينا بفعل رسول الله، فابني بيضاء ماتا في وقت واحد، وجيء بهما إلى المسجد وصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. أيضاً يذكر علماء الحديث بأن الصديق رضي الله تعالى عنه لما توفي صلى عليه عمر في المسجد، ولما توفي عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد. إذاً: الصلاة على الجنازة في المسجد عمل الجمهور، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم صلاة المرأة على الجنازة

حكم صلاة المرأة على الجنازة بقي هنا سؤال جانبي، ونحن نحتاجه ويكثر السؤال عنه: هل المرأة تصلي على الميت؟ كثيراً ما يسأل بعض الناس عن هذا فيقولون: هل النسوة يصلين على الميت أم لا؟ فهذه أم المؤمنين تقول: (مروا به بالمسجد، ومروا به عليَّ لأصلي) فبعضهم يقول: لا، لا تصلي إنما تدعو، وأولوا الحديث عن ظاهره، ولو كانت هذه المسألة مسألة دعاء فتدعوا له حيث كان، لكن تريد أن يوقف وأن يوضع وأن تصلي عليه كما يصلى على جميع الجنائز، ثم ذكرنا سابقاً انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأرادوا الصلاة عليه، ما كان هناك من يؤم الناس؛ لأن الخلافة لم تنعقد لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلا بعد بيعة سقيفة بني ساعدة، فهنا لعدم وجود إمام كانوا يدخلون عليه فرادى واحداً واحداً كلٌ يصلي وينصرف، وقيل: جماعات عشرة عشرة يدخلون فيصلون بدون إمام ثم ينصرفون، فأدخلوا الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، أي المميزين، وعلى هذا فإن النسوة قد صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين تقول: (مروا بـ سعد عليَّ لأصلي عليه) إذاً النسوة يصلين على الميت، باستقلال أم تبع الرجال؟ ما دام أن هناك رجال فالرجال أولى بالإمامة، وهن يكن تبعاً، إذا لم يكن وحضرن وحدهن فلهن أن يصلين على الجنازة وتأمهن إحداهن. والحمد لله رب العالمين.

باب التكبير على الجنازة (عدد التكبيرات على الجنازة)

باب التكبير على الجنازة (عدد التكبيرات على الجنازة) وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال (كان زيد بن أرقم رضي الله عنه يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازةٍ خمساً، فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها) رواه مسلم والأربعة. هنا شروع في عدد التكبيرات، وأشرنا في الصلاة على النجاشي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صفَّ بهم وكبر عليه أربعاً. قالوا كان التكبير قبل ذلك أربعاً خمساً سبعاً تسعاً وبعد أن كبَّر النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أربعاً، استقر الأمر على ذلك، وثبت على الأربع إلى أن انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. نجد هناك روايات عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (كان التكبير كذا وكذا، واتفقنا على أن تكون أربعاً) وتأتي رواية أخرى بأن عمر رضي الله عنه هو الذي جمع الصحابة على أربع، وليس هناك تعارض؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لمن حضر وسمع وعلم به. ومن لم يحضر ولم يسمع ولم يعلم كان على ما كان عليه الأمر أولاً، من شاء كبر أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً، وقد يزاد على الشخص الواحد في ذاته لخصيصة عنده، فلما كان الأمر كذلك، ورأى عمر أن بعض الناس لم يبلغه اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الأربع، جمع الصحابة وأقرهم -أو اتفقوا وأجمعوا- على ألا يزاد عن أربع. وبعد ذلك لم تكن التكبيرات على الجنائز أكثر من أربع، إنما روي عن علي رضي الله عنه أنه كبر على رجل خمساً، ولما سئل في ذلك قال: إنه بدري، يعني: زاده لكونه من أهل بدر، ونحن يهمنا التشريع العام، فليس عندنا الآن أحد من أهل بدر، وإنما عندنا التشريع العام لعامة المسلمين، وإذا كان الخلاف قد وقع قبل عمر، وانتهى الإجماع بعد عمر، وأصبح الأمر مستقراً بإجماع أصحاب رسول الله فلا ينبغي لأحد أن يزيد على الأربع تكبيرات التي توارثها الخلف عن السلف. هذا مجمل ما يتعلق بهذه المسألة وهو عدد التكبيرات على الجنائز.

باب التكبير على الجنازة - التكبير على الجنائز أربعا

باب التكبير على الجنازة - التكبير على الجنائز أربعاً .

بيان فقه المؤلف في تأخير حديث جابر

بيان فقه المؤلف في تأخير حديث جابر وعن جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي بإسناد ضعيف. من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء بالتكبيرات المختلف فيها، ثم ختم في النهاية بحديث جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر على جنائزنا أربعاً) فكأن المؤلف يقول: أختم لك البحث، وأقضي لك على الخلاف بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. قوله: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي بإسناد ضعيف.

القراءة في صلاة الجنازة

القراءة في صلاة الجنازة هذا الجزء من الحديث شروع في كيفية الصلاة، فقد عرفنا أن التكبيرات أربع، لكن ماذا يفعل في التكبيرات الأربع؟ بدأ المؤلف في بيان ذلك فقال: في حديث جابر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) مسألتان: الأولى: أنه يقرأ بفاتحة الكتاب، والثانية: أن ذلك في التكبيرة الأولى. لأن بعض الناس قد يقول: التكبيرات الأربع تعادل الركعات الأربع في الصلاة الرباعية، فيتوهم بأنه يقرأ في كل تكبيرة فاتحة الكتاب. فـ جابر بيَّن لنا أنه تقرأ فاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى، أما التكبيرات التي بعدها فسيأتي الكلام عما يقال فيها. فمسألة قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مسألة مستقلة. ربما نجد من يقول لا قراءة في صلاة الجنائز؛ لأنها عبارة عن دعاء، وربما يستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان ماراً بالمسجد فرأى جنازة في الداخل، فتيمم عند باب المسجد ودخل وصلى، قالوا: كيف تتيمم والماء موجود، أي: ليس هذا محل تيمم؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ، والماء موجود، قال: إنما هي دعاء، فقالوا: تساهل في ترك الوضوء واكتفى بالتيمم، على أن الصلاة على الميت دعاء، إذاً: فلماذا الفاتحة؟ إذاً القول الأول: أن صلاة الجنازة لا فاتحة فيها. والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة: على أن صلاة الجنازة فيها فاتحة. تأتي مسألة ثانية: فاتحة الكتاب في الصلوات الخمس معها سورة صغيرة أو آية، فهل فاتحة الجنازة معها كذلك أو يقتصر على الفاتحة. نجد البعض يقول وهو الجمهور: يقتصر على الفاتحة فقط، ولا يؤتى حتى بدعاء الاستفتاح، ولا يؤتى بسورة معها ولا بآية؛ لأن أمر الجنائز مبنيٌّ على الإسراع، فلا يلائمها تطويل القراءة، فقالوا: يقرأ الفاتحة فقط، تنجيزاً لأمر الميت، والإسراع به إلى مقره. إذاً الجمهور على أن فيها قراءة، والقول بعدم القراءة مردود؛ لأن حديث جابر يقول: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) وجاء عن ابن عباس (أنه قرأ الفاتحة وجهر) وبعضهم يزيد: الفاتحة وسورة وجهر، ثم قال: (ليعلموا أنها سنة) ولكن الصحيح: أنه جهر أو رفع الصوت بالفاتحة، ليعلم من خلفه في الصلاة على الجنازة بأن السنة قراءة الفاتحة. والجمهور على أنه لا يقرأ مع الفاتحة غيرها.

ما يفعل المصلي بعد التكبيرات الأربع في صلاة الجنازة

ما يفعل المصلي بعد التكبيرات الأربع في صلاة الجنازة بعد ذلك تأتي التكبيرات الأخرى، وسيأتينا المؤلف رحمه الله بما سُمع وأُثر ونُقل عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية للميت في التكبيرات الأخرى. والذي عليه الجمهور في ترتيب التكبيرات الأربع، أن التكبيرة الأولى يقرأ فيها المصلي بالفاتحة، والتكبيرة الثانية يأتي بعدها بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، والتكبيرة الثالثة يدعو فيها للميت، والتكبيرة الرابعة: يدعو فيها لنفسه، ثم يسلم بعد الرابعة، هذه هي التكبيرات الأربع وما يشرع معها من القراءة أو الأدعية أو نحو ذلك.

باب التكبير على الجنازة - التكبير على البدري ستا

باب التكبير على الجنازة - التكبير على البدري ستاً وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: (إنه بدري) . رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري. كبر علي رضي الله عنه على سهل بن حنيف ست تكبيرات، ولما سئل في ذلك قال: (إنه بدري) إذاً الذي سأل يستنكر الزيادة على الأربع، وعلي زاد وأجاب من سأله، لم يقل: هذا هو التكبير المعتاد، كأن علياً قال: نعم أنا أعلم بأن التكبيرات أربع، وأعذرك فيما انتقدتني فيه، أو فيما تساءلت، وقد زدت عن الأربع التي تعرفها ويعرفها غيرك، وأعرفها أنا، لكن هذه الست بخصوص هذا البدري. فلو توفي أعلم خلق الله على وجه الأرض أو أصلح خلق الله على الأرض، أو ولي من أولياء الله الصالحين أو شيخ العلماء، أو سيد كذا وكذا أنزيد عليه تكبيرات لفضله؟ لا. لأن الأمة في زمن علي، وفي زمن عمر، وفي زمن الصحابة، وفي زمن التابعين، وتابعي التابعين، فيها من الفضلاء، وأهل الخير، وأهل الصلاح، وأهل العلم ما لا يوجد لهم نظير الآن، ومع ذلك لم ينقل لنا أنهم زادوا على أي شخص كان تكبيرة خامسة، فيكون قد انعقد الإجماع على أربع تكبيرات.

قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة

قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة وعن طلحة بن عبد الله بن عوف رضي الله عنه قال (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة) رواه البخاري. حديث ابن عباس جاء بعدة روايات: (قرأ الفاتحة وسورة) ، (قرأ الفاتحة وجهر) ، (قرأ الفاتحة وسورة وجهر) . ولهذا بعض من يرى قراءة سورةٍ مع الفاتحة يستدل ببعض روايات ابن عباس، ولكن رواية البخاري لـ ابن عباس ليس فيها (وسورة) ، وليس فيها (وجهر) ولكن قوله: (ليعلموا أنها سنة) فهم لا يعلمون إلا إذا جهر. ولذا يقول بعض الشافعية: إن صُلي على الجنازة ليلاً وقت الجهر جهر، وإن صُلي عليها بالنهار وقت الإسرار أسر، ولكن الجمهور على خلاف هذا القول، فهم على أن القراءة في الصلاة على الجنازة كلها سراً، ليلاً كانت أو نهاراً.

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة .

الدعاء للميت بالأدعية الجامعة الشاملة

الدعاء للميت بالأدعية الجامعة الشاملة وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر، وعذاب النار) رواه مسلم. هذا شامل جامع لكل ما فيه سعادة المسلم: (اللهم اغفر له وارحمه) الغفر: الستر، ومنه المغفر على الرأس، فمعنى اللهم اغفر لي، أي: استر عليّ ذنوبي وغطها، وقد يكون ذلك بالمحو، ثم يأتي العفو، (واعف عنه) عفت الريح الأثر: أي أزالته، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران:134] ، يعني: يزيلون آثار الغيظ من نفوسهم، حتى لا تكون رد فعلٍ فيما بعد. (اللهم اغفر له وارحمه) الدعاء بالرحمة كما يقول العلماء بالنسبة للآخرة، في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ، قالوا: الرحيم: صيغة مبالغة، على وزن فعيل، فهذه صيغة مبالغة، قالوا: والرحمن: صفة للدنيا، فهو رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وجاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى قسم الرحمة مائة قسم، أنزل قسماً منها إلى الأرض، يتراحم بها الخلائق حتى البهائم، وإن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به، وادخر تسعاً وتسعين جزءاً يرحم بها عباده في الآخرة) فهنا (وارحمه) : وفي الآية الكريمة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، سواء كانت القسم الواحد من المائة وسعته في الدنيا، أو المائة بكاملها، أو التسعة والتسعون في الآخرة وسعت كل شيء. (وعافه واعف عنه) والعافية: بدنية، والمعافاة: معنوية، ونحن نعلم بأن هذا الدعاء من أجمل وأشمل الأدعية؛ لأن من عافاه الله فهو سعيد، أي: عافاه في نفسه في ماله في ولده في سلوكه في عقيدته. إلى ما شاء الله. وتذكرون في دعاء ليلة القدر لما سألت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رسول الله سؤال حبيب لحبيبه: (ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) وهذا كما أشرنا إليه في محله أن تسأل الله باسم من أسمائه الحسنى بما يناسب المسألة، ولذا يقولون عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] وجاء في الحديث أنها تسعة وتسعون اسماً، فهل تسأل الله بتسعة وتسعين اسماً له في مسألة واحدة؟ قالوا: لا. ولكن تتخير من التسعة والتسعين اسماً من أسماء الله للمسألة التي تسألها، وتسأل بالاسم الذي يتناسب مع حاجتك، فمن يريد الرزق لا يقول: يا منتقم يا جبار ارزقني، ولكن يقول: يا رزاق يا كريم ارزقني، وكذلك المغفرة لا تقول: يا عظيم السلطان، وقل: يا غفور يا رحيم! وكذلك عندما تريد العفو تقول: اللهم إنك عفو، تسأله بالصفة التي تريد مسألة من نوعها. وهنا: (واعف عنه) ، أي: بلا سؤال ولا حساب ولا شيء؛ لأن من نوقش الحساب فقد عذب، فإذا كان محكوماً عليه بالإعدام أو بالسجن كذا سنة، فجاء له العفو خرج بالعفو، فعفو الله أوسع.

معنى إكرام النزل وتوسيع المدخل

معنى إكرام النزل وتوسيع المدخل (وأكرم نزله) النزل على قسمين: نزل بمعنى المنزل، أي: اجعل منزله كريماً واسعاً طيباً، ونزل بمعنى المقدمة في الضيافة التي تقدم بسرعة للضيف أول نزوله إلى أن تهيأ له المائدة الرسمية ومنه: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] فأول ما ينزل أهل الجنة، يكرمون بالنزل الخفيف، فكذلك الضيف الكريم عندك لا تقدم له حالاً المائدة، مرة تقدم له فاكهة، مرة تقدم له حلوى تقدم له قهوة إن كان من أهل القهوة، أو (شاي) إن كان من أهل (الشاي) ، هذا معنى النزل. (وأكرم نزله) أي: اجعل نزله الذي يقدم إليه أول مجيئه إليك كريماً، فسواء على النزل بمعنى الطعام الخفيف المقدم، أو على النزل: بمعنى المنزل الذي ينزله. (ووسع مدخله) تابعة للنزل، إذاً: القبر ضيق، والرسول يدعو أن يوسع، ولا يمكن أن يسأل رسول الله شيئاً مستحيلاً، فيمكن أن يوسع القبر، وقد جاء في الحديث أنه روضة أو حفرة، والروضة لا تكون ذراعاً، ويكون صاحبها مضغوطاً عليه، بل يفسح له مد البصر، فهنا يتحقق (ووسع مدخله) . (واغسله بالماء والثلج والبرد) سبحان الله: ماء ثلج برد، قد يكفي الماء، وقد يكفي الثلج، وقد يكفي البرد، يقول العلماء: أوائل درجة النظافة الماء، وهذا الغسل للحسيات، ثم يأتي الثلج والبرد بعد ذلك، ثلج الصدر، وبرد اليقين، كأنه حينما غسل بالماء طهر، لكن بقي بعض الخوف فيغسل بالثلج فيمتلئ صدره أماناً وطمأنينة، ثم يأتي البرد فيكون يقيناً، برد اليقين في نفسه بأنه اجتاز إلى بر السلامة، وهكذا يقولون: الماء يغسل الظاهر، والثلج والبرد يطهر الداخل، ويكسب النفس طمأنينة وارتياحاً، كما أن الماء يكسب الظاهر نظافةً ووضاءة. إذاً: ليس معناها يؤتى بالثلج ويغسل بعد الماء، ولا يؤتى بالبرد، مع أن بعض العلماء يقولون: البرد أشد تنظيفاً من الصابون، لكن هذا لا يهمنا، الذي يهمنا شرح العلماء لهذا بأنها أمورٌ معنوية، لها أثر عليه كأثر الشيء البارد على القلب الحار. والله تعالى أعلم. (ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ونقه من الخطايا، ما دام جاء العفو، وجاءت المغفرة، وجاء الغسل، فاغسله بالماء، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس؛ لأن الثوب الأبيض هو الخاص بالنقاء، لو جئت إلى ثوب أسود، وفيه ما فيه وغسلته فلا يحصل عندك العزيمة أو اليقين بأنه صار نقياً، بخلاف الثوب الأبيض الذي تطمئن إليه بالمشاهدة، وقد قيل: إن بياض الثياب هو الحمل للدنس. وكما أشرنا لو أن ذبابة وقعت على العمامة وأنزلت من بولها ثم ذهبت فلن تشاهد الأثر، فإذا كان أكثر من هذا وغسلته، ستشاهد أنها صارت نقية، بخلاف الثوب الأسود أو الأخضر أو غير ذلك.

إثبات عذاب القبر ونعيمه

إثبات عذاب القبر ونعيمه (وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله) وذلك أن دار الدنيا لو كانت أفخم قصور الملوك فإنها لا تساوي شيئاً من أدنى منازل الجنة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فأبدله داراً خيراً من داره. (وأهلاً خيراً من أهله) الأهل يقولون: يشمل الولد، والزوجة، والأقارب، وذوي الأرحام إلخ. وبعضهم يقول: إذا كانت امرأة يؤنث الضمير في كل ما تقدم فيقول: اغفر لها، ارحمها، اغسلها، وسع لها. إلى آخره إلا هنا، عند الأهل تقول: جيراناً خيراً من جيرانها، لأن الزوج من الأهل، وقد تكون لزوجها. (وأدخله الجنة) {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] . (وقه فتنة القبر وعذاب النار) ، وهذا من أقوى الأدلة على وجود عذاب القبر، ورداً على منكريه، وتقدم لنا في موطأ مالك رحمه الله المرأة اليهودية التي قالت لـ عائشة: (وقاه الله عذاب القبر، فلما جاء النبي ذكرت له عائشة ذلك، وقالت: أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: نعم يا عائشة!) وهنا أيضاً كنت أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه يقول: هناك نص في القرآن يدل على ذلك في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فيعرضون عليها قبل قيام الساعة؛ لأن قوله: (ويوم تقوم الساعة) حالة ثانية. إذاً: فهم يعرضون عليها في القبر.

كتاب الجنائز [9]

كتاب الجنائز [9] إن حق أخوة الإسلام بين المسلمين قائم في حياتهم، وبعد مماتهم، ومن حقوقهم بعد الموت شهود جنائزهم، والصلاة عليهم والدعاء لهم، وفيما يلي بيان لهذه المسألة، وما يجده القائم بحقوق إخوانه من الأجر في ذلك

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت)

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود وصححه ابن حبان. هذا حق الميت على من يصلي عليه، أن يخلص له الدعاء ولو كان خصماً له؛ لأنه قد أفضى إلى ما قدم، وأنت وقفت مع المصلين، فيجب أن يكون باطنك مطابقاً لظاهرك، وقفت تصلي مع المصلين فيجب أن تخلص الدعاء له، فتؤجر على إخلاصك الدعاء له، وإذا كان بينك وبينه شيء آخر، فهناك في القيامة تتحاسبون. (من صلى على ميت فليخلص الدعاء له) لأنه تقدم لنا فيمن صلوا عليه من المؤمنين أو من أهل الخير، أو إلخ فشفعوا فيه شفعهم الله، فلا يشفعون إلا إذا أخلصوا الدعاء، والصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة يجب فيها الإخلاص، ومن ضمن الإخلاص أن تخلص في الدعاء للميت. فمن الذي تسول له نفسه أن يرى أخاه مسجى أمامه، ويعلم بأنه سيلحقه على هذا الطريق، ووارد ذلك الحوض، ثم هو يصلي عليه غير مخلص، بأي ميزان؟ هذا لا يعقل أبداً إلا إذا كان خارجاً عن تصورات العقل.

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا)

باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا) .

مشروعية الدعاء لعامة المسلمين في صلاة الجنازة

مشروعية الدعاء لعامة المسلمين في صلاة الجنازة وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا. الحديث) يلاحظ أن الدعاء الأول مخصص بمطالب معينة، و (له) قد يكون ضميراً لشخص معين يعرفه المصلي، ونحن عشرات المرات ومئات المرات نقول: الصلاة على الرجل الصلاة على المرأة، ولا نعرف من هو الرجل ولا من هي المرأة، فإذا كان معروفاً تسميه وبضميرٍ راجع إليه، وإذا لم يكن معروفاً لديك فهذا هو الدعاء، أي يكفي أن تقول: اللهم اغفر لحينا ومتينا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا إلخ. ومعنى شاهدنا: الحاضر، وغائبنا: الذي مات وهو غائب عنا، وفي بعض الروايات: (حاضرنا وغائبنا {وصغيرنا وكبيرنا) صغيرنا: الطفل الذي يصلى عليه، وكبيرنا: إلى آخر ما يكون من العمر. (وذكرنا وأنثانا) إذا صليت على الجنازة ولا تعرف هل هو رجل أم امرأة فهذا الدعاء يجزئ، وبالجملة ليس هناك توقيت في لفظ معين في الدعاء عند الصلاة على الجنازة، فإن حفظت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله) إلخ فالحمد لله هذا مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشمل وأبرك. فإذا لم تكن تحفظ هذا، فأي دعاءٍ تدعو به فإنه يصح، إذا كان يتضمن طلب المغفرة والرحمة بإخلاص، كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم (شفعوا فيه إلا شفعهم الله) فإن كنت تعلم الشخص الميت، وتنويه بالضمير (له لها) فبها ونعمت، وإلا فتأتي بالعموم: (حينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا) ، وبالمجموع: (ذكرنا أو أنثانا) ويكون على سبيل الإجمال فلا مانع. (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) لاحظ هذين اللفظين: (من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) هل هما متغايران أم شيء واحد؟ يقول علماء العقائد: الإسلام والإيمان إن افترقا اتحدا، وإن اتحدا افترقا، فهنا ذكرا معاً، فتكون للمغايرة، يدعو للحي أن يحيا على الإسلام؛ لأن الإسلام عملي ظاهري، وأركان الإسلام كلها ظاهرة، وإذا قام بأركان الإسلام كان مسلماً وأدى واجبه أمام المسلمين. أما (توفه على الإيمان) فهو العقيدة: (من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة) لأن الخلاص من الشرك ليس إسلاماً بل إيماناً، أعني أنه من عمل القلب ويتعلق بالعقيدة، وليس من عمل الجوارح، فالإيمان يقين، والعمل تابع للإيمان، وهو يزيد وينقص بالعمل. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم فرق ودعا للحي أن يحيا على الإسلام، سامعاً مطيعاً مستسلماً لأوامر لله، ودعا للميت أن يميته الله على الإيمان. (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) رواه مسلم والأربعة. هذا هو الدعاء للمصلي بعد التكبيرة الأخيرة، أي: اللهم لا تحرمنا أجره في صلاتنا ودعائنا له، ولا تفتنا بعده، فهو قد خرج من الدنيا معافى، فلا تفتنا بفتنة تفتننا عن ديننا بعده، هذا هو مجمل الأدعية التي تكون في صلاة الجنازة: في التكبيرة الأولى: الفاتحة. في الثانية: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. في الثالثة: الدعاء للميت بما تيسر لك. وفي الرابعة: لنفسك. ثم يكون السلام.

باب الإسراع بالجنائز

باب الإسراع بالجنائز .

مشروعية الإسراع بالجنازة

مشروعية الإسراع بالجنازة وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) متفق عليه. والإسراع هنا يحتمل أمرين: سرعة التجهيز، فإذا كان هناك كفن عادي، فلا حاجة إلى أن نؤخره، إلى أن نحضر كفناً فاخراً، وإذا وجد من المسلمين من يؤدي الصلاة فلا حاجة إلى أن نؤخر إلى كثرة العدد، إلا أن يكون للميت من ذوي أقاربه -كأبنائه، وإخوانه، ووالديه- من يريد أن يقدم وكان غائباً ليراه ويشيعه، فلا مانع ما لم يتضرر الميت بالتأخير، أي: يشرع الانتظار بالجنازة لحين قدوم الغائب من ذويه وذوي رحمه ما لم يكن الوقت صيفاً كما هو الحال في الجزيرة، أو يتوقع حصول ضرر على الجنازة، بأن تكون قد توفيت من أول الليل مثلاً، فإنه ينتظر به إلى الصباح، على ما سيأتي في باب النهي عن الدفن ليلاً، لما قد يقع فيه من تقصير. وهنا مسألة التقسيم الذي يقوله الأصوليون، يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة) كلمة (أسرعوا) تحتمل كما أسلفنا: سرعة تجهيزه، ويحتمل الإسراع في المشي به عند حمله، ولكن المعنى الثاني أرجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدمونها إليه) هذه مشتركة، وقوله (شرٌ تضعونه عن رقابكم) والشر الذي نضعه عن الرقاب هو ساعة الحمل حينما نحمله. إذاً: السنة في تشييع الجنائز الإسراع بها، وكما يقولون: إكرام الميت دفنه وستره، كما أنهم يقولون أيضاً: إذا مات نهاراً لا ينبغي أن يبيتوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيت الميت وسط أهله؛ لأنهم يستوحشونه، أو كان ميتهم أخاهم أو أباهم أو ولدهم فإنهم يستأنسون بحضوره ويؤانسهم، ولكن بعد الموت ترى طفله الصغير يخاف أن يدخل عنده، ترى الشخص الكبير قد يخاف أن يدخل عليه، فما ينبغي أن يبيت الميت إلا لحاجة أو لضرورة. ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم حال الميت، إما أن يكون صالحاً، فإنه يحب أن يتقدم للصالح، وإما أن يكون عكس ذلك، فلا ينبغي أن نحمل على رقابنا غير الصالح، فلنضعه لنستريح منه. وكونه صالحاً (خير تقدمونها إليه) مثل أن يوجد إنسان يريد أن يتزوج، وفي ليلة زفافه نقول له: هيا نذهب معك فسحة، أو نقول له: تفضل أنت ضيفنا الليلة، فالعريس عنده ما هو أهم من هذا كله، وكذلك الميت الصالح: (فخير تقدمونها إليه) ؛ لأنه أحب ما يكون إليه أن خرج من ضيق الدنيا ونكدها وأثقالها، إلى فسيح الجنة ونعيمها. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن العباس كان يعرف حالة بني هاشم عند الوفاة، فلما ثقل المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع من بني هاشم العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما، ودخل العباس على رسول الله فوجده في الصحوة التي صحاها يوم أن توفي، فإنه صحا بعد صلاة الصبح فقال أبو بكر قال: (أراك اليوم بريئاً يا رسول الله! ائذن لي إلى بيت زيد بن فلان) وذهب إلى العالية، فدخل عليه العباس وعلي فخرجوا، فقال العباس لـ علي: يا علي! ارجع فسله فيمن يكون هذا الأمر بعدك، والله إن لم تؤته لتساقن سوق العبد بالعصا، قال: والله لن أسأله؛ لأنه إن منعنا إياها لن نعطاها أبداً، ثم قال العباس: إني أعرف الموت في وجوه بني هاشم فجلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: (ائتوني بقسط وكتاب أكتب لكم، ثم تلاحوا، فقال: قوموا عني فإن ما أنا فيه خيرٌ منكم) وهذا محل الشاهد، وفي آخر الأمر كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح ما له حاجة فيهم، ثم أوصاهم: (أوصيكم بكتاب الله وبالصلاة) أوصاهم شفوياً، ولم يكتب لهم شيئاً. الذي يهمنا قوله: (قوموا عني، فإن ما أنا فيه خيرٌ لي منكم) وهكذا الميت إذا كان في اللحظات الأخيرة، وأمسك اللسان عن النطق، فإنه يرى مصيره، فإن رأى خيراً تجد على وجهه البشاشة والطلاقة، وصباحة الوجه، كأنه إنسان نائم يحتلم في فرح شديد جداً، فيظهر على قسمات وجهه، وكذلك الميت عند الاحتضار، حينما يمسك اللسان يكشف عن مستقبله، وعن حقيقة أمره، فيظهر عليه آثار ما يرى بعينه، إن كان خيراً ظهر عليه فرح وسرور وطلاقة وجه، وإن كان عكس ذلك -عياذاً بالله- ترى وجهاً عبوساً واكفهراراً في الوجه إلى آخره على ما في الحديث: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه) وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الميت بين أحد أمرين لا ثالث لهما: فإن يكن صالحاً فخير تقدمونه إليه، فلا تؤخروه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. وليس معنى الإسراع أن نجري به، فقد جاء عن بعض السلف: أنهم مروا بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها شنة، أي وعاء فيه ماء قليل، أو القربة اليابسة الصغيرة فيها قليل من الماء يتراكض له صوت، فكأن الجنازة بإسراعهم شنة فيها قليل من الماء، فقال صلى الله عليه وسلم (ارفقوا بالميت) إذاً: ليس بالإسراع الذي يؤذي الميت لو كان حياً على هذه الخشبة، وأمرنا أن ننقله إلى مكانه بسرعة، فكيفية الإسراع: ألا نسرع كالجري، ولا نتباطأ ونتكاسل ونتمهل في المشي، وعلى هذا يكون الإسراع بينَ بين، ليس هو بالتواني البطيء، وليس هو بالهرولة، ولا بشدة الركض، إنما يكون متوسطاً. الشيء الثاني: لو أن الذين يحملون الجنازة أقوياء وأسرعوا، فذلك يشق على المشيعين؛ لأن فيهم الكبير، وفيهم المريض، وفيهم العاجز، وفيهم، فيريد أن يتابع الجنازة في تشييعها. إذاً: (أسرعوا بالجنازة) الإسراع هنا في حدود المعقول، ليس هو بالإسراع المخل بالمروءة، والذي يؤذي الميت، وليس هو بالبطيء المتواني المتكاسل، والله تعالى أعلم. فائدة أخرى: الحديث يعطي إشارة إلى معنى، وهو أنه منذ أن يوضع في القبر سيجد خيراً أو شراً، ويمكن لإنسان أن يضيف هذا الحديث إلى أدلة إثبات نعيم القبر وعذابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول (إن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) إذاً: الشر موجود والخير موجود، وهذا الحديث يشير بدلالة الإيماء والتنبيه على وجود نعيم القبر وعذابه.

باب فضل اتباع الجنازة

باب فضل اتباع الجنازة وعنه رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم: (حتى توضع في اللحد) . مراحل تجهيز الجنازة ثلاث: الأولى: تجهيزها في مكانها بالغسل والحنوط والكفن. المرحلة الثانية: الصلاة عليها، وتكون الصلاة إما في بيته في محله، أو ينقل إلى المسجد أو إلى المقبرة؛ فيصلى عليه إما في بيته أو في المسجد أو في المقبرة، والصلاة في المسجد قد تقدم الكلام عليها، والصلاة في المقبرة يشترط لها ألا يكون أمام المصلين قبور، حتى لا يستقبلون القبور بالصلاة، وبعض العلماء قال: لا مانع حتى لو كانت القبور أمامهم.

المواطن التي نهى النبي عن الصلاة فيها

المواطن التي نهى النبي عن الصلاة فيها نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المزبلة، والمقبرة، والمجزرة، وفوق ظهر الحمام، وفوق ظهر بيت الله الحرام، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل. هذه سبعة مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وليست كلها للنجاسة كما يظن البعض، بل كل واحدة لها علتها، والنهي عنها في المقابر ليس للنجاسة كما يذكر ذلك بعض المؤلفين في فقه المذاهب كالحنابلة، يقولون: لأن التربة تنبش فتختلط بالنجاسة التي هي بقايا الجسم، لكن يقال: لقد حصلت الاستحالة، والاستحالة تُذهِب النجاسة، والتحقيق أن في النهي عن الصلاة في المقبرة حفاظاً على العقيدة. وقال بعض الناس: لا يصلى على الجنازة في المقبرة للنهي عن ذلك عموماً، وقال البعض: تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المرأة، قالوا: ولأن صلاة الجنازة ليس فيها سجود، بخلاف ما إذا صلينا الصلوات المعهودة، فإننا نحتاج أن نركع فيها ونسجد عند جدار القبر، فكأن المصلي يعبد القبر، قالوا: فصلاة الجنائز ولو صليت عند المقابر ليس محظور؛ لأنها ليس فيها سجود، لكن الأولى الحفاظ على عموم النهي، وسلامة العقائد؛ فيكون موضع الصلاة على الجنائز أمام المقبرة بحيث تكون المقبرة خلف المصلين، أو عن يمينهم، أو عن يسارهم، وإذا لم يوجد مكان للصلاة على الجنائز عند المقابر إلا أن تكون المقابر أمامهم، فيرفع جدار صغير بين المصلى والقبور.

مراتب أجر اتباع الجنازة

مراتب أجر اتباع الجنازة فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأجر على مرتبتين؛ لأن تجهيزه يقوم به أهله، ثم يبقى تشييعه وحمله ودفنه، فمن حضر الجنازة حتى يصلى عليها، سواءٌ في المسجد أو عند المقبرة، فهذه مرحلة أولى. والمرتبة الثانية: أن ينتظر عند القبر حتى يفرغ من دفنها، وإذا استطاع أن يشارك في الدفن ولو بحفنة تراب فهو أفضل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حضر جنازة، وانتظر حتى انتهوا من الدفن، وجمع التراب عليه، فأخذ قبضة من التراب ووضعها على القبر، كأنه شارك في الدفن. ومكان القبر قد لا يسع كل المشيعين ليشاركوا، وكثير من الناس يحبون المشاركة، فينبغي الرفق. والمرتبة الثالثة: أن ينتظر المرء إلى الفراغ من الدفن. إذاً: المرحلة الأولى خاصة بأهله، والمرحلتان الباقيتان في تشييعه حتى الصلاة، وفي تشييعه حتى الدفن، فمن حضر المرحلة الثانية، وهي تشييعه إلى أن يصلى عليه، ثم يتركه بعد ذلك؛ سواءً تركه لعجزٍ فيه، أو لاشتغال بأمر أهم، أو نحو ذلك، فله قيراط من الأجر، فإذا واصل حتى دفنت فله قيراطان.

بيان معنى القيراط

بيان معنى القيراط الواقع أن القيراط اصطلاح وزن، واصطلاح نسبة، تقول مثلاً: هذا البيت أربعة وعشرون قيراطاً، الزوجة لها الثمن أي لها ثلاثة قراريط، فهي نسبة حسابية. والأربعة والعشرون قيراطاً تأتي في الذهب، وتأتي في الفضة، وفي غيرها؛ لأن الأربعة والعشرين عددٌ يمكن أن تؤخذ منه جميع الكسور الموجودة في فروض الميراث (نصف، ربع، ثلثين، ثلث، ثمن، سدس) ، ولهذا اصطلحوا عليها، وكذلك الذهب، عند كونه خالصاً يكون أربعة وعشرين قيراطاً، وعند كونه مضافاً إليه من النحاس أو معدن آخر يقال: فيه قيراط أو قيراطان من النحاس، فإذا قيل: ذهب عيار أربعة وعشرين، فمعناه أنه: خالص، مع أنه ليس هناك ذهب خالص أبداً؛ لأن الذهب وحده لا يصلح للتصنيع إلا قدر اثنين وعشرين قيراطاً، ولابد أن يكون فيه شيء من النحاس حتى يشده؛ لأنه لين. فإذا قيل: عيار واحد وعشرين، فيبقى فيه ثلاثة قراريط، أي أن: الثمن من معدن آخر، وإذا قيل: عيار عشرين فمعناه أن فيه السدس من معدن آخر. وهكذا. وجاء القيراط في الأجور، ففي الحديث (من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا حراسة، نقص من أجره كل يوم قيراط) فلا ندري ما القيراط هنا، لكن لو جعلناه من مجموع عمله، فمعناه أنه إذا كان في اليوم ألف حسنة فإنه يسقط منها واحد من أربعة وعشرين، والله تعالى أعلم. في هذا الحديث بيَّن لنا صلى الله عليه وسلم وزن هذا القيراط، فليس هو بالجرام، لكن قالوا: (وما القيراطان؟ قال: كالجبلين العظيمين) والجبال تختلف: فهل هي جبال الألب أم جبال الحبشة أم جبال الجزيرة، فإنها تختلف، فعين ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه كجبل أحد، ويمكننا أن نشاهده، وهذا من فضيلة الدراسة في المدينة المنورة: أن ترى الشيء بعينك، ولا تحتاج أن يصفه لك جغرافي أو جيولوجي، بل تذهب وتشاهده بعينك. وكذلك في بئر بضاعة، كان يتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها بكذا وكذا، أبو داود عندما جاء إلى المدينة قال: قد ذرعته سبعة أذرع، أما نحن فلا نحتاج أن تذرعه لنا سبعة ولا ثمانية، فبئر بضاعة قريب منا، يمكن أن نشاهده بأعيننا ونعرف ما هو، وكان موجوداً إلى عهد قريب في مكانه وكان الماء فيه إلى أن وضع عليه البستان. إذاً: هذا من فضائل دراسة السنة النبوية في المدينة، وعلى سبيل المثال أذكر أنا كنا ندرس الحديث على الشيخ عبد الرحمن لفيق غفر الله له، وحصل لي ظرف سفر ورجعت، فسبقوني ببعض الأحاديث؛ فجئت إليه في بيته أتلقاها عنه، وكان بيته يطل على بئر بضاعة، فعندما نقرأ عن بئر بضاعة أنها بئر بجانب المدينة، قال: أغلق الكتاب، وانظر إلى البئر من النافذة. فدراسة الحديث في المدينة المنورة لها ميزتها، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم (من راح إلى مسجدي لعلمٍ يُعلِّمه أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) بل زيادة على ذلك حصول البركة التي يلمسها طالب العلم، فيحصِّل الكثير في الزمن القليل، ويكون أثبت عنده مما لو درسه في غيره. ثم كلمة القراريط جاءت في مواطن لا ندري ما معناها، وجاءت هنا مبينة، فهل هذا البيان بجبل أحد هو بيان لجميع القراريط في جميع الأعمال أم خاص بقيراط الجنائز؟ الله تعالى أعلم.

تشييع الجنازة من حق المسلم على المسلم

تشييع الجنازة من حق المسلم على المسلم تشييع الجنازة حق للميت على المسلم، فتؤدي الحق الذي عليك وتأخذ قيراطاً مثل أحد! هذا والله فضل عظيم. جاء في الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه) أي: بلفظ: السلام عليكم، ومن آداب السلام: أن يسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماشي على الجالس. فإذا لم يسلم من عليه الابتداء بالسلام، فمن حق الثاني أن يقول له: أعطني حقي! لأن عدم السلام يدل على أن في النفس شيئاً، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه مر بـ عثمان وهو جالس فسلم عليه، فلم يرد عثمان عليه السلام، فذهب إلى أبي بكر واشتكى، ولما تأيمت حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنها، كان عمر قد عرضها على عثمان، فقال عثمان: ليس عندي نية الزواج الآن، وكان الأفضل أن يقول: جزاك الله خيراً، دعني أفكر في الموضوع، لكن رد ذلك العرض، فكانت هناك سابقة في النفس قليلة. ثم عرضها على أبي بكر فلم يرد عليه بخير ولا بشر، فجاء واشتكاهما إلى رسول الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم طيب خاطره وقال (يتزوج حفصة من هو خيرٌ من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خيرٌ من حفصة) فقدر الله أن تزوجت حفصة خيراً من عثمان وهو رسول الله، وتزوج عثمان خيراً من حفصة، وهي بنت رسول الله الثانية. الشاهد أن عمر سلم على عثمان فلم يرد عليه السلام، فذهب واشتكاه إلى أبي بكر، ولو لم يكن له حق في هذا السلام لما اشتكاه؛ لكنه حق الأخوة. وتمام القصة: أنه ما وصل عمر إلى أبي بكر إلا وعثمان وراءه يقول: السلام عليكم، فقال أبو بكر لـ عثمان: وماذا وراءك يا عثمان؟! أخوك عمر يسلم عليك فلم ترد عليه السلام، قال: والله ما سمعته ولا شعرت به! فقال أبو بكر: فيم كنت تفكر؟ قال: أمور لو أننا سألنا رسول الله عنها، وذكر غيرها، فقال أبو بكر والله لقد كنت أفكر فيها قبلك. نعود إلى الحديث (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم، إذا استنصحك فانصح له، إذا دعاك فأجبه، إذا عطس فحمد الله فشمته، إذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) فهذه حقوق للمسلم على المسلم من أول ما يلاقيه إلى أن يدفنه، وهي حقوق إسلامية عامة، بخلاف حقوق الجوار، وبر الوالدين، وقضاء الدين الذي عليه، فهذه حقوق خاصة، ليس سببها مجرد أخوة الإسلام. فهذه الحقوق التي لمطلق أخوة الإسلام، منها أن المسلم إذا مات، فله حقٌ على إخوانه المسلمين أن يشيعوه، ومع هذا فللمشيع إذا قام بهذا الحق قيراطان. (قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم: (حتى توضع في اللحد) فإذا شُقَّ له شقاً، فالحكم كذلك؛ لانتفاء الفارق بين اللحد والشق، لأن المعنى: حتى يوضع في مكانه الأخير. وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة: (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد) . هذا الحديث الثاني بيَّن المجمل في الحديث الأول، حيث أطلق القيراطان عن تحديدها؛ فجاء المؤلف -لفقهه- بالحديث الثاني، وبيَّن لنا الإجمال الموجود في الحديث السابق، بأن الجبلين العظيمين كل منهما كجبل أحد، وهذا مثال على بيان المجمل.

كتاب الجنائز [10]

كتاب الجنائز [10] إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يتبع جنازته بعد موته، لما في ذلك من إكرام لهذا الميت عند القيام بحمله والسير به إلى المقابر، ومن ثم دفنه وتسوية التراب عليه. والسير مع الجنازة له آداب وقواعد ينبغي للمسلم الإحاطة بها، ومن هذه الآداب السير أمام الجنازة للراجل والسير خلفها للراكب، كما أن من الآداب اللازمة على أهل الطريق القيام عند مرور الجنازة من أمامهم، وغير ذلك من الآداب التي تحفظ كرامة المسلم الميت كما تحفظها للمسلم في حياته

المشي مع الجنازة

المشي مع الجنازة وعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة) رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وأعله النسائي وطائفة بالإرسال. هذه مسألة المشي مع الجنازة؛ فهل الأفضل أن يمشي المشيع أمامها، أو يمشي خلفها، أو على الجانبين، ومن حمل الجنازة فهل الأفضل أن يحملها من الأمام أو من الخلف؟

مكان سير مشيع الجنازة في حال الركوب أو المشي

مكان سير مشيع الجنازة في حال الركوب أو المشي أما تشييع الجنازة والمشي معها: فالمشيع إما راكب وإما ماشٍ، وكان الناس قديماً كانوا يركبون على الرواحل وعلى الدواب عند طول المسافة أو بُعدها، أو عند العجز عن المشي، فقال العلماء: إن كان سيتبعها راكباً لظروفه فليكن من ورائها؛ لأن مجيء الجنازة خلف الراكب نوع من التقصير في حقها، أما أن يكون من ورائها فلا مانع، فإن كان راكباً فليمش وراءها. وإن كان ماشياً: فإن شاء من أمامها وإن شاء من ورائها، وأمامها أفضل. أما حمله إياها فالبعض يقول: الأفضل أن يعاقِب، بمعنى: يبدأ بالأمام بالجهة اليمنى للجنازة، أو بجهته اليمنى، فيحملها على كتفه الأيمن ثم يمشي قليلاً حاملاً، ثم يأتي إلى الجانب الثاني من الجنازة ويحمل على الكتف الآخر، ثم يتأخر عن الجهة التي كان فيها فيحمل من الخلف على الكتف الذي كان حاملاً عليه، ثم ينتقل إلى الجهة الأخرى من الخلف؛ فيكون شيَّع وحمل من أطراف الجنازة الأربعة.

عدد من يحملون الجنازة وكيفية ذلك

عدد من يحملون الجنازة وكيفية ذلك إذا لم يكن هناك عدد كافٍ، وكان من يحملانها اثنين فقط؛ فإن الذي في الأمام يدخل بين العودين ويحمل من بينهما، والذي في الخلف يدخل بين العودين ويحمل كذلك. وإذا حملها أربعة، فلا ينبغي لإنسان أن يدخل بين الشخصين الأماميين ولا بين الشخصين الخلفيين، بل يترك ما بينهما، فمن أراد أن يساعد، فليحمل من جوانب الجنازة دون أن يزاحم الذين يحملون. والأولى أن يراعى أيضاً التعادل في الطول؛ لأنه إذا كان أحدهما طويلاً والثاني قصيراً، كانت الجنازة غير مستريحة، فيراعى في ذلك ما فيه راحة الميت. وقوله في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشيان أمامها) فهذه السنة والأفضل لمن كان ماشياً، وأما إن كان راكباً فليكن خلفها، والماشي أيضاً إن مشى خلفها فلا بأس، وإن مشى في الجانبين فلا بأس. والذي يريد أن يشارك في الحمل إما أن يقتصر على أحد الجانبين: من الإمام أو الخلف، وإما أن يناوب بين الجهات الأربع؛ لكن يكون ذلك براحة وبهدوء وسكينة، دون مزاحمة أو إيذاء، والله تعالى أعلم. ولا يجوز المشي تحت الجنازة، ولا حملها بالرأس من تحت، ما دام يوجد أشخاص يحملونها من أطرافها.

حكم اتباع النساء للجنائز واتباعها بنار

حكم اتباع النساء للجنائز واتباعها بنار وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا) متفق عليه.

نهي النساء عن ابتاع الجنائز

نهي النساء عن ابتاع الجنائز حديث أم عطية رضي الله عنها يذكره المؤلف رحمه الله بعد ذكر تشييع الرجال للجنازة، فذكر أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النسوة أن يتبعن الجنائز، تقول: [ولم يعزم علينا] فكأنه نهي للكراهية، ولكن الجمهور يقولون: هو نهي تحريم، ولا ينبغي للنسوة أن يتبعن الجنازة. هذا النهي ليس ممنوعاً في ذاته، ولكنه ممنوع لما هو متوقع من النسوة، خاصة قريباته، حيث لا تملك المرأة نفسها بأن تتكلم بأن تندب بأن يحصل شيء فإنهم إذا دنو من القبر ورأتهم يدلونه في القبر فإنها تصيح وتبكي، إذاً: فمنعها أولى.

حكم اتباع الجنائز بالنار

حكم اتباع الجنائز بالنار وقد جاء النهي أيضاً أن تتبع الجنائز بالنار، بأن يفعلوا ذلك تفاخراً، أما لغرض الإضاءة كما إذا كانوا في الصحراء، أو في مكان ليس فيه سرج، حيث -يحتاجون للاستضاءة بنار- فلا مانع أن يشعلوا سعفة من أجل أن يروا كيفية الدفن؛ لكن أن تتبع الجنازة من باب المفاخرة والمكابرة؛ فإن هذا محرم، ومثل هذا حديث أم عطية رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن ابتاع الجنائز. أما قولها: (ولم يعزم علينا) يقول بعض العلماء: لو كانت هناك حاجة للنسوة، مثل أن يكون في الجنازة فراش ونحوه، فيوجد من النسوة من تأخذه فترجع به إلى بيت أهله فلا بأس، ولكن الأولى ما عليه الجماهير؛ بأنه لا تتبع المرأة جنازة، ويذكرون أشياء عن فاطمة رضي الله عنها حين سألها صلى الله عليه وسلم قال (من أين. قالت: أشيع كذا. قال: وصلت المقابر؟ قالت: لا. قال: لو كنت وصلتيها لكان ... ) إذاً: لا حاجة إلى اتباع النسوة الجنازة، فهن لن يحملن -كما يقول أبو سعيد الخدري - الميت، ولن تدفن في القبر ولن تبني عليه؛ بل تحدث ازدحاماً في الطريق، وهذا ليس داع.

باب القيام للجنازة

باب القيام للجنازة .

شرح حديث: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا)

شرح حديث: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع) متفق عليه. هذا الحديث موضع بحث، من حيث قوله صلى الله عليه وسلم: (قوموا) ؛ فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا مرت جنازة قام، فقام ذات مرة فقيل: يا رسول الله! إنها يهودية! قال: أليست نفساً منفوسة) وهذا القيام كان إعظاماً لأمر الموت والحياة، وإن كان الميت يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، فإنه لا فرق بينه وبين المسلم في الخِلقة، أما الإسلام والكفر فعقيدة في القلب، أما هذا الهيكل بكامله فهم فيه سواء، لا فرق بينهم. فكونها نفساً منفوسة خلقها الله، فيها القدرة الإلهية، وفيها آية التكوين، وقد قبضت، وتغيرت حالتها، فالذي يقوم؛ فإنما يقوم إعظاماً وإجلالاً لله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه النفس المنفوسة ثم سلبها الروح. قال الفقهاء: ثم ترك صلى الله عليه وسلم القيام بعد ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يجلس، وعليه: من شاء قام ومن شاء جلس، فإن قام فله حق أن يجلس بعد ذلك لظروفه الخاصة، إما إذا كان يريد أن يشيعها؛ فإذا قام فلا يجلس، بل يتبعها حتى يتم تشييعها، والله تعالى أعلم.

باب إدخال الميت القبر من قبل رجليه

باب إدخال الميت القبر من قبل رجليه وعن أبي إسحاق: (أن عبد الله بن يزيد أدخل الميت من قبل رجليه القبر، وقال: هذا من السنة) أخرجه أبو داود. يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في كتاب الجنائز، ليبين كيفية إدخال الرجل الميت في القبر، وكذلك المرأة، وهو أنه يدخل من قبل رجليه، أي: من الجهة التي تكون فيها رجلا الميت، وبصفة عامة يستقبل بالميت القبلة، فيضجع على شقه الأيمن في القبر. والقبلة هنا في المدينة جهة الجنوب -فيما يقابل الشمال- فتكون رجلا الميت إلى الشرق، ورأسه إلى الغرب، وذكر هذا الأثر أنه يدخل من جهة الرجلين، ويعبر عنه الفقهاء بقولهم: يسل من قبل رجليه. وتقدمت الإشارة إلى ذلك بإيجاز، والحامل أن الجهات التي يدخل فيها الميت إلى القبر ثلاث: إما من جهة الرجلين، فيكون الرأس هو الذي يدخل إلى القبر أولاً، وإما من جهة الرأس فتكون الرجلان هما اللتان تدخلان إلى القبر أولاً، وإما عرضاً أي بعرض القبر، بأن يمدد الميت على حافة القبر من الجهة القبلية؛ لأن اللحد يلحد من الجهة القبلية، ويدخل الميت في اللحد مستقبلاً بوجهه القبلة، ويقف الذي يتناول الميت في القبر مستقبلاً بوجهه القبلة، ويتناول الميت من الحاضرين فوق حافة القبر من القبلة، وينزله حتى يضعه في اللحد. هذه صورٌ ثلاث، أما هذه الصورة التي فيها أنه يدخل من قبل الرِجلين، ففيها هذا الأثر وغيره، وجاءت رواية أخرى تدل للصورة الثانية، وهو أنه يدخل من جهة رأسه، وتكون القدمان هما اللتان تدخلان في القبر أولاً. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يدخل عرضاً بعرض القبر كما وصفنا؛ ولكن النووي رحمه الله نقل في المجموع عن الإمام الشافعي رحمه الله إبطال ما ذهب إليه أبو حنيفة، من أنه يؤخذ الميت عرضاً، قال: فإما أن يسل من جهة الرجلين، وهذا النص عندنا، وإما أن يسل من جهة الرأس، وهذا وارد أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى أناس شعلة في البقيع، فذهبوا، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في القبر يمد يديه ويقول: (ناولوني ميتكم، وسله من جهة الرأس) فالحاصل أن في كيفية إدخال الميت في القبر هذه الحالات الثلاث: الحالة الأولى المشهورة: من جهة الرجلين. والحالة الأخرى أضعف منها: من جهة الرأس. والحالة الثالثة: ينزل إلى القبر عرضاً. ولكن يمكن أن يقال: تكون صفة الإدخال بحسب ظروف المكان، فقد يكون المكان ضيقاً، ويكون التراب مركوماً إلى جهة، فيتعذر إنزاله من تلك الجهة، ويتيسر من جهة أخرى. وتلك الحالات التي ذكرنا إنما هي في الأفضلية، والله تعالى أعلم. وقبل أن ننتقل إلى مباحث أخرى، ننبه إلى أن بعض العلماء يذكر بعض الآداب فيما يتعلق بقبر الميت، منها: إذا أُدخل ميت في القبر، فعند الإدخال يؤتى بثوب كالخيمة يغطى به القبر، ويمسك من أطرافه، ليستر الميت عند إنزاله القبر عن عيون الناس. قالوا: لأنه قد تحصل حالة من حالات الموتى التي تطرأ بعد الغسل، أو عند الحمل، أو غير ذلك، أو كان الكفن شحيحاً، فيكون هذا الغطاء ساتراً للميت عن أعين الناس. وبعضهم يقول: يفعل هذا بالمرأة فقط، ولا يفعل بالرجل، ولكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الرجل فلا مانع، أما بالنسبة للمرأة فهو أمر معقول المعنى. كما ينص بعض العلماء أنه يستحب أن يكون للمرأة نعشاً، بخلاف الرجل، والنعش هو القفص الذي يجعل على خشبة الجنازة، وقيل: إن أول من فعل ذلك هو علي رضي الله تعالى عنه، وضعه لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية أن ترى أعضاء جسمها تحت الغطاء على خشبة الجنازة. فعندما يتخذ هذا القفص يكون المرئي جرم القفص، وليس أعضاء المرأة، وإلى الآن صارت متبعة بأن المرأة يجعل لها نعش، أي: هذا القفص المجوف، ويكون حاملاً للغطاء؛ فلا تُرى أعضاء المرأة وهي على الجنازة، بخلاف الرجل. هذا ما يتعلق بإدخال الميت وتغطيته.

ما يقال إذا وضع الميت في القبر

ما يقال إذا وضع الميت في القبر وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: باسم الله، وعلى ملة رسول الله) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان، وأعله الدارقطني بالوقف. يبين لنا صلى الله عليه وسلم ماذا يقول الذين يضعون الميت في قبره، أي: الذين يقفون في القبر ليتلقوا الميت، فحينما يتلقونه من الذين على حافة القبر، فإنهم يقولون: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله) ، وفي بعض ألفاظ الحديث: (وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا الذي ينبغي على المسلم دائماً في كل أعماله، وهو أن يبدأ بذكر اسم الله، وأن يكون الأمر وفق كتاب الله. والملة هي الدين، والسنة هي الطريقة، وبينهما تلازم فملة الإسلام هي طريقة المسلمين، وطريقة المسلمين هي ملة الإسلام؛ لكن هذا كأنه دعاء للميت، ومعناه: أودعناه مكانه باسم الله، وأودعناه على ملة رسول الله. وكأن ذلك يشعر بالشهادة له أنه من أهل هذه الملة، فتكون نوعاً من الدعاء ونوعاً من الشفاعة. والله تعالى أعلم.

تحريم إيذاء الميت بكسر عظمه أو ما شابه ذلك

تحريم إيذاء الميت بكسر عظمه أو ما شابه ذلك وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً) رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وزاد ابن ماجة من حديث أم سلمة رضي الله عنها (في الإثم)

الحكم المترتب على كسر عظم الحي

الحكم المترتب على كسر عظم الحي هذا الحديث أصل عظيم في حسن معاملة الميت، كسر عظم الميت ككسره حياً، والكاف جاءت على سبيل التشبيه والتمثيل، وماذا يترتب على كسر عظم الحي؟ كسر عظم الحي إن كان عمداً ومن مفصل ففيه القصاص. وإن كان من غير مفصل؛ ففيه دية ذلك العضو، سواء كان عمداً أو خطأً؛ لأن القصاص إنما يكون في حالة يمكن فيها المماثلة، فإذا كسر يد إنسان من المرفق، قطعت يده من المرفق قصاصاً؛ لأنه يمكن أن يفصل الذراع من العضد عند المفصل في المرفق، دون زيادة ولا نقص. أما إذا كسر الساعد من الوسط ما بين المرفق والكف، فهنا لا يمكن أن تتحقق المماثلة في الاقتصاص، لأن العظام ستنشعب، -أي: تنشرخ وتنصدع- فيعدل فيه عن القصاص إلى الدية، فإن كان عمداً فدية مغلظة، إن كان خطأً فدية الخطأ. ومعلوم عند الفقهاء أن كل عضوين متماثلين، ففي كل واحد منهما نصف الدية، وفيهما معاً الدية كاملة، ففي اليدين معاً دية كاملة، وفي إحدى اليدين نصف الدية، وكذلك في الرجلين، وفي كل أصبع من أصابع اليد نسبته من الدية، اليد فيها خمسة أصابع، ودية اليد نصف الدية خمسون بعيراً، فيكون الأصبع فيه عشرة من الإبل، وهكذا.

حكم كسر عظم الميت

حكم كسر عظم الميت أما في الميت: فتحمل الرواية على أنه في الإثم، أي: لو أن إنساناً كسر عظم ميت، فلا نقول فيه القصاص، سواء كان من مفصل يتأتى فيه القصاص بالمماثلة، أو كان في غيره، لأن الميت لا يتساوى مع الحي. لكن يأثم الجاني بالاعتداء عليه، كما يأثم في الحي؛ لأن من تعدى على أخيه المسلم الحي الحاضر بكسر يده أو أصبعه؛ فهو آثم مع تحمل الدية: الدية حق لصاحبها، والإثم حق لله في الاعتداء على عباد الله. فهل الميت يحس بهذا الكسر ويتألم كما يتألم الحي؟

وجوب الإحسان في معاملة الميت

وجوب الإحسان في معاملة الميت وعلى افتراض أن الميت يتألم، فإنه تجب معاملته من أول نزع ثيابه للتغسيل إلى تدليته في اللحد، كمعاملة الأحياء، في الإرفاق به، والتلطف، وحسن المعاملة، فلا ينزع الثوب انتزاعاً يشق عليه، ولو استدعى الأمر أن نقص الثوب قصصناه لئلا نشق عليه. وإذا وضعناه للغسل أضجعناه برفق. أما الماء: فإن كان الوقت شتاء أدفأناه، كما لو كان يريد أن يغتسل في الحياة، فيكون الماء مناسباً له، وإذا كان في الصيف أخذنا الماء المعتدل الذي يتناسب معه، كما لو كان يريد أن يغتسل في وقت الصيف وهو حي. ثم الذي يغسله يجب عليه أن يدلكه برفق، ويقلبه برفق، وإذا أراد أن يرجل شعره فيمشطه برفق، وكذلك تقليم ظفره إلى غير ذلك، أي: أنه يعامل كما يعامل الحي سواء بسواء. وكل ما يؤذي الحي فإنه يحرم أن يفعل بالميت، وعلى هذا كل ما يتعلق بكرامة الحي، والمحافظة على حقه، وحسن معاملته، يجب أن يكون كذلك مع الميت، إلى أن يلحد في قبره. إذاً كسر عظم الميت ككسره حياً.

حكم الانتفاع بأعضاء الميت

حكم الانتفاع بأعضاء الميت إذا انتهينا من موضوع الجنائز والتغسيل والتجهيز والدفن، في هذه الآونة الحاضرة، رجعوا إلى هذا الحديث في مباحث عصرية حديثة، وهي: إذا مات الميت، وعلى حسب الوضع الحاضر يمكن الانتفاع ببعض أعضائه بالنسبة لحي موجود، فهل نفعل ذلك؟ أعني أنه إذا مات الميت، واحتجنا إلى أخذ الكلية، أو إلى أخذ القلب، أو إلى أخذ القرنية من العين أو أو إلخ، هل نفعل ذلك، أو أن كسر عظمه ككسره حياً. وهل يرضى حي أن يشق بطنه وتؤخذ الكلية، أو تفقأ عينه وتؤخذ القرنية، أو يشق صدره ويؤخذ القلب؟ الجواب: لا؛ لأن كسر عظمه ميتاً ككسر عظمه حياً، وهكذا جميع الاعتداءات عليه، إذاً: لا يحق لأحد أن يفعل بالميت شيئاً من هذا. هناك مبحث مفيد في مجلة البحوث العلمية، من هيئة كبار العلماء، أو من إدارة الإفتاء، في هذا الموضوع، إذا توقفت حياة إنسان على هذا العضو، وجاء الخبر اليقين من المختصين بأن حياته متوقفة على ذلك، وتحقيق حياته يحتاج إلى مراحل طويلة، لعدم وجود بديل، وعدم إمكان علاج العضو التالي الذي عند الحي. وبعد توافق المأخوذ منه والمعطى في أوجه المطابقة المطلوبة؛ لأنه في حالة عدم التوافق يرفض الجسم المعطى ما كان غريباً بالنسبة له، كما في نقل الدم، فإنه إذا لم تتفق الفصيلة بين الطرفين، فلا يمكن أن يعطى ذلك الدم، وقد يكون فيه وفاة المعطى. إذاً: على فرض وتقدير أن في التبرع بالأعضاء إحياء نفسٍ، وهو أهون وأقرب من تعريض حي للتلف، فيكون في هذه الحالة من باب ارتكاب أخف الضررين، نعم. إن الاعتداء على جسم الميت جريمة، ولكن المحافظة على حياة الحي وتجنيبه التلف من باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] ، فيكون هذا من باب آخر، مع الاعتراف والإبقاء على القاعدة: (كسر عظم الميت ككسره حياً) . والله تعالى أعلم.

باب كيفية اللحد والدفن وما يتبعه

باب كيفية اللحد والدفن وما يتبعه وعن سعد بن أبي وقاص قال: (ألحدوا لي لحداً وأنصبوا عليَّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.

الفرق بين اللحد والشق والتفضيل بينهما

الفرق بين اللحد والشق والتفضيل بينهما هذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي لما عرف دنو الأجل، فأوصى أهله عند دفنه، قال: ألحدوا لي لحداً. إذاً كان هناك الشق، وكان هناك اللحد، ولو كان هناك شيء واحد فقط لما احتاج إلى توصية، ويكون سبيله سبيل الآخرين، لكن وجد الأمران، وتقدم لنا في صفة دفنه صلى الله عليه وسلم، أنهم اختلفوا في اللحد والشق وكان في المدينة رجلان: أحدهما يشق، والآخر يلحد، فقالوا: أبعثوا إليهما، فأيهما جاء أولاً، عملنا عمله، فجاء الذي يلحد، وهو أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا سعد يقول: ألحدوا لي لحداً، ثم يبين لهم فيقول: كما فعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، مع تساوي الأمرين من حيث إنه كان يمكن أن يأتي هذا ويمكن أن يأتي ذاك، وهما متساويان، فلما اختار الله لنبيه أحد المتساويين من وجه؛ كان ذلك أرجح وأفضل من الآخر. ثم قال سعد: وانصبوا عليّ اللبن. وذلك لسد الفراغ بعد إدخاله اللحد، وإذا وجدت فُرج ما بين اللبنة واللبنة، وضعت فيها الحصيات الصغيرة، وقيل يجعل فيها شيء من كسر اللبنات، وقيل يجعل فيها من الطين ما يمنع التراب أن ينهال عليه. فإذا وضع في اللحد نصبت عليه اللَّبِن، كما قال سعد: واللبن: مفرده لبنة، وهو الطوب الذي لم يحرق كالفخار، وكانوا يكرهون وجود الطوب المحروق في القبر، فهذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي أن يجعل له ما جعل مثله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيفية الدفن

كيفية الدفن وبهذه المناسبة كان بعض الإخوة يسأل عن حديث (اللحد لنا والشق لغيرنا) هذا الحديث أورده صاحب المهذب، ولكن ذكر النووي في المجموع أنه ضعيف. ومعنى: (اللحد لنا والشق لغيرنا) ، أن أهل الكتاب يدفنون في الشق، والمسلمين يدفنون في اللحد، ولكن لضعف هذا الأثر؛ فالكل جائز. فإذا وضع في الشق، فإنه يضجع على شقه الأيمن في طرف الشق، ووجهه إلى القبلة، فقبل إنزال الميت يؤتى باللبن، ويجعل عقوداً بقدر ما يرتفع عن جثة الميت (قرابة نصف المتر) ، ويكون مجافياً للجثة، فقبل أن ينزل ويسل في القبر، يكون الذي يتولى الدفن قد بنى نصف القبر، أي بنى نصف العقد، بحيث إنه حينما يسل في القبر لا يتحرك البناء، فيتساقط على وجهه أو على جسمه من التراب ومن الطين، ومما يتناثر في حالة رص اللبن، فإذا جهز النصف الذي من جهة الرأس، وسل من جهة الرجلين، ووضع الميت في قبره؛ يكون البناء قد عقد إلى النصف، ويكمل بعد بذلك البناء إلى أن يغطي آخر القدمين. ثم بعد ذلك إن بقيت فجوات وضع من بعض كسير اللبن في تلك الفجوات، أو تملأ بالطين، بحيث لا يسقط شيءٌ على الميت بقدر المستطاع، ثم يهال التراب عليه. وهنا لا ينبغي أن يزاد في القبر أكثر من التراب الذي أخرج منه؛ فلا نترك شيئاً من تراب الحفرية يضيع في المقبرة، ولا نزيد على التراب الذي أخرجناه من الحفرة.

حكم تسنيم القبر، وجعل قبور للأقربين متقاربة

حكم تسنيم القبر، وجعل قبور للأقربين متقاربة وهل يسوى ويسطح أو يسنم؟ ورد الأمران، فجاء أنه يسنم قدر شبرٍ. ولا بأس أن يرش عليه الماء لتثبيته حتى لا ينهال، ولا بأس أن توضع شبه العلامة -كحجر عند الرأس- ليعرف، مستطيلاً كان أو مربعاً أو مستديراً، أسود أو أحمر، حتى إذا جاء أهل الميت ورأوا تلك العلامة عرفوه، وذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ عثمان بن مظعون، وقال (لأدفن إليه من مات من أهلنا) أي: ليكون معروفاً. ولا مانع من أن يكون للعائلة أو للجماعة، مكان يجمعون فيه موتاهم متقاربين، وتكون قبورهم متقاربة، حتى إذا جاء زائر من الأقارب يزورهم استطاع أن يشمل الجميع بزيارة واحدة، والله تعالى أعلم. وللبيهقي عن جابر رضي الله عنه نحوه وزاد: (ورفع قبره عن الأرض قدر شبر) وصححه ابن حبان. يعني: رفع القبر عن الأرض قدر شبر حتى يكون مميزاً، لا أن يسوى بالأرض فيضيع، أو يكون موضع امتهان بالدهس والجلوس عليه، بل يرفع قدر شبر، وهذا هو الواقع حسب العادة، فإن التراب الذي يخرج من القبر، لا يزيد ارتفاعه فوق القبر أكثر من شبرٍ أو قريباً من ذلك. ولكن كما يقولون: يحرم أن يسنم فيرفع كثيراً، ويحرم أن يبنى عليه، ويحرم أن يجصص بالجص أو بالأسمنت أو بالطوب الأحمر، أو غير ذلك، أو ينقش أو توجد عليه كتابة، ويقولون: هذا من باب الزخرفة، وهذا من دأب غير المسلمين من أهل الكتاب. ولا مانع أن تجعل عليه البطحاء، أي: أن يؤتى بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة حمراء أو سوداء، وتجعل على القبر صيانة له، كما هو الحال في البقيع في عدد من قبور زوجات رسول الله أمهات المؤمنين، وبنات رسول الله وعمات رسول الله؛ هذه القبور يوجد عندها أحجار صغيرة عند الرِجل وعند الرأس، والمسطح عليه من الحصباء من الرمل الأحمر الخشن على مسطح القبور المجموعة، فهي قبور منفصلة، ولكنها متراصة متجاورة، والله تعالى أعلم.

النهي عن البناء على القبور أو تجصيصها والقعود عليها

النهي عن البناء على القبور أو تجصيصها والقعود عليها ولـ مسلم عنه رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) والجص نوع من الحجر، قريب من الجبس، في بعض المناطق أحجار جيرية إذا أحرقت بالنار ثم دقت، ثم عجن هذا المندق، كان مثل الجبس أو مثل الإسمنت مع الرمل، هذا هو الجص. فلا تجصص القبور، أي: لا يبنى عليها بنيان، سواء كان كالقبة، أو كان كالغرفة، وسواء كان البناء في ذات القبر، أو كان جرماً عالياً مجسماً بارتفاع قدر متر أو مترين، هذا كله منهي عنه.

النهي عن القعود على القبور

النهي عن القعود على القبور قوله: (وأن يقعد عليها) جاء النهي عن القعود على القبر، وعن الاتكاء على القبر، وعن المشي على القبر، وكل ذلك يؤذي الميت في قبره، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لابساً نعلين سبتيتين فقال: يا صاحب السبتيتين قد آذيت) فخلعهما ومشى حافياً. وفي الحديث الآخر: (إن الميت ليسمع حفيف نعالكم) . فبعضهم قال: الأولى: إذا دخل المقبرة أن يخلع نعليه، لئلا يطأ على فتات بعض الموتى عند المشي، أو احتراماً للموتى، وذلك أنا نعلم أنه إذا كان مجموعة من الرجال جلوس، وجاء شخصٌ صغير السن، أراد أن يمر ويجتازهم، وكان لابساً نعلين، فإنه يخلعهما ويحملهما في يديه حياءً من الحضور الكبار، واحتراماً لهم، وكما لو مر على جماعة من كبار الناس وهو راكب، فإنه ينزل ويقود مطيته حتى يتجاوزهم، وهذه عادات وآداب أخلاقية ريفية موجودة حتى الآن، فبعضهم يقول: خلع النعلين احتراماً وتوقيراً وتكريماً. أما النهي عن القعود فباتفاق أن القعود صريح في معنى الجلوس، بقرينة النهي عن الاتكاء عليه، فكانوا في حالة دفن الميت فجلس إنسان واتكأ على القبر، فنهوه عن ذلك فقالوا: لا تؤذِ الميت باتكائك عليه، وهذه القرينة -قرينة النهي عن الاتكاء- تنفي وتمنع تفسير من فسر النهي عن الجلوس على القبر بالجلوس لقضاء الحاجة. فالنهي عن الجلوس على القبر هو القعود للاستراحة، وقد جاء الحديث: (لئن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده، خيرٌ له من أن يجلس على قبر) إذاً: النهي عن القعود إنما هو للجلوس والاستراحة، وليس المقصود قضاء الحاجة، وصرفه إليها بعيدٌ جداً؛ لأن هنا نهياً عن الجلوس، ونهياً عن الاتكاء، ونهياً عن المشي، ولكن إذا كان هناك مكانٌ للدفن، ولا طريق إليه إلا أن نتعدى على تلك القبور فماذا نفعل؟ فلابد أن نمشي على تلك القبور لنصل إلى موضع الدفن، قالوا: فحينئذ تكون ضرورة، فيجوز. فعلى هذا لا ينبغي للإنسان إذا أتى إلى البقيع وشيع جنازة، وانتظر دفنها، أن يطأ قبراً، ولا يتكئ عليه، ولا يجلس عليه. تقدم لنا الحديث أنه لا يجلس حتى توضع، أي: توضع عن أكتافهم على حافة القبر، ثم توضع في القبر ويبدءون في الدفن، وبعد ذلك يجلسون، حتى يفرغ الذين يتولون الدفن من عملية الدفن، ثم يتلقى أهل الميت العزاء. أكرر فأقول: تلك الفترة وتلك الجلسة، لا يكون جلوسه على قبر، ولا اتكاؤه إلى قبر؛ فهذا هو محل النهي.

كتاب الجنائز [11]

كتاب الجنائز [11] ن الحرص على اتباع جنائز المسلمين وحضور دفنهم لهو مما رتب عليه الشارع أعظم الأجر والمثوبة، فمن حضر دفن أحد المسلمين فيشرع في حقه أمور منها: أن يهيل التراب على الميت ولو بثلاث حثيات، ثم يدعو للميت بعد دفنه ويستغفر له، كما يشرع في حق المسلمين عامة موالاة زيارة مقابر المسلمين للدعاء لهم وأخذ العبرة والاتعاظ من حالهم الذي هم فيه

الحثو على القبر ثلاث حثيات

الحثو على القبر ثلاث حثيات وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر فحثا عليه ثلاث حثيات، وهو قائم) رواه الدارقطني. هذا ما أشرنا إليه سابقاً من المشاركة في الدفن، من أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر ثم حثا عليه ثلاث حثيات، والحثية: الغرفة بالكف، ولكن هنا بيديه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم شارك في الدفن بأن أخذ ثلاث حثيات من تراب القبر ووضعها عليه، كأنه شارك فيمن يهيل التراب عليه بالمسحاة ونحوها. ولكن هنا لفتة في التثليث، يقولون: لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ؛ فيقول النووي: في كل حثوة يحثوها يقول كلمة من الثلاث: الأولى: منها خلقناكم. الثانية: وفيها نعيدكم. الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى. وهكذا الإنسان إن استطاع أن يشارك في إهالة التراب، أو كان العدد قليلاً فيتراوحون فيما بينهم ويساعد في ذلك، وإذا كان العدد كثيراً، وأراد أن يشارك، فقد جاء أن في كل ذرة منها حسنة، فكم في الحثية هذه من ذرة رمل أو غير ذلك، فله أجر في هذه المشاركة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الاستغفار للميت بعد دفنه

باب الاستغفار للميت بعد دفنه وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود وصححه الحاكم. في هذا الحديث يبين لنا المؤلف رحمه الله حقَّ الميت علينا من الاستغفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ لأن كلمة (كان) تدل على التكرار والكثرة، لم يقل: (وقف) بل قال: (كان) . فإذا فرغ الناس من دفن الميت، وأهالوا عليه التراب، ولم يبق إلا أن ينصرفوا؛ وقف وقال للحاضرين: (استغفروا لأخيكم) . وهذا من أدلة انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأن استغفارهم هو طلب المغفرة من الله للميت، وليس للميت في ذلك عمل، ثم يقول صلى الله عليه وسلم، مع طلب المغفرة له (سلوا الله له التثبت) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] وهذه في الآخرة. فهنا: (واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) وهذا من أقوى أدلة وجود عذاب القبر ونعيمه، وسؤاله، وقد جاء تفصيل هذه المسألة في حديث، وأنه إذا انصرف الناس عن ميتهم أتاه ملكان، وذكر من صورتهما الشيء الكثير، يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير، فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فالمؤمن يلهمه الله سبحانه وتعالى الجواب، فلا يفزع منهم، ويجيب على ما كان عليه، فإذا قالوا: من ربك؟ يقول: ربي الله رب السماوات والأرض، ما دينك؟ يقول: ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: نم نومة العروس، ويرى منزله من الجنة ومن رياضها، ونعيمها، ويفسح له في قبره، ثم يفتح له بابٌ أو نافذة على النار، ويقال له: كان هذا مصيرك، لو لم تكن مؤمناً. أما غير المؤمن -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا سئل من ربك؟ يقول: هاه هاه لا أدري! فيقول الملكان: لا دريت ولا تليت. ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! يقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب ويعذب، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على ما ينبغي أن يقال ويذكَّر به الميت، وبعضهم يذكر صيغاً لذلك كما ذكرها النووي في المجموع وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها غيرهما، منها: يا عبد الله، فإنه يسمع: يا فلان بن فلان فإنه يجلس، أو إلى الثالثة يجلس، فيقول له: تذكر ما فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى دين الإسلام، وملة محمد صلى الله عليه وسلم. إلخ، ويذكرون ألفاظاً يذكرون بها الميت، وجواب الملكين، حينما يسألانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن موضوع السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ فهذه الثلاثة الأصول التي يسأل عنها الإنسان أول ما يسأل في قبره. والله تعالى أعلم.

التلقين بعد الدفن

التلقين بعد الدفن وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه أحد التابعين قال: [كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان! قل لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان! قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد] رواه سعيد بن منصور موقوفاً. بعض العلماء يجعل هذا الحديث من باب تلقين الميت بهذه الأصول الثلاثة، وبعضهم يجعله من باب التذكير فقط والتلقين، وربما زاد عليه بعض الألفاظ، وأعتقد أن هذه المسألة بطولها قد تعرضنا لها، وجئنا فيها بأقوال الإمام ابن تيمية رحمه الله، وذكر الأثر الوارد عن أبي أمامة، وما كان يفعله السلف من تلقين الميت بعد موته عند القبر كما في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) مما يغني عن إعادته هنا، والجمهور على تلقين الميت هذه الألفاظ، وقد يضاف إليها غيرها، والله تعالى أعلم. وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً.

باب حكم زيارة القبور

باب حكم زيارة القبور وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم، زاد الترمذي: (فإنها تذكر الآخرة) هذه المسألة طويلة الذيل كما يقال، وهي قديمة تتجدد، ويكثر النزاع فيها من آونة لأخرى، ألا وهي زيارة النسوة للقبور، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ونجد في هذه المسألة فريقين، يقول: لا تزور، وفريقاً يقول: بل تزور، فهي دائرة بين الجواز والمنع. وإذا زارت هل تكون الزيارة مكروهة أم محرمة؟ فمنهم من يقول بالكراهية، ومنهم من يقول بالتحريم، وأصل هذه المسألة كما سمعنا الإشارة إليها: (كنت نهيتكم) كانت زيارة القبور ممنوعة على الرجال والنساء سواء، وما كان لأحد حق أن يزور قبراً. قال المجيزون: كان ذلك في أول الأمر، إبعاداً عن الإمعان في تعظيم الموتى؛ لأن تعظيم الموتى كان هو الخطوة الأولى للمسيرة الطويلة في عبادة الأصنام، في مثل قضية يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين. كما هو معلوم في قصة هؤلاء الرجال في زمن نوح عليه السلام.

أدلة القائلين بالمنع من زيارة النساء للقبور

أدلة القائلين بالمنع من زيارة النساء للقبور نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور سداً للذريعة، من أن يقعوا في تعظيم الأموات، فيطول الزمن، فيئول الأمر إلى عبادتهم. فلما استقرت العقيدة عند المسلمين، وكان في زيارة القبور مصلحة، جاء الإذن، ولكن لمن كان ذلك الإذن؟ هنا وقع الخلاف فقوله: (ألا فزوروها) الخطاب هنا لواو الجماعة الذكور، فهل يدخل النسوة تبعاً للذكور في: (زوروها) ، ويكون الإذن عاماً للطرفين، أم أن الإذن هنا خاصٌ بواو الجماعة وبقي النسوة على المنع الأول؟ فقومٌ قالوا: إن الإذن هنا لواو الجماعة، ونون النسوة لم تأت، واستدلوا لقولهم هذا بحديث آخر، وهو: (لعن الله زوّارات القبور) وهذا الحديث جاء بلفظين، لفظ صيغة المبالغة: زوارات، ولفظ اسم الفاعل: زائرات. فزائرات تدل على وجود الزيارة، ولا تدل على الكثرة؛ لكن (زوارات) تدل على كثرة التردد للزيارة، فالمانعون قالوا: الإذن جاء للرجال دون النساء، والوعيد جاء للنسوة في الزيارة.

أدلة القائلين بجواز زيارة النساء للقبور

أدلة القائلين بجواز زيارة النساء للقبور وقال المجيزون: أما واو الجماعة، فإن القاعدة في اللغة العربية تقول: إنه إذا وجدت مائة امرأة ورجلٌ واحد فإنه يخاطب المائة والواحد بواو الجماعة للمذكر، ويدخلن النسوة معه تبعاً، وأيضاً قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإن الواو هنا واو الجماعة، فيدخلن النسوة قطعاً في إقامة الصلاة. ومثل ذلك مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فقوله: (آمنوا) دخلت مع واو الجماعة نون النسوة في الصيام، قالوا: فلا دليل للمانعين في ذلك. ثم إن حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) جاء فيه التعليل للإذن بالزيارة في قوله: (فإنها -أي: الزيارة للموتى- تذكر الآخرة، وتزهد في الدنيا، أو تذكر بالموت) إذاً: الإذن بالزيارة معللٌ بعلة، وهي أن يتذكر الزائر الموت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وليست تلك العلة خاصة بالرجال، بل إن النسوة أيضاً في حاجة إليها، والحكم إذا كان معللاً بعلة، فإنه يدور معها وجوداً وعدماً، والعلة موجودة في النساء، بل إن المرأة أحوج إلى هذا التذكير. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) فنقول: نعم، الحديث جاء بصيغة المبالغة؛ لأن المرأة تكثر الزيارة، فيكون هناك بعض المحظورات؛ لأنها قد لا تتحفظ في الذهاب، ولا تؤدي واجب بيتها، وقد تهمل البيت بكثرة الخروج، وقد تتكلم بكلام لا يرضي الله. وجاء في الحديث السابق: (ألا فزوروها، ولا تقولوا هجراً) يعني: إذا زرت المقابر فلا تقل: يا حبيبي، يا سندي، ونحو ذلك. فيكون النهي لزوارات القبور لعدم صبرهن عند المجيء إلى القبر، وتكلمهن بأشياء لا ترضي الله عز وجل. وجاء أيضاً في حديث آخر: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقبرة، فوجد امرأةً تبكي عند قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، فتركها وذهب، فأتيت فقيل لها: إنه رسول الله، فاعتراها ما يشبه الموت، ثم أسرعت ولحقت به، تقول: فما وجدت على بابه بوابين، وقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وأصبر، قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) قال المجيزون: كانت هذه المرأة في المقبرة عند القبر تبكي، فلم يبدأ بنهيها، ولم يقل: أنت ملعونةٌ في زيارتكِ، ولم يقل لها: أنت منهية عن الزيارة، ولكن أرشدها إلى ما هو الأفضل: (اتقي الله واصبري) فقد أقرها على زيارتها ومجيئها إلى القبر. قال المانعون: وما يدرينا، لعلها ذهبت مع المشيعين وجلست هناك؟ وقد أجاب المجيزون عن ذلك بحديث: (نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) وجاء حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه: (. ثم انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالكِ يا عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. فأخبرته. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني. ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم. فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: إذا زرت القبور فكيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) فهنا أم المؤمنين تسأل: ماذا أقول إن أنا زرت؟ فلم يقل لها: لعن الله زوارات القبور ولم يقل لها: أنتِ منهية عن زيارة القبور، بل أقرها على سؤالها، وعلمها ماذا تقول إن هي زارت القبور، ولهذا يذكر النووي -وإن كان مذهب الشافعي الكراهة- أن مذهب الجمهور الجواز بشرط الأمن من محظورٍ شرعي: مثل أن تتكلم بكلمات لا ينبغي أن تتكلم بها، كأن تقول: يا سندي يا حبيبي أو أنها تخرج من غير تحفظ بتزين أو بغيره، أو تعطل مصالح بيتها من زوجها وأولادها إلى غير ذلك، وكذلك حالة الإكثار. وعلى هذا استدل المانعون بما ذكرنا، واستدل المجيزون بما ذكرنا، وكلٌ رد على الآخر في رأيه، والأخير ما ذكره النووي: بأن الأكثر على جواز ذلك مع أمن المخالفة الشرعية، في قولها، وفي صورة خروجها.

باب النهي عن النوح (النهي عن النياحة)

باب النهي عن النوح (النهي عن النياحة) وعن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح) متفق عليه. هذا الخبر جزء من حديث طويل، تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها في أوله (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع النسوة في بيت، ثم أرسل إليهن عمر رضي الله تعالى عنه؛ فأتاهن عمر فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، لقد بايعكن رسول الله) أي: فلا داعي لمجيئكن إليه. فالبيعة تكون من الرجال بالمصافحة، أما النسوة فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صافح رسول الله امرأة قط) حتى في البيعة لما بايع النسوة في مكة، وقصة هند مشهورة، فقد كان عمر يتكلم عن رسول الله للنسوة، ولم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم النسوة في بيعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] إلى آخره. فهنا قال لهن عمر: (أنا رسول رسول الله إليكن، يقول لكن رسول الله: قد بايعتكن) أي: اقعدن في محلكن، ولا حاجة إلى أن تحضرن إلى رسول الله لتبايعنه، فأنا نيابة عنه أبلغكن بيعة رسول الله إياكن على الإسلام. وأخذ العهد عليهن، بأن لا ينحن، وذكر أشياء من صدق الحديث، وعدم السرقة، وألا يأتين ببهتان يفترينه. إلى آخره ما يقال في بيعة النساء. فهنا أم عطية تقول: وأن لا ننوح، أي: على ميت، وكذلك: أن لا نتبع جنازة، وأشياء عديدة ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه. المهم عندنا قول أم عطية رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن العهد، أخذه بواسطة عمر رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إليهن بالبيعة، وبأوامر بينها صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن لا ينحن على ميت.

باب النهي عن النوح (لعن النائحة والمستمعة)

باب النهي عن النوح (لعن النائحة والمستمعة) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة) أخرجه أبو داود. النائحة: هي التي تنوح، أي: تبكي وتندب الميت، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن النياحة على الميت، وعن شق الجيب، وعن لطم الخد، وعن أشياء كثيرة كان العرب يصنعونها في الجاهلية، ولا زال بعض الجهلة يفعلون ذلك، حتى كانت تذهب المرأة وتأتي بالطين وتجعله على رأسها، وذلك زيادة في الاستساءة، والفزع بموت من مات من عزيز عليها. وكل ذلك من عدم الرضا بالقضاء والقدر، وعدم التسليم لقضاء الله سبحانه وتعالى، وفرق بعيد جداً بين هذا العمل، وبين فعل أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما؛ حيث: (كان لـ أبي طلحة ولد صغير، وكان عزيزاً عليه جداً؛ فمرض، فكان كلما أراد الخروج ينظر إليه، وإذا جاء فأول ما يسأل عنه، فتوفي في غيبة أبي طلحة، فجاء أبو طلحة فسأل عن الولد، قالت: إنه اليوم أسكن ما كان، وتركته مسجى، ثم قدمت له العشاء، ثم تهيأت له تهيؤ الزوجة لزوجها؛ حتى جامعها. ثم بعد ذلك قالت له: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن أحداً أودع أحداً وديعة، ثم جاء في وقت وطلبها منه، أكان يقدمها إليه أم يمتنع من رد الوديعة؟ قال: لا، بل إنه يرد الوديعة لصاحبها، قالت: فإن الله قد استودعك الغلام، وقد أخذ وديعته، فقم فواره؛ فغضب غضباً شديداً، وقال: تركتني حتى فعلت ما فعلت، ثم أخبرتني بهذا. ثم لما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتكى إليه ما فعلت المرأة، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما) فكانت ليلة مباركة، وحملت فكان حملاً مباركاً. فهذه امرأة ولدها الصغير تعتريه الوفاة، ثم تتحمل وتستطيع أن تخفي آثار ذلك، لا تظهر علاماته على قسمات وجهها، ولا فلتات لسانها، بل تعد الطعام للزوج، ويتعشى، ثم تتهيأ في نفسها، وذلك لقوة الإيمان والقدرة على التحمل، والتسليم لقضاء الله. ثم إذا بها تتلطف في إخبار الزوج بقضية مسلّمة: (وديعة طلبها صاحبها) ، ثم نقارن بينها وبين أولئك النسوة اللاتي ينحن، ويلطمن الخد، ويشققن الجيب؛ فالفرق كبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وعن النياحة، وضرب الخد، وشق الجيب، بل قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) والحديث الذي ذكره المؤلف يشمل النائحة والمستمعة، أي: والمستمع أيضاً، ولكن خصص المستمعة بالذكر، لأنها تأتي معها؛ لأنه كان من عادتهن أن يجتمعن في جانب، وينصبن مناحة -كما يقولون- وبعض النسوة تتكلم بعض الكلمات، ومجموعة من النسوة يرددن كلامها، فيكون عملاً مستقلاً خاصاً بالنساء، لا يشارك فيه الرجال، فإذا جاءت النساء مع النائحة ليفعلن ذلك الفعل، فالنائحة والمستمعة في هذا سواء. وكذلك يقال: لو أن رجلاً يتسمع لذلك؛ فهو تابع في هذا، ما لم ينه عنه، أو يخرج من عهدة الإنكار لهذا المنكر.

عذاب الميت في قبره بما يناح عليه

عذاب الميت في قبره بما يناح عليه وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه) متفق عليه. هذا الحديث كثير من علماء الحديث يجعله موضع إشكال، لأن الميت ما ناح، والذي ناح إنما هو غيره من الأحياء، فلماذا يعذب الميت، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] ، وقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ؟ قال بعضهم: إن الميت يعرف طبيعة أهله وذويه، فإذا كان من طبيعة أهله النياحة على الميت، وقد حضرته الوفاة، فإن كان راضياً بما يفعل أهله من النياحة ولم ينههنَّ، فيكون كأنه أمرهنَّ. أي: أن الساكت عن المنكر مشارك، كما قيل: السامع للذم شريك لقائله، ومطعم المأكول شريك للآكل، فقالوا: إما أن يوصي بأن يناح عليه كما فعل طرفه إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد فأوصى زوجته أن تندبه بعد موته، وهذا أمر جاهلي. فإذا كان الميت يعرف من طبيعة أهله النياحة، فعليه -براءة لذمته وخروجاً من العهدة- أن يمنعهن وينهاهن، ويوصي بعدم النياحة، فإن فعل ذلك زال عنه الحرج والإثم ولو خالفن وصيته، وهن يتحملن إثمهن، ولا يصيبه من فعلهن شيء، أما إذا سكت وهو يعلم أنه سيقع هذا المنكر؛ فإنه يكون مشاركاً، ويعذب بذلك. وجاء في ترجمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، أنه مرض وأغمي عليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وقال: (اللهم إن كنت أبقيته من العمر فعافه. ، ثم أفاق فقال: يا رسول الله! لقد عوتبت فيما تقوله أمي، كانت تقول: واسنداه! قال: فكلما قالت شيئاً أتى ملك يقول: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك) إذاً: إن علم الإنسان من أهله تلك الحالة فعليه أن يوصي بمنعها، فإن فعلن بعد الوصية وبعد النهي، فلا شيء عليه، وإن عرف وسكت، فكأنه راض ومقر على ما يعلم، فيلحقه من ذلك شيء، والله تعالى أعلم.

الحزن والبكاء على الميت ليس من النياحة

الحزن والبكاء على الميت ليس من النياحة وعن أنس رضي الله عنه قال: (شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري. من فقه المؤلف رحمه الله في ترتيب الأحاديث، أنه ذكر حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، ثم أعقبه بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على حافة قبر ابنته فدمعت عيناه. فكيف يلعن النائحة وعينه تدمع؟ فكأن المؤلف يقول: دمعة العين وبكاء الإنسان على الميت ليس من اليناحة، فإن النياحة قول باللسان. وبعض النسوة قد تأتي مجاملة، لا هي حزينة ولا أصيبت بشيء، ولكن زوجة الميت صديقة لها أو قريبة لها فتأتي لتنوح مع تلك المرأة مجاملة، أو لأجل أن تقضيها تلك النياحة عند فقد قريب لها. هذه عادات، ولكن الإنسان من حيث هو بشر يتأثر بالعاطفة، فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وابنته تدفن، وهو على حافة القبر، فتدمع عينه، وكذلك عن موت ولده إبراهيم عليه السلام، لما بكى ودمعت عينه، قيل له: (أتبكي؟ قال: نعم. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) هل هذا نعي؟ لا. ولكن تعبير عن الوجدان النفسي، وعن الشعور الإنساني؛ فلا مانع في ذلك. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا الموقف، قالوا: أتبكي؟ قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] بمعنى: أن الضحك ليس باختيارك، فإنك إذا رأيت شيئاً يضحك وأردت أن تكتم الضحك فإنك لا تستطيع، وكذلك البكاء، لو وجدت منظراً مؤلماً حساساً، فتدمع العين، ويحزن القلب، فإذا أردت أن تدفع هذا عنك لم تستطع؛ لأنها غريزة متمكنة في الإنسان. إذاً: ما كان بالجبلة وبالغريزة من الحزن في القلب، ومن الدمعة في العين؛ فهذا لا يلام الإنسان عليه؛ لأنه فوق طاقته، المهم فيما يتكلم به وكان يمكن أن يمسك عنه ويتكلم بغيره. إذاً: المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث عقب الحديث الذي قبله، ليبين أن التوجع والألم والبكاء ليس من النعي في شيء والله تعالى أعلم.

باب كراهية الدفن ليلا

باب كراهية الدفن ليلاً وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا) أخرجه ابن ماجة وأصله في مسلم، لكن قال: (زجر أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه) هذا الحديث يمكن أن نضيفه إلى ما تقدم في بيان أوقات الصلاة والأوقات المنهي عنها.

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ودفن الموتى

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ودفن الموتى ونعلم أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبعة، منها ثلاثة منهي عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا: 1- عند طلوع الشمس بازغة حتى ترتفع. 2- وعند قيام قائم الظهيرة حتى تتحول. 3- وعند أن تضيف الشمس للمغيب حتى تغرب. هذه الأوقات الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها مع بقية الأوقات السبعة، ونهى عن دفن الموتى فيها.

الحكمة من النهي عن دفن الميت ليلا

الحكمة من النهي عن دفن الميت ليلاً وهنا نُهي عن دفن الميت ليلاً حتى يصلى عليه. يقول العلماء في هذا الحديث: النهي معلل؛ وذلك أن دفن الميت ليلاً كان من الصعوبة بمكان، فلم يكن هناك وسائل إضاءة تمكن الذين يدفنون الميت من أداء الواجب على الوجه المطلوب، وقد تقدم: (أن قوماً مروا على المقبرة فوجدوا ناراً، فيمموها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر يقول: ناولوني ميتكم. الحديث) وكانوا يشعلون السعف، فكانت وسائل الإضاءة كما هي اليوم في الأرياف والبوادي نار الحطب، فربما يكون الدفن ليلاً مدعاة إلى التقصير في حق الميت. إذاً: لا ينبغي التعجل بالدفن ليلاً، وإذا كان ممكناً بدون أن يلحق الميت شيء؛ فإنه يؤجل إلى الصباح ليتمكن الناس من تجهيزه كاملاً، ومن دفنه على ما ينبغي. ويجوز أيضاً تأخير دفنه لانتظار حضور من يعز عليه من أقاربه أو من الصالحين الذين يحضرون ليصلوا عليه، ويدعوا له ويشيعوه ويحضروا دفنه. هذا وقد دفن الصديق رضي الله تعالى عنه ليلاً، ودفن عمر رضي الله تعالى عنه ليلاً. إذاً: إن تمت إجراءات التجهيز كاملة، ولم يبق إلا مجرد ظرف الزمن من ليل أو نهار، فليس هناك مانع من الدفن، ولكن قوله: (إلا أن تضطروا) : الاضطرار يكون إما لخوف، وهذا يكون في الأحوال السياسية الاضطرارية، حيث يكون الميت له أعداء، فيريد أهله أن يواروه قبل أن يشعر به خصمه أو عدوه، أو أن يكون الوقت حاراً، ويكون الميت قد توفي -مثلاً- في الظهيرة وتأخر تجهيزه، ولا يمكن أن ينتظر به إلى النهار لحرارة الجو، وعدم احتمال الجثة الانتظار. فإن لم يكن هناك اضطرار، ولم يفرغوا من تجهيز الميت تجهيزاً يليق به، فلا يدفن ليلاً وينتظر به إلى النهار، وكذلك إذا كانت هناك عوامل أخرى للتأخير، ولكن في حدود عدم مضرة الميت. ومن دواعي الانتظار كما أشرنا إلى ذلك، حضور أقاربه، أبنائه، وأصدقائه الصالحين وغيرهم من معارفه الذين: يحضرون فيكاثرون الصلاة عليه، ويدعون له، ويشيعونه ويدفنونه. ، والله تعالى أعلم.

كتاب الجنائز [12]

كتاب الجنائز [12] إن القيام بحوائج المسلمين والسعي في مصالحهم مما أكد الإسلام على وجوبه وحث عليه، وما من أهل بيت من المسلمين إلا ويصابون في واحد منهم بمصيبة الموت، فيكون لهم بذلك شغل عما سواه، لذلك فقد شُرع في حقهم القيام على مصالحهم في تلك الأثناء من إصلاح الطعام لهم وغير ذلك من الأمور التي تعينهم على الصبر على مصابهم، ويأتي في هذا الباب عدم الإثقال عليهم بالزيارة وطول الإقامة مما يسبب لهم الحرج في ذلك. كما أن الشارع الحكيم دعا إلى الموالاة في زيارة المقابر والدعاء لموتى المسلمين بالأدعية المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم

صنع الطعام لأهل الميت

صنع الطعام لأهل الميت

مواساة أهل الميت ومعاونتهم

مواساة أهل الميت ومعاونتهم وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (لما جاء نعي جعفر حين قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) فتح راء جعفر لأنه ممنوع من الصفر يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة.

من سيرة جعفر رضي الله عنه

من سيرة جعفر رضي الله عنه وهذا الحديث يعيدنا إلى السيرة النبوية، الحديث يقول: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنهم قد أتاهم ما يشغلهم) وذلك حينما جاء نعي جعفر، نعي أي: الإعلام بموته، وذلك أن جعفر، وهو: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة. لقد نعي الكثير إلى رسول الله، واستشهد العديد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في أحد أو في بدر أو في غيرها، ولم نسمع مثل هذا القول (اصنعوا لآل فلان طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، وجاء هذا في جعفر خصوصاً، ولم أجد جواباً على هذا الخصوص، ولكن على كل مسلم أن يرجع إلى حياة جعفر، ومن هو جعفر؟ وما هي أعماله؟ لعل في سيرته ما يكون شبه الجواب، أو ما يسكن النفس إلى هذا الأمر. من هو جعفر؟ أولاً: قوله: (اصنعوا لآل جعفر) الآل والأهل بمعنى، وهم عشيرة الإنسان، لكن يقال: الآل للشخص ذي المنزلة الرفيعة في الدنيا، ويقال: الأهل لكل إنسان من أي طبقات المجتمع. إذاً: الآل تطلق في أعالي طبقات المجتمع، ولا تكون للطبقات النازلة، وهنا جعفر هو ابن أبي طالب، وأخو علي رضي الله تعالى عنهما، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد هاجر الهجرتين، وأسلم سابع سبعة، ونذكر من سيرته من ما رواه علي رضي الله تعالى عنه يقول: (كنت أنا ورسول الله نصلي -أي خفية-، فطلع علينا أبو طالب، ويتبعه جعفر؛ فرآنا نصلي، فإذا أبو طالب يقول لـ جعفر: انزل فصلِّ بجناح ابن عمك -أي بجانبه- فلما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، التفت إلى جعفر وقال: (وصلك الله بجناحين في الجنة بما وصلت ابن عمك) ، وقال لعمه: انزل صلِّ معنا، فأجابه بالجواب الذي مات عليه) فكان جعفر رضي الله تعالى عنه من أول حياته -كما كان علي رضي الله تعالى عنه- مع رسول الله، وهناك يقول أبو طالب: والله! إني لأعلم يا بن أخي أنك على الحق، ولكني كذا وكذا. فمن بادئ الأمر اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وكان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في منعة عمه من أن يصيبه الناس، فلما توفي عمه، وكذلك خديجة، واشتد الأمر على أصحابه وعليه صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: (إن في الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، يمكن أن تكونوا بجواره؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً) فهاجر جعفر إلى الحبشة، وكان لـ جعفر رضي الله تعالى عنه موقف مشهود في بلاط الملك، حينما نزلوا بأرض الحبشة، ووقعت وقعة بدر، وأصيب من المشركين ما أصيب، قالوا: نأخذ ثأرنا ممن هم في الحبشة، وأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة بهدايا للنجاشي، وأخذوا معهم هدايا لبطارقته أي بطارقة الملك في بلاطه، وأعطوا كل بطريق هديته، وقالوا: نحن جئنا الملك نطلبه أولئك الفتية الذين خرجوا من دين قومهم، ولم يدخلوا في دين ملككم، فإذا كلمناه فصدقونا، ومروه بأن يردهم على أهلهم. قالوا: نفعل. فلما دخل عمرو بن العاص ورفيقه، وقال: ما جاء بك يا عمرو؟! وكان صديقه من قبل، قال: جئتك بالهدايا، ثم قال: إن فتية سفهاء خرجوا من دين آبائهم، وقد أرسلني قومهم إليك لتردهم إليهم؛ لأنهم خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دينك. فقال البطريق: نعم أيها الملك رُدَّهم، فإن قومهم أعلم بأمرهم؛ فغضب الملك، وقال: لا. والله لا أردهم؛ حتى أستحضرهم وأسألهم ما الذي هم عليه، فدعاهم. يقولون: ما اشتد علينا أمرٌ كذلك اليوم؛ لأنا سمعنا بمجيء عمرو بن العاص وهو من الدهاة، فحضروا عند الملك، فسألهم ما هذا الدين الجديد الذي دخلتموه وتركتم دين آبائكم، ولم تدخلوا في غيره من اليهودية ولا النصرانية. كان جعفر رضي الله تعالى عنه لما اجتمعوا عند طلب الملك، قد قال لأصحابه: أنا خطيبكم اليوم عند الملك، فقام جعفر وقال: [أيها الملك! إنا كنا في جاهلية جهلاء، يأكل قوينا ضعيفنا، لا نحل حلالاً ولا نحرم حراماً، ونفعل كذا، ونأتي كذا، ونشرب كذا -وأخذ يذكر مساوئ الجاهلية كلها- حتى أكرمنا الله وبعث فينا رجلاً منا نعرف نشأته، ومولده، وصدقه وأمانته، فأمرنا أن نعبد الله وحده -أي بدل الأصنام- وأمرنا بالصدق، وبصلة الأرحام، وبكذا، وكذا، وكذا] ، فلما سمع الملك ذلك أعجب بهذا، ثم قال: أنتم السيوح، أي: سيحوا في الأرض لا يسبكم أحد إلا عوقب. ثم قال: أيها القوم! لا حاجة لي في هداياكم، أو أنه انصرف إلى عمرو وقال: يا عمرو! ويحك هذا أمر صفته كذا وكذا، فخرج عمرو وصاحبه من عند الملك بخفي حنين -كما قيل- فـ عمرو قال: والله لأستأصلن شأفتهم، فرجع من الغد إلى الملك، وقال: أيها الملك! أتدري أنهم يقولون في عيسى أنه عبدٌ، عيسى معبود الملك، أو ثالث ثلاثة، أو ابن الله، فدعاهم مرة أخرى فاجتمعوا وقالوا: لماذا دعانا مرة أخرى؟ ماذا تقولون له إن سألكم عن عيسى؟ قال: والله ما نقول إلا ما قاله الله، وليكن ما يكون بعد ذلك، فجاءوا، وسأل أيضاً وتكلم جعفر رضي الله تعالى عنه. فقال الملك: هل عندكم شيء مما جاء به هذا النبي؟ قال: نعم، وقرأ عليه {كهيعص} [مريم:1] إلخ. ثم قال: ما تقول في عيسى؟ ما يقول نبيكم في عيسى؟ قال: كما قال الله: عبد الله، ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول العذراء وروح منه. فألقى النجاشي إلى الأرض ورفع عوداً صغيراً بين أنامله -وكان البطارقة موجودين ناشرين صحفهم أي: الأناجيل - قال: والله ما زاد عيسى ولا نقص على ما قال صاحبكم، ولا مثل هذا العود. فخار البطارقة، فقال: سواء عليكم تخورون أو لا تخورون، هذا هو الحق. ثم قال لجلسائه: ردوا عليهم هداياهم، والله ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد عليَّ الملك، ولا أطاع الناس فيَّ، فلن آخذ الرشوة في هؤلاء، ولن أطيع الناس فيهم. وقوله: ما أخذ الله الرشوة عليَّ في رد ملكي، يقولون في تاريخه: كان أبوه ملكاً على الحبشة، وكان له أخ، وأبو النجاشي ليس له ولد إلا هذا، وأخوه له عشرة أولاد، فقال أهل الحبشة: إن هذا الملك ليس له إلا ولدٌ واحد، فإذا مات وتولى ولده ومات ولده انفلّ أمر الحبشة وضاعت، فلنقتل هذا الملك، وننصب أخاه؛ حتى إذا كان ملكا توارث الملك من أبنائه عشرة أبناء ينتظم أمر الحبشة، ويظل مدة طويلة، ففعلوا، ونصبوا أخاه. ثم إن النجاشي هذا كان فطناً ذكيا، استسلم للأمر، ولكنه تداخل مع عمه في سياسة الملك، حتى غلب على أمر عمه بالسياسة، فلا يصدر شيئاً ولا يفعل شيئاً إلا بالرجوع إلى هذا النجاشي، فنظر أهل الحبشة وقالوا: والله لقد تحكم أو سيطر على الملك، نخشى فيما بعد أن الملك ينصبه علينا ملكاً، وقد علم أنا قتلنا أباه فينتقم منا، فنأتي إلى الملك. فأتوه وقالوا: إما أن تقتله حتى لا ينتقم منا فيما بعد، وإما إن تخرجه عنا. فقال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، لا، أنا أبعده عنكم، فأخرجوه إلى السوق، وجاء تاجر وباعوه -كما تقول القصة- بستمائة درهم. ثم خرج عم النجاشي -الذي هو الملك الحالي- في يوم مطير شديد وفيه عواصف، ففي خروجه نزلت صاعقة وأحرقته، ثم نصب أحد أبنائه، وتولى الملك، فليس فيهم من يصلح لإدارة الملك، فرجعوا واجتمعوا وقالوا: والله لن ينتظم أمر الحبشة إلا على ذاك الذي بعتموه، فأدركوه. وكان التاجر الذي اشتراه قد ألقاه في سفينة من أجل أن يرحله، فأسرعوا وأدركوا التاجر بسفينته، وفيه هذا الغلام، ثم رجعوا به فنصبوه ملكاً عليهم، وجاء التاجر الذي كان اشتراه، وقال: أعطوني حقي؟ قالوا: ليس لك شيء، قال: والله لتعطوني حقي، أو لأرفع أمري إلى الملك، فأتى إلى الملك، وقال: أيها الملك! تاجر اشترى غلاماً، والذين باعوه استلموا الثمن، ثم إذا بهم أخذوا الغلام من المشتري، ولم يدفعوا إليه القيمة. قال: والله! إما أن يدفعوا لك القيمة، ويسلموا العبد يداً بيد للمشتري يذهب به، فهناك قالوا: ندفع القيمة. وهذا معنى قوله: ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد علي ملكي؛ لأن ملكه لما قتل أبوه كان هو أحق بالملك، ولا أطاع الناس فيَّ فآخذ الرشوة فيكم، أو أطيع الناس فيكم، اذهبوا فأنتم السيوح. وهكذا كانت قضية جعفر في بلاط النجاشي؛ أعلن عن الإسلام، وصرح للملك بما قال الله في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبقي المسلمون هناك إلى فتح خيبر. ووفد جعفر رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستقبله صلى الله عليه وسلم، وقبله بين عينيه، وقال (والله! لا أدري بأيهما أشد فرحاً بمقدمك أم بفتح خيبر؟) وذكروا مناقب كثيرة بأنه صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أنت أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً) ، وكانوا يقولون: ما ركب النعل، ولا احتذى النعال، من يشبه رسول الله بعد جعفر. كان أكرم بني هاشم، وكان أشجعهم، ثم كان موقفه الذي استشهد فيه، وجاء فيه النعي، وجاء فيه هذا الخبر، ألا وهو إمرته ثالث ثلاثة في غزوة مؤتة.

استشهاد جعفر رضي الله عنه

استشهاد جعفر رضي الله عنه (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن ملوك الغساسنة على حدود الشام يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس، فاجتمع له ثلاثة آلاف مقاتل، فأمَّر عليهم ثلاثة زيد بن حارثة حب رسول الله، وجعفر ابن عمه، وعبد الله بن رواحة، وقال: إن أصيب زيد فالأمير جعفر، وإن أصيب جعفر فالأمير ابن رواحة، وإن أصيب ابن رواحة؛ فليختر المسلمون رجلاً منهم) وخرجوا في يوم الجمعة، ومضوا إلى الشام، فلما وصلوا إلى معان هناك جاءهم خبر من العيون التي أرسلوها بأن ملوك الغساسنة جمعوا مائة ألف ليردوهم، واستنجدوا بالروم بمائة ألف أيضاً، فاجتمع مائتا ألفٍ من الروم ومن العرب المتنصرة ومن تبعهم. هناك توقف الأمراء الثلاثة؛ لفرق ما بين العددين: ثلاثة آلاف مقابل مائتي ألف، وإذا نظرنا إلى العدد الشرعي في أول الأمر، وإلى ما جاءت الرخصة بعده، نجد النسبة بعيدةً جداً؛ لأن الشرع أو النص القرآني الكريم يقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] يعني: الواحد بكم؟ بعشرة، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال:65] وبعد ذلك: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:66] . {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] أو مائة يغلبوا مائتين. لو جئنا في هذا الموقف لوجدنا النسبة بين ثلاثة آلاف ومائتي ألف تزيد على واحد إلى ستين رجلاً، مع وفرة العدد والعدة عند العدو، ومع طول المسافة وثقل المشقة، ومع قرب ديار العدو؛ هناك تشاور الأمراء الثلاثة، ولهذا في نظري أن مؤتة تشبه بدراً، وقد سميها بدر الشام؛ لأن فيها من المواقف ما يشابه بدراً من جوانب شتى. تشاور الأمراء فيما بينهم، فبعضهم قال: نبقى في معان، ونخبر رسول الله بالموقف والعدد، إما أن يمدنا بمدد من عنده، وإما أن يأمرنا بما يراه. فقام عبد الله بن رواحة وتكلم بما يشجع القوم: والله! ما قاتلنا في بدر بعدد ولا بعدة، وإنما قاتلنا بهذا الدين الذي نقاتل عنه، وذكر أشياء عن الشهادة ورغب فيها، فسمع ذلك زيد وهو الأمير الأول، فوافق على أن يقابلوا العدو. ومشوا إلى مؤتة، والتقى الفريقان: ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، واستمر القتال ستة أيام، وهم يصابرون مائتي ألف مقاتل على تلك الحالة، وفي اليوم السابع بعد الجهد وبعد المشقة استشهد زيد. ثم أخذ الراية جعفر، فحينما أخذ الراية قطعت يمينه فأخذها بيساره، فلما قطعت يساره ضمها بعضديه، فقطع العضدان وسقط اللواء، فقتل جعفر، وقد كان على فرسه، فنزل عنها وترجل وعقرها، وقيل: أول من عقر في الإسلام هو جعفر؛ لأن الخيل تكاثفت عليه لم يعد لفرسه مجال أن يجول في أرض المعركة، فنزل يقاتل مترجلاً، وقد وجد في جسده قرابة سبعين طعنة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح ورمية سهم، وقيل: جاء رجلٌ وشقه نصفين، وسقط اللواء في الأرض، فأخذه عبد الله بن رواحة فأصيب، فأخذها خالد. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في يومها، وصعد المنبر، وخطب الناس وقال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة وسكت، فاستاء الأنصار وقالوا: لعله وقع من ابن رواحة ما يؤذيهم، فأعاد الكلام أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله يفتح الله على يديه، وكان الذي أخذها خالد بن الوليد) . وهنا يرى بعض المؤرخين أن خالداً انحاز بالمسلمين وانسحب، والبعض الآخر يقول كما يرجح ابن كثير: لقد انتصر المسلمون على الكفار؛ لأن خالداً لما أخذ الراية جاء في الليل، وأرسل سرية من الجيش إلى خارج المعسكر، وأمرهم إذا طلعت الشمس، وبدأ الالتحام أن يقدموا وينزلوا إلى المعركة مباشرة، وجعل الميمنة ميسرة، والمقدمة مؤخرة، وغير في تشكيل الجيش، فلما بدأت المعركة رأى الروم ما لم يروه من قبل، وجاء هؤلاء، فظن الروم أن المسلمين قد أتاهم مدد، وقد كانوا قبل ذلك عاجزين عنهم وهم قلة، فكيف بهم إذا جاءهم المدد؛ فبدءوا يتلفتون، ونصر الله المسلمين عليهم. هنا لما أصيب جعفر، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه لما قطعت يداه، وعضداه، قال (لقد أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة، يرتع في الجنة حيث يشاء) . وذكروا أخباراً عديدة: منها ما يذكر ابن عساكر من أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً فرفع رأسه وقال: وعليكم السلام، وقال: هذا جبريل ومعهم جعفر ذهبوا يبشرون أهل بيشة بالأمطار. وبيشة بلدة في اليمن إلى غير ذلك من الأخبار عن جعفر، ولذا لقب بـ جعفر الطيار؛ لأن له جناحين يطير بهما حيث شاء. فإذا كان الأمر كذلك وهذا هو جعفر الذي عقر فرسه في أرض المعركة، وترجل وقاتل، واحتمل فوق السبعين طعنة، ثم شق نصفين، وهو لم يتأخر ولم يتردد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأمراء الثلاثة على أسرة من ذهب في الجنة. يقول: ورأى في سرير عبد الله بن رواحة وفي سرير زيد إزوراراً في صدورهما إلا جعفر ليس في سريره إزورار، فسئل عن ذلك قال: لما تقدموا باللواء كان عندهم غضاضة من الموت إلا جعفر، أقبل عليه بكل شجاعة وجرأة، وعلى هذا لما عاد المسلمون من مؤتة خرج صلى الله عليه وسلم يتلقاهم، كان أبناء جعفر مع من خرجوا مع المسلمين، فوجدهم رسول الله فأخذهم إليه، وتذكر زوجة جعفر في أخبار أخرى بأن الرسول أتاها في البيت، وكانت تجهز طعاماً، فأستوصاها بأبناء جعفر خيراً. فقالت: هل سمعت عن جعفر شيئاً يا رسول الله؟! فأخبرها أنه قد أصيب.

صنع الطعام لأهل الميت هو المطلوب لا العكس

صنع الطعام لأهل الميت هو المطلوب لا العكس فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم) وأقول أيضاً: نفس السؤال: لقد أصيب واستشهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الشهداء، والكثير من القتلى، وما أوصى بهم كما أوصى بـ جعفر وآل جعفر. والله تعالى أعلم. والحديث سيق هنا لما يتعلق بصنع أهل الميت طعاماً للمعزين، فيقال: لا، وإنما الذي ينبغي العكس، فعلى ذويهم وجيرانهم ومن يعرفهم أن يصنع طعاماً في بيته ويقدمه لأهل الميت؛ لأن أهل الميت أتاهم ما يشغلهم.

السلام على أهل القبور عند زيارتها والدعاء لهم

السلام على أهل القبور عند زيارتها والدعاء لهم وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم. قوله: (كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) هذا الحديث يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم؛ لأن زيارة المقابر والسلام على الموتى عبادة وقربة، والعبادات توقيفية، ومن هنا كان يعلمهم صلى الله عليه وسلم ما يقولون.

سماع الموتى السلام والدعاء

سماع الموتى السلام والدعاء قوله للموتى: (السلام عليكم أهل الديار) لو مررت على الجدار فلا تقول: السلام عليك يا جدار؟ لأن الجدار لا يسمع، فحينما تقول لمن أمامك: السلام عليك. لا تقولها إلا إذا كنت تعلم أنه أهل للسلام وأنه يسمع منك السلام، ومن هنا يستدل العلماء على أن من سلَّم على ميت؛ فإن كان يعرفه باسمه ذكره، وقد جاء الحديث: (من مر بقبر أخيه المسلم وهو يعرفه باسمه وسلم عليه، رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) فإذا كان بصفة عامة لا يعرف الأسماء سلم عليهم بصفة الإسلام. إذاً الموتى يسمعون، ومن أراد كثرة الأخبار في هذا الباب فليرجع إلى كتاب الروح لـ ابن القيم فإنه يجد فيه متعاً وأخباراً وأشياء كثيرة جداً. وذكر العلماء أن الموتى لا تخفى عليهم حالة من يمر بهم، وأنهم يتزاورون، أو إذا مر عليهم مار فسلم عليهم فدعا لهم وزعت لهم الجوائز ومنحت عليهم المنح، فيقال: من أين هذا؟ فيقال: فلان مر فسلم، فلان مر فدعا. إلى غير ذلك، فقالوا: هذا من أقوى الأدلة على أن الموتى يسمعون السلام والدعاء ممن يُسلم عليهم ويدعو لهم، وإلا كان السلام سيذهب ضياعاً، فهذا يقتضي بدلالة الالتزام أن الميت يسمع السلام. قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) أهل الديار كلمة (الديار والدار) تطلق على الأرض مسكونةً كانت أو غير مسكونة، تقول: ديار ثمود، ديار بني تميم، وقد تكون خالية منها، فتطلق على العامر والدامر. قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين) الجمع بين الصفتين يعلم الله تعالى ما الحكمة منه، ولكن غالباً ما يكون ذلك لتفاوت درجات أهل المقابر، فليسوا كلهم على درجةٍ واحدة، فمثلاً لو قال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) يمكن أن يقال: هذا لا يصل من هم أقل منهم درجة، فأتى الحديث بسلام يشمل الجميع من المسلمين والمؤمنين. قوله: (وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون) . (إنا) ضمير المتكلم ومعه غيره؛ لأن معه من يسمع صلى الله عليه وسلم وهو يعلمهم، أو للمتكلم ومعه غيره إذا خرجوا إلى المقابر فهذا جمع خرج للمقابر من الرجال، (وإنا) يعني معشر الحاضرين المتكلمين.

بحث في المشيئة من الحديث

بحث في المشيئة من الحديث (إن شاء الله بكم لاحقون) التعليق على المشيئة هنا هل هو لأمرٍ ممكن، أو غير ممكن ليمكن؟ تقول: إذا جاء زيدٌ إن شاء الله أعطيه كذا. (أعطيه) ممكن أن تعطيه ويمكن أن لا تعطيه؛ لأنك قلت: إن شاء الله أعطيه، فيكون العطاء محتملاً للوقوع وعدم الوقوع. وهنا: اللحوق بهم مقطوع به إذاً: لماذا ذكر المشيئة هنا؟ فبعضهم يقول: لأحد أمرين: للتعليق على سبيل عدم الجزم، وإما لعدم تعليق شيء، وإنما تقال تبركاً على حد قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] . والآخرون قالوا: لا، ليس للإنسان في اللحاق بهم فعل، ولا يملك شيئاً، والمشيئة هنا متعلقة باللحاق بهم في تلك الديار التي مر عليها وسلم على أهلها، يعني: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون في هذه المقبرة -أي: بالبقيع بالمدينة-. ويكون ذلك من باب التمني، أو من باب الترجي، أو الطلب، أو الطمع بأن يلحق بأهل هذه المقبرة فيها، وهذا من الترغيب في الوفاة بالمدينة، وأن يدفن بالبقيع، نسأل الله أن يكرمنا وكل راغب بذلك.

فضل الموت في المدينة والدفن فيها

فضل الموت في المدينة والدفن فيها وقد جاء في الموطأ حديثٌ غريب، وهو من أقوى أدلة تفضيل سُكنى المدينة والموت فيها على مكة -والناس يغفلون عن ذلك- جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان جالساً في البقيع وهم يحفرون قبراً لميت، فجاء رجل ونظر في القبر وقال: بئس مضجع الرجل! فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت يا هذا! قال: يا رسول الله! إنما عنيت الجهاد في سبيل الله! -يعني: أريد أن يقتل في سبيل الله، فتلك هي نعم الميتة- قال: لا، ما من بلدٍ أحب إليَّ أن يكون قبري فيها منها) (منها) أي: المدينة. فيكون قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تحقيقاً لهذه المحبة وهذه الرغبة، وقد تحققت، فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه قُبض صلى الله عليه وسلم في حجرتها، وجاء الصديق رضي الله تعالى عنه: ما قبض الله روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه؛ فدفنوه في حجرة عائشة. ولما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها موت الصالحين من الأمم، ذكرت أنه كان إذا مات الرجل الصالح فيهم بنوا على قبره واتخذوه مسجداً؛ قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره مع الموتى؛ لكن لم يبرز قبره مع عامة الناس حراسة للعقيدة وحمايةً للتوحيد، وقد قبر في حجرة عائشة. ومن هنا يتكلم العلماء عن فضل البقيع بالذات -بقيع الغرقد-؛ لأنه جاء النص بالاستغفار لهم وزيارتهم خاصة، فقد جاء عن أبي بن كعب قال: إنا لنجدها -أي البقيع- في التوراة تسمى كفتة؛ لأنها تؤخذ فتكفت بما فيها في الجنة. وجاء في الحديث (إن أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة القبور الثلاثة المشرفة، ثم يليهم أهل البقيع، ثم يليهم أهل المعلاة في مكة، ثم عامة الناس) ثم جاء الحديث (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فمن مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) قالوا: قوله: (أو) ليس للتخيير ولكن للتنويع، أي: شهيداً لمن حضرته، شفيعاً لمن كان من بعدي. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بكرامة عباده الصالحين، وأن يختار لي ولمن يرغب البقيع إن شاء الله.

سؤال العافية للأحياء والأموات

سؤال العافية للأحياء والأموات من السلام الذي كان يعلمهم إياه (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ثم يدعو ويقول: (نسأل الله لنا ولكم العافية) . وقوله: (لنا ولكم) يقول العلماء: ينبغي للداعي أن يقدم نفسه ثم يعطف الآخرين، كما قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19] . (ونسأل الله لنا ولكم العافية) العافية -كما يقال في عرف الناس- الصحة، وضدها السقم، والعافية من كل سوء: السلامة منه، والمعافاة كذلك، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر، واختلف الناس فيها: (التمسوها في العشر الأواخر) قالت: (ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) السؤال هو: اعف عني، وما قبله مقدمة ووسيلة، أي: أنت يا ربِّ تحب العفو، أنت يا رب عفو، بصفتك عفو وبكونك تحب العفو اعف عني، فتقديم: (إنك عفو) و (تحب العفو) توسل بصفات الله وأفعاله لما تريد أن تطلب، وهو معنى قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يعني: تخير لمسألتك من الأسماء الحسنى ما يناسبها، فإذا كنت تطلب العفو سل الله باسمه العفو، وإذا كنت تطلب الرزق؛ فاسأل الله باسمه الرزاق، أو تطلب المغفرة أو غفران الذنوب، فاسأل الله باسمه الغفار. وهكذا. فهنا نجد أحب سائل إلى رسول الله وهي عائشة، وهي تسأل عن أعظم شيء محبوب للمسلم، ويأتيها الجواب من أحب خلق الله إليها، أنه: طلب العفو. إذاً: طلب العفو أحب ما يكون وأفضل ما يكون في هذا المقام، ويقول بعض العلماء: تأملت هذا على الإيجاز، فوجدت من عافاه الله في الدنيا في بدنه، كان سالماً من مصائب الدنيا، وكان مرتاحاً من العذاب ومن الحساب ومن المناقشة يوم القيامة، وهذا هو الفوز العظيم. إذاً: السعادة كل السعادة تأتي تحت عنوان العفو والعافية، فقال: (نسأل الله لنا ولكم العافية) والعافية أي: مما ينال بعض أهل القبور العافية مما ينال بعض أهل الموقف العافية مما ينال بعض الناس على الصراط، عند الميزان، عند الحوض. إلخ.

التوجه إلى القبور عند المرور عليها وذكر الدعاء

التوجه إلى القبور عند المرور عليها وذكر الدعاء وعن ابن عباس قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن الأثر) رواه الترمذي وقال: حسن. ذكر في الحديث السابق أنه كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، يعني: إذا أتوا إليها قصداً، فتلك زيارة مقصودة، وهي ليست من شد الرحال؛ لأن البقيع في طرف المدينة، بل أبعد منه قباء، والإتيان إلى قباء ليس شداً للرحال؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا إلى ماء وشراب للطريق، فهو في أطراف البلد. فإذا خرج الإنسان وقصد المقابر بذاتها فقد تقدم الكلام، وقد كانوا كثيراً ما يقصدونها يوم الجمعة ويوم العيد، فيسلمون على الموتى ويدعون لهم، والموتى يستأنسون بهم. فإذا لم يكن قاصداً، ولكنه مر فرأى في طريقه مر على مقبرة، فهل يمر بها وهو صامت؟ فالمؤلف بين لنا الحالة الأولى وهي: أن يعمد إلى المقابر زائراً فماذا يقول؟ يقول كما تقدم (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) فإذا مر مروراً عادياً؛ لكنه فوجئ ووجد نفسه يمر على المقبرة، فماذا يفعل؟ قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه ... ) لأن الإقبال بالوجه من أدب المحادثة والمخاطبة، فلا تسلم وأنت تمشي، بل يجب أن تحترم من تسلم عليهم، فتتوجه إليهم حيث يوجهك، سواء للقبلة أو للشمال أو للجنوب؛ لأنك تستقبل من تسلم عليه. قال: (فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) في الحديث السابق قال: (دار قوم مؤمنين) وهنا قال: (يا أهل القبور) ؛ لأنه مر على قبور، فنحن عندما نمر على القبور، سواء من الطرف أو من الوسط نقول: (السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) . السلف: هو الذي يتقدم، وسلف الأمة: الأجيال المتقدمة، (ونحن بالأثر) الأثر: الطريق الذي سلكه أهل القبور، وأولئك كل من على وجه الأرض سيسلكون على أثرهم، ولن يتخلف أحد يتخلف أبداً، ولا هناك أحد له طريق غير هذا الطريق. أنتم سلفنا، أي: تقدمتمونا، ونحن على أثركم نمشي، وسنلحق بكم إن شاء الله. والعاقل حينما يأتي إلى المقابر، ويتذكر هذه الدعوات فإنه يتصور مآل الإنسان، كما في الحديث السابق: (ألا فزوروها، فإنها تذكر بالآخرة، وتزهد في الدنيا)

باب النهي عن سب الأموات

باب النهي عن سب الأموات وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري. وروى الترمذي عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال: (فتؤذوا الأحياء) .

الحكمة في النهي عن سب الأموات

الحكمة في النهي عن سب الأموات هل من حق الميت بعد دفنه، وبعد أن فارق الدنيا وتركها، أن تلحقوه بدعوة خير وثناء عليه، أم أن تنبشوا دفاتر أعماله، وتفتشوا عن سيئاته؟! أليس يكفي أنه ترك الدنيا بما فيها وذهب؟! قوله: (لا تسبوا الأموات) أنت في حياتك مع الشخص وهو حي، لا يحق لك أن تذكر مساوئه في غيبته، قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ، ثم مثل سبحانه غيبة الحي من الحي بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ؛ فالذي يذكر مساوئه كأنه أكل لحمه ميتاً؛ ووجه الشبه: أن الغائب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الغيبة، والميت لا يستطيع أن يدفع عن نفسه من يأكله. ومعنى أن الميت قد أفضى إلى ما قدم، يعني: ليس بزائد على ما كان منه من عمل، وليس بناقص عنه شيئاً، وقد صار بين يدي الله. وكما يقول الشوكاني: لقد أفضى إلى ربه، وجثا بين يدي مولاه، أفتحاسبه أنت وتناقشه؟ ليس لك حق في ذلك؛ فإنه أفضى إلى ما قدم، وسيلقى جزاء عمله بين يدي ربه، وقد يجد ربه غفوراً رحيماً يغفر له ما تسيء به إليه، ويرحمه فيما تعاتبه فيه، فيكون ربه قد رحمه، وأدركه بلطفه، وأنت هنا تتمسك بمثالبه، فأنت إذاً كالقابض على الريح. وقد قال بعض العلماء: ذكر مساوئ الأموات كغيبة الأحياء، ولكن الصحيح أنها أشد؛ لأن الحي ربما تصله غيبته فيدفع عن نفسه؛ ولكن الميت لا يستطيع ذلك. قد يقول بعض الناس: لو كان هذا الميت مجاهراً بالمعاصي، فاسداً فاسقاً، فلا مانع من ذكر مساوئه، ونقول: مهما تصورت من سوء فعاله، فهي معه وقد لقي ربه بها، وربه أولى به منك، فلا حاجة إلى أن تتعرض له. ولا يدخل في ذلك الجرح والتعديل، كقولهم فلان المدلس، وفلان صفته كذا، لأن هذه فيها فائدة للمسلمين، بأن يحذروا رواياته؛ لأنه يبنى عليها أحكام، وكذلك وصفه بوصف لا يعرف إلا به، كقولهم: فلان الأعرج، أو الأعمش، أو الأعشى، والنهي وارد على السب الذي لا يقصد من ورائه عرض صحيح. ثم الرواية الأخرى: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) فالميت قد ذهب، ثم يأتي من يقول لابنه: والدك كانت صفته كذا، فهو يقول: لكن يا أخي! لماذا تسيء إليَّ في أبي، وقد انتقل إلى رحمة الله، وأفضى إلى ما قدم.

التحذير من الكلام في أعراض العلماء

التحذير من الكلام في أعراض العلماء وهنا أُوجّه التحذير كل التحذير ممن يتناولون سلف الأمة في أي مجال كان: بذكر المثالب، وبذكر النواقص، مثل: فلان ركن في الكذب، فلان مبتدع، فلان فلان؛ فإن فلاناً قد أفضى إلى ما قدم، والطعن -كما يقولون- في مذهبه ومعتقده وطريقته، وهذا كله أشر ما يكون على الإنسان، والعلماء يقولون: لحوم العلماء مسمومة، يعني: من تناول العلماء بالسب والتنقيص لشيء عندهم، فإنما ذلك سم يتناوله. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فلا ينبغي طعن في ميت قط، وإذا كان من أهل العلم والفضل فله منهجه، فإذا كان قوله مخالفاً لإجماع المسلمين فتقول: هذه الطريقة فاسدة، هذه الطريقة باطلة، ولا تتناول صاحبها بالسب واللعن والتنقيص، كما إذا وجدت كتاباً لإنسان، ووجدت المكتوب فيه مغايراً لإجماع المسلمين، فليكن نقدك منصباً على المكتوب وليس على الكاتب؛ لأن المنصب على الكاتب لا قيمة له، وإنما التحذير من هذا المكتوب، وإذا نقضت المكتوب فإن ذلك يكفي. أرجو الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا من أعراض الناس أحياءً وأمواتاً، من سلف الأمة وخلفها، وأن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.

الزكاة

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [1] لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة، وأظهر الحكمة من ذلك لأجل أن يدفعها العباد طلباً لطاعة الله، وعن طيب نفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على القبائل الإسلام مبتدئاً بالشهادتين، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم بقية التشريعات.

فضل الزكاة في الإسلام

فضل الزكاة في الإسلام باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن -فذكر الحديث- وفيه: إن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه واللفظ للبخاري] .

الزكاة تطهير للمزكي والآخذ

الزكاة تطهير للمزكي والآخذ إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه لهو من أهم مباحث الأموال في الإسلام، والمتأمل لنصوص الشرع في هذا العمل يجد الشمول والترتيب في أدق ما يكون، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الصلاة حق الله، وعبادة البدن، والزكاة حق المال، وعبادة الأموال) وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأموال الزكوية، وبيّن صلوات الله وسلامه عليه الأنصبة فيها وما يخرج منها وإلى من تؤدى. والبحث في الزكاة يكون في: مشروعيتها، وحكمتها، وأنواع الأموال التي تزكى، والمقادير التي تخرج منها، والجهات التي تعطاها، وحكم من امتنع عنها. والله سبحانه وتعالى فرض الزكاة، وأشار القرآن الكريم إلى نوع من الحكمة الجامعة في فرضيتها، فقال سبحانه مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فجعل المولى سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفين: للدافع وللآخذ، وفيها الحكمة المزدوجة: تطهير وتزكية. أما (تطهرهم) فيقول العلماء: تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كالحقد والحسد؛ لأن المسكين إذا وجد المال في يد الغني يستكثر به عليه، ولا يصيب منه شيئاً، فإنه يشتد غيظه عليه، وحسده له على ما بين يديه، فإذا أعطي من هذا المال حصته التي أشار إليها قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ذهب عنه ذاك الحقد وذاك الحسد. وكذلك الغني عندما يخرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم بأن الزكاة لا تنقص المال ولكن تزكيه، والزكاة بمعنى: النماء والزيادة. (ما نقص مال من صدقة) ، بل الصدقة تنمي المال وتزكيه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] أي: تتضاعف أموالهم وتتزايد بسبب الصدقة. وقد بيّن المولى سبحانه إلى أي حد تتضاعف الصدقات، وأجرها إلى سبعمائة ضعف وزيادة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ومعلوم: أن (7×100 =700) {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] . وبين صلى الله عليه وسلم موجب تلك المضاعفة عندما قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم مائة ألف درهم. قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) ، وهذا في ميزان الحساب والعقل أن صاحب الدرهمين تصدق بنصف ما يملك، وصاحب المال الكثير تصدق بطرف مما يملك، ثم الذي تصدق بمائة ألف بقي في يده الشيء الكثير، والذي تصدق بدرهم لم يبق معه إلا درهم، وهذا فرق بعيد.

ميزة الإسلام بالزكاة على نظام الضرائب

ميزة الإسلام بالزكاة على نظام الضرائب وبينت السنة النبوية المطهرة الفرق بين التعامل في المال مع الله سبحانه وتعالى، والتعامل في المال مع الناس، وهذا نقوله للأمم التي تعيش حسب قوانين الضريبة التي يفرضها الإنسان على الإنسان؛ ليروا مدى صدق المسلم في تعامله مع الله في المال، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عامل الصدقة إلى ضواحي المدينة، فمر بصاحب إبل فوجد عليه فيها بنت مخاض لأنها خمس وعشرون بدنة، فقال صاحبها: بنت مخاض! لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب، كيف أقدمها لله؟ ولكن هذه ناقة كوماء -عليها اللحم والشحم مثل الكوم- خذها في سبيل الله. فقال العامل: لا أستطيع؛ لأنها لم تجب عليك، والذي وجب عليك هو بنت المخاض، فأصر الرجل، فقال: إن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اذهب بها إليه، فإن قبلها أخذتُها، فجاء مع العامل وعرض عليه ما كان بينه وبين صاحب الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: بلى يا رسول الله؛ لأن ابنة مخاض لا تجزئ شيئاً، لا هي ظهر يركب في الجهاد في سبيل الله، ولا عندها ضرع يحلب للفقراء والمساكين، أما الناقة فتنفع. فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فعاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، فكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة ماله. فهذه صورة من صور تعامل العبد مع ربه؛ لأنه يعلم بأن الله هو الذي سيجزيه على ما قدم؛ ولهذا يقولون في نظام الضرائب: إن بعض التجار الكبار يصطنع دفترين: دفتراً يقيد فيه مبيعاته ويقدمه لمفتش الضرائب فيرى فيه أنه خاسر؛ ليخفض عليه الضريبة، ودفتراً خاصاً به يبين حقيقة الربح فيما بينه وبين نفسه. أما المسلم فليس عليه مفتش ضرائب، عليه معاملته مع الله؛ لأنه عندما يخرج شيئاً من ماله يخرجه إيماناً وتصديقاً بوعد الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] فالذي يتصدق صدقة تطوع، والذي يخرج زكاة ماله فهو متعامل مع الله.

الصدقة برهان الإيمان

الصدقة برهان الإيمان وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً من جيبه إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري منفعة أو طاقة، والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ لأنها بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون. وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان كما جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) والبرهان: الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان: الدليل والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها. فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛ ولهذا كان المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا يعمدون إلى ما لا يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه. إذاً: الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن شاباً جلداً قوياً وقف على رسول الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع قسم المال لأحد، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك. فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال: ليس عندي شيء. قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس نفترش نصفه ونلتحف بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه. قال: علي بهما. فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما طعاماً لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع عوداً في الفأس وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً. فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب نظيفة، وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأجزل من الصبر) . وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في الزكاة أو في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في الميراث أو غير ذلك، وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي: أحكامها وما جاء فيها من حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات التي تصرف فيها.

حكم الزكاة ومشروعيتها

حكم الزكاة ومشروعيتها أما حكم الزكاة: فهو معروف من الدين بالضرورة لأنه ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، ولا يعذر أحد بجهله أن الزكاة ركن في الإسلام. وأما مباحثها فسيأتي المؤلف رحمه الله على جميع هذه الجوانب بما يورده في هذا الباب من الأحاديث، وهي نحو العشرين حديثاً، وسنجد ما أورده رحمه الله. بدأ المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الزكاة بحديث معاذ، وحديث معاذ من أجمع الأحاديث -في الجملة- في مشروعية الزكاة وتوابعها، أما الأنصبة فلها نصوص أخرى. وقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفيها أيضاً فرض الصوم، والخلاف في أيهما كان الأسبق: هل الزكاة فرضت قبل الصوم، أو الصوم قبل الزكاة؟ المهم أنهما فرضا في السنة الثانية من الهجرة؛ لأن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ تشريع أركان الإسلام، ففي مدة وجوده في مكة لم يشرع ركن إلا الصلاة عندما فرضت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت مدة مكة كلها إنما هي في إرساء العقيدة في توحيد الله سبحانه وحده، وفي الإيمان بيوم القيامة أي: بالبعث، فلما جاء إلى المدينة فرضت أركان الإسلام الأخرى من زكاة وصيام وحج، وغيرها من التشريعات وأحكام البيوع والجنايات وما يتعلق بذلك كله. وكان مبعث معاذ إلى اليمن سنة ثمان في فتح مكة، وقيل: سنة تسع بعد تبوك، وقيل: سنة عشر بعد الحج، والذي يترجح -والله تعالى أعلم- أنه بعد سنة ثمان؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه قد خصه الله بفضيلة وتخصص علمي كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، وكما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة، وكذلك بعض من خصهم رسول الله كقوله: (أفرضكم زيد) ، فـ زيد أعلمهم بالفرائض، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكريم وهكذا. والذي جاء في ترجمة معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة خلفه في مكة يعلمهم أركان الإسلام، وأمور الدين، إذاً: القول أنه بعثه سنة ثمان في فتح مكة يعارضه تخلفه في مكة لتعليمهم، أما بعد ذلك فممكن. ومعاذ رضي الله تعالى عنه -في نظري- يعتبر بعثة تعليمية متنقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره في مكة بعد فتحها يعلمهم، وأرسله كذلك إلى اليمن وحضرموت، وكما أرسل أبا موسى الأشعري مع ستة نفر إلى اليمن، وكان مردهم ومرجعهم في كل الأحكام معاذ، وكان كل له بلد يفتي فيه ويعلم، ويجمع الزكاة ويوزعها، ومعاذاً يطوف عليهم جميعاً. وفي خلافة عمر أرسل عامل الشام لـ عمر رسولاً: إن أهل الشام يحتاجون إلى من يعلمهم الدين، فبعث إليهم معاذاً، ومكث هناك حتى توفي بالشام رضي الله تعالى عنه.

جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ

جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه، وجاء في سبب بعثه مع الجانب العلمي قضية عجيبة! وهي أن معاذاً كان شاباً كريماً جداً، وقد لحقته الديون بسبب كرمه، وكان يستدين من اليهود حتى تراكم الدين عليه، وأصبحت أملاكه لا تفي بديونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: مر معاذاً فليوفنا بديوننا. فصار معاذ يتخفى منهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! مالي في ديوني. فقال لهم: خذوا ماله في ديونكم من النخيل أو البساتين أو غير ذلك. قالوا: لا تفي بشيء. قال: ضعوا عنه. قالوا: لا نضع شيئاً، حتى قال الراوي: لو أن أحداً كان يضع لأحد لوضع دائنوا معاذ عنه من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك.

إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية

إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية ثم قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب شيئاً. أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت من يده. والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ الهدية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول) ؛ لأنه لا يهدي للعامل إلا مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله أن يبقيهم فيها، قالوا: نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها. قال: ندعكم إلى ما شاء الله. وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة لليهود، والنصف الآخر للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة أنه يخرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق، وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه فيها نصف. حتى يحصي ما في البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا وجد -مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى الله عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما تأكل الطير، ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن يخرج زكاته وهو قد أتلف بعضه. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر، ليلتزموا في النهاية بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم مجموعة، وقدموها لـ عبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة الخنازير! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن أجحف عليكم، وهذا المال رشوة وسحت، وهو محرم) . فقالوا: يا عبد الله! بهذا قامت السماوات والأرض. أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي رسول الله بسبب المحبة، وقال: إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما وجب عليكم، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص، فقبلوا وخرص والتزموا. الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول أباح لـ معاذ أن يقبل الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها في مقابل حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.

مخاطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية

مخاطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية وهنا التوجيه النبوي الكريم، الذي يمكن في العرف الحاضر أن نسميه (التوجيه الدبلوماسي) بمعنى سياسة الناس ومخاطبتهم بما في نفوسهم، وتنوع الأساليب مع أناس دون أناس، فقال له: (يا معاذ! إنك ستأتي قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية الأمية سواء. فالبادية الأمية لا تعرف شيئاً من أحكام السماء، وليس عندهم سوابق علم، أما أهل الكتاب فعندهم من العلم ما جاءهم في كتابهم، وعندهم من التوحيد. ومن أخبار البعث الشيء الكثير الذي أنزله الله في كتبه المتقدمة من التوراة والإنجيل، وكان في اليمن يهود ونصارى. إذاً: خذ أهبتك في مقابلة هؤلاء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي، والذي يتعامل مع أشخاص أهل علم يجب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع بادية أمية لا تعرف شيئاً، فيقودها حيث شاء، أما أهل الكتاب فلن ينقادوا في كل شيء؛ لأن لديهم أصول يتمسكون بها، بصرف النظر عن كونها حرفت أو بدلت.

التدرج في الدعوة إلى الله تعالى

التدرج في الدعوة إلى الله تعالى (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه -وفي رواية البخاري رحمه الله وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له- عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إلى فقرائهم) . إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في الدعوة إلى الله مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة معهم بالتدرج، فأول شيء يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة الله وحده. فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب عندهم مبدأ في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في التدرج بعبادة الله وحده، ثم ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فإن هم استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع والطاعة، فينتقل بهم إلى عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة -وسمى الزكاة المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) . وهنا أيضاً من حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا يدفعونها لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم، أي: تؤخذ باليمين وتعطى بالشمال ولكن مع اختلاف الجهة، فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض الله عليهم من ماله، والمال مال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وترد على فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم، وجيرانهم، فهي لن تخرج من أيديهم. فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى منهم إلى غيرهم، بل تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن المال صنو النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه. وهكذا كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقالوا: إنه كان جابياً للزكاة والجزية، وكان أميراً، ومعلماً ومفتياً وقاضياً، فكان يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.

النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ

النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم!) أي: إذا أعطوا الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها متعلق بها، وهذا ظلم، كما أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط: (وإياك -تحذير- وكرائم أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه. وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبير- فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد. وهنا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق بالناس، وعدم الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء: الزكاة فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2. 5%) ، ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه، ولا فيها ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن ينتفعوا بما يأتيهم من أموال الأغنياء. وهنا ينبه صلى الله عليه وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يكونوا رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال، وألا يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى. وعمر يقول لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني: يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن في الأخذ في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما يأخذ الوسط. (وإياك وكرائم أموالهم) . بدلاً من إرسال المفتشين على مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في الدفاتر، يقيم صلى الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) نعم ذهب يدعو إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم الأموال، فإذا أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت غافلاً، وسيدعو على الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء: لأن هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من ينصفه، ولا بينة عنده، أو أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن بالله، وإن لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته، وهنا لا يخيبه الله. ويقولون في خبر موسى مع قارون: لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى! يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد أن انتهى عاتب الله موسى: يا موسى! يناديك قارون عدة مرات فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته. إذاً (اتق) أي: احذر، واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم ظلمه، (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا الملأ الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان كافراً. ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم. (والظلم ظلمات يوم القيامة) . وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، فإن هذه التعليمات أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [2]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [2] من رحمة الله بعباده أنه ما أجمل شيئاً في كتابه إلا وبيَّنه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالزكاة أمر واجب وركن من أركان الإسلام فصلت وبينت فرائضها وأنصبتها في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك زكاة الإبل والغنم كما في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

حديث أبي بكر في زكاة الأنعام التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم

حديث أبي بكر في زكاة الأنعام التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله: في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ست وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق. وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين) رواه البخاري] .

الأموال الزكوية المتفق على أصولها

الأموال الزكوية المتفق على أصولها بعدما قدم المؤلف حديث معاذ رضي الله تعالى عنه في بيان وجوب الزكاة: (ثم أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم) وانتهى الكلام في ثبوت وجوب الزكاة ومعرفة ذلك من الدين الإسلامي بالضرورة، فهو ركن من أركان الإسلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع؛ جاءنا بحديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه في تفصيل وبيان الزكاة في بهيمة الأنعام، وذكر في هذا الكتاب أنصبة الإبل والغنم. وفي الجملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها، كبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن الزروع: التمر والزبيب والحبوب، وكل قوت مكيل مدخر ألحق بالتمر والزبيب، وكذلك النقدان: الذهب والفضة، ويلحق بالنقدين عروض التجارة؛ لأنها تابعة لها، وتدار بالذهب والفضة وتقوّم بهما.

زكاة الأموال الزكوية الظاهرة للإمام والباطنة يقسمها المالك

زكاة الأموال الزكوية الظاهرة للإمام والباطنة يقسمها المالك الأموال الزكوية قسمت إلى قسمين: قسم ظاهر يتولى الإمام أمره، وهي: بهيمة الأنعام، والتمور والزبيب. وقسم خفي وهو: الذهب والفضة وعروض التجارة، وهذا الخفي وكِل وأسند أمره إلى صاحبه، فهو يتعامل بينه وبين الله في إخراج الزكاة. فهنا نأخذ خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومعلوم أن الكتابة لم تكن معهودة، ولكن جاءت في بعض التعليمات العامة، منها ما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم كما نبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في بيان أنصبة الزكاة التي فرضها الله ورسوله، ومنها الكتب التي كتبت فيما يتعلق بالجنايات، كالدية، وأرش الجروح، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم لم يخص به أحد غيركم؟ فقال: لا والله، إلا فهم أوتيه أحد في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة -وكانت صحيفة يضعها علي رضي الله تعالى عنه معه في قراب سيفه- قالوا: وما في الصحيفة؟ قال: العقل -أي: عقل الجراح- والديات، وفكاك الأسير) وبعضها كخطاب ابن حزم في أنصبة الزكاة يكتب بها إلى العمال يسيرون عليها. ولعل هذا العمل -وهو الكتابة في أمور جزئية- هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم الحكومية، فمنها ما يتعلق بالجنايات، ومنها ما يتعلق بالأموال، وهذا من أهمها، ويتفق العلماء على أن تلك الكتب لا زالت يعمل بها في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان جميع العمال يأخذون بما فيها ويطبقونها كل في مكانه.

بيان حديث أبي بكر لمجمل القرآن: (وآتوا الزكاة)

بيان حديث أبي بكر لمجمل القرآن: (وآتوا الزكاة) فهذا خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه يقول فيه: (وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة) . هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن لـ أبي بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ لأنه يتعلق بأموال الناس، وأموال الناس محترمة، لا يمكن لإنسان أن يتسلط عليها ويأخذ منها، وهي عبادة تتعلق بركن مالي، والعبادة لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها. إذاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه لما كتب لـ أنس كتب له ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صرح بذلك فقال: (التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين) . وهنا يقف العلماء في مسألة أصولية وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق في الفرضية، ولكن هل ذلك له في بيان ما أجمل من كتاب الله أم له أن يستقل به؟ فمما له صلة بكتاب الله أن الله سبحانه وتعالى فرض الزكاة إجمالاً فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] ما هي الزكاة التي آتوها؟ ما هي أنواع الأموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها، ما مقدار ما يؤخذ منها؟ ولهذا يقول الأصوليون: السنة قاضية على الكتاب، بمعنى: أنها مبينة لما أجمل فيه، ويتعين على كل مسلم أن يأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً أو بياناً، وقد بين المولى وجوب ذلك: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وعصمه الله من الخطأ فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] كما قال السيوطي رحمه الله: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة. ولما جاء شخص إلى بعض السلف وقال: ما حاجتنا في السنة والله يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ؟ قال: نعم، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما جاء في كتاب الله. وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: السنة كاملة كقطرة من بحر كتاب الله؛ لأن الله قال لنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهذا متعلق بالسنة بجميع ما فيها. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول: عندنا كتاب الله، ما وجدنا في كتاب الله أخذنا به، وما لم نجد لا حاجة لنا فيه! ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم مع الكتاب هو السنة. وهنا لما قال هذا الرجل هذا الكلام لبعض السلف، قال: يا ابن أخي! تعال، لا غنى لك عن السنة، هل وجدت في كتاب الله عند قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] أن الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث؟ قال له: لا. قال: من أين أخذتها؟ قال: من سنة رسول الله. قال: إذاً: نحن ملزمون بالسنة. وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت في الذهب (2. 5%) مذكوراً في القرآن؟ هل وجدت في القرآن أن الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت في القرآن عن الإبل في كل خمس إبل شاة؟ وهل وجدت في الحبوب والثمار في كل خمسة أوسق صدقة؟ الجواب: لا. إذاًَ: من أين وجدت ذلك؟ الجواب: من السنة. وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أجمل في كتاب الله، وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه تابع لما جاء في كتاب الله، ولذلك لما جاء تحريم النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] . الأية، وجاء في القرآن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] جاء صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يجمع بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة عمتها) فحرمة الجمع بين المرأة وخالتها ما جاءت في كتاب الله، وإنما جاء الكتاب بتحريم الجمع بين الأختين. ووقع النزاع عند الأصوليين، وهل هذا يشمل ملك اليمين أم لا لعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ؟ الأختان من الحرائر لا شك داخلتان في هذا الحكم، والإماء لهن آية أخرى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] . ولما سئل عثمان رضي الله تعالى عنه: أيجمع بين الأختين بملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فهذا عام، وحرمتهما آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء:23] . ولكن ينظر الأصوليون في أن الآية التي أحلتهما فيها استثناءات، فعمومها قد خرج منه أفراد: فلو امتلك أمه أو ابنته أو أخته لم يجز له التمتع بها، ولذا يقولون في الفقه: من امتلك من تحرم عليه نكاحها عتقت حالاً، فمن اشترى أخته مثلاً، فبمجرد تمام عقد الشراء تصير حرة وتعتق عليه، حتى لا يكون له عليها ملك يمين، وكذلك إذا اشترى أمه، أو اشترى أباه فإنه يعتق حالاً ولا يجري عليه ملك اليمين. ثم قالوا: الفروج يقدر فيها الاحتياط، والاحتياط المنع حتى لا يقع في محظور. إذاً: السنة من حيث هي قاضية على الكتاب، بمعنى: إذا وجد إجمال في كتاب الله أو إطلاق أو عموم، ووجد مبين في السنة للمجمل، أو مخصص من السنة للعام في كتاب الله، أو مقيد لمطلق في كتاب الله؛ عمل بذلك. وهنا يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هذه فريضة الزكاة التي افترضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) . أي: في عموم قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أو أنه أمره أمراً غير ما في القرآن، وقد يكون هناك وحي سوى القرآن.

النفث في الروع نوع من الوحي

النفث في الروع نوع من الوحي في علم أصول التفسير أن الله سبحانه وتعالى قد يوحي إلى رسوله بوحي غير القرآن، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فهذا النفث في الروع وحي من الله، وهذا القدر قد يشارك فيه بعض عباد الله الصالحين. قضية الوفد الذين مروا على قوم من المشركين واستضافوهم، قالوا: اذهبوا عنا، فقد جئتم من عند هذا الصابئ، ليس لكم عندنا شيء. فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فقالوا: اذهبوا إلى هؤلاء لعل فيهم راقياً، فجاءوا وقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقال رجل: نعم، أنا أرقي، ولكني لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، لقد طرقناكم مروءة القِرى -الضيافة- فامتنعتم، فجعلوا له جعلاً من الغنم، فقرأ عليه فاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، وجاء يسوق الغنم، فلما جاءهم بها قالوا: ما هذا؟! قال: رقيت الرجل بالفاتحة. قالوا: كيف تأخذ على قراءة القرآن هذا الأجر؟ ثم قالوا: لا نقتسم. وأبقوه معهم حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اقتسموه واجعلوا لي معكم سهماً، ثم قال له: وما يدريك أنها رقية؟ -هنا محل الشاهد- قال: شيء نُفث في روعي) أي: أحسست في نفسي ببصيرة وبإلهام من الله، وبحالة إحساس لا شعوري بأن الفاتحة تشفيه، فقرأت فشفاه الله. ويقولون: إن سورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] (اتكأ صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات مرة، ثم تنبه يتبسم، قالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ) فبعض علماء التفسير يقولون: أعطيها نفثاً في روعه، والآخرون يقولون: لم ينزل من القرآن شيء إلا بالوحي المعتاد: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] فقالوا: إن الإغفاءة التي أغفاها صلى الله عليه وسلم ثم انتبه منها ليست نومة، إنما هي من برحاء الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي غشي عليه. إذاً: قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) من أي أنواع الوحي؟ الله تعالى أعلم.

أنصبة الإبل

أنصبة الإبل

في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين

في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين قوله: (في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم: في كل خمس شاة) . هذا أول تقدير أنصباء الإبل، الأصل في الإبل أن زكاتها منها، والغنم زكاتها منها، وكل مال زكوي زكاته من جنسه إلا عروض التجارة، فزكاتها من قيمتها وليس من أعيانها، وزكاة الإبل التي تخرج منها ما زاد عن أربعة وعشرين رأساً، أي: خمس وعشرون، فالخمس والعشرون فيها بنت مخاض، وما قبل الخمسة والعشرين تقسم إلى خمسات، ثم في كل خمس شاة، ففي الخمس شاة واحدة، وفي العشر فيها شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون فيها أربع خمسات فتكون عليها أربع شياه، فإذا جاءت الخمس الخامسة خرجت الزكاة عن الشياه إلى الإبل فكان فيها بنت مخاض. ثم من خمس وعشرين فيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وما بين النصاب والنصاب لا يكون فيه شيء من الزكاة بنسبته، وهذا يسمى وقص، والوقص لا زكاة فيه، فإذا كان عنده -مثلاً- أربع من الإبل فهذا دون النصاب، فإذا كملت خمس من الإبل فهذا نصاب، فعليه فيها شاة واحدة، فإذا صارت ستة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة فعليه فيها شاة. إذاً: الشاة في الأربع التي فوق الخمس هذه وقص لا شيء فيها، فإذا كملت الخمس الثانية صارت عشر إبل ففيها شاتان، فإذا صارت إحدى عشرة، أو اثنتي عشرة، أو ثلاث عشرة، أو أربع عشرة ففيها الشاتان، لأن ما زاد عن العشر وقص يسقط فيه حقه إلى أربع عشرة، وهكذا ما بين خمس وخمس من الأعداد لا شيء فيها.

في كل خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض

في كل خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض قوله: (فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى) . من خمس وعشرين تبدأ فريضة بنت المخاض، وبنت المخاض عندهم هي: التي أمها ماخض بأختها بعدها، أي: حامل وظاهر حملها، وهي ما كان عمرها سنة ودخلت في الثانية. فمن خمس وعشرين وجبت بنت المخاض إلى ست وعشرين، سبع وعشرين، ثماني وعشرين ثلاثين، كل هذا العدد فيه بنت المخاض، فلا يزاد على ما زاد عن خمس وعشرين إلى ست وثلاثين، يعني: أنها إذا زادت عشر من الإبل، فلا شيء في هذه العشر، فإن زادت واحدة فصارت ستاً وثلاثين وجب النصاب الثاني. قوله: (فإن لم تكن فابن لبون ذكر) . أي: إذا لم توجد بنت المخاض الأنثى يكون بدلاً عنها ابن لبون ذكر، وابن اللبون أكبر من بنت المخاض؛ لأن أمه قد وضعت ما كانت ماخضاً به وصار عندها لبن يحلب، وهنا أيهما أغلى في الإبل: الناقة الأنثى بنت المخاض أم ابن اللبون الذكر؟ الأنثى دائماً أغلى، لأن الأنثى تأتي بالإناث والذكور، ولكن الذكر لا يأتي بشيء. فهنا تيسير على صاحب المال إذا لم يكن عنده بنت مخاض فنقول له: يجزئ عنك ابن لبون ذكر.

في كل ست وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون

في كل ست وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون قوله: (فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى) . أي: من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، فابن اللبون الذي هو أخوها وجب في الخمس والعشرين، وبنت اللبون التي هي أنثى وجبت هنا من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة وصارت ستة وأربعين انتقلنا أيضاً خطوة أخرى.

في كل ست وأربعين إلى ستين حقة

في كل ست وأربعين إلى ستين حقة قوله: (فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل) . زادت هنا أربع عشرة عن النصاب الأول ففيها حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل فتنتج. إذاً: كلما زاد العدد كبر السن الذي يؤخذ في هذا العدد، ولاحظنا بأن من خمس إلى خمس وقص لا شيء فيه، ومن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين عشرة لا شيء فيها، ومن خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين كان الزائد أيضاً عشرة ولا شيء فيها، وهنا من ست وأربعين إلى ستين زادت أربع عشرة رأساً ولا شيء فيها.

في كل واحدة وستين إلى خمس وسبعين جذعة

في كل واحدة وستين إلى خمس وسبعين جذعة قوله: (فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة) . وهذه أيضاً زادت أربع عشرة، ففيها جذعة، وهي أكبر من الحقة، وهي التي جذعت أسنانها، وهي الأسنان البيض المقدمة، جذعتها لينبت لها سنان بدلها.

في كل ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون

في كل ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون قوله: (فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون) . فهو يتدرج، في كل عدد فيه كذا كل عدد فيه كذا إلى أن تصل إلى مائة وعشرين فيتضاعف العدد إلى آخر أنصباء الإبل، ولا حاجة إلى الاسترسال في هذا الموضوع؛ لأن هذا من اختصاص ذوي الإبل، ويكفينا القاعدة الأساسية: فبداية الأنصبة في الإبل خمس، ففي كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فحينئذ يكون فيها الإبل، وبين النصابين يعتبر وقصاً لا شيء فيه، وهكذا تتدرج. ثم يختلف الفقهاء فيما بعد على ما ترسو الفريضة وعلى ما يكون فيها، والتفصيل والتدقيق في ذلك إنما يرجع إلى ذوي الإبل، والعمال يذهبون إلى أهل الأموال على مياههم، ويحصون عليهم ما عندهم، ويأخذون الفريضة منهم على مقتضى ما في هذا الخطاب من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

في كل إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة حقتان

في كل إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة حقتان قوله: (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) . من تسعين إلى مائة وعشرين، فإذاً: زادت ثلاثين، ففيها حقتان طروقتا الجمل. قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون) . النظر في أنصباء بهيمة الأنعام هل هو على سبيل النسبة التصاعدية أو النسبة التنازلية؟ لنقل: الحقة تجب في ستة وأربعين إلى ستين، وهذا مبدؤها وتمشي إلى ستين، ومائة وعشرون فيها حقتان. مبدأ الحقة في ستة وأربعين، وهنا من الواحد والتسعين إلى المائة والعشرين فيها حقتان، يعني: كأن المسألة تفسحت نوعاً ما، وكلما زادت الإبل كلما خففت النسبة التي تؤخذ منها فليست زكاتها تصاعدية. قوله: (وفي كل خمسين حقة) . إذا انتهت إلى مائة وعشرين وقفت الأنصباء والمقادير، ثم ينظر بعد ذلك فيجعل في كل خمسين حقة، وهذا ما يسمى بمتوسط النسبة، فخمسون متوسطة ما بين ستة وأربعين وبين ستين، فيكون في كل خمسين حقة. (ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) . أي: ليس عنده خمس بل عنده أربع فنقول: ليس عليك فيها زكاة.

الأنصبة المفروضة في سائمة الغنم

الأنصبة المفروضة في سائمة الغنم

في كل أربعين إلى مائة وعشرين شاة

في كل أربعين إلى مائة وعشرين شاة قوله: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ) . انتهينا من أنصبة الإبل على نزاع فيها -يمكن أن يتعرض له المؤلف أو يتركه- بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو تمشي إلى أكثر من ذلك، ثم تعود مرة أخرى بنسب ثابتة؟ ثم دخل في نصاب الغنم، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ. إذاً: الإبل بدأت من خمس، والغنم بدأت من أربعين، بنت المخاض مشت في الإبل من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، والشاة في الأربعين تمشي معها إلى مائة وعشرين، فمائة وعشرون فيها شاة، وأربعون فيها شاة، وكذلك ما بينهما، فهذه ثلاث أربعينات أيضاً فيها شاة، فلينتبه لهذا، فإننا نحتاج أن نرجع إليه فيما بعد. إذاً: في أول أنصباء الغنم أربعون شاة، بصرف النظر عن الشروط التي ستأتي من كونها سائمة وغيرها، وهذا شرط عام في الإبل والغنم والبقر، وأن المعلوفة لا زكاة فيها؛ لأنه يتكلف لها، ويهمنا الآن في بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب للغنم أربعون شاة، والأربعون فيها واحدة، والواحدة تمضي مع الأربعين إلى المائة والعشرين، فإن زادت عن المائة والعشرين شاة واحدة، كأن ولدت تلك الليلة، وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة، ومعها زيادة عليها تلك السخلة التي ولدت بالأمس، فزادت عن العشرين والمائة واحدة ففيها شاتان.

إذا زادت على مائة وعشرين إلى مائتين ففيها شاتان

إذا زادت على مائة وعشرين إلى مائتين ففيها شاتان قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان) . أي: إذا زادت الغنم عن العشرين والمائة شاة واحدة كان فيها شاتان، والشاتان تمشي من مائة وعشرين، وثلاثين، إلى مائة وخمسين مائة وستين إلى مائة وتسعين فيكون فيها الشاتان، وإذا كملت مائتين ففيها الشاتان، فإذا زادت الغنم عن المائتين شاة واحدة فتكون قد دخلت في المائة الثالثة، فإذاً فيها ثلاث شياه.

إذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه

إذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه قوله: (فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه) . أي: حتى تصل إلى الثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاةٍ شاةٌ. ونحن نجمل الجميع لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، وإذا عرضت على شخص يعتبر من كبار المحاسبين فهنا تتضح الحكمة والرحمة: فالشاة فرضت أولاً في أربعين، فلما كثرت الأغنام فوق الثلاثمائة وصارت أربعمائة أو خمسمائة فالشاة التي كانت تفرض في أربعين تجزئ عن مائة، إذاً: نسبة الزكاة في الغنم تنزل ولا تتصاعد؛ لأن التي كانت تجزئ في الأربعين أصبحت تجزئ في المائة. وقد يتساءل الإنسان هنا: لماذا هذا التنازل؟ مع أننا أشرنا في السابق أن نظام الضرائب يتصاعد، فالمائة الأولى متروكة لصاحبها لأنها قليل، المائة الثانية مثلاً عليها (5%) ، وفي المائة الثالثة (10%) ، وهكذا حتى تصل نسبة الضريبة إلى (100%) من الربح، أي: أنها تتصاعد، فكلما زاد الربح زادت الضريبة، وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها، وهذا إرفاق من الشارع بصاحب المال. هنا قد يقول الإنسان: ما موجب هذا التنازل؟ والجواب: لأن صاحب الأربعين شاة يحاجي عليها ويحافظ بقدر المستطاع، لكن صاحب المائتين والثلاثمائة أصبح في الحي رفيع العماد، وطويل النجاد، وأصبح سيد الحي، وسيد الحي مطروق، وكلما طرقه طارق ذبح له شاة إذاً: صارت عليه تبعات أكثر من صاحب الأربعين، فكلما زاد المال كثرت التبعات عليه، فخفف من جانب الزكاة، وهذا لا يوجد في نظام الضرائب.

التناسب والتقارب في أنصبة الغنم والإبل

التناسب والتقارب في أنصبة الغنم والإبل والنقطة التي نريد أن نشير إليها، ويمكن لبعض الإخوة الذين يشتغلون في المحاسبات والهندسة والضرائب أن يكون لهم فيها دقة أكثر وهي: النظر بين أنصباء الأموال، نحن نشير إلى النسبة التقريبية بين الإبل والغنم، ثم إذا جئنا إلى الذهب والفضة نجمل الجميع إن شاء الله؛ لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، ولما عرضت ذلك على شخص يعتبر من كبار المحاسبين قال: هذا جديد في الإسلام، قال: ما كنت أحس بهذا أبداً، وكنا نظن أنها أمور توقيفية لا دخل للعقل فيها. قلت: هذا بمنطق الحساب والأرقام كلها متساوية، وليس هناك عفويات، بل وضعت بترتيب وحكمة متعادلة. إذا جئنا إلى الإبل وإلى الغنم نجد أول نصاب في الإبل؟ خمس، وأول نصاب في الغنم أربعون، ما نسبة الأربعين شاة إلى الخمس من الإبل؟ نأتي إلى تقييم الإبل بالغنم، كم تقوم الإبل بالنسبة إلى الغنم شرعاً؟ نحن عندنا في الحج ما استيسر من الهدي {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] أقل الهدي شاة أو سبع بدنة، أي أن: البدنة تنوب عن سبع شياه، هذا هو التقدير الشرعي. تأمل هنا: (5×7=35) ، أي أن الخمس من الإبل تعادل خمسة وثلاثين من الغنم، فلو أننا جعلناها ستاً من الإبل فستزيد لأن (6×7=42) ولو جعلناها أربعة فستنقص لأن (4×7=28) ، فأقرب عدد في المعادلة بين الإبل والغنم هو الخمس من الإبل حيث تعادل الخمسة والثلاثين، وهي قريب من الأربعين، ولو غيرنا عدد الإبل إلى ست أو أربع لحصل ظلم على المالك بزيادة شاتين، أو حصل ظلم على المساكين بتنقيص كذا شاة. إذاً: أنصباء الإبل مع أنصباء الغنم متوازية. سنأتي إلى نصاب الذهب مع الغنم ومع الإبل عندما نأتي إلى الذهب والفضة إن شاء الله. قوله: (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) . أي أن أقل من الأربعين ليس فيها شيء. قوله: (ولا يجمع بين متفرق) . المبحث الآتي مترتب على ما تقدم مراعاة لحالات الرعاة، فهم عندما يخرجون إلى البر والمرعى في الصحراء، لا يستطيع الراعي فصل غنمه عن غنم الثاني، ولا إبله عن إبل الثاني، وكلها ترعى في مرعى واحد، وهناك قد يرجع كل راع بما يرعاه لصاحبه، وليست هناك خلطة، أو يكون الرعاة اتفقوا على الخلطة وخلطوا المالين معاً، ولا فرق بين فحل هذه الإبل وفحل تلك: ففحل هذه يطرق نياق تلك، والعكس، ولا في الحلب: فهذا الراعي يحلب هذه، وراعي ذاك يحلب هذه، ويخلطون الحليب سوية، ويرجعون إلى مراح واحد على ما يأتي في شروط الخلطة وأحكامها، وهي من أدق أبواب الفقه في باب الزكاة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [3]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [3] أنزل الله القرآن على نبيه صالحاً لكل زمان ومكان، وجاءت السنة مكملة له، ومبينة وموضحة لمجمله، فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها الأنعام، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنصبة الإبل ومتى تجب الزكاة فيها، وبين أنصبة الغنم ومتى تجب الزكاة فيها، فهذه معايير وقياسات لا تتغير ولا تتبدل مدى الزمان. كما بين أحكام الخلطة، واختلاف أسنان المخرج من الإبل عن المطلوب، وكذلك زكاة الفضة، وكل ذلك رحمة بالمزكي والمسكين.

حكم الخلطة في الأنعام الزكوية

حكم الخلطة في الأنعام الزكوية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول أبو بكر: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصَّدق، وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا ن يشاء ربها) . فـ الصديق رضي الله تعالى عنه في هذا الخطاب، بعدما بين أنصباء الإبل وما يدخل فيها، وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها، بقي من بهيمة الأنعام البقر، والجاموس في بعض البلاد، أما البقر فجاء فيه النص في غير هذا الخطاب، وهو: في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة، والبقر قليل في بلاد العرب، وكانوا يتهاجون باقتنائها، والذي يكثر هو الإبل والغنم. والفقهاء قاسوا الجاموس على البقر، وألحقوه به في هذا الباب، ولما بيّن الصديق رضي الله تعالى عنه أنصباء الإبل والغنم جاء بالتنصيص على مسألة يكثر وقوعها بين أصحاب بهيمة الأنعام، وهي: الخلطة، وتعريفها: هو أن يأتي صاحب قطيع من الإبل أو قطيع من الغنم إلى شخص آخر له قطيع من الإبل أو من الغنم فيجمعانهما معاً، فهذه خلطة.

أقسام الخطلة

أقسام الخطلة والخلطة عند الفقهاء تنقسم إلى قسمين بحسب نوعية التملك: فهناك خلطة أعيان -وهي ما تسمى بشركة الأعيان- وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان: هي الاشتراك بالتملك في أعيان بهيمة الأنعام، مثالها: رجل عنده مائة من الغنم، فتوفي عن ابنين ورثا عنه المائة، فلكل واحد منهما النصف مشاعاً. أما شركة الأوصاف، فمثالها: رجل هذا عنده خمسون شاة مميزة كل شاة بعينها، فلو اختلطت مع غنم الآخرين استطاع أن يميزها ويخرجها على حدة؛ لأنها معروفة بصفتها. فالشركة بمقتضى الملك تكون بين جماعة ورثوا رءوساً من الغنم أو اشتروها معاً، أو إنسان نزل إلى السوق بمائة رأس فاشتراها اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالشراكة، فصارت المائة من الغنم مملوكة للأربعة المشترين كل بحصته من الثمن، ولو أن كل واحد من الأربعة دفع ربع الثمن فإنهم يكونون شركاء كل واحد بالربع، وكيف يكون شريكاً بالربع؟ كل واحد له في كل شاة ربعها؛ لأنها على المشاع، فإذا ما اقتسموا المائة وكل واحد أخذ خمساً وعشرين شاة أصبحت الخمسة والعشرون في يد كل واحد ملكاً خاصاً، فإذا خلطوها بعد ذلك، صارت شركة أوصاف مشاعة لا شركة أعيان، لأن كل شخص يعرف حقه. إذاً: خلطة بهيمة الأنعام تنقسم إلى قسمين: خلطة أعيان، كل واحد له نصيب في الجميع مشاعاً، وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان هم شركاء فيها، والزكاة فيها عليهم جميعاً، لكن خلطة الأوصاف هي محل البحث هنا، فعندما يكون أربعة أولاد ورثوا عن أبيهم مائة شاة، وجاء المزكي فوجد المائة الشاة، فقال: لمن هذا؟ فقيل له: لورثة فلان. فإنه سيأخذ الزكاة من المائة على الجميع، إن كانت أربعين، أو مائة، أو أربعمائة فإنه سيأخذ زكاة الجميع على الجميع، وهذه ليست موضوع بحثنا. فإذا جئنا إلى خلطة الأوصاف، وجاء اثنان كل واحد منهما له عشرون شاة، والمجموع أربعون، فإنه إذا جاء المزكي ووجد الأربعين، هنا يقول: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع، ولو جاء عامل ووجد زيداً عنده عشرون شاة، ووجد عمراً عنده عشرون شاة، كلها مفترقة، فلا يجمع بينها، فيها أخوان من منطقة واحدة، على بئر ماء واحد، ويرعيان في مرعى واحد، كل واحد يرعى ملكه، وآخر النهار يرجع بها إلى بيته، فكل واحد من الأخوين يملك عشرين منفردة، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين ترعى معاً فلا يقول: مجموع الأربعين نأخذ فيها شاة. لأنها مفترقة فلا تجمعها، فكل واحد من الأخوين عنده عشرون شاة، وصاحب العشرين لا زكاة عليه، فلا يجمع بين مفترق ليكمل النصاب ويأخذ الشاة، بل يتركها على ما هي عليه، ليس فيها زكاة.

شروط الخلطة

شروط الخلطة فإذا جاء اتفق الأخوان على الخلطة، وصارت الأربعون مخلوطة، وشروط الخلطة التي تؤثر في الزكاة هي تخفيف المئونة، وذلك باتحاد الراعي: واحد يرعى الأربعين، واتحاد الفحل: كبش واحد للأربعين، واتفاق المحلب: تحلب في محل واحد، وإن كان كل واحد يأخذ حليب غنمه في كيس، واتحاد المراح الذي تبيت فيه يكون مراحاً واحداً، والمسرح الذي تسرح إليه في جهة واحدة. إذاً: صارت الأربعون في حكم المال الواحد، تذهب مع بعضها وتأتي مع بعضها، ولها راع واحد يرعاها، وكبش واحد يلقحها، وتشرب من ماء واحد على حوض واحد، صارت هذه خلطة، واكتملت فيها الشروط، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين على هذه الصفة فإنه لا يفرق بينهما فيقول: خذ عشرينك واذهب، وأنت خذ عشرينك واذهب بل يأخذ منهما الزكاة. فخلطة بهيمة الأنعام تجعل المال المختلط كمال رجل واحد، فإذاً في هذه الحالة يأخذ شاة من الأربعين ولا يفرق بين مجتمع هذه هي الصورة.

آراء الأئمة رحمهم الله في الخلطة

آراء الأئمة رحمهم الله في الخلطة نأتي إلى موقف الأئمة رحمهم الله في تأثير الخلطة في الزكاة فيما تجب فيه الزكاة أو لا تجب: عند أحمد رحمه الله مال الخليطين أو الخلطاء إذا كان مجموعه نصاباً، فإنه يزكى ولو لم يكن لكل واحد من الخلطاء نصاب كامل، فلو وجد أربعون شخصاً، لكل واحد شاة، وخلط الأربعون -على ما تقدم- وجاء العامل فوجد أربعين شاة عند راع واحد على بئر واحد وهي خلطة، فإنه يأخذ شاة من الأربعين، وإن كان لا يوجد في الأربعين الخلطاء نصاب مستقل، بل ينص ابن قدامة في المغني: لو أن الأربعين بين اثنين، واحد له تسعة وثلاثون، والآخر له واحدة، أو أجر صاحب الأربعين أجيراً يرعاها على شاة من الأربعين، وجاء العامل فهم خلطاء؛ لأن الراعي له واحدة أكملت الأربعين، فهم خلطاء، فالعامل يأخذ شاة، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. إذاً: الخلطة تجعل المال المختلط كمال رجل واحد. وعند أحمد رحمه الله: حتى لو كان لكل واحد شاة، ولو كان لأحدهما ثلاثون والثاني له عشر، فكذلك. أما مالك رحمه الله فيقول: لا تأثير للخلطة إلا إذا كان لكل واحد نصاب. إذا كان ثلاثة أشخاص كل واحد يملك أربعين شاة، ولكن كل يرعى غنمه على حدة، وكل أربعين فيها فحلها، ولها راعيها، ومراحها ومسرحها، وبئرها أو حوضها الذي تشرب منه، حتى وإن كانوا يردون بئراً واحدة، لكن لكل صاحب أربعين حوض من الجلد يملؤه ويسقي غنمه، فإنهم يكونون مفترقين، فإذا جاء العامل أخذ من كل واحد شاة؛ لأن كل واحد امتلك أربعين منفردة عن الأخرى. وأما إذا جاء ووجد الثلاثة قد خلطوا الثلاث الأربعينات مع بعض، وتمت صفة الخلطة: فالراعي واحد، والفحل واحد، والمحلب واحد، والحوض الذي يشربن منه واحد، والمبيت في محل واحد، أي: أنه تمت شروط الخلطة، فإن العامل على جمع الصدقة يأخذ شاة واحدة. إذاً: في حالة الافتراق على كل واحد شاة، وفي حالة الاجتماع تخرج شاة عن الجميع، لكن لو زادت واحدة ولو من أحد الثلاثة يكون فيها شاتان، فالثلاث الأربعينات اجتمعت وفيها شاة واحدة، لأن خلطة المال جعلته كأنه الشخص الواحد. وعندما جاء العامل وأخذ شاة فلابد أن تكون من شياه واحد من الثلاثة، فهل يتحمل عنهم زكاة غنمهم؟ لا. (ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: لا يأتي هؤلاء الثلاثة ويقولون: والله العام القادم سنخلط. بالأمس كان كل شخص بمفرده، فيجمع بعضهم إلى بعض من أجل أن يأتي العامل ويجد مائة وعشرين شاة فيقولون له: خذ شاة واذهب. ثم يرجعون إلى الانفراد، هذا لا يجوز، ولا أن يأتي العامل ويقول: لمن الغنم هذه؟ فيقولون: لزيد وعبيد وعمرو ولكنها هي خلطة، فيقول: فرقوها. من أجل أن يحصل على ثلاث شياه، فهذا لا يجوز، لأنه إذا تمت الخلطة فلا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة. وما كان من خليطين فأكثر فإنهما يتراجعان أو يتراجعون بحسب ملكهم، فمثلاً: عندنا ثلاثة، وملكهم متساوٍ، فكل واحد له أربعون شاة، فعلى كل واحد ثلث شاة، فإن كان المأخوذ من مال زيد فله عند كل من الخليطين ثلث شاة، فنقدر قيمة الشاة التي أخذها العامل، فإذا قدرت بثلاثين ريالاً، فكل واحد من الخليطين يدفع له عشرة ريالات. لو قدر أن المائة والعشرين بين اثنين، واحد له أربعون شاة، وآخر له ثمانون، وتمت الخلطة، وجاء العامل، لا نفرقهم حتى يأخذ شاة من صاحب الأربعين وشاة من صاحب الثمانين، وكذلك هم لا يجتمعون عندما يسمعون بمجيء العامل؛ لأنهم اشترطوا في صحة تأثير الخلطة أن تكون الخلطة طيلة العام، أما إذا كانوا منفردين وفي نهاية العام خلطوا، قالوا: لكي يأتي العامل ونحن مجتمعون فلا يجوز، وإذا جاء العامل وهم على خلطتهم، وتمت شروط الخلطة، فلا يفرق بينهم، بل يأخذ شاة واحدة، ويتراجعان فيما بينهما بالسوية، إن كانت أخذت الشاة من صاحب الأربعين فعلى صاحب الثمانين ثلثي الشاة، وإن كان أخذها من صاحب الثمانين فصاحب الثمانين له على صاحب الأربعين ثلث الشاة. الإمام مالك يقول: إذا كانت الخلطة بين أربعين وثمانين فهذا صحيح، لكن لو وجد واحد له ثلاثون وآخر له عشر شياه، فهذه ليس لها تأثير؛ لأن كلاً منهما لا يملك النصاب، ولم يعتبر مالك تأثير الخلطة إلا إذا كان فيها ملك نصاب من أحد الخلطاء. طيب! وجدناها خمسين شاة، أربعون منها لواحد وعشر لواحد آخر، قال: هنا الشاة على صاحب الأربعين، وصاحب العشرة ليس عليه منها شيء. والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا تأثير للخلطة ألبتة، سواء امتلك كل واحد نصاباً كصاحب الأربعين والثمانين أو لم يمتلك أحدهما نصاباً، فكل زكاته على حدة إلا شركة الأعيان، فهذه شركة مشاعة.

تأخير الخلطة في غير بهيمة الأنعام

تأخير الخلطة في غير بهيمة الأنعام وهناك من يقول: الخلطة تؤثر في الزكاة في غير بهيمة الأنعام، كعروض تجارة بين شخصين، أحدهما لديه سكر والآخر لديه شاي، فجمعا الشاي والسكر، وأتيا بصبي لهما يبيع في المتجر، فالمتجر واحد، والميزان واحد، والصبي واحد، والخلطة موجودة، ومرافق العمل كلها متحدة؛ فهناك من يقول: هذه الخلطة بهذه الصفة تؤثر، فلو كان مجموع الصنفين قيمته نصاب زكيت على حسبها، وإن كانت قيمة الصنفين لم تصل إلى النصاب فلا شيء فيها، ولو كانت قيمة أحد الصنفين نصاباً والأخرى لم تبلغ النصاب فإنه يشارك في الزكاة؛ لأن عروض التجارة ليس فيها وقص، وإنما إذا بلغ النصاب أخذت الزكاة في النصاب، وما زاد على النصاب فبحسبه. نحن عندنا في الغنم من الأربعين إلى المائة والعشرين تسمى وقصاً، وتلك الزيادة لا أثر لها، إنما هي شاة واحدة من بلوغ الأربعين، بخلاف الذهب والفضة، فإنه إذا امتلك عشرين مثقالاً تم النصاب، وفيه ربع العشر، فإذا امتلك خمسة وعشرين مثقالاً نقول له: زك الجميع، فلابد أن يزكي الخمسة والعشرين بنسبة زكاة العشرين اثنين ونصف في المائة، فإذا امتلك ثلاثين ديناراً أيضاً زكي الثلاثين بنسبة اثنين ونصف في المائة، إذاً: لا وقص، وحيثما كان لا وقص فالجميع سواء. وهذا المبحث في كتب الفقه له تفريعات، وله مسائل فرعية عديدة جداً؛ لأن بهيمة الأنعام يشترط فيها الحول، والخلطة يشترط فيها أن تكون حولاً كاملاً، وهي عندهم كالمال المتجدد، فلو ملك ثلاثين في نصف الحول، وعشرة في النصف الثاني، فهل عليه زكاة أو حتى تتم العشرة الحول كاملاً، وكذلك في الخلطة. فلو أن الخليطين اختلطا في أول الحول، وجاء ثالث وخلط في نصف الحول، فانتهى حول الاثنين وحول الثالث لم يأت بعد، ماذا يكون الحال؟ وهذه تفريعات في الواقع لا يتأتى تناولها بصفة عامة على هذه الحال، وإنما يهمنا بيان الهيكل الأساسي في الخلطة. ومرة أخرى بالإجمال: الخلطة إما شركة أعيان وإما شركة أوصاف، فشركة الأعيان مشاعة على ما هي عليه، وشركة الأوصاف يكون ملك كل واحد متميزاً بعينه، لكن اختلطا عاماً كاملاً وصحت الخلطة، فيعامل هذا المال المختلط معاملة مال الرجل الواحد، ولو أن كل شخص من الخلطاء امتلك جزءاً من النصاب، وبمجموعهم كمل النصاب أخذت الزكاة، أما لو فرقا وكل امتلك حقه فلا زكاة على واحد منهم. إذاً: الخلطة قد تنفع الخلطاء وقد لا تنفعهم، بحسب اكتمال النصاب أو زيادته أو النقص منه. هذا ما يتعلق بخلطة بهيمة الأنعام، أما تأثير الخلطة في غيرها فهذا موضع خلاف فيما يتعلق بعروض التجارة إذا اتحدا أيضاً في الدكان أو المكان، واتحد البائع والميزان أو المكيال أو الذراع أو غير ذلك، ثم يرجع الخلطاء كل على صاحبه بنسبة ملكه في الخلطة.

شروط الشاة المأخوذة في الزكاة

شروط الشاة المأخوذة في الزكاة ثم بدأ يبين ماذا يأخذ العامل، قال: (ولا تؤخذ في الصدقة الهرمة) ، الهرمة بمعنى: العجوزة؛ لأنها غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء، وهي على وشك الموت. (ولا ذات عوار) من عور العينين، (أو معيبة) لأن العيب عوار في السلعة، فأي شاة بها عيب فإنها لا تؤخذ في الصدقة؛ لأنه نقص على المساكين، والعوار بمعنى العيب فهو يتفاوت، وبعضهم يقول: العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها. وهذه عند الأصوليين فيها نزاع، فعندما يقال في الأضحية: يجب أن تكون الأضحية سليمة من العور فمن الأصوليين من يقول: هذه معيبة لا تصلح أضحية، وكذلك لا تؤخذ في الزكاة، ومنهم من يقول: العوراء هي التي لا تسرح مع الغنم، ولكن تبقى في البيت، وإذا انفردت في البيت عني بها، وجيء لها بعلف يكفيها وزيادة؛ لأنها أصبحت محل عناية من مالكيها، فلربما تكون أسمن من ذات العينين التي تسرح مع بقية الغنم، ولكن الجمهور على أن العور عيب فلا تؤخذ صاحبة العوار في زكاة الغنم. ويقاس على ذات العور وعلى الهرمة أي عيب في الشاة ينقص من قيمتها، سواء كان في هيكلها أو في لحمها، فإذا كانت مريضة فلا ينبغي أن يأخذها، وإذا كانت مكسورة لا يأخذها، وعلى هذا فكل شاة معيبة في الغنم لا تصح. وكيف يأخذ؟ قد تقدم لنا ذلك في حديث معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم) ، فالعامل لا يجوز له أن يصطفي كرائم الغنم ويأخذها، ولا أن يقبل من صاحب الغنم أهونها، إنما يقولون: تقسم الغنم ثلاثة أقسام: خيار، وعوار، ووسط، فيأخذ من الوسط، والعامل مؤتمن فلا يجوز له أن يظلم صاحب الغنم بأخذ خيارها، ولا يجوز أن يغش المساكين فيأخذ الضعيف فيها، إنما يأخذ الوسط. قوله: (ولا تيس إلا أن يشاء المصدق) . التيس في الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ لأن الغنم في حاجة إليه، فيأتي المصدق ويأخذ التيس ويترك الغنم بلا تيس وهذه مضرة، ولا يجوز إخراج التيس في الصدقة إلا أن يشاء المصدِّق، أي: صاحب الغنم؛ لأنه قد يكون معه غيره، أو المصدق هو العامل الذي يأخذ الصدقة؛ لأن التيس -أحياناً- لا يساوي الشاة، والعنز خير منه لأنها تنتج، إلا إذا جاء العامل وجمع غنماً كثيراً وسيسوقها ويحتاج إلى تيوس فيها، فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من الماعز.

لا زكاة في الخيل والبراذين ونحوها

لا زكاة في الخيل والبراذين ونحوها الأموال الزكوية قلنا: إن المتفق عليها من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن المختلف فيه: الخيل وما تبعها، فيرجح الجمهور على أن الخيل لا زكاة فيها، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الخيل إذا أفردت للنماء والزيادة ففيها الزكاة، أما إذا كانت لغير ذلك، ولا يتأتى نماؤها، وكما يقول الأحناف: لو كانت كلها ذكوراً، فالذكور وحدها لا تنتج، ولو كانت كلها إناث فالإناث وحدها لا تنتج، فعنصر النماء مفقود فلا زكاة فيها. ولو كان عنده خيل ذكور وإناث يؤجرها أو يستعملها في جر العربات أو في الحرث فهذه ليست للنماء فلا زكاة فيها. وعلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن في الخيل زكاة، فما نصابها وما يؤخذ منها؟ لم يأت في أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء الخيل ولا بيان ما يؤخذ فيها، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخيل خارجة عن حدود الزكاة، واستدلوا أيضاً بحديث: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة) فقوله: (فرسه) وإن كان مفرداً، لكنه نكرة مضاف فيشمل الجنس، فأخذ الجمهور بأن الفرس أو الخيل لا زكاة فيه. أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة مبناها على النماء، فإذا كانت ثلاثين فصارت خمسين، فهي نامية، فتشترك مع الإبل والغنم في عموم النماء، ففيها زكاة. كم نصابها؟ قال: في كل فرس دينار. نحن لا نعهد زكاة مال من غير جنسه إلا عروض التجارة وأوائل الإبل، في الخمس منها شاة، فأخذ غير جنسها في حد معين، ثم من خمس وعشرين انتقلت إلى جنسها، وكذلك عروض التجارة؛ لأن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حتى خضار، فماذا سنعطي المسكين من هذا؟ فيقدر الجميع، وتعطى الزكاة من مجموع القيمة؛ لأنها مصلحة للطرفين. فإذا قلتم: الخيل فيها زكاة فبينوا نصابها منها، وما يؤخذ منها فيها. وقال قوم: ليس فيها زكاة، واستدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أتاه قوم من أهل الشام، وقالوا: إنا أصبنا خيلاً نريد أن تأخذ زكاتها طهرة لها. فقال: لم يأخذها صاحباي من قبلي -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه- فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده، فقالوا: خذ منهم ما دام عن طيب نفس، فسأل علياً رضي الله تعالى عنه، فقال علي: لا بأس إلا أن تصبح فيما بعد ضريبة لازمة عليهم، أي: هم الآن جاءوا طواعية ودفعوا، فإذا ذهب هذا الجيل الذي يدفع طواعية، فسيأتي بعدهم أناس معهم خيل، فيقول من كان بعدك: عمر أخذ على الخيل فيأخذ عليهم، وتكون ضريبة لازمة بغير إلزام. فـ علي قال: لا بأس إذا أخذت ما لم تصبح ضريبة لازمة عليهم. فقال عمر: نأخذها منهم ونردها على عبيدهم، بمعنى انه أخذ زكاة الخيل وفرض لكل فرس ديناراً، وأعطى عبيدهم من بيت مال المسلمين، فالعبيد ليس لهم شيء؛ لأن بيت مال المسلمين للأحرار، ورزق بيت المال للأحرار، والعبيد تبع للأحرار، فـ عمر فرض لعبيد هؤلاء الناس من بيت المال كأنه عوض عما يأخذ منهم في الخيل. والجمهور استدلوا بحديث صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، ثم يؤتى بها وافية فتطؤه بخفافها، وتعضه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى جنة، وإما إلى نار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، وما من صاحب ذهب أو فضة لم يؤد زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وكوي بها جبينه وجنبه وظهره إلى أن يقضى بين الخلائق -فذكر صلى الله عليه وسلم هنا الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة- فقالوا: يا رسول الله! والخيل ما شأن صاحبها؟ قال: الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، وعلى رجل وزر، ولرجل ستر؛ أما التي هي له أجر: فخيل ارتبطها صاحبها في سبيل الله، وأما التي هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورياءً) . وقيل: سمي الخيل خيلاً لأن بها خيلاء، فانظر إلى الفرس عندما تشبع فإنها تمشي على أطراف حوافرها وتتبختر، وأجود الحيوانات في الرقص والرياضيات واللعب الخيل، وهي أشدها طرباً، فصاحبها كذلك. (والتي هي له ستر رجل اقتناها تغنياً) يعني: للنماء فيبيع ويستغني بنسلها وبيعها عن الناس. فما ذكر فيها صدقة. قال: (ولا ينسى حق الله فيها! قالوا: وما حق الله فيها؟ قال: ألا يمنع فحلها عن إناث غيره، ألا يمنع منقطعاً أن يركبه إلى مكانه) ، ولم يبين فيها صلى الله عليه وسلم نصاباً ولا ما يؤخذ منها، فقال الجمهور: هذا دليل على أن الخيل لا زكاة فيها. (قالوا: والحمر يا رسول الله! قال: لم ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) إذاً: رد ذلك إلى صاحبها، إن فعل فيها خيراً فله، وإن كان عكس ذلك فالعكس. إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر أنصباء الإبل، وذكر أنصباء الغنم، وجاءت أنصباء البقر في غير هذا الكتاب، ولم يأت للخيل ولا للبرذون ولا للحمار ذكر في أنصاب الزكاة، وعلى هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة في بهيمة الأنعام مقصورة على تلك الأصناف الثلاثة، وأن الأصناف الثلاثة الأخرى لا زكاة فيها: الخيل والبراذين والحمار.

زكاة النقدين

زكاة النقدين ثم انتقل الكتاب إلى صنف آخر من أصناف الأموال الزكوية، وهي الرقة، أي: الفضة قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] فالورق بمعنى الفضة والذهب. قوله: (وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) . هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة، وهي كجملة معترضة بين أحكام الإبل؛ لأنه بقي من أحكام زكاة الإبل ما لو لم توجد العين المطلوبة في عدد الإبل عند صاحبها، فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأتي إن شاء الله. وهنا يقول: في كل مائتي درهم ربع العشر، فإذا كانت مائة وتسعين، فلا زكاة فيها، لأنها تنقص عن النصاب عشرة، وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنين فـ مالك يقول: هذا شيء قليل فلا يؤثر، وفيها زكاة. والجمهور يقولون: الحد مائتان، فإن لغة الأرقام ليس فيها تقريب، ومفهوم المخالفة أن ما دون المائتين ولو بواحد لا زكاة فيه. وبالمناسبة هنا: فالفضة توزن بالدرهم وتصك عملة بالدرهم، فالدرهم في الفضة وحدة وزن ووحدة عد، فتقول: يملك مائة درهم. يعني: نقوداً، أو يملك مائة درهم. يعني: سبيكة تزن مائتي درهم. والذهب وحدة وزنه المثقال، والمثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار: اسم للنقد، والمثقال: اسم للوزن، والدينار والمثقال شيء واحد. والمائتا درهم قد تكون دراهم على حدة، وقد تكون دراهم تجمع في القطعة الواحدة، فمثلاً: الريال السعودي: كان ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع، الريال الفرنسي كان بريالين سعودي، وقد توجد القطعة النقدية من الريال والروبية غير هذا على حسب اصطلاحات البلاد كم في هذه القطعة من درهم شرعي، فإذا اجتمع عندهم من الريالات ما يعادل المائتي درهم من الفضة، وهو بالريال السعودي ستة وخمسون ريالاً فيكون قد وجد عنده نصاب، فتجب عليه فيه زكاتها، أي: زكاة الفضة في هذا النصاب، فإذا حال عليه الحول أخرج ربع العشر، أي: (2. 5%) .

التقايض بين المالك والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه

التقايض بين المالك والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه قال: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطي المصدق عشرين درهماً أو شاتين) . بين هنا أوضاع الإبل وظروف المالك فيما إذا لم تتح الفرصة لوجود ما يجب عليه من الزكاة، فإذا كان عنده من عدد الإبل ما تجب فيه الحقة، ولم توجد عنده هذه الحقة وكانت عنده جذعة، والجذعة: أكبر منها بسنة، فهي أكثر قيمة، وتؤخذ في العدد الأكثر. فإذا وجدت عند من وجبت عليه الحقة جذعةٌ فإنها تؤخذ منه، ويعوض عن الزائد في الحقة شاتين أو عشرين درهماً يدفعها إليه المصدق، أي: العامل الذي جاء ليأخذ الصدقة. وكذلك العكس: إذا وجبت عليه في إبله جذعة، ولم توجد هذه الجذعة -والجذعة: هي التي جذعت سنَّيها الأماميين- ووجدت عنده حقة، الحقة أقل قيمة من الجذعة، فيدفعها صاحب الإبل، ويدفع معها جبراً للنقصان عن الجذعة شاتين أو عشرين درهماً. وهكذا في جميع ما يؤخذ في زكاة الإبل كما بوب البخاري رحمه الله: من وجبت عليه بنت مخاض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون، ويأخذ فرقاً عن بنت اللبون وبنت المخاض شاتين أو عشرين درهماً من العامل، أو بالعكس: بأن وجدت عنده من الإبل ما فيها بنت لبون، لكنه لا يوجد في إبله بنت لبون، وفيها بنت مخاض، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبراناً للنقص عن بنت اللبون شاتين أو عشرين درهماً. هكذا يقول الجمهور بناء على منطوق هذا الحديث في هذا الكتاب. وبعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يقول: ليس هناك تقييد بالشاتين والدراهم، ولكن ينظر بحسب كل وقت كم فرق ما بين بنت المخاض وبنت اللبون؟ فيقدر ويدفع في الفرق بدلاً من الشاتين وبدلاً من العشرين درهماً؛ لأن قيمة الشياه وتقدير الدراهم تختلف باختلاف الزمان والمكان. والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [4]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [4] زكاة البقر ثابتة في السنة بالنصوص الصحيحة، وهي من الأنعام التي تخرج منها الزكاة، ومن سماحة الشارع أنه أمر العامل ألا يأخذ الزكاة إلا في الأنعام على مياهها، واختلف العلماء في زكاة الخيل، وقد ذكر الشيخ خلافهم وبين أدلتهم.

حديث معاذ بن جبل في زكاة البقر

حديث معاذ بن جبل في زكاة البقر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) رواه الخمسة، واللفظ لـ أحمد، وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في وصله، وصححه ابن حبان والحاكم] . انتقل المؤلف رحمه الله تعالى بعد بيان أنصباء الإبل والغنم والفضة إلى زكاة البقر، وهذا الحديث الذي ناقش المؤلف سنده في وصله وفي انقطاعه ذكره البخاري رحمه الله تعالى تعليقاً بصيغة الجزم، وذكر البخاري إياه يغني عن مناقشة السند. إذاً: الحديث في زكاة البقر ثابت؛ لأن بعض المتأخرين إنما يطعن في زكاة البقر، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي لا مطعن فيه: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، وجيء بها أوفر ما تكون وأسمن، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الناس، فيرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) وهذا الحديث يرويه البخاري في صحيحه. إذاً زكاة البقر ثبتت بالنصوص، سواء هذا النص الذي معنا عن معاذ رضي الله تعالى عنه، أو النصوص الأخرى التي ساقها البخاري رحمه الله. أما في نصابها وما يؤخذ منها فلم يقع في ذلك اختلاف إلا ما روي عن بعض الأحناف، حيث جعلوها كالإبل في كل خمس شاة، ولكن الجمهور على هذا الحديث وأن من امتلك البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة. والتبيع: الذي يتبع أمه، والتبيعة كذلك في سنه، أي: ذكراً كان أو أنثى في هذه السنة، فهو يجزئ في الثلاثين رأساً من البقر. وفي كل أربعين مسنة، وإلى هذا ينتهي نصاب البقر. بين الأربعين والخمسين من البقر عشرة رءوس، فهل فيها زكاة؟ والجواب: أن هذا وقص، كما بين الخمس والخمس من الإبل، فالخمس من الإبل فيها شاة واحدة، وهي للخمس الأولى، فإذا كملت عشر من الإبل ففيها شاتان، إلى اثني عشر وأربعة عشر من الإبل وليس فيها إلا الشاتان. إذاً: ما بين النصاب والنصاب في الإبل والغنم والبقر وقص لا حصة للزكاة فيه.

مقدار الجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب

مقدار الجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب قال: (ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) . مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، وكلف معاذاً أن يحصله: (على كل حالم دينار -في السنة- أو عدل ذلك معافرياً) ، والمعافري: ثياب تنسب إلى بلدة معافر، وهي معروفة في اليمن، كانت مشهورة ببعض الثياب في الجودة. والحالم: هو الذي بلغ سن الحلم، سواء احتلم أو لم يحتلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار) فالحائض: الفتاة التي بلغت سن الحيض سواء أتاها الحيض أو تأخر عنها، أي: من بلغ سن التكليف، إذاً: ما دون ذلك من الأطفال والصبيان لا شيء عليه، وكذلك النساء. فقوله: (على كل حالم) أي: محتلم بلغ سن التكليف في الإسلام ولم يكن أسلم، فعليه في الجزية سنوياً دينار أو عدل ذلك الدينار ثياب من هذا النوع المعروف المشهور بالمعافري. وهنا نفهم من هذا الحديث أن معاذاً رضي الله تعالى عنه لما أتى إلى اليمن -وهم أهل كتاب- أن البعض استجاب له فأسلم وصلى وصام وزكى، والبعض بقي على ما كان عليه في اليهودية، ومن بقي على دينه فإن الإسلام يقره على ذلك مع دفع الجزية سنوياً، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] . قالوا: ((عن يد)) : إن كل إنسان لزمته الجزية يذهب بها بشخصه ولو كان أمير قومه، ويدفعها للعامل يداً بيد، لا أن يبعث بها خادمه أو جاره أو ولده فلابد أن يرى تلك الصورة، لعله فيما بعد يشمئز منها، أو يتثاقل منها ويرى أن الإسلام عزة له فيرجع إلى الإسلام. فـ معاذ رضي الله تعالى عنه كان أميراً وقاضياً، وكان مزكياً وجابياً للجزية، وفي هذا الحديث مجال للعلماء في أخذ العروض في الزكاة، ولفظ هذا الحديث قد اختلف فيه، لما قيل لـ معاذ: (خذ من كل حالم ديناراً -أي: جزية- أو عدل ذلك ثياباً) عروض، فتوسع بعض العلماء وقال: يمكن أن يؤخذ في الجزية أي قيمة للدينار، فالحد الرسمي دينار، فإذا رأى الجابي المصلحة في غير الدراهم تخفيفاً على أهل الجزية، أو مصلحة للمسلمين الذين ستوزع عليهم تلك الأموال، فلا مانع.

أخذ العروض في الزكاة بدلا عن الواجب

أخذ العروض في الزكاة بدلاً عن الواجب وجاء عن معاذ رضي الله تعالى عنه: (ائتوني من الثياب اللبيس والخميص -أو الخميس- فإنه أرفق بكم، وأنفع لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) . فبعض العلماء يحمل هذا على الصدقة، وبعضهم يحمله على الجزية، فمن حمله على الصدقة قال: يجوز أخذ العروض عن الصدقة بدل المال؛ لأن هذه معاوضة بلباس بدل ما وجب في الصدقة. ويجيب الذين يمنعون أخذ العروض في الصدقة بأن الأصل أن يقبض الزكاة، فإذا قبض الزكاة من الإبل أو من البقر أو من الغنم، ورأى أن سوقها من اليمن إلى المدينة كلفة ومشقة، وخاف عليها أخطار الطريق من عطش وتكسر وموت، ورأى أن يستبدل بدلاً منها ثياباً، فلا مانع من ذلك؛ لأنه يكون قد استلم الواجب الشرعي من الإبل أو من البقر أو من الغنم، وبصفته مفوض، وهو أمين موكل إليه أن يعمل لمصلحة الفقراء والمساكين؛ فله أن يستبدلها بعدما حصلها من أصحابها على الوجه المشروع. فعلى رواية: (في الصدقة) يكون قد أخذ الصدقة من أعيانها وأجناسها، ثم استبدلها بعد ذلك من جديد بعد أن دخلت في عهدته. أما رواية: (في الجزية) فلا علاقة لها بالزكاة، ولا دخل لها في موضوع أخذ العروض أو القيمة فيما وجب من الزكاة. والله تعالى أعلم.

المستشرقون وطعنهم في فريضة الجزية

المستشرقون وطعنهم في فريضة الجزية هناك نقطة بسيطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي: أن بعض المستشرقين والمستغربين، والمستشرقون هم الذين يتناولون الإسلام والعلوم الشرقية، فهم غربيون مسيحيون، لكن يدرسون العلوم الشرقية وخاصة علوم الإسلام، والمستغربون في نظري: هم أهل الشرق الذين يتطلعون إلى علوم الغرب، ويتأثرون بها. هؤلاء يثيرون الفتن والشبه، خاصة عند الشباب الذين لم يتمكنوا من دراسة الفقه الإسلامي، ومعرفة ما وراء التشريع من الحكم، فيقولون: علام تأخذون الجزية من الناس؟ لماذا تقيدونهم في حريتهم؟ ألم يقل سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وأنتم تريدون إما أن تكرهوهم على الإسلام وإما أن تأخذوا منهم الجزية؟ فيقال لهؤلاء: رويدكم! إن أخذ الجزية من هؤلاء، وإبقاءهم على قيد الحياة، واحترام دمائهم وأموالهم وأعراضهم لهي منحة من الإسلام إليهم؛ لأن الأصل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فإذا ما تسامح المسلمون لبعض أهل الأديان، وتركوهم وشأنهم في دينهم بحريتهم، وأخذوا عوضاً عن ذلك ديناراً على الشخص فذلك رفق بهم. وانظر في المعادلة: بين دينار على الحالم، وبين اثنين ونصف في المائة على المسلم في ماله، هذا الذي يدفع الدينار لو كان يملك الملايين فلا يؤخذ منه إلا الدينار، وبهذا الدينار يكون محفوظ الكرامة في دمه وماله وعرضه، وتحت حماية الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها السيطرة والسلطان، وأهل الذمة في حمايتها فلو اعتدى عليهم من خارج الأمة لكان المسئول عن حمايتهم هم جماعة المسلمين، فيقاتلون دونهم، ويقدمون أنفسهم من أجل حمايتهم. بينما المسلم لا ينظر إلى شخصه، وإنما ينظر إلى ما يملك، فكلما كثر ماله كثر ما يؤخذ منه، فإذا كان إنساناً ذمياً عنده مليون ريال، ومسلم عنده نصف مليون ريال، نأتي إلى الذمي فلا نأخذ منه إلا ديناراً، ونأتي إلى المسلم فنأخذ منه ربع العشر، فكم يكون مقدار ما نأخذ من المسلم وهو مسلم؟ وكم يكون مقدار ما نأخذ من الذمي وهو على دينه ذمي؟ والذي يكون كاسباً في هذه الحالة هو الذمي لا المسلم. إذاً: لا غضاضة على الذمي أن يعيش تحت الحكم الإسلامي وأن يدفع الجزية، وهي أقل بكثير جداً عما يؤخذ من المسلم، في الوقت الذي تقوم الأمة الإسلامية على حمايته وحماية ممتلكاته. ومن العجب -أيضاً يا إخوان- أن الإسلام يرحم الضعفاء من هذا الصنف، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر به رجل عجوز يتكفف الناس، قال له: ما الذي حملك على السؤال؟ قال: أسأل لأجمع الجزية. فقال عمر: ما أنصفناك إن أكلناك شاباً -يعني: لما كنت شباباً كنت تدفع الجزية ونأخذها- وضيعناك هرماً، ثم فرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه، ورفع عنه الجزية، فهل يجد هذا في دينه أو في ملته؟ هل يجد هذا العطف وهذا الحنان وهذه المساعدة عند قومه؟ والله لا يجدها. إذاً: كل من تكلم في هذا الموضوع أو أصغى إليه فإنه ما فقه حقيقة الفقه في الإسلام.

المكان الذي تؤخذ فيه زكاة الأنعام

المكان الذي تؤخذ فيه زكاة الأنعام [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم) رواه أحمد. ولـ أبي داود أيضاً: (لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) ] . يبين المؤلف رحمه الله بعدما انتهى من أنصباء زكاة بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كيف نأخذها؟ وكيف يؤدونها؟ فقال: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم في دورهم) ، فمثلاً: العاصمة هي المدينة، وهناك منطقة حايل، والرياض، وجيزان، وهناك مناطق في أطراف الجزيرة، فهل يجب على أصحاب الأموال في أي مكان أن يسوقوا زكاة أموالهم إلى المدينة ويسلموها للمسئول عنها، أم أن ولي الأمر في المدينة يبعث إلى تلك الأقطار النائية والأماكن البعيدة من يستلم منهم ويأتي بها إلى المدينة؟ أعتقد أنه لو كلف المسلمون في أماكنهم أن يأتوا بزكاة أموالهم إلى المدينة لكانت مشقة عظيمة، فمن كان عنده خمس من الإبل فيحتاج أن يأتي بشاة من جيزان إلى المدينة! وهذه مشقة كبيرة، ولكن تؤخذ زكاتهم على مياههم، يأخذها العامل. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث العمال إلى أماكن تواجد بهيمة الأنعام، فيقف عند المياه؛ لأن أصحاب بهيمة الأنعام سيوردونها الماء، ليس لازماً أن يتتبعهم في خيامهم ومبيتهم، فمثلاً إذا جاء إلى منطقة، ولنقدر -مثلاً- منطقة العوالي، أو منطقة قباء، أو غيرها، وهناك الآبار أو الغدران أو العيون التي هي موارد الإبل والبقر والغنم للسقي، فيأتي إلى ماء بني فلان، وهناك ينتظر: فإذا جاء الراعي بإبل فيعدها، ثم يأخذ الواجب فيها. وعامل الزكاة لا يأتي منفرداً، بل معه من يساعده، وهم الذين يسوقون الأنعام التي تجمع، ومعه الكتاب الذين يحصون ويعدون، ومعه من يخدمه. فإذا أخذ من هذا بنت مخاض، وأخذ من ذاك بنت لبون، أصبح عنده مراح من الإبل باسم الصدقة، ويتولى سوقها ورعايتها من معه من الأعوان. إذاً: أخذ زكاة الأموال تكون من أصحابها على مياهها، ولم يكلفهم الذهاب والمجيء بها إلى المدينة؛ رفقاً بأصحاب الأموال. وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل، وواجب أصحاب الأموال في التعامل معه، فنجد التعليم الإسلامي يتناول العامل وصاحب المال، وكل منهما يوقفه عند الواجب الذي عليه، فتقدم لنا في قضية معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم!) فيوصي العامل بأن يكون عادلاً رفيقاً، ولا يظلم أصحاب الأموال بأن يأخذ كرائم أموالهم، ولا يأخذ التيس إلا أن يرضى صاحبه، وكان فيه مصلحة، ولا يأخذه رغماً عن صاحب الغنم؛ لأنه قد لا يكون في الغنم إلا هذا التيس فيعطلها. إذاً: الشارع الحكيم أوصى العامل بالإرفاق بأصحاب الأموال، ومن جانب آخر أوصى أصحاب الأموال كما جاء في بعض الروايات: (إنه قد يأتيكم من تكرهونهم) وهم العمال الذين يأخذون الأموال، فالناس لا يريدونهم أن يأتوا ولكن يأتونهم غصباً عنهم، إلا المؤمن فهو يدفع ذلك طواعية لوجه الله، فقال: (يأتيكم من تكرهونهم فأرضوهم) أي: لا يذهبون عنكم إلا وهم راضون، ومتى ترضونهم؟ إذا كنتم معهم أمناء في العدد، فلا تخفون شيئاً من الغنم وراء الحجر أو وراء الشجر، ولا تدعون الخلطة بغير الخلطة، ولا تدعون الفرقة بغير فرقة خشية الصدقة -كما تقدم- فأوصى أصحاب الأموال أن يحسنوا معاملة العمال وأن يكسبوا رضاهم. جاء بعض الأشخاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! يأتينا عمال فيظلموننا، قال: أرضوهم، وما تحمل فإثمه عليه، لكم أجركم وعليهم وزرهم) وهنا يقال: إذا علمت أن العامل ظالم، فالأمر بين حالتين: إما أن يقع اجتهاد من العامل في أداء الأمانة، فهو مصدق ومقدم. وإما أن يكون معتدياً اعتداء صريحاً، كأن جاء إلى كرائم الأموال وأخذها، أو جاء وعدها فوجدها خمساً وعشرين، فقال: هذه ثلاثون، هذه خمسة وثلاثون. فزاد على صاحب المال فيما يتعلق بما يجب عليه، وهذا قل أن يكون. وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده خمساً وعشرين من الإبل، وقال له: زكاة مالك بنت مخاض. فقال الرجل: بنت مخاض لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها. فأراد صاحب المال أن يدفع أكثر مما عليه، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها؛ لأنها لم تجب، وأنا ممنوع من الظلم ومن التعدي، فإن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فخذ بها إليه. فيأتي الرجل ويعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأله: (أتعطيها عن طيب نفس؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك) فعاش إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة إبله. فهنا: العامل يمتنع أن يأخذ أكثر مما وجب عليه، وهذا هو المظنون في الأمناء الذين يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقع أيضاً لـ ابن رواحة مع أهل خيبر لما ذهب ليخرص عليهم نخيلهم، فجمعوا له من حلي النساء رشوة، فسبهم وقال: إن هذا سحت، والله لقد جئت من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، وما حب رسول الله ولا بغضكم بحاملي على أن أحيف عليكم، إني قاسم، فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فدعوا. يعني: إن شئتم أخذتم النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه، وإن شئتم رفعتم أيديكم وأنا أعطيكم ما قسمت، قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. الذي يهمنا أن الصدقة في بهيمة الأنعام تؤخذ على مياهها، أي: موردها من الماء، وفي مواطنها، ولا يكلفون المجيء بها إلى المدينة أو إلى عاصمة الدولة التي تقوم بجمع الزكاة؛ لأن في هذا مشقة عليهم.

زكاة الخيل والرد على من أوجبها

زكاة الخيل والرد على من أوجبها [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) رواه البخاري، ولـ مسلم: (ليس للعبد صدقة إلا صدقة الفطر) ] . انتقل المؤلف رحمه الله إلى نوع وقع الخلاف فيه، وهو: العبد والفرس، وهنا الحديث يقول: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) . فرس: نكرة أضيف إلى الضمير، وبعض العلماء يقول: إذا أضيفت النكرة إلى معرفة فهي عامة، وتدل على الجمع، كما في قوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فـ (نعمة) نكرة أضيفت إلى المعرفة (الله) ، فلو كانت مفردة ما احتاجت إلى إحصاء، ولكن دلت على العموم والشمول لما أضيفت إلى المعرفة. فقالوا: (فرسه) يعم جنس الفرس وليس رأساً واحداً، إذاً: ليس على المسلم في جنس الخيل صدقة، ولا في جنس العبيد صدقة. وهنا موضع خلاف يورده العلماء، والحديث أورده البخاري، وفي بعض الروايات: (ولا في غلامه) ويجمعون على أن فرس الخدمة وعبد الخدمة لا زكاة فيهما، إلا زكاة الفطر في العبد؛ لأن زكاة الفطر على الكبير والصغير والحر والعبد، وكل من تلزمك نفقته، ونحن الآن في الكلام على زكاة المال. فبعض العلماء يقول: لا زكاة في الخيل مطلقاً حتى لو كانت للتجارة كما يقوله ابن حزم، والجمهور يقولون: إذا كانت الخيل للنسل والنماء فلا زكاة فيها، وإن كانت لعروض التجارة كإنسان يتاجر في الخيل، فيبيع ويشتري فيها؛ فالزكاة في قيمتها مثل عروض التجارة، وكذلك الرقيق، لو كان يتاجر في الرقيق فعليه زكاة تجارتها، أي: تقدر فيمتها ويدفع زكاتها من قيمتها، أما أن تتخذ للقنية أو للتناسل فلا زكاة فيها. والإمام أبو حنيفة رحمه الله اعتبر الخيل من الدواب التي تزكى، وجاء في بعض الآثار -ويتفق العلماء على ضعفها- أن على الفرس ديناراً أو عشرة دراهم. ويقول الجمهور: كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه والكتب الأخرى التي جاءت في أنصباء الزكاة لا يوجد منها كتاب واحد ذكر الخيل. ويذكرون أيضاً في هذا الباب أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها ... ) إلخ -كما تقدم- فلم يذكر الخيل، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: (والخيل يا رسول الله؟ فقال: الخيل ثلاث: خيل لصاحبها ستر، وخيل لصاحبها وزر، وخيل لصاحبها أجر ... ) فقالوا: هذا رد على من سأل عن سبب عدم ذكر الخيل مع الإبل والبقر والغنم. وجاء في موضوعها في زمن عمر رضي الله تعالى عنه أن قوماً أصابوا خيلاً، فجاءوا إليه وقالوا: أصبنا خيلاً وعبيداً، نريد أن تأخذ زكاتها طهرةً. فقال: (كيف آخذ منها زكاة وصاحباي قبل لم يأخذوها؟) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر. ثم شاور من عنده حتى سأل علياً فقال: (خذ منهم مادام أنهم أتوا بها طواعية) وقال: (لا مانع ما لم تصبح عليهم ضريبة أو جزية تكون لازمة عليهم من بعدك) أي: أن يأتي من بعده: عمر أخذ منهم، فيلزمهم بدفعها، والمبدأ كان اختياراً. إذاً: عمر امتنع أولاً ولم يكن يمتنع إلا على ما هو ممنوع زكاته، ثم شاور أصحابه وشاور علياً، وأفاد علي بهذا الجواب، إذاً: فلا زكاة في الخيل، اللهم إلا إذا أصبحت عروض تجارة للبيع والربح والنماء فلا مانع. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتناسل والتكاثر، أما إذا امتلك مجموعة من الخيل كلها ذكور، أو مجموعة من الخيل كلها إناث؛ فلا زكاة فيها عنده؛ لأن الذكور وحدها لا تنمو ولا تزيد، والإناث وحدها لا تنمو ولا تزيد، أما إذا كانت ذكوراً وإناثاً وتنتج وتنمو وتزيد، فقال: الزكاة تبع للنماء، فتزكي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [5]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [5] تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما الحول، ومن منع الزكاة فقد سمح الشارع لولي أمر المسلمين أن يأخذها منه قهراً وزيادة تأديباً على الامتناع، وإن كانوا كثيرين وذوو منعة قاتلهم الإمام.

شرح حديث بهز بن حكيم في عقوبة مانع الزكاة

شرح حديث بهز بن حكيم في عقوبة مانع الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الحاكم، وعلق الشافعي القول به على ثبوته] .

اشتراط السوم لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام

اشتراط السوم لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام جاء المصنف رحمه الله بحديث بهز بن حكيم بن حزام، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون) ، وقد تقدم لنا أن بنت اللبون تكون من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، أي: أن الأربعين المذكورة هنا داخلة في نصاب بنت اللبون، وعلى هذا يكون الحديث فيه فائدة جديدة، وهي: اشتراط وصف السوم في الإبل. وهذا الشرط عام في جميع بهيمة الأنعام، فإذا كان يمتلك أربعين من الغنم وهو نصاب، ولكنه يتكلف العلف إليها بأن يزرع لها البرسيم، أو يشتري لها الشعير أو يزرعه، فهذه تسمى معلوفة، والسائمة هي التي يسرح بها الراعي تسوم في أرض الله، تأكل من النباتات والعشب الذي ينبته الله في الأرض عن طريق الأمطار، ولا يتكلف لها علفاً. وهنا يبحث الفقهاء فيما لو كانت بهيمة الأنعام سائمة نصف الحول؛ بأن جاءت الأمطار ونبت العشب، ورعت بهيمة الأنعام من هذا العشب ستة أشهر، ثم انقضى العشب في الخلاء، واضطر إلى أن يشتري لها العلف، فعلفها ستة أشهر، فيقول بعض الفقهاء: عليه نصف الزكاة؛ لأنها استوفت شرط الزكاة وهو حولان الحول، ونصف الشرط الآخر وهو السوم، فإذا كانت أربعين شاة فعليه نصف شاة، وإذا كانت مائة وواحدة وعشرين شاة فيها شاتان فعليه شاة واحدة. وهكذا يجزأ الواجب على بهيمة الأنعام بالنسبة إلى السوم والعلف، فإن كانت سائمة طيلة العام فعليه الزكاة كاملة، وإن كانت معلوفة طيلة العام فلا زكاة عليه، وإن كانت سائمة تارة ومعلوفة تارة فبحسب ذلك يؤخذ منه الزكاة.

عقوبة مانعي الزكاة والفرق بين الجحد والمنع

عقوبة مانعي الزكاة والفرق بين الجحد والمنع ثم في الحديث بيان عقوبة من منع الزكاة، فذكر في هذا الحديث: (من أعطاها مؤتجراً) أي: طائعاً مختاراً، طالباً الأجر من الله لأداء فريضة الزكاة عليه؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي حق المال؛ فإذا أدى ذلك ممتثلاً أمر الله، وطالباً الأجر من الله فبها ونعمت. قوله: (ومن منعها) : هناك فرق بين (من منعها) و (من جحدها) فالجحود لما ثبت أنه من الدين بالضرورة كفر عياذاً بالله! الامتناع من العطاء أو الامتثال معصية. ونذكر ما فعله الصديق رضي الله تعالى عنه مع مانعي الزكاة، فبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان موقف الناس من الزكاة على عدة أقسام: منهم من كان من قال: انتهى أمر الزكاة فلا زكاة، وجحد استمرار وجوبها، ومنهم لا زال مقراً بالزكاة ولكن قال: أنا أخرجها بنفسي، ولا أدفعها لـ أبي بكر، هذه أموالنا ونحن مسئولون عنها، فنحن نقسم زكاتها. وكان الأكثر قد جحدوا الزكاة، وصاحب ذلك ردة بعض القبائل. فقام الصديق رضي الله تعالى عنه وأعلنها قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) . وهذا في حق (من جحدها) ، وقال: (والله لو منعوني عَقالاً -أو عِقالاً أو عَناقاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) . إذاً: قام بالأمر، وعمر رضي الله تعالى عنه استوضح في الأمر، وقال: (أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله! -هذا في غير المرتدين- فقال: يا عمر! أجبار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! ألم يقل: (إلا بحقها) أي: من قال لا إله إلا الله بحقها، ومن حق لا إله إلا الله إيتاء الزكاة، فيقول عمر: (فرأيت أن الحق مع أبي بكر، فشرح الله صدري لما قال أبو بكر) . فسموا قتال أبي بكر لمانعي الزكاة مع غيرهم: قتال الردة أو حرب أهل الردة، وليس من منع الزكاة مرتداً كمن قالوا: نحن نخرجها بأنفسنا، ولكنه افتيات على ولي الأمر؛ لأن الله سبحانه أوجب على ولي الأمر أن يقوم فيها؛ لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] وهذا فعل أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده يقوم مقامه، وهكذا كل من ولي أمر المسلمين فإنه يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم فيما يجب على الإمام: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] ، فالزكاة قرينة الصلاة في وجوبها، ومهمة أخذها وتوزيعها على من يتولى أمر المسلمين. وتقدم لنا بأن صدقات المسلمين تؤخذ على مياههم، يأخذها نواب ولي الأمر، فيذهبون إليهم ويحصون ما عندهم، ويأخذون ما وجب عليهم. ومعنى (عناقاً) : هو ولد الشاة الصغير، ومعنى (عَقالاً) بالفتح: نصيب الزكاة في السنة، ومعنى (عِقالاً) بالكسر: الحبل الذي يكون في عنق البعير يعقل به حتى لا ينهض قائماً، فلكأنه يقول: لو أعطوني الإبل التي كانوا يعطونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصوا عقال واحدة منها لقاتلتهم عليه، فإذا كان سيقاتلهم على الحبل الذي يعقل به البعير هل يتركهم فيما وجب من بنت مخاض ولبون وحقة وجذعة ومسنة؟ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها مؤتجراً) طالباً الأجر (فبها ونعمت، ومن منعها) -أي: غير جاحد (فإنا) بالتأكيد (آخذوها) أي: بالقوة (وشطر ماله) والشطر: النصف، فلماذا يأخذ شطر ماله؟ قالوا: هذا من باب العقوبة بالمال، والحديث فيه تتمة: (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) . هذا التدليل مهم جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من منعها أخذناها بالقوة، والقوة تحتاج إلى قتال، والقتال يحتاج إلى رجال، والمقاتلة لابد فيها من ضحايا، فنضحي ببعض المسلمين من أجل دفع الزكاة! فما حظه صلى الله عليه وسلم منها حتى يقاتل عليها؟ يقول: أنا كلفت بأخذها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] ، ووجب علي القيام بهذا الواجب، مع أني لا حظ لي فيها، أي: فيقوم فيها لمصلحتكم أنتم، فقيامه صلى الله عليه وسلم في الزكاة فمصلحة لمصلحة الأغنياء والفقراء، فمصلحة الأغنياء: إبراء ذمتهم، ومصلحة الفقراء: إيصال حقهم إليهم.

فرض الزكاة حفظ لكرامة المساكين

فرض الزكاة حفظ لكرامة المساكين ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم أن فرض الزكاة للفقراء ليس معناه إذلالهم ولا إراقة مياه وجوههم، بل يأخذونها مع حفظ كرامتهم، وقد قال سبحانه: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، ثم بين أيضاً فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، وكل ذلك حفاظاً على كرامة الإنسان؛ لأن الفقر والغناء ابتلاء من الله، لو شاء لحوَّل المال من الغني إلى الفقير: وما يدري الفقير متى غناه ما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ضمرت صقباً لمن يكون ذاك الفصيل فلو ولدت الناقة وأنت قمت على الفصيل الصغير ونظفته وهذبته وفعلت كل شيء، فإنك لا تدري هو لك أو تذهب وتدعه لغيرك. إذاً: الابتلاء بالمال في الغنى وفي الفقر امتحان من الله للعبد؛ أيشكر الغني على غناه؟! ويصبر الفقير على فقره؟! فمن هنا كان هذا الحق مع كرامة المسكين، فإنه لم يقل له: اذهب وخذ حقك من الأغنياء؛ لأنهما ربما يعطونه وربما يماطلونه أو يعقدون الوجه في وجهه، ولذا كلف الرسول الكريم -وهي لا تحل له- بأن يقوم عليها ويأخذها، ومن امتنع قاتله وأخذها عنوة، وأخذ شطر ماله.

العقوبة المالية

العقوبة المالية وهنا يبحث العلماء في هذا الحديث: فهو من حيث السند متكلم فيه، ومن حيث المعنى هل في الإسلام عقوبات مالية؟ قالوا: نعم، وهذا دليلها. ثم قالوا: في الغاصب أيضاً إذا كان قد أنشأ فيما غصب زرعاً أو بناءً هدم عليه؛ عقوبة له على غصبه. إذاً: العقوبة المالية موجودة، ولكن بعض المتأخرين -وخاصة شارح هذا الكتاب- يقول: إننا إذا وسعنا الأمر لولاة الأمر في العقوبات المالية فلربما تطلعت نفوس الضعفاء منهم إلى أموال الرعية، فتذرعوا بأوهى الأسباب ليأخذوا الأموال قهراً، وليأخذوها بغير حق، وبادعاء أنها عقوبة مالية، ولذا نقول: لا ينبغي أن يتعدى ولي أمر في عقوبة مالية إلا ما ورد به الشرع. وهنا قال: (أخذناها وشطر ماله) ، الشطر: النصف (عزمة من عزمات ربنا) أي: ليس فيها هوادة ولا تساهل.

تعطل حق آل البيت من الخمس هل يبيح لهم الصدقة

تعطل حق آل البيت من الخمس هل يبيح لهم الصدقة وليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) أي: حتى آل البيت ليس لهم من هذه الصدقات شيء. ولكن في الوقت الحاضر يوجد أناس من آل البيت، وكان لهم في السابق سهم في الخمس، وكانوا يأخذون ما يكفيهم من خمس الغنائم من سهم الله ورسوله وذوي القربى، وكانوا يستغنون بذلك، فالآن لا خمس ولا سدس، فقد تعطل حقهم في المال. فإذا وجد من آل البيت من يستحق الصدقة لو لم يكن من آل البيت؛ أنتركه يجوع لأنه من آل البيت، أم أننا نعطيه بصفة الفاقة والحاجة ويكون قد أخذ لا لأنه من آل البيت، بل لأنه فرد مسلم مستحق محتاج؟ والذي حرمها على آل البيت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقة أوساخ الناس) ولا يليق بآل بيت رسول الله الذين يريد الله أن يطهرهم تطهيراً أن يتناولوا أوساخ الناس، ولكن ما دام الحق الأساسي قد تعطل عليهم، وأصبحوا بصفة الفقر أو الحاجة كغيرهم، فإذاً يعطون من الزكاة. وقد وقع الخلاف في عامل الزكاة إذا كان من آل البيت: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] ؛ أيأخذ أجره من الزكاة؟ فبعض العلماء يقول: لا يكون العامل من آل البيت حتى لا يأخذ أجره من الزكاة التي هي أوساخ الناس. وبعضهم يقول: هو يأخذ بعمله لا بكونه من آل البيت. والآخرون قالوا: إذا احتيج إليه فإنه يعمل ويأخذ أجره من بيت مال المسلمين الذي يمون بالفيء والغنائم. والذي يهمنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، وهذا كان معمولاً به في السابق كما في قصة بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما، حيث اشترتها وأعتقتها، فتصدق بلحم على بريرة؛ لأنها ليست من آل البيت، بل هي مولاة لهم، (مولى القوم من أنفسهم) . فجاء صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فقدم إليه الخبز والملح والخل، فتساءل عن سبب تقديم (الخبز والملح والخل وهو يرى البرمة تغط على النار؟ قالوا: إن ما فيها لا يصلح لك؛ لأنه لحم تصدق به على بريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية. وأكل منه) . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يمشي ومعه الحسن فوجد تمرة في الأرض فالتقطها إلى فيه، فحالاً أدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيِّ الصبي وأخرجها وقال: كخ! كخ! ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركته يأكلها) ، فإلى هذا الحد كان يتحرز صلى الله عليه وسلم من أكل الصدقة؛ لأنها من أوساخ الناس، فهي لا تحل لمحمد ولا لآله، وأبناء فاطمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم. وهناك من يتكلم على هذه اللفظة (وشطر) فيقول: إن العقوبة بالمال لا تأتي، وإن الرواية (وشُطِرَ ماله) ، بمعنى: قسم ماله قسمين: قسم خيار المال، وقسم رديء المال، ويأتي المصدق ويتخير من خيار المال، يعني: هو كان يمتنع من تقديم الزكاة من وسط المال، فجاء عقوبة له أن تؤخذ من خيار ماله رغماً عنه، ولكن الجمهور على اللفظ الأول: (آخذوها وشطْر ماله) أي: ونصف ماله معها عقوبة له على منعه للزكاة.

زكاة الذهب والفضة

زكاة الذهب والفضة قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) رواه أبو داود، وهو حسن، وقد اختلف في رفعه] . انتهى المؤلف رحمه الله من جميع ما يتعلق ببهيمة الأنعام، وجاء إلى النقدين: الذهب والفضة، فذكر هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه. ثم النقاش في هذا الأثر برمته أهو موقوف على علي من كلامه، أم هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول الله؟ على كلا الحالتين علماء الحديث يقولون: سواء كان موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فله حكم الرفع، فهو مرفوع بالفعل أو له حكم الرفع. قالوا: لأن فيه الكلام على تشريع في ركن أساسي، وبيان أنصباء الأموال وما يجب فيها، وليس هذا محل اجتهاد، فلا يتأتى لـ علي ولا لغيره أن يتكلم في هذا المجال من عنده، والحق في ذلك أنه بيان لمجمل في كتاب الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ، فمن الذي يبين لهم الزكاة حتى لا تكون كنزاً، ويسلمون من أن تكوى بها جباههم وظهورهم؟ لا يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا حاجة إلى البحث في سند الحديث مادام أنه صح عن علي رضي الله تعالى عنه، فهو إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع، وإن كان قد رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المطلوب.

اشتراط النصاب في زكاة النقدين

اشتراط النصاب في زكاة النقدين قوله: (إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول) أي: مضى عليها حول كامل، والحول: هو السنة؛ لأنه يحول ويعود. قوله: (ففيها خمسة دراهم) فخمسة دراهم تخرج من (200درهم) ، (200÷5=40) ، أي ففي كل (40 درهم) درهم درهماً واحداً، فيكون المخرج (1. 4) فننسبه مئوياً وعشر الأربعين هو (1. 10×40=4) ، وربع الأربعة هو (1. 4×4=1) ، فهو ربع العشر وهو (2. 5%) ، فهذه النسبة ثابتة في الذهب والفضة. والذي يهمنا هنا: اشتراط بلوغ النصاب في الفضة مائتي درهم، واشتراط حولان الحول، وعليه فلا زكاة في الفضة إلا بامتلاك نصاب كامل، ويبقى هذا النصاب مخزوناً بلا حاجة تدعو إليه سنة كاملة. إذاً: ما دام أن لديه مائتي درهم، ومرت عليه سنة وما احتاج منها إلى شيء، فهو غني، ولو كان فقيراً لأخذ منها، لكن هذه الدراهم نائمة مستريحة ما حرك فيها ساكناً، فهو في غنى عنها، سواء كانت من صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن كان عنده رأس مال نائم لم يحركه لحاجة ولا ضرورة، فهذا غني، وهذا من الإرفاق بالغني فلا تؤخذ زكاة ماله إلا إذا ثبت غناه، وما الذي يثبت غناه؟ وجود النصاب سنة كاملة ما امتدت يده إليه. ومن ناحية أخرى: عنده مائتان، أخذنا منه خمسة وهي: (2. 5%) ، فهي نسبة ضئيلة جداً لا تؤثر عليه؛ فهذا إرفاق به مرة أخرى. ومن هنا نجد الزكاة مبنية على الإرفاق بالغني، كما هي مشروعة للإرفاق بالفقير، ومن الإرفاق بالغني اشتراط حولان الحول؛ لأنها علامة على غناه، ومن الإرفاق به أن يكون الجزء المأخوذ ضئيلاً جداً لا يؤثر عليه، وما يؤخذ من الغني كثير أو قليل فهو إرفاق بالفقير كما قيل: بث الجميل ولا تمنعك خلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أي: رجل شاة محرقة لا تحتقره المرأة في أن تهديه لجارتها، لتذهب فتشويه أو تسلقه حتى تحصل منه شيئاً، وقد سمعنا في بعض القصص أنه مر على المدينة سنين جوع، كانوا يتبعون جلود الحيوانات فينفضونها ويدقونها، ويصنعون منها طعاماً. فإذاً: لا تحتقر شيئاً، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) . امرأة مسكينة تأتي إلى بيت رسول الله فتجد أم المؤمنين عائشة وبيدها قطف عنب فتسألها، فتعطيها حبة مما في يدها، فتأخذها المرأة وتنظر فيها تستقلها، فقالت لها عائشة: يا أمة الله! انظري كم فيها من ذرة، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] تستكثرها. والمرأة التي شقت التمرة شقين، وأعطت كل شق لطفلة من بناتها، ثم أخذت النواة تمصها، اجتزأت بهذا. إذاً: كل ما يؤخذ من الغني للفقير قليلاً كان أو كثيراً فهو كل ما سد فقراً، فهو محمود. إذاً: يبين لنا علي رضي الله تعالى عنه بأنه لا تجب على الإنسان في الفضة زكاة حتى يمتلك مائتي درهم، ولا زكاة عليه في المائتي درهم حتى يحول عليها الحول. قوله: (وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك) . جاء علي رضي الله تعالى عنه هنا ببيان نصاب الذهب فقال: (لا شيء عليك في الذهب حتى تمتلك عشرين مثقالاً) ومسمى المثقال والدينار واحد، فالدينار: اسم للوحدة النقدية، والمثقال: اسم للوحدة الوزنية، وكما تقدم بأن نسبة الدرهم إلى الدينار هي: كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل، أي: أن المثقال درهم وثلاثة أسباع. قوله: (ولا زكاة عليك حتى يحول عليها الحول) أي: كشأن الفضة، فإذا امتلكت عشرين مثقالاً وحال عليها الحول فعليك فيها نصف مثقال، النصف في العشرين كم يعادل في المائة؟ واحد في الأربعين، والمائة فيها أربعون وأربعون أخرى، ونصف الأربعين، فتكون هي 2. 5%.

اشتراط الحول في زكاة النقدين

اشتراط الحول في زكاة النقدين قوله: (وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) . هذه قضية عامة يذكرها علي رضي الله تعالى عنه، وهذا بالإجماع في بهيمة الأنعام، وفي النقدين (الذهب والفضة) ، وفي عروض التجارة. أما المال الذي يأتي عن طريق إنبات الأرض فليس فيه حول، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فيزكى عنه عند حصوله، فإذا استوى التمر وجذ وجفف وكان قد خرص قبل أن يجذ، فيؤدي الزكاة يوم أن جف التمر، وكذلك الحبوب نصابها -على ما سيأتي- خمسة أوسق، عندما يصفي الحب، تخرج زكاته. إذاً: (ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) هذا عام، ولكن يراد به مخصوص، وهو بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، وما عداها ففيه التفصيل، أما الزروع والحبوب فيوم حصاده، وأما اللقطة أو الكنز أو ما وجد دفيناً -الركاز أو المعدن- أو غير ذلك فله تفصيل آخر يأتي في محله إن شاء الله.

زكاة المال المستفاد أثناء الحول

زكاة المال المستفاد أثناء الحول قال المؤلف: [وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول) والراجح وقفه] . هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (من استفاد مالاً) هذه المسألة يبحث فيها الفقهاء المال المتجدد أثناء الحول، فمثلاً: عندك مال قدره مائتا درهم، وليكن هذا المال من التجارة، فيزيد ويزيد إلى أن يأتي نهاية الحول وقد صارت المائتان ألفاً، فعند تقدير العروض في نهاية الحول تزكي ما وجد عندك، ولا تقتصر على زكاة أول ما ابتدأت به. فإذا كنت بدأت الكسب بالتجارة أو الموظف يوفر من راتبه كل شهر شيئاً، إلى أن بلغ التوفير نصاباً، فيبدأ حساب الحول، فإذا وصل إلى نهاية الحول من يوم ما تم عنده النصاب، وفي أثناء ذلك كان يضم توفيراً مع توفير لشهر مع شهر، إلى النصاب، فكل ذلك يتبع الأصل الأول، وفي نهاية الحول ينظر ماذا اجتمع عنده حتى الراتب الأخير الذي هو قبل الحول مباشرة، ويزكي الجميع. فكذلك التاجر: ينظر ماذا ربح، وماذا وجد عنده من أول ما بلغت تجارته النصاب إلى أن يحول الحول، وفي نهاية الحول ينظر كم وجد عنده؟ خمسة أنصبة أو ستة أو أكثر أو أقل، فيزكي تجارته بما فيها ما دخل عليه قبل الحول بيوم واحد، ولا نقول: له حول جديد؛ لأن أصله واحد وهو التجارة، وكذلك الموظف أصل ماله وهو الوظيفة. لكن هذا التاجر وذاك الموظف إذا استفاد مالاً آخر أثناء الحول، سوء في منتصف الحول أو قبل تمام الحول بشهرين أو ثلاثة بأن جاءه ميراث مثلاً، فهل المال الذي جاءه من الميراث تابع للتجارة أم مستقل؟ مستقل. فعلى هذا يقول ابن عمر: يجعل له حولاً جديداً، فحول التجارة وحده ويزكيها في نهاية الحول، وحول الميراث يمضي في طريقه حتى إذا حال عليه الحول عنده زكاه، وبهذا القول يقول الشافعي رحمه الله: أعني أن من استفاد مالاً أثناء الحول اعتبر له حولاً جديداً. أما الجمهور فيقولون: المال واحد، سواء جاء بالتجارة، أو جاء بالميراث، أو جاء بالهبة، أو جاء بغيره فكله دخل في ملكه وصندوقه، ينظر في نهاية الحول ويزكي الجميع.

البقر العوامل لا زكاة فيها

البقر العوامل لا زكاة فيها قال المؤلف: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (ليس في البقر العوامل صدقة) رواه أبو داود والدارقطني، والراجح وقفه أيضاً] . تقدم الكلام على أنصباء البقر وأنه في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، وهذا مطلق في عموم البقر، فجاء المؤلف بأثر علي رضي الله تعالى عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله: (ليس في البقر العوامل صدقة) ، أي: في كل أربعين تبيع إذا لم تكن عوامل. والبقر العوامل جاء الأثر أنها التي تثير الأرض، أي: تستخدم في الحرث للزراعة، وقد تستخدم في جر العربات أو في السواني -أي: في نضح الماء- إلى غير ذلك، وذلك أن عمل البقر فيما يتعلق بالزراعة سيترتب عليه ثمرة، وهي إما ثمرة الشجر كنخل وعنب وزيتون، وإما حب ذرة وشعير وغيره على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فلا يتأتى أن تؤخذ زكاة الحبوب أو الثمار الناشئ عن عمل البقر، ثم تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ عن عمله تلك الثمار أو الزروع، وهو ما يسمى يعبر عنه بعض المعاصرين بقولهم: (لا ثنية في الزكاة) يعني: لا تؤخذ الزكاة من مال مرتين. وكونه يقول: (موقوف على علي) . تقدم التنبيه على مثل ذلك الموقوف أنه تشريع، والتشريع لا يكون بالاجتهاد ولا بالرأي، فله حكم الرفع، وعليه يكون علياً رضي الله تعالى عنه قد سمع ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سمعه دون أن يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا في عدة أحاديث في باب الزكاة. ونذكر الإخوة بأن علياً رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة، فلما سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ -هل أعطاكم علماً لم يعطه لأحد غيركم؟ قال: لا؛ إلا فهم أوتيه رجل في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما فيها؟ قال: أنصباء الزكاة، والعقل، وفكاك الأسير) . إذاً: علي رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه لـ أنس الكتاب الذي بيَّن فيه أنصباء الزكاة، وما كانت كتابة أبي بكر عن رأيه هو، ولكنه عن سماع سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن إيجاب الزكاة فريضة، وإسقاطها يكون إسقاطاً للحق. فكون علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ليس في البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء في هذه الأبقار، وعلي لا يملك أن يسقط حقاً أوجبه الله في قوله سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] إذاً: علي لن يقول مثل ذلك إلا إذا كان عن سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث وإن كان في البقر فإنه يرد قول المالكية بأن في الإبل العوامل زكاة، ووجهة نظر مالك رحمه الله أن الإبل من حيث هي مال ينمو بالتناسل، فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة، وما كان منها من العمل فـ مالك يقول: هذا العمل من هذه الإبل زيادة منفعة لصاحبها، فالتي لا تعمل ولا يستفيد منها إلا زيادة النماء والنسل فيها زكاة، فمن باب أولى إذا كان فيها النماء والنسل ومع ذلك تعمل، فعملها زيادة فائدة، ففيها الزكاة. ولكن الجمهور -كما أشرنا- لم يأخذوا من الإبل ولا من البقر العوامل زكاة؛ لأن عملها سيترتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة، فلا نعود عليها بأن نأخذ زكاتها مرة أخرى، اللهم إلا أن تكون عروض تجارة، كأن يتاجر في الإبل ويشغلها، ويتاجر في البقر ويُعملها، فخرجت عن زكاة بهيمة الأنعام بأنصبائها: ثلاثين وأربعين وغيرها، وخرجت عما يخرج فيها من تبيع ومسنة، وعن بنت مخاض وبنت لبون، ودخلت في عروض التجارة، فتقدر قيمتها، ويخرج من مجموع القيمة قدر (2. 5%) ، وليس فيها وقص كما في أصل بهيمة الأنعام، بل تعامل معاملة عروض التجارة.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [6]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [6] لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفق باليتيم والإحسان إليه حتى في ماله، بأن يتاجر له فيه حتى لا تأكل ماله الزكاة، وللعلماء خلاف في مسألة إخراج الزكاة من ماله قبل البلوغ. كما جاء الخلاف في صحة إخراج الزكاة قبل حلول الحول فيها، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس.

وجوب الزكاة في مال اليتيم وما يتعلق بذلك

وجوب الزكاة في مال اليتيم وما يتعلق بذلك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) ] . هذه القضية وقع الخلاف فيها بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. فإذا كان المال لإنسان كبير بالغ رشيد مكلف فإن من أركان الإسلام أن يؤدي زكاة ماله، أما إذا كان المال ليتيم، أي: لصبي قاصر عن سن الحُلُم، واليتيم: هو من توفي أبوه قبل بلوغه، واليتيم في الحيوانات: من توفيت أمه، واليتيم في الطيور: من توفي أبوه وأمه. وإذا كان الطفل يتيماً فلا بد أن يقام عليه ولي يرعى شئونه، ويدبر حاله من تعليمه، والحرص على ماله إن كان له مال، وتنميته ومراعاته حتى لا يضيع. فيتيم ورث عن أبيه مالاً، هذا المال فيه زكاة، والمال الزكوي على قسمين: مال خفي: وهو ما يتعلق بالنقد من الذهب والفضة، والأوراق النقدية في الوقت الحاضر. ومال ظاهر: وهو بهيمة الأنعام والزروع. فالمال الخفي يقول الجمهور: فيه زكاة. والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا زكاة عليه حال يتمه، ولكنه إذا بلغ ورشد واستلم ماله من الوصي زكاه.

استحباب الاتجار بمال اليتيم

استحباب الاتجار بمال اليتيم وقوله في الحديث: (من ولي يتيماً) أي: صار ولياً عليه، سواء كان أمه أو عمه أو أخاه الأكبر أو شخصاً أجنبياً يقيمه الحاكم؛ فالذي يلي مال اليتيم، وكان لهذا اليتيم مال فلا يجعله في الصندوق، بل يتجر فيه؛ لينمو ويربح، حتى إذا حال عليه الحول وأخرج الزكاة لم ينقص رأس المال الأساسي، وهكذا يحول الحول الثاني ويخرج الزكاة، فيكون نماء المال وربحه ضماناً لرأس المال. ويقول صلى الله عليه وسلم: (فليتجر به) أي: برأس مال اليتيم؛ لأنه باتجاره فيه ينمو، فإذا ما أخرجنا الزكاة منه حافظ على مستواه، فلا ينقص، بل يزيد، أما إذا لم نتجر فيه وتركناه في الصندوق، وحال عليه الحول، وأخذنا منه (2. 5%) ، والسنة الثانية أخذنا منه (2. 5%) وهكذا إلى السنة العاشرة؛ فعشر سنوات في اثنين ونصف في المائة ماذا يبقى؟ كأنا تركنا مال اليتيم للزكاة تأكله. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) دليل للجمهور على أن مال اليتيم يزكى، لأنه لو لم يزك لم تأكله الصدقة.

الدليل على عدم وجوب الاتجار بمال اليتيم

الدليل على عدم وجوب الاتجار بمال اليتيم جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن آل أبي أوفى كانوا أيتاماً، ولهم عنده مال وديعة، وبعد أن بلغوا سن الرشد دفع إليهم مالهم، فحسبوه فوجدوه ناقصاً، قالوا: المال ناقص يا علي. قال: هل حسبتم زكاته؟ قالوا: لا. قال: احسبوها. فحسبوا زكاة تلك السنوات فوجدوه تاماً بزكاته، فقال: أترون أن يكون عندي مال ولا أخرج زكاته؟ وهنا أصبحنا في إشكال، فهذا علي لم يتجر بالمال، وتركه حتى أكلت الزكاة منه واستنقصه أصحابه؟ وهنا قال: (فليتجر له) فهل يجب على الولي أن يتجر في مال اليتيم أم أن هذا من باب النصح والرشد؟ نقول: الولي ما تولى لليتيم إلا للعمل على صلاحية حاله، واتفق الأصوليون على معنى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] فقالوا: كل من أتلف على يتيم مالاً، سواء أكله بفيه أو أحرقه بنار أو أغرقه في ماء، أو سلط عليه بهيمة، فهو داخل في عموم الوعيد: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] . بقي لنا هذا: هو لم يأكله، ولكن ترك تنميته، فالأصوليون أيضاً يقولون: الترك فعل، كما يذكر والدنا الشيخ الأمين في مراقي السعود: (والترك فعل في صحيح المذهب) ، وكما قال الصحابة: (لئن قعدنا والنبي يعمل -أي: في بناء هذا المسجد النبوي الشريف- لذاك منا العمل المضلل) ، فهم بالقعود ما عملوا شيئاً لكن قعدوا عن العمل، فترك العمل والقعود بدون عمل فعل، كما قال صاحب مراقي السعود: فالترك فعل، بمعنى: لو أن إنساناً على شاطئ نهر، وجاء كفيف ولا يعلم بحافة النهر، وهو يراه متجهاً إلى الماء، فإنه سيغرق، فلو تركه فلم ينبهه حتى سقط في الماء فغرق، هل هو عمل شيئاً في غرقه؟ ما عمل، ولكنه مسئول؛ لأنه ترك إرشاده، وهكذا من ترك شيئاً قادراً على أن يفعله وترتب على تركه مفسدة، فهو مسئول عنها. وهنا علي رضي الله تعالى عنه ترك العمل في مال الأيتام عنده، فيقال في العمل في مال اليتيم: إن كان العامل من أرباب الخبرة، ولديه المتسع، ويمكن أن يعمل في مال اليتيم وينميه، فعليه أن يعمل، أو يضعه في يد أمين يعمل، أما إذا كان لا يضمن الربح، أو يخشى إن وضعه في يد آخر أن ينكره أو يهمله، فبقاؤه في محله أولى.

دليل أبي حنيفة على عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم والجواب عليه

دليل أبي حنيفة على عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم والجواب عليه والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة عبادة وتحتاج إلى النية، والصغير غير المكلف لا نية له، فكيف يؤدي عبادة بدون نية. قال: فالزكاة كالصلاة، ولا تجب عليه الصلاة إلا إذا عقل وأدرك وصحت منه النية، وكذلك الصوم. قال الجمهور: إنما ذلك في العبادة البدنية، أما العبادة المالية فلا تتوقف على النية، ووليه هو المكلف، فهو يقوم بذلك نيابة عنه، أرأيت لو أن هذا اليتيم لحقه دين، وجاء الولي واستولى على هذا المال بولايته ووصايته على هذا الصغير، أترونه يسد الدين عنه أم لا؟ وعلى هذا لو أن اليتيم لحقه حق في المال، وطولب به الولي، فإن الولي يدفع هذا الحق من مال الصبي وفاءً بدينه، ولا يتوقف على كونه صغيراً لا نية له، فقالوا: الزكاة حق في المال، وله تعلق بالذمة -أي: بذمة المالك- ليبرئ ذمته بقصد إخراجه طاعة لله. وكذلك الحديث الماضي: (أخذناها وشطر ماله) هل كان له نية في هذه أم أخذت بالقوة؟ أخذت بالقوة، قالوا: فتجزئ عنه ولو لم ينو إخراجها، لكن ثوابها على أنها أداء ركن في الإسلام ليس له؛ لأنه لم يدفعها طواعية.

تفصيل مذهب أبي حنيفة في زكاة مال اليتيم

تفصيل مذهب أبي حنيفة في زكاة مال اليتيم إلى هنا الأئمة الثلاثة يقولون: في مال اليتيم زكاة أياً كان نوعها، والولي يقوم مقامه في إخراجها والنية عنه، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تتأتى إلا من البالغ المكلف، فيترك المال بزكاته حتى يبلغ ويرشد الصبي، فيدفع إليه ماله ويقال له: الزكاة في مالك من سنة كذا، ويتولى هو إخراج زكاة ماله بنفسه. هذا عند الإمام أبي حنيفة، وخالفه بعض أصحابه في ذلك. إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يستثني من عموم المال ما تخرجه الأرض، فيقول: إذا كان الصبي يمتلك مزرعة، والمزرعة جاءت بما تجب فيه الزكاة، فإن على الولي أن يخرج زكاة ما تخرجه الأرض من ملك اليتيم، ولا ينتظر به إلى أن يبلغ قال: لأن الله سبحانه وتعالى علق زكاة ما تخرجه الأرض بعينه، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر المولى بإخراج زكاة ما تخرج الأرض يوم الحصاد، واليتيم لا دخل له في ذلك. وسيأتي ما هي الأنواع التي تزكى مما تخرجه الأرض أو لا يزكى. ومال اليتيم: إما نقد وإما بهيمة الأنعام وإما زروع، أما النقد وبهيمة الأنعام فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا يزكى مال اليتيم في النقدين وبهيمة الأنعام، وتترك حتى يبلغ ويستلم ماله، ثم هو الذي يتولى إخراج زكاته، أما الزكوي مما تخرجه الأرض فإن وليه يخرجه يوم حصاده، هذا ما يتعلق بمال اليتيم، والقاصر كالمجنون والمعتوه ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.

ترجيح القول بوجوب الزكاة في مال اليتيم

ترجيح القول بوجوب الزكاة في مال اليتيم وهذه القضية من القضايا التي تعم بها البلوى، لأنه لا تخلو قرية من يتيم، ولا يخلو يتيم في الغالب من مال، فإذا كانت المسألة على هذه الحال، فربما نجد فيما تقدم لنا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه ما يشهد للأئمة الثلاثة، وهو: أن معاذاً لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فأعلمهم بأن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) . ونحن نسأل في كلمة (أغنيائهم) : اليتيم إذا كان عنده ألف رأس من الإبل أو من الغنم، وإذا كان عنده ألف دينار أو ألفا درهم من الفضة، فهو غني أم فقير؟ الجواب: هو غني، فيدخل في عموم الأغنياء، فتؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الأغنياء الكبار. وإذا جئنا في تقسيم الزكاة: (تعطى إلى فقرائهم) ، هل نعطيها لليتيم الفقير أم نقول: هذا اليتيم ليس مكلفاً، ولا يصح أن يقبض الزكاة؟ الجواب: أنه أحق من غيره، فإذا كان مع اليتم يأخذ من الزكاة، إذاً: مع اليتم يعطي الزكاة، فهذا في عموم (أغنيائهم) وهذا في عموم (فقرائهم) .

الصلاة على مخرجي الزكاة والدعاء لهم

الصلاة على مخرجي الزكاة والدعاء لهم قال المؤلف: [وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم) متفق عليه] . هذه القضية، وهي الصلاة على غير الأنبياء، جاء في النص القرآني الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] . وهنا أنه صلى الله عليه وسلم كان عندما يأتيه قوم بزكاتهم، سواء كانوا من أهل المدينة أو من خارجها يصلي عليهم؛ لأننا عرفنا القاعدة: أن بهيمة الأنعام تؤخذ زكاتها على مياههم هناك، فإذا كانت زكاة مال أو زكاة حبوب وجاءوا بها إلى رسول الله، ودفعها إلى المسئول لتوزيعها أخذها منهم وصلى عليهم، اللهم صل على آل فلان، أو اللهم صل على فلان، أو يقول: صلى الله عليك. وكونه صلى الله عليه وسلم يصلي على من أتى بزكاته إليه هو امتثال منه لأمر الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فهذا أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليهم عندما يأخذ منهم الزكاة. وهنا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .

معنى الصلاة

معنى الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال القائل: وقابلها الريح في دنها فصلى على دنها وارتسم أي: دعا على دنها، وكما جاء في حديث الوليمة: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها، ومن لم يأتها فقد عصى أبا القاسم، ومن كان صائماً فليصل) ، فبعض العلماء قال: (فليصل) أي: يرجع ويسجد، وبعض العلماء قال: (فليصل) أي: فليدع؛ لأن أصل الصلاة الدعاء، وانتقل اسمها إلى الصلوات الخمس ونوافلها؛ لأن الدعاء موجود فيها من أول لفظ: الله أكبر ثم دعاء الاستفتاح، إلى أن يسلم. قالوا: والصلاة من الله على رسوله أو من الله على عباده كما في الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) فقالوا: الصلاة من الله رحمة، فإذا قال صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على آل فلان؛ فمعناه: اللهم ارحم آل فلان. والصلاة من العباد دعاء، فإذا قلت: اللهم صل على محمد، فكأنك تدعو الله بأن يعلي شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فتدعو له ولآله بالرفعة والثواب الجزيل.

حكم الصلاة على غير الأنبياء

حكم الصلاة على غير الأنبياء فهنا: هل تجوز الصلاة من الإنسان للإنسان فتقول: اللهم صل على آل فلان؟ فكوننا نقول: اللهم صل على محمد، قد أمرنا بذلك {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب:56] فهذا أمر من الله أن نصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل نفعل ذلك للخلق فيتساوى أفراد الأمة مع رسولها؟ بعض العلماء قال: لا نصلي عليهم، ولكن ندعو لهم بالخير! بغير صيغة الصلاة، وإنما نقول: اللهم أكرمهم، وبارك لهم فيما رزقتهم، ونمِّ أموالهم، واحفظها، ونحو ذلك. ومن هنا لما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار مولاه قال بعض الناس: أنا لا أعطي الزكاة لـ ابن أبي قحافة. قال: كنت أعطيها لرسول الله لأنه كان يصلي علينا، وليست صلاة ابن أبي قحافة علينا كصلاة رسول الله، فأنا أؤديها بنفسي. ولكن كما نعلم أنه لم يقبل منهم ذلك. ومن الطريف أنه يذكر في ترجمة سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه إلى بيته، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد سعد: وعليكم السلام. بصوت خفيف لم يسمعه رسول الله، فأعاد: السلام عليكم. فرد: وعليكم السلام. وأعاد مرة ثالثة: السلام عليكم. فرد: وعليكم السلام. فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سلم ولم يسمع جواباً ولم يؤذن له، فقيل لـ سعد:ألم تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما سلم؟ قال: أريد أن يكرر، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم لحقه سعد، فقال: والله يا رسول الله! لقد سمعت سلامك من أول مرة، ورددت بصوت خفي لا تسمعه لتكرر (السلام عليكم) ويتكرر لنا سلاماً منك علينا، فرجع معه النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمه. يهمنا أن هذا الصحابي، الذي كان سيد قومه، حضر بيعة العقبة وكان نقيباً فيها، فيسلم عليه الرسول ولا يقول له: تفضل. ويريد أن يكرر السلام، ألا تأذن لرسول الله؟ قال: دعه يسلم علينا أيضاً. إذاً: كان أولئك القوم يريدون دفع الزكاة لرسول الله لأنه يصلي عليهم، وصلاة الرسول دعاء، ودعاؤه مستجاب، ولهذا قالوا: لا نعطي أبا بكر؛ لأن دعاءه ليس كدعاء رسول الله. إذاً: ما دام أنه جاء النص فلا محل للاجتهاد، ولكن هل هذا عام في كل من يأخذ الصدقة من أهلها؟ البعض يقول: نعم؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعض يقول: هذا خاص برسول الله. لماذا خصصتموه؟ قالوا: لقد كتب أبو بكر أنصباء الزكاة وبينها للعمال، وبعث رسول الله عمالاً يجمعون الزكاة، وبعث أبو بكر عمالاً يجمعون الزكاة، ولم يرد عن مبعوث واحد وعامل في الزكاة أنه أوصي بأنه: إذا أخذت من أحد فصل عليه. فما داموا عمال الزكاة لم يعملوا بها في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء من بعده، فقد كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم تقديم الزكاة قبل حلول الحول

حكم تقديم الزكاة قبل حلول الحول قال المؤلف: [وعن علي: (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي والحاكم] . هذه المسألة: أن العباس رضي الله تعالى عنه قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة العام الحالي ومعها زكاة العام الذي لم يأت، فيكون قد قدم زكاة عام قبل حلول وقتها. وقد تقدم معنا كلام علي رضي الله تعالى عنه: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) ، فالعام الأول حال عليه الحول فنأخذها، لكن العام الثاني لم يدخل بعد، ولا حال الحول على المال، فكيف نأخذ زكاة سنتين؟ وهل يجوز تقديم الزكاة قبل كمال حولها، مع أن الحول شرط في وجوبها؟ فالبعض يمنع مطلقاً، ويقول: تمام وجوب الزكاة بتمام الحول، فتقديم الزكاة قبل الحول كتقديم الصلاة قبل وقتها، والصلاة قبل وقتها لا تصادف محلاً، فكذلك الزكاة قبل حولها لا تصادف محلاً. والآخرون قالوا: هذا اجتهاد وقياس، ولا اجتهاد ولا قياس مع النص، فإن هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلفوا: هل العباس رضي الله تعالى عنه هو الذي تقدم وجاء لرسول الله بزكاة عامين في وقت واحد، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من العباس أن يقدم زكاة سنة لم تأت بعد، بأن يدفع زكاة سنتين في سنة حاضرة؟ الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من العباس، وجاءت الرواية: (قد احتجنا فطلبنا -أو فاستسلفنا- من العباس زكاة عامين) . وهنا يقول بعض العلماء: المتوسط في القول أنه إن وجدت حاجة عند الإمام للمال، وزكاة العام لا تكفي، فله أن يستسلف من أرباب الأموال زكاة سنة متأخرة؛ ليسد بها الحاجة الحاضرة، أما في غير وجود حاجة فليس هناك داع لتقديم زكاة لم يأت شرطها بعد. وعلى هذا فخبر العباس رضي الله تعالى عنه بأنه قدم زكاة سنة متأخرة، لا شك فيه، ولكن البحث في: هل العباس تقدم به لرسول الله، أو أن رسول الله هو الذي استسلف وطلب من العباس، لحاجة حاضرة احتاج فيه زيادة مال؟ هذا هو الأولى والأصح. بقينا هنا في مسألة يمكن أن يكون للاجتهاد فيها مجال، وهي مسألة واقعة بين الناس: وهي أنه إذا كان هناك شخص عنده زكاة النقدين، واعتبر الحول في رمضان، وكل سنة من رمضان يخرج زكاة ماله، فجاء في شعبان أو في رجب ووجد بعض إخوانه في مسيس الحاجة إلى المال، وهو لا يريد أن يعطي من رأس المال شيئاً، وهو عنده الزكاة، ويعلم بأنه عند مجيء الحول سيخرج عشرة آلاف ريال أو مائة ألف ريال، فقال: هؤلاء الإخوان أو الجيران أو الأرحام في أمس الحاجة إلى الريال، فهل ندعهم يموتون جوعاً حتى يأتي رمضان، أم أنه يقدم من زكاة ماله الذي يجب في رمضان للحاجة الموجودة التي أدركها في هؤلاء الناس؟ الجواب: يقدم من ماله ويعطيهم. المهم أنه صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة سنة مقدمة لحاجة، فماذا يمنعنا أن نقدم جزءاً من زكاة مالنا عن وقته من أجل حاجة حاصلة؟ وهؤلاء في تلك الحالة الاضطرارية لا شك أنهم أشد ما يكونون محتاجين لذلك، وهذا مال ينتظر أوانه، فبدلاً من أن تنتظر أوانه فقد جاءت حاجته، وأنت ما أعددته إلا للفقراء والمساكين تسد به حاجتهم، وهذه حاجة حاضرة، فإذاً: لا بأس في مثل ذلك. ويقولون عن مالك: إنه كان يجيز تقديم زكاة المال عن حولها إلى نصف شهر. وعندهم في زكاة الفطر أنها تخرج يوم العيد ما بين صلاة الفجر إلى صلاة العيد، وهناك من يقول: تقدم اليوم واليومين والثلاثة. والشافعي يقول: إذا انتصف رمضان فلك أن تخرج زكاة الفطر، فأجاز تقديمها على أكثر من أوانها. على كل المسألة اجتهادية، وأرى -والله تعالى أعلم- أنه يجوز له تقديمها عن موعد حولها لسد الحاجة الموجودة. والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [7]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [7] من رحمة الله بعباده أنه لم يوجب عليهم الزكاة إلا فيما بلغ النصاب الذي هو مقياس الغنى، وكان قد حال عليه الحول، وقد جاء الشرع بتقدير نصاب الفضة بمائتي درهم، لكن الكثير من الناس يجهل مقدار ذلك خاصة بعد ترك التعامل بالدراهم الفضية، وشيوع العملات الورقية، فجاء البيان هنا للطريقة التي يعرف بها نصاب الفضة بالعملات الحديثة المتداولة اليوم.

حديث جابر في أنصبة الزكويات

حديث جابر في أنصبة الزكويات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم] . أتى المصنف رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة، وقد أجمعوا على أن الأموال المتفق على زكاتها أربعة وهي: بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، والزروع والثمار، وعروض التجارة. فهذه الأجناس من حيث هي زكوية، ويختلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة الحصول عليها. وفي هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأموال الزكوية لها أنصباء، بخلاف من شذ وقال: كل مال يزكى ولا عبرة بنصاب ولا بحولان الحول! وهذا في الواقع فيه إجحاف على المالك؛ لأنه يحمله الزكاة على كل ما يملكه ولو كانت له فيه حاجة. فاشتراط بلوغ المال الزكوي نصاباً فلأنه يدل على وفرته في يد صاحبه، وكذلك اشتراط الحول يدل على استغنائه عنه حولاً كاملاً، ومن كان في يده مال مستغن عنه لمدة سنة فلا شك أنه غني، أما الفقير فهو إما أنه لا يملك شيئاً، أو إذا ملك شيئاً فإنه لا يستمر في يده إلى حول كامل. ومن هنا قالوا: مشروعية الزكاة بنيت على الإرفاق والتعاون، فهي إرفاق بالمالك فلا يكلف الزكاة إلا في حالة غنى، وحالة الغنى أن يملك نصاباً من المال الزكوي يستغني عنه سنة كاملة، وحالة الإرفاق بالفقير أن يأخذ جزءاً من مال الغني يستعين به، ومن الإرفاق بالغني أيضاً قلة ما يؤخذ منه في النصاب الذي يملكه.

نصاب الفضة

نصاب الفضة وهنا في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) ، إذاً الخمس الأواقي هي النصاب، وما كان أقل منها فلا زكاة فيه؛ لأنها قليلة، والورق إنما هو الفضة كما جاء في قوله سبحانه: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] . والخمس الأواقي: مائتا درهم، وقد جاء النص صريحاً في مائتي درهم، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما يتعلق بالصداق في الزواج بأن الأوقية أربعون درهماً، وخمس أواق في أربعين بمائتين. وعلى هذا يتقرر عندنا أن الفضة من الأموال الزكوية، وهي من النقدين، وأن لها نصاباً وهو خمس أواق، ثم الخمس الأواقي أو النصاب لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول، وسيأتي النص على أنه يخرج منها ربع العشر، وربع العشر مطرد في الذهب والفضة، والذي يهمنا الأنواع المنصوص عليها في هذا الحديث.

شروط زكاة الفضة

شروط زكاة الفضة إذاً: المبدأ الأساسي في التشريع: أنه لا زكاة في الفضة على من يملكها إلا بشرطين. الشرط الأول: بلوغ النصاب، وهو خمس أواق، وليس عندنا اليوم أواق، ولكن نحن نقول: هذا المبدأ التشريعي، والخمس الأواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: حولان الحول على هذا النصاب. ومعنى حولان الحول: أن يستمر المبلغ نصاباً لا ينقص، وإذا زاد فبحسابه. وفي ابتداء الحول ننظر في الخمس الأواقي مثلاً، فإن كان اكتسبها مرة واحدة فيبدأ حساب الحول من يوم اكتسبها، وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر أوقية، كأن يوفر من راتبه، أو يأتيه دخل ما فيوفر أوقية، فيتوفر عنده النصاب على خمسة أشهر، فمن يوم أن اكتمل عنده خمس أواق يبدأ الحول، وإذا كان في ازدياد، وبعد الخمسة الأشهر جاءت خمس أواق ثانية، فأصبح عنده عشر أواق، وبعد شهرين جاءت أوقيتان، فمن أول ما بدأ الحول إلى نهايته صار عنده اثنتا عشرة أوقية، فيزكي الجميع آخر الحول.

اشتراط بقاء النصاب طوال الحول دون نقص

اشتراط بقاء النصاب طوال الحول دون نقص إذا اجتمع عنده خمس أواق في شهر خمسة مثلاً، وبدأ الحول من شهر خمسة، فإذا جاء شهر خمسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل الحول فيزكي، لكنه في شهر عشرة نقصت عليه أوقية، فهل النصاب باق أم نقص؟ نقص. وفي شهر أحد عشر جاءته أوقية، فعاد النصاب واكتمل، فهل نزكي هذه الخمس الجديدة على حول الخمس الأولى، أم نبدأ حولاً جديداً من يوم أن اكتملت بعد النقص؟ الجواب: إذا نقص النصاب في أثناء الحول نستأنف الحول من يوم أن يكتمل؛ لأنه إذا استمر على هذا النقص وحال الحول لم نأمره بالزكاة، لأنه لم يملك نصاباً حال عليه الحول، نعم. كان قد امتلك نصاباً ولكن احتاج فنقص منه، ولهذا جعل الحول لأنه مقياس الاستغناء. فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبين أنك مستغنٍ وأنه زيادة، لكن إذا كان ينقص ويزيد! وينقص ويزيد! فعند نهاية الحول ننظر الخمسة موجودة، ولكن النقص الذي طرأ عليها، والزيادة التي اكتملت بها خمس أواق كانت في الشهر الماضي مثلاً، فيكون الشهر الماضي هو بداية الحول. هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛ لأنها يشترط لها شرطان: ملك النصاب، وأن يستمر هذا الملك تاماً حتى يحول عليه الحول. فإن طرأت عليه زيادة تلحق بالأصل، فالأصل أن تضم، ولكن الفقهاء لهم في هذا بحث وتفريع: فإن كانت الزيادة من جنس الأصل الموجود عنده فإنها تلحق بالأصل وتزكى معه عند تمام حوله، وذلك مثل عروض التجارة، فهو كل يوم يربح أوقية نصف أوقية ربع أوقية، فعندما اكتمل عنده خمس أواق استمر في الربح إلى نهاية السنة، فصار عنده عشرون أوقية، فإذا حصل من العشرين أوقية على واحدة في الأسبوع الماضي فهل نجعل لها حولاً مستقلاً أم هي تابعة في نماء التجارة عنده؟ تابعة. إذاً: هذا هو المبدأ عندنا فيما يتعلق بزيادة النصاب وما يتعلق بنقصان النصاب.

نصاب الإبل

نصاب الإبل قوله: (وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) : الذود: العدد الإبل. والمعنى أن الذي عنده أربع أو ثلاث من الإبل أنه لا زكاة فيها. وتقدم لنا في أنصباء الإبل أن في كل خمس شاة إلى عشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، إلى آخر الجدول المعروف الذي تقدم معنا. إذاً: هذا الحديث يبين لنا أنصباء الأموال الزكوية: فنصاب الفضة خمس أواق، ونصاب الإبل يبدأ بخمس من الإبل، وما كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه.

أهمية معرفة المعايير والموازين وتوحيدها بين المسلمين

أهمية معرفة المعايير والموازين وتوحيدها بين المسلمين قوله: (وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) . تقدم معنا أن الفضة لها نصاب، ونصابها خمس أواق، والأواقي قدرها مائتا درهم، وليس المقصود الدرهم المغربي، فتلك عملة خاصة بالمغرب، كم تكون المائتا درهم؟ ما أحد سأل ولا أحد فتش! نحن -يا إخوان- في هذه الآونة الأخيرة تغيّرت كثير من اعتبارات الشرع عندنا، وخاصة المكاييل والموازين، وكل أمة لها معاييرها الخاصة، وأذكر أن مسمى الرطل كان في مصر يبلغ اثنتي عشرة أوقية، وكذلك في إسطنبول، والرطل في القدس أقتان، مع أن الأقة الواحدة تساوي اثنين كيلوا، والرطل في بغداد قريب من الرطل في مصر، فتختلف الموازين على حسب اصطلاح الأمة؛ لأن لكل أمة أن تأخذ لنفسها وتضع لنفسها معاييرها الخاصة، نحن نسمع الآن: (متر، وياردة، وإنش، وقدم، وفوت) . فالمقاييس الرسمية المتعامل بها اليوم هي المتر والياردة والإنش، فهذه مقاييس، وعند المساحات (فدان وهكتار، وقيراط) وكذلك المكاييل: (مد، وصاع، وكيلو، وربع، وملوا، وقدح) ، فهذه مكاييل وموازين ومقاييس قد تصطلح كل أمة على ما يصلح عندها. وقد قال العز بن عبد السلام: على الأمة أن تطيع ولي أمرها في أربعة: أولاً: نوع المكيال، ونوع الميزان الذي يأمر بالتعامل به، فإذا قال: تعاملوا بالأقة، أو قال: تعاملوا بالرطل، أو قال: تعاملوا بهذه الصنجة التي سأصنعها ثم صنع صنجة وسماها، فيجب أن يكون الوزن بها وبأجزائها، ولا يحق لإنسان أن يصنع صنجةً أخرى يزن بها للناس. ووحدة المكاييل والموازين ضرورية في العالم؛ لئلا يأكل الناس أموال بعضهم بعضاً، فيأتي من يقول لك: هذا وزن، ويأتي آخر يقول لك: هذه أوزن هذه أنقص وأنا لا أدري؟ لا. ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه من السنة وحدة المكيال والميزان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال مكيال المدينة) وقال: (اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم) ، والصاع والمد مكيال، وجعل مكة وحدة الموازين فقال: (الميزان ميزان مكة) . فالعالم الإسلامي عليه بحسب هذا الحديث أن يوحد مكاييله على مكاييل المدينة، وموازينه على موازين مكة، مثل وحدة النقد، فهل يمكن أن يكون في بلد واحد نقدان مختلفان لدولة واحدة؟ لا؛ بل لكل دولة نقد مستقل، فكذلك لكل دولة مكيال وميزان مستقل. ثم قال العز بن عبد السلام: في إعلان الحرب على عدو محارب، وعقد الهدنة مع مقاتل، فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً على عدوه وجب على الأمة أن تقوم معه، وإذا أعلن هدنة مع أمة وجب على المسلمين أن يلتزموا بهذه الهدنة. فالمكيال والميزان من الأمور الاجتماعية التي يجب توحيدها. وكان الدرهم أولاً ليس إسلامياً بل كان رومياً. وكذلك المثقال ما كان موجوداً على عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن المثقال لم يختلف وزنه في جاهلية ولا إسلام، أما الدرهم فكان يتفاوت، وجاء في صدر الإسلام التعامل بالدراهم الأجنبية، وفي الدولة الأموية كان الدرهم الصغير والدرهم الكبير، فجمع بعض ولاة بني أمية درهماً صغيراً والآخر كبيراً، ثم قسمهما نصفين، واعتبر الدرهم نصف الكبير ونصف الصغير، وتوحّد الدرهم، وصارت عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل. والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد، تقول: الأوقية كذا ليرة، ونحن نقول: الأوقية أربعون درهماً، والدينار يصرف بعشرة دراهم، وكان صرفه في زمن عمر ما بين ثمانية إلى اثني عشر درهماً، واستقر الأمر على أن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب، ومائتا درهم هي نصاب الفضة. يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم عشرة؛ لأن عشرين ديناراً تعادل مائتي درهم، إذاً: الدينار وحدة وزن ووحدة نقد، ولهذا ربما نجد في بعض كتب الفقه من يقول: كذا درهماً وزناً، كذا درهماً عدّاً، فإذا قال لك: وزناً، فالمعنى أنه موزون وزنه كذا، وإذا قال لك: عداً، فالمعنى أنه وحدة نقدية يعد كذا درهماً.

تقدير نصاب الفضة بالعملات الحديثة

تقدير نصاب الفضة بالعملات الحديثة فكما قلنا: إن لكل أمة أن توجد لنفسها من المكاييل والموازين ما ترتضيه، فمع طول الزمن تتغير الدرهم وتتنوع المكاييل، أنت عندك المد في السوق ليس هو المد النبوي، فقد تغير، والمد الذي في السوق يعادل ثلاثة أمداد، والصاع الذي في السوق يعادل ثلاثة صيعان من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، بينما المد النبوي يكون ربع الصاع النبوي، والمد التجاري اثنا عشر مداً نبوياً، إذاً: اختلفت المكاييل في المدينة. كان ريال الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة نقد، الآن انتهى عن كونه نقداً وأصبح حلياً وتحفاً وهدايا، ولم يعد يتداول كعملة سائرة بين الناس بوحدة الريال، ووزنه بالدراهم المعروفة عندنا ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع الدرهم، بتحرير العلماء بأن المائتي درهم الواردة في نصاب الفضة تعادل ستة وخمسين ريالاً سعودياً، الذي يزن الريال الواحد منها أربعة دراهم إلا ربع، ونحن نأخذ هذا كمعيار موجود عملياً. يبقى نصاب الفضة بالنسبة للريال السعودي الذي كان يتداول، وهو موجود الآن يصاغ ويستعمل على هيئته ووزنه، لكن لا يتداول بين الناس، لأنه لما جاءت هذه الأوراق أصبحت الفضة تعادل الآن عشرين ريالاً ورقاً، إذاً: لا عبرة بهذا؛ لكن كيف نحدد نصاب الفضة التي نمتلكها على المائتي درهم التي جاء الشرع بها؟ نقول: إن العملة هي وسيلة الشراء، وهي الوسيط في التعامل، فننظر إلى الفضة السعودي التي كانت متداولة والتي تعادل المائتي درهم، فنأتي بالستة والخمسين ريالاً السعودي فننظر كم قيمتها الشرائية في الأسواق؟ فهي أبعدت عن السوق وبقيت سلعة تباع وتشترى، فإذا كان نصاب المائتي درهم يعادل وزناً الستة وخمسين ريالاً سعودياً، والريال السعودي أربعة دراهم إلا ربع وقد عمل حساب الرصاص أو النحاس الموجود مع الفضة ليشدها حتى تصلح في سبكها وصياغتها ريالات قابلة وصالحة للتداول دون أن يسري منها شيء. فنأتي للعالم كله في أي بقعة فنسأل: كم قيمة الشراء لمائتي درهم فضة عندكم؟ فإذا قالوا لنا: قيمتها خمسمائة ريال، مائتا روبية، عشرون دولاراً، أو أربعون جنيهاً استرلينياً، أو أي عملة في العالم تتداول كنقد، فالقيمة الشرائية لهذه العملة في بلدها ننظر كم منها يعادل المائتي درهم ثمناً! فما يعادل المائتي درهم الأساسية من الفضة بالقيمة الشرائية يكون هو النصاب، إذا جئت في مصر ففيها الجنيه المصري، فتنظر بكم جنيهاً نشتري المائتي درهم؟ إذا جئنا إلى الهند وباكستان نظرنا كم روبية نشتري بها المائتي درهم، وإذا جئنا إلى أمريكا نظرنا كم دولاراً نشتري به المائتي درهم، إذا جئنا إلى بريطانيا وإسكندنافيا نظرنا كم جنيهاً استرلينياً نشتري به المائتي درهم، وهكذا في دول العالم. وهنا في السعودية نقدر كم ريالاً سعودياً ورقياً يشترى به المائتا الدرهم؛ فيكون النصاب عن الفضة بالعملة الورقية التي هي بديل ما يساوي في القيمة الشرائية مائتي درهم بغير هذا لا يمكن أن تصل إلى تقدير نصاب الزكاة, ولذا لما كثر فيه الأخذ والعطاء في السابق، جاء عن ابن تيمية رحمه الله أنه قال: كل بلد دراهمها بحسبها. لكن نحن لا نترك المسألة إلى هذا الحد، وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة شاملة، وهي أن ننظر في كل عملة تصدر في العالم: كم قيمتها الشرائية للفضة بمقدار وزن مائتي درهم؟ فما بلغ قيمته الشرائية مائتي درهم للفضة نقول: هذا هو بداية النصاب.

مقدار زكاة ما يخرج من الأرض

مقدار زكاة ما يخرج من الأرض قال المؤلف: [وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) ، رواه البخاري، ولـ أبي داود: (إذا كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر) ] . هذا تفصيل لما تقدم، فقد عرفنا بأن ما تنبته الأرض وبلغ خمسة أوسق ففيه صدقة، وبصفة عامة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة التطوع والزكاة المفروضة وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، فسمى الفريضة التي يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة. وعلى هذا: جاءنا التفصيل كم نأخذ مما سقت السماء، أو كم نأخذ مما تنبته الأرض؛ فبين لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته، وما كثرت كلفته نقصت نسبة صدقته، وهذا من الإرفاق، فما سقته السماء أو سقي بالعيون التي تفيض من الأرض وتمشي في السواقي فتسقي الأرض، فزكاته العشر. فإذاً: النبات إما أن يسقى بدون كلفة بالمطر أو بماء من العيون يسيل، أو سيول تأتي وتسقي الأرض، وإما أن يتكلف لسقي الزرع مئونة بالنضح، والنواضح هي الإبل تنضح الماء فتسحبه من البئر أو الدولاب، وكذلك السواني، فكل ذلك بالآلة أو كما يقال: بالدولاب، والآن أصبحت هناك آلات حديثة (مكاين) ، والمكاين لها كلفة، حيث تحتاج إلى محروقات وقطع غيار. إذاً: ما كان سقيه بدون كلفة بأن جاء المطر من السماء أو جاء الماء من العيون أو كان عثرياً، ولفظة (العثري) إلى الآن مستعملة، تسمعونها من باعة الحبحب الذين يقولون: حبحب عثري، والعثري: هو أحسن أنواع الحبحب؛ لأن الأصل فيه أن تكون التربة خصبة، فيأتي السيل أو النهر فيغمرها، ويمكث فيها مدة ثم ينحسر عنها، ويتسرب الماء إلى ثقوب بعيدة، فإلى وقت معين يأتون إلى تلك التربة المشبعة بالماء ويضعون فيها الحبوب سواء كانت ذرة أو من هذا الحبحب أو الخضروات؛ فهذا عثري. وقد شاهدت الذرة العثرية في سامطة تحصد مرتين على مجيء السيل مرة واحدة، فيأتي السيل ويغمر الأرض -والأرض تكون خصبة جداً- ثم بعد ما يمضي عنها الماء وتحتمل مشي الأقدام، يضعون حب الذرة ويحصدونه أولاً، ثم ينبت من محله فيأتي بثمرة ثانية على ذاك العثري. فالعثري: الأرض التي يغمرها الماء من نهر أو سيل أو نحو ذلك، ثم يفيض عنها وقد تشبعت بالماء، فيزرع الحب ولا تحتاج إلى سقي بعد ذلك حتى تحصد. إذاً: هذا هو أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي: بدون كلفة. إذاً: ما تخرجه الأرض يشترط فيه أن يكون نصاباً ولا يشترط فيه الحول قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] . ولكن الحصة التي تؤخذ في الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة، وهي ربع العشر، لكن هنا إما العشر كاملاً وإما نصف العشر بحسب كلفة السقي، أما مئونة الحرث والزرع فهذه أمر ضروري لا بد منه، ولا ينظر إلى الكلفة إلا بعد عملية الزرع بالذات، فإن كان عثرياً أو سقته السماء أو العيون أو السيول، ولم يتكلف صاحبه في سقيه شيئاً ففيه العشر من خمسة أوسق فما فوقها، وما دون الخمسة أوسق ليس فيها زكاة.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [8]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [8] اتفق الأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا ذلك كالخضروات والفواكه، وبعضهم قاس على الأصناف الأربعة ما شاركها في العلة والأوصاف كالأرز ونحوه، وقد فصل الشيخ سبب الخلاف وذكر الأدلة، كما تطرق إلى عملية الخرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك والمسكين.

ما يزكى مما تنبت الأرض

ما يزكى مما تنبت الأرض باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر) رواه الطبراني والحاكم] . أيها الإخوة الكرام! إن مباحث الأموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياتها في كتب الفقه ما لا تتسع في كتب الحديث. ونذكر الإخوة بما تقدم في أوائل هذا الباب المبارك: أن المسلمين أجمعوا على أجناس أربعة هي محل الزكاة: بهيمة الأنعام، والنقدان: الذهب والفضة، وعروض التجارة، وما تنبته الأرض، فهذه الأجناس الأربعة هي محل الزكاة، ثم اختلفوا في تلك الأصول الأربعة في بعض أفرادها، فمثلاً: بهيمة الأنعام اختلفوا منها في زكاة الخيل، فقال به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولم يقل به الجمهور. وفي الذهب والفضة اختلفوا في الحلي، أي: المصنوع والمستعمل، فأوجبه فيه أبو حنيفة رحمه الله ولم يوجبه غيره على خلاف عند الشافعي وأحمد، ولم يوجبها مالك قولاً واحداً. وعروض التجارة من قال بها قال بالعموم، ومن لم يقل بها فلا كلام معه.

الاتفاق على أربعة أصناف زكوية مما تنبت الأرض

الاتفاق على أربعة أصناف زكوية مما تنبت الأرض واختلفوا فيما تنبته الأرض؛ فأجمعوا على هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والبر، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا هذه الأربعة، وهذا الحديث هو الأصل في هذه القضية. يقول المؤلف رحمه الله: (عن أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما) ، أي: عندما بعثهما إلى اليمن، وكانوا قضاة وأمراء، وجباة زكاة وجزية، وكان لكلٍ مخلاف يعمل فيه، ومعاذ رضي الله تعالى عنه كان يطوف في اليمن بأقسامها كلها إلى حضرموت يعلم ويقضي، وهنا محل التعليم له حاجة، فإنه أرسلهما جباة للزكاة والجزية فعلمهما مما يأخذون الزكاة فقال: (لا تأخذا الصدقة إلا) وهذا الأسلوب في العربية يسمى أسلوب الحصر بالنفي والإثبات، كما قالوا في كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، فحصرت الألوهية في الله سبحانه وتعالى. والحصر يكون حقيقياً ويكون ادعائياً تقديرياً، أي: نسبياً، فتقول: لا شاعر إلا حسان، فحصرت الشعر في حسان، وهل لا يوجد شعراء سوى حسان؟ يوجد ابن رواحة وغيره من الذين ناصروا الإسلام، ويوجد غيرهم من شعراء الجاهلية، فيكون هذا حصراً نسبياً، أي: لا شاعر إلا حسان بالنسبة لخدمته للدعوة الإسلامية. وهنا: (لا تأخذا في الصدقة إلا من) معنى هذا: ما بعد إلا هو المحصور فيه أمر الصدقة. وإلى هنا يتفق الجمهور بصفة عامة -وكما قيل إجماع الأمة- على أن هذه المسميات الأربعة زكوية: الشعير، والبر أو الحنطة أو القمح، والزبيب، والتمر، وما عدا ذلك فهناك فواكه تشاكل الزبيب والتمر.

اختلاف العلماء في إلحاق أصناف أخرى بالأربعة المتفق عليها

اختلاف العلماء في إلحاق أصناف أخرى بالأربعة المتفق عليها هناك حبوب تشاكل الشعير والبر، فهل يا ترى يؤخذ من تلك الأصناف التي خرجت عن النص قياساً على المنصوص هنا، أم لا؟ فنجد في هذه المسألة بالذات أن العلماء فيها على طرفي الوادي، ولا نقول: على طرفي نقيض: فمن العلماء -من غير المذاهب الأربعة- من وقف عند هذه الأصناف الأربعة فقال: لا زكاة في شيء إلا فيما حصرها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك من توسع وقال: كل ما أنبتت الأرض فيه زكاة، وهو أبو حنيفة. فالذي قال بهذا القول المتوسع هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وصاحباه محمد وأبو يوسف مع الجمهور، فـ أبو حنيفة رحمه الله قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة إلا الحطب والقصب، ومثل ذلك التبن ونحوه، فهذه لا زكاة فيها عنده، وما بقي من خضروات وبقول وحبوب ففيه الزكاة، وعن الشافعي وأحمد روايتان فيما عدا الأربعة الأصناف. إذاً: أجمع العلماء على أن الأصناف الأربعة زكوية، وهناك من قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة، وهناك من توسط، ومن هذا التوسط أن الأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد أخرجوا جميع الفواكه: الرمان والخوخ والتفاح والموز والمشمش وغيرها. فنجد الذرة والعدس والأرز واللوبيا، والفاصوليا والبزاليا، وأشياء عديدة كلها مأكولات.

علة الزكاة فيما تنبت الأرض

علة الزكاة فيما تنبت الأرض هل الأصناف الأربعة التي أوجب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة أوجبها لأعيانها وذواتها أم أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة تخصها؟ فالجمهور على أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة فيها، فلو قلنا: إن العلة المشتركة بين هذه الأصناف الأربعة أنها مما تنبت الأرض، فكذلك الخضروات والفواكه، فإنها مما تنبت الأرض. وإن قلنا: العلة كونها تجفف وتدخر، فهناك الأرز يجفف ويدخر. فقالوا: العلة الجامعة بين هذه الأصناف الأربعة كونها قوتاً، والقوت تدفع به الحاجة، وهو القدر المشترك في الإرفاق بين الغني والفقير، إذاً: وجبت الزكاة في هذه الأصناف الأربعة لكونها قوت العباد. فإذا كانت العلة الاقتيات فإننا ندخل الأصناف التي تشترك في علة القوت، فالجمهور -خلافاً للشافعي وأحمد في رواية- قالوا: كل ما أنبتت الأرض من حب مكيل مدخر فوق خمسة أوسق، أو مكيل يوزن ومدخر، ففيه الزكاة؛ لأن التمر والزبيب والشعير والبر يخزن في المخازن والبيوت ويدخر، وكان قوتاً؛ فالتمر والشعير والبر قوت، وهل الزبيب قوت مثل التمر أم لا؟ قد يدخل في ذلك وقد لا يدخل، فإذا وجدنا من الحبوب ما يشارك الأصناف الأربعة في العلة ألحقناه بها، فجئنا ووجدنا الذرة تشارك -وفي بعض الروايات ذكرت الذرة ولكن السند ضعيف- الأصناف الأربعة في علة كونها مدخراً، ومكيلاً، وقوتاً، وجئنا إلى الأرز فوجدناه اليوم مقدماً على البر والشعير، وأصبح من عامة أغذية الناس. إذاً: هل نزكي عن الشعير الذي أصبح الآن علفاً للحيوانات ونترك الأرز الذي هو عمدة طعام البشر؟! ثم وجدنا العدس إداماً وليس قوتاً، وكذلك اللوبيا، فهنا يقولون: ما لم يكن قوتاً وكان إداماً أو دواء فلا زكاة فيه؛ لأن الأصناف الأربعة اجتمعت على علة الادخار والاقتيات، فما كان دواءاً للخصوصيات فقد خرج عن كونه قوتاً لأنه لم يشتمل على الأوصاف الثلاثة: الكيل، والادخار، والقوت. وما كان دواء مثل: الكمون، والكراوية، والينسول، وكذلك الحبة السوداء فهي دواء، فإنها خرجت عن كونها قوتاً وإن كانت مكيلة ومدخرة، فقالوا: ما لم يكن قوتاً مدخراً مكيلاً، فلا نلحقه بالأصناف الأربعة؛ لأنه من شرط المقيس أن يتفق في أوصافة مع المقيس عليه، فإذا نقص من أوصافه شيء نكون قد قسنا شيئاً على شيء أكبر منه، فيكون ناقص الوصف. إلى هنا وبصفة إجمالية: هذه الأصناف الأربعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ ولـ أبي موسى عند إرسالهما إلى اليمن موضع إجماع، وحصل الخلاف فيما عداها.

ما لم تتحقق فيه أوصاف العلة كلها من المأكولات

ما لم تتحقق فيه أوصاف العلة كلها من المأكولات وننتقل إلى ما كان مكيلاً ولا يدخر، وما كان مكيلاً مدخراً وليس قوتاً، مثل الفواكه: فالفواكه ليست مكيلة ولا مدخرة، فإذا جففت صارت مكيلة مدخرة، ولكن لا تكون قوتاً. كذلك وجدنا التين غير مدخر وكما يقول بعض العلماء: إن مالكاً ينص على أن التين والتفاح والرمان والخوخ لا زكاة فيه، فقال قائل: لأن التين لم يكن يجفف في بلد مالك، ولو علم أن أنه يجفف لقال به، يا سبحان الله! هو ما يجفف هنا ولكنه يأتي مجففاً من الشام؛ لأن تجارة الشام كانت تأتي إلى المدينة وفيها التين والمشمش مجففاً. وعلى هذا: من أدخل التين في القوت يقول: ألحقوه بالزبيب، ومن أخرجه عن نطاق القوت جعله مع بقية الفواكه، وهكذا. ثم جاءت الآثار عن السلف مختلفة، منها المرسل، ومنها المرفوع، ومنها المنقطع، وقد ناقشها العلماء مناقشة كافية، وأنصح كل طالب علم يريد تحقيق هذه المسألة أو يقف على ما قيل فيها من كتب التفسير أن يقرأ كتاب القرطبي، ومن كتب الفقه المجموع للنووي، والمغني لـ ابن قدامة، وبداية المجتهد لـ ابن رشد، فهذه الكتب إن شاء الله ستكفي طالب العلم فيما أوردوا فيها رحمهم الله من الخلاف والنقاش لما تجب فيه الزكاة أو لا تجب بعد هذه الأصناف الأربعة. والعمدة في ذلك: هل الزكاة في تلك الأصناف الأربعة لذواتها ومسمياتها أو لعلة فيها؟ قال ابن رشد: أما لذواتها فهذا وصف طردي، إذاً: الأرجح أن تكون لعلة فيها، فما هي العلة؟ قالوا: أن تجتمع فيها ثلاث صفات: الكيل، والادخار، والاقتيات، فما ساواها في هذه الصفات الثلاث ألحق بها قياساً، وما لم يساوها في ذلك أخرج عنها، ولا يصح القياس فيها. وأجمعوا على أن الفاكهة والخضروات لا تدخر وليست قوتاً.

زكاة ثمن الخضروات والفواكه إذا حال عليها الحول

زكاة ثمن الخضروات والفواكه إذا حال عليها الحول ثم بعد هذا إذا حصل على ثمن للخضروات أو على ثمن للفواكه، فإن النص جاء عن السلف بأن قيمة الخضروات والفواكه تزكى، كما تقدم معنا عن عثمان وعمر رضي الله تعالى عنهما لما كتب إليهما عمالهما في الطائف، وذكروا لهما الفواكه والخضروات، وأنها أكثر من النخيل في المدينة، فقال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: (لقد كانت المقاشي بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد الشيخين -يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما- ولم يكونوا يأخذون منهم الصدقة فلا صدقة فيها، ولكن انظر ما باعوا منها فخذ الزكاة في أثمانها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول) . من العجيب أن القرطبي رحمه الله يقول: قال فلان في تفسيره: إن القائلين بالزكاة في الفواكه والخضروات هم أهل الكوفة، ومعلوم أن الكوفة ما أنشئت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنشئت في خلافة عمر، فليس من المعقول أن يوجد تشريع في الكوفة لهذه الأصناف لم يكن موجوداً بالمدينة في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وليس بمعقول أن تكون معطلة من الزكاة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ثم توجد عند أهل الكوفة؛ من أين جاءوا بها؟ وهذا كلام في الواقع له ثقله ووزنه. إذاً: لم يكن في عهد رسول الله ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر أخذ الصدقة من الفاكهة والخضروات، وعلى هذا اتفق العلماء حتى كان شبه إجماع ما عدا الخلاف المذكور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ونحن نعلم جميعاً بأنه لا يأتي إمام بقول يخالف فيه الأئمة من هواه، أو من رأسه، وإنما يكون الخلاف بينهم في فهم لنصين تعارضا عندهم، والنصان المتعارضان ما قدمناه (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والحديث الآخر: (فيما سقت السماء العشر) ، و (ما) موصولة أي: في الذي سقته السماء.

دليل الحنفية على إيجاب الزكاة في كل خارج من الأرض والرد عليهم

دليل الحنفية على إيجاب الزكاة في كل خارج من الأرض والرد عليهم والقرطبي رحمه الله يسوق نقاشاً لطيفاً في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، فيقول: بعض الأحناف تمسكوا بعموم (معروشات) فالعنب يقوم على عريش (وغير معروشات) : النخل والأشجار الأخرى (والنخل والرمان والزيتون، كل هذه) {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141] ، (ثمره) : الضمير راجع لكل المذكورات من معروشات وغير معروشات، وإلى الزرع والنخيل والرمان والزيتون. إلى آخره. (وآتوا حقه) : الضمير في (حقه) راجع أيضاً إلى جميع المذكورات، وهذا مما استدل به أيضاً أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه يجيب عن ذلك ويقول: إن هذا الحق غير فريضة الزكاة، وكان في هذه الأنواع حق قبل فرض الزكاة، كما في الحديث: (في المال حقٌ سوى الزكاة) ، قالوا: إذا حضر الجذاذ فأعطه، وإذا حضر الحصاد فأعطه، ثم إذا حصدت وذريت وكلت ووسقت فأخرج الزكاة المفروضة في الموسق، فيجيبون على أن حقه هنا للنافلة وليس للفريضة. ويبدو لي والله تعالى أعلم: أن هذا له نظير، وذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر فتطؤه بخفافها، وتعظه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار، وما من صاحب بقر وما من صاحب غنم فقالوا: والخيل يا رسول الله؟! قال: الخيل ثلاثة: -وذكرها- ثم قال: ولم ينس حق الله فيها) فقالوا: حق الله في الخيل ليست زكاة، ولكن أن يركب المنقطع، وأن يطلق الفحل على فرس غيره، وأن يساعد بها المسكين أو غير ذلك من باب التطوع. (قالوا: والحمر؟ قال: لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ) . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيل ليس فرض الزكاة، وقد ذكرنا الخلاف في زكاة الخيل. فقوله: (ولم ينس حق الله فيها) بإجماعهم أنها ليست الزكاة، إذاً: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] إنما هو من باب النافلة وليس من باب الفريضة، والنقاش طويل في هذه الآية الكريمة ساقه الإمام القرطبي في تفسيره. إذاً: هذه الأصناف الأربعة مجمع على أنها زكوية، ومختلف فيما عداها، فالذي قال بجميع ما أنبتت الأرض الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأما صاحباه محمد وأبو يوسف فمع الجمهور. ثم أحمد يعجب الزكاة في كل موسق مدخر ولو لم يكن قوتاً، وعند الشافعي ومالك: ما كان بضميمة كونه قوتاً، وأما ما كان دواءً أو فاكهةً أو غير قوت فليس داخلاً في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الدليل على سقوط الزكاة عن الخضروات ونحوها

الدليل على سقوط الزكاة عن الخضروات ونحوها قال المؤلف: [وللدارقطني عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإسناده ضعيف] . المؤلف رحمه الله يعلم بأن هذا الأثر ضعيف، فـ معاذ يأتي وكأنه يقول: أمرنا أن لا نأخذ الصدقة إلا من الأصناف الأربعة، وكأن هناك سؤالاً مقدراً: وما عدا تلك الأصناف مما تنبت الأرض ما حكمه؟ فقال: (أما القثاء والبطيخ والقصب) . فالقثاء يلحق به الخيار، والبطيخ يلحق به الشمام والدباء وقصب السكر. قوله: (فقد عفا عنه رسول الله) معاذ ذكر أنواع الخضروات وأن ما عدا الأصناف الأربعة فإنها لا زكاة فيها، فيكون هذا الخبر من معاذ رضي الله تعالى عنه موضحاً لمفهوم: (لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة) أي: وما عداها لا زكاة فيه، فالمفهوم أتى مصرحاً به هنا، ولكنه ضعيف. والخبر الضعيف إنما يبين مفهوم المخالفة فيتقوى في ذاته؛ لأنه لم يكن أصلاً في التشريع، وإنما جاء تابعاً لمفهوم مخالفة الصحيح، فهو يكفي إذا لم يعارضه غيره، وهنا جاء معاذ رضي الله تعالى عنه بالتنصيص على هذه الأصناف الأربعة من الخضروات. ويذكرون بأن البيهقي رحمه الله قال: وإن كان هذا الأثر ضعيفاً فإنه قد أيد بآثار أخرى عن السلف، وتقدم لنا قصة عثمان مع عامله في الطائف، وكذلك عمر بن عبد العزيز، والخلاف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً. فعلى هذا ينتهي الأمر في البحث على أن الإجماع على الزكاة في الأربعة الأصناف، والخلاف فيما عدا ذلك، واتفق الأئمة الأربعة -دون النظر إلى مخالفة الشافعي وأحمد في قول آخر - على أن كل مكيل مدخر قوت فهو لاحق بتلك الأصناف الأربعة قياساً، وإذا كان هذا ما اتفق عليه الأئمة، فأعتقد أنه ليس هناك إنسان يجرؤ على أن يرد أمراً اتفق عليه الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومهما قدم من أدلة أو نصوص معارضة فلن يأتي بجديد؛ لأن تلك النصوص قد مرت على السلف، وعلموها وفهموها ودرسوها، وبعد هذا كله اتفقوا على إلحاق المكيل والقوت والمدخر بالأصناف الأربعة. وأما ما لم يكن قوتاً أولم يكن مكيلاً أو مدخراً، فهذا الخلاف فيه قوي، والله تعالى أعلم.

خرص الزروع والثمار عند بدو الصلاح

خرص الزروع والثمار عند بدو الصلاح قال المؤلف: [وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) ، رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم] . انتقل المؤلف رحمه الله إلى جزئية تابعة ومتممة لتشريع الصدقة في الحبوب والثمار. فقوله: (إذا خرصتم) ، يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة، فيكون سبقه تشريع للخرص ثم جاء ينبه لهم عن منهج الخرص كيف يكون. إذاً: الخرص مشروع، وأقوى دليل في ذلك قضية خيبر، لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل. والخرص في اللغة: التخمين، قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، لكن قال الإمام أبو حنيفة وداود بن علي: لا خرص لأن الخرص ظن، والظن كما يقولون أصل الكذب، فقالوا: لا خرص، ولكن على صاحب النخل والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده، ثم يزكيه.

الحكمة من خرص الثمار

الحكمة من خرص الثمار وتوقيت الخرص قالوا: إذا بدا الصلاح في الثمرة، أما بعد الجفاف والكيل فلا يصلح الخرص، لأنه إذا أمنت الآفة وصلحت الثمرة للأكل امتدت إليها يد صاحبها، فقد يأخذ الثمرة رطبة ويبيع، ويأخذ ليأكل، ويأخذ ليهدي، فهنا لما كان حق الفقراء في الثمرة بمثابة الشريك مع صاحبه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] ، أي أن الفقراء شركاء للأغنياء بحصة معلومة وهي العشر أو نصف العشر. فما داموا شركاء فحافظوا على حصتهم، وكيف نحافظ عليها؟ أنتركها لهم يأكلون ويهدون ويبيعون ويقبضون الأثمان؟ وهل نمنع أصحاب البساتين فنقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا ولا تعطوا أحداً؟ لا. أيضاً كذلك. إذاً: لا بد لصاحب النخيل والعنب أن يتصرف في الثمرة بشخصه أو بغيره.

كيفية الخرص وترك الربع أو الثلث للمالك

كيفية الخرص وترك الربع أو الثلث للمالك إذاً الحل الأمثل هو الخرص عندما تبدو الثمرة، فيكون الخارص من طرف ولي الأمر المسئول عن حق الفقراء؛ لأن الله كلف بها رسوله صلى الله عليه وسلم: (خذ) وهذا الأمر تكليف له مع أنه لا حظ له فيها، فهي محرمة عليه وعلى آل بيته، ولكن حفاظاً على حق المساكين وحفظاً لماء وجوههم حتى لا يذهبوا للغني يقولون: أعطنا، فيقول لهم: ائتوني في وقت لاحق عندما نجذ. فعالج الشرع ذلك بأن أوجب على ولي الأمر أن يأخذها قهراً على صاحبها: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت؛ وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فإذا طابت الثمرة ذهب الخراص -اثنان أو ثلاثة على حسب رأي الإمام- وتمشوا في البستان لينظروا عدد ما فيه من النخل. فإذا كان فيه مائة نخلة بدأنا بنخلة رقم واحد فقلنا مثلاً: هذه تحمل قنوان والقنو أوقية أو كيلو أو كذا على حسب التقدير برؤية العين، فإذا جففت كم سيكون منها تمراً؟ فمثلاً: سيكون منها عشرون صاعاً، فنكتب ذلك. ثم النخلة الثانية الثالثة، إلى المائة، فمجموع ما يتوقع منه من تمر لو بقي على تمامه عشرون وسقاً، فننظر: هل الثمرة على النخلة تبقى على تمامها أم أنها سيذهب منها شيء؟ سيذهب، وجاء بيان ذلك في بعض النصوص: ما تسقطه الريح، وما ينقره الطير، وما يأكله الضيف، وما تأكله الهوام والحيوانات التي تدخل النخيل وتأكل مما سقط. إذاً: هناك عوارض تعرض للثمرة المعلقة. وصاحب البستان يريد أن يأكل فلا نمنعه من حقه لأجل المساكين، بل حقه هو الأول، والضيف الذي يدخل عليه فلا نقول له: لا تعطه، فنعلمه البخل! وشر خصلة في الإنسان هي البخل، بل نقول: أطعم وأكرم ضيفك إذاً: هناك عوامل تعرض للثمرة التي على النخلة، ونحن خرصناها على تقدير أنها كاملة، فلو قدرنا الصدقة على ما يوجد على أنها كاملة لأجحفنا بمالكها فيما له من حق التصرف فيه، فلذلك قال: (دعوا الثلث) أي لأجل هذه العوارض. فلو كانت مائة صاع، فإننا ننظر كم ثلث المائة بالتقريب والتقدير، فنقول: احسبوها سبعين بدل المائة. قال: (فإن لم تسقطوا الثلث فالربع) ، أي أن العامل مخير بين الثلث والربع، أعتقد والله تعالى أعلم: بأن هذا يرجع إلى فطنة العامل الذي يخرص، فإذا كان النخيل في جهة بعيدة من البلد قل الوارد عليه، وكذلك إذا كان الجو معتدلاً، وكان عياله قلة، وضيفه قليلاً، وليس بمشهور عند الناس، فتكون الكلفة عليه قليلة؛ فهذا يكفي أن نترك له الربع. لكن إذا كان هناك بستان على قارعة الطريق، وصاحبه من أهل الوجاهة، وكل يوم والباب لا يغلق، فهذا ضيف طالع، وهذا ضيف داخل، فهل هذا يستوي مع الأول؟ أعتقد أنهما لا يستويان، وأن القول هنا: الثلث أو الربع ليس للتخيير، وإن كنت لم أجد من نبه على ذلك لكن هذا هو الواقع، فيسقط الثلث لمن كان طارقه كثيراً، ويكون الربع لمن كان طارقه قليلاً. وهذا هو الإرفاق والعدل، فلا نساوي بين رجل كثير الضيوف يمكن أن يأكلوا عليه النصف، وبين رجل قليل الضيوف، وبعض الروايات: (خذوا النصف، وأعطوهم من النصف وأعطونا النصف فإنهم يسرقون) ، أي: غصباً عنه سيأكل. إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الذين يخرصون على الناس أن يدعوا الثلث، فإن لم يدعوا الثلث فالربع، والظاهر أن هذا يترك الخيار فيه للعامل، ولكن في نظري والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله من خطأ: أن ذلك ليس للتخيير وإنما هو للتنويع، والتنويع يكون بحسب حال صاحب البستان وموقعه الاجتماعي، فمن كان كثير الوارد والضيف والاستهلاك والعيال والعمال قلنا: يترك له الثلث؛ لأن الاستهلاك كثير، ومن كان إنما يذهب عنه القليل فإنه يترك له الربع، والله تعالى أعلم. وهنا قالوا: الخرص أيضاً ليس لمجرد معرفة هذا الموجود، وأنه يأكل أو يكرم ضيفه قالوا: بل يكون لصاحب الثمرة الخيار، فإن شاء أبقى الثمرة إلى أن يأتي الجذاذ فيجذ، ويوضع في الجرين ويجفف ويبيعه تمراً، وإن شاء باعه رطبا ًمبكراً في السوق يوماً بيوم ولو لم يبق في النخيل شيء. فإذا قيل: فأين زكاة الأوسق نصف العشر؟ لما خرصنا عليه أصبح مديناً للفقراء والمساكين بالمقدار الذي قيدناه عليه، ونحن قيدنا عليه سبعة أوسق صدقة، لكنه باعها كلها رطباً في الصناديق، أو باعها كلها عنباً في الصناديق، ولم يزبب كيلو ولا وسقاً ولا نصفاً. لكن هذا خرصنا عليه مثلاً: وسقاً ونصف وسق من الزبيب، فليس عنده شيء، لأنه قد باعه عنباً، فنقول: عليه أن يقدم للجهة التي تجمع الزكاة وتوزعها على أصحابها، فيأخذ من السوق المقدار من التمر الذي سجل عليه، ويأخذ كذلك المقدار من الزبيب الذي سجل عليه ويدفعه لأصاحب الحقوق في ماله من الفقراء والمساكين إلى آخره. إذاً: الخرص يعطي صاحب الثمرة الحرية في أن يستغلها رطباً ويحفظ الثمن، ويلتزم بما ألزمه به الخارصون ويقدمه عيناً، إلا إذا أراد ولي الأمر أن يستبدل بالأعيان نقداً، ويوزعه على الفقراء والمساكين، فهذا لا نعارض فيه. أما إذا ترك الأمر لصاحب النخل والعنب فله أن يتصرف كيف يشاء، وعليه أن يزكي هذه الثمار من تمر وعنب على قدر ما قدر عليه، فيشتريها من السوق من الشيء الوسط الذي لو كان حاضراً عنده لأخذ من وسط المال، ويقدمه إلى مستحقيه، والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [9]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [9] اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه المرأة للزينة، ويكاد الخلاف أن يكون متكافئاً لتكافؤ الأدلة، وقد بين الشيخ أدلة الطرفين، وأجوبة كل فريق على الآخر، ثم بين الأفضل للمرء في ذلك.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً) رواه الخمسة وفيه انقطاع] . هذا الأثر وإن كان فيه انقطاع إلا أنه عليه العمل، فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى زكاته تمراً، لكن يهمنا في هذا الأثر أن العنب يخرص كما يخرص النخل. فمن كان يعارض في خرص العنب يقول: لا يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص النخل، يقول: لأن النخلة مكشوفة أمام الخارص وأمام الجميع، أما العنب فقد يكون مختفياً بين الأوراق وقد يخفى على النظر، فلا يتمكن الخارص من رؤيته كما يتمكن في النخلة. ولكن كما جاء في هذا الأثر، وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه، فالذين رووه على انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً، وأنها الطريقة التي يمكن أن يساوى فيها العنب بالرطب. فهذا النص في العنب: أنه يخرص كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً، ولماذا لا تؤخذ عنباً؟ لأنه لا يدخر، فلو أعطينا للفقير خمسة صناديق عنباً، هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من أكلها فإنه سيؤذيه، وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فربما لا يغنيه، فالعنب ليس قوتاً ولا يدخر. وهذه الفكرة هي التي عارضنا بها اقتراح بعض الأعضاء في مؤتمر ماليزيا بتنفيذ مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الخضروات، ولنسأل: ماذا سيصنع المسكين إذا أخذ قليلاً من الطماطم، أو قليلاً من الباميا، أو قليلاً من الفلفل، أو قليلاً من النعناع إلخ؟ فإذا قلنا: يضعها في الثلاجة، فالفقير ليس عنده ثلاجة، ولو وضعها في الثلاجة فإلى متى؟ فسيأخذ منها كل يوم، فهل ستكون قوتاً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة، والخضروات مهما كان فلها أجل، سواءً كانت داخل الثلاجة أو خارجها. إذاً: لا ينتفع بها بقدر ما يمكن أن يبيعها صاحبها، ويجمع القيمة ويأتي بصدقة القيمة للمسكين فيتصرف فيها بما ينفعه. وقد أوقف القرار بعد ذلك. إذاً: انتهينا من موضوع زكاة ما تخرج الأرض، وكيفية زكاتها وهو الخرص. ونحن قلنا بالزكاة في الشعير والبر، فهل يخرص وهو في سنبله عندما يشتد الحب، أو يترك لصاحبه حتى يحصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول بخرص الحب أيضاً، ولكن لماذا نخرصه؟ هل الريح تطيح به في الأرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه أبداً. وهل يبيعه قبل أن يحصده؟ لا. بخلاف العنب والرطب. إذاً: الخرص محصور على النخل والعنب، والحب الذي هو متفق عليه من الشعير والبر وما ألحقناه به لا دخل للخرص فيه، وإنما يترك لصاحبه حتى يحصده ويصفيه ويكيله، فهناك يجب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل خمسة أوسق فما فوق. والله أعلم.

زكاة الحلي من الذهب والفضة

زكاة الحلي من الذهب والفضة قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: (أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما) رواه الثلاثة وإسناده قوي، وصححه الحاكم من حديث عائشة] . لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه ليس فيما دون خمس أواقٍ من وَرِقٍ صدقة. وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه، ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق هذا الحديث. فلما كان الذهب والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع (أوقية) ، والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة، والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة، ولكنه اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة. فشرع المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى بالحديث: أن امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان -والمسكة هي ما يسمى الآن بـ (الأسور) أو بـ (بالخلخال) في الرِجِل من ذهب- فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ (هذا) اسم إشارة راجع لما فيه الحديث وهو المسكتان. وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي في يد ابنتك؟ قالت: لا. فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟) . أعتقد أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟! ففيه الإثارة إلى معرفة الواقع وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد ابنتها وألقت بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله) . هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي، وهو الأصل للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛ لأنه ملبوس في يد البنت. ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر إليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: صنعتهما أتزين لك بهما) ؛ لأنه إذا كانت هذه الفتخات في الصندوق أو مرفوعة للحاجة لم تكن زينة، إنما رأى بعينه وسأل وأجابت: (أتزين لك بهما، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا. قال: هما حَسبُكِ من النار) . وسيأتي لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب) ، الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من الفضة فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها. تقول: (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر) أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يستقبل ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية، ففطنت فقالت: (أكنزٌ هو يا رسول الله؟!) (هو) ضمير راجع إلى الأوضاح التي في شعرها. فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعني: وما لم تؤد زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس بكنز إنما هو لمدلول الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ} [التوبة:34] . إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت: ولِمَ الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها. إذاً: هذا القدر ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز، ويكون هناك الوعيد. فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز) . هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا أيضاً ما تقدم في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع الأموال. وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار) ، وكذلك ذكر صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب فقال: (وما من صاحب ذهب -أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غير مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) ، فأخذ البعض من هذا الحديث أن زكاة الذهب واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما هو حليٌ مستعمل. والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأطال البحث فيها على عادته في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال المانعين من الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى) ولم يقل: يجب أو لا يجب. وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في الجامعة ما تناول هذه المسألة إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت المذاهب الأربعة بما فيها أحمد، وأخذت من كلام والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وما تيسر من المراجع الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها بعنوان: (زكاة الحلي) .

خلاف العلماء في زكاة الحلي

خلاف العلماء في زكاة الحلي وإذا جئنا من بداية التشريع فسيطول علينا المشوار، وإذا أخذنا النتيجة والنهاية وما استقر عليه الأمر عند الأئمة الأربعة نكون قد اختصرنا الطريق، ولكي نجمل المسألة، ويسهل استيعابها نقول وبالله التوفيق: أجمع جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والأئمة الأربعة وغيرهم ممن اندثرت مذاهبهم، وكل عالمٍ في صدر الإسلام وفيما بعد إلى اليوم بأن الذهب والفضة غير الحلي الملبوس فيه زكاة. ثم جاء الخلاف فيما هو حليٌ ملبوس بالفعل. إذاً: دخل في العموم السابق غير حلي النساء كأن يكون هناك أوانٍ من ذهب أو فضة للزينة، أما للاستعمال فمحرم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، فإذا كان اتخذها للزينة واتخذها للعوز ليبيعها عندما يحتاج، فهذه أوانٍ وليست حلياً، أو اتخذت ملاعق من ذهب أو فناجين، كل هذه داخلة في جنس الذهب غير حلي النساء. فإذا جئنا إلى الحلي الذي فيه البحث: فإذا كان الحلي مكسراً غير صالحٍ للزينة، فأجمع أيضاً الأئمة الأربعة على وجوب زكاته، وذكر ابن عبد البر في الاستذكار بدون خلاف حتى عن مالك، كالتبر غير المصنوع المصوغ، والحلي المكسر الذي لا يصلح للاستعمال، فيكون خارجاً عن الحلي المستعمل، فإذا كان الذهب والفضة نقداً أو مصوغاً مباحاً، أو مصوغاً غير مباح مثل الأواني للأكل، فبإجماع المسلمين أن فيه الزكاة، مع حرمة استعماله. ولم يبق الخلاف إلا في الحلي المصاغ للنساء خاصة، فلو أن رجلاً اتخذ أساور من ذهب ففيه الزكاة بالإجماع، سواء وضعها في الصندوق لوقت الحاجة يريد بيعها، أو يريد لبسها؛ وإن لبسها كان حراماً وعليه وفيها الزكاة، وإن وضعها في الصندوق كان قُنية، مثل الجنيه، فيجب عليه فيها الزكاة. فلذلك ما كان مباح الاستعمال، ومحرم الاستعمال، ما لم يكن حلياً للنساء فليس فيه خلاف. وإذا كان صاحب الذهب قد رفعه على نية أن يصلحه ليُلبس، فيكون هذا في نطاق الاستعمال، فهذا داخل في الحلي المستعمل.

ذكر مذهب الأئمة الأربعة في زكاة الحلي

ذكر مذهب الأئمة الأربعة في زكاة الحلي وعلى هذا المبدأ والأساس نأتي إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، فنجد الخلاف في هذه المسألة مستوي الطرفين، وعلى أشده نجد إماماً من الأئمة رحمهم الله يقطع بالزكاة في الحلي المستعمل، لقوله: (في يد ابنتها مسكتان ... ) (أتؤدين زكاته؟) فهذا صريح. ونجد إماماً آخر يقابله بقوله: لا زكاة فيما هو مستعمل. ونجد واحداً من الأربعة ورد عنه روايتان: إحداهما أن فيه الزكاة، والأخرى ليس فيه الزكاة. ونجد الإمام الرابع له وجهان أو قولان، والخلاف عند الفقهاء في الفرق بينهما قديمٌ وحديث؛ فالقديم فيه زكاة والجديد ليس فيه. فهذا على سبيل الإجمال حتى نحصي الأقوال. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله أوجب الزكاة في الذهب والفضة مطلقاً، نقداً، مصوغاً، تبراً، مستعملاً، مكسراً، بأي حالة من الحالات. يقابله مالك رحمه الله فقال: لا زكاة في الحلي المستعمل المباح. وهو ينصب على حلي المرأة الذي تستعمله، ويخرج عن ذلك حلي المرأة الذي لا يستعمل؛ وحلي المرأة غير المباح الذي يلبسه الرجل، وآنية الأكل والشرب، فهذا حليٌ غير مباح، فالحلي الغير المباح مزكىً عند مالك، والحلي المباح والمستعمل بالفعل غير المعطل هو الذي يقول مالك: لا زكاة فيه. وكلمة (حلي، مباح، مستعمل) منصبة على الذهب والفضة، أما إذا كان هناك لؤلؤ، جواهر، ياقوت، فيروز، ماس، فهذه لا زكاة فيها بالإجماع، وإن تحلت بها المرأة أو اقتناها الرجل. أما الإمام الشافعي رحمه الله فعنده قولان: قولٌ قديم أنه يزكى، فيكون هذا القول موافقاً لقول أبي حنيفة، وقولٌ جديد: أنه لا يزكى، وهذا القول موافق لقول مالك. فيذكر ابن عبد البر عن الشافعي في هذه المسألة أنه فعلاً في القديم يقول بزكاته كما يقول أبو حنيفة، وينقل عنه: أنه لما ذهب إلى مصر قال: أستخير الله في الحلي المستعمل، ثم اختار القول بعدم الزكاة، أي: أنه كان متردداً، ولكن اختار عدم الزكاة. نأتي إلى الإمام أحمد رحمه الله، فيذكر صاحب الإنصاف والمغني -وكل مراجع الحنابلة المتوسعة- عن أحمد رحمه الله روايتين: روايةً نُقل عنه فيها: أنه يزكى، وروايةً نُقل عنه فيها: أنه لا يزكى. فنحن عندنا منهج: إذا وجدنا مسألة خلافية -وأعتقد أن هذا الخلاف معتدل أو متساوٍ- فيهما قولان، أو روايتان، فخذ القول الذي يقول: تزكى مع من قال: تزكى، والرواية دعها مع القول بالزكاة، فيكون عندنا: قولٌ ورواية وقولٌ في مذهب، قولٌ في مذهب ورواية بعدم الوجوب، ومذهب وقولٌ ورواية في مذهبٍ على مذهب الوجوب، فيكون الخلاف معتدل التوازن.

مناقشة أدلة العلماء في زكاة الحلي

مناقشة أدلة العلماء في زكاة الحلي نستطيع أن نعتبر المسألة طرفين؛ طرف يقول بالوجوب، وطرف يقول بعدم الوجوب، فالذين يقولون بالوجوب -بصرف النظر عن مسميات الأئمة: أدل وأوضح دليلٍ في المسألة حديث المرأة مع ابنتها، فسألوا الآخرين: لماذا لم تقولوا بوجوب الزكاة مع أن هذا الحديث صريح (أتؤدين. أيسرك) ؟ قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟ فنحن هنا الآن نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا الذين قالوا: لا زكاة في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟ قالوا: كما نقل البيهقي رحمه الله: كان مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب محرماً بالكلية. وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال والنساء، حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة، وأخذ الذهب والحرير وقال: (هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ لنسائها) . أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل السلام في الرياض بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يكتب على هذه الآية في أضواء البيان، وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها، وكان من عادته رحمه الله إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في الملازم، ولتلهفي أو تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت، فذكر جوابهم على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله. والشيخ الله يغفر له كان يفتح لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن أعبر عنه، قال: ما هو؟ قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت تحريم الذهب مطلقاً. أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال المحرم، ويترك الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر أن ينكر على استعمال المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟ فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها عليه. فقال: أتدري أن ما قلتَه صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً وسلسل القول إلى البيهقي، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها- إلى إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا لوضع الصواب وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه أمانة ألقيها للجميع. إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان حين حرم الذهب أو كان الذهب محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر. نأتي إلى حديث فتخات عائشة وأوضاح أم سلمة، ماذا يقال فيها؟ قالوا: هذا لا يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس معقولاً أنها ستلبس خواتم قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف وأوضاح أم سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً. لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو هذه الخواتيم أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان عندها من الأوضاح ذهب وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه إلى بعض ويزكى. إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل، ولكن في جنسها وهو الحلي المستعمل. وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي أيتاماً ولهم حلي فلم تؤد زكاته. وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي بناته وجواريه ولم يخرج الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج بناته بأربعة آلاف دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ ولم يؤدِ زكاته. ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول بزكاة الحلي، فأجابوا عن ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن الرواية الأخرى في قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟) ، فيكون ورد عن عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح في القضية؟ الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية وبعضهم يرجح هذه. نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه: (ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ به مالك، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن جابراً سُئل عن حلية السيف بالذهب؟ الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون المراد حلية السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟ ونجد البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن احتج به كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.

القول بزكاة الحلي أبرأ للذمة

القول بزكاة الحلي أبرأ للذمة وفي نهاية المطاف نجد هذه الآثار المتقاربة، والمتضادة، والمتقابلة؛ تدور بين الجواز والمنع، ونأتي إلى كتب الحديث أو علماء الحديث فنجد كل من بحث هذه المسألة يذكر الخلاف ويجبن أن يحكم جازماً ويقول: الأولى أن تؤدى الزكاة براءةً للذمة، وهذا أيضاً ما قاله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه. والعجيب أن ابن عبد البر في نهاية المطاف من بحث هذه المسألة يقول: والخلاصة: أن من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل، وفي الإبل العوامل فقد صح قياسه، ومن أبطل الزكاة في الحلي المستعمل، وأبطلها في الإبل العوامل اضطرب قياسه، ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنع الزكاة في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه، وهذا القول لـ مالك رحمه الله. والمأثور عن مالك رحمه الله في زكاة بهيمة الأنعام أنه لا يشترط السوم، ولا يشترط أن تكون غير عوامل، مع أن الأئمة الثلاثة رحمهم الله على أن الإبل العوامل لا تزكى، وهو يقول: هي إبلٌ وله فيها زيادة نفعٍ وهو عملها. فمثلاً: الإبل تستعمل للحرث، وتستعمل لنقل البضائع، وكانت تسمى الإبل: القطار، وإلى الستينات كانت السيارات نادرة، حتى (الجاز) يحمل في التنك من ينبع على ظهور الإبل، وكذلك الحبوب وكل البضائع، فيأتي قطار الإبل فيه حوالي خمسين أو ستين بعيراً مربوطة ومقطورة بعضها في بعض، فتدخل من باب العنبرية وتأتي إلى المناخة، ثم يأتي التجار فيأخذون بضاعتهم. فهذه إبل عوامل، فهي عند مالك تزكى؛ وهنا ابن عبد البر لم يقل: مالك أو عمر، وإنما قال: (ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنعها في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه) . إذاً: هذا خلاصة ما يمكن أن يأتي به إنسان في عجالة مثل هذا الوقت، ويلقي الضوء على الخلاف الموجود، وجوانب الاستدلال لكلا الطرفين. وفي النهاية نقول بما قال السلف رضوان الله تعالى عليهم: بأن الأحوط في ذلك إنما هو الزكاة.

كيفية إخراج زكاة الحلي والذهب المعروض للتجارة

كيفية إخراج زكاة الحلي والذهب المعروض للتجارة مسألة: كيف نزكي الحلي؟ قالوا: إنها في تقدير نصابها تقدر بالوزن، هل بلغت وزن العشرين مثقالاً أم لا؟ وفي زكاتها تقدر بالقيمة، وكذلك ما أعد للتجارة من الذهب والفضة، فهي عند التاجر يقدر نصابها بالوزن، وتخرج زكاتها بقيمتها في السوق؛ لأنها عروض تجارة، والنصاب قدره مائة جرام، والتاجر عنده مئات الآلاف، فينظر كم قيمتها تجارياً وكم تباع اليوم، ثم تزكى قيمتها على أنها عروض تجارة. وأجمعوا على أن حلي الذهب والفضة إذا لابسه جواهر أخرى: فصوص من الياقوت أو الفيروز أو الزمرد أو الماس، فتقدر الجواهر النفيسة على حدة، ويقدر وزن الذهب على حدة؛ حتى إذا استكمل وزنه نصاباً زكي، ويعمل في ذلك بالتحري؛ فإنه يزكى على أنه حلي مستعمل على قول من يقول بزكاته. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [10]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [10] لقد كثرت أنواع التجارات في عصرنا الحاصر، وتنوعت طرقها وأساليبها، وتداخلت معاملاتها، فيحتاج المرء إلى فقه صحيح حتى يعرف ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب، وكذلك استحدثت المصانع الاستثمارية والاستهلاكية، والتي تحتاج إل بيان ضوابط الزكاة فيها.

زكاة عروض التجارة

زكاة عروض التجارة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ قال: إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم] . فمفهوم: (إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) أن ما لم يؤد زكاته فهو كنز، ولما سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وهو من الذين يقولون بزكاة الحلي المستعمل-: (ما هو الكنز يا ابن عباس؟! قال: ما لم يؤد زكاته ولو على وجه الأرض، وما أديت زكاته فليس بكنزٍ ولو كان مدفوناً تحت الأرض) . إذاً الكنز في اللغة: المكنوز الموجود دفيناً في الأرض. وفي الشرع: ما أديت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز. قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع) رواه أبو داود، وإسناده لين] . بعدما أنهى المصنف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال الزكوية المجمع عليها جاء بهذا النوع من أنواع الأموال الزكوية، وإن كان انتهى الخلاف فيها، وصار الأمر فيها إلى الإجماع، لكنه أخرها تبعاً لما قبلها، وتقدم البيان في زكاة بهيمة الأنعام، وفي الذهب والفضة، وفيما تنبته الأرض من حبوب وثمار، على ما فيه خلاف واتفاق. وهنا ما يسمى عند الجمهور بزكاة عروض التجارة، فيأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث عن سمرة بن جندب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع) والذي يعد للبيع هو عروض التجارة، وفرق بين ما يكتسبه الإنسان ويقتنيه لشخصه، وبين ما يقتنيه ليتاجر فيه وينتظر الربح، وعروض التجارة كان يوجد فيها خلاف سابق، وقد انتهى الخلاف وحكى ابن المنذر الإجماع على وجوب الزكاة فيها.

الأدلة على زكاة عروض التجارة

الأدلة على زكاة عروض التجارة ومما يستدل به على وجوب زكاة عروض التجارة قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] فالطيب: هو الحلال، والخبيث: هو الحرام. والآخرون يقولون: الطيب: الجيد الذي ترتضيه النفس، والخبيث: هو الرديء الذي لا تستطيبه النفس. وذكروا في أسباب نزولها: أن الأنصار كانوا في أول الأمر إذا طابت الثمار يأتي الواحد منهم بالقنو ويعلقه لأهل الصفة يأكلون منه، وكان عامة الناس يأتون بالجيد من أنواع التمر أو الرطب، وكان بعض الناس -كما يقولون- يرائي الآخرين فيأتي بالحشف، وبالنوع الذي ليس مقبولاً أو محبوباً عند الناس، فأنزل الله هذه الآية. وقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] قالوا: الحرام، وقيل: إنه رديء التمر. وقوله سبحانه: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وطيبات الكسب قالوا: عطف عليه: {ممَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] وهذا هو زكاة المزروعات أو ما تخرجه الأرض من حبوب وثمار، أو من نبات على التعميم، و (مَا كَسَبْتُمْ) يختص بالتجارة؛ لأنه العمل الذي يكتسب به الإنسان منفرداً بخلاف ما تخرج الأرض؛ لأن إخراج الأرض فيه جانبٌ آخر: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، فهناك عامل آخر وهو أن المولى سبحانه وتعالى هو الذي يعطي: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] فالله سبحانه وتعالى يعطي العبد من خيرات الأرض. وليس ما تنبته الأرض خالص عمل الإنسان وحده، بخلاف التجارة، وإن كان الكل من عند الله، والربح رزق من الله، والتوفيق في التجارة من الله، لكن السبب المباشر أو اليد المباشرة في التجارة هي الإنسان، والشيء المباشر في الأرض هو الإنسان ومن ورائه القادر سبحانه وتعالى على إنبات النبات وعلى إتيان النبات بالحب، وكذلك إنبات الشجر، وإتيان الشجر بالثمر، فهذا فيه صنع المولى سبحانه وتعالى. إذاً: (ما أخرج الله من الأرض) قسم، و (طيبات ما كسبتم) قسم، فيكون (طيبات ما كسبتم) المراد منه التجارة، والصناعة، ومن هذا القبيل، وقد انتهى الأمر عند العلماء وأصبح كما قال ابن المنذر: إجماع المسلمين على وجوب الزكاة في عروض التجارة. ومن العمومات أيضاً قوله سبحانه مخاطباً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، والأموال جمع مال، وأبرز أنواع الأموال التجارة، وهي كما يقال: العنصر الفعال في تنمية الأموال من حيث هي، فـ (مِنْ أَمْوَالِهِمْ) تشمل كل الممتلكات بما فيها مبدئياً وأولياً أمر التجارة. وجاء عنه رضي الله تعالى عنه: أنه لقي فلاناً، فقال: (يا فلان! أدِ زكاة مالك، قال: ما عندي إلا جعاب أذن، قال: قدِّرها وأد زكاتها) ، أي: كان الرجل يحمل جلوداً، فقال: أد زكاة مالك، قال: ما عندي إلا هذه الجلود أعملها حقائب وأبيعها، قال: أدِ زكاتها. وهناك أيضاً آثار ومنها: (كان يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نؤدي زكاة البز) ، والبز: بالباء والزاي نوع من القماش بين الحرير والقطن، أو مختلط منهما، وبعض العلماء يقولون: إنما هي محرفة عن البر، والبر مما تنبت الأرض، وليس داخلاً في عروض التجارة، فأجيب عن ذلك: إن التحريف بعيد؛ لأن الأحاديث إنما تروى بالسماع ولا تروى بالكتابة، وما كانت الكتابة إلا متأخرة فيما بعد، وكانت كتابة الحديث في أول الأمر نادرة، فكانت تلقى الأحاديث سماعاً، وفرقٌ بين سماع البر (بالباء والراء) والبز (بالباء والزاي) .

ما أعد للقنية فلا زكاة فيه، وما أعد للتجارة ففيه الزكاة ولو عقارا

ما أعد للقنية فلا زكاة فيه، وما أعد للتجارة ففيه الزكاة ولو عقاراً وأجمعوا على أن ما اشتري للقنية ولو كان كثيراً فلا زكاة فيه، فمثلاً: إنسان اشترى مائة كيس ووضعها في البيت، ولديه أولاد وعوائل يأخذون منها السنة والسنتين، فلا زكاة في هذه، وإن كان أخذ عشرة أكياس ووضعها في دكان من أجل أن يبيع فيها ويشتري بأثمانها غيرها، يقصد بذلك الربح والبيع والشراء فإن فيها الزكاة. وأجمعوا على أن كل ما اتخذ للتبادل التجاري بقصد النماء وهو الربح وإن احتمل الخسارة أنه زكوي، أي: من عروض التجارة، سواء كان ذلك من الأراضي البيضاء كأن يتاجر مثلاً في عقار مخطط، فيشتري قطعتين أو ثلاثاً من أجل أن يبيعها فيما بعد عندما ينتهي الحراج، وتنتهي القطع الموجودة وتبدأ الرغبات، فيبيع بما فيه ربح، أو كان من عمائر، كأن اشترى عمارة لا ليسكنها ولا ليؤجرها، ولكن وجدها رخيصة وعلم بأن العمائر والعقار سترتفع أثمانها فاشترى عمارة أو عمائر من أجل أن يبيعها، وسواء كان المالك شخصاً واحداً أو كانوا جماعة اشتركوا في الأرض أو في العمارة؛ ففيه الزكاة. أما إذا اشترى الأرض لنفسه؛ أو ليعطي فيما بعد كل واحد من أولاده قطعة، أو تركها للزمن، حتى إذا احتاج باعها أو عمرها فهذه التي للقنية وللتعمير لا زكاة فيها، والتي للتجارة فيها الزكاة، وإذا اشترى العمارة لا للبيع ولا للشراء، ولكن للاستثمار، كأن يؤجر شققاً ويأخذ أجرتها، وليس عنده نية بيع العمارة بذاتها، ومن بعده يرثه أولاده ويستفيدون من إيجار شققها كمورد رزق لهم، فهذه لا زكاة فيها، وإنما ينظر إلى الأجرة التي تأتيه على حسب رصد البلد، إن كانت تؤخذ الأجرة في أول السنة، أو تؤخذ في آخر السنة، فمطلق أجرة العمارة أو أجرة الأرض، تدخل في الكسب وتكون من نوع زكاة الأموال غير التجارية. إذاً: الأعيان التجارية سواء كانت أرضاً بيضاء أو عمائر، أو سيارات، أو بواخر، أو طائرات، أو من المواد الغذائية، من الملح إلى العسل، كل ذلك إذا أخذه ليبيع ويشتري فإنه عروض تجارة، فلو اتخذ غنماً للبيع والشراء، كهؤلاء الذين يتاجرون بها من خارج المملكة، الذين لا يأتون بها للقنية والحليب والنسل والزيادة، وإنما يأتون بها ليكتسبون بأثمانها، فهذه عروض تجارة، فلا تزكى على عدد الأربعين شاة على أنها بهيمة أنعام بشرط السوم وحولان الحول، بل تزكى على أنها عروض تجارة فتزكى قيمتها، لأنها ليست مقصورة للقنية والنماء والنسل، ولكنها جلبت لتكون عروض تجارة، وكما تقدم أنه لا ثنائية في الزكاة، فلا يؤخذ منها الزكاة باعتبارين: اعتبار القنية، واعتبار التجارة. وكذلك الإبل والبقر إذا جلبها ليبيعها فإنها تعتبر عروض تجارة، فلا تزكى زكاة بهيمة الأنعام، حتى قالوا: لو تاجر في التراب، وقد يكون التراب موضع بيع وشراء، وقد يصنع تراباً مثل الإسمنت، والجبس، والجص؛ فهذا أيضاً إذا عد للتجارة، كأن اتخذ المصنع واكتسب من ورائه، فهذه عروض تجارة. إذاً: عروض التجارة بدون استثناء كل ما أعد للبيع والشراء بقصد الربح.

أقسام عروض التجارة

أقسام عروض التجارة وهنا قبل الدخول في التفصيل يعتبر العلماء عروض التجارة بالنسبة لصاحبها -صاحب عروض التجارة- على قسمين: تاجرٌ مدير، وتاجرٌ محتكر، وفرق بين المدير والمحتكر، والمحتكر على قسمين: محتكرٌ خاطئ ومحتكر مأجور.

التاجر المدير

التاجر المدير فالمدير هو الذي يبيع السلغ يومياً سواء كان بالجملة أو التجزئة، فالمستودع مفتوح يبيع منه بالجملة، أو المعرض والدكان مفتوح يبيع بالتجزئة، بالكيلو، بالحبة، بالدرزن، فهذا كله يسمى مديراً؛ لأن عروض التجارة عنده ليست واقفة بل متحركة، فيبيع هذه السلعة ويشتري بثمنها سلعةً أخرى، مثل الدولاب الذي يدور بحركةٍ دائمة. فهذا النوع من التجار كيف يزكي ما بيده إذا اكتسب ما يساوي النصاب، لأنه يشترط في زكاة عروض التجارة ملك النصاب حولان الحول، فإذا كان هذا التاجر المدير امتلك ما قيمته نصاب الذهب والفضة، وهو عشرون مثقالاً، أي: أحد عشر جنيهاً سعودياً، أو مائتا درهم فضة، أي: ستة وخمسون ريالاً فضة أو ما يعادلها، وحال عليها الحول في يده وهو يدير فيها، نظرنا في نهاية الحول كم يوجد عنده من عروض التجارة، مقدراً موجوداً في المحل من كل صنف، ولا ننظر إلى أعيان الأصناف. فمثلاً: بقالة فيها السكر والشاي والكبريت والملح والصابون. إلخ، فكل ما في البقالة مما يديره للبيع والشراء يقدر، ثم ننظر مجموع قيمته، المجموع ولا ينظر إلى قيمة الشراء ولا إلى تقديرها أو تقييمها عندما اشتريت، بل ينظر لو لو أراد أن يبيعها الآن بمجموعها فبالمقدار الذي تقدر به في نهاية الحول يزكيه. فإذا بدأت تجارة المدير بعشرة آلاف فإنها قد تجاوزت النصاب، ولو كانت نقداً لوجبت زكاتها، فإذاً: نحسب الحول من أول يوم بدأت فيه التجارة إلى أن يحول عليها الحول، فعند نهاية الحول نفترض أنها صارت عشرين ألفاً، إذاً نزكي العشرين الألف الآن، فهذه هي زكاة عروض التجارة التي يديرها صاحبها. وسواء باع بالجملة أو التجزئة فالكل فيه زكاة.

التاجر المحتكر

التاجر المحتكر القسم الثاني من أصحاب عروض التجارة: المحتكر. والاحتكار هو الجمع، فحكرها بمعنى: جمعها، وهو الذي يشتري السلع لا ليبيعها ولا ليعرضها للبيع يوم أن اشتراها أو فيما بعد، وإنما يشتري السلعة ويخزنها وينتظر بها مناسباتها، أي: مناسبة ارتفاع السعر في السوق، فمثلاً: التمر في المدينة من رأس المال الموجود، ومن أهم إنتاجها، فيأتي عند الجذاذ ويكون الصاع رخيصاً، فيجمع ويوضع في المخازن، فلا يباع حتى تنتهي فترة الصيف، ويبدأ الشتاء فيحتاج الناس التمر للتدفئة والتغذية، فيبدأ يبيعها، فهو ينتظر الموسم حتى يأتي الحاج؛ لأنه أربح له وأكثر بيعاً، فيحبسها في المستودع، ثم يبدأ بالبيع في الموسم، سواء باع جملة أو تجزئة. إذاً: استمر وجود السلع في المخزن خمسة أو ستة أشهر فيكون قد احتكرها، ثم بدأ يتعامل ويبيع بالجملة، أو بدأ هو بنفسه يبيع بالتجزئة، بأكثر أو بأقل، فهذا يسمى محتكراً. والمحتكر إن كان يجمع السلعة لا ليبيعها عند الموسم، ولكن عندما يصبح الناس بحاجة إليها، فإذا أمسكها حتى أصبح للناس فيها حاجة، وضمن بها فلم يخرجها، واشتدت حاجة الناس إليها وكانت السلعة من الأشياء الضرورية كمواد الغذاء أو الألبسة، أو ما هو ضروري لحياة الناس، كأن اختزن الدقيق، أو السمن، أو التمر، أو الأرز، والسوق ماشٍ وهو منتظر حتى يشح الصنف في البلد، يريد أن يكون هو صاحب الامتياز، والمتحكم في السوق، فيأتي يتحكم بأسعار السلعة في السوق على ما يشاء. ففي هذه الحالة يثبت عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المحتكر خاطئ) ، والخاطئ غير المخطئ، فالمخطئ الذي لم يتعمد الذنب، ولكن الخاطئ هو المتعمد قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، (الخاطئون) ولم يقل: (المخطئون) ، فهذا المحتكر آثم؛ لأنه يتحكم في حاجيات الناس عن قصد، ففي هذه الحالة يتفق العلماء على أن لولي الأمر أن يتدخل بإلزامه بإخراج السلعة، ويبيع بما لا ضرر فيه ولا ضرار. فلو كانت معروضة فهو أمرٌ طبيعي، فيسعر ويحدد له جزءاً من الربح، وهذا ما يسمى بالتسعير، فحينئذٍ يكون التسعير واجباً وجائزاً على حسب رأي ولي الأمر، وشدة حاجة الناس إلى ذلك، كما قالوا في امتناع أصحاب الأعمال الضرورية للأمة؛ فإن ولي الأمر يتدخل ويلزمهم بالعمل حتى لا يتحكموا في حاجة الناس كما ذكر ابن تيمية رحمه الله. فمثلاً كان الماء في السابق لا يأتي للبيوت إلا عن طريق السقاء يحمله على كتفه ويدخله البيت، والخبز الآن في الأفران، والبريد الآن لمصالح الناس، والكهرباء، والسباكة، فهذه حاجات متواصلة، فمثلاً قائد السيارات الأجرة في الخطوط الطويلة، لو أن طائفة من هؤلاء امتنعوا عن العمل من أجل مصلحة خاصة، نظر ولي الأمر في أمرهم، وفي شكايتهم؛ فإن كانت عليهم مظلمة رفعها، وإن لم تكن مظلمة وأرادوا تحكماً ألزمهم بالعمل إجبارياً؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وعلى مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار) .

كيفية زكاة تجارة التاجر المحتكر

كيفية زكاة تجارة التاجر المحتكر نأتي إلى هذا التاجر المحتكر، كيف يزكي تجارته؟ فلم يبع ولم يشترِ، وبضاعته مخزونة، فماذا يفعل؟ يقول الجمهور كـ أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله: عليه أن يقدر ما عنده من عروضِ احتكرها في نهاية الحول ويخرج زكاتها، فإذا جاء حولٌ آخر ولم يبعها قاصداً للاحتكار، فإنه يقدرها مرةً أخرى ويزكي، وهكذا ما دامت موجودة وهو ممتنع عن إخراجها لأيدي الناس فإنه يزكيها كل سنة. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. والإمام مالك رحمه الله يقول: هذا المحتكر -على أساس أنه ليس بخاطئ- الذي أمسكها وليس بالناس الحاجة الضرورية إلى ما بيده، ليس متعمداً إضرار الناس، فما دامت السلعة متوفرة في السوق يخرجها المحتكرون كرهاً أو رضاً، اضطر إلى القيمة أو قنع بالسعر الموجود، وبقي بعض الأشخاص محتكراً، فإنه ينتظر حتى ينتهي هؤلاء، فما دام لا يدخل في نطاق الخاطئ باحتكاره، حتى يقول بعض العلماء: قد يؤجر في ذلك؛ لأنه حفظ للناس السلعة يخرجها عندما يحتاجونها، وحينما يحتاجها السوق، فليس متعمداً التحكم فيهم. إذاً: هذا الشخص إذا حال الحول على عروض تجارته، هل يقدرها ويزكيها؟ فالإمام مالك يقول: المحتكر له حقٌ شرعي في أن يكتنز هذه السلعة، فلا يزكيها إلا إذا باعها. فمثلاً: يكون السعر في السوق منخفضاً، وهو جمعها في وقت الموسم بألف، لكن ورد من خارج البلد من نفس السلعة الكثير، وأصبح ذو ألف يساوي خمسمائة، فانتظر حتى يتوقف الوارد من الخارج ويعتدل السوق ثم باع، فهذا ليس متحكراً خاطئاً، وإنما ينتظر بسلعته السوق النافقة التي يحصل فيها على رزق؛ فهذا الشخص لا يلزمه مالك أن يقدر في نهاية كل حول ويخرج الزكاة، بل يقول: ينتظر الحول بالقيمة؛ لأنه انتظر حولاً وأحوالاً وهي عروض، فالزكاة واجبة فيها من أول، لكن لا نلزمه لأنه لم يبعها، ولو قدر أننا ألزمناه وانخفضت السلعة وكانت أنقص مما قدرها عندما زكاها، فنكون ألزمناه بزكاتها وهو لا يملك الألف. فـ مالك رحمه الله يعتبر في ذلك نفاذ السلعة، وهذا في الواقع قد ينفع بعض الناس؛ لأننا جربنا في المدينة وسمعنا أن بعض الناس كان هناك ما يسمونه (طفرة) في الأراضي، وكانت تقع صفقات في المجلس الواحد للقطعة الواحدة أو للمربع الواحد أو للأرض الكاملة، وتتضاعف القيمة، فهذا إذا اشترى في هذه الطفرة والسعر مرتفع، ثم وقف وانتبه الناس وبدأ السعر ينخفض، ولم يعد هناك سوقٌ نافقة، وأصبح يدل بها عند الناس فلا يجد من يشتري، فعند ذلك لو ألزمناه أن يقدرها في كل حول، ومكثت خمس أو عشر سنين، نقول: في تلك العشر السنوات التي نزلت فيها قيمة الأرض قد أخذنا منه زكاةً عليها يمكن أن تقارب قيمتها أو نصف القيمة. فـ مالك يقول: المتحكر غير الخاطئ والذي ينتظر السعر المناسب فإنه لا يزكي عروض تجارته التي احتكرها إلا إذا باعها.

زكاة الدين

زكاة الدين وهذه القاعدة عند مالك تطرد في الدين، فلو كان لإنسان دينٌ عند الناس، فجاء الحول على تلك الديون، فالجمهور يقولون: عليه أن يحسب هذا الدين الذي له عند الناس ويزكيه فهو ملكه، وليس على المدين أن يخرج زكاة الدين الذي لغيره، وإلا فسيكون رباً. فإذا كان الدائن له أموال بأيدي الناس، فالأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله قالوا: يقدر الدين ويضمه إلى ما بيده وفي صندوقه ويزكي عن الجميع. فـ مالك رحمه الله فصَّل في الدين، فقال: زكاة الدين بحسب المدين وحالته، والمدين عند مالك موسر قادر، أو معسرٌ عاجز، أو مماطل. قال: فالدين إذا كان على موسر قادر غير مماطلٍ بحيث لو أتاه في أي ساعة أعطاه ماله؛ فهذا الدين يعتبر مضمون السداد وكأنه في يد الدائن، وذلك كما في الودائع المصرفية والبنكية، حيث يمكن أن تذهب إلى المصرف أو البنك وتطلب طلبك من رصيدك فيعطيك في الحال؛ قال: هذا النوع من الدين عليه أن يزكيه في نهاية كل حول؛ لأنه في متناول اليد. أما الدين الذي ليس في متناول اليد، وصاحبه معسر ليس عنده، أو موسر مماطل، أو موسر ولكن لا يستطيع أن يستدعيه عن طريق السلطة، لأنه هو السلطة بنفسها، فلا يجرؤ على شكايته أو رفع دعوى عليه في المحكمة، أي: لا يستطيع أن يأخذ حقه منه، فهذا يسميه مالك دينٌ ضمار، أي: لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يستثمره، بخلاف المضمون، فإنه ولو لم يستثمره فهو الذي كف يده عنه، كأمانات في البنوك أو في المصارف فإنه لا أحد يمنعك أن تأخذها وتشغلها، لكن أنت بنفسك آثرت أن تكون أمانة بدلاً من أن تعرضها للتجارة، فإذا كان المال مضمون الدفع فكأنه في يدك، أو كأنك وضعته في صندوقك، أو كأنك دفنته في الأرض، فهو مالك وتحت يدك، فعليك أن تزكيه في نهاية كل حول. أما إذا كان دينٌ لك في يد الغير وهذا الغير مماطل، أو ليس عنده سداد، أو لا تستطيع عن طريق السلطة أن تأخذ حقك منه، فحينئذٍ في هذه الحالة يقول الجمهور: يقدره في نهاية كل حول ويزكيه لأنه ملكه، ومالك يقول: هذا النوع من الدين لا يزكى إلا إذا حصل في اليد، وكلما قبض من هذا الدين شيئاً زكاه في وقته، سواءً استلم في اليوم نصاباً أو أقل من النصاب، ما دام أن مجموع القرض في الأصل نصاب، فإذا كان مجموع القرض ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف وأصحابها معسرون، وبدأ شخص اليوم فأدى خمسة، وآخر أدى عشرة، وآخر أدى سبعة بعد الحول الأول، فعليه أن يزكي كل ما وصل إليه حتى ولو كان عشرة ريالات؛ لأنه زكوي، والزكاة واجبة فيه من وقت بلوغ الحول والنصاب، فعليه أن يزكي كل حصةٍ جاءت في يده بحسبها، فيخرج منها ربع العشر، فلو أعطاه عشرة ريالات فإنه يخرج ربع ريال. وعلى هذا زكاة الدين وكذلك زكاة عروض التجارة.

توجيه تفصيلات الإمام مالك في الدين الضمار والتاجر المحتكر

توجيه تفصيلات الإمام مالك في الدين الضمار والتاجر المحتكر بقي عندنا: توجيه تفصيلات مالك: لماذا اختلف مالك مع الجمهور في الدين الضمار، وفي التاجر المحتكر غير الخاطئ. يروي مالك رحمه الله في الموطأ بأن أشخاصاً أتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الخلافة، واشتكوا بأن الخليفة الأموي الأول كان قد صادر لأبيهم أموالاً في بيت مال المسلمين، وجاءوا يشتكون ويطلبون هذه الأموال كورثة، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عامله أن أخرج إليهم مالهم وخذ منه زكاة السنوات الماضية، فهو -أي المال- قد مكث في بيت مال المسلمين سنوات. ثم أعقبه بكتابٍ آخر: خذ منه زكاة سنةٍ واحدة؛ لأنه كان مالاً ضماراً. واعتبر مالك رحمه الله هذه القاعدة في كل ما غاب عن اليد ولم تستطع الوصول إليه كدين مغصوب، أو دين على مماطل، أو وديعة نسيت عند من هي، أو دفين دفنته ونسيت المكان الذي هو فيه، وبعد عشر سنين وجدته مفاجأة، فكل مال لإنسان كانت يده قاصرة عن الوصول إليه، سواءً كان بيدٍ أقوى منها، أو كان بنسيانٍ، أو كان بجهالة أو نحو ذلك فحكمه ما ذكرنا عن مالك، فهذه وجهة نظر مالك أو استدلاله على تقسيم الدين إلى ضمار، وغير ضمار. وبعضهم يذكر ذلك رواية عن أحمد رحمه الله.

تحويل المال من قنية إلى تجارة بالنية أو العكس

تحويل المال من قنية إلى تجارة بالنية أو العكس ونذكر في هذا المجال: لو أن إنساناً اشترى مائة كيس أرز ووضعه في البيت له ولأولاده على أنها تمويل سنة أو سنتين، ثم بدا له، فقال: لماذا أنا أدخر المائة؟! فيكفي عشرة، وهذه التسعون الباقية أبيع وأشتري فيها، ولما تنتهي العشرة أخذ عشرة أخرى. فهو مبدئياً اشتراها للقنية، ثم بدا له أن يحول تلك القنية إلى تجارة، قالوا: فيحسب من تاريخ نيته وقصده تحويلها إلى عروض تجارة، فمن تاريخ دخولها في أمر التجارة تحولت من قنية إلى عروض، فعندما فمن تاريخ التحويل يبدأ الحول، فإذا اكتمل الحول زكاها، ولا ينظر إلى تاريخ شرائها؛ لأن المدة التي مضت كانت على نية القنية فلا زكاة فيها، وبعد سنة أو أكثر أو أقل نوى أن تكون للتجارة وأخذ في طرق التجارة وأسبابها فتحولت من قنية إلى تجارة. شيء آخر: اشترى محلاً، وهو سعيد بالمحل الجديد، وعنده رأس مال، فقال: سأذهب قبل أن يرتفع السعر فآخذ خمسين كيس أرز، وعشرين كيس سكر، وكذا صندوق تايت، ثم إنه رأى أن الدكان لا يتحملها قال: سأتركها للبيت. فمن يوم أن اشتراها للدكان فهو اشتراها للتجارة، فمكثت هذه البضاعة في الدكان ستة أشهر، وبعدها وجد أن الدكان ليس بمربح، فتحولها للاستهلاك المنزلي في بيته، وستظل معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهذه تحولت إلى القنية، فإذا حال عليها الحول فليس عليها زكاة؛ لأن الشرط في عروض التجارة والنقدين أو في الأموال التي فيها الحول أن يمر عليها حولٌ كامل وهي في طريقها. فهذا مما يتعلق بالقصد في اتخاذ العروض للتجارة أو للقنية.

حكم زكاة ما يتبع السلعة من الآلات والمصانع

حكم زكاة ما يتبع السلعة من الآلات والمصانع يبحثون أيضاً في عروض التجارة، هل الذي يزكى من عروض التجارة هو للسلعة فقط، أم أنه يتبعها شيء؟ ومعنى (يتبعها شيء) أن السكر إذا كان في حوض أو كومة من الأرض أو في أكياس، وهذا الصابون يكون في كراتين وهذه السلعة في صناديق، وهذه في مكاييل، فأدوات التجارة: من الميزان والمكيال وأدوات البيع والشراء، فهذه الأدوات الموجودة في الدكان، والديكور أيضاً الذي صُنع، هل هذا يدخل في عروض التجارة أم أنه خاص لقنيته؟ فهذه أمور ربما تجدون من يبحث في هذه الناحية من أدوات التجارة ومكاييلها وموازينها، أو آلات أو أجرام، أو أظرف توضع فيها أدوات التجارة فهل هذه الأدوات تتبع عروض التجارة فتجب فيها الزكاة؟ الجواب: لا. والخلاف الشديد فيما يتعلق بالمصنع وآلات الإنتاج، فعندنا مثلاً مصنع سكر، ومصنع نسيج، ومصنع صابون، فهل الآلة المصنعة تقدر مع السلعة أم لا؟ الآلة التي تنتج هي عروض تجارة ثابتة، ونحن نقدر إنتاجها، فإذا جئنا إلى مطبعة تطبع الكتب، المطبعة فيها حروف، وفيها مكائن تطبع، وفيها مكائن ترص الورق، وفيها مكائن تجلد، وفيها أشياء عديدة، فهل يا ترى الآليات التي تصنع وتنتج نقدرها مع الأوراق والكتب التي تطبع؟ فالورق الموجود في المستودع للمطبعة، الحبر الموجود في المستودع للمطبعة، والخيط الموجود في المستودع، والصمغ، فكل هذه الأشياء من عروض التجارة، لأنها تباع؛ لكن الآلات التي تصنع ذلك، هل هي تجارية أو غير تجارية؟ فبعضهم يقول: إن أنشئ المصنع من مبدأ الأمر فكل ما فيه للتجارة، والجمهور يقولون: الآلات الثابتة غير الفنية بذاتها قد تُستهلك، والزكاة في إنتاجها يكفي عن الزكاة في ذاتها. والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [11]

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [11] قد أودع الله في الأرض من الكنوز والمعادن شيئاً كثيراً يمكن الاستفادة منه، والإنسان قد يجد ذلك كنزاً جاهزاً، وقد يحتاج في استخراجه وتصفيته إلى عمل، وما حصل من ذلك فللزكاة منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ هنا.

حديث زكاة الركاز

حديث زكاة الركاز قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه] . حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي ساقه المؤلف هنا جزء من حديث يشتمل على زيادة، وإن كان موضوعها غير موضوع الزكاة؛ لأن الحديث فيه: (العجماء جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس) .

جرح العجماء جبار

جرح العجماء جبار (والعجماء جُبار) في بعض رواياته كما يسوقه صاحب المنتقى: (جرح العجماء جبار) والجبار: هو المجبور الذي لا دية ولا قيمة. والعجماء: هي الدابة لكونها لا تعرب عما في نفسها، وقالوا: إن كون العجماء جباراً فيه تفصيل؛ لأنها إما أن تكون مروضة كما يقال: مؤدبة، أو لا زالت لم تدرب، وكذلك إما أن تجني بمقدمها أو بمؤخرها، وإما أن تجني وعليها قائدها أو صاحبها، أو تجني وليس عليها أو معها أحد. وكذلك قد تكون جنايتها بالليل أو بالنهار، وكل هذا مما تتطلبه الحياة، وخاصة عندما كانت العجماء وسيلة النقل والحمل دون غيرها. فقالوا: إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت بمقدمها فإن راكبها أو قائدها مسئول عن جنايتها؛ لأن بيده مقودها، أما إذا جنت بمؤخرها وهو لا يدري، فجرحها جبار، بمعنى: إذا رمحت إنساناً فجرحته فليس على صاحبها شيء. وقالوا: إذا كانت مؤدبة وربطها في طريق عام والطريق واسع، فجاء إنسان ونخزها فرمحته فهي جبار، وإذا كانت غير مؤدبة وربطها في طريق عام ومر إنسان ولم ينخزها ولم يؤذها فرمحته فهو مسئول؛ لأنه يعلم منها أنها ليست مروضة ولا تألف الناس، وتؤذي من يمر بها، فيكون قد عرض الناس لإيذائها فهو مسئول. وهكذا إذا جنت ليلاً أو جنت نهاراً وليس عليها أحد أو لا يقودها أحد، فإن جنت ليلاً فعلى صاحبها جنايتها، وإن جنت نهاراً فليس في جنياتها نهاراً شيء، كما في ناقة البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، أكلت حرث قوم فحكم صلى الله عليه وسلم أن على صاحب الناقة حفظها ليلاً، وعلى صاحب الزرع حمايته نهاراً. وهكذا يذكرون ما يتعلق بجناية الدابة مروضة أو غير مروضة، معها إنسان أو ليس معها إنسان، وكذلك إذا كان يعلم منها أنها غير مروضة ومر بها داخل الأسواق والأسواق مزدحمة فآذت أحداً فهو ضامن، أما إذا كانت مروضة ومتعودة دخول الأسواق فلا تؤذي أحداً، ودخل بها سوقاً فآذت إنساناً، فإن كان بمقدمها فهو ضامن، وإن كان بمؤخرها فليس بضامن. هذا ما يذكره العلماء رحمهم الله في قوله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) . ومن هنا -يا إخوان- ننظر إلى مدى شمول السنة النبوية فيما يتعلق بالتعامل بين الناس، سواء كان مباشراً أو عن طريق بهائمهم العجماوات.

البئر جبار

البئر جبار (والبئر جبار) أي: إذا استأجر إنساناً ليحفر له بئراً أو ليصلح له خراباً في بئر، فإن كان هذا الأجير عاقلاً مكلفاً مميزاً فأصابه شيء من عمله في البئر، بأن سقط منه عليه حجر أو انهار البئر عليه، فهذا جبار ولا دية له، أما إذا استعمل مجنوناً أو صغيراً أو معتوهاً أو من لا يتحمل المسئولية، فهو مسئول عنه؛ لأن ذاك -كما يقولون- عديم الأهلية أو ناقص الأهلية، كما لو كلف الصغير أو المجنون أن يطلع شجرة ليجني له منها ثمراً فسقط، فهو مسئول عنه، أما إذا كلف عاقلاً بالغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط، فليس عليه في ذلك شيء.

تعريف الركاز في الشرع

تعريف الركاز في الشرع قوله: (وفي الركاز الخمس) هذا محل الشاهد والعلاقة بباب الزكاة، والخمس: هو الحصة التي تؤخذ مما لا عناء في تحصيله، وهو تابع للغنيمة؛ لأن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الخمس في الأموال التي تؤخذ بدون عناء، والركاز: مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض، وتوجد مسميات: الكنز، والركاز، والمعدن، هذه المسميات الثلاث قد يتداخل بعضها مع بعض، وخاصة الركاز، فالركاز أعمها، يطلق على المعدن؛ لأنه مركوز في الأرض، وقد يتميز المعدن بجنسه عن الركاز. والفرق عند المحققين: أن الركاز ما كان من فعل الآدمي فركزه في الأرض، والمعدن ما كان من فعل الله سبحانه وتعالى، وهو ما خلقه في الأرض يوم خلقها من أنواع المعادن أو الأجناس المغايرة للتربة. فهنا الركاز والكنز والمعدن، فالركاز: هو ما وجده الإنسان مركوزاً في الأرض، وشبيه به الكنز، وقد يتعاوران ويطلق بعضهما على الآخر، والركاز أعم.

الأصل أن الركاز لمن وجده واستخرجه

الأصل أن الركاز لمن وجده واستخرجه إذا جاء إنسان وكان يعمل في أرض فوجد فيها مالاً مركوزاً، أي: مدفوناً، سواء كان هذا المال ذهباً أو فضة، أو كان جوهراً، أو شيئاً له قيمة، فيقولون باتفاق: إن وجده في ملكه فلا نزاع في شيء، فإنه يؤخذ منه الخمس ويترك له الأربعة الأخماس ملكاً له. وإذا كان يعمل في أرض بيضاء ليست ملكاً له ولا لغيره فوجده فكذلك؛ لأن الأرض التي وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة لأحد. أما إذا عمل في أرض مملوكة للغير فوجد فيها هذا الركاز، فهل يا ترى هذا الركاز للعامل الذي وجده أو لصاحب الأرض؟ فالأكثرون على أنه للذي وجده، وصاحب الأرض لا يعلم عنه شيئاً، فإذا وجد إنسان ركازاً في أي نوع من أنواع الأراضي، فبعضهم يقول: هو لواجده، حتى قالوا: لو أن إنساناً استأجر أجيراً يحفر له بئراً في أرضه فعثر الأجير على ركاز، فإن هذا الركاز للأجير؛ لأنه هو الذي وجده. والآخرون يقولون: هو لصاحب الأرض؛ لأنه يملك الأرض وما فيها. وبعضهم يقول: إن استأجره لحفر بئر فوجد ركازاً فهو للأجير، وإن استأجره للبحث عن ركاز فوجد الركاز فهو لصاحب الأرض بلا خلاف؛ لأنه يكون قد استأجره لعمل مباح له كما لو استأجره في أن يحتطب، فإنه يكون الحطب أو الماء لمن استأجره، وليس للأجير إلا أجرة يده. إذاً: الركاز مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض وهو يكون من المعدن ولا يحتاج إلى عمل يستخرجه منه كما سيأتي في موضوع المعادن. فإذا وجد إنسان معدناً ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة، فتسمى: مركوزة، فما حكم هذا الذي وجده الإنسان؟ إن كان وجده في ملكه فلا نزاع في ذلك، وعليه أن يؤدي الخمس، وإن كان وجده في مكان ليس ملكاً لأحد فهو كذلك؛ لأنه ليس هناك من يدعيه ملكاً له في أرضه، فهو لواجده، فعلى هذا: يعطيه الإمام الخمس ويرد عليه الأربعة الأخماس، وجاء في ذلك آثار عن علي رضي الله تعالى عنه: عن رجل وجد ألف دينار فأخذ منها مائتي دينار وأعطاه الباقي، وعن عمر أيضاً رضي الله تعالى عنه أنه أخذ الخمس ورد إليه الباقي. وعلى هذا يتفق الجميع على أن الركاز فيه الخمس. واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان ذمياً، هل يملكه أم لا؟ فقالوا: إنه يمتلكه. وكذلك العبد إذا وجد الركاز هل يمتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده لسيده) . وعلى هذا فحكم الركاز الذي يجده الإنسان مدفوناً في الأرض من جواهر ومعادن نفيسة كالذهب والفضة، فإن هذا لواجده ما لم يكن أجيراً للحفر عن ركاز. ومما فيه خلاف: من وجده في أرض الغير، واحتفر فيها حفراً مباحاً فوجد ذلك الكنز، فإنه أيضاً يملكه على خلاف فيما إذا كان يملكه هذا الواجد؟ أو يعود ملكاً لصاحب الأرض. وكذلك يذكرون فيما لو استأجر إنسان داراً ثم أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً، هل يكون هذا الركاز الذي وجده المستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب الدار؟ يذكرون عن أحمد روايتين، وكذلك عن الشافعي، ويختلفون لأن صاحب الدار لا يعلم عنه، وليس هو الذي ركزه.

الفرق بين حكم ركاز الجاهلية وركاز الإسلام

الفرق بين حكم ركاز الجاهلية وركاز الإسلام ويختلفون أيضاً في موضوع الكنز -النقد- الذي وجده إنسان، إن كان من ركاز الجاهلية أو من ركاز الإسلام، ويعلم ذلك بالأمارات التي توجد على القطع النقدية، بأن كان عليه علامات الجاهلية من صور الأصنام، ومن عبارات أسماء ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه الخمس، فيعطي الخمس ويتملك الباقي، وإذا وجد عليه علامات إسلامية بأن كان عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أو كان عليه نقش آية من كتاب الله، أو ما يدل على أنه لمسلم؛ فإنه يكون بمنزلة اللقطة، يعرفها سنة وبعد ذلك هو وشأنه بها.

إذا وجد الركاز في قرية مسكونة أو خربة

إذا وجد الركاز في قرية مسكونة أو خربة قال المؤلف: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة: (إن وجدته في قرية مسكونة فعرفه، وإن وجدته في قرية غير مسكونة، ففيه وفي الركاز الخمس) أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن] . هنا يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وجد فيه الكنز، أهو في قرية مسكونة؟ فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه، أو في قرية مهجورة خربة قديمة لا ندري متى عمرت ومتى خربت؟ فإنه يكون كدفن الجاهلية ففيه الخمس. وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه وأتى بأماراته كما جاء في اللقطة: (احفظ عفاصها ووعاءها ثم عرفها سنة) ، فإذا وجد لقطة في كيس عرف الكيس أهو من صوف أو قطن أو جلد، والرباط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد، فإذا جاء إنسان وذكر الأوصاف المطابقة لهذه اللقطة فهي له، وإذا لم يأته أحد أو جاء بوصف مغاير للحقيقة، فإنها تبقى عنده إلى تمام الحول. وبعد تمام السنة مع تعريفها كما يقولون: في الأسبوع الأول كل يوم، وفي الشهر الأول يوماً كل أسبوع، ثم بعد ذلك في كل شهر يوماً حتى ينقضي الحول، فإذا لم يجد من يتعرف عليها فهي ملكه، ولكن كما يقولون: هو ملك غير تام، بأن يتصدق بها، وإن شاء تملكها ديناً في ذمته، فلو جاء إنسان يطلبها وصدق في تعريفها وجب أن يردها إليه. أو إذا كان بعد هذه المدة لا يريد أن يتحملها في ذمته، وإذا جاء صاحبها ربما لا يجد ردها، تصدق بها على ذمة صاحبها، فإذا جاء صاحبها أخبره، أنه قد عرفها لمدة سنة فلم يأت أحد، فتصدقت بها على ذمة صاحبها، إن قبلت الصدقة على ذمتك فهي ماضية لك، وإن لم تقبلها فتكون الصدقة على ذمتي وأنا أدفع لك بدلها. وهكذا إذا وجد في قرية مسكونة أو طريق مطروق، أو وجد في قرية خربة غير مسكونة، أو طريق مهجور لا يسلكه أحد، وكذلك الأرض إن كانت محياة لأحد أو ميتة لا يملكها أحد.

المعادن وحكم زكاتها في الشرع

المعادن وحكم زكاتها في الشرع [وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة) رواه أبو داود] . صاحب هذا الحديث بلال بن الحارث وفي بعض الروايات هلال بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أقطعه معدن القبلية، والقبلية: مكان معين في جنوب المدينة من أعمال وادي الفرع، وبينه وبين المدينة كذا ميل، فيقولون: هذا لعله المهد الموجود الآن، وفيه المعدن، وفي هذا الحديث مبحث أو مباحث من عدة جهات: أولاً: ما هو المعدن؟ ثم: ما يؤخذ من المعدن؟ وما هو حكمه من حيث المكان؟ ومن هو مصرف ما يؤخذ منه؟

المفهوم الشرعي للمعدن

المفهوم الشرعي للمعدن المعدن من مادة عَدَن، وعَدَنَ بمعنى: أقام، ومنه كما يقولون: (جنة عدن) بمعنى: دار الإقامة، وهذه المعادن مقيمة في الأرض من يوم أن خلقها الله حتى يكتشفها الإنسان. ولولي الأمر أن يقطع من شاء ما شاء ما لم تتعلق به منفعة الجماعة. فإذا كان هناك ماء يسقي عدة مزارع، فليس لولي الأمر أن يقطع هذا الماء لشخص وحده؛ لأنه يفوت المنفعة على الآخرين، وفيه مضرة، فكذلك المعدن الذي فيه منفعة عامة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أقطع فلاناً ملحاً، أي: معدن ملح، ثم قيل له: يا رسول الله! أتدري ما أقطعت فلاناً؟ قال: أرضاً، كان يعتقد صلى الله عليه وسلم أنه أقطعه الأرض ليزرعها ويستثمرها، قالوا: إنك أقطعته الماء العدة، والعد أي: الذي يستخلف، وكلما ذهب شيء جاء شيء آخر كالبئر الذي تأخذ الماء ويستخلف غيره، فاسترجعه صلى الله عليه وسلم ممن أقطعه إياه؛ لكونه يستفيد منه الجميع فلا يحصره على فرد؛ لأن الذي يستفيد منه الجميع هو ملك للجميع. ولهذا قالوا: إن الإمام يقطع من المواد ما لا يتعلق به مصلحة لفرد أو لجماعة، فإذا كان المعدن يستفيد منه الجماعة كالماء والملح أو الكبريت أو الشيء يرجع على أهل الحي أو أهل المنطقة، فلا ينبغي أن يقطعه الإمام لشخص معين، وإذا أقطعه وهو لا يدري عن حقيقته استرجعه وتركه عاماً لجميع المسلمين، وهنا معدن القبلية. والمعدن ما حكمه وما هو؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: المعدن خاص بالذهب والفضة، وما عداه لا يعتبر معدناً ولا يطالب صاحبه بشيء. وعند الحنابلة أن المعدن كل ما كان في الأرض من غير جنسها وله قيمة، كما يقول ابن قدامة في المغني، فهو عندهم كل ما كان في الأرض من غير جنسها، أي: من غير التراب. ويوجد فيها من غير جنسها: الذهب، الفضة، النحاس، الكبريت، الزئبق، القصدير، الكحل، وعدد أشياء كثيرة حتى من الجواهر الألماز يكون أيضاً من الأرض، والأحجار الكريمة إذا كانت في باطن الأرض، حتى الأمور السائلة ومثَّل بالقار وبالنفط والكبريت إذا كانت سائلة في بطن الأرض، فكل ذلك يسمى عند الحنابلة معدناً؛ لأنه عدن في الأرض وهو من غير جنسها وله قيمة. وعند الأحناف أن المعدن: ما كان صالحاً للذوبان والطبع، كأن يطبع سبائك أو قوالب، فيخرج عن ذلك الكبريت والزئبق والقار والنفط، ويخرج عن هذا ما ليس بمعادن؛ لأنها غير قابلة للإذابة بالنار وطبعها سبائك أو قوالب، ويصدق هذا على الذهب والفضة والرصاص والنحاس والقصدير، فهذه كلها تذاب وتصب في قوالب وتكون سبائك أو أحجاماً.

خلاف العلماء فيمن يتملك المعدن

خلاف العلماء فيمن يتملك المعدن المعادن التي توجد في الأرض لمن تكون؟ فهناك من يقول: هي كالركاز، والفرق بين الركاز والمعدن: أن الركاز وجده على حالته دون عمل، أما المعادن: فهي عروق في الأرض لا يحصل عليها إلا بتصنيع وعمل يجمعها ويصهرها في النار، فيحترق التراب ويذوب المعدن، وتجتمع فلزاته بعضها إلى بعض حتى يخرج منها كتلة، وهذه الطريقة معروفة في الجاهلية ومعروفة في الإسلام، ومعروفة في البادية وفي الحضر، ففي بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض المعادن خاصة الحديد في بعض الأماكن، فتجمع التربة وتوقد عليها نار قوية، فتجتمع فلزات الحديد بعضها إلى بعض، ويخرجون بكتلة يصنعون منها الآلات التي ينتفع بها الإنسان. وعلى هذا: فالمعدن من حيث هو هل يقطعه الإمام لأحد؟ الجمهور ما عدا مالك يقولون: كل معدن وجده الإنسان على ذاك التعريف، سواء قصرناه على مذهب الشافعي أو وسعناه على مذهب الأحناف، أو عممنا كل ما تتضمنه الأرض حتى الكحل والكبريت أو الملح، فالجمهور يقولون: إن هذا لواجده. وإن كان على وجه الأرض مثل الملح قالوا: كذلك هذا لصاحبه الذي حصل عليه، وخاصة إذا كان في أرض موات، والآن مجريات الملح، ما اجتمع في أرض سبخة فتجففه فيخرج منه الملح الصالح للطعام، وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها ملح البوتاسيوم كالبحر الميت، فإنه يستخرج منه أملاح البوتاسيوم، وتنوع إلى أنواع، وهناك بحيرات صغيره تجمع فيها المياه وتترك للشمس لتبخرها، ويتجمع الملح الموجود فيؤخذ، ويصنع منه عدة أنواع من الأملاح المعدنية، فهذه يقولون: هي لواجدها ما دامت على وجه الأرض. أما المعادن التي تحتاج إلى كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب، ويقول: هي لمن وجدها.

حكم زكاة المعادن

حكم زكاة المعادن من وجد المعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها، قالوا: إن استطاع فله ذلك، وكيف يزكي ما يحصل عليه؟ قالوا: الركاز فيه الخمس قليله أو كثيره، وفي المعادن كذلك الخمس، وبعضهم يقول: فيه العشر، بمعنى أنه يعامل معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ منه الخمس. وهناك من يقول: ربع العشر. أما الخمس فقياساً على الركاز مع وجود الفارق؛ لأن هذا يحتاج إلى عمل، ومن يقول: العشر فقياساً على ما تنبته الأرض من الحبوب والنبات والثمار: فإن فيه العشر، ومن قال: فيه ربع العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة، فإن كان ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب والفضة فيكون مالاً زكوياً، والجمهور على أنه مال زكوي. ويقولون: لا يشترط للحصول عليه وتزكيته حولان الحول ولا بلوغ النصاب. والآخرون كالحنابلة ومن وافقهم والمالكية يقولون: يشترط فيه النصاب، وليس المراد بالنصاب في كل دفعة يحصل عليها، كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل ويصفي فوجد ربع نصاب، فاحتفظ به، ثم عمل غداً وأخذ ربع نصاب، ثم بعد شهرين أو ثلاثة اكتمل عنده النصاب، فحينئذ يزكي في الحال ولا ينتظر الحول. ثم بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً، ولا ينتظر نصاباً للجديد الذي جاء بعد اكتمال النصاب الأول، فإن استمر العمل فعلى هذا الحال، وإن انقطع العمل أو انقطع النيل منه: فإن كان الانقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو سفر أو عجز عن النفقة، وطال انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد، وإن تركه وجاء غيره فإنه يبتدئ ويستأنف من جديد، وإن كان الانقطاع لعدم وجود المعدن لكونه ليس متصلاً كبحيرة أو جبل، وإنما هو أجزاء في أماكن مختلفة، فإذا انقطع نيل المعدن لعدم وجوده في منطقة العمل واستمر يفتش وكان انقطاعه قريباً، فإن هذا الانقطاع لا يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً، وإن طال الانقطاع وأصبح كأنه وجد معدناً من جديد بعد زمن طويل وعمل طويل، فحينئذ يستأنف النصاب ويبدأ يحسب من جديد كما لو كان قد وجده الآن. الإمام مالك رحمه الله يقول: الأمور العامة التي ترجع إلى الأمة لا يملكها واجدها ويمثل بالنفط وبالقار ويقول: إن استخراجها يحتاج إلى نفقات كبيرة، وإن عائداتها لترجع للأمة بأجمعها، وللأمة فيها نصيب، وهنا يقول: إن ولي الأمر يضع يده عليها، وهو الذي يستخرجها، ومصرفها هي المصارف العامة للدولة، كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة في مصرفه، فالفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] ، فهنا يكون مصرف هذا المعدن العام الذي تتعلق به مصالح الأمة لولي الأمر ينفقه في المصالح العامة. والمصالح العامة في الدولة هي التي توضع لها الميزانيات، فهناك من المصالح العامة: التعليم، وتموين الجيش، والصحة، والطرق، والبريد وكل ما تلتزم الدولة بإقامته لمصلحة العامة جميعاً، ولا يؤخذ عليه زكاة؛ لأن ولي الأمر أو المسئولين يجمعون المال من الأفراد كزكوات أو ضرائب، يفرضونها في حالة الحاجة أو غير ذلك، وتتكدس عندهم هذه الأموال، فلا يؤخذ عليهم فيها زكاة؛ لأنهم امتلكوها للمصالح العامة. إذاً: لا نأخذ منهم لنرد عليهم، فهذه الفكرة العامة عما يتعلق بأمور المعادن.

المعدن الذي تتعلق به الزكاة

المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما هو المعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رحمه الله قصره على الذهب والفضة. وأبو حنيفة رحمه الله جعله كل ما يذاب ويطبع ويكون سبائك، وكذلك المالكية والحنابلة عمموا كل معدن في الأرض من غير جنسها وله قيمة، وأدخلوا في ذلك كل المعادن حتى الكحل، والكبريت، والمضرة، والمضرة: تربة حمراء تكون في بعض الأماكن تؤخذ ويصبغ بها الثياب، وشاهدناها إلى عهد قريب بالمدينة يطلى بها الخشب في السقوف حتى لا تأتيها دودة الأرض التي تسمى الأرضة؛ لأن طعمها مر فلا تعيش فيها الدودة التي تفسد الأخشاب، وعمر رضي الله تعالى عنه لما رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً أحمر، قال: أتصبغ بالزعفران؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا ليس بورس ولا زعفران إنه المضرة، قال: إنكم رهط يقتدى بكم، أي: فيراه جاهل فيقول ابن عوف يصبغ بالزعفران؛ لأنه لا يفرق بين الزعفران وبين المضرة. ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة والاقتداء أن يراعوا ما يقلدهم فيه العامة، فيتحرزون مما فيه شبهة؛ مخافة أن يقع العامة فيما هو محرم بناءً على ما يتقلده هؤلاء الناس. إذاً: يهمنا نوعية ما يسمى معدناً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله: وهذا مجمل ما يمكن أن يقال في موضوع المعادن وما يزكى منها وما لا يزكى.

زكاة مزارع الدواجن وشركات الأسماك ونحوها

زكاة مزارع الدواجن وشركات الأسماك ونحوها ونحب أن ننبه على بعض الأشياء وهي: في خصوص عروض التجارة، أنه قد تجدون في بعض المؤلفات الحديثة: أنها لم تكن موجودة من قبل لا في العصر النبوي الشريف ولا في عصر الخلفاء ولا فيما بعدهم، وإنما استجدت في العصور المتأخرة. وأقول قبل أن نناقش أقوالهم: إن كل ما يستجد أو كل ما استجد اليوم في عصر الحضارة والمدنية وما استجد من أنواع الاستثمار ليس بجديد على الإسلام، بل يوجد له أصل ونظير، والمتحفظ من المتأخرين لا يخرج عما كان قديما ويرد المستحدثات إلى نظائرها التي كانت من قبل، والبعض الذي يريد أن يبرز ربما أغفل ذلك، وحاول أن يجتهد فيلحقها بالزكاة. ومن ذلك نجد من يقول: إن هنالك أموراً استثمارية لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تغل على أصحابها النماء والغلة الوفيرة، فيجب أن نجعل فيها زكاة، ويمثلون مثلاً بمزارع الدواجن، يقولون: إنها تغل على أصحابها من البيض ومن لحوم الدجاج والسماد ومن الشيء الكثير، وكذلك شركات صيد الأسماك، لأنها تستثمر فتحصل الشيء الكثير بالآلاف والملايين، خاصةً الآلات المستحدثة كالبواخر أو السفن. وهناك أيضاً: ما يتعلق بمعادن البحر أو غير ذلك، وهناك العمارات الشاهقة كناطحات السحاب تستثمر بالملايين، ويقولون: يجب أن نجعل في أعيانها الزكاة. ونقول: أيها الإخوة! إن من يقول بذلك يفوته الأصل الأساسي إذا قال: إننا نزكي البيض والدجاج والسمك، وهل هناك نصاب للبيض بالعدد أو بالكيل؟ هل هناك نصاب للدجاج بالوزن أم بالحبة؟ وكذلك السمك. وإذا قلنا على قولهم بزكاتها فهل نعطي المسكين طبق بيض أو طبقين؟ ماذا يصنع بها؟! إن ادخرها فسدت، وإن سلقها لم يقدر على أن يأكلها! فسيضيع حقه فيها، وكذلك اللحوم والأسماك. فهذه الأنواع من الأموال المستحدثة لها نظائرها في الخضروات، وكذلك فالأسماك موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللؤلؤ يستخرج من البحر، والعنبر يستخرج من البحر، كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول الله زكاة. وإذا أرجعناه إلى القواعد الأساسية وقلنا: هذا الذي استخرج اللؤلؤ واصطاد السمك وجاء بالعنبر وأقام مزرعة الدواجن، إنه يبيع ويدخل عليه من ثمنها، فيكون ذلك (من طيبات ما كسبتم) ، فأثمان هذه المنتجات الحديثة على رأيه سيكون كسباً ونماءً يدخل في ملكه وفي خزينته، فإذا حال عليه الحول زكاه، كما أنه لا تزكى الخضروات ولكن تزكى قيمتها إذا حال عليها الحول، فنقول: كذلك، صاحب البيض والدجاج وصاحب السمك وصاحب العنبر وصاحب اللؤلؤ، إذا اجتمع عنده بعد نفقته نصاب وحال عليه الحول زكى، فيزكي قيمة ما حصل عليه من تلك الأشياء التي لا أصل للزكاة في أعيانها. أما قيمتها فكما تقدم لنا: لو أنه استثمر التراب لكان عليه من قيمته الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر

كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر فرض الله زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وقد حدد الشرع مقدارها ومحل وجوبها، وأشار إلى ما يمثله أداؤها من صور التكافل الاجتماعي التي ندب إليها الشرع وحض عليها.

أهمية صدقة الفطر

أهمية صدقة الفطر باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المؤلف: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) متفق عليه. ولـ ابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) ] .

زكاة الفطر طهرة للصائم

زكاة الفطر طهرة للصائم بعدما أنهى المؤلف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال بأجناسها المتفق عليه والمختلف فيه جاء إلى هذا الباب العام الشامل، وهو: زكاة الفطرة، ويقال لها أيضاً: زكاة الفطرة، فعلى أنها زكاة الفطر -أي: الفطر من رمضان- حينما يفطر الصائمون يخرجون هذه الزكاة كما بين صلى الله عليه وسلم الغرض منها من جانبين: طهرة للصائم، وكما يقول بعض العلماء: زكاة الفطر بالنسبة إلى الصوم كسجدتي السهو، فسجدتا السهو تجبر ما كان من نقص أو خلل في الصلاة بالزيادة أو النقص، وصدقة الفطر تجبر أيضاً ما كان من الصائم من خلل في صومه، فهناك بعض الأمور التي يغفل عنها الصائم: كلمة بلسانه، أو نظرة بعينه، أو حركة بيده أو نحو ذلك. يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (لا يتم صوم الصائم حتى تصوم جوارحه) ، وكذلك الحديث الآخر: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) . كذلك جاء في الحديث: (الصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله؟ قال: بكذب أو بسباب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والصائم أو المسلم ليس معصوماً، فقد يقع منه بعض تلك الأشياء التي لا تبطل الصوم، ليست بأكل ولا شرب ولا وطء، فصومه صحيح، ولكنه مجروح، فتأتي زكاة الفطر وتعالج تلك الجراح التي وقعت على صومه في نهار رمضان.

صدقة الفطر طعمة للمساكين

صدقة الفطر طعمة للمساكين والجانب الثاني: طعمة للمساكين في يوم العيد كما سيأتي (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) . هذا معنى زكاة الفطر: أي الفطر من رمضان. وسميت زكاة الفطرة، والفطرة: الخلقة {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: خالقها، وقال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم جبلة عليها، وفطرة الإنسان بمعنى: صدقة عن بدنه وخلقته في جسمه، ويؤيد هذا أيضاً الحديث الآخر: (على كل سلامى كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة، ويجزئ عن هذا كله ركعتان من الضحى) . فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل على الإنسان في أعضائه وحركاته صدقة لكل عضو يتحرك، ولعل هذا في مفهوم العصر الحاضر من عوامل الصيانة، فهذا الجسم فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، من فقار الظهر إلى أنامل اليد إلى حركة الفك إلى الأسنان. إلى غير ذلك، وكل عضو يتحرك يحتاج إلى صيانة، فتكون الصدقة هي عوامل الصيانة لجسم الإنسان، وهي شكر لله سبحانه وتعالى على سلامى من بدنه بعد أداء فريضة الصوم. وسواء سميت صدقة الفطر أو سميت صدقة الفطرة، إلا أن بعض العلماء علق تسميتها صدقة الفطر حكماً في وقت وجوبها، لأن معنى صدقة الفطر، أي: الفطر من رمضان في آخر يوم يفطر فيه الإنسان، وذلك عند غروب الشمس، فقال: تجب بغروب الشمس من ليلة العيد. والآخرون يقولون: تجب بطلوع فجر يوم العيد، أي: فالخلاف في مدة الليل فقط من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، هذا محل الخلاف، ويترتب على هذا الخلاف أمر بسيط، وهو: أن من قال بغروب الشمس لو ولد مولود بعد الغروب، أو مات ميت بعد الغروب فمن قال بغروب الشمس قال: إنها وجبت عليه، ومن قال بطلوع الفجر قال: لا تجب عليه؛ لأنه لم يدرك الفجر حياً. المهم أن نتيجة الخلاف نتيجة بسيطة وخفيفة وعلى القول بأن زكاة الفطر تكون متعلقة بصوم رمضان. وجاءت بعض الآثار تفيد أن الصوم معلق بين السماء والأرض بزكاة الفطر، وعلى أنها زكاة الفطرة تكون شكراً لله على سلامة البدن.

فرضية صدقة الفطر

فرضية صدقة الفطر وبدأ المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر الأشياء الثلاثة: التمر والزبيب والشعير. عند قوله: (فرض رسول الله) الفرض: بمعنى القطع، تقول: فرض الحبلُ الحجر بمعنى: حز فيه ولم يفصله، ومنه الفرائض: القطعة من الواجبات، وتقول فرض، بمعنى ألزم، أي: أوجب، فهنا الجمهور يقولون: فرض بمعنى أوجب وألزم، كما تقول: فريضة الصلاة، فريضة الصيام، فريضة الحج؛ بمعنى الوجوب، فمعناه: أوجب صدقة الفطر صاعاً، ويكون في هذا الحديث الحكمان: وجوب زكاة الفطر ومقدارها. وبعضهم يقول: فرض بمعنى: قدر، ومنه الفرائض: أي بيان قدر استحقاق الورثة، كل بحسبه وبفرضه، ولكن الجمهور على أن فرض بمعنى أوجب وألزم، والفرق بين القولين: هو الحكم على زكاة الفطر، أهي فريضة واجبة كزكاة المال والصلوات الخمس أم هي ليست واجبة؟ فمن حمل كلمة (فرض) على ظاهرها، وقال: معناها أوجب، تكون فريضة، والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لهم أقوال في هذه الناحية، والقول المشهور: أن زكاة الفطر واجبة، وواجبة على رأي الجمهور مع اختلافهم في اصطلاح الوجوب، فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد أن الفرض والواجب والركن سواء إلا في الحج، فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر، فالواجب فيه يجبر بدم أو نحوه، والفرض أو الركن لا يجبر ببديل عنه، بل لابد من الإتيان به. والأحناف عندهم فرق عام بين الفرض وبين الواجب في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج، يقولون: هذا فرض، ويقولون: هذا واجب. في كل التكاليف، وهذا اصطلاح خاص بالأحناف، وعندهم أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي الثبوت، فالثابت بخبر قطعي وهو نص القرآن الكريم أو السنة المتواترة يعتبر فرضاً، وما ثبت بأحاديث الآحاد فهذا واجب، أي أنه دون الفرض بشيء. فالأحناف يقولون: صدقة الفطر واجبة، أي: ليست فريضة. والمالكية لهم أقوال وتفصيلات في ذلك، وأما الحنابلة فالثابت عندهم أنها فرض بمعنى الوجوب واللزوم، وكذلك المالكية المشهور عنهم هذا. وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول: زكاة الفطر وجبت أولاً، ثم جاءت زكاة الأموال ثانياً، فبعضهم قال: زكاة الأموال نسخت وجوب زكاة الفطر، ولكن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب: محمول على الإيجاب ولم يرد له ناسخ، وعلى هذا يمكن أن نقول بعد مضي هذا الزمان، وبعد طول الوقت وعمل المسلمين: الكل يتفق على أنها واجبة، سواء قلنا: وجوب الأحناف، أو قلنا: وجوب الجمهور، فهي واجبة ومن لم يؤدها فهو آثم. إذاً: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هو الأصل في هذا الباب، ويبحث في باب زكاة الفطر: فرضيتها -وقد تقدم شيء من ذلك- ومقدارها، وعلى من تجب، وعمن تجب، ولمن تجب، ومتى وجوبها، ومما تجب أيضاً، هذه النقاط الرئيسية -سبع نقاط في هذا الباب- يتناولها الفقهاء، ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختلاف. فقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (فرض رسول الله) أسند الفرض هنا -وهو الإيجاب والإلزام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: في ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع والإيجاب من رسول الله، وإذا شرع أو فرض رسول الله يكون هذا من عند رسول الله، وهو بلغ عن الله، لأنه لا شك أنه لا ينطق عن الهوى، ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب أم ليس له حق؟ له حق في ذلك، والله سبحانه وتعالى أمر بطاعته صلوات الله وسلامه عليه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] . وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن الله، ومنها عن رسول الله متممة لما جاء عن الله، فمثلاً: جاء عن الله سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء الأمهات والبنات والأخوات. {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] بصرف النظر عن النقاش في الأختين بالعقد أو الأختين بملك اليمين، فالجمع بين الأختين محرم بكتاب الله، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تنكح المرأة مع خالتها، أو مع عمتها) ، فالقرآن جاء بالنهي عن الجمع بين الأختين، وهنا السنة زادت: الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، إذاً: هذه المحرمات في السنة زائدة عما جاء في القرآن، إذاً: له صلى الله عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن يندب إلى الفعل؛ لأن له حق التشريع؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى؛ ولأنه إنما هو وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] . وعلى هذا سواء قلنا: إن الأصل في الفرض كان من الله أو من الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك العموم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ثم في بعث معاذ إلى اليمن صرح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله الذي فرض الزكاة، والمقصود هنا في بعث معاذ زكاة الأموال: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، قد يقول قائل: هذا في زكاة الأموال، وهذا الذي قام به معاذ وأبو موسى الأشعري في اليمن، لكن يقال: عموم الزكاة في أموالهم تشمل زكاة الفطر أيضاً لأنها زكاة. إذاً: المشروعية أساساً كانت من الله سبحانه وتعالى، والرسول مبلغ عن الله، سواء ذكر لنا المصدر من الله أو منه صلى الله عليه وسلم، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ثم جاء بالمقدار وبالأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر، وإذا أراد إنسان أن يتكلم في النواحي الجانبية أو الاجتماعية أو الأخوية يجد أن هذا التشريع الكريم قوى عوامل ارتباط المسلم بأخيه؛ لأنه العامل الذي يجمع بين طبقات المجتمع على اختلاف أنواعها، فنجد التعميم والشمول: الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير، الكبير، فهي أشمل من زكاة المال في من تجب عليه، فكل مسلم عليه زكاة الفطر، ولو كان رقيقاً لا يملك شيئاً، فسيده يدفع عنه، والصغير لا يملك شيئاً فوليه يدفع عنه. وقد يقول بعض القائلين: هي طهرة للصائم، والصغير ليس عليه صيام، فلماذا نخرج الزكاة عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه لا زكاة عليه، ولكن نقول: ليست المهمة طهرة للصائم الفعلي فقط، بل إنها لعامة أفراد الأمة المسلمة: الذكر، الأنثى، الحر، العبد، الصغير، الكبير؛ لشمول العطاء. وإذا نظرنا إلى المجتمع الفقير والغني، الأغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، والفقراء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، فتكون زكاة الصغار من الأغنياء تقابل الصغار من الفقراء، ويكون الشمول عاماً، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله عند قوله: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .

الصاع النبوي والمسائل المتعلقة به

الصاع النبوي والمسائل المتعلقة به أما قوله صلى الله عليه وسلم: (صاعاً) فالصاع وحدة مكيال، وهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه المد، وهو ربع الصاع، والصاع هو المكيال العام، وما كان يوجد أنواع من المكاييل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذين النوعين: الصاع والمد النبويين. والصاع كان معروفاً ومتداولاً، ولا حاجة إلى بيان الرسول لكميته أو مقداره، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، فلا حاجة إلى التعريف بأن يقول: بيتي يقع في الشرق، المنبر يقع في الغرب، طوله كذا وعرضه كذا لا حاجة لهذا؛ لأنها معروفة بالتواجد والمشاهدة والحس، فكذلك الصاع، ولكننا مع طول الزمن وتغير الأحوال أصبحنا الآن قد لا نجد الصاع، وقد لا يعرفه إنسان، فكيف نعرف هذا؟ سبق أن نبهنا مراراً بأنه واجب على كل مسلم، أو كل حارة، أو كل بيت كبير أن يوجد الصاع لديهم؛ لأنه على هذا الصاع تتوقف أحكام كثيرة: الإطعام في الكفارة، الفطر في رمضان، أنصبة الزكاة، خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة الحبوب والتمور؟ وكيف نعرف مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف الإطعام في الكفارات على من كفارته الإطعام؟ فهذه أمور شرعية يكلف بها الإنسان ويضطر إليها، فلابد أن يكون عند كل شخص صاع، وخاصة في المدينة؛ لأنها الأصل الذي يرجع إليها عامة بلاد المسلمين، الذي في الأندلس، والذي في أوروبا أو في أي جهة كانت، وأراد أن يطبق الشريعة الإسلامية فيما يجب عليه من ناحية المقدار بالمكيال، فإنه سيأتي ويسأل أهل المدينة: ما هو الصاع عندكم يا أهل المدينة؟ ولهذا لما اختلف أبو يوسف مع مالك رحمهما الله، وذلك حين جاء أبو يوسف من العراق إلى المدينة وسأل عن الصاع؛ لأن المدينة هي الأصل في ذلك، فالمكيال مكيال المدينة، والوزن وزن مكة، ولهذا ذكرنا سابقاً ضرورة توحيد المكيال والميزان في الدولة، سواء اتفقوا على الصاع أو على الرطل أو على الأوقية -أي: الكيلو- يجب أن تكون الموازين والمكاييل موحدة في الدولة، حتى لا يختلف الناس. ولما جاء أبو يوسف إلى المدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً: كم الصاع عندكم؟ قال: خمسة أرطال وثلث، أي: بالرطل العراقي. قال: لكنه عندنا ثمانية أرطال. يعني: هناك فرق زائد، وهو رطلان وثلثان زيادة، فبماذا أجابه مالك؟ طلب من الحاضرين أن من كان عنده صاع في بيته يخرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الآتي ويخرج من تحت ردائه مكيالاً ويقول: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الزكاة به على عهد رسول الله، واجتمع عند مالك في الحلقة نحو خمسون صاعاً، وأبو يوسف حاضر وشاهد، وما هناك اتفاق ولا تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها، فهي موجودة قبل الطلب، وهذا يأتي من يمين وهذا يأتي من يسار، وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته، فوجد أبو يوسف الأمر قطعياً، وهذا هو مدلول التواتر. فيقول أبو يوسف: فنظرت في تلك الصيعان فوجدتها متحدة. يعني: في مقاس واحد، فأخذت واحدة منها -لأن الواحد يغني عن الجميع- فذهبت إلى السوق فعايرته بعدس الماش فإذا وزنه خمسة أرطال وثلث. ولما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد. قالوا: وما هو؟! قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث. قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: خالفت الإمام أبا حنيفة رحمه الله، فقال: رأيت أمراً لم أجد له مدفعاً. وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء الحديث: إن التواتر يفيد العلم بخلاف الآحاد فإنه يفيد غلبة الظن، وغلبة الظن يمكن أن تنفيها، ويمكن أن تشكك فيها، لكن علم اليقين لا يمكن أن تدفعه عن نفسك، لأنه علم ضروري. ومعنى (ضروري) : لو أردت أن تدفعه عن مخيلتك لم تستطع، هذا رجل وتلك امرأة، لا تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بين الرجل والمرأة؛ لأنها حقيقة واقعية. وهنا: الصاع كان معلوماً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره دون أن يتعرض إلى مقداره، وظل الصاع موجوداً دائماً إلى عهد بني أمية فجعلوا صاعاً للسوق، يسع ثلاثة آصع من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، والصاع النبوي أربعة أمداد، وهؤلاء جاءوا بمد يعادل ثلاثة صيعان، يعني: اثني عشر مداً بالمد النبوي، فاختلفت المكاييل. ثم لا زال الناس يتوارثون الصاع في المدينة إلى عهد قريب لا يزيد عن عشر سنوات، وكان هو وحدة المكيال في السوق في البيع والشراء، إلى أن دخل تلاعب في التمور في الأسواق مع الحجاج، فجاء الأمر بإبدال الكيل إلى الوزن، وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي المقدار الذي يتبايع عليه الناس، سواء كان المبيع الأصل فيه الكيل كجميع الحبوب والتمور، أو كان الأصل فيه إنما هو الوزن فهو على طريقه. وجاء عن العز بن عبد السلام رحمه الله أنه قال: يجب على الأمة اتباع ولي أمرها في أربعة أمور: وحدة الكيل، ووحدة الوزن، ونوعية النقد، وأمر الحرب إعلاناً أو هدنة: فإذا اختار ولي أمر أمة نوعاً من المكيال سواء الصاع النبوي، أو مكيالاً يسع صاعين أو ثلاثة، أو غير ذلك، وجب اتباعه، وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى الأمة أن تمتثل بذلك لتحقيق وحدة الوزن في الدولة، وهكذا أصبحت كل دولة لها وحدة مكيال تتعامل به في الأسواق، وهذا لا غبار عليه، يبيع الناس كيف شاءوا، إذا قيل: مقدار هذا الوعاء يسع خمسة آصع بعشرة ريال، وجيء بنصفه وبربعه واعتبرت هذه وحدة مكاييل تجزأ بالأنصبة نصف وثلث وربع. إلخ فلا مانع من ذلك؛ لأنها معاوضة سلعة بمال، ولكن إذا جئنا إلى الحكم الشرعي فلابد من تعيين المقدار الذي عينه الشارع، والشارع عين بالصاع. ولهذا نحث الإخوة على أن يكون الصاع موجوداً في بيوتهم، بل إن أهل المدينة إلى العهد القريب -كما قلنا- كانوا يجعلون الصاع في بيوتهم، وعلى موضع الدقيق أو البر أو الأرز يغرفون به التماساً لبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) فكان بدلاً من أن يأتي بإناء يغرف به أو يغرف بيده، يأتي بالمد ويغرف به من الدقيق إلى الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام، ويقول: اللهم بارك لنا في مدنا، فاغترافه بالمد يلتمس بركة دعوة رسول الله. ولما أوقف التعامل بالصاع والمد تغافل الناس عن ذلك، وأصبحوا يتعاملون بالوزن على وحدة الكيل كوحدة مئوية -يعني: ألف جرام- وأصبحت وحدة عالمية يتعامل بها العالم كله أو يعرفها العالم كله. والوقت الحاضر بالبحث عن أجرام الصيعان التي كانت موجودة، ووجود بعض النوادر عن بعض من يحتفظ بها، قد يقع بعض الاختلاف، وهناك لجنة المواصفات في الرياض عملت مسحاً لجميع أطراف المملكة، وأخذت نماذج مما يوجد من الصيعان، فتقاربت؛ لأن أصل التقدير التقارب. فالصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفين متوسطتين لإنسان متوسط، وطبعاً لا يمكن أن تتعادل جميع الحفنات بالجرام، أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها في كفة، ثم حفنت مرة أخرى في كفة ثانية ستختلف، إذاً: المسألة تقريبية، والصيعان التي وجدوها في مناطق المملكة متقاربة، تختلف في مائة جرام في خمسين في مائة وخمسين في مائتين جرام، يعني: حفنة يد لا أقل ولا أكثر. فمما وجدناه بالتجارب أن مكيلة الصاع نوعان: مكيلة تملأ إلى الحافة وتزيد فيها التسنيم الذي فوق حافة الصاع، كالشكل الهرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق، فتبدأ قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إلى أعلى على شكل الهرم، هذه التي فوق فتحة الصاع على شكل الهرم تختلف باختلاف فتحات الصيعان، فهناك صاع يكون طويلاً وفتحته قطرها (5 سم) ، فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغيرة، ومساحة المثلث -كما يقولون- نصف القاعدة في الارتفاع، فإذا كانت فتحة الصاع كبيرة سيكون التسنيم فوق الفتحة كبيراً بلا شك، إذاً: العبرة هنا في التعبير أو في التعيير أو في المعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك الزيادة، وبتجربة ذلك: أنواع الحبوب يختلف وزنها، كما يقول الفقهاء: فيوجد فرق بين التمر وبين الحمص، فليس الحمص في رزانة وثقل التمر، لأن التمر أثقل. فقالوا: هناك أمور تقديرية؛ لأن بعض الحبوب أرزن وأثقل من بعض، وكذلك بعض الحبوب يكون مرصوفاً، وبعض الحبوب يكون متجافياً -فيه فجوات وفراغ- فعندما تكيل صاعاً من الشعير وتكيل صاعاً من الأرز، هل فجوات الأرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات حبات الشعير، أم أن حبات الشعير فيها فراغ أكثر؟ فيها فراغ أكثر، إذاً: يرجع إلى الرزانة وإلى تلاصق الحبات التي تكيلها. إذاً: المسألة تقريبية، ولكن لو كان التعيير بالماء، فالماء وحدة تتفق في المقياس وفي الوزن، أي: المقياس التعكيبي وهو الجرم، والوزن بالجرام، فبالتجارب وجدنا أن الصاع الذي يتفق مع غلبة الظن بالصاع النبوي الذي كان يتعامل به في المدينة المنورة، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله إذا صنع الصاع من الخشب، ختم عليه إذا عوير بالصاع المعترف به عند العلماء، ولذلك كانوا يقولون: الصاع المختوم. يعني: الذي ختم بختم الدولة بأنه مطابق للصاع الشرعي. الآن وجدت صيعان من الحديد، ومن الزنك، ومن النحاس، فبتعيير تلك الصيعان التي صنعت جديداً على الصيعان التي وجدت قديماً مختومة، وجدنا سعة الصاع بالماء ثلاثمائة وثلاثة آلاف جرام، فإذا كنا وجدنا أي مكيال: (جلن) ، أو علبة حليب، أو علبة سمن، وكان سعتها بالماء ثلاثة كيلو فهذا أول وزن الصاع، فثلاثة كيلو أحياناً يكون فيها زيادة مائة جرام أو خمسين جراماً على ما أظن، وهذا أمر تقريبي، ومساحتها بالعدس اثنين كيلو وستمائة جرام، فإذا وجدنا أي ظرف، أو أي وعاء يحمل من الماء ثلاثة كيلو ومائة جرام على التحديد فهذا هو الصاع، ثلاثة كيلو وخمسين جراماً، ثلاثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً، فلا يضر، والحق المعتدل: ثلاثة كيلو من الماء، وإذا كان يحمل من العدس خاصة -لأنهم يقولون العدس المجروش يتلاصق ولا

الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر

الأصناف التي تُخرج منها زكاة الفطر وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من الأصناف التي سميت في الحديث هو مخرج زكاة الفطر، والحديث جاء فيه تمر، وجاء فيه زبيب، وجاء فيه طعام، وجاء فيه شعير، وجاء فيه أقط، وجاء فيه دقيق، وجاء سويق، كل هذه المسميات يخرج منها زكاة الفطر. ثم نجد بعض الناس يتكلم على الدقيق أو الأقط، ومنهم من يقول: إن إخراج الأقط يكون إذا كانت الزكاة في البادية؛ لأن أهل البادية هم الذين يستفيدون منه دون أهل الحاضرة، ويلاحظ عند الدقيق أن يكون الكيل زائداً عن الحب؛ لأن الحب إذا طُحن يزيد في مكياله، وإن كان لا يزيد في وزنه، لكن في المكيال قد يختلف، فإذ كان سيكيل دقيقاً فإنه يزيد في المكيال ما يعوض الفرق بين الحب المضغوط وبين الدقيق المنفوش. والله تعالى أعلم.

إخراج الزكاة من غالب قوت البلد

إخراج الزكاة من غالب قوت البلد وهنا مسألة: هذا الحديث نص على أعيان بذاتها، إذا لم توجد هذه الأصناف أو وجد غيرها معها، فهل يتعين إخراج زكاة الفطر من المسميات: تمر، زبيب، شعير، قمح، أقط، دقيق، سويق، أو يجوز إخراجها مما يأكل منه الناس؟ نجد الفقهاء يقولون: تجب من غالب قوت البلد، فإذا وجد صنف جديد لم يكن موجوداً من قبل، فمثلاً: الآن وجد الأرز والذرة والدخن، وكل هذه مطعومات، فإذا لم توجد تلك الأصناف المسماة في الحديث فهل تجزئ من هذه الأصناف الجديدة أم لا؟ الجمهور على إجزائها؛ لأنها تتفق مع الأصناف الأخرى في أنها قوت المواطنين، وعلى هذا يجوز إخراج الأرز، بل هو الآن أكثر وأغلب أنواع الأقوات الموجودة، ويجوز إخراج الذرة إذا كانت تستعمل في الخبز، وكذلك الدخن، وكل ما استجد من حبوب تكون قوتاً للناس ومن غالب قوت البلد.

إخراج الزكاة من غالب قوت المزكي

إخراج الزكاة من غالب قوت المزكي وبعضهم يقول: من غالب قوت المزكي، فإذا كان المزكي يأكل دُخناً، ويوجد البر والشعير والذرة والتمر، فهل يتعين أن يخرج مما يأكل منه؟ قالوا: إن كان يأكل من الأدنى وترك الأعلى شحاً وبخلاً لم يجزئه إلا الأعلى، وإن كان يأكل ذلك لنزوله في البلد فهو كسائر الناس، فإنه يجزئ ذلك. وابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يتحرى إخراجها من التمر؛ لأنه عنده أفضل من غيره، وهو في الواقع طعام جاهز لا يحتاج إلى طحن كالبر، ولا إلى عجن وخبز كالحبوب، وكما قيل: (هو طعام المسافر، وفاكهة المقيم، أو: طعام الفقير وفاكهة الغني) فالتمر طعام جاهز، ولهذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزكي كل سنة بالتمر إلا سنة واحدة أعوز فيها التمر فأخرج البر.

حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر

حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب) ] . قول أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ، أي: وهذا هو زمن التشريع؛ لأنه بإشراف وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وهذا من ميزة المدينة وسكانها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأنهم يأخذون مباشرة عن رسول الله، أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول الله، ثم بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، ثم بعد ذلك التابعون لهم بإحسان، وهلم جرا. فهنا يذكر الشعير مع الحنطة (الطعام) ، وأنه يخرج منها صاع، إذاً: هذا العمل يخالف ما رآه معاوية، ولكن لا ينبغي أن نكثر القول على معاوية؛ لأنه لم يقل: (سمعت رسول الله) فيتعارض مع قول أبي سعيد أو مع قول غيره، وإنما قال: (أرى) ، وما دامت القضية قضية رأي، والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه، فإذا وجدتم غيره أفضل فأنتم ترفضونه، وقد وجدنا هذا الأثر عن أبي سعيد، وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من البر الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه يجزئ، وهذا كاف في رد الرأي الذي رآه معاوية بما ذكره غيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف: [وفي رواية: (أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولـ أبي داود: لا أخرجه أبداً إلا صاعاً] . هذا الأسلوب له دلالته البلاغية، يقول: (أما أنا) ، أي: أنا أتحدث عن نفسي، إذاً: هناك من يتحدث عن غيره. أما قوله: (أما أنا) فهو رد على رأي معاوية لأنه يقول: أنا أرى أن نصف صاع من البر يكفي، أي: فأنت ترى نصف صاع من البر يكفي (أما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها زمن النبي صاعاً) . إذاً: نعلم من هذا الأسلوب (أما أنا) بأن هناك رأياً مقابل رأي، وهذا المقابل مغاير، إذاً: تقابل رأي برأي، وأحد الرأيين مجرد رأي واجتهاد، والرأي الثاني مبني على العمل الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذاً: لا شك أننا نأخذ برأي أبي سعيد الخدري، وهذا لم يعد رأياً، بل أصبح قولاً ينقله وخبراً يسوقه إلينا، كأنه يقول: لا تأخذوا برأي معاوية؛ لأننا كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم نخرج صاعاً، لكن تأدباً مع ولي الأمر معاوية فلا ينبغي أن يجابه بهذه الصيغة ولا بهذا الأسلوب، ومن أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة. فكأنه قال: يا معاوية! لك رأيك، ويا من أخذتم برأيه لكم آراؤكم، ولكن أنا في خاصة نفسي، ولا أملك إلزاماً عليكم، ولا أطاوعكم فيما أعتقد خلافه. إذاً: هذا المنهج يعطينا طريقة المغايرة، وطريقة الإنكار بأدب وبحكمة دون تجريح أو مجابهة، فقال: أما أنا، أي: في حد نفسي، والذي يريد أن يأخذ بكلامي فهو حر، والذي يريد أن يأخذ برأي معاوية فهو حر.

حديث ابن عباس في زكاة الفطر

حديث ابن عباس في زكاة الفطر قال المؤلف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم] .

زكاة الفطر تجبر الصوم الناقص

زكاة الفطر تجبر الصوم الناقص حديث ابن عباس هذا رضي الله تعالى عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) . إذاً: صدقة الفطر لها مهمة مزدوجة، مهمة للمعطي ومهمة للآخذ، فمهمتها مع من يعطيها سلامة صومه، وجبر ما عساه قد طرأ عليه من نقص، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم جنة ما لم يخرقه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: بسباب أو فسوق أو شتام أو نحو ذلك) . إذاً: الصوم قد يكون درعاً سابغاً سليماً وافراً، وقد يكون مخرقاً يحتاج إلى ترقيع وتلحيم، فتأتي زكاة الفطر وتلحم هذه الثقوب أو تصلح هذا الفساد الذي طرأ على الصوم من لغو أو رفث. فالزكاة من حيث هي عبادة تجبر النقص، وتكفر المعصية؛ لأن ما خرق جنة الصوم إلا بعصيان، والعصيان يحتاج إلى تكفير، فكانت زكاة الفطر تكفر أخطاء الصائم، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] . وهكذا كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بربط نافلة الصلاة مع فريضتها، وكذلك نافلة الصوم مع فريضتها، ويأتي هذا العامل الجديد وهو زكاة الفطر مع الصوم وهي من غير نوع الصيام، فنافلة الصلاة كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حينما يحاسب العبد على الفريضة في الصلاة ويوجد فيها نقص أو خلل، يقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب. فيقول: اجبروا فريضته من نوافله) . إذاً: هذه النافلة جبرت نقص الفريضة من نوعها، وجاء خبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه: (وكذلك الصيام) ، يعني أنه ينظر في فريضة الصيام، فإذا كان فيها نقص سأل المولى سبحانه الملائكة -وهو أعلم بذلك-: هل له من نافلة في الصوم؟ فيقولون: بلى. فيقول: اجبروا فريضته من نوافله. وسيأتي في نافلة الصدقة المقارنة بينها وبين الفريضة، وفي الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وسيأتي التنبيه عليه في باب صدقة التطوع.

كيف تكون الفطرة طهرة للصغير وليس عليه صوم؟

كيف تكون الفطرة طهرة للصغير وليس عليه صوم؟ قوله: (طهرة للصائم) يفيد أن زكاة الفطر تعمل لمعطيها أعظم نعمة عليه، وهي: أنها تجبر صومه مما يكون قد ألم به. وهنا يقول بعض العلماء: صدقة الفطر طهرة للصائم، وأول حديث سمعناه في هذا الباب: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى) فالصغير ليس عليه صيام؛ وفي الحديث الآخر: (طهرة للصائم) فماذا تفعل زكاة الصغير؟ ولماذا نزكي عن الصغير زكاة الفطر؟ فأجابوا عن ذلك بأنه كما يوجد صغير غني لم يصم، هناك صغير فقير لم يصم يحتاج إلى أن يطعم، وجعل الله سبحانه وتعالى على ولي هذا الصغير القادر وطعمة للصغير المحتاج الذي يعوزه الطعام، ونحن قلنا: تسمى زكاة الفطر الذي هو ضد الصوم، وتسمى زكاة الفطرة التي هي الخلقة، فعلى تسميتها زكاة الفطرة فالصغير مفطور ومخلوق، عليه شكر النعمة في سلامته، وفي وجوده، والذي يؤدي على الصغير وليه، إذاً: لا اعتراض على ذلك، وتعميم التشريع يكون على الصغير والكبير، وهو له حظ أيضاً في قوله: (طهرة للصائم) . فإذا زكى ولي الصغير عن صغيره، وصغيره ليس يصوم ولا يحتاج إلى طهرة صومه، فيعود أثر هذه الفطرة وهذه الزكاة على ولي الصغير، والله تعالى أعلم.

علاقة الزكاة بتطهير الغني والفقير

علاقة الزكاة بتطهير الغني والفقير قال: (طهرة للصائم وطعمة للمساكين) أي: مقابل ما يحصل عليه المتصدق يحصل عليه الآخذ المتصدق عليه، فتكون الفائدة مشتركة بينهما، وطعمة المسكين في ذلك اليوم هي ما جاء بقوله: (اغنوهم) . وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجد هذه الازدواجية في مهمة الزكاة العامة وهي زكاة الأموال؛ لأن المولى سبحانه وتعالى يقول لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] فاسم الصدقة شمل زكاة المال، وشمل صدقة الفطر، فماذا تصنع هذه الزكاة؟ قال: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] قالوا: ((تطهرهم وتزكيهم)) البعض يقول: تطهر الأغنياء في نفوسهم، وتزكي أموالهم، والآخرون يقولون: لكل واحدة من هاتين الكلمتين جهة، فعندما ينظر الفقير إلى مال الغني، ويذهب الغني ويجني ماله، وليكن مثلاً مما تنبت الأرض، وذهب صاحب البستان وجذ نخله، وأخذ التمر إلى مخازنه، والمسكين يتطلع إليه ولم يجد تمرة واحدة منه، فالذي يحدث في نفس المسكين بغريزته وطبيعته أنه يحسده ويحقد عليه؛ لأنه يرى بعينه ما يتمتع به هذا الغني مما أعطاه الله، وهو والله ما أنبت النخلة حينما غرسها، ولا أطلع طلعها حينما أطلعت، ولا أنضج ثمرتها حينما طابت، ولا أتى بثمارها وتمرها، بل الله الذي صنع له كل ذلك وهو نائم في بيته، نائم في ظل النخلة وهي تعمل كل ذلك بإرادة الله. فهذا الفقير الذي بجانبك هو عبد لله مثلك، صلته بالله كصلتك، وهو مخلوق مثلك تماماً فلماذا لا تفيض عليه مما أفاض الله عليك؟! فإمساك الغني لماله وعدم إخراج زكاته، والفقير يرى بعينه، يجعله يحقد عليه ويحسده؛ ولهذا جاءت المبادئ الإسلامية تلزم الغني أن يشرك الفقير في ماله بقدر معلوم وهو الزكاة. فهنا الفقير إذا تعطلت فريضة الزكاة حقد على الغني، وتدنس الغني بحق الفقير الذي في ذمته، وأصبحت الجريمة في الجانبين، فتأتي الزكاة وتصلح هذا الفقير وتطهره من حقده وحسده ونظرته وعداوته إلى الغني؛ لأنه أخذ حقه وافياً، فيقف ويقول: اللهم بارك له فيما أعطيته، اللهم بارك له في ثمره وفي ماله. ((وتزكيهم)) أي: وتنمي أموال هؤلاء، ولقد علمنا -يا إخوان- وجاءتنا الأخبار الصادقة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة بعينها، بل نجد القرآن الكريم يذكر قصة أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ماذا كانت النتيجة؟ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم:19-24] فهؤلاء منعوا الصدقة، فماذا كانت النتيجة؟ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] ، إلى أن قال: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:26-28] . وهناك في السنة النبوية: قصة الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض فيسمع صوتاً في السحاب: (اذهبي فأمطري في مزرعة فلان) ، فتطلع إلى أن يرى من هو فلان الذي يسوق الله السحاب إلى مزرعته لتسقيها، ولأي شيء؟ فيسير في ظل السحابة، فإذا بها تأتي إلى حرة وإلى مكان متسع فتمطر، والماء يتجمع ويتحول ويمشي في طريقه ويصب في مزرعة فلان، وفلان قائم يحول الماء بمسحاته في الأحواض، فقال له: السلام عليك يا فلان. نظر إليه فلان هذا فلم يعرفه، قال: وكيف عرفت اسمي وأنا لم أعرفك؟! قال: أخبرني أولاً ماذا تفعل في مزرعتك هذه؟ قال: ولماذا تسأل؟ قال: سمعت صوتاً في السحاب. وأخبره بالخبر، قال: فجئت حتى وصلت إليك وعرفت اسمك من صوت السحاب. قال: إن كان الأمر كذلك فإني عندما أحصد أقسم الغلة ثلاثة أقسام، قسم أحتفظ به لأرده فيها، وقسم أدخره لنفسي وأهلي سنة، والقسم الثالث أتصدق به. قال: بهذا سقيت. فهنا المسكين إذا لم يأخذ شيئاً فنار حقده في قلبه تحرق هذا المال؛ لأن فيه حقاً له، وإذا أخذ حقه بات ليله يحرس مال جاره؛ لأنه اطمأن أنه سيأتيه منه الرزق. إذاً: هي طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وهما متقابلان، وكذلك هناك: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .

وقت وجوب زكاة الفطر

وقت وجوب زكاة الفطر قال: [ (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) . رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم] . هذا القسم من الحديث أشكل على كثير من الناس، هي طعمة وهي طهرة، ومع ذلك قال: (فمن أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة، ومن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات) فهذه صدقة والأخرى صدقة! لكن قال: صدقة من الصدقات، يعني: كمن تصدق في أي وقت كان وبأي شيء كان قليلاً أو كثيراً، فإنها خرجت عن خصوص فريضة الزكاة إلى مطلق الصدقة، فكأن صاحبها متطوع بها، ومعلوم أن هناك فرقاً بين صدقة الفرض كما تقدمت الإشارة إليه: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه) وإذا كانت خرجت عن حدود الفرض دخلت في النوافل، وهي صدقة من الصدقات. وهل تبرأ ذمته من فرضية زكاة الفطر أم لا؟ البعض يقول: نعم، لأنه أداها، ولكن أجرها لا يحتسب له كغيره الذي أداها في فترة الفرضية، إنما تحسب له صدقة من الصدقات التي تحسب الحسنة فيها بعشر أمثالها، أما كونها فريضة فلا يعلم أجرها إلا الله. وهل تسقط الفريضة أم لا؟ الأكثرون على أنها تسقط فريضة زكاة الفطر. وبعض العلماء تباعد وقال: زكاة الفطر لم تؤد وهي باقية في ذمته؛ لأن وقتها خرج، ولا يجزئ عنها صدقة من الصدقات، إذاً: يترك إخراجها؛ لأنها صدقة من الصدقات إن شاء تصدق وإن شاء أمسك! لكن الأكثرين على أنه يخرجها، ولو تأخر في إخراجها إلى ما بعد العيد فهي دين في ذمته وعليه أن يخرجها، مع أنه لن يحصل على الأجر كما لو أداها قبل صلاة العيد في وقتها. والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [1]

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [1] حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من أعظم المواعظ التي تحث على الخير، وقد شمل هذا الحديث الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة، وقد بسطه العلماء بالشرح، وبينوا فوائده وآثاره في صلاح الأمة والفرد.

مقدمة باب صدقة التطوع

مقدمة باب صدقة التطوع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب صدقة التطوع] . هذا الباب الجديد في صدقة التطوع، والذي قبله صدقة الإلزام، أي: ليس فيها تطوع ولا اختيار، لكن هنا يتطوع بها. وقبل الكلام على هذا الباب ننظر في معنى ومغزى هذا العنوان: فالإنسان من حيث هو يرغب في المال، ويحرص على جمعه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:19-20] فالإنسان حريص شديد الحرص على الدأب في جمع المال، فإن كان يخاف الله تحرى الحلال، وإلا فلا يبالي من أين أتى، فعلى أنه يتحرى الحلال ويجمع المال (لو كان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً) ، فإذا ما حصل على المال وتوفر عنده يكون شحيحاً به، يضن بإخراجه، فجاءت الفريضة في زكاة المال وصدقة الفطر، وألزمته رغماً عن شحه، فإذا أدى الواجب عليه برئت ذمته وطهر ماله، ولكن هل الإنسان يقف عند أدنى الحد؟ الواجب هو أدنى الحد في بذل المال، لكن الإنسان يسمو ويتعاطف مع أوامر المولى سبحانه وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ فهنا تأتي صدقة التطوع لأنها من دافع الإنسان نفسه، أي: من دافع إيمانه ورغبته في الخير، وإيثاره الآخرة على الدنيا؛ لأنه يدفع هذه الصدقة متطوعاً. فالأولى أخرجها فريضة عليه: (فإن أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت! وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا) يعني: يخرجها غصباً عنه، لكن في صدقة التطوع ليس هناك جبر عليه ولا غصب له! هل هناك عقوبة على تركها وعدم فعلها؟ لا، لكن هناك الرغبة في الأجر، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتعامل مع الله سبحانه وتعالى. وقدمنا مراراً بأن قانون الحياة يمشي على مبدأ المعاوضة: خذ وهات، ثمن وسلعة، فتتبادل مع غيرك وتتعاون معه، أما الصدقة إذا أخرجتها فأين العوض عنها؟ قد يبلغ الأمر بالإنسان السوي المؤمن بالله أنه يخفي صدقته على المسكين، بل يخفيها على نفسه كما سيأتي في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وهناك الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .

صدقة التطوع دليل على صدق الإيمان

صدقة التطوع دليل على صدق الإيمان إذاً: صدقة التطوع عنوان على أن المتصدق موقن بالأجر من الله، وموقن بالعوض عند الله، وعلى قانون المعاوضة المادية كذلك؛ لأنه يدفع التمر أو يدفع الأرز ويحتسب الأجر عند الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فإنه يأخذ العوض هناك، فهو رصيد مضمون ينفعه يوم يفر المرء من أخيه، وأمه أبيه، فيجده عند المولى سبحانه مضاعفاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة فتقع في كف الرحمن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه -أي: ولد الفرس- حتى تكون مثل جبل أحد) . والصدقة والصدق مادتهما اللغوية واحدة: (صدقة، تصدق) ، وتاء الافتعال هذه زائدة، فالصدقة في التطوع دليل صدق المسلم في إيمانه بالله؛ لأنه يدفع الثمن الآن ويترقب العوض فيما بعد، ولا ينتظر ممن أعطاه معاوضة، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ولا شكورًا} [الإنسان:9] أي: ولو جازيتمونا فإلى أي حد يكون الجزاء منكم؟ عبد الرحمن بن عوف لما جاءت تجارته ودقت طبولها، فجاء التجار وقالوا: نعطيك (10%) زيادة في الربح، فرفض! (50%) فرفض، (100%) فرفض وقال: أعطيت أكثر!! قالوا: نعطيك الضعف ضعفين، قال: أعطيت أكثر!! قالوا: نحن تجار المدينة، وليس في المدينة من يعطيك أكثر من ذلك، فمن الذي أعطاك أكثر من ذلك؟ قال: الله أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أعطاني عشرة أمثال قيمتها، فالعير وما تحمل في سبيل الله!! إذاً {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] لأنكم لا تستطيعون أن تجازونا كما يجازي الله سبحانه.

شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)

شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله) قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -فذكر الحديث وفيه-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه] . تقدم التنبيه على منزلة الصدقة والتطوع بها، وأن ذلك من منطلق الإيمان واليقين بما عند الله، وأن المتصدق ينتظر العوض من الله سبحانه، ولا يرجو ممن يتصدق عليه جزاءً ولا شكوراً، كما نوه بذلك سبحانه بقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ؛ لأنه تصدق لوجه الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، وجاءت الأحاديث متعددة في أن الصدقة تعود على المتصدق بأشياء عديدة: منها ما تقدم في زكاة الفطر أنها: (طهرة للصائم) ، وكذلك ما جاء في الأحاديث الأخرى أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب) . وجاءت أيضاً أحاديث أخرى تحث على الصدقة منها: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) ، والآثار في هذا الباب كثيرة.

منزلة هذا الحديث عند العلماء

منزلة هذا الحديث عند العلماء وهذا الحديث الذي بدأ به المصنف في هذا الباب يعتبر من جوامع الكلم، ومن أمهات الأحاديث النبوية الشريفة، قال عنه ابن عبد البر: إنه أعظم حديث جاء في الحث على عمل الخير، والمتأمل لهذا الحديث في أسلوبه، وفي موضوعه يجد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على أسبابها، ومن نظر في موضوعه يجده قد شمل الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة. (سبعة يظلهم الله) : هذا اللفظ المتفق عليه، أما بالنسبة إلى العدد فإنه مما قد أُلِّفَ فيه، وقد كتب فيه السخاوي والسيوطي رحمهما الله، واطلعنا على رسالة بعنوان: مُنِيْلُ البَشِّ لمن يظلهم الله في ظل العرش، للشيخ مائل عينين وهو متأخر. ويقولون: إن السبعة هي نهاية العدد، وما بعدها مكرر لها أو لأجزائها، وعني شراح هذا الحديث بكل من جاء فيه نصٌ بأنه ممن يظلهم الله تحت ظله، حتى أوصلوها إلى سبعين صنفاً، ولكن قال المناوي: الزائد عن السبعة المتفق عليها إما داخلة تحت هذه الأصناف السبعة، وإما أن أسانيدها لا تنهض للاحتجاج بها. أيها الإخوة! هذا الحديث شامل لطبقات المجتمع من الشاب وبقية الأفراد إلى الإمام العادل، كما أشرنا: من القاعدة إلى القمة، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نجدها قسمين: فقسم مختص بمادة وموضوع، وهذا غالباً في أحاديث التشريع في الحلال والحرام، وفي الواجب والمندوب. وقسم يشمل عدة أصناف، وإذا وجدنا حديثاً يشمل أكثر من معنىً واحد فبالتأمل نجد أن هناك روابط بين تلك الموضوعات الذي انتظمت في سلك ذلك الحديث! فمن أحاديث الأحكام ما تقدم في الزكاة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، فهذا حديث مستقل بموضوع واحد، وهو تقدير النصاب في الحبوب، وحديث: (في كل أربعين شاة شاة) . ولكن الأحاديث التي تشمل العديد من المواضيع غالباً ما تكون للتوجيه والموعظة والإرشاد، ومن أهمها هذا الحديث، وإني قد مكثت زمناً طويلاً أبحث مواضيع هذا الحديث، وأخيراً جمعت فيه رسالة، وشدني إلى الكتابة فيه قول ابن عبد البر رحمه الله: لو أن كل صنف من هذه الأصناف السبعة أفرد برسالة لكان حرياً بذلك، فجمعت لكل موضوع بحثاً مستقلاً بقدر ما في وسع الإنسان في هذا الموضوع، وحرصت أن يكون معيناً للطالب إذا أراد أن يعظ أو يذكر أو يدعو إلى فضائل الأعمال الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف، وكذلك الإنسان الذي يريد أن يتزود، أو يتثقف، أو يوسع مداركه في مدلول هذا الحديث. هذا الحديث يشتمل على المباحث الآتية: أولاً: لفظه. ثانياً: أسانيده. ثالثاً: ترتيبه. رابعاً: معاني أصنافه. أما سنده: فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن، وذكر المؤلف هنا أنه متفق عليه، واكتفى بذلك، وهو موجودٌ أيضاً في موطأ مالك وعند أبي داود والنسائي وابن ماجة، وكل هذه الصحاح قد أوردت هذا الحديث. وبالمقارنة بين ألفاظه في هذه المراجع نجد مغايرات يسيرة، وكذلك في ترتيبه تقديم أو تأخير، واللفظ الذي ساقه المؤلف هنا: هو لفظ البخاري رحمه الله، ولفظ مسلم يتفق معه إلا أن مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ؛ وفي رواية أخرى: (رجل تصدق بشماله -أو رجل تصدق بصدقة- فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وأسند الإنفاق للشمال بدلاً من اليمين، وأعتقد أن هذا يكون أدعى وأبلغ في معنى الإخفاء، وقد نبهنا عليه مراراً.

من يظلهم الله في ظله غير السبعة المذكورين في الحديث

من يظلهم الله في ظله غير السبعة المذكورين في الحديث وموضوع الحديث هؤلاء السبعة، وقد نظمهم أبو شامة في بيت واحد في قوله مشيراً إلى الحديث: قَاْلَ النَّبِيُّ المُصْطَفَىْ إِنَّ سَبْعَةً يُظِلُّهُمُ المَوْلَىْ الكَرِيْمُ بِظِلِهِ مُحِبٌّ عَفِيْفٌ نَاْشِئٌ مُتَصَدِّقٌ وَبَاْكٍ مُصَلٍ وَالإِمَاْمُ بِعَدْلِهِ هذه السبعة الأصناف التي اشتمل عليها هذا الحديث النبوي الشريف. وإذا جئنا إلى اللفظ الأول: (سبعة) : يقولون: إن العدد لا مفهوم له، ولهذا بحث العلماء فيمن يشملهم هذا المعنى ويظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكروا منهم: رجلاً لحق القوم، وأدركهم العدو، وكان في مؤخرتهم؛ فدافع عنهم، وذكروا امرأة تأيمت على أيتامها حتى كبروا واعتمدوا على أنفسهم، وذكروا أشياء عديدة، حتى أوصلوا السبعة إلى السبعين، وأقرب مرجعٍ لهذا العدد ما نقله الزرقاني عمن تقدم نظماً ونثراً في شرحه على الموطأ عند هذا الحديث. فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها العلماء إلى السبعين، وإن كان له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤلاء السبعة، وسواء كان له مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا الآن هؤلاء السبعة، إذ إن هذا الحديث جمع جميع طبقات المجتمع، وما ذكر فكما قال النووي والمناوي: قد تكون مندرجة تحت صنف من هذه الأصناف السبعة.

معنى (يظلهم الله في ظله)

معنى (يظلهم الله في ظله) (يظلهم الله) هذا اللفظ متفق عليه، وكل من خرَّج هذا الحديث رواه بهذا اللفظ. (في ظله) أو (في ظل عرشه) : تختلف الروايات، فتارة تأتي: (في ظله) ، وتارة تأتي: (في ظل عرشه) . (يوم لا ظل إلا ظله) أو (يوم لا ظل إلا ظل عرشه) على حسب الروايتين المتقدمتين، وليس هناك إشكال أن العرش جرم محسوس يتصور أن يكون له ظل، ولكن الإشكال الذي لم أجد له جواباً، هو أن الظل ناتج عن الشمس، ويوم القيامة تكور الشمس، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وثمة حديث آخر، وهو عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل -قال سليم بن عامر: فوالله! ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟! قال:- فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه) رواه مسلم. إذاً: كيف تأتي تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف عنده الإنسان مستسلماً مصدقاً بما قال صلى الله عليه وسلم، ولم أجد من تكلم على ذلك بما فيه الكفاية. وإذا كان الله يظلهم في ظله، فهناك كلام كثير للعلماء، لكنه يدور بين الحقيقة والمجاز، ومعنى الحقيقة: في ظله سبحانه، والله أعلم بكيفية تظليلهم في ظله، ولا نستطيع أن نتصور للمولى جرماً وظلاً -حاشا لله- ولكن يقولون: في ظله، أي: في عنايته، ورعايته، ورحمته، كما يقولون: فلان يعيش في ظل فلان وفي كنفه، وحملوا ذلك على المجاز بعداً عن التشبيه أو الوقوع في محظور بالنسبة للمولى سبحانه. ونحن إذا أخذنا اللفظ على وضعه نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤلاء السبعة يخصهم الله سبحانه وتعالى بتلك الفضيلة، وفي بعض الزيادات: (في ظله حتى يقضى بين الخلائق) ، وفي الحديث: (إن العبد في ظل صدقته يوم القيامة) ، ويمكن أن نقول: الصدقة تجسمت، أو تجسم ثوابها وتحول إلى مظلة تظل صاحبها حتى يقضى بين الخلائق، ولا يناله ما ينال عامة الناس من حرارة الشمس التي تدنو منهم فيعرقون. إذاً: الأولى لنا أن نترك تعمق البحث في مدلول قوله: (في ظله) ، ونفوض ذلك إلى ما يعلمه المولى سبحانه، ويكفينا أن نقول: إن هذا أعظم موعظة وأعظم مرغب؛ لأنه يحاول الإنسان أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة إن لم يجمع أكثر من صنف.

هل يمكن أن تجتمع هذه السبع الخصال في رجل واحد؟

هل يمكن أن تجتمع هذه السبع الخصال في رجل واحد؟ وهل يمكن للإنسان أن يجمعها؟ لا مانع من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبواب الجنة الثمانية فقال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام -وهو باب الريان- فقال أبو بكر: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة. فهل يدعى أحد منها كلها يا رسول الله؟! قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر!) والحديث متفق عليه عن أبي هريرة. وهناك حديث آخر: (إذا توضأ المسلم فأسبغ الوضوء، ثم تشهد فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) . وفي الحديث المتقدم نجد الصديق يسأل: هل يمكن أن تجتمع في فرد واحد موجبات عدة؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر!) ، ولا شك أنه أولى الناس وأولهم سبقاًَ إلى الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الأصناف السبعة المذكورة في الحديث اجتمعت في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر عنه أنه في شبابه نشأ في طاعة الله، وذكر الله عنه أنه دعته امرأة ذات منصب وجمال: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ، وذكر عنه أنه كان يتصدق، حتى قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] : كذبوا والله، بل كان يأخذ الطعام ويتصدق به سراً، وكان إماماً عادلاً، وكان محباً للخلق، ملازماً للمساجد، ذاكراً لله، قالوا: اجتمعت هذه في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة السلام، ولم يذكروا غيره، مع أنه ليس من أولي العزم من الرسل. ولم يذكر لنا تاريخياً أن أحداً من الأنبياء الكرام امتحن بما امتحن به يوسف في قضية امرأة العزيز، فلما اختص بهذه القضية كان أدعى لأن يصفوه بأنه هو الذي اجتمعت فيه الخصال الواردة في هذا الحديث، ولا حرج فهذا فضل الله، ولا نستبعد أن الله سبحانه يكرم بعض الشباب الذين أودعهم الله هذا السر، فينشأ في عبادة الله مع إخوانه أو مع أهل بيته، ثم يكون أيضاً عفيفاً، ويبادر أهله بزواجه مبكراً، ويكون محباً للمساكين يتصدق ويخفي صدقته، ويكون قلبه معلقاً بالمساجد، ثم إذا ولي أمراً كان عادلا ً فيه، لا حرج فهذا فضل الله.

اهتمام الإسلام بالشباب

اهتمام الإسلام بالشباب أشرنا إلى أن هذا الحديث المبارك قد شمل طبقات المجتمع، فبدأ بـ (شاب نشأ في عبادة الله) ؛ لأن الشاب غداً يصير رجلاً، ويصير متعلق القلب بالمساجد، وقد يكون إماماً. إذاً: البداية من الشباب، ولذا وجب الاهتمام والعناية بشباب الأمة، والمتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد العناية بشباب الأمة عجيباً جداً، وسبق أن قدمنا محاضرة في ذلك، وقلنا: إن الإسلام قد عني بالشباب قبل وجودهم إلى الدنيا؛ فمهد لوجودهم بالعناية الكاملة. و (الشباب) : هو النشيط من كل كائن حي، سواء كان من الحيوانات، أو الإنسان، أو الطيور، ومنه قولهم: شبت النار، إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف. ومن عناية الإسلام بالشباب أنه بدأ بالحث على اختيار الزوجة التي تنجبه، ففي الأثر: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دسَّاس) ، ثم وضع الإسلام منهج بناء الأسرة الإسلامية في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ، فبناها على أساس من الدين والتقى والصلاح. وقال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه عن أبي هريرة، فذكر من المرغبات حسب الجبلة: حسب، نسب، جمال، دين، ثم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، والقرآن الكريم حث كذلك على اشتراط الإيمان: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] ، إذاً: عني الإسلام بالشاب قبل مجيئه بحسن بناء الأسرة، والتقاء الأبوين على مبدأ الإيمان. ثم راعى أول لقاءٍ بين الأبوين بأن يبدأ بذكر الله، فيضع الرجل يده على ناصيتها ويقول: (اللهم! إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ماجبلتها عليه) ، ومع المباشرة يقول: (اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا) ، فإذا ظهر الحمل؛ أعفيت من كثير من التكاليف حفظاً لهذا الحمل، فسمح الشرع لها أن تفطر إن كان الصيام يضر بها أو بجنينها: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] . وأول ولادته يقابل بذكر الله: الأذان في اليمنى، والإقامة في اليسرى، ثم يعق عنه يوم سابع الدورة الأولى من حياته؛ لأن الدورة الزمنية للطفل عند الأطباء أسبوع، ولهذا يقدرون الحمل بكذا أسبوع لا بالشهر، فإذا أكمل الدورة الزمنية الأولى وهي أسبوع كان له شأن آخر: عق عنه، وأزيل عنه الأذى، واختير له الاسم الطيب، ثم بعد ذلك يكون موضع العناية والرعاية حتى إكمال إرضاعه؛ سواء اتفق الأبوان أو اختلفا، فلزم الأب بالإنفاق عليه فيما يحتاج إلى الفطام، ولا يعجل عليه حتى يتم حولين كاملين. ثم ينشأ إلى حد التمييز فيعلم الإسلام، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود. والشاب الذي نشأ في عبادة الله قطعاً لا يكون على رأس جبل، ولا في وسط أمة كافرة، ولا في وسط أمة مهملة، بل لابد أن تكون نشأته في موطن إسلامي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ، ومن هنا إذا نشأ الشاب في مجموعة من الشباب الخيرين فلابد أن يؤثر عليه محيطه، ومن هنا يتحتم على الأبوين تعليمه صغيراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، فـ عمرو بن أبي سلمة لما جلس يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت يده تطيش في الصحفة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، ولم تخرج آداب المائدة عن هذه الكلمات: (سم الله) ، أي: اشكر الله على النعمة، وقل باسم الله تنفعك ويبارك لك فيها، وتؤدي شكر المنعم عليك بهذه النعمة. (وكل بيمينك) وكما يقولون: اليمنى للمكرمات، والأخرى لبقية الحاجات. (وكل مما يليك) : ليس من هنا ومن هنا، إذ هي إساءة أدب. فتعين على الأبوين أن ينشِّئا صغيرهما على تعاليم الإسلام، ولا يكون إلا إذا كان الأبوان مسلمين متعلمين عالمين بحق هذا الطفل الذي هو ضيف عليهما، أما إذا كانا هما في حاجة إلى من يعلمهما؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن هنا كانت العناية بالتعليم بصفة عامة هي سيما الإسلام، فالإسلام دين العلم والتعليم، ويكفي أن أول الوحي على النبي الأمي قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وخوطب أول ما خوطب بالوحي بالعلم والتعلم! إذاً: هذه الرسالة رسالة علم قبل كل شيء. (شاب نشأ في عبادة الله) : فالأبوان عليهما المسئولية الأولى، وهذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله إنما كان بأثر الأبوين أولاً، ثم المجتمع. نرجع إلى لفظ الحديث؛ لأن ترتيب أصناف الحديث -فعلاً- ترتيب مبني على ارتباط النتائج بأسبابها.

أهمية الإمام العادل للأمة

أهمية الإمام العادل للأمة أول هؤلاء السبعة: الإمام العادل، وفي بعض الروايات: (إمام عدلٌ) ، وفي روايات أخرى: (إمام عادل) . العادل: هو الذي يسوي بين المتفقين: كالزوجين، والخصمين، والشريكين، والصنفين، في القسمة بالوزن والكيل؛ هذا عادل، وهذا الوصف من العدل أو من العدالة يتفق فيه المسلم والكافر؛ لأننا نجد ولاة من غير المسلمين يحكمون بالعدالة في شعوبهم، ونجد معاملات عديدة من غير المسلمين تتصف بالعدالة، وقال صلى الله عليه وسلم حينما وجه أصحابه إلى الحبشة: (لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً) ، وكان النجاشي على دين النصارى، لكنه عادل ذو مروءة، إذاً: تلك الأخلاق يتفق فيها الجميع. على رواية: (إمام عدل) ، فالعدل: هو من اكتملت فيه أمهات الأخلاق الفاضلة فهو متصف بالصدق، بالأمانة، بالورع، بمخافة الله، بفعل الخير، لا يحابي أحداً على الآخر، فهو عدل في ذاته، قال الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أي: ذوي صدق وأمانة ووفاء. وهذا الإمام العدل: أتظنون أن يكون عادلاً أم غير عادل؟ أيكون عادلاً في حكمه أو يكون جائراً؟ لابد أن يكون عادلاً، ولكن العادل في حكمه، هل يكون عدلاً في ذاته أم لا؟ لا يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً، ولكن يضطر إلى العدالة في الحكم ليبقى ملكه، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم، والظلم ظلمات يوم القيامة. إذاً: هذا اللفظ جمع الصنفين: (إمام عادل) أي: في حكمه، (إمام عدل) أي: في شخصه، وبالتالي سيكون عادلاً في حكمه، وإذا كان الإمام عدلاً تقياً زاهداً فيما بأيدي الناس، ورعاً يخشى الله، تقياً في أعماله، مصلياً صائماً مزكياً حاجًّا بيت الله، يخاف الله في كل تصرفاته، هل سيقر ظلماً في ملكه؟ هل يقر فسقاً أو أية أعمال مخلة بالدين؟ الجواب: لا، بل سيعمل على أن تكون الرعية مثاليةً في حياتها، وفي أعمالها، ولن يقبل من أحد أن يخرج عن قانون العدل. إذاً: سيعمل على إصلاح الجميع، وسيقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستكون الأمة في ظله أمة مثالية، ونحن وجدنا مصداق ذلك في صدر الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما كان عليه الناس في خلافة أبي بكر وخلافة عمر استدعى أبو بكر رضي الله تعالى عنه عمر فقال: يا أخي! أعني في بعض المهام، قال: وما تريد؟ قال: تتولى القضاء بين الناس؛ لأن القضاء من مهمة الإمام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قاضياً، وقال لبعض الصحابة: (اكفني مئونة بيت المال) ، فقام عمر وتولى القضاء، ومكث سنة كاملة أو أكثر، ثم جاء إلى أبي بكر، وقال: خذ عملك، قال: ولِمَ أتعبتَ؟ قال: ما تعبت، ولكن من يوم أن وليتني القضاء ما جاءني أحد! أمة عرف كل واحد فيها ما له فأخذه، وما عليه فأداه. فرد عمر القضاء على أبي بكر لعدم وجود متخاصمين، فكانت الأمة بهذه المثابة؛ لأنها تخرجت من مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتولاها أبو بكر رضي الله عنه من بعده، وسارت على المنهج الأول. فإذا كان الإمام عدلاً عادلاً فإن الأمة كلها على خير، وكما يقال: الناس على دين ملوكهم، وهذا من نتائج عدالة الإمام في ذاته، وعدله في رعيته، وإقراره للحق وإبطاله للباطل، ونشره للفضيلة، وقضائه على الرذيلة. قال أحد الناس: كنا نمشي بعد العشاء بمسافة قليلة عن باب المسجد، وثمة أشخاص جالسون ممن انقطعوا لذكر الله، فقال لي أحد رفاقي: يا فلان! تعرف أهل الجنة؟ قلت: ما رأيتهم حتى الآن! قال: هؤلاء ما بينهم وبين الجنة إلا الموت؛ لا يظلمون أحداً، ولا يسرقون أحداً، ولا يعتدون على أحد، مكتفين بذكر الله، وما يسر الله لهم من لقمة العيش، وهم كبار في السن، فقد كان الناس في السابق بعيدين عن المشاكل وعن اقتراف المظالم. ففي ظل الإمام العادل العدل لابد أن ينشأ الصغير على عبادة الله، وكذلك يكون الكبير على الطاعة والامتثال وعبادة الله.

شمول الأمانة لكل عمل وتكليف

شمول الأمانة لكل عمل وتكليف وقد بيَّن المولى سبحانه والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن هذا الإمام العادل تجب طاعته، فإذا خرج عن العدالة، وخرج عن منهج القرآن والسنة النبوية؛ فلا طاعة له، كما قال الصديق: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم) . ومن مبادئ المنهج الإلهي في الدولة الإسلامية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، الأمانات: جمع أمانة، وليست مقصورة على الوديعة التي تودعها أمانة لدى جارك أو صديقك أو أي إنسان ترتضيه، بل كل التكاليف أمانة، فمن الأمانة العبادة بينك وبين الله، كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، قال: ما ائتمنوا عليه غيباً كصحة الوضوء من الحدث، والغسل من الجنابة، فهي أمانة في عنق كل إنسان بينه وبين الله. والإمام مالك: في مسألة أكثر الطهر وأكثر الحيض وأقله قال: إن الله قد وكل أمر النساء إليهن، يشير إلى قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] ؛ لأن هذه أمانة بينها وبين الله. ومن الأمانة وضع الأستاذ الدرجات للطلاب، فالأستاذ حاكم: يعطي هذا خمس درجات، وهذا ستاً، وهذا سبعاً، وهذا كذا يحكم على هذا بالنجاح، ويحكم على هذا بالإعادة؛ فهذه أمانة، فتدريس الأستاذ في الفصل أمانة، فلا يعتني بجماعة ويهمل جماعة، ولا يجيب سائلاً ويترك آخر، وتصحيحه للأوراق أمانة. والإنسان في بيته مسئول كغيره: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) ؛ لأن الرعية أمانة، فالله يأمركم أن تؤدوا الأمانات، وهي عامة، وأهم أمانة: (الحكم) ؛ لأن الحاكم في الإسلام ليس فوقه إلا الله، وليس لأحد في دولة مسلمة سلطان على القاضي المسلم إلا سلطة المولى سبحانه، كما يسمى حاليًّا (حرية واستغلال القضاء) . وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، أي: سواء بين اثنين أو حكم في أمة.

وجوب طاعة الإمام بالمعروف

وجوب طاعة الإمام بالمعروف ثم قال الله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، فيأمر الله الحكام والمسئولين بأداء الأمانة والحكم بالعدل، ويأمر الرعية بالسمع والطاعة: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) ، وهنا جاء فعل الأمر بالطاعة مكرراً: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ الجلالة ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أولو الأمر فلم يقل: (وأطيعوا أولي الأمر) بل قال: (وأولي الأمر) ؟ وفي هذا إشارة إلى أن الطاعة أساساً لله ولرسوله، أما أولو الأمر فطاعتهم تبع لذلك، أي: فإن أطاعوا الله وأطاعوا الرسول فأطيعوهم، وإن لم يطيعوا الله ولم يطيعوا الرسول فلا طاعة لهم. إذاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] موجهٌ للحكام، وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] موجه للأمة لتوثيق ارتباطها بالحكام، فالإمام العادل له حق السمع والطاعة، وغير العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك الحق، لكن بشرط أن تكون المخالفة كما بينها صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) . فلو كان الإمام عدلاً ونقص عن العدالة شيئاً ما، كارتكاب بعض الصغائر والتقصير في بعض الواجبات التي لا تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة. أما إذا ارتكب ما يعتبر ردة عن الإسلام؛ فلا طاعة له، ولا كرامة! كأن يشرع ما يخالف الإسلام، وكذلك إذا عطل حكماً في الإسلام، فهذا لا طاعة له: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقد أشرنا أن الصديق رضي الله عنه قال: (وُلِّيْتُ عليكم ولست بأفضلكم، فأطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) ؛ لأن طاعته فرع عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا وجد الإمام العادل في الأمة فالأمة كلها بخير؛ لأن عدله وعدالته ستأخذ الأمة إلى الصراط السوي، وتمنع من يجنح يميناً أو يساراً، ولا يسمح لأحد بتجاوز حدود الله، ولا يعطل حداً من حدود الله، ولا يحكم بشيء يخالف أوامر الله؛ ولذلك قالوا: الإمام العادل ظل الله في أرضه، وقالوا: عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، وإقامة حدٍ من حدود الله في الأرض خيرٌ لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً. إذاً: إذا وجد الإمام العادل كان هناك الخير كل الخير، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لو علمت أن لي دعوة مجابة عند الله لجعلتها للسلطان؛ لأن في صلاحه صلاح الأمة. وفي سير الملوك والأمراء وولاة الأمر نجد القيام بالعدل وبالعدالة وإن لم يكن عادلاً في ذاته؛ كأن يكون فيه جرح وتقصير، لكنه عادلٌ يقيم شرع الله، ولا يسمح بما يخالف كتاب الله، فهذا فيه البركة. إذاً: (إمام عادل) : هو المبدأ، وفي مظلة عدالته ستنتشر الفضائل، وتختفي الرذائل، وفي هذا المجال ستنشأ الناشئة على عبادة الله. وكلمة: (عبادة الله) ، ليس معناها مجرد المساجد، ولا مجرد الصلاة، ولا مجرد الصيام، وإنما العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، يقال: طريق معبد، أي: مذللٌ مسهل، فالعابد هو المطيع الملتزم، والشاب الذي نشأ في عبادة الله، ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم الأخلاقخ؛ إنما هو أثر من آثار عدالة الإمام.

نموذج للعدالة الإسلامية

نموذج للعدالة الإسلامية في الواقع أن الحديث عن جوانب عدالة الإمام والأمثلة على ذلك مما نقرؤه في التاريخ من بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، يضيق المقام عن أن نسرده في جلسة أو في ناحية، وقد أشرنا إلى ذلك بقدر ما توصلنا إليه في تلك الرسالة التي جمعناها بعنوان: من يظلهم الرحمن في ظل العرش. والعدالة التي قرأنا عنها في زمن الصحابة -خاصة في باب القضاء- فيها نماذج عجيبة، ومما يذكر وكيع في أخبار القضاة: أن شريحاً وكان قاضياً بالكوفة في خلافة علي رضي الله تعالى عنه؛ دخل عليه علي وهو الخليفة، ومعه يهودي يخاصمه في درعه، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟! قال: هو درعي، وفي يدي، فقال شريح لـ علي: ما بينتك على أن هذا الدرع لك؟ قال: الحسن بن علي وقنبر، قال: أما قنبر فنعم؛ لأنه مولاه، وأما الحسن فلا نقبل شهادته لك، قال: ويحك يا شريح! أما سمعت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين) ؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ قال: لا أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ لأنه ولدك! انظروا إلى هذه المواجهة! ثم قال: هل لك شاهدٌ آخر؟ قال: لا، قال: إذاً: اذهب -يا يهودي- بدرعك، فخرج علي وحينما وصل إلى الباب استوقفه اليهودي، وقال: قف يا علي! والله إن الدرع لدرعك، كان على راحلتك فسقط فأخذته، وأنا أنكرتك فيه لتذهب بي إلى القاضي؛ لأنظر كيف يفعل قاضي المسلمين مع يهودي، أما والحال كذلك فخذ درعك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك علي؛ لأن دعواه كانت غير ثابتة، أما الآن فصدقه في دعواه، فقال: الدرع لك ومعه مائتا درهم! فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد نماذج كثيرة -يا إخوان- ويكفي التنويه، ونحيلكم على بعض النماذج في تلك الرسالة التي أشرنا إليها، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2]

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2] الإسلام دين رحمة ورأفة، وقد حث الأغنياء على مواساة الفقراء والمحتاجين بالصدقة، وجعل الصدقة عامة في كل ما يسد الحاجة، ورتب على ذلك عظيم الأجر، بل ربما كانت صدقة التطوع في بعض الأحوال خيراً من صدقة الفرض.

المسلم في ظل صدقته يوم القيامة

المسلم في ظل صدقته يوم القيامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل امرئٍ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) رواه ابن حبان والحاكم] . هذا الحديث ضمن معنى الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول: (سبعة يظلهم) وهنا: (المرء في ظل صدقته) ، فالحديثان متفقان في المعنى في هذه الجزئية. وفي بعض روايات هذا الحديث: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الخلائق) ، وقدر ذلك كما بينه الله في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، ويبين مكانة هذين الحديثين التأمل في حالة ذلك اليوم، يوم الفرار، يوم الهروب، كلٌ يقول: (نفسي نفسي) حتى الأنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إلى الله؛ ليأتيَ لفصل القضاء، فكلٌ يعتذر ويقول: (نفسي نفسي؛ إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) ، ويعتذر بما كان منه في دنياه، وهم رسل معصومون، ولكن الموقف فوق المستوى العادي، فكل يحيل إلى الآخر، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكون الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف جميعاً بما فيهم الأنبياء والرسل. وهذا اليوم وصفه الله بقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، فتأتي الصدقة التي أراد بها صاحبها وجه الله، فأخفاها عن المتصدق عليه، بل أخفاها عن نفسه هو، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله؛ تأتيه في ذلك اليوم وتظله، وهو يوم لو كانت الدنيا بكاملها تحت يديه كما كانت تحت يد ذي القرنين؛ لفادى نفسه بعشرات أمثالها في ذلك اليوم، ولكن لا ينفع ذلك، والدنيا مزرعة الآخرة. ولهذا مر الحسن على رجل يعظ الناس بالتزهيد في الدنيا، فقال: على رسلك، وهل تحصَّل الجنة إلا بالدنيا؟! وهل يتصدق المتصدقُ إلا من الدنيا؟! وهل ينفق في سبيل الله إلا من الدنيا؟! عليك أن تزهد في الحرام منها، أما الحلال فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه مون جيشاً بكامله، وابن عوف تصدق بقافلة من الإبل وما تحمل، والرسول صلى الله عليه وآله سلم يقول: (لو أردت أن تسير خلفي الجبال ذهباً لفعلتُ!) . إذاً: يتحرى الإنسان الحلال، ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي الحاجة؛ من الذين تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً كما قال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] ، والكلام في هذا الصنف طويل، ويكفينا هذا القدر، وبالله تعالى التوفيق.

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) رواه أبو داود، وفي إسناده لين] . في إسناده لين أو ضعف!! الحديث عليه رونق النبوة، وله حلاوة في السماع، ويرتاح القلب إليه، وهو واقع طبيعي: (من كسا مسلماً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة) ، فالجنة كبيرة، وخضر الجنة ليست قميصاً ولا ثوباً، بل هي حلل مقابل أن تكسو مسلماً على حاجة. ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس، لأنه ليس عنده إلاّ درهمان فتصدق بواحد، وهذا كسا إنساناً على عريٍ، وليس معناه أنه مكشوف العورة يمشي بين الناس عارياً، وإنما: ليس عنده من الثياب ما يكفيه، كالرجل الصحابي الذي زوجه الرسول عليه الصلاة والسلام بالمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: (فماذا تصدقها؟ قال: أصدقها ردائي، قال: فإن أعطيتها رداءك جلستَ ولا رداء لك، اذهب والتمس شيئاً، فذهب فلم يجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد) ، فهذا عنده رداء فقط، فهل يعتبر عارياً؟ نعم يعتبر عارياً، وأعتقد أنه لا أحد من هؤلاء الموجودين إلا وعنده أكثر من خمسة أثواب، فضلاً عن الفنايل والسراويل وغيرها. فقوله: (كسا مسلماً على عري) : يعني أنه يستر عورته بصعوبة، فيأتيه بثوب، وهذا بيان لتنوع الصدقة، وأنها لا تتوقف على ما يطعم الفم، وإنما هي بحسب حاجة الإنسان، فكل من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به، لو كان عندك بيوت كثيرة وتصدقت على عائلة بأن تُسكنها في دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من الأسرة بثياب. إذاً: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو أن واحداً يكد على عياله، ويحتاج إلى مواصلات، وعندك عدة سيارات، وقلت: هذه السيارة تساعدك على عملك، لأن عملك بعيد، فخذ هذه السيارة؛ فهذه صدقة عظيمة، وهكذا كل ما يمكن أن تقدمه لإنسان: سواء كان في الملبس أو في المطعم.

فرح الفقير بالصدقة

فرح الفقير بالصدقة قوله: (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أو سقاه على ظمأ) : كل هذا يقدمه إليه؛ لأن العاري حينما يأتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً، ولو كان هذا الثوب لا يعادل عند الأغنياء المال الكثير، والغني لو جاءته حلة -بدلة-، أو حتى خمسة أثواب أو عشرة لم يفرح، ولا يكون لها الوقع والحلاوة واللذة مثل هذا الثوب الذي يهدى لهذا العاري؛ لأنه في أمس الحاجة له. وكذلك الجائع إذا اشتد به الجوع تختلف حاله عن حال شخص منعم في قصره، ولديه جميع الأطعمة، ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع الأطعمة والفواكه، فما قيمة هذا عند صاحب (العمارة) التي فيها كل ما تشتهي النفس؟ لذا تجد بعض الأغنياء يأتي إلى موائد الأفراح، وفيها ما لذ وطاب، والبعض منهم يخرج وهو يقول: والله! لو كان فيها كذا أو كذا، كالكاره لتلك المائدة؛ لأن عنده في البيت مثل هذا، لكن المسكين لو حصل على صحن بيض من هذه المائدة، وأشبع جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح بالعرس كله! ولذا جاء في حديث الموائد: (شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من يأباه، ويمنعها من يأتيها) ، فالجوع يدفعه فيأتي إليها طمعاً في أن يشبع جوعه، فيقال له: تنح عن الناس، تنح عن الطريق!! يا سبحان الله! والله -يا إخوان- حدثت حادثة مع بعض الإخوان، وقد كانت هناك خطة لتصريف الأطعمة التي في موائد الأفراح، فيذكر لي الشخص الذي كان يقوم على ذلك، أنه كان يأخذ القدر بما فيه بالسيارة، ويأتي إلى محل فيه فقراء، ويقف ويقول: أحضروا قدوراً وصحوناً، ويقسم بالله! إن البعض منهم كان لا يجد صحناً ولا قدراً! ويأتي بورقة كيس الإسمنت ويقول: ضع لي في هذا، فما قيمة هذا الذي سيضعه له في ورقة كيس الإسمنت مع شدة جوعه؟ وهذا قدر فايض عن حاجة الذين شبعوا وزاد عنهم، فيأتي إلى أولئك الفقراء، ويوزع عليهم، فيأتيه شخص -امرأة أو رجل- بورقة كيس الإسمنت، ويقول له: ضع لي فيها!!

استحباب البحث عن المساكين لإعطائهم الزكاة

استحباب البحث عن المساكين لإعطائهم الزكاة وقد سألني سائل من قبل عن زكاة الفطر: هل ندفعها لمؤسسة أم لا؟! فقلنا: إن هذا يفقدك فضيلة البحث والتفتيش عن المحتاجين حقاً، والتعايش والتعاطف معهم؛ لأنك بعيد عنهم، أما إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثير، وستجد المتعة الروحية في أنك تقدم لمستحق لا يعلم أحد عنه. وهذا الحديث يدعو إلى تحري المحتاج، سواء كان عارياً فتكسوه، أو جائعاً فتطعمه، أو ظمآن فتسقيه. وما هناك أعظم أجراً من سقي الماء، كما في قصة سعد بن عبادة لما توفيت أمه، وهو غائب في غزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟! قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. قال: فتلك سقاية أم سعد بالمدينة) . وجاء أنه قيل لها: تصدقي أوصي، قالت: المال لـ سعد، وماذا أوصي؟ وأن سعداً قال: (يا رسول الله! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال: نعم، قال: وما خير الصدقة؟ قال: سقي الماء) ، فكانت سقاية أم سعد معروفة في المدينة، وكانت إلى عهد التابعين. وحبذا لو أخذت ثلاجة تبريد وجعلتها في مسجد من المساجد، وليس بلازم أن يكون مسجداً، فلك أن تجعلها في ملتقى شوارع، أو في ميدان، أو في منطقة ليس لأهلها ثلاجات في بيوتهم، فإذا جئت بهذه البرادة، واتفقت مع صاحب بيت بجوارها أنك تدفع له كلفة الكهرباء والماء شهرياً، بشكل تقريبي بقدر ما يستهلكه في بيته لكان خيراً، وما الذي يمنع من أن يشترك اثنان أو ثلاثة في برادة واحدة؟! فسقي الماء أثره وأجره عظيم جداً.

حكم الصدقة على الحيوانات والكافر غير الحربي

حكم الصدقة على الحيوانات والكافر غير الحربي وسقي الماء للحيوان فيه أجر، فيه أجر، فامرأة دخلت النار في هرة حبستها ولم تطعمها، وامرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، كانت تمشي في الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت بئراً، فنزلت فشربت، فخرجت فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد بلغ به الجهد من العطش مثلما بلغ بي، فخلعت خفها، ونزلت البئر وملأته وأمسكته بفمها حتى صعدت، وسقته الكلب، فشكر اللهَ فشكر اللهُ لها، أي: الكلب شكر اللهَ على أنه شرب، أو أن الله شكر لها صنيعها فغفر لها. وفي الحديث: قالوا: (ألنا في البهائم أجر يا رسول الله؟! قال: في كل ذي كبد رطب أجرٌ) ، حتى الكافر، إذا كان معك زيادة ماء، ووجدت كافراً يموت عطشاً وليس حربياً، فاسقه، فإذا كنا نؤجر في الحيوان ألاَ نؤجر في الإنسان؟! والله سبحانه وتعالى أعلم. والمتأمل لحالة المتطوع بالصدقة لربما وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب أفضل من النافلة، إلا أن مخرج الزكاة إنما يخرجها عن غنى، لأنه امتلك نصاباً، وبقي عنده النصاب عاماً كاملاً لم يحتج إلى شيء منه، ثم إنه يخرج الزكاة ووراءه من يطالبه بها، وفي الحديث: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله) . أما المتطوع فليس هناك من يلزمه، وقد لا يكون مالكاً نصاباً ولا نصف نصاب، فقد يتبرع أو يتطوع بما في يده، فصدقة التطوع يفعلها طاعة لله ابتداءً من نفسه، وإن كانت أيضاً الزكاة المفروضة إنما يخرجها طاعة لله، لكن الزكاة فيها إلزام، وأما التطوع فلا إلزام فيه، إنما هو من دوافع نفسه ويقينه بالله بأنه سيعوضه عن ذلك، وتقدم في الحديث الأول: (سبعة يظلهم الله -وفيه:- ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، وهذا بيان لفضل الصدقة وأنها تكون مدعاة أو مستوجبة لأن تجعل صاحبها في ذلك الموقف العظيم وفي تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق، وتدنو الشمس من الرءوس، فيكون المتصدق في ظل عرش الرحمن بسبب الصدقة الخفية، وفي الحديث الذي بعده: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) . فمُخْفِي الصدقة يظلل بعرش الرحمن، ومن آداب الصدقة في كتاب الله إخفاؤها والتلطف بها، وإبداء المعروف معها، وحفظ كرامة المسكين، فيكون المتصدق لطيفاً عفيفاً كريماً يراعي حرمة الإنسان الذي أعوز المال، وقد بيّن سبحانه ذلك فقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] ، وكان بعض السلف يرى للمسكين الذي يقبل صدقته فضلاً عليه؛ لأنه يكون سبباً في حصوله على مرضاة الله، وعلى مضاعفة ماله والزيادة فيه، فينبغي على الإنسان أن يتحرى، وأن يبحث، وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أولاً. وقوله: (أيما مسلم كسا إنساناً على عريٍ) أعتقد أنه لا يوجد إنسان يمشي في الطريق عريان؛ لأن هذا ممنوع ومحرم، وكان بعض السلف إذا لم يكن عنده إلا ثوبٌ واحد فإنه إذا احتاج إلى نظافته، يغسله ويبقى في البيت إلى أن يجف الثوب فيلبسه، وقد سمعت قصةً -لو صحت هذه! وحاولت بكل جهد أن أصل إليها، ولكن للأسف لم أصل- وهي: أن طالبين كانا في مدرسة واحدة، وفي فصل واحد، وهما توأمان، يحضر أحدهما يوماً، ويغيب الآخر، ثم يحضر من غاب، ويغيب من حضر وهكذا، فعنفهم المدير، وضربهم، وهم يعتذرون: سنأتي لن نغيب، ويتعللون، ولما كثر عليهما الإيذاء والكلام صارحا المدير، وقالا: نحن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط، نحن أخوان لا نملك إلا ثوباً واحداً، يأتي به أحدنا، ويجلس الآخر عريان في البيت، فإذا كان الغد تبادلنا الثوب. فإذا كان الناس بهذه المثابة، ويثابرون على طلب العلم والدارسة، فهذه صورة من كسا مسلماً على عري، فلا يخرج المرء إلى الطريق عارياً، ولا يفعل ذلك إلا المجانين، ولكن تصدق على من كان ذا قلة، وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة، بعض الناس في الحالة العادية ربما عنده الخمسة والستة والسبعة الأثواب، وأتباعها مما تحت الثياب، وقد يكون الشخص ذا ثوبٍ واحد. وقد قرأنا في تاريخ عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يرقع قميصه، بل تأتي الرقعة فوق الرقعة، وفي قصة ذهابه إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة أنهم قالوا: إننا وجدنا في كتبنا أن نسلمها إلى رجل صفاته كذا وكذا، فكتب إليه القواد بذلك، وذهب ومعه خادمه، وكانا يتعاقبان في الركوب، يركب أحدهما ويمشي الآخر، ثم يمشي من ركب منهما ويركب الآخر، فلما دنا من بيت المقدس لقيه الأمراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تلبس هذا القميص المرقع، وتقدم على غير العرب، وهم يفخرون بالثياب، ويخدعون بالمناظر، دعنا نكسوك قميصاً، فقدموا له قميصاً من الكتان، فلما لبسه نزعه وقال: ردوا عليَّ قميصي، قالوا: فاسمح لنا أن نغسله لك؟ قال: لا بأس، فغسلوا له قميصه المرقع، وكانوا لا يريدون أن يقدم على غير المسلمين بذلك اللباس، وجاءت نوبته في المشي فقال له الخادم: اركب أنت! لقد وصلنا إلى القوم، ولا ينبغي أن نقدم عليهم وأنا راكب، وأنت تقود البعير، فاركب أنت لأنك أمير المؤمنين، قال: لا، هذا حقك، ولابد أن تستوفيه، وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم قالوا: نعم، هذا الوصف الذي رأيناه عندنا: قميصه مرقع، ويخدم خادمه! أيها الإخوة: ربما يكون الإنسان في حاجة ماسة ولا يعلم حاله إلا الله، وأقول: إن الذي يعرف حقيقة صدقة التطوع هو الفقير؛ لأنه يحس بحاجة أخيه الفقير، أما الأغنياء فهم في حال حسنة، وربما لا يشعرون بغيرهم، وقد قيل: إن السر في صوم نبي الله داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه فقال: أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر المساكين، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع فأشكر نعمة الله عليَّ، وهكذا هنا: (أيما مسلم كسا مسلماً على عري) يعني: أنه فتش، وتحرى، ووجد من يستحق. إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به، فهل تعطيه لمن يجر ثوبه خيلاء، أو لمن يلبس الحرير والكتان؟! أو لمن تكاثرت لديه الملابس، أو على إنسان في برد الشتاء يتأثر بالبرد، ويحتاج إلى هذا الثوب؟ لا شك أنك تبحث عن صاحب الحاجة وتقدمه إليه، وكما قيل: إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يراد بها طريق المصنعِ يعني أن توضع في محلها، ومن هنا بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس: كساه الله من حلل الجنة، أو من خضر الجنة، والجزاء من جنس العمل. (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) : الرحيق هو أفضل أنواع الشراب، وقيل: العرب تسمي أعلى أنواع الخمر رحيقاً. والمختوم أي: المحفوظ المعظم المكرم بخلاف الأشياء العادية التي لا تختم، فتوضع في إناء ولا يعبأ بها؛ لأنها غير كريمة أو غير ذات قيمة، أما الشيء النفيس الكريم فيحافظ عليه، ويختم عليه زيادة في العناية والحفظ. وهكذا يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من ملككَ، وجادت بها نفسك، فانظر أين تضعها؟!

الصدقة تعم كل ما يسد حاجة الإنسان

الصدقة تعم كل ما يسد حاجة الإنسان وفي هذا الحديث: بيان أن صدقة التطوع لا تتوقف على الدرهم والدينار، بل تعم كل ما يسد حاجة للإنسان، فعريان يحتاج إلى قميص، وجائع يحتاج إلى طعام، وظامئ يحتاج إلى شراب. شربة الماء صدقة، وقد قيل: إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي الماء.

فضل التصدق بالماء

فضل التصدق بالماء كان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفيت أمه في غيبته، فلما جاء سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تصدقت عنها هل ينفعها؟ وقيل: إنها كانت تكلمت في مرض وفاتها، لو تملك شيئاً لتصدقت به، أو سألوها: لو تصدقتِ؟ فقالت: المال مال سعد، وليس لي مال أتصدق به، فعلم ولدها أنها كانت ترغب في الصدقة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: أشهدك أن مال كذا -بستان له في المدينة- صدقة في سبيل الله، قال: في أي شيء أضعه؟! قال: (في سقي الماء) ، فكانت لها سقيا في المدينة، تسمى سقيا أم سعد. ومن حكم العوام: اسق الماء وأنت على الماء، أي: وأنت واقف على سبيل أو جالس عند ماء زمزم، فجاء إنسان وسقيته، فهذه صدقة منك عليه، ولك فيها أجر، وكذا لو كنت على نهر وإنسان يمشي فطلب أن تسقيه، فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه صدقة أيضاًَ، وروي أن جبريل عليه السلام قال: (يا رسول الله! إن الملائكة لتعجب من ثواب عملين من أهل الأرض، تمنت لو أنها عملت مثل ذلك، قال: وما هما؟ قال: سقي الماء، وإصلاح ذات البين) . وسبق -يا إخوان- أن قلنا: إذا وجدنا الحديث يجمع بين أمرين فيجب أن نفتش ما هي الرابطة بين هذين الأمرين؟ لا يمكن أن تأخذ بلبلاً يغرد وتربطه مع غرابٍ يصيح؛ لأنهما غير متناسبين، لكن عندما تأخذ بلبلاً يغرد وشحروراً يصدح؛ فهذه متناسبة، وجمع الجواهر النفيسة في عقد واحد متناسب، لكن أن تأخذ من الجواهر، وتأخذ من نوى التمر أو من الحصى وتنظم منه عقداً! هذا غير متناسب. إذاً: إذا رأيت أمرين فأكثر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما هي المناسبة؟ وما هو العامل المشترك الذي جمع بين هذه الأمور في حديث واحد؟ فلو نظرت هنا: سقي الماء وإصلاح ذات البين، فإنك تجد الرابطة بينهما قوية؛ لأن سقي الماء به حياة النفس، وإصلاح ذات البين به حياة المجتمع؛ لأنه إذا ترك وقع الفراق أو النزاع أو الخصومة بين الناس؛ وكانت الحالقة، وصارت فتنة أكلت الأخضر واليابس، فكان فيها الهلاك. إذاً: هذا الحديث يعطينا المنهج الذي ينبغي على المتصدق، وفاعل الخير أن يسير عليه.

الصدقة بغير المال

الصدقة بغير المال من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي الأموال واليسار، ففي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة، فجاء رجل بدنانير، وجاء رجل بدراهم، وجاء رجل بثياب، وجاء رجل بتمر، وجاء رجل بقبضة دقيق، وجاء رجل وقال: يا رسول الله! ليس عندي ما أتصدق به، ولكني تصدقت بعرضي على كل من اغتابني أو سبني، فلما جاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله! لقد تصدق رجل منكم بصدقة عمت جميع الناس!) ، ليس عنده مال، لكن تصدق بأن سامح وعفا وصفح عن كل من اغتابه؛ لأنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة، فهو تصدق بهذا الحق على صاحبه، من باب قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] . إذاً: الصدقة لا يتقاصر عنها إنسان، فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء، قال الناظم: بث الجميل ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ وليس معنى الفقر هنا: فقير المسكين الذي ليس عنده شيء، وإنما الفقر الاحتياج، فأنت -مثلاً- تفتقر إلى خيط تخيط به خرقاً في ثوبك، أو تفتقر إلى إبرة ليست عندك، وجيبك مملوء نقوداً، لكن عندك الثوب مشقوق، والفلوس لا تخيط مخيطة للثوب، وصاحبك عنده إبرة، وأنت مفتقرٌ إلى إبرته. إذاً: فكل ما سد فقراً، ولو إبرة تخيطُ بها ثوباً، ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو محمودُ، يحمدك صاحب الخرق على أنك أعطيته الإبرة، وهكذا. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة) ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك) . وقوله: (فرسن شاة) ، هي ما دون الرسغ من يدها، وقيل: هو عظم قليل اللحم، والمقصود المبالغة في الحث على الإهداء ولو بالشيء اليسير، وخصَّ النساء بالخطاب لأنه يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءتها المسكينة وهي تأكل عنباً، فأخذت حبة وأعطتها إياها، فأخذت المسكينة تقلبها مستقلة إياها، فقالت: انظري كم فيها من ذرة! والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] . إذاً: باب المعروف واسع، وليس له حدٌ، وفي استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً، وقد جاء حديث أعم من هذا: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) ، فحتى البشاشة في وجه أخيك تلقاه بوجهٍ طلق؛ صدقة، هل هناك أحد يعجز عن أن يبش في وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة، أو يلقي السلام؟ فكل هذا من باب صدقة التطوع

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [3]

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [3] الشريعة الإسلامية تحث على الكسب الحلال، وتكره البطالة، ولذا فضلت اليد العليا على اليد السفلى، ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها الشريعة، ومن ذلك أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب ممن تلزمه نفقتهم.

اليد العليا خير من اليد السفلى

اليد العليا خير من اليد السفلى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .

معنى اليد العليا واليد السفلى

معنى اليد العليا واليد السفلى حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه يرتبط مع الحديث الذي بعده بعين الموضوع، وللعلماء فيه كلام، يقول رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) . يقولون: اليد العليا عليا في الهيئة وفي الواقع؛ لأن السائل يقول: أعطني، والثاني يقول: خذ، فاليد العليا هي المعطية، والسفلى هي الآخذة، وهذا يطابق الواقع عملياً، ومن ناحية المعنى: لا شك أن اليد ذات الغنى أعلى من اليد ذات الفاقة، فذات الفاقة متدنية، وذات الغنى مستعلية. وبعضهم يقول: اليد العليا هي المستعلية على الأغنياء بعفتها، فهو فقير، لكنه متعفف، فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها، كما قال الله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273] ، ولكن المعنى العام على ظاهر الحديث هو الأول، وهو الواقع الحسي المتداول المعروف، وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسير واقع وحثٌ للفقراء والمساكين بأن يستعفوا، ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟ هذا حثٌ للفقير وحثٌ للمسكين بأن يستعف، وأن يعمل حتى يرفع يده عن منزلة السفلى، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ذلك عملياً حينما جاءه شابٌ قويٌ جلدٌ يسأل الصدقة، فنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: (إن الصدقة لا تحل لقويٍ ذي مرة، قال: ماذا عندك؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه) . هذا هو أساس بيته، فليس له غرفة نوم، ولا غرفة ضيوف، ولا صالة، أثاثه كله محصور في بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف، والقعب، هذا هو أدوات المطبخ. فقال: (علي بهما) ، فأخذهما صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم -ولعلها لا تبلغ قيمة الدرهم- فقال: من يزيد؟ -حتى لا يكون هناك مماكسة في حقه- فقال رجل: بدرهمين -وأعتقد أن الذي يزيد (100%) إنما هو مجاملة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: خذ، ويعطي الشاب الدرهمين، ويقول: اشترِ بدرهمٍ طعاماً وضعه عند أهلك، واشترِ بدرهمٍ فأساً وحبلاً. فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ لأن القيمة الشرائية للنقد حينما يكون النقد عزيزاً، أما إذا كان النقد هابطاً فلا قيمة له، فبعض الجهات عملتها لا تساوي شيئاً، ونحن شاهدنا ارتفاع وانخفاض العملات في الأسواق. المهم أنه ذهب واشترى الفأس والحبل، وجاء فأخذ الفأس، ووضع عوداً فيه، وقال: اذهب فاحتطب، وبع واستغنِ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فيذهب، ثم يأتي، ويقف على رسول الله والدراهم في جيبه، فيتبسم صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً، فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغني، خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) . وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتعفف يعفه الله) ، أي: من يستغنِ بالله يغنه، ومن يستعفف في جانب الله يعفه، ويرزقه القناعة والصبر، وهكذا.

دخول كل معروف في اليد العليا

دخول كل معروف في اليد العليا قوله عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ، أعتقد أن هذا ليس قاصراً على الصدقة بالمال، والغني والفقير، بل يؤجر كل من أسدى لإنسانٍ حاجة، فلو كانت لشخص حاجة في جهة من الجهات، أو عند إنسان من الناس، فذهبت وقضيت له حاجته، فممكن أن يدخل ذلك في قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، ويكون في ذلك أجر وفضل لمن أسدى لأخيه معروفاً، وأصبح له يدٌ عنده. كما في قصة المغيرة بن شعبة وهم تحت الشجرة في الحديبية الرضوان عندما كتبت الصحيفة، ولما جاء أحد المشركين يفاوض، أخذ بيده لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاَّ ترجع إليك! وكان السيف في يده. فقال: من هذا يا محمد؟! قال: هذا فلان. قال: يا غدر! ما غسلت غدرتك إلا بالأمس، ثم قال الرجل: يا محمد! ما أظن أن هؤلاء يثبتون معك، ما أظنهم إلا ينفضّون عنك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن ننفضُّ عن رسول الله؟ قال: من هذا يا محمد؟! فقال: هذا أبو بكر قال: لولا يد لك عندي، لرددتها عليك، ولكن هذه بتلك، يعني: أن أبا بكر سبق أن عمل له معروفاً، حتى صارت له يد عليه، أي: منة ونعمة. وهكذا اليد العليا في كل شيء يحتاجه الإنسان، ويتقدم إليه الآخر بقضائها، سواء منه شخصياً أو عن طريقه، فهي يدٌ عليا على من أنعم عليه بذلك المعروف.

البداءة في الصدقة بالأقربين

البداءة في الصدقة بالأقربين وقوله: (وابدأ بمن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي المعطية. والعيال هم من يلزم الإنفاق عليه، وساقها المؤلف في باب الصدقة للمناسبة، فتكون لك يدٌ عُليا على الغَير، بمعنى أنك تتصدق من مالك، وكيف تفعل ذلك؟ علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق أن نبحث عن ذوي الحاجات، فنضع المعروف في محله، نضع الكساء للعريان، ونعطي الطعام للجائع، ونعطي الماء للعطشان، وهكذا نعطي الدلو لمن ليس عنده دلو، ونعطي الحبل لمن لا حبل له، ونعطي البعير لمن يحتاج إلى ركوبه، ونعطي القلم لمن لا قلم عنده، فنضع الشيء في موضعه. وهنا يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم الترتيب والأولوية، كما قال الله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] فقال: (وابدأ بمن تعول) ، وأولى ما يكون للإنسان نفسه، فأولاً: تكفي نفسك، فلو كان عندك ثوب وأنت عريان، هل تعطيه لغيرك؟ لا، ومن أمثلة العوام: مطابق وأخوه عريان؛ والمطابق هو الذي يأخذ ثوبين وأخوه عريان، فهنا يعطي كل واحد منهما ثوباً. وأما من له الأولوية في الإنفاق، بعد النفس، فبعض العلماء يقول: الزوجة، ولكن القرآن يقول: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، ونفقة الوالدين هل تكون إجبارياً، أو تطوعاً؟ إذا كان الوالدان مستغنيين فليس لهما حق النفقة على الولد، وكذا الولد، لكن الزوجة مهما كان غناها، فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال. إذاً: نفقة الزوجة في الدرجة الأولى بعد النفس؛ لأنها واجبة في حال غناها وفقرها، لكن الأبوين والأولاد، لا تجب النفقة عليهم إلا عند الحاجة، إذاً: من كانت النفقة واجبة له على كل حال؛ فهو أولى ممن كانت واجبة له في بعض الأحوال، فالنفقة على زوجك أولى. جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! سمعت ما أنزل الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ، والعامة تقول: بير حاء، وكان هنا عند باب المجيدي، ودخل في توسعة المسجد، وكان فيه ماء يستعذب، وكان بجوار المسجد، وكان أحسن أو أعز أو أحب ماله إليه، فقال: يا رسول الله! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت، فقال: (اجعله في أهلك) . محل الشاهد قوله: (اجعله في أهلك) ، وهكذا يكون الإنسان صاحب خير؛ سواء كان فقيراً أو غنياً، فيسد من حوائج الناس، والأقربون أولى بمعروفه، ثم بعد ذلك الأدنى فالأدنى.

خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى

خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى لاحظوا يا إخوان: (ابدأ اليد العليا) ، فاليد العليا تبدأ بمن تعول، فهناك عطاء، وهناك صدقة، ثم يأتي في الدرجة الثالثة التوجيه: (وخير الصدقة) أي: الناشئة عن اليد العليا، التي تتوجه للأدنى فالأدنى من الأقربين (ما كان عن ظهر غنى) . فقوله: (ما كان عن ظهر غنى) كناية عن المال الزائد المستغنى عنه، فهذا يشعرنا بأنه يبدأ بنفسه هو؛ لأن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأول من يستغني المتصدق؛ فإذا كان عندك ما يغنيك، فالزائد عن الحاجة تكون منه الصدقة، وهذا حفاظ على حياة المتصدق وعلى نفسيته. و (خير) من صيغ التفضيل حذفت منه الهمزة، وأصلها (أخير) ، ونظيرها: (شرٌ) ؛ وأصلها (أشر) ، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال. إذاً: خير الصدقة ما كان حينما يتصدق بها المتصدق عن ظهر غنى، أي: وهو مستغنٍ في نفسه، كما أن الزكاة لا تجب إلا عن ظهر غنى؛ لأنه لا تجب إلا على من يملك النصاب، وهو مستغنٍ عنه طيلة العام، فهكذا تكون الزكاة، وكذلك صدقة التطوع.

الغنى غنى النفس

الغنى غنى النفس وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) ، هذا موجهٌ لصاحب اليد السفلى، ونحن عندنا طرفان: معطٍ وآخذ، ويدان: يدٌ عليا ويدٌ سفلى، فكان صدر الحديث مع (اليد العليا) ، وذلك في قوله: (ابدأ بمن تعول) ، وهكذا (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا. ويأتي الحديث للجانب الثاني (ومن يستعفف يعفه الله) ، هل قال: (يستعفف) أو قال: (ومن يتعفف) ؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة. فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم يكن في شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على العفة ولو كان محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا يطاوع نفسه ويسير وراءها. فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو يستجلب العفة لنفسه، وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ، لتساوي يده الأخرى في علوها، (ومن يستعفف يعفه الله) . قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله) ، وهذا كما في الحديث: (ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ، وكما يقول القائل: علل النفس بالقناعة وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها فالغنى والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى) أي: احملها على الغنى، (وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما يكفيها) ، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى ثانياً، ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) . إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع والحرص، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس. (ومن يستغنِ) أي: يستجلب الغنى لنفسه (يغنه الله) ، قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء- قال: يا فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل ليلة خميس كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز، أنه في ليلة من الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات ويبعث إليهم بهدايا، فكان -الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول لي: تعال يا فلان! اكتب ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة. ومرة كنت عنده أكتب أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً شديداً، قلت له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال: عندي شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه. قال: لا لا، غير هذا، قلت: أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير جداً، قلت: يا شيخ! أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال: القناعة، كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص عليها، وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا يخاف عليه، مادام كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية! اكتب، وحول، ولا تترك عندك شيئاً، فاطمئن ولا تخف من شيء.

دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل الصدقة جهد المقل)

دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل الصدقة جهد المقل) قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول) ، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم] . لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته، فهو مقل، ويجهد فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا سواء بل هما على طرفي نقيض. فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك، وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده، أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في يده. ومن هنا قال العلماء: هذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء الذين يعنون بمختلف الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في طريقه المهيأ له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش عيشة المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء. وقد جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال عمر: لأسبقن أبا بكر، وكان أبو بكر سباقاً. فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك يا عمر؟ قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو بكر بكل ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر!) . فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل) ؟ لم يبقِ شيئاً، وعمر أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل لمن لا يندم على فعله، ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم، ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة، ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه واجبات، ولا ينبغي أن يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى وأحق. إذاً: يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] . إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس وغناها، وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته اليقينية بالله. وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل فتقول لـ بريرة: أعطي السائل، فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل، وإذا جاء الإفطار يرزق الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب كيف يرزق الله؟ مستبعدة! فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!! فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا بجانبها شاة مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه، والله ما قد أهدى إلينا من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد بالله حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده. وهكذا يختلف الناس، وتختلف الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا أراد الإنسان منا أن يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك حقوق؟ وعلى حسب ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فلا تأخذه الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه! إذاً: هذان الحديثان مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة يقينهم، ومدى حقوق الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.

الأولوية في النفقة والصدقة

الأولوية في النفقة والصدقة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا. فقال رجل: يا رسول الله! عندي دينار قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] . هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه على ذلك، والصدقة بمعنى الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛ كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق بينهما بقدر الفرق في الحرف الذي اختلفتا فيه. ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن) ، ومادة (غبن) ، خبن: الخاء والباء والنون، وغبن: الغين والباء والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون، واختلفتا في الخاء والغين، فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن الخبن هو تقصير ونقص في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن. فيكون غبن على البائع إذا باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون الغبن في الثمن إذا اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا: الخاء أظهر من الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف، فائتِ بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء أظهر في الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده بعينك، وتخبنه بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر خفي قد يخفى على بعض الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه السلعة. من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة في الحروف الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد، والدال، والقاف) ، والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف) ، إذاً: كلاهما بمعنى: الصدق، بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن الإنسان في حياته لا يبذل شيئاًَ إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً، وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون المعاوضة، والأمر الطبيعي بين الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض، وتدفع الملايين في عوض يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً عليها ممن تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك) . إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو أن المعاملات المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن الصدقة معاوضة بين المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع مصدقاً بوعد الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. } [البقرة:261] ، ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن يعرف ومن لا يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى عليه خافية، ولا يضيع عنده معروف. وفي الحديث: (والصدقة برهان) ، أي: على إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ يستقل إنسان شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى، وما عند الله أكثر مما عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.

البدء بالنفس في النفقة

البدء بالنفس في النفقة وهنا حثهم النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة، فقال رجل: عندي دينار، قال: (أنفقه على نفسك) ، فأول ما يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنه ألزم ما يكون عليه نفسه، فهل تتصدق بقرص خبز ليس معك غيره فيقتلك الجوع؟! لا يجوز هذا، إنما تبدأ بنفسك، وما زاد عن حاجتك تفيض به على غيرك الذي يليك في المرتبة. جاء في الحديث: (أنه مر رجل شاب على قومٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم: لو كان جلد هذا وشبابه هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن كان خرج على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله) ؛ لأنك تعمل وتعف نفسك عن سؤال الناس، فهذه صدقة على نفسك تصدقت بها. قال: (وإن كان خرج يتكسب ليعف أهله أو زوجه، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج بطراً ورئاءً فهو في سبيل الشيطان) . وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (من بات كالًّا من عمل يده) مثل إنسان يعمل في النهار في البناء بحجر وطين، أو في حصاد حب، أو في تأبير نخل، أو في أيّ عمل مثل: نجارة، حدادة، زراعة، صناعة، وبات كالاً من العمل (بات مغفوراً له) .

أيهما يقدم في النفقة: الزوجة أم الأولاد؟

أيهما يقدم في النفقة: الزوجة أم الأولاد؟ قال: (تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر) انظر التدرج في السؤال! قال: (تصدق به على ولدك) . الحديث هنا جاء بالزوجة في الترتيب الثالث، وهناك روايات أخرى تفيد أن الزوجة في الترتيب الثاني، أي: بعد نفسه تكون الزوجة، وهكذا حكم زكاة الفطر، فلو أن إنساناً عنده زوجه ووالداه وولده، فهم خمسة أشخاص، وليس عنده إلا صاع واحد زائد عن قوت هؤلاء الخمسة، فيخرج الصاع عمن؟ هل يخرجه عن أبيه، أو عن أمه، أو عن زوجه، أو عن ولده، أو عن نفسه؟ عن نفسه أولاً، فإذا رزق صاعاً آخر فالجمهور يقولون: الزوجة قبل الوالدين؛ لأن الزوجة نفقتها لازمة في الغنى والفقر، بخلاف الأبوين والولد، فنفقتهم في حالة الغنى ليست بواجبة، وفي حالة الفقر تجب. إذاً: من وجبت نفقته بصفة دائمة أولى ممن وجبت نفقته بصفة مؤقتة، وقد جاء في بعض الروايات: (تصدق به على زوجك) ، وهنا قال: (على ولدك) ، والأمر سيان تقدم أو تأخر فإن الإنفاق على الزوجة أولى، وهي كما في الحديث الصحيح: (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك صدقة) . قال بعض أدباء الفقهاء: لو أنه أطعم الزوجة ممازحة فأخذ التمرة ووضعها بيده في فيها -يمازحها- فإنها صدقة؛ لأن هذا من باب تقوية الصلة والرابطة، وجبر الخاطر، وإذا وجدت الصلة القوية بين الزوجين طابت الحياة، أما إذا لم يكن هناك ترابط بينهما، ولا مودة ولا محبة؛ فإن الحياة بينهما لن تطيب، وتكون هناك الشكليات، فينفق عليها حتى لا تشتكيه أو غير ذلك. والجمهور على أن اللقمة تضعها في في امرأتك من النفقة على زوجتك، وسواء أعطيتها بيدك أو تناولتها هي بيدها. (قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك) إذاً: الولد حينما تنفق عليه وهو في حاجة إلى ذلك، تكتب لك صدقة، وهذا من أهم ما يلزم على الناس أن تراعيه ففي الوقت الحاضر، في بعض البيوت يكون الولد ليس لديه مورد في نفسه، مثلاً لم يتمم الدراسة، أو لم يجد مجالاً للعمل، فلا تستكثر أن تنفق عليه، فإنها صدقة. وبعضهم أنهى دراسته، وطلب العمل، ولا مجال للعمل -كما يقال: البطالة- ولا يوجد مجالات لوظائف الحكومة، وما عنده القدرة على أن يشق طريقه في الأعمال الحرة، وهو في حاجة إلى النفقة، وليست النفقة مجرد إشباع جوعه، وكسوة بدنه، فقد يحتاج إلى غير ذلك، قد يحتاج إلى فاكهة، وإلى أشياء من المباحات. والولد يشمل الذكر والأنثى، وبالأخص الأنثى؛ لأنه ليس لها خروج، وليس لها مجال، ونفقتها واجبة إجبارياً على وليها الذي هو الأب أو الزوج، فإذا كان الولد في البيت، وليس له دخل من جهة ما، أو كان عاجزاً عن الكسب؛ فتلزم نفقته. قد يكون الولد قاصراً سواء كان قاصر الأهلية أو قاصر المسئولية، فلا يستطيع أن يدخل في المشاريع والمقاولات ويلتزم للناس بأعمال، وقد يكون قاصراً خلقاً، بأن يكون من ذوي العاهات. إذاً: النفقة على مثل هذا الصنف من الأولاد إنما هي صدقة، فلا تتأفف من ذلك، ولا تقل: كيف أنفق عليه وهو قوي جلد ولا يعمل؟! أوجد له سبيل العمل وساعده على إيجاد العمل الذي يستغني به عنك، فإذا لم يجد، أو أنه يبحث ويطلب؛ فأنفق عليه إلى أن يجد ذلك ويستغني بما وجد، فحينئذٍ تترك النفقة عليه.

خطر البطالة

خطر البطالة والإنفاق على الأولاد واجب، لاسيما في الأوقات التي تكثر فيها البطالة أو العطالة، وهذه البطالة من أشق ما يكون في الدول، وهي أخطر حالة اجتماعية في الدول بصفة عامة، لا يقال: النامية أو المتحضرة، بل كل الدول تشتكي وفرة العطالة في رجالها. وقدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على البطالة بعمل فعليٍ سريع في الشاب الذي جاء يطلبه الصدقة، ونظر إليه فوجد فيه قوة، فقال: (لا تحل لك) ، قال: ليس عندي شيء أي أن يده عاطلة، وليس هناك مجال للعمل. وبالمناسبة يجب على ولاة الأمور في العالم كله دون استثناء أن يوفروا فرص العمل للشباب في حدود إمكانات الدولة، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العام، وتستطيع الدولة أن توجد مجالات للعمل، ولتشغيل الأيدي الخالية الفارغة، وهذا مكسب للدولة، ومكسب للأمة؛ لأن هذه طاقة معطلة، فإذا وجدت لها فرص العمل فالدولة تستفيد من تلك الطاقة في الإنتاج. فلما قال: ليس عندي شيء ولا أجد شيئاً، عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتركه، فقال: (ماذا عندك؟) ، قال: عندي حلسٌ وقعب، فقال: (علي بهما) ، وأمره أن يذهب ويحتطب ويأتي ويبيع؛ لأن هذه الطاقة البدنية إذا عطلت فهو خطر، خطر على نفسه وعلى المجتمع، لكنه يصرفها في صعود الجبال، وتكسير الحطب، وحمله وبيعه في السوق وحصوله على المادة. حزمة الحطب التي سيأتي بها ليبيعها ليست قيمتها في حمل الحطب وأعواده، ولكنها في الطاقة التي ستحدثها في المدينة أو في القرية، ستأخذ العجوز منها، وتغسل ثيابها بماءٍ حار، وتخبز عجينها، وتنضج طعامها، وكذلك الرجل، وكذلك أهل البيوت الأغنياء والأثرياء يستدفئون منها، ويخبزون عجينهم، كل هذه الطاقة تتوزع في البلد، وتدير إنتاجاً، وتحصل فائدة عامة على الغني وعلى الفقير وعلى القوي وعلى الضعيف بتلك الطاقة الحطبية! ونحن عندنا الآن الطاقة الكهربائية، إذا تعطل التيار ساعة أو ساعتين صاح الناس: الثلاجة وقفت، الثلاجة فيها خضار، فيها لحوم؛ ستفسد الأشياء الموجودة، عجلوا اتصلوا!! كل هذا لأنها طاقة كانت تعمل وكانت تنتج ثم تعطلت، وهكذا الطاقة البشرية، وهي أغلى ما يكون في العالم؛ لأنها هي الطاقة الإنتاجية، فمن الذي يحرث الأرض؟ ومن الذي يغرس الشجر؟ ومن الذي يجني الثمر؟ ومن الذي يدير المصانع؟ ومن الذي يدير المتاجر؟ ومن الذي يعلم الجاهل؟ ومن؟ ومن؟ كل ذلك بالطاقة البشرية. وكنت في مجلس الوزراء، فسمعت كبيراً من الكبراء يقول: نحن نستورد حتى الطاقة البشرية؛ لأننا في حاجة إليها، فالطاقة البشرية هي أعزُّ وأغلى ما يكون، فالطاقة الكهربائية والطاقة الاقتصادية الطاقة وجميع الطاقات مدارها على اليد العاملة، وعلى استخدام الطاقة البشرية؛ لأنها هي المنتجة. إذاً قوله: (على ولدك) يدل على الإنفاق عليه، فإذا وجد الولد ما يعمل واستغنى فالحمد لله، وإذا لم يجد فواجب علينا أن نكفيه، وإذا لم نكفِه وننفق عليه ماذا سيفعل؟ الجواب معروف للجميع، ويكون هذا دفع منا له إلى طريق الشر حتى يحصل على النفقة التي يحتاجها، ولا يبالي من أين يأتي بها، فإذا أبطلنا اليد ولم نسخرها ونيسر لها العمل النافع، والعمل المنتج، والعمل المشروع، فستنقلب عكساً على الأمة وعلى المجتمع وعلى شخصه، فهو إذا انحرف في سلوكه فأول من يضر نفسه، فيسلط على نفسه المسئولين والشرطة، ثم يضر المجتمع في سلوكه. وإذا لم يكن عندي نفقة للولد فيمكن أن أيسر له العمل بقدر المستطاع، ولهذا كان لابد من العناية بالأولاد، والعناية بالإنفاق على العاطلين أو تشغيل اليد العاطلة، وتعتبر هذه من أهم قضايا المجتمعات بدون استثناء. وفي بعض الإحصائيات: كذا مليون في أمريكا يدٌ عاطلة، كذا مليون في كذا هذه مصائب! وترجع بالعكس كما أشرنا على المجتمع، ونحن في غنى عن أن نذكر الأحداث والإحصائيات التي تنشرها الجرائد أو تذيعها الإذاعات بسبب تلك الأيدي العاطلة، وما تعكس من أضرار على مجتمعاتها، بل قد ينعكس على بيته وأهله. إذاً قال: (على ولدك) ، حتى لا يكون عالة، وحتى لا يكون آلة إفساد، وحتى لا تنطلق تلك اليد بقوة إلى الشر، ويفسد في الأرض، ويفسد نفسه، ويضر أباه بالذات، فقد يرجع وباله على أبيه وعلى بيته، ومن هنا كان الإنفاق على هذا الولد صدقة: (تصدق به على ولدك) . وأعتقد أن هذا المجال واسع، ويكفي الإشارة والتنبيه إلى رءوس المواضيع في هذا، والله تعالى أعلم.

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [4]

كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [4] أمر الله بالصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ درءاً للمفسدة وصوناً لأنفسهم من ذل السؤال والحقد على الأغنياء، وأباح للمحتاج السؤال بقدر حاجته، ولكن لا يجوز لأحد أن يسأل الناس أن يتصدقوا عليه وهو قادر على الكسب، ويتخذ ذلك مهنة له، فسؤال أموال الناس محرم إلا للضرورة، وبهذا التشريع الحكيم تستقيم أمور الناس، ويصلح المجتمع بالأخذ بأسباب التقدم، مع عدم إغفال الإحسان والشفقة على العاجزين.

وجوب النفقة على الزوجة

وجوب النفقة على الزوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: ما زلنا في شرح حديث: (أنفقه على زوجك) ، وقدمنا بأنه سواء قدمت الزوجة أو الولد، فإن لهما الأولوية في الإنفاق، والزوجة مطلقاً لها حق النفقة على زوجها سواء كانت غنية أو فقيرة. ويقولون: على زوجها صدقة فطرتها، إلا الأحناف فيقولون: إنها إذا كانت غنية فعليها أن تزكي عن نفسها صدقة الفطر؛ لأنها صدقةٌ عن ذاتها ولديها المقدرة على أن تزكي فلتكن زكاة فطرها من مالها.

حكم النفقة على الخادم

حكم النفقة على الخادم قوله: (قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك) : الخادم: يطلق على الأجير، وعلى المملوك، فإذا كان مملوكاً فنفقته واجبة عليه، وإن كان أجيراً فبحسب الشرط، وهناك الأجير الخاص والأجير العام. فالأجير العام مثل أرباب الصنائع، كالنجار في الورشة، تأتي له بالخشب وتقول: أريد أن تصنع لي من هذا باباً، أو عنده الخشب، وتقول له: اصنع لي باباً مقاساته ومواصفاته كذا، ويأتي غيرك، ويقول له مثلك، وهكذا، فيتعاقد في الوقت الواحد مع عدد من الناس، فهذا أجير عام، ومثله الخياط تأتيه بالقماش ليفصل لك على مقاسك، ويأتي غيرك كذلك ويجتمع العديد، وكلٌ له ثيابٌ عنده يخيطه، فهذا أجير عام، وليس له على المؤجرين نفقة. والأجير الخاص: هو الذي استفرغ وقته في خدمتك، بأن يكون معك، وأجرته على زمنه لا على عمل يده، أما الأجير العام فيأخذ الأجرة على عمل يده لا على الزمن، تقول له -مثلاً-: فصل الثياب بريالين، أو بعشرة، أو بعشرين، وسواء خاطه في ساعة أو أخره إلى أسبوع، ما لم يكن هناك شرط في موعد التسليم، فلا ينظر إلى الزمن في حق الأجير العام، ولكن ينظر فيما استؤجر عليه، هل أحسن خياطة الثوب أو أساء؟ هل أصلح الثوب أو أفسده؟ فهو المسئول عن ذلك. بخلاف الأجير الخاص فأجرته على زمنه، لك عليه الأربع والعشرون الساعة، وله حق المنام والطعام، فهو يعطيك وقته كله، وأنت تأمره: افعل هذا، افعل هذا، وليس مشروطاً عليه عملٌ بعينه. إذاً: الأجير الخاص -خادمك- نفقته عليك، ولهذا عليك أن تخرج زكاة فطرته في رمضان؛ لأن الزكاة -زكاة الفطرة- تابعةٌ للنفقة، واليوم أصبحت البيوت مليئة بالخدم والخادمات، وأصبح لهم عقود على أن الشهر كاملاً بكذا، فهذا الخادم إن كنت علمت بأنه في حاجة فعليك نفقته، ونحن نجزم بأنه ما تغرب، وترك بلده وربما ترك عياله، وربما ترك زوجه إلا للحاجة، وكذلك الخادمة ما تركت زوجها، وخرجت من بلادها إلا للحاجة والفاقة التي دفعتها، فإذا كنت تصدقت على الخادم أو الخادمة بما هو زائد عن النفقة، بثياب، بلوازمها، بدنانير من زكاة مالك، فهو أيضاً صدقة، وهذا يجبر خاطرها، ويشجعها على العمل. لكن لا تعط الخادمة -مثلاً- صدقة من الصدقة لتزيد في عملها؛ لأن هذه مؤاجرة، فلا تعطها صدقة حتى تدفعها على الحماس في العمل، بل تصدق عليها لأنها محتاجة، ولأنك مشفقٌ عليها، وتعلم أن لها عيالاً في بلادها، وتريد أن تحول إلى أولادها أو والديها مصاريف، فزدتها من عندك عند التحويل، فهذه صدقة. قال: (تصدق به على خادمك) وقد كثر الحث على الإحسان إلى الخدم، وسيأتي بيان حق الخادم؛ وأن له كسوته، وله طعامه، وله الإرفاق به، وأنه لا ينبغي أن يكلف من العمل فوق طاقته، (وإذا كلفتموهم فأعينوهم) . وجاء أن أبا مسعود رضي الله تعالى عنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خادماً له، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أقدر عليه منه على ذلك العبد، أي: أنت لك القدرة عليه لأنه خادمك، ولا يستطيع أن يواجهك، ولكن الله أقدر عليك من قدرتك على خادمك؛ لأنه خالقك، فنظر أبو مسعود فإذا الذي يخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر وقال: هو حرٌ لوجه الله يا رسول الله, فجعل كفارة ضربه أن يطلقه، وأن يجعله حراً في سبيل الله. وأيضاً هناك آثار في معاملة الخدم في البيوت: (لا تضربوا خدمكم على كسر الأواني، فإن لها آجالاً كآجالكم) ، البعض إذا كسر خادمه الكأس أو الصحن يضربه مستعلياً عليه، وهو غريب ضعيف في يدك، فلا ينبغي ذلك، لأن لها أجلاً، والبعض ربما يخصمها من أجرته؛ إن كان مفرطاً فاتركه يذهب لحاله؛ لأنه متعدٍ، أما إذا لم يكن مفرطاً ولا متعدياً فلا، فلو أنه انكسر في يدك أنت، ماذا تفعل؟ أو انكسر في يد زوجك أو ابنتك، ماذا تفعل؟ فهذه أمور تدخل تحت قضاء الله وقدره، ولا ينبغي أن يصب جام غضبه على خادمه من أجل شيء قدره الله سبحانه دونما تفريطٍ ولا تعدٍ. قوله: (فقال: عندي آخر. قال: أنت أبصر به) وفي بعض الروايات: (شأنك به) ، أي: ما دمت قد قدمت نفسك، ثم زوجك، ثم ولدك، ولم يذكر الوالدين، مع أن الوالدين بعد الزوجة والولد إذا كانا محتاجين، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، لكن بشرط ألاَّ يضر بالزوجة، ولا يضر بالولد، ولا بشريكٍ في المال، ولا أن يأخذ من مالِ ولدٍ يعطي لولدٍ آخر؛ لأن ذلك يوغر الصدور، حيث لم يكن قد أخذ من مال ولده لنفسه، بل أخذ من مال الولد لولد غيره، ولا يحق له ذلك، فإذا أدى الحقوق والواجبات التي عليه، الأول فالأول وكفى ذلك؛ فهو حر في الباقي، فإن أراد أعطاه صديقه، أو جعله في بناء مسجد، أو لفاعل خير، أو لطالب علم منقطع أو محتاج. فما دام أن دائرة الواجبات قد كفيتها، فما وراء ذلك لك أن تنظر من أحق به، ومن أولى أن تعطيه إياه، وقدم الأهم فالأهم، أو الأحوج فالأحوج.

إنفاق المرأة من بيت زوجها

إنفاق المرأة من بيت زوجها قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئاً) متفق عليه] . هذا من سعة فضل الله سبحانه (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) لم يقل: هل قال: من مالِ، بل: من طعامِ، فالحديث ينصبُّ على الطعام، والطعام في العرف: ما يطعم سواء كان خبزاً، أو إداماً، أو فاكهةً، أو ما هو أصله للطعام كالتمر والدقيق والحب، فهذا يسمى طعاماً. ولم يقل: من مال؛ لأن المال عزيز، والإنفاق من الطعام نوع من المشاركة؛ فهو قابل للاشتراك، فلو طبخت قدراً، وغرفت لمسكين منه في صحن، ما نقص ذلك شيء، وإن قل على المجموعة لكن لن يضرهم، لكن لو كان عنده ألف دينار، وأخذت منها ديناراً واحداً ضر على الألف، والدينار معدٌ لنوائب الزمن وللحاجات وللمهمات، لكن الطعام إذا لم يؤكل فسد، ولذا قال: (من طعام بيته) . وقوله: (غير مفسدة) ، فلو كان الطعام هذا معداً على قدر حاجة زوجها وأولادها، فلا ينبغي لها أن تتصدق منه؛ لأنها ينبغي أن تراعي أهلها أولاً، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عما استرعيت عليه، إلا إذا كان زوجها وأولادها في مستوى الإيثار، ويرضون غيرهم ممن هو أشد حاجةً منهم، كما جاء في الحديث أنه جاء ضيفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل لزوجاته كلهن: هل عندكن عشاء لهذا الضيف؟ وكل واحدةٍ تعتذر بأنه لا شيء عندي، فقال صلى الله عليه وسلم ( {من يستضيف هذا، وله الجنة) ، الجنة في عشاء ضيف! لكن قد فتشنا تسعة بيوت وما فيها عشاء، وإذا كان الشيء مفقوداً يصير غالياً جداً، لو أن عندك الدنيا بحذافيرها وأنت في صحراء، واشتد بك الجوع، وجاء إنسان عابر سبيل، فقلت له: عندك طعام؟ قال: عندي قرص أقسمه بيني وبينك، فلو قال: بكم تشتريه؟ ستشتريه بدينار، بعشرة، بألف، بل ستقول: بكل ما أملك في بلدي، ومثل ذلك كأس من الماء في الصحراء، يدفع المضطر في شرائه كل ما يملك. إذاً: قوله: (من يضيف هذا الليلة، وله الجنة؟) هذا الثمن متعادل، وإن كان الجنة لا يثامنها شيء، لكن بحسب التسعير عندنا؛ لأن الشيء المعدوم يبذل فيه الإنسان طاقته وجهده، (فقال رجل: أنا، فأخذ الضيف، وذهب به إلى البيت، ودخل على زوجه، وقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله! ما عندي إلا عشاؤك وعشاء العيال، قال: أما العيال فعلليهم حتى يناموا) ، فأخذت تعللهم حتى أخذهم النوم وهم جياع! قال: وأما أنا فعندما تقدمين الطعام وأمد يدي مع الضيف، فتأتين أنتِ، وتعمدين إلى السراج كأنك تصلحينه فتطفئينه، ونبقى في الظلام، فيستمر الضيف على أكله، وأنا أمد يدي معه لتختلط بيده، وأرفعها خالية، وأوفر الطعام للضيف. انظروا هذه الحيلة يا جماعة! يعملها لماذا؟ هل ليستحل بها الربا؟ هل يخدع مغفلاً؟ لا والله! لكنها حيلة ليحصل على الثمن النفيس! ففعلت المرأة، وشبع الضيف، وبات الرجل والمرأة والعيال بدون طعام، هل هذه ستميتهم؟ هل هذه كل ليلة؟ لا، هي ليلة نادرة يتحملونها، ويصبرون عليها، فكان جزاؤه أن لقيه صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، وبادره النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لقد عجب ربنا من صنيعكما البارحة!) ؛ لأنها -والله- حيلة لطيفة جداً، فهو اتفق معها على هذه الحيلة، ونِعمَ الزوجة الصالحة، فلو كانت غيرها ستقول: لا، أنا ما يخصني عشاؤه، اذهب ابحث له عن عشاء، أنا لا أبيت جائعة، ولا أترك الأولاد يبيتون جائعين، ليس هو أولى من عيالي، هذا قاموس معروف، لكنها امرأة مؤمنة في بيت صالح، فتعاونت مع زوجها على مطلوبه، وباتا طاويين، وبات الضيف شبعان، فعجب ربنا من صنيعهما هذا!

اشتراط عدم الإفساد عند إنفاق الزوجة من بيت زوجها

اشتراط عدم الإفساد عند إنفاق الزوجة من بيت زوجها إذاً: حينما يتصدق الإنسان مع قلة الشيء يعظم الأجر. هنا بيَّن صلى الله عليه وسلم أن (المرأة إذا أنفقت من طعام زوجها غير مفسدة فلها أجر) ، وغير مفسدة: يعني أنها مراعية لظروف العائلة، وظروف البيت، وظروف الأسرة، وظروف الأفراد، فإن كانوا على شاكلة من عجب ربنا منهم، فالحمد لله، وإلا فتراعي الظروف، ولا ينبغي أن تضيع من تعول، وفي الحديث أن: (امرأة قالت: هل للمرأة أن تتصدق من مال زوجها؟ قال: لا، إلا بإذنه، قالت: ولو من طعامه؟ قال: الطعام أعز مالنا) ؛ لأن الطعام هو القوت، وبه الحياة، ولذا يقول العلماء: إذا أرادت المرأة أن تتصدق من مال زوجها، فلابد من إذنه، وأطال العلماء البحث في ذلك كـ ابن حجر في فتح الباري، ويدور البحث على قوله: (غير مفسدة) . فإذا أذن لها إذناً فعلياً فلا مانع من أن تعطي المسكين، أو أذن لها إذناً اعتبارياً، بأن علمت من زوجها أنها إذا أعطت السائل تمرات أو قرص خبز أو شيئاً من الإدام فإنه لا يغضب، لأن ذلك لا يضره ولا يضر عياله، فهذا إذنٌ اعتباري فلا مانع، وتقدمت لنا قصتان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، الأولى: أنها كانت تأكل من قطف عنب، وأعطت السائلة حبة، وما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، والثانية: أن امرأة جاءت تحمل طفلتين، فأعطتها تمرة، وما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك شاةٌ ذبحوها فوزعت وبقي ذراعها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد بقيت كلها إلا الذراع!!) فالذي بقي هو الذي ضاع، ولكن الذي تصدق به فهو الباقي عند الله. إذاً: إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها بطيب نفسها، غير مفسدة على أهل بيتها طعامهم ومعاشهم، بإذن زوجها الاعتباري أو الحقيقي؛ فلا مانع من ذلك. ومما يوضح قوله (غير مفسدة) حديث هند، لما قالت: (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يعطيني ما يكفيني أنا وعيالي، هل آخذ من ماله ما يكفيني وعيالي؟ فقال: خذي ما يكفيك بالمعروف) ، أي: لأن النفقة واجبة لكِ ولعيالكِ، ولكن بالمعروف، لا تأخذي هذا الإذن وتفسدي، فتصنعين طعاماً يكفي عشرين وأنتم خمسة، ثم يرمي الباقي أو يفسد، هذا هو الإفساد، بل خذي بقدر ما يكفيكِ بالإحسان وبالمعروف. وهكذا بين صلى الله عليه وسلم، أن هذه المرأة لها من الأجر مثل ما لزوجها، وفي الحديث الآخر الصريح: (إن الله يدخل باللقمة ثلاثةً الجنة: صاحب الطعام، وطاهيه، ومناوله) ، صاحب الطعام هو صاحب البيت -رب البيت- وطاهيه سواء كانت الزوجة، أو كان الخادم، أو الطباخ في البيت، أو غيره، والخادم الذي يناوله، فإذا كان الطاهي، أو الزوجة، أو الخادم؛ يقدم ذلك بطيب نفسٍ لا مكرهاً، ولا مجاملة، ولا إلزاماً عليه، ولا كراهية لرب البيت، بأن يخرج الطعام باسم الصدقة، وهو يريد أن يؤذيه أو يضيق عليه أو يفسد عليه ماله، بل يؤجر إذا كان يفعل ذلك طواعيةً، وفي حديث آخر (والخازن) ، وهو الذي يكون على المخازن، يخرج من المخزن الدقيق ليعجن ويخبز، أو يخرج السمن ليطهى به، فيعطي المسكين من هذا الطعام، فإن للخازن مثل أجر المالك، فيكون لصاحب المال، وللطاهي، وللخادم وللخازن أجرٌ متعادل سواء بسواء. إذاً: العبرة ليست بالكثرة، ولكنها بما وقر في النفس من طيبها، وحب المسكين والإشفاق عليه والرحمة به، والله تعالى أعلم. قال عليه الصلاة والسلام: (كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك؛ لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئاً) . فلو كان الحساب أن الحسنة بعشر أمثالها، فنقول: نقسمها على الأربعة وكل واحد له حسنتان ونصف، لكن الرسول يخبر أن كل واحد له عشر حسنات، ولا ينقص واحدٌ من أجر صاحبه شيئاً، فتكون الحسنة لهم بأربعين حسنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاءت زينب امرأة ابن مسعود فقالت: (يا رسول الله! إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حليٌّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من أتصدق به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود؛ زوجك وولدك أحقُ من تصدقتِ به عليهم) رواه البخاري] .

عدم الإسراف في النفقة على الأولاد

عدم الإسراف في النفقة على الأولاد تقدم الكلام على حديث الرجل: (عندي درهمٌ يا رسول الله! قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك ... ) ، وتكلمنا على حقوق الأولاد، وأنه ينبغي معاونتهم ومراعاتهم وتوفية حقوقهم والإنفاق عليهم ما داموا لا يجدون أسباب الرزق ولا مجالات عمل، وهناك ناحية تركناها سهواً، وهي: أن بعض الناس قد تدفعه الشفقة والعطف على الولد بأن يغدق عليه المال بلا حساب، ويستجيب لجميع طلباته، وهذا في الواقع مفسدة، كما أن ترك الولد دون الإنفاق عليه مفسدة، ويدفعه إلى الإساءة، وهكذا الإغداق عليه بدون حساب يكون فيه الإفساد أيضاً، وأول ما يكون الضرر على الولد: إن الفراغ والشباب والجده مفسدةٌ للمرء أي مفسده ونسمع أن بعض الناس لديه الولد المدلل، فيشتري له السيارة، وعند مجيء موديل جديد يستقذر الأولى، ويصر على أبيه أن يشتري له أخرى، ويرضخ أبوه لطلبه، ويأتيه بأخرى جديدة، ثم لأنه لم يتعب فيها، ولم يدفع من ثمنها شيئاً؛ لا يبالي بها، ولا يهتم بالحفاظ عليها، وهذا كمثال. فكثرة المال في يده بغير حساب تدفعه إلى تصريف المال في غير طريقه، وقد يصيبه المفاسد من الآخرين، وجاءت في السنة النبوية قصة ينبغي للمجتمع كله أن يتعظ بها، حتى تكون للعاطفة حدود، وهي ما ثبت (أن رجلاً يهودياً رض رأس فتاةٍ بين حجرين، من أجل أوضاح لها على رأسها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وجيء إليه بالفتاة، وهي في الرمق الأخير، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكر الجاني حقيقة؛ فأومأت برأسها أي: نعم هو، فأتي به فاعترف، فاقتص منه، ورضَ رأسه بين حجرين) . فهذه القصة تعطينا دراسات واسعة في باب الأمن الجنائي؛ لأن هذه طفلة صغيرة، يحبها أهلها، ولشدة محبتهم لها زينوها بالحلي، ورصعوا رأسها بقطع الذهب، وهذا الذهب بريقه يخلب عيون ضعاف النفوس، فسولت لليهودي نفسه بقتلها، وجاء في بعض طرق الحديث: (فاستدرجها إلى ضاحية المدينة، وأدخلها خربة، ورض رأسها) ، وقد سبق أن شرحنا هذه القصة بكتابة تحليلية طويلة، ونشرت في مجلة الجامعة، بأن أهل هذه الفتاة شاركوا في الجناية عليها، لأنهم وضعوا عليها ما لا تستطيع حفظه ولا حراسته ولا صيانته، ووضعوا عليها ما يطمع فيها الأشرار، فهم الذين سلطوا عليها هذا اليهودي، ولولا تلك الأوضاح التي على رأسها ما التفت إليها! ثم أيضاً: يجب على البلديات، وعلى ولاة الأمور؛ ألاَّ يتركوا في أطراف المدن أماكن خربة تكون مأوى لمثل هؤلاء الناس، وتكون موطناً لتنفيذ خططهم الإجرامية، وكان بسبب هذه المقالة بحث مع المسئولين في بعض الخربات، وعولجت قضيتها تجنباً لوجود مأوى لهذه الأعمال. والذي يهمنا أن زيادة التعاطف مع الأولاد وإعطاءهم أكثر مما يستحقون؛ فيه مفسدة، كما أن عدم الإنفاق عليهم فيه مفسدة، ولا شك أن الفضيلة هي التوسط، كما قيل: الفضيلة وسطٌ بين طرفين. وكذلك قوله: (تصدق به على زوجك) ؛ بعض الزوجات قد تدل على زوجها من الجوانب التي يتأثر بها، فتكثر عليه الطلبات ويرضخ لها، ويستجيب لعواطفها، وفي كل مناسبة تحتاج إلى لباس جديد، وكل ما يظهر نوع من الألبسة بما يسمى (الموضة) تحمل زوجها فوق طاقته، ولربما حملته على الاستدانة من أجلها! وهذا لا يتفق مع الأخلاق الفاضلة، ولا مع المروءة، ولا مع حسن العشرة، فلا ينبغي التطرف، لا في الإمساك والتقصير في أداء الواجب، ولا في البذخ الزائد عن الحاجة، فيكون ذلك إطغاءً للولد أو للزوجة، هذا ما أحببنا التنبيه عليه؛ تتمةً لما جرى عليه الحديث البارحة فيما يتعلق بالإنفاق على الولد.

صدقة المرأة على زوجها وأولادها

صدقة المرأة على زوجها وأولادها وهنا ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن مسعود أنه ذكر لزوجه زينب أن صدقتها عليه وعلى أولادها منه أولى من الغريب، وسياق هذا الحديث: أن زينب بعد صلاة الصبح ذهبت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عند الباب امرأة حاجتها كحاجتها، فجاء بلال، وقالت له: قل لرسول الله: زينب في الباب، فلما ذكر ذلك لرسول الله قال: أي الزيانبِ؟ يعني: أية زينب تعني؟ وهذا تعليم نبوي، فعلى الإنسان إذا عرف نفسه أن يعرِّف بما يكشف عن شخصيته، كمن يطرق الباب، فيقال: من؟ فيقول: أنا، (أنا) هذا ضمير للمتكلم، كل متكلم يقول: أنا، فإذا قيل: من أنت؟! فينبغي أن يقول: فلان ابن فلان، وهنا كذلك: لما قال:: زينب، قال: أي الزيانب؟ فالزيانب كثر، وهي كانت قد قالت: (ولا تسمني له) ، لكن لما سأله، من هي؟ قال: زينب، استجابة لطلب رسول الله، فقال: أي الزيانب؟ فهي أرسلته ليسأل لها، وهنا في الرواية أنها سألت مباشرة، وسواءً كان السؤال منها مباشرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان السؤال لها من بلال، أي: بالواسطة. وقولها: (عندي حلي) جاء في كتاب الأموال: أنه كان عندها طوقٌ من ذهب تزكيه كل سنة، حتى أخذ عليها أكثر من قيمته، ثم جاء هذا التساؤل، فقال لها ابن مسعود: إن زكاةَ مالك وصدقتك عليَّ وعلى أولادي منكِ؛ أولى من الغريب، فهي استبعدت أن تتصدق على زوجها وولدها؛ ومعلومٌ عند الجميع أن الصدقةَ لا تجوز للأصل وللفرع، يعني: لا تصح على الأبوين ولا على الأولاد؛ لأنهم إن كانوا محتاجين فنفقتهم واجبة من رأس المال، وإذا تصدق على أبويه أو على أولاده فكأنه يؤدي واجباً عليه من صدقة هي حقٌ المساكين، فترددت في ذلك، فقالت له: اسأل رسول الله، فقال: اسأليه أنتِ، فسألت، فقالت: (عندي حلي أردت أن أتصدق به) ، وظاهر هذا اللفظ أنها تتصدق بعين الحلي، ولكن رواية أبي عبيد في الأموال: أنها تريد أن تتصدق، أي: تخرج زكاة حليٍ عندها. وهنا سؤال: كيف لا يجوز للرجل أن يتصدق على زوجه وعلى أولاده، ويجوز للمرأة أن تتصدق على زوجها وأولاده منها؟ قالوا: إن هذا تابعٌ لوجوب النفقة، فالزوجة إذا كانت غنية غير ملزمة بنفقة زوجها، وهي حينما تعطي الزوج، لا تسقط حقاً واجباً عليها، وكذلك إذا أعطت الأولاد، لكن والزوج إذا امتلك الصدقة أنفقها على الأولاد، بل وعليها هي نفسها، فالزوج يأخذ الصدقة من زوجته، فإذا ذهب واشترى بها طعاماً، وأتى به إلى البيت، وأكل الجميع -ومنهم الزوجة- فلا مانع من ذلك؛ لأنها حينما أعطتها أعطتها بحق، وحينما أكلتها أكلتها بحق، وهو حق الإنفاق ثابت لها على زوجها، كما قالوا: في صدقة الفطر أو صدقة المال: لو أنك أعطيت جارك زكاة الفطر تمراً تعرفه من تمر بستانك، ثم جئت تزوره في العيد، فقدم لك القهوة والتمر، فنظرت! فإذا التمر الذي قدمه إليك من تمرك أنت، هل تقول: أنا لا آكل الصدقة؛ لأن العائد في صدقته كالكلب؟ لا، أنت لم تعد فيها، ولكنها وصلت محلها، واستلمها مستحقها، ثم قدمها إليك باسم الإكرام. ومن ذلك ما وقع في قصة بريرة: (لما دخل صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطوني الغداء، فأعطوه خبزاً وإداماً، قال: ألم أر البرمة فيها لحم؟! قالوا: هذا لا يصلح لك، إنه لحمٌ تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: هو لها صدقة، ولنا منها هدية) ، أي: بريرة أخذته باسم الصدقة، أما أنا ما أخذت صدقة، لكن بريرة ستقدمه إلي باسم الهدية. إذاً: العين واحدة لم تختلف، ولكن اختلف الاعتبار، فباعتبار الصدقة من المتصدق إلى بريرة هي في مجال الصدقة، وباعتبار نقلها من بريرة إلى رسول الله، فهي هدية بريرة ليست متصدقة على رسول الله، إنما تهدي إليه، فاختلف القصد، واختلف الحكم. وكذلك الزوج لا يعطي صدقته لزوجته؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه، وكذلك أولاده، لكن هي كزوجة لا تجب عليها النفقة لا للزوجِ ولا للأولاد، فأعطتها للزوج. وإذا كانت الزوجة غنية، والزوج فقيراً، وبينهما أولاد، ولا يستطيع الزوج أن ينفق على أولاده، فهل الأم تنفق على الأولاد لغناها أم لا؟ هذا بحث يتطرق إليه الفقهاء، ويختلفون في ذلك، قالوا: إذا لم تنفق الأم الغنية عليهم، مات الأولاد من الجوع، وهل يذهب الزوج يتدين؟ لا، بل عليها أن تشارك في مثل هذه الحالة، أو تنفق عليهم ويكون ديناً عليه. الذي يهمنا هنا أنها كزوجة لا تجب عليها النفقة للزوج ولا للأولاد، فصح منها الصدقة عليهم، والقاعدة: لا تصح الصدقة على من تجب عليك نفقته، وإن كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يجوِّز ذلك في الأخ والعم ونحوه، والأخ يختلف: إذا كان بينك وبين الأخ توارث؛ فلا يصح أن تتصدق عليه، وإذا لم يكن بينك وبينه توارث، فإنك تتصدق عليه؛ لأنه إن كان للأخ ابن فهو يرثه، ولا صلة لك بإرثه، فلك أن تتصدق عليه، أما إذا كان يرثك وترثه فإن الغرم بالغنم، فكما أنك ترثه إن مات غنياً فتنفق عليه إن كان فقيراً. فتتعلق الصدقة على الآخرين بقاعدة: من وجبت عليك نفقته لا يصح أن تعطيه صدقة. لأنك تكون كأنك تجبر ما وجب عليك من النفقة بما تعطيه من الصدقة، وهنا لما قالت: (إن ابن مسعود قال لي كذا، قال لها صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود) ، أي: يجزئكِِ ويجوز لكِ، وقيل: إن الصدقة على الغريب صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصلة، أي: وصلة رحم، وفي الحديث: (ابدأ بمن تعول، ثم الأقرب فالأقرب،) ، إذاً يجوز أن تتصدق المرأة على زوجها وأولادها منه.

حرمة سؤال الناس تكثرا

حرمة سؤال الناس تكثراً قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعةُ لحم) متفق عليه] . بعدما ذكر المؤلف أحاديث الحث على الصدقة، وفضائلها، و (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ، جاء هنا بهذا الحديث ينفر من سؤال الناس تكثراً، وسؤال الناس عند الحاجة بما يسد الجوع والفاقة لا مانع منه، لكن يمنع إذا كان تكثراً، (من سأل وعنده أوقية لقي الله وليس في وجهه مزعة لحم) . ومعنى: (سأل الناس تكثراً) أي: زيادةً عن حاجته في اليوم والليلة، وهذا تشنيع على من سأل وهو في غنىً عن ذلك.

سبب استمرار بعض الناس في السؤال

سبب استمرار بعض الناس في السؤال وقوله: (لا يزال الرجل يسأل الناس) ، أي: فهو مستمر في سؤال الناس، ولماذا هذا الاستمرار؟ هذا على قسمين: قسمٌ بدافع الحاجة، فالحاجة مستمرة وبالتالي السؤال مستمر، ولكن لا تكثراً، بل تكففاً أو تعففاً. القسم الثاني: تعودًّا، أي أنه تعوَّد السؤال، وهذا كما يقول بعض الناس: من استمرأ السؤال وأخذه مرة ومرتين، ورضيت به نفسه، قل أن يترك ذلك، بل يستمر، وإذا أراد أن يمتنع صعب عليه الامتناع؛ لأنه وجد حلاوة الكسب بدون كدٍ ولا تعب، وهذه والله! ما هي حلاوة، إنما هي عين المرارة والغضاضة، لكن إحساسه الشخصي ذهب، وليس في وجهه مزعة لحم، كما يقول العوام: أراق ماء وجهه فلم يبقَ في وجهه ماء الحياء، فإذا كان الأمر كذلك، فسواء عنده، إن سأل أو لم يسأل، أعطاه الناس أو لم يعطوه، ابتسموا في وجهه أو تجهموا في وجهه، أصبحت هذه الأمور عنده عادية. ومن زمن قريب سمعنا أو قرأنا في الصحافة اكتشاف بعض شخصيات لها مكانة، ينتهون من أعمالهم، ويذهبون يمتهنون السؤال! ووجدوا أن دخلهم من هذا أضعاف أضعاف راتبهم، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا: تكاليف الحياة زادت، ونحن نحتاج إلى مسايرة الناس! وأغرب ما سمعت في هذا أن أسرة كريمة جداً وقع بينهم نزاع، فقتل شخصٌ شخصاً من هذه الأسرة، وحكم بالقصاص، فجاء أهل القاتل وعرضوا على ولي الدم الصلح بديتين، بثلاث، بأربع، فامتنع؛ لأن ولي القاتل لا يهمه أن تتضاعف الدية عشرة أضعاف، فقال أبو المقتول: أنا أقبل دية واحدة لكن بشرط: أن يحصلها والد القاتل -ووالد القاتل ذو منزلة رفيعة في مجتمعهم- أي: بالسؤال من الناس، لا برصيده في البنك، ولا بما يملكه في بيته، ولكن يحصلها من القرش والقرشين والأكثر والأقل بسؤال الناس، قال: هذا صعب، وكيف أن يقف هذا الموقف، والناس يعرفونه؟ قال: يذهب إلى أي مدينة من المدن التي لا يعرفه فيها أحد، ويأتي بها بهذه الطريقة، قال: متى أجمعها؟ قال: حتى بعد عشر سنين، أنا راضٍ بهذا، وأمام هذا النزاع وخطورة هذه القضية وافق الرجل، وكان بعد أن ينتهي من وظيفته يذهب إلى مدينة لا يعرف فيها، ويلبس لباس السائلين، ويتكفف الناس، وفي زمنٍ قريب جداً جمع الدية، فسلمت وجرى الصلح، ثم بعد ذلك فإذا بالرجل على طريقته، يذهب إلى بعض المدن ومعه لباس السائلين، ويسأل الناس، فجاءوا إليه، وقالوا: ماذا تفعل؟ قال: لا أستطيع أن أترك هذا، وقالوا لفلان: لمََ طلبت هذا الطلب، وقد عرضت عليك الدية مضاعفة؟ قال: أردت أن أقتله قتلةً وهو حي، فيبقى بهذه الحالة؛ لأني أعلم أنه إن استمرأ سؤال الناس لا يترك ذلك أبداً. ولهذا -يا إخوان- الشخص في أول مرة: إذا أصيب بحاجة أو بفاقة، ثم مد يده، ووجد من يعطيه، وكثر في يده ذلك، وقضيت حاجته، إن كان ذا نفسٍ كريمة ووجهٍ حيي اكتفى بذلك وكفَّ حالاً، وإن مات إحساسه، ومات شعوره، وأريق ماء وجهه، فإنه يستمرئ ويعيش بها. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله) ؛ ففي هذا إبقاء على شخصيته، وإبقاء على معنويته، وإبقاء على إحساسه وشعوره، حتى لا يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ، يعني: تهلهل لحم وجهه بسبب مده يده إلى الناس، فمات إحساسه، ومات شعوره، ولهذا تجد بعض السائلين -نسأل الله السلامة- يأتيك فتقول: والله! الآن ما عندي فكة، يا أخي: كذا يا ابن الحلال! أنا الآن ما أنا مستعد، أنا قادم للمسجد، ما أنا قادم للصدقة، لا يخفى عليك أني ما أتيت بشيء من المال، وكأنه يطالبك ديناً ويفترض عليك أن تدفعه إليه، كان يكفيه الإشارة، لكنه تعود، وصار السؤال مهنة له! إذاً: التربية النبوية والتربية الإسلامية لمصلحة شخصية الإنسان نفسه، لأخلاقه، لإحساسه، لشعوره؛ ليبقى إنساناً كريماً فعلاً، ويبقى بعيداً عن مذلة السؤال، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل والاستغناء، ويكفينا أنه أرسل الشاب خمسة عشر يوماً إلى الجبل ليحتطب، وقال: (ولا أرين وجهك خمسة عشر يوماً) ، ويسمح له بالتخلف عن الجماعة في المسجد النبوي، ويذهب ويصلي هناك، وعنده مسجده وطهوره؛ ليحفظ ماء وجهه، وليحفظ كرامته، وليصونه عن مذلة السؤال، ونسأل الله السلامة والعافية!

سؤال الناس تكثرا سبب لدخول جهنم

سؤال الناس تكثراً سبب لدخول جهنم قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يسأل الناس أموالهم تكثراً؛ فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر) رواه مسلم] . بعض السائلين يسأل الناس أكثر من حاجته، هو في حاجة إلى قوت اليوم، ويسر الله له عشرة ريالات أو خمسة ريالات أو أكثر أو أقل بحسب حالة البلد، ومعه ما يكفيه اليوم، فلماذا يطوف على الناس؟ ولماذا يلح على الناس؟ كان يكفيه هذا، وغداً ييسر الله له الأمر، لكن نسأل الله السلامة! (من يسأل الناس تكثراً) أي: يكفيه عشرة ريالات، ولكنه يطلب عشرين وثلاثين وأربعين وكلما جاءه أخذه وأكله {أَكْلاً لَمّاً} [الفجر:19] ، هذا الذي يسأل الناس تكثراً إنما يأكل جمراً، فليستكثر من ذلك أو ليستقل. وهل الرسول يأمره هنا أن يستكثر أو هذا من باب: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف:29] ؟ فهذا ليس تخييراً، بل هو تهديد، أي: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ونحن قد أعددنا للظالمين وللكافرين ناراً، فليس المعنى: من شاء آمن ومن شاء كفر فلا عليه، المعنى: اعمل الذي تريده، ونحن عندنا الجزاء، فهذا تهديد وليس تخييراً، لكن الأسلوب أسلوب التخيير، والله سبحانه وتعالى لا يضره كفر الكافر، ولا ينفعه إسلام المسلم، ولكن هذا راجع للإنسان بنفسه، فقوله: (فإنما يسأل الناس جمراً) أي: وما دمت قد عرفت أنها جمر؛ فإن أحببت فتكثر أو تقلل، وهذا في نهاية الزجر.

الحث على الاستعفاف عن سؤال الناس

الحث على الاستعفاف عن سؤال الناس قال المصنف رحمه الله: [وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه) رواه البخاري] . قبل شرح هذا الحديث، مما يتعلق بـ (إنما يأخذ جمراً) ورد أنه ( {توفي رجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، فسأل ماذا ترك؟ -وكان فقيراً يسأل الناس- قالوا: ترك دينارين، قال: كيتان من نار) ، سبحان الله! فالناس يخلفون الملايين والأموال الطائلة، والله سن الميراث للمال المتروك بعد الميت، إذاً: فيجوز اقتناء الدينارين، والألفين والمليونين، لكن لما كان يسأل الناس، فكان الواجب أن يسأل بقدر حاجته، لكن أن يتكثر حتى يتوافر عنده ديناران، فهذا هو المستكثر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (كيتان من النار) ، كل دينار بكية من النار، والدينار نصف اسمه نار، وبهذه المناسبة كان في اختبار قول القائل: كأن وجهه دينارٌ جلته حدائق الضرابِ فبعض الطلاب سأل: ما لون الدينار؟ نحن ما رأينا الدنانير، فقال القائل: نصف اسمه يدلُ عليه، لكن كان الطلاب أغبياء ما فهموها، وإلا كان غشاً في الاختبار. إذاً: المسألة بقدر الحاجة لا مانع منها، فالله سبحانه وتعالى جعل حقاً للفقراء والمساكين شرعاً، وفرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجمع الزكاة وتوزيعها عليهم؛ ولا عيب في سؤال المحتاج الفقير، والله سبحانه وتعالى يمتحن عباده بالغنى كما يمتحنهم بالفقر، لينظر: أيشكر هذا أم لا؟ وهذا أيصبر أم لا؟ فالغرض من هذا التنفير، وتقبيح السؤال تكثراً، لكن لو طرأت على الإنسان حاجة فلا مانع أن يسأل؛ لأنه حقٌ له.

ذم احتقار المهن والأعمال

ذم احتقار المهن والأعمال ثم جاء هذا الحديث ليرشد إلى العمل المنتج عيب في عمل اليد الذي يستعف به صاحبه؛ لأن بعض الناس يعيبون بعض المهن، ويحتقرون الأعمال اليدوية، ويزدرون أشياء لا عيب فيها، فبعض الناس لو قلت له: تعال تعلم السباكة، قال: السباكة! تعال تعلم الخرازة، قال: الخرازة! هذه صفات كذا كذا، تعال تعلم النجارة، تعالَ خذ مكنسة واكنس في الشارع، وخذ راتباً وعش به، قال: أنا آخذ مكنسة وأكنس في الشارع؟! نعم لأنك ستموت جوعاً، أو تسأل تكثراً، فأيها أولى لك: أن تستغل طاقتك وصحتك في تنظيف الشارع للمسلمين، أو تتكفف الناس السؤال؟ وكيف تستعيب المكنسة ولا تستعيب من مد اليد؟! فيجب أن يكون عندك قانون مطَّرد، أنت تستحي من أخذ المكنسة؛ فيجب أن تستحي من مد يدك، اليد التي تمتد لسؤال الناس الأولى لها أن تمسك المكنسة، فهنا قال: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب) في ذاك الوقت المهن قليلة، مثل البناء والنجارة فلم تكن كثيرة، بل هي نجارة بلدية كل واحد يقدر أن يعملها، فكانت المهن محدودة، لكن الاحتطاب أمر عام، ومثله أن يحتش الحشيش من الوديان ومن الأراضي البيضاء، ويبيعه علفاً لأصحاب الدواب. فأي مهنة يجب ألا يحتقرها إنسانٌ، مادام أن هذا العمل يعفه عن تكفف الناس السؤال، وسمى لي بعض المشايخ - الله يغفر له ويرحمه- شخصاً كنت أعرفه، وكان يعمل في السمكرة، وكان هناك الصفيح تُعمل منه أباريق للحمامات، وتعمل أوعية للسمن من الصفيح (التنك) ، وهكذا تنك التمر وتنك الزيت، وكانت براميل البترول أو الغاز يصنعون منها أدوات، وكان هذا الشخص جالساً وجواره جماعة يخرزون ويخيطون الأحذية القديمة ويصلحونها، فجاء رجل تركي، ومعه نعل من الخشب والجلد، وفيه وساخة، والسير مقطوع، فجاء لهؤلاء الذين يصلحون الأحذية ليصلحوه له، فامتنع كل واحد منهم عن ذلك لأنه وسخ! وهذا السمكري شغله في التنك، وليس في الأحذية، فنادى الرجل: تعال، تعال، ما عندك؟ قال: عندي كذا كذا، قال: هاته. فأخذ القبقاب من طرف، وحك الوساخة التي فيه في الأرض حتى زالت عنه، ثم طلب من هؤلاء مسمارين فأعطوه فسمر الجلد في القبقاب، وأصبح صالحاً، وأعطاه نصف ريال، ونصف ريال في ذاك الوقت له قيمة كبيرة. وهو لم يعطه نصف ريال على كونه دق المسمارين، لكن على كونه قبل أن يعمل هذا في الوقت الذي رفضه الآخرون، فقام هذا الرجل واشترى بنصف الريال تميزاً وسكراً وشاياً، واشترى جبناً، ثم أفطر هو وزملاؤه وجيرانه من نصف ريال، ثم قال لهم: لمَ تردون هذا؟ النصف ريال هذا خسارة أن تضيعوه، ونحن جلسنا هنا لخدمة الناس. فهذا -يا إخوان- كنموذج، فأنت في صنعتك لا ترفض أن تعمل هذا؛ لأنه وسخ، الأرض -يا أخي- تنظفه، أو خذ خرقة ونظفه، فهذا الرجل ما ترفع أن يفعل هذا الفعل، وحصل من ورائه ما أفطر هو وجيرانه به. إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يترفع عن الأعمال، ما نشتكي من شبابنا السعودي إلا ترفعه عن كثير من مجالات الأعمال العامة، والشاب السعودي إذا تخرج وحمل شهادة -أياً كان مستواها- لا يريد إلا طاولة وتلفوناً وفنجان شاي وجريدة، هذا الذي يريده! وأما الأعمال الحرة فلا يريدها، مع أنها تدخل عليه أكثر من راتبه أضعافاً، لكن يريد أن يقال عنه: ذهب الدائرة، وجاء من الدائرة، ذهب الوظيفة وجاء من الوظيفة!! وقد شاهدنا في هذا المسجد النبوي بعض زملائنا في الدراسة، كان يصبح الواحد منهم في السوق متحزماً ويحمل على رأسه، ويساعد الفلاحين في إنزال البضائع، ويأخذ من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً، ويجمعها ويبيعها، ويرجع إلى بيته بما يحتاجه منها، وبما اشتراه من حاجات البيت، وإذا كان بين المغرب والعشاء تجده أميراً من الأمراء، عليه ثياب مكوية نظيفة، وكوفية مكية، وغترة مهذبة، جالس أمام الشيخ، فهذا من خيرة الناس لا يترفع أن يعمل في الصباح، فهو طالب علم لا يرضى لنفسه أن يمد يده. الحديث ليس مقتصراً على حزمة حطب لمن يريد أن يتعفف، بل الحديث مبدأ عام، وينبغي على كل إنسان عاقل أن يستعف بأي عمل، وقد ذكرنا أن على المسئولين إيجاد مجالات للعمل وللقضاء على العطالة والبطالة، لكن إذا لم يكن هناك مشاريع عند الدولة، وإذا لم تكن لديها إمكانات، فالعمل الحر واسع، من بيع وشراء أو صناعة أو غير ذلك. قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأتي بحزمةٍ) يأخذ حبلاً وفأساً كما في بعض الطرق، ولابد من فأس ليكسر به الحطب، وحبل يحزمه فيه، ويحمله على ظهره، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أميراً على بلدة، فكان يذهب إلى السوق، ويأتي بحزمة الحطب يحملها على ظهره ويقول: افسحوا الطريق لأميركم، فهو أمير ويحمل الحطب؟! لعله ليس عنده ما يستأجر به أحداً، وكما قيل: رب السلعة أولى بحملها. إذاً: لا يوجد عيب في العمل، كلمة (عيب) في عمل هي العيب، ولا ينبغي للإنسان أن يحتقر شيئاً، وهؤلاء الذين يغسلون السيارات لو تركناهم مفلتين في البلد ضائعين، لكانوا شراً على الناس، فهو يغسل السيارة ويأخذ له عشرة ريالات، يغسل سيارتين، ثلاثاً، أربعاً، أو أكثر أو أقل، فيقضي وقته وينفع الآخرين، ويكسب قوته، فأياً كان العمل -دون تسمية نوعٍ بذاته- فاعمله مادام ليس فيه حرام، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) ؛ لأنه يعمل بطاقته. وأعتقد أني أكثرت عليكم في هذا المجال؛ لأننا -فعلاً- في حاجة ماسة إلى هذا المنهج، بصرف النظر عن حزمة الحطب، أو عن سقية الماء، وقد رأينا طلاب علم كانوا يحملون الماء في أول النهار، ثم إذا جاء وقت الدرس حضروا كما ذكرت لكم، ولا يمدون أيديهم إلى الناس، وهكذا كثير من الناس من يبدأ حياته عاملاً صغيراً، ثم يتدرج ويبارك الله في عمله، ويصبح من كبار الأغنياء. يا جماعة! وجدنا جمعيات خيرية كثيرة، وجمعيات نسائية، وجمعيات لفئة كذا، ألا يمكن أن نوجد جمعية لإيجاد عمل للعاطلين أو للبحث عن عمل لهم أو مساعدتهم أو لإرشادهم لما ينفعهم؟ الإمكان يمكن، لكن هل يقبل أحد على هذا؟ حبذا لو أن جهة من الجهات تبنت هذه الفكرة، وكل من ليس عنده عمل يأتي إليهم، ويقول: أنا إمكاناتي كذا، أنا متعلم كذا، أنا أحسن كذا، أنا مستطيع أن أعمل كذا، وإذا كان إنسان يحتاج إلى عامل في شيء ما، يتصل بهم ويحصل على ما يريد من طريقهم، فتكون هذه الجمعية كواسطة بين المواطنين المحتاجين لعمال وبين الفارغين من العمل، وهذا يسهل الطريق، ويقرب الاتصال بين، العامل وبين الذي يريد أن يعمل عنده، لعل الله أن ييسر هذا، إن شاء الله.

جواز السؤال عند الضرورة أو سؤال السلطان

جواز السؤال عند الضرورة أو سؤال السلطان قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسألة كدٌ يكدُ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمرٍ لابد منه) رواه الترمذي وصححه] . هذا كالحديث المتقدم ما عدا هذا الاستثناء: (المسألةُ كدٌ) ، والكد مثل الخمشة، فهو رضة أو حفرة في الوجه. فتجوز المسألة للسلطان، وسؤال السلطان ليس داخلاً في هذا، ولماذا السلطان لا يكون داخلاً في هذا؟ لأنك إن سألت السلطان، والحالُ أن البلد مسلم، فالسلطان تحت يده بيت مال المسلمين، ولكل فردٍ حقٌ فيه، فإذا أعطاك السلطان، فإنما يعطيك من حقك الذي في بيت مال المسلمين، فلا يكون في ذلك كدٌ ولا خدوشٌ؛ لأنك لم تسأله ماله الخاص، كما تسأل عامة الناس فتكون ممن سأل الناس أموالهم تكثراً. أما إذا سألهم غير أموالهم، فإنسان عنده مثلاً وقف خيري على الفقراء أو على الغرباء، أو على الطلاب، وجاء واحد من هؤلاء المنطبق عليهم الوصف الموقوف عليهم، وجاء للناظر وقال: أعطني من حقي، أنا لي حق في هذا الوقف، فهو لم يسأل الناظر ماله، إنما سأله ما تحت يده، وللسائلِ حقٌ فيه؛ فليس في ذلك شيء، وكذلك سؤال الإنسان للسلطان؛ لأن السلطان يعطي الجميع، والسلطان تحت يده بيت مال المسلمين، فهو يعطي منه، وله أن ينظر من يعطي ومن لا يعطي، ومن يعطي الكثير ومن يعطي القليل على حسب ما يترجح عنده من مصلحة الشخص السائل. ومن باب الطرافة: أن أعرابياً جاء إلى معاوية وقال: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أعطيتني، فقال: هل يوجد رحم بيني وبينك وأنا قاطعها؟! قال: نعم، قال: ذكرني بهذه الرحم! قال: أنا وأنت أولاد آدم؟ قال: والله! أنت صادق، أتسألني بالرحم الذي تتصل إلى آدم؟ قال: نعم، قال: والله! هذه رحم يجب أن توصل، ولك حق، وكتب إليه كتاباً لعامله على بيت المال: ادفع إليه درهماً، وصك الكتاب، وقال له: اذهب بالكتاب إلى عامل بيت المال، فذهب الرجل ومعه كتاب من أمير المؤمنين معاوية، ففض الكتاب، فدخل وأعطاه درهماً! قال: ما هذا؟ قال: الذي كتب لك معاوية، قال: ألا تستحي؟! معاوية يكتب بدرهم؟! قال: هذا كتابه الذي أعطاك، خذه وارجع له، فرجع إليه، وقال: ما هذا يا معاوية؟! تكلف نفسك، وتكتب كتاباً إلى عاملك، وترسلني على درهم! قال: يا أخا العرب: والله! لو وصلت الرحم التي تصل إليَّ بها بمثل هذا ما بقي في بيت المال درهم! وهذا صحيح.

كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [1]

كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [1] إن من حكمة الله عز وجل أن جعل الناس طبقات مختلفة ومتفاوتة في الرزق، فجعل منهم الأغنياء والفقراء لينظر الشاكر من الكافر، وجعل للفقراء في مال الأغنياء نصيباً، ثم قسم هذا النصيب عليهم، وجعله محرماً على الغني، فلا تحل الصدقة لغني إلا في خمسة أحوال، وقد وضح الشيخ وجه حلها لهم وحكمة ذلك.

شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)

شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ تُصدق عليه منها، فأهدى منها لغني) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة وصححه الحاكم وأُعل بالإرسال] .

حسن ترتيب المصنف لأحاديث الكتاب

حسن ترتيب المصنف لأحاديث الكتاب نلاحظ أن المصنف رحمه الله رتب هذا الكتاب ترتيباً عملياً، فذكر أولاً كتاب الزكاة، ثم بيَّن لنا ما هي الأموال الزكوية، فبين أنها من بهيمة الأنعام، ومن الذهب والفضة، ومن عروض التجارة، ومما تخرجه الأرض، وبيَّن لنا أنصباء كل نوعٍ من الأموال الزكوية، سواء في بهيمة الأنعام المختلفة، ففي الإبل أول نصابٍ خمس وفيها شاة، وفي الغنم أول نصابٍ أربعون وفيها شاة، وفي البقر ثلاثون وفيها تبيع. ثم بيَّن لنا أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً وفيها ربع العشر، وأن نصاب الفضة مائتا درهمٍ وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا أيضاً عروض التجارة، وأنها تُقوَّم بالأحظ للمساكين بالذهب أو بالفضة وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا نصاب الحبوب والثمار التي تزكى، وأن أول نصابها خمسة أوسق، وأن ما سقي بماء السماء أو العيون بغير كلفة ففيه العشر، وما سقي بالكلفة ففيه نصف العشر. ثم عقَّب على ذلك بزكاة الفطر، وهي صاعٌ على كل إنسان سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً من المسلمين.

تولي الله تعالى لقسمة الصدقات

تولي الله تعالى لقسمة الصدقات وبعد أن بيَّن هذا كأنه يقول: لقد عرفنا الأموال الزكوية وعرفنا أنصباءها، فلمن تعطى تلك الزكوات التي جمعناها؟ فجاء بـ (باب قسم الصدقات) ، والأصل في هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله لم يكل قسم الصدقات إلى أحد، لا إلى صاحبها، ولا إلى نبيٍ مرسل، ولا إلى عالم فاضل، إنما تولاها سبحانه بنفسه، وكذلك الأموال المكتسبة بغير كدٍ ولا جهد، مثل الميراث، فقد تولى الله قسمته، وبيَّن أنصباء الورثة من الأقارب، كالأبوين والزوجين والأولاد، وبيَّن لكل صاحب فرض فرضه؛ لأن الميراث كسبٌ إجباري، ولا يملك إنسان أن يقول: أنا لا أرث، أو لا أريد الميراث، فنقول له: بل تمتلكه رغماً عنك، ثم بعد أن تمتلكه بالتوريث فتنازل عنه لمن شئت، فهو يدخل في ملكك بالقوة. فإذا قالت الأم مثلاً: لا أريد، فاجعلوا نصيبي وهو لأولادي، نقول: جزاكِ الله خيراً، نصيبك يدخل في ملككِ ثم يتحول عنكِ إلى أولادك، وهكذا الزوج لو قال: لا أريد من زوجتي ميراثاً، فنقول: جزاك الله خيراً، بعد أن يدخل في ملكك اعتباراً يتحول إلى أولادها منك أو من غيرك. إذاً: الميراث ملكٌ إجباري، ولهذا تولى الله قسمته. والصدقات كذلك، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المبادئ في قسمتها، فأما القرآن الكريم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] . و (إنما) كما يقول علماء البلاغة: أداة حصر، فبين سبحانه القنوات التي تسير فيها الصدقات، وهي ثمانية أصناف، وجاء في الصفة العامة فيمن يستحق الزكاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن فقال له: (أخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) . إذا نظرنا إلى الأصناف الثمانية في الآية الكريمة فسنجد أن عنصر الافتقار موجودٌ فيها كلها بدون استثناء. في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) قال: (الصدقات) ولم يقل: (صدقة) ؛ لأنها بالنسبة لتنوع الأموال الزكوية فهي صدقات: صدقة الإبل، صدقة الغنم، صدقة البقر، صدقة الحبوب، صدقة النقدين، صدقة التجارة، فهي صدقات ولهذا جمعت (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ، وأداة الحصر تمنع دخول غير المحصور عليهم، فالذي يلي (إنما) هو المحصور، والمحصور عليه يأتي بعد المحصور. إذاً: (إنما) أداة حصرٍ بإجماع أهل اللغة، و (الصدقات) محصورة على من يأتي بعدها من الأصناف الثمانية. ومن هنا يتبين أنه لا صدقة على غنيٍ؛ لأنه خرج عن نطاق الفقر والحاجة، وهما عنصران موجودان بقوة أو بضعفٍ في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة.

الأغنياء المستثنون من تحريم الصدقة عليهم

الأغنياء المستثنون من تحريم الصدقة عليهم هنا بدأ المصنف رحمه الله ببيان من لا تصح لهم الصدقة؛ لأن الذين تصح لهم الصدقة أصناف ثمانية، وأما الذين لا تصح لهم الصدقة فهم صنفٌ واحد وهم الأغنياء، وكما يقال: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) ، والشيء الذي يمكن حصره في التعليم والبيان ذكره أولاً أولى من الذي لا يمكن حصره، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (ماذا يلبس المحرم يا رسول الله؟ ... ) فالسؤال كان عن الذي يلبسه المحرم، فقال: (لا يلبس المحرم ... ) ، فنحن نسأل عن الملبوس، فأفادنا ما هو الذي لا يلبس؛ لأن ما يلبس لا حصر له، ولكن المراد هو اجتناب ما لا يلبس، واجتناب ما لا يلبس معدود. إذاً: لا يلبس القُمص ولا العمائم ولا البرانس، ولا السراويل ولا الخِفاف، فهذه أشياء محدودة، أي: فاجتنبها والبس بعد ذلك ما شئت. فيكون ذكر ما هو محصور أسهل وأيسر في التعليم من ذكر وتعداد ما لا حصر له، ولهذا بدأ المصنف رحمه الله كتاب تقسيم الصدقات بذكر من لا تحل لهم. قال: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة) : (لا تحل) أي: تحرم ولا تجوز. من هو الغني ومن هو الفقير؟ يختلف العلماء في حد الغني والفقير، فبعضهم يقول: الغني هو: من عنده قوت يومه وليلته؛ لأنه ليس محتاجاً، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الغني هو من يملك نصاباً؛ لأنه يعطي، والناس أحد قسمين: إما غنيٌ يزكي، أو فقيرٌ يأخذ، فالقسمة ثنائية، فالغني الذي تجب عليه الزكاة هو من امتلك النصاب، والفقير الذي يحق له أن يأخذ الزكاة هو من لم يمتلك نصاباً، ولهذا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله أن تعطي من الزكاة شخصاً يملك مالاً أقل من النصاب قليلاً؛ لأنه بهذا الوصف فقير وليس بغني.

الصنف الأول: العامل عليها

الصنف الأول: العامل عليها فهذه الزكاة أو الصدقة لا تحل لغنيٍ، ولكن هناك حالات اعتبارية تستثنى ولا تكون أساساً في أخذ الصدقة، ولكنها أمور اعتبارية تكون مع الأغنياء، فتحل لهم أخذ الصدقة وأكلها وهي: قال: (لعاملٍ عليها) العامل عليها هو من الأصناف الثمانية، والعاملون عليها هم الذين يكلفهم الإمام أن يخرجوا إلى البوادي ومواطن الأموال يحصون ويخرصون الأموال على أصحابها، ويأخذون منهم الزكاة نيابةً عن الإمام؛ لأن التكليف بجمع الزكاة من الأغنياء ابتداءً كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليس لديه من الوقت والإمكانيات ما يكفيه لكي يذهب إلى المياه والبوادي وإلى أصحاب الأموال حتى يجمع الزكاة، فكان ينيب عنه من يقوم بذلك؛ لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] . فـ (خذ) هنا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها) ، و (نا) هنا ضمير المتكلمين، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غيره: (ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمد منها شيء) . لو وقفنا هنا لوجدنا كم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل من أجل الأمة!! يقول: إن الذي يمتنع عن أداء الزكاة سنأخذها منه بالقوة، ونأخذ نصف ماله، وهل سيسلم نصف ماله أو سيقف دونه؟ الجواب: سيقف دونه، وإذا وقف دونه قاتلناه حتى نأخذه بالقوة. هذا التكليف من الله في تحميل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليتها، من أجل ان يقوم بها من يأتي بعده، ولهذا قام الصديق رضي الله تعالى عنه بهذا التكليف حينما امتنع قومٌ من دفع الزكاة إليه، بحجة أنهم مسلمون يصلون ويصومون، وسيزكون أموالهم بأنفسهم. فما الفرق بين أن كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يؤدوها إلى خليفته أبي بكر؟ أجابوا وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يأخذها منا، قد قال الله له: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، وهنا أبو بكر لا يصلي علينا، ولو صلى فصلاته علينا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فاتت صلاة رسول الله علينا عند إعطائه الزكاة، فلا نعطيها غيره، فهم مقرون بها، فأقسم أبو بكر وقال: (والله! لو منعوني عَقَالاً أو عِقَالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فهو لن يأخذها لنفسه وإنما سيأخذها ويقسمها أيضاً على الأصناف الثمانية. وهكذا يُحفظ ماء وجه الفقير، فلا يذهب إلى الغني ويقول: لي حقٌ في مالك فأعطنيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فقد يماطله ويقول: تعالى إلينا غداً أو نحن مشغولون الآن، فيبقى المسكين يتردد عليه من أجل أن يحصل على حقه. فحفظ الله كرامة المسكين في الإسلام ولم يعرضه لمذلة السؤال في حقٍ هو واجبٌ له، وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعها، وهكذا الخلفاء من بعده، ومن بعدهم، فكل من قام بأمر المسلمين عليه أن يقوم ويجمعها بنفسه، أو ينيب عنه من يجمعها ويأتي بها ليصرفها في مصارفها، كما فعل صلى الله عليه وسلم. فالعاملون عليها هم الذين ينيبهم ولي الأمر بأن يذهبوا ويجمعوا الصدقات من الأغنياء ويعطوها الفقراء، فهذا الذي قام وعمل لن يعمل مجاناً، وإنما هو عامل كالموظف، ومثل هذا يكون غنياً في نفسه، وليس في حاجة إلى الصدقة، ولكن ولي الأمر هو الذي كلفه بجمع الزكاة على أن يعطيه أجره، فيكون العامل على جمع الزكاة أجيراً للفقراء والمساكين وليس لولي الأمر؛ لأن الأجير لم يجمع الزكاة لولي الأمر ليأخذها لنفسه، بل ليوزعها على الفقراء والمساكين، فيأخذ العاملون على جمع الزكاة أجرهم من حق الفقراء. إذاً: العاملون على الزكاة هم أجراء وموظفون لحساب المساكين أصحاب الزكاة ليجمعوا الزكاة ويحضروها، فيجب أن يقتطع من حق أصحاب الزكاة أجر الأجراء، ولكن إن تحملت الدولة أجور العاملين على جمع الزكاة من عندها فجزاها الله خيراً، وإن لم تتحملها واقتطعتها من حق الفقراء فلها ذلك؛ لأنهم عملوا من أجلهم وجمعوها إليهم فلهم الحق فيها، فهذا العامل لو كان غنياً يخرج الزكاة عن ماله ويخرج زكاة أشياء عديدة، ولكن له حق من الزكاة؛ لأن ما يأخذه لا يأخذه لفقرٍ ولكن لأجرة العمل، فهو مثل أي موظف، فأعلى موظفٍ في الدولة يأخذ راتباً مقابل عمل، وهذا يأخذ أجراً مقابل عمل. ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن يكونوا من العاملين على جمع الزكاة؛ لأنهم سيأخذون أجرهم من حق الفقراء، من الصدقات، ولذا يقول بعض الفقهاء: يجوز لبني هاشم أن يكونوا عاملين عليها إن أعطاهم ولي الأمر أجراً من بيت المال، لا من الصدقات التي يجمعونها. إذاً: لا تحل الصدقة لغنيٍ. هذه قاعدة عامة، يستثنى منها العاملون عليها؛ لأنهم يأخذونها أجراً على عملهم. فالعامل له أن يأخذ أجره مقاطعةً، كأن يكون له في اليوم كذا، أو في الشهر كذا، أو يجعل له نسبة فيما يجمعه، مثلاً: (1%) ، أو (0. 5%) يجمعه من الزكوات، وهذا يرجع إلى نظر الإمام؛ لأنه يعمل لما فيه مصلحة الطرفين، (الغني والفقير) ، والمصلحة مراعاة للجانبين ابتداءً: جانب الفقراء، إن وجد أن من مصلحة الفقراء أن يجعل الإمام للعامل حصةً مقطوعة كنسبة مئوية، أو أجراً معيناً في الشهر أو الشهرين أو في مدة جمع الزكاة، فله ذلك.

الصنف الثاني: رجل اشتراها بماله

الصنف الثاني: رجل اشتراها بماله قال: (أو رجلٍ اشتراها بماله) أي: أو رجل غنيٌ اشترى الزكاة بماله، كأن يكون هناك إنسان فقير وجاءته زكوات وكثرت عن حاجته، وكان يحتاج إلى شيءٍ آخر سوى ما جاءه من الزكوات، كأن جاءته عشر شياه وهو يكفيه خمس أو ست يشرب حليبها، والباقي ليس عنده راعٍ يرعاها ولا يريد أن يكلف نفسه الرعي، ويحتاج إلى ملابس لأولاده، ويحتاج إلى الأرز والسكر والشاي، فيبيع من تلك الشياة التي جاءته صدقة؛ لأنها زائدةٌ عن حاجته وقد اقتصر على حاجته ليوجهها في حوائج أخرى. فجاء إلى جاره وقال له: جاءتني شياه وهذه زائدة عندي، فإن كان لك رغبة في شاة أو شاتين أو ثلاث بعتها لك، وجاره الغني يعلم أنها جاءت لجاره الفقير صدقة فاشتراها، فهو لم يأخذها على أنها صدقة وإنما اشتراها بماله، ولا فرق عند دفع الثمن بين أن يشتريها من فقير جاءته صدقة، وبين أن يذهب إلى السوق ويشتريها من التاجر. إذاً: هذا الغني الذي اشتراها بماله لم يأكلها صدقة، ولم يُتصدق بها عليه، وإنما هي بمقابل ماله ولو كان يعلم بأنها من الصدقات التي تُصدق بها على جاره.

الصنف الثالث: الغارم

الصنف الثالث: الغارم قال: (أو غارم) . الغارم ينقسم إلى قسمين: غارمٌ لنفسه، وغارمٌ لغيره. والغارم لنفسه تحته قسمان: غارمٌ في وجهٍ شرعي، وغارمٍ في وجه غير شرعي. فالغارم في وجهٍ شرعي: مثل إنسان متزوج امرأتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكل امرأة في كل سنة تلد توأمين، فأصبح في أربع سنين أو خمس سنين عنده عدد كبير من الأولاد، وإمكانياته لا تفي بحاجات هؤلاء، وهو مكلف بأن يسعى لسد حاجاتهم، فأخذ يستدين، والناس يعرفون ظروفه فأقرضوه وداينوه، حتى كثرت عليه الديون وأصبح غارماً لأصحاب الديون، فهذه الديون لحقته بسبب شرعي؛ لأنها لإعالة نفسه وأولاده. والغارم لنفسه في وجهٍ غير شرعي: مثل إنسان أخذ يبذر بماله الذي في يده في أمور غير مشروعة، إما أنها من باب التبذير في الحلال أو من باب الإنفاق في الحرام حتى فني ماله، ثم أخذ يستدين، فإذا كان يستدين لينفق في وجوهٍ محرمة لحقته الديون وأصبح غارماً، والديون التي لحقته وأصبح غارماً بسببها لأصحابها أنفقها في وجهٍ محرم، فحينئذٍ ذاك غرم في وجهٍ شرعي لحظه وحظ عياله، وهذا غرم في وجهٍ غير شرعي. فالغارم لنفسه غرماً شرعياً له حق أن يأخذ من الزكاة من أجل أن يسدد دينه الذي ركبه بسبب الحاجة وبالوجه الشرعي، وفي ذلك إعانة له على حياته، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] . أما الغارم في وجهٍ غير شرعي فلا يعطى من الزكاة؛ لأنه يدفعها في محرم، ويضعها في غير طريقها، ولو أعطيناه لكنا قد أعناه على الإثم والعدوان، والله قد نهى عن ذلك. إذاً: الغارم لحظ نفسه تحته هذان القسمان، أحدهما يأخذ والآخر لا يأخذ. والغارم لحظ غيره: مثل: رجل من أهل المروءات والنجدة والإحسان والإصلاح بين الناس، وجد عائلتين أو شخصين قد وقع بينهما نزاع وخصومة، والنزاع والخصومة في أموال، والأموال ملتبسة مشتبهة، وكلا الفريقين يدعي على الآخر وأدلتهم غير واضحة. فجاء يصلح بينهم بعد أن وقع بينهم النزاع والقتال والقطيعة والخصومة، فقال: أنا أتحمل لكم المال الذي تختلفون فيه مقابل الكف عن النزاع، فكفوا وتصالحوا وكونوا إخواناً، وهذا المال الذي هو سبب النزاع أنا أضمنه، فطالبوه فقال: أنا أجمعه لكم؛ لأنه ليس عنده مقدار المال الذي ضمنه للطرفين، فله الحق أن يأخذ من الزكاة ما يسدد ما ضمنه في ذمته للمتخاصمين؛ لأن في ذلك إصلاحاً بين الناس، حتى أن بعض العلماء قال: ولو كان غنياً فيعطى ولا نرهقه في ماله، حتى لا يتوقف بعد ذلك عن الإصلاح بين الناس. فإذا علم أنه سيسدد عنه من مال الزكاة ما ضمنه للغرماء الذين أصلح بينهم، فلن يتأخر في قضيةٍ أخرى أن يدخل فيها بالإصلاح. إذاً: الغارم لغيره يُسَاعد ويعطى ولو كان غنياً، ولا نرهقه في ماله؛ لأنه فاعل خير، وما دام فاعل خير فإنه يجب أن نعينه على فعل الخير. وأعتقد أن هذا كان معروفاً في الجاهلية عند العرب، فقد كانوا إذا تقاتلت قبيلتان وطال القتال بينهما يأتي شخص ذو نجدة ومروءة ويسعى بين الفريقين بالصلح فيكفوا عن القتال ثم ينظر: ماذا لكل قبيلة عند الأخرى من الدية؟ فتكون هناك المقاصة وما زاد يتحمله هو، سواء من ماله إن كان ذا مالٍ وفير أو يتعاون معه العرب ويجمعون له ما تحمل في ذمته، فيوفي ما التزم به للغرماء.

الصنف الرابع: الغازي في سبيل الله

الصنف الرابع: الغازي في سبيل الله قال: (أو غازٍ في سبيل الله) . كأن يدعو الإمام إلى النفير العام، وأن كل من كان ذا قوةٍ على القتال فليتقدم. فإذا تقدم رجل غني، وقال: أنا أريد سلاحاً، أعطوني سلاحاً وفرساً، ولوازم القتال، فله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه، قيل: لأول غزوة؛ لأنه بعد ذلك إن استشهد فإلى رحمة الله، وإن عاش فله من سهم الغنائم ما يغنيه. وإن كان فقيراً لا مال عنده، فعلى ولي الأمر أن يزوده إن استطاع، وإن لم يكن عند ولي الأمر ما يزوده فالكل معذور كما قال الله: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] ، فهو أدى ما عليه وتطوع بنفسه، ولكن لم يجد آلة القتال، ولا يمكن أن يذهب أعزل ليقابل مسلحاً، فهذا تهور وليس بقتال ولا شجاعة. إذاً: الغازي في سبيل الله إما فقير وإما غني، فإن كان فقيراً تعين على ولي الأمر أن يزوده بما يحتاجه من نفقةٍ في السفر، ومن سلاح وملبس ومركب وكل ما يحتاجه المقاتل، وإن كان غنياً فإن تبرع من عنده فهو غازٍ بماله ونفسه، وإن لم يتبرع فهو غازٍ بنفسه دون ماله، وله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه. وهنا يقول بعض العلماء: لو أننا قدَّرنا له في هذه الغزوة مسيرة شهر -الذهاب مع المعركة والعودة- ولكنه ذهب وقاتل ورجع في مدة عشرين يوماً، فهل نسترجع من هذا الغازي ما يقابل العشرة الأيام التي كنا قدَّرناها زيادة أم لا؟ ولو أننا قدَّرنا له في اليوم عشرة ريالات، واستغرق الشهر المقدر له، لكنه بدل أن يصرف عشرة ريالات في اليوم صرف خمسة ريالات، فرجع بنصف المبلغ الذي أعطيناه إياه، فهل يستحق الباقي الذي وفرَّه مما قدرناه له وأعطيناه إياه أم أنه لا يستحقه وعليه أن يرده إلى بيت مال المسلمين؟ الجمهور على أنه إن كان قد قتر على نفسه وضيق عليها في نفقته وما يلزمه حتى وفَّر شيئاً، فقد وفر من ملكه الذي أعطيناه إياه وامتلكه بوجهٍ شرعي، فما زاد فعليه وما نقص فله ولا يطالب بإعادة شيء؛ لأننا أعطيناه شيئاً مقطوعاً وقلنا: هذا مقابل ذاك. فالغارم إذا كان الدين الذي ركبه غرمه لنفسه في الخير أو لغيره، فإن كان لنفسه في نفقته ونفقة عياله، إن أعطي تطوعاً دونما حساب أو تقدير فكل ما جاءه يملكه، وإن كان غارماً لدينٍ أصلح به بين فريقين وتعين الدين الذي غرمه مائة ألف مثلاً وجاءه مائتا ألفٍ أو ثلاثمائة ألف، فعليه أن يرد الباقي إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه غنيٌ في ذاته وقد أعطيناه ما لحقه للمتخاصمين، فهو لم يُعط لكي يُتصدق عليه فهو غني، لكنه تصدى للإصلاح بين الفريقين، والإصلاح احتاج إلى مائة ألف، وعلم الناس بذلك فأخذوا يعطونه من حساب الزكاة حتى زاد على الدين الذي هو مطالبٌ به، فما زاد عن الدين الذي هو مدينٌ به وملتزم به بين الفريقين يرده؛ لأنهم لم يعطوه ليتملك ويستغني بمال الزكاة.

الصنف الخامس: الهدية للغني من الفقير المتصدق عليه

الصنف الخامس: الهدية للغني من الفقير المتصدق عليه قال: (أو مسكينٌ تُصدق عليه منها فأهدى منها لغني) . مثل أن تتصدق على جارك بزكاة الفطر تمراً أو براً أو زبيباً أو غير ذلك، فجئت يوم العيد تزوره فقدم إليك القهوة مع التمر -كما هي العادة- فنظرت وفطنت بأن التمر الذي قدمه إليك هو من تمرك الذي تصدقت به عليه، فهو عنده تمر كثير، وتُصدق عليه بتمور متعددة، ولكن حينما جاء بالقهوة وجاء معها بالتمر صادف أن جاء بالتمر الذي جاءه من عندك أنت، فحينما يقدم لك التمر مع القهوة هل تنظر وتقول: أنا لا أكل هذا؛ لأن هذا من صدقتي عليك، وأنا غني عن أكل الصدقة، أم أنك لا تأكل صدقةً ترجع فيها، ولكن قرىً وضيافة؟ الجواب: أنك تأكل؛ لأنك حينما تأكل من التمر لا تأكله على أنه منك، بل على أنه منه هو؛ لأنه قد امتلكه بوجهٍ شرعي وأصبح في ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك، إن شاء دفعه في صدقةٍ عنه وعن عياله، وإن شاء باع الزائد، وإن شاء أطعمه فقراء آخرين، وإن شاء ضيفك به. إذاً: هذا غني، وهذه الصدقة تصدق بها بالأمس وقُدمت إليه وهو غني، فلا مانع أن يأكلها، فهي تحل له؛ لأنها قدمت إليه لا في إطار الصدقة، ولكن في إطار الضيافة والقِرى. ومن هنا -كما يقولون- اختلف الاتجاه واختلف الاعتبار، واختلفت اليد فاختلف الحكم كما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: (أنه أصبح ذات يوم وقال: ائتوني بغدائي -والغداء كان في الضحى- فقدموا إليه خبزاً وخلاً وملحاً، فقال: لماذا الخل والملح وأنا أرى البرمة تغط باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله! إن ما في البرمة لا يحل لك، قال: ولماذا؟ قالوا: إنه لحمٌ تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة -فهذا كلام فقهي صحيح- فقال: هو عليها صدقة ولنا منها هدية) ، فيكون قد اختلف الاعتبار واختلفت اليد، مع أن اللحم واحد، فهذه فخذ شاة، وضعت في يد بريرة، فامتلكتها بريرة، ثم طبختها، فلها بعد ذلك أن تهدي منها لمن تشاء، فحينئذٍ أكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أنها هدية من بريرة، والمتصدق ذهب لحاله، والصدقة وصلت محلها وانتقلت من المتصدق عليه إلى الآخرين هديةً. وهكذا هذا غنيٌ تصدق على فقيرٍ بتمرٍ أو بلحمٍ أو بخبزٍ أو بأي شيء، ثم جاء الغني يزوره فقدم إليه طعاماً ومن ضمن الطعام ما كان تصدق به بالأمس عليه، فحينئذٍ تحل له تلك الصدقة؛ لأنها قدمت إليه باسم الضيافة لا باسم الصدقة.

تحريم الصدقة على الغني بمال أو تكسب

تحريم الصدقة على الغني بمال أو تكسب قال المصنف رحمه الله: [وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه: (أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلَّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقويٍ مكتسب) رواه أحمد وقوّاه أبو داود والنسائي] . بعدما بين المصنف رحمه الله أن الصدقة لا تحل للغني الذي عنده من المال ومن الطعام ما يغنيه عنها، جاءنا بنوعٍ آخر من الغنى، وهو غنى غير مباشر، فجاء بحديث أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة، فنظر فيهما فوجدهما جَلِدين، - (الجَلِد) القوي- فنظر فيهما وصوب النظر وتأمل، ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما) ، ثم بيَّن لهما أن الصدقة التي يطلبانها لا تحل لغنيٍ ولا لقوي مكتسب. يعني: إذا كان قوياً في بدنه فهذه طاقة يستطيع أن يستعملها ويتكسب بمقتضاها، فهو غنيٌ بطاقته، وبقوته، وباستطاعته أن يجد طريقاً للتكسب بهذه القوة، فإذا كان قوياً جَلِداً لكنه طلب مجالاً يصرَّف فيه هذه القوة ويتكسب عن طريقها ويستغني بما يتكسب فلم يجد؛ فالقوة وحدها لا تكفي، فهو فقير. فالقوي المتكسب لا تحل له الصدقة؛ لأنه بتركه التكسب مقصرٌ في حق نفسه، وكان عليه أن يُعمل تلك القوة في مجال التكسب ويستغني بما يتكسبه، وهذا في حدود الطاقة البشرية للإنتاج، فإذا كنت قادراً على العمل ولديك طاقة، فلا تهملها وتعطلها والناس في حاجةٍ إليها! وكما جاء أن شاباً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فوجده جَلِداً قوياً، فسأله عما يملك، ثم أرشده إلى الاحتطاب والبيع. وقد نبهنا سابقاً على أن ما تعانيه كثيرٌ من الدول الصناعية وليست النامية فقط؛ هي مشكلة البطالة، ففي بعض الدول في أوروبا توجد ثلاثة ملايين يد عاطلة. فكيف تعطلت طاقة ثلاثة ملايين؟ فلو اجتمعت هذه في جهاد، أو في حفر الأنهر، أو في بناء الجسور، أو في رصف الطرق، فكم ستنتج قوة الثلاثة الملايين هذه؟ إذاً: الطاقة البشرية هي أعز ما تكون في الأمة، فإذا تعطلت تعطل كثير من رأس مالها، ولهذا لما قال الشاب: ليس عندي شيء، وليس عندي عمل، وليس عندي مجال، وجهه صلى الله عليه وسلم إلى العمل الحر، فقال: (من عندك في البيت؟ قال: أنا والعجوز، قال: ماذا عندك من أثاث البيت؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه ونلتحف بالنصف الآخر، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما) فأخذهما وقال: (من يشتري مني هذين؟ فباعهما بدرهمين، وأعطى الشاب الدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بدرهم طعاماً واتركه عند أهلك، واشتر بدرهمٍ فأساً وحبلاً وائتني بهما، فذهب وأحضر الفأس والحبل، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه في الفأس وقال: خذ واذهب واحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب واحتطب وباع - ثم أتى فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع فيستغني، خيرٌ من أن يتكفف الناس السؤال أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) . وهكذا أيها الإخوة! الصحة والقوة والطاقة غنىً، فعلى صاحبها أن يصرفها فيما يعود عليه بما يغنيه عن الناس، وجميع أعمال الناس في هذه الحياة إنما هي بتصريف الطاقة البشرية، فالموظفون في مكاتبهم وفي جميع دوائرهم يتقاضون مرتباً على الطاقة البدنية أو الفكرية التي يبذلونها كل على حسب موقعه، ولهذا كانت المعاوضة على قدر العطاء. فالذي لديه وسيلة التكسب وله مجالٌ في إعمالها يعتبر غنياً بوجود هذه الطاقة، ووجود ما يوجهها فيه ويعود عليه ذلك بالكسب. أما إذا كانت الطاقة موجودة ولكن ليس لها مجال، ولم يجد ما يوزعها أو يصرفها فيه، فهو فقيرٌ يحتاج إلى العطاء، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [2]

كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [2] إن من محاسن شريعة الإسلام أنها حفظت كرامة الإنسان، وصانته عن الابتذال، فإذا كان الإنسان محتاجاً فقد جعل الله عز وجل له نصيباً في الزكاة، وأمر ولاة الأمر أن يعطوه نصيبه دون أن يحيجوه إلى إراقة ماء وجهه؛ لأن في المسألة ذلة وإراقة لماء الوجه ولهذا حرمها الشرع إلا لمن كان مضطراً إليها فرخص فيها لثلاثة أصناف فقط، ولما كانت الصدقة هي أوساخ الناس حرمها الله عز وجل على نبيه وآل بيته تطهيراً لهم وتكريماً، وفي هذه المادة بيان لآل البيت ولمن يحل له أخذ الزكاة.

الأصناف الذين تحل لهم المسألة ويصح إعطاؤهم من مال الزكاة

الأصناف الذين تحل لهم المسألة ويصح إعطاؤهم من مال الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) ] . هذا حديث قبيصة يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الصدقة لا تحل إلا لواحد من ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: رجل تحمل حمالة

الصنف الأول: رجل تحمل حمالة الصنف الأول: رجلٌ تحمل حمالة. والحمالة تكون بأن يحمِّل المرء ذمته حقوقاً لغيره، ليس له فيها شيء -كما أسلفنا- كأن يجد طرفين متنازعين على مال، ويقوم النزاع على تحصيل هذا المال، وكلٌ يدعي المال لنفسه، وليس هناك طريق لفض هذا النزاع إلا الصلح؛ لأنه ليست هناك بينة، ولا طريقة يعتمد عليها لإحقاق الحق لصاحبه، فيأتي هذا الشخص ويتدخل بينهما بالصلح فيتحمل المال المتنازع عليه بينهما في ذمته، ويصطلحان على ذلك، فهذا الشخص المصلح ليس عنده مال يدفع منه تلك الحمالة، أو أن عنده مالاً ولكن لا يريد أن يرهق نفسه، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل الناس ليجمع مقدار الحمالة التي تحملها. فهذا الشخص نحن نعرف أنه غني بأملاكه، وبكسبه، وبمزروعاته، وبعمائره، فيأتي ويقول: أنا يا جماعة الخير! تحملت بين فلان وفلان مبلغ كذا، أريد أن تجمعوا لي منه، فحينئذٍ يجوز لكل إنسان يستطيع أن يدفع شيئاً أن يقدم إليه مساعدةً في حمالته. ومعلوم أنه لن يعلم أحد مقدار ما جمع بالنسبة للحمالة، فقد تكون الحمالة مائة ألف وهو يسأل، ثم لا يعلم أحد كم جمع في هذا المجلس، ولا في ذاك المجلس؟ ولا كم حصل عليه؟ فتكون حاجته للمسألة أمر بينه وبين الله. فإذا جمع بالمسألة التي حلت له بموجب الحمالة مقدار الحمالة فليمسك، ولا يحق له أن يأخذ شيئاً زائداً عن حمالته؛ لأن الناس لا يعطونه لشخصه، إذ هو غني في الأصل، ولا يحق له أن يأخذ لشخصه شيئاً، إنما أخذ من أجل الحمالة، ومن أجل الإصلاح، وقد حصل على مقدار الحمالة فانقطع سبب السؤال الذي أحل له المسألة. وهنا كما قالوا: يُعطى ولو كان غنياً، من أجل مساعدة أهل المروءة وأهل النجدة، وأهل المعروف، حتى لا يتكاسلوا ولا يتراجعوا عن التدخل في الإصلاح بين الناس، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، ولهذا حل له أن يطلب ويسأل ويصرح، سواء أخذ من بيت مال المسلمين من الزكاة، أو أخذ من الأفراد، فكل ذلك جائز له، فإذا حصل على مقدار الحمالة فليمسك عن السؤال.

الصنف الثاني: من أصيب في ماله بجائحة

الصنف الثاني: من أصيب في ماله بجائحة قال: [ (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] . الصنف الثاني: رجل أصابته جائحة، والجوائح كثيراً ما تكون في الزروع، وقد تصيب غير الزروع، والأصل فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. ومثال الجائحة أن يأتي إنسان إلى مزرعة بعد أن ظهر في ثمرها الصلاح وحلّ بيعها، فاشتراها على أنها مبقاة في أرضها أو في نخيلها، حتى ترطب، ثم يأخذها إلى السوق، فجاءت جائحة: كرياح عاتية، أو برد شديد، أو أي آفة من آفات الزراعة وأفسدت تلك الثمرة، وأصبح المشتري لا يستطع أن يستفيد مما اشتراه شيئاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، بمعنى أن على صاحب البستان أن يرد الثمن للمشتري؛ لأن المشتري لم يستفد شيئاً، وقد ثبت في الحديث: (فبم يأكل أحدكم مال أخيه؟) . أنت بعتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، فجاءت الجائحة وأفسدتها، فبأي وجهٍ تأخذ العشرة آلاف هذه وتأكلها؟ ليس لك وجه حق؛ لأن المشتري لم يستفد من الثمرة شيئاً، فالجائحة لم تنزل عليه إنما نزلت على مزرعتك وفيها الثمرة المباعة. والجوائح ليست من الأرض أو من فعل الخلق، إنما هي من فعل الله سبحانه وتعالى، فهي آفات سماوية كما يقولون. ومثال آخر للجائحة: لو كان هناك سفينة في عرض البحر فهاج بها البحر وتلاطمت بها الأمواج من كل جانب فغرقت، فهذه أيضاً تكون جائحة. فالإنسان إذا أصيب بجائحة في ماله، بعدما كان يعد من كبار التجار والأغنياء، وكانت سفنه تعبر المياه، وكانت سياراته تعبر الصحراء بالبضائع، لكنها أصيبت بجائحة، وذهب رأس ماله في هذه التجارة، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل لكن هل له أن يسأل حتى يصيب العوض لكل ما ذهب منه؟ كالسيارة التي فيها مائة ألف، والباخرة التي فيها من البضاعة ما قيمته نصف مليون، والبستان الذي فيه ما يعادل خمسمائة ألف، فهل يسأل حتى يصيب قيمة ما تلف عليه، سواء كان في البستان أو في الباخرة، أو في السيارة؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس في باب معاوضة ومثامنة مع الله، وإنما نظراً لاجتياح ماله، ولأنه أصبح صفر اليدين؛ فإنه يسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أي: الذي يقيم معيشته، والذي يقيم حاجته، ويستغني بما يجمعه عن تكفف أيدي الناس، فإذا أصاب قواماً من عيش فليمسك، وله أن يبدأ تجارته من جديد، والله هو الرزاق. إذاً: هناك فرقٌ بين الأول والثاني، فالأول له أن يسأل حتى يستوفي كامل حمالته، وأما الثاني فإنه يسأل إلى أن يصيب قواماً من عيش، وهو الذي تكون به معيشته، ويصبح كما يقال: كعامة الناس، ثم يمسك عن المسألة.

الصنف الثالث: من أصابته فاقة

الصنف الثالث: من أصابته فاقة قال: [ (ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] . الصنف الثالث الذي تحل له المسألة: شخصٌ أصابته فاقة، لا بجائحة وقعت عليه، ولكن بطبيعة حاله، كما لو كان يشتغل بالبيع والشراء والسوق ينشط ويكسد، والتجارة ربح وخسارة، فكسد بيعه وخسر في التجارة، فهو بهذا أصابته فاقة وفقر. ومثل هذا لو عجز عن العمل في وظيفته أو صناعته فتركها، أو أن صناعته لم يبق لها سوق، واستبدلها الناس بأخرى تغني عنها، وأصبح لا يحسن شيئاً غير الذي كان يحسنه أولاً، وجاءت هذه الأشياء المستحدثة وعطلت صناعته، مثاله: ما كنا نشاهد قبل زمن من صناعة الجلود الوطنية، كالقراب، والنعال، وأشياء أخرى، والآن أصبحت هذه الأشياء مستوردة وبربع القيمة وتؤدي خدمة أكثر من الصناعات الأولى، وأصبح لا يستعمل المصنوعات المحلية إلا بعض أهل البوادي، فجاءت الآن الثلاجة، وأصبحت هذه القربة الآن -كما يقولون- من التراث القديم. فإنسان كانت صنعته أن يعمل القراب ويبيعها، ويصنع النعال ويبيعها، وهذه صناعة وطنية، لكنها أصبحت الآن ليس لها رواج، وبالتالي يصاب صاحبها بالفاقة بسبب تعطيل مهنته. ومثل هذا أيضاً الوراقون الذين كانوا يكتبون الكتب لطلبة العلم، فقد كسدت حرفتهم؛ لأن المطابع الحديثة الآن صارت موجودة، وهي تدفع بالكتب إلى الأسواق بكميات كبيرة. فإذا كان هناك إنسان أصابته فاقة سواء بسبب كساد عمله وتفويت باب رزقه الذي كان معتاداً عليه، أو أن السوق هبط ولحقته الفاقة بعدم وجود الربح في سلعته أو في السوق بصفةٍ عامة، وأصبح فقيراً ذا فاقة، ففي هذه الحالة تحل له المسألة إلى أن يصيب قواماً من عيش. كذلك هنا لا نقول: إنه قد حلت له المسألة إلى أن يعوض كل ما فقده، أو إلى أن يرجع إلى ما كان عليه في نشاط تجارته؛ لأن المقصود أن لا يبقى يتكفف الناس بالسؤال، بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة مفروضة له، فلو أعطي من الزكاة بدون مسألة عطاء أياً كان مقداره فلا شيء عليه، ما دام لم يتكفف الناس السؤال، ولم يرق ماء وجهه أمام الناس لما جاء عن عمر رضي الله عنه: (أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني) ، أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير، فأعطه من هو أحوج مني، (فقال: يا عمر! ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ إليه فخذه، فإن شئت تمولته، وإن شئت تصدقت به) ، أي: فأنت تملكه وليس عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة. إذاً: في هذا الحديث بيان متى يجوز للإنسان أن يقوم ويتكفف ويسأل: يا فلان! أعطني، يا أيتها الجمعية الفلانية أعطيني، أنا حالي كذا وكذا، إلا أنه جاء فيه القيد في الصنف الثالث الذي أصابته فاقة. قال: [ (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة) ] . نحن عندنا ثلاثة أصناف: صنف تحمل حمالة، وصنف اجتاحت ماله جائحة، وصنف أصابته فاقة، ولم يأت قيد الإشهاد من ثلاثة من ذوي الحجى إلا على من أصابته الفاقة، فلماذا جاء هذا القيد؛ وهو أن يأتي بثلاثة شهودٍ ليسوا عاديين، ولكن من ذوي العقل والفطنة والمعرفة بحياة الناس؟ وما الفرق بين الأصناف الثلاثة، حتى يشترط للثالث الذي أصابته الفاقة أن يشهد له ثلاثة من أرباب الحجى، من أهل محلته الذين يعيشون معه؟ ولماذا الذي تحمل حمالة والذي أصابته جائحة لم يطالبا بأن يقدما شهوداً؟ الجواب: الجائحة لا تحتاج إلى إشهاد عليها، فهي بنفسها شاهدة على نفسها، كإنسان كانت بساتينه قائمة والثمرة موجودة فيها، فأتت عليها رياح شديدة، فأفسدتها؛ فسيقول الناس عنه: مسكين! كسرت الرياح نخله وأطاحت بثمره؛ فهذه الجائحة بنفسها ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ولا تحتاج إلى إشهاد عليها. وكذلك الذي تحمل حمالة، ليس عمله في السر، فهؤلاء أناس متنازعون، والنزاع معروف عند الجميع، فهذا جاء وأوقف النزاع، وعلم الجميع أنه كان سبب إيقاف النزاع، وأنه تحمل لهم. إذاً: الذي تحمل حمالة، ومثله الذي أصابته جائحة لا يحتاج إلى الإشهاد؛ لأن حالته شاهدةٌ عليه وشاهدةٌ له، أما من كان ظاهره اليسر بين الناس، ويلبس كالمعتاد، ولكن شأنه في بيته لا ندري عنه، ولكنه في الواقع من الذين قال الله تعالى فيهم: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] ، فهو يبعد عن نفسه منظر الفقر والحاجة؛ إعزازاً لنفسه وكرامةً لشخصه وابتعاداً عن التهم، وهو في حقيقة الأمر محتاج وعنده فاقة. فهنا لما كانت حالة الفاقة خفية احتجنا فيها إلى إشهاد ثلاثة أشخاص معروفين من ذوي الحجى -أي: العقل- يعرفون مكسبه ومصرفه، وأن مصرفه أكثر من مكسبه، ونحن الآن نجد صوراً عديدة وكثيرة جداً من هذا الباب، ولكنها قد تكون خفية في أبناء المجتمع، فقد تجد إنساناً في الصباح وتسأله أين تذهب؟ يقول لك: أذهب إلى العمل، وفي الظهر تلقاه وتقول: من أين أتيت؟ يقول لك: من العمل، وتراه يركب سيارته وثيابه نظيفة ومتميزة، ولكن راتبه على هذا العمل أربعة أو خمسة آلاف، وعنده زوجتان وكل واحدة عندها خمسة أو ستة أولاد، ويحتاج إلى شقتين، ويحتاج إلى كذا وكذا، فماذا يصنع براتبه بجانب هذه التبعات؟ فهذا أصبح مصرفه أكثر من مورده وأصبح في فاقة، ولذلك يعطى من الزكاة؛ لأن المسكين عند العلماء من كان دخله أقل من مصرفه. وعلى كلٍ: فهذا الشخص يحتاج إلى ثلاثة عقلاء يشهدون لله أن مرتبه كذا، وإذا كان في آخر النهار فهو يتسبب في كذا، مثلاً: يذهب يبيع ويشتري في السوق، أو يعمل سواق (تاكسي) أو يعمل عملاً حراً، فيشهدون أنهم يعرفون دخله ويعرفون مصرفه وكثرة نفقاته، وأنه ليس عنده ما يوفره، وليس عنده ما يكمل حاجة أولاده وعياله، فهذا في فاقة؛ فإذا كان مديناً فإنه يوقف الطلب عنه، وهذا ما يسمى (بإثبات الإعسار) ، إذا استدان وجاء الدائنون يطالبونه فاعتذر وقال: ليس عندي ما أوفيكم به فأنا في فاقة، ومدخلي لا يفي بمصرفي، فإذا شهد ثلاثة من ذوي الحجى على تلك الحالة أُوقف عنه الطلب، وأنظر إلى ميسرة، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] . فهذا هو الصنف الثالث الذي يحق له أن يسأل الناس وله عليهم أن يعطوه؛ لأنه ممن يستحق، وقد يكون أولى بعشرات المرات من الشخص الذي لا تعرفه ويطوف على الناس، متخذاً المسألة مهنة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الناس تكثراً لقي الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ) ، وفي قصة الرجل الذي مات وقدم للصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: ثلاث كيات من نار) ، لماذا هذا الوعيد والناس قد تترك مئات الملايين؟ والجواب: أنهم ما كانوا يتكففون الناس بالسؤال، وما كانوا يتكثرون بالمسألة، بل كانوا يعملون، وكانوا يديرون أموالهم ويربحون، ولا مانع يمنعهم فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة بكاملها، وعثمان رضي الله تعالى عنه موَّن جيش العسرة بكامله، فهذا إذا مات كم يكون قد ترك في تركته؟ لكن هذا الرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم بثلاث كيات من النار مقابل الثلاثة الدنانير، كان يسأل الناس، والذي يسأل الناس لا يجوز له أن يسأل إلا مقدار حاجته يومياً، فإذا مات وكفن عنده رأس مال قدره ثلاثة دنانير، فيكون معنى هذا أنه كان يسأل آخر مسائله عن غنىً؛ لأنه لديه ثلاثة دنانير، ولا يحق له أن يسأل وعنده مثل هذا. إذاً: هذا الذي أصابته فاقة يحتاج إلى إقامة الشهادة، والشهادة فيها شهادة خاصة بأن تكون من ثلاثة من ذوي الحجى ممن يعرفون حالته، فإن شهدوا على أنه أصابته فاقة فحينئذٍ له حق المسألة، وإن كان مديناً أُوقف الطلب عنه حتى يُيسر، والله تعالى أعلم. [ (قال: فما سواهن من المسألة يا قبيصة! سحت يأكله صاحبه سحتاً) رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان] . أي: وما سوى هذه الثلاث الحالات فما يأكله -أي ما يأخذه- صاحبه يكون سحتاً، والسحت: هو أشد ما يكون من أكل أموال الناس بالباطل.

تحريم الصدقة على آل البيت

تحريم الصدقة على آل البيت قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) . وفي رواية: (وإنها لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد) رواه مسلم] . هذا البحث يأتي به المصنف رحمه الله تتمةً لمن لا تحل لهم الصدقة، وقد عرفنا فيما تقدم أن الصدقة لا تحل لغنيٍ ولا قويٍ متكسب، وتحل لثلاثة نفر وهم الذين ذكرهم في حديث قبيصة. فجاء المصنف بهذا الحديث وفيه: (أن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد صلوات الله وسلامه عليه) ، والأخبار في هذا كثيرة، وقد تقدم حديث: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ منها شيء) . وقد سبق التنويه في أول كتاب الزكاة إلى أن الله سبحانه وتعالى كلف رسوله بجمعها وتقسيمها، مع أنه لا يحل له منها شيء، وقلنا: إن في عفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أموال الناس -وآل بيته تبعاً له- سداً ومنعاً لتلك السهام الآتية ممن في قلوبهم المرض، فلو قام وجمعها وأخذها وشطر المال إذا امتنع صاحبها من أدائها، وكان له من الزكاة ما شاء، كالربع أو الخمس، لقال القائلون من مرضى القلوب: ما قام ولا تعب ولا تكلف جمعها إلا لأن له حظاً فيها، ولكن حينما يُمنع منها بالكلية وتحرم عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا قام صلى الله عليه وسلم واجتهد فيها وجمعها فلا يمكن لأي نفسٍ مريضة القلب أن تتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذها وجمعها بأي تهمةٍ أو شبهة؛ لأنها محرمة عليه. إذاً: فلماذا يفعل هذا؟ الجواب: يفعله طاعةً لله، وحفظاً للمسكين من أن يريق ماء وجهه عند الناس. ومما جاء أنه فعله صلى الله عليه وسلم تحرزاً وتحفظاً في هذا الباب: (أنه كان يمشي ومعه الحسن رضي الله عنه -وهو طفل صغير- فرأى تمرةً في الأرض فالتقطها ووضعها في فيه، فنهاه وقال له: كخ كخ وأدخل إصبعه في فيه وأخرجها منه، ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركتها له يأكلها) . فهنا قال: (أخشى أن تكون) ، فما بالك بالتي هي من الصدقة يقيناً! فهي محرمة عليه من باب أولى.

سبب تحريم الصدقة على آل البيت

سبب تحريم الصدقة على آل البيت ثم بين هنا في هذا الحديث سبب التحريم فقال: (إنما هي أوساخ ... ) ، يا سبحان الله! هذه تمرة تشتهيها النفس، فكيف تكون أوساخاً والدينار الأحمر الذي يلمع وله بريق يخلب الأنظار، كيف يكون أوساخاً الثوب الجديد الذي لم يلبسه أحد، يشتريه المزكي من الدكان من النوع الجيد وهو جديد، من المصنع إلى الدكان إلى يد المسكين، فكيف يكون أوساخاً؟ قالوا: الصدقة تكفر الذنوب، والصدقة تطهر المال، فكأن الصدقة بطيبها تحمل عن صاحبها كل أوساخه المعنوية، ومن هذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله بنجاسة الماء الذي يمر على البدن، ويُرفع به الحدث الأصغر أو الأكبر، فاعتبره متنجساً بما حمل من الحدث، فلو أن إنساناً دخل الحمام ومكث فيه ساعة، وجعل يتليف بالصابون والشامبو، ثم خرج من أحسن وأنظف ما يكون، ولكن عند خروجه أراد أن يلبس ثيابه وفي حركةٍ ما مس فرجه، فانتقض وضوؤه، فتوضأ، فماء الوضوء الذي مر بهذا الجسم الذي مكث ساعةً في الحمام، ولم يخرج ولم يعرق، ما الذي نجسه؟ يقول الإمام أبو حنيفة: حلَّ فيه الحدث الذي من أجله توضأ، والحدث نجس. هكذا يقول رحمه الله، وإن كان العلماء ناقشوه في هذه المسألة، والذي يهمنا هنا أن الصدقة أوساخ الناس، والمراد بالوساخة وساخة معنوية. إذاً: مقياس الحلال والحرام ومقياس الطيب والخبيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم له اعتبار فوق اعتبارات كل المقاييس؛ لأنه مقياسٌ معنوي لا يصل إليه الإنسان العادي؛ لأن الأوساخ العادية تدرك إما بالعين وإما بالشم، وإما بالإخبار، ولكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم المقياس أعمق من هذا كله: (إنما هي أوساخ الناس) وهي أطيب ما تكون في ذاتها وفي نوعيتها، ولكنها لما دخلت في قناة الصدقة أخذت تطهر المال من كل شائبة، وأخذت تزكي صاحبها كما في الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، أي: من كلا الطرفين، فتطهر الفقير من دنس الحقد والكراهية للأغنياء الذين يعطون الزكاة، فلا يكون حاقداً عليهم، وتزكي الغني بما يدفع من ماله. ومعنى (تزكي) : أي: تنمي ماله عوض ما أخرج من المال في الزكاة، ففيها تطهير، وما دامت كذلك فهي أوساخ الناس، ولهذا لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لآله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وسيأتي المصنف بزيادة كلام في هذا الباب، وقد سبق أن أشرنا إلى أن آل البيت إذا لم تعد هناك غنائم، ولم يكن هناك الخمس، فهل يُعْطون من الزكاة إذا كانوا أصحاب فاقة وحاجة؟ أشرنا بأنه من الضروري أن يُعطوا؛ لأنهم حينئذٍ يأخذون بوصف الحاجة لا بوصف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آل البيت هم بنو هاشم وبنو المطلب

آل البيت هم بنو هاشم وبنو المطلب قال المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد) رواه البخاري] . تقدم في الحديث الذي قبل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) ، ثم جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث ليبين من هم آل محمد صلوات الله وسلامه عليه. وآل الرجل هم أقاربه من العصبة، فيقول: (ذهب جبير بن مطعم وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب ولم تعطنا ونحن وإياهم سواء) ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد وذلك أن) جبير بن مطعم وعثمان بن عفان يلتقيان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف،فـ عثمان، هو عثمان بن عفان بن عبد شمس بن عبد مناف، وكذلك جبير بن مطعم، فنسب عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد مناف، ولكن هاشم أقرب من عبد مناف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبنو المطلب وبنو هاشم لم يفترقوا، بل هم شيءٌ واحد، فقد جاء في بعض الروايات: (لم نفترق في جاهلية ولا إسلام) ، وقد بيَّن أصحاب النسب والسيرة أنه لما كتبت الصحيفة الظالمة بمقاطعة بني هاشم انضم بنو المطلب معهم ودخلوا الشعب، سواء من كان مسلماً ومن كان غير مسلم، ولم يخرج عن ذلك إلا أبو لهب لما كان منه من عداوةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يشترك معه في جده عبد المطلب، وهكذا العباس وحمزة وأبو طالب، يشتركون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد المطلب. ثم جاء لـ أبي طالب علي وجعفر وعقيل، وجاء للعباس عدة أبناء، فـ العباس رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وحمزة رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وكذلك أبو لهب عمه، ولكنه لم يسلم ولم يكن له شيءٌ من الفيء أو من خمس الخمس، وليس ممن تحرم عليهم الصدقة. وقيل: إن أبناء أبي لهب منهم من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم وشهد خيبر، وقيل: إنهم أسلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم من أولاد أبي لهب فيدخل في آل البيت نسباً، وأما من لم يسلم فإن الإسلام قد فرق بينهم. إذاً: من ثبت أنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في هاشم أو في عبد المطلب؛ فإنهم يكونون سواء وتحرم عليهم الصدقة، هذا الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراد حديث جبير بن مطعم. وقد سبق أن قدَّمنا أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم خمس الخمس، فكان يغنيهم عن الصدقة، وأشرنا إلى أن هناك من قال: إنهم إذا انقطع عنهم ما كان لهم من خمس الخمس؛ فإنه لم يبق لهم واردات، فيأخذون كما يأخذ عامة الناس لوجود وصف الحاجة فيهم.

جواز أخذ آل البيت من صدقة التطوع بعد تعطل الخمس

جواز أخذ آل البيت من صدقة التطوع بعد تعطل الخمس وجاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه: أن آل البيت لا يأخذون الصدقة التي هي الفريضة، التي جاء فيها أنها أوساخ الناس، أما صدقة التطوع فيأخذونها لأنها كالهدية، فلا بأس أن يُعطوا من الصدقة التي ليست بفريضة وليست بنذر ولا بكفارة، وإنما هي تطوع من صاحبها، فإنها تشبه الهدية فلا تحرم على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك إذا تعطل نصيبهم من الغنيمة أو من الفيء فلم يبق لهم إلا بيت مال المسلمين، فلهم أن يأخذوا من الزكاة سواء من الفريضة أو التطوع لحاجتهم وانقطاع موردهم، فهذا هو ما يقتضيه الواقع، ولا ينبغي أن يترك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للفاقة والحاجة على أنهم لا تحل لهم الصدقة، فالصدقة لا تحل لهم حينما كان هناك عوضٌ عنها، أما إذا لم يكن هناك عوض فإنهم يستحقون منها، بل هم أولى من غيرهم لصلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعرفون لآل البيت مقدارهم ويكرمونهم ويعظمون شأنهم في سبيل الله، محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترافاً بفضل صلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن نعلم جميعاً ما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه حين خرج بالمسلمين ليستسقوا، فقال عمر: (يا عباس! قم فادع لنا، ثم قال: اللهم! إنا كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله ونحن نستسقي بـ العباس عم رسول الله) ، فلكونه رضي الله تعالى عنه عم رسول الله اختاره عمر، مع وجود عمر بذاته ووجود عثمان وغيرهما من الصحابة الكرام الأجلاء رضوان الله عليهم، فلم يختر عمر أحداً، بل ولم يتقدم هو بنفسه مع أنه هو الخليفة، ولكن قال: (نستسقي بـ العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فعرف للعباس مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمه ليستسقي لهم وقال: (قم يا عباس فادع ونحن نؤمن) . وتجدون في بعض الآثار: (إن الأئمة وفداؤكم إلى الله سبحانه وتعالى، فانظروا من توفدون إلى الله) ، فالإمام الذي يؤم الجماعة هو وافد القوم إلى الله؛ لأنهم قدموه بين أيديهم إلى الله ليسأله، وليؤمهم ويدعو ويشركهم في الدعاء، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله) ، وهنا عمر رضي الله تعالى عنه قدم العباس؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن الآن إذا كنا في أمر فيه المفاضلة بين الناس كالإمامة، والقضاء والتعليم ونحو ذلك، ووجد من آل البيت من يساوي غيره، فقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجحه على غيره ما دام مساوياً له.

موالي آل البيت منهم فتحرم عليهم الصدقة

موالي آل البيت منهم فتحرم عليهم الصدقة قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لـ أبي رافع: اصحبني؛ فإنك تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله) ] . بعد أن بين المصنف رحمه الله من هم آل البيت؟ أتبع ذلك ببيان من هم أتباع آل البيت، وذلك في قوله: (إن رجلاً بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ... ) ، أي عاملاً له على جمع الزكاة. ونحن نعلم أن العاملين عليها لهم أجرهم منها، فقال لـ أبي رافع: اصحبني، واذهب معي لعلك تصيب من مال الزكاة، أي: من سهم العاملين عليها. فهنا توقف أبو رافع، وقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، وهذه هي النعمة الكبرى على الرعيل الأول، أن ما يطرأ لهم من أحكام أو ما يطرأ لهم من أحداث أو من مسائل مستجدة يحوك في نفوسهم منها شيء أو يجهلونها، فإنهم سرعان ما يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم الحكم فيها. ولهذا كان وجوده صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول نعمة عظيمة؛ لأنه كان يبين لهم الأحكام في الأحداث التي كانت تستجد، فهذا الرجل الذي كُلف بالعمل على الصدقة لقي في طريقه أبا رافع، فقال له: تعال معي لعلك تصيب من العمالة، وهنا أبو رافع لا يعلم هل يصح له أن يذهب مع هذا الرجل أم لا؟ وهل يسمح له بأن يذهب معه أم لا؟ وهل هذا التكليف خاصٌ بهذا الرجل فلا يحق لأحد المشاركة فيه، أم أنه يجوز أن يشاركه؟ وبعضهم يقول: كان الرجل يريد أن يولي أبا رافع العمالة على جهة من الجهات التي ولي عليها، فتكون هذه تولية من الرجل لـ أبي رافع في عملٍ قد كلَّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الرجل نفسه، فـ أبو رافع لو ذهب فستكون ولايته على الجانب الذي يوليه إياه ذاك الرجل وليست ولاية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل الرجل أعطي الحق في أن يولي غيره؟ لأنه إذا وكل إنسانٌ إنساناً فيجب أن يباشر الموكل العمل الذي وكل فيه بنفسه، إلا الأمور التي لا تتأتى من مثله، أما أن يوكل شخصاً آخر لينوب عنه في بعض الأعمال فليس له حقٌ في ذلك؛ لأن من وكله لم يعطه صلاحية التوكيل عنه. وأيضاً: أبو رافع رضي الله تعالى عنه يحتمل أنه ظن أن تولية الرجل إياه في العمالة على الصدقة ولايةٌ في جمع أموال الناس، وأموال الناس معصومة ولا يحق لأحدٍ أن يأخذها إلا بولايةٍ شرعية، وهل هذا الرجل يملك بأن يولي شخصاً آخر في شيء لم يأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوقف أبو رافع لذلك. وقال: لا أصحبك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله. قال: [ (فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، قال: لا تذهب معه؛ لأن مولى القوم من أنفسهم أو منهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة) رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان] . إذاً: أبو رافع هذا مولى لآل البيت، كما يذكرون في التاريخ أنه كان مملوكاً للعباس قبل إسلامه، فأهداه العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بإسلام العباس؛ لأنهم كانوا يتوقعون ويرجون إسلامه، فمن فرحه صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه العباس قال: (أنت حرٌ لوجه الله) ، فأعتقه لكونه بشره بإسلام العباس، وهكذا الجبلة: أن كل من جاءك بخبرٍ سار في أمرٍ شديد عليك أو في أمرٍ تتوقعه أنك ترضيه، فكما سرك وشرح صدرك فأنت تسره تشرح صدره بما تيسر لك. وفي قصة توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كان كعب بن مالك في بني سلمة -عند مسجد القبلتين- وكان أحد الثلاثة الذين خلفوا وكانوا قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وقد هجرهم أقاربهم وأرسلوا زوجاتهم إلى أهاليهن، وأصبح الواحد منهم يمشي في السوق ينظر في وجه قريبه أو صديقه فلا يلتفت إليه ولا يسلم عليه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] ، فلما نزلت توبتهم بالليل، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها بعد صلاة الفجر ركب رجلٌ فرساً وركض إليه ليبشره، وذهب رجلٌ فصعد على جبل سلع في أول المدينة وصاح بأعلى صوته: أبشر بتوبة الله عليك يا كعب! فسمع صوت المتكلم قبل أن يصله صاحب الفرس، فوصله صاحب الصوت، وكان عليه رداء فخلعه وأعطاه إياه، وذلك مقابل ما بشره به من نزول توبة الله سبحانه وتعالى عليه. فلو جاءك إنسان وأنت تنتظر نتيجة ولدك في الجامعة أو في معهد أو في دراسة مهمة، والنتائج تأخرت، فجاءك هذا الإنسان وقال لك: كنت في الإدارة وسمعت بعض أسماء الناجحين وابنك منهم، فأنت في هذه الحالة ستلتفت حولك لتنظر ماذا تعطيه مقابل هذه البشرى. فـ أبو رافع كان مملوكاً للعباس رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه، وأهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي رافع ببشرى إسلام العباس كأنه لأجل ما سبق من الصحبة، فهو كان مملوكاً للعباس، وكان يتتبع أخبار العباس، ويتشوق إلى إسلامه، يعني: أنه كان له اهتمام بـ العباس أكثر من اهتمامه بالآخرين بحكم الصلة السابقة بالملك، فلما علم أنه قد أسلم، وعلم أن هذا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، فلما أخبره بذلك أعتقه مقابل هذه البشرى السارة التي ألقاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أعتقه صار مولىً له، والولاء يكون للمُعتق على المعتَق لقاء عتقه، يرثه به إذا لم يوجد له وارث فرضاً أو تعصيباً. فلما جاء أبو رافع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي أرسلته عاملاً على الزكاة طلب مني أن أصحبه، لعلي أصيب من سهم العاملين عليها، قال له صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم من أنفسهم) أي: فلا تذهب. إذاً: مولى بني هاشم من بني هاشم فلا تحل له الصدقة، وهذا هو الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراده حديث أبي رافع بعد بيان آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن مولى القوم من أنفسهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم أخذ الصدقة من غير سؤال ولا استشراف وإن كان غير محتاج لها

حكم أخذ الصدقة من غير سؤال ولا استشراف وإن كان غير محتاج لها قال المصنف رحمه الله: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء، فيقول: أعطه أفقر مني، فيقول: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) رواه مسلم] . في هذا الحديث قاعدة عامة لجميع الأمة باختلاف طبقاتها وأنسابها، يقول ابن عمر: إن أبي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء، والعطاء في هذا الباب يحتمل احتمالين: أنه عطاء العمالة على الزكاة، فيكون قد استعمله، أو أنه العطاء الذي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند مجيء مال إليه من أي جهة كانت. ونذكر بهذه المناسبة قضية مال البحرين حينما جيء به ووضع في المسجد النبوي، وكان كل من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه من هذا المال، وجعل أبا هريرة حارساً له، ونعلم قصة الجني الذي كان يأتيه ويأخذ من هذا المال، ليتحقق الذين يتشككون في وجود الجن أو مخالطتهم للإنسان، فقد كان يأتي شيطان في صورة إنسان ويأخذ من هذا المال، فأمسكه أبو هريرة في أول ليلة، فشدد عليه الخناق، فقال الشيطان: أنا من كذا، ودعني فإني ذو عيال وحاجة وفاقة، وأعاهدك ألا أعود، فَرَق له أبو هريرة وأشفق عليه -وهذا خطأ في النظاميات أن يتأثر الإنسان بالعاطفة فيما وكل إليه رسمياً- فتركه. وفي الليلة الثانية جاء أيضاً فأمسكه، فأخذ يعتذر ويكذب ويعطي العهود والمواثيق، وأنه ذو عيال، وذو فاقة، ولن يعود، فأشفق عليه وتركه. وفي الليلة الثالثة أتى فأمسكه أبو هريرة، وقال: لن أطلقك بعد المرتين السابقتين، وسأحتفظ بك إلى أن آتي بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى رأيه فيك، فقال لـ أبي هريرة: ألا تطلقني وأعلمك فائدة؟ قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تحفظ مالك من الجن فاقرأ عليه آية الكرسي؛ فإنه لا يمسه ولا يقربه جني، فقبل أبو هريرة منه ذلك وتركه، وقرأ آية الكرسي على المال الذي يحرسه. وفي صلاة الصبح أقبل أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره متبسماً وقال: (ما فعل الله بأسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! فقال: فعل كذا، وفعل كذا، قال: أتدري من تعاني في الليالي الثلاث يا أبا هريرة؟! قال: لا. قال: ذاك شيطان، وقد صدقك وهو كذوب) ، انظر إلى هذا الأسلوب النبوي الذي تظهر فيه المقابلة حيث قال: (صدقك) وقال: (كذوب) ، أي: صدقك فيما أخبرك به عن آية الكرسي، وكذوب في مواعيده التي أوعدك إياها من قبل. وهنا هذا المال كان موجوداً، ومن أخباره أن العباس رضي الله تعالى عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني، قال: خذ الذي تريد، فجاء بردائه ووضعه وحمل عليه فلما أراد أن يحمله عجز عن حمله، فقال: عاوني عليه يا رسول الله! قال له: (خذ على قدر طاقتك) ، قال: فمر أحد أصحابك يعاوني عليه، فقال له: (خذ قدر طاقتك) ، فوضع منه قليلاً، وأتى ليحمله فلم يستطع، وهكذا ثلاث مرات، وهو يقول: عاوني مر أحد أصحابك، فيقول له: (خذ قدر طاقتك) ، حتى صار المال الذي في ردائه قدر ما يستطيع أن يحمله فأخذه وذهب، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات. قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] ، وكان العباس يقول: (والله! لقد وجدنا الأولى، ونحن ننتظر الثانية) . فعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس هو من مال المسلمين، وعطاء عمر قد يكون من هذا الباب وأنه عطاء كعطاء عامة المسلمين، أو أنه عطاءٌ خاص بالعمالة. وقول عمر: (أعطه من هو أفقر مني) ، كأن عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى أن الأحق بالعطاء من الصدقات هم الفقراء، ومن كان غنياً عن هذا العطاء من الصدقة فليستعفف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله) ، أي: امتلكه وضع يدك عليه، ليكون مملوكاً لك، وبعد أن تمتلكه فشأنك به، إما أن تتموله وتجعله من رأس مالك، وإما أن تتصدق به على غيرك، فتكون هذه صدقةً مستجدة منك أنت. قوله: (أو تصدق به) . أي: تصدق به إذا كنت لا تريد أن تتموله، وتكون هذه الصدقة منك وأجر مالك. ولما كان عمر يرد العطاء؛ لأنه متعفف عنه وقانعٌ بما عنده، بين له صلى الله عليه وسلم متى يأخذ ومتى يرد، قال: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ) ، أي: إذا جاء العطاء مثلاً فجاء إنسان وقال: متى سيقسم هذا؟ وكم سيخص الإنسان منه؟ فاستشرفت نفسه إليه بسؤاله عن المال: متى جاء هذا المال؟ ومن أين؟ وأمثال هذه الأمور التي فيها تطلع؛ فإذا كنت جالساً وحولك أناس من ذوي الحاجة، وجاء من أعطاهم لحاجتهم، وأنت تنتظر أن يعطيك كما أعطاهم، فهذا هو تطلع واستشراف النفس للمال، وهذا كأنه سؤالٌ بالمعنى؛ لأن نفسك تريده، وهي تتطلع إليه. وأما ما أتاك من هذا المال من غير استشراف نفسك، ولا تطلعك، بل جاء إنسان ووضع في حجرك مالاً، وقال: هذا هدية مني لك، وعطاء مني لك، وأنت لا تعلم به ولا تدري عنه، ولا تطلعت لماله، ولا استشرفت نفسك إلى ما عنده، فأخذته وقلت: جزاك الله خيراً، فهنا تنظر: إن كنت في حاجة إليه، فبارك الله لك فيه، وإن كنت في غنىً عنه فتصدق به على من هو أحوج منك إليه. قوله: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائل) ؛ في هذا تربية نفسية إسلامية عالية تجعل الإنسان غنياً بنفسه، مترفعاً عن أن يتطلع إلى أموال الناس، فضلاً عن أن يأتي ويصرح ويقول لأحد: أعطني، أو يأتي إلى إنسان ويقول: والله! الآن الحاجات في الأسواق غالية، وأصبح المرتب لا يساوي شيئاً، والأولاد يذهبون المدارس، وهي تريد كذا وكذا، فهو لا يقول له: أعطني، ولكنه يشتكي عنده، وهذه الشكوى مقتضاها العطاء. إذاً: أيها الإنسان! شكواك حالك لغيرك ممن هو ذو مالٍ كأنه سؤال؛ لأنك استشرفت إلى ما عنده، وتطلعت إلى أن يعطيك. ومن التطلع إلى مال الناس أن تكون من الناس ولديك لباس لا بأس به، فتتعمد أن تأتي إلى هذه التجمعات بلباس رث، وبحالة سيئة، وبحالة بئيسة تستعطف الناس الذين ينظرون إلى حالك، فيقولون: والله! فلان هذا مسكين، والله إن حاله سيئ فيعطونك؛ فهذا تعرض للناس بالحالة وبالصورة، وكما يقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال. فإذا كان الإنسان في غنىً وفي سعة فلا ينبغي أن يستشرف إلى ما في أيدي الناس، ولا أن يتطلع إليه، ولا أن يظهر بمظهر الذي يحتاج، وكأنه يسأل الناس بمظهره بدلاً من سؤالهم بلسانه. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أن ما أتاك من هذا المال يا عمر! من غير أن تستشرف له نفسك أو تتطلع إليه فخذه؛ لأنك ما عملت من أجله شيئاً، ولا استجلبته لنفسك، ولا أهنت نفسك لأجله، ولا أظهرت نفسك في مظهر الفاقة، فأنت عزيز النفس مكرم، وهذا كرمٌ ممن أعطاك المال وفضلٌ منه، سواءٌ عرفك أو لم يعرفك، فما دام أنه أعطاك بدون سؤالٍ منك وبدون استشراف نفسك إليه وبدون تطلع إلى العطاء منه؛ فليس هناك ما يمنعك من أخذه. فإذا أخذته فإن شئت تمولته وجعلته في رصيدك ورأس مالك؛ لأنه جاءك بوجهٍ شرعي طاهر نقي، وإن شئت تصدقت به، وتصدقك به لنفسك أنت لا لمن أعطاك إياه، وإن كان له في ذلك أجرٌ على مساعدتك، ولكن الأجر يكون لك أنت. قوله: (وما لا فلا تتبعه نفسك) . أي: وما لم يأتك من غير استشراف نفسك أو تطلعك إليه، فلا تتبعه نفسك، فلو جاء إنسان وأعطى الحاضرين وأنت لم يعطك، ولم يعط فلاناً وفلاناً، فلا تتطلع إليه، ولا تتبعه نفسك، ولا تقل: لماذا لم يعطني بينما أعطاهم؟ ونفسك تتبعه وكأن أشعة ترسلها من قلبك إليه: لماذا لم تعطني؟ وكأن لسان حالك يقول: عد وأعطني. فإذا لم يأتك المال بعفة نفس وعدم تطلع وعدم استشراف فلا تتبعه نفسك، أي: لا تظل تفكر: لماذا لم يعطني؟ ولو أعطاني لكنت فعلت، ولكان كذا، فهذا الذي لا ينبغي ولا يليق بذي المروءة، فأنت ليس لديك دين عليه حتى تطالبه، وليس هو ملزم أن يعطيك، وما دام أنه لم يعطك من نفسه ابتداءً وأنت ليست لك عليه طريق بالعطاء، كدين ملزم، أو بجميلٍ يكافئك عليه، أو بشيءٍ من ذلك، وهو في حاله وأنت في حالك؛ فلا تستشرف نفسك إلى هذا المال الذي رأيته ولا تتبع نفسك إياه؛ لأنه لا حق لك به أصلاً، فإذا أعطاك من نفسه بطيب نفسٍ فخذه، وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

كيفية تقسيم الزكاة على الأصناف الثمانية

كيفية تقسيم الزكاة على الأصناف الثمانية مما بقي من مباحث هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى لما عدد مصارف الزكاة، قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] . علماء التفسير والفقهاء يقولون: هل يتعين تعميم الصدقة على هذه الأصناف الثمانية فيقسم بيت المال الصدقة إلى ثمانية أقسام ويعطي كل قسمٍ حظه؟ أو يجوز أن نعطيها كاملةً لبعض الأصناف ولو لواحدٍ منها فقط؟ الشافعي رحمه الله يقول: يتعين على مسئول بيت المال، أو المسئول عن قسمة الصدقات أن يقسمها على الأصناف الثمانية، ويعطي كل صنفٍ سهمه، إلا من تعطل سهمه فيرده على الأصناف السبعة الباقية. والصنف الذي يرد سهمه على بقية الأصناف كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه هو صنف المؤلفة قلوبهم. فقد جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (أعطنا سهمنا كما كان رسول الله يعطينا) ، فكتب إليهم بسهمهم إلى عامله. وقال: اذهبوا به إلى عمر ليوقعه، فذهبوا به إلى عمر رضي الله تعالى، فلما قرأه الكتاب قطعه، فرجعوا إلى أبي بكر وتبعهم عمر، فلما وصلوا إلى أبي بكر قالوا: أنت الأمير أم عمر؟ قال: هو الأمير إن شاء -إن شاء ترك الإمارة لي وإن شاء أخذها فلا مانع عندي، يعني: إنما هي مسئولية وتكليف بخدمة المسلمين- فدخل عمر، فقال له أبو بكر: (لِمَ مزقت الكتاب يا عمر؟! قال: لا حق لهم الآن في شيء، كنا في بادئ الأمر نعطيهم سهم المؤلفة قلوبهم، أما الآن وقد أعزنا الله بالإسلام فلسنا بحاجة إليهم، فإما أن يبقوا على إسلامهم وإلا فالسيف بيننا وبينهم) ، فتركوا الأمر وذهبوا. وبهذا ندفع ما يقوله بعض المغرضين بأن مما أُخذ على عمر أنه عطل كتاب الله؛ لأنه أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان ماضياً، والصحيح أن عمر لم يوقفه، ولكن علَّقه؛ لأن الحاجة إليهم أصبحت منفية، ولم يعد المسلمون في زمن أبي بكر وعمر بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنهم، أو ليحموا الثغور التي عندهم، أو ليدفعوا شرور قبائلهم، إنما كان هذا عند أن كان المسلمون ضعفاء، أما الآن وقد أعز الله الإسلام والمسلمين فلا حاجة إلى هذا الصنف؛ فإن بقي على إسلامه ففيه صيانة لنفسه وماله ودمه، وإن عارض في ذلك فالسيف بين المسلمين وبينه. كما أنه رضي الله تعالى عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة. يهمنا هنا أن الشافعي رحمه الله يقول: إذا تعطل سهم فإن حصته ترد على السبعة الباقية. وبعضهم يقول أيضاً: من قسَّم صدقته بنفسه فليس هناك سهمٌ للعاملين عليها؛ لأنه هو بنفسه قام بتقسيم صدقته. وأما الجمهور فيقولون: يجوز إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية بالتساوي ولا يشترط التساوي، ويجوز إعطاء الزكاة لبعض هؤلاء الثمانية، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ حينما بعثه إلى اليمن: (فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، ولم يقل: على الأصناف الثمانية، ولم يقل: ترد على الفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب. ، وإنما قال: (ترد على فقرائهم) ، فقالوا: إذا جاز أن تعطى لفريقٍ واحد جاز أن تعطى لبعض الفرق. والنووي رحمه الله في هذه النقطة يقول: لو افترضنا كما قال الشافعي رحمه الله: لزوم تجزئة الصدقة إلى ثمانية أسهم: سهم للفقراء، وسهم للمساكين، وسهم للمؤلفة قلوبهم … إلى آخره، فهل يشترط على بيت مال المسلمين في سهم الفقراء أن يعم به جميع الفقراء المسلمين؟ أو لو أعطاه لبعض الفقراء أجزأ ذلك؟ قال: فهم متفقون على أنه إن أعطاه لبعض الفقراء أجزأ، فقال النووي رحمه الله: فما دام أنه يجوز أن نعطي سهماً من أسهم الزكاة لبعض أصحابه فلا مانع أن نعطي الصدقة لبعض أصنافها، وأن نفرد بها صنفاً واحداً، وهذا يرجع إلى نظر الإمام في هذه الأصناف الثمانية، فيقدم الأحق فالأحق. ولهذا يرى العلماء أن من أخرج صدقته بنفسه فلينظر في هذه الأصناف ويعطي الأولوية لمن كان يستحقها، وليس بلازمٍ عليه أن يتتبع تلك الأصناف ويجعل كل جزءٍ لصاحبه. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الصيام

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [1] التنطع لا خير فيه، وقد زجرت عنه الشريعة وحرمته، ومن ذلك تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين احتياطاً، فهذا لا يجوز، والشريعة مبنية على التيسير، والعبادات مبنية على التوقيف، وقد بين أهل العلم ذلك بياناً شافياً.

شرح حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)

شرح حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) متفق عليه. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان] . كتاب الصيام من أعظم كتب الفقه دراسة وتحصيلاً وعملاً وتطبيقاً، والمؤلف ابن حجر رحمه الله ساق في هذا الكتاب نحواً من خمسين حديثاً، اشتملت على كل ما يتعلق بالصيام فرضاً أو نفلاً أداءً أو قضاءً. وبدأ هذا الكتاب بهذا المبحث، وهو: النهي عن أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين من شعبان. وعادة العلماء أن يعرفوا الباب لغة واصطلاحاً، فقالوا: الصوم لغة: مطلق الإمساك: إمساك عن طعام، إمساك عن كلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] ، خيل صيام وخيل غير صائمة، أي: صيام تمسك عن الجري، ويقول العرب عن الثريا: كأنها علقت بمصام في مصامها، أي: في موقفها عن الحركة والسير. والصوم شرعاً: مأخوذ من معنى الصوم لغة، وهو: إمساك مخصوص عن شهوتي الفرج والبطن في زمن مخصوص، ألا وهو نهار رمضان، أو غيره إن كان نافلة. البخاري رحمه الله بدأ في كتاب الصيام بإثبات المشروعية، ثم تكلم عن أحكام الصيام فيما بعد، وعقد فوق الستين باباً لأحكام الصيام، وخمسة أحاديث في ليلة القدر، وتسعة أبواب في الاعتكاف، ومجموعها حوالى ثمانين باباً، فما توسع أحد في باب الصوم كتوسع البخاري رحمه الله.

متى شرع الصوم؟

متى شرع الصوم؟ متى بدأ الصوم؟ قالوا: أول ما شرع الصوم بعد الهجرة في يوم عاشوراء، (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم -أي: لأنكم غيرتم وبدلتم ما جاءكم به موسى، ونحن لا نغير ولا نبدل- فصامه وأمر الناس بصيامه) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لما نوى صيامه بعث إلى مياه أهل المدينة منادياً: من كان ممسكاً فليبق على صيامه، ومن أكل أو شرب فليمسك بقية يومه) ، وكان ذلك في السنة الأولى، ثم في السنة الثانية فرض رمضان، ونسخ فرضية يوم عاشوراء، وأصبح على النافلة والندب والاستحباب. ولا يعني سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن صوم يوم عاشوراء أنه صامه تبعاً لهم، لا، فصوم يوم عاشوراء كان معلوماً عند العرب قبل الإسلام، كانوا يصومونه ويجددون فيه كسوة الكعبة، فكان معلوماً لديهم، ولكن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود -وهم أهل كتاب- ليعلم ما هو السبب عندهم، فذكروا له نجاة موسى من فرعون، فبين لهم أنه أحق بموسى منهم فصامه. ويمكن أن يقال من جانب آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء المدينة مهاجراً يحب أن يوافق اليهود من باب المسايرة، وليبين أنه أتى بما جاء به الأنبياء قبله، فكان يصلي ستة عشر شهراً من أول مقدمه المدينة مستقبلاً لصخرة بيت المقدس، حتى أن اليهود استدلوا بذلك على أنه تابع لهم، وكانوا يحتجون بصلاته صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، ويقولون: يصلي إلى قبلتنا ويعيب ديننا!! فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء يتطلع إلى تغيير هذا الحال، ويحب أن يوجه في صلاته إلى الكعبة، فجاء قوله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، وتم بذلك استقلالية الإسلام بكامله في معناه وفي شكله عما يتعلق باليهود. أيضاً لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومون يوم عاشوراء صام، ولكن لم يكن صيامه متابعة لهم حاشا وكلا، بل كان يُصام قبل ذلك، ويقولون: إن يوم عاشوراء رست فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي أخمدت نار النمرود التي رمى فيها الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وهو اليوم الذي أخرج الله فيه ذا النون من بطن الحوت، ويذكرون في التاريخ أحداثاً عديدة، والله تعالى أعلم، والذي يهمنا ما جاء ثابتاً، وهو سبب صوم اليهود إياه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون. وهنا نقطة أرجو أن ننتبه لها، وأن نأخذها بعين الاعتبار، فيوم نجى الله فيه موسى من فرعون يوم مبارك ومناسبة سعيدة ففيه نصرة الحق على الباطل، فحينما تتجدد للمسلمين نعمة كهذه فإنها تستحق الشكر، ويغبط الإنسان فيها، فمن شكرها أن تقدم للمولى سبحانه طاعة، لا أن تجعلها يوم لهو ولعب، وتخرج عن الآداب الإسلامية. ذكر ابن هشام في السيرة: أن النجاشي لما هاجر إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما كان، وأعطاهم الأمان والحرية في بلاده، فإذا في يوم من الأيام يستدعيهم، فخافوا ما الذي حصل؟! فلما دخلوا الديوان أذن لهم في الدخول عليه في المجلس الخاص الذي هو فيه، فلما دخل أصحاب رسول الله على النجاشي، وكانوا يظنونه في الهيئة والهيبة والسلطة والسلطان؛ فهو ملك، فإذا بهم يجدونه جالساً على التراب، لابساً المسوح، والمسوح نوع من اللباس خشن يتخذه بعض العباد للعبادة، ابتعاداً عن ترف القطن والكتان والحرير المحرم، زيادة في الخشوع والخضوع بين يدي الله، ورءوه حاسراً رأسه، فلما رءوا هذا المنظر ظنوا أن الملك قد وقعت به مصيبة، فقال: أتدرون لم دعوتكم؟! قالوا: لا -والله- عجِّل، لماذا دعوتنا؟ قال: في هذا اليوم أتاني خبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد لقي عدوه من المشركين في أرض يقال لها: بدر، كثيرة الأراك، ترعى فيها الإبل، ونصره الله على عدوه، وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يظهر منه التواضع، فلهذا تجدونني على ما أنا عليه على تراب بدون فراش، وفي مسوح لا في لباس الملك، حاسر الرأس لا ألبس عمامة، فمظاهر الذلة والخضوع إلى الله كلها تجمعت فيه. وهكذا: إذا تجددت للمسلمين نعمة فيها نصر الحق على الباطل، كنعمة نجاة موسى من فرعون، وقد يقول إنسان: لقد تجددت النعم في الإسلام زمن رسول الله، فهذا يوم بدر يوم الفرقان، جعله الله فتحاً، وجعله الله فرقاناً بين الحق والباطل، فإذا كان الأمر كذلك فهل الرسول صام يوم بدر؟ نقول: لا، هذه أمور يتوقف فيها على الشرع، إثباتاً أو نفياً، فهو مقدم على كل رأي، وما لم يكن فيه نص، ولم يكن فيه أمر أو نهي، وكان مجرد تجدد نعمة؛ فإن على الإنسان أن يشكر الله على هذه النعمة بالقيام بطاعة لله، لا كما نجعل بعض المناسبات أعياداً بلعب وبطرب وبلهو!! لا، ليس هذا من باب التعبير عن شكر النعمة، بل التعبير الحقيقي عن شكر النعمة وشكر المنعم سبحانه هو أن نذل إليه، ونخضع بنوع من أنواع العبادات التي يحبها، والتي قد شرعها. إذاً: كان صوم يوم عاشوراء هو بداية الصيام، ثم فرض صوم رمضان ونسخ فرضية عاشوراء، وبقي صيامه على الندب. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد مخالفة اليهود في صوم هذا اليوم، فندب إلى صوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر؛ ليكون مغايراً في الصورة والهيئة لما كان عليه اليهود في صومهم. ولما شرع الصوم في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] بين أنه كتب على من قبلنا ثم بين عدده: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ، فبعض العلماء يقول: أياماً معدودات هي سوى رمضان، كما جاء في الأحاديث: صوم الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر على ما في رواية أبي هريرة، ومالك يقول: ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوم: يوم واحد، ويوم إحدى عشر، ويوم إحدى وعشرين، والحسنة بعشر أمثالها. والبعض يقول: (أياماً معدودات) هي بعينها شهر رمضان، ولكن جاء التكليف أولاً بصورة التخفيف: (أياماً معدودات) ، عليك الصيام، فتقول: سيكثر الصيام؟ قال: لا، لا، بل أيام، فيستقبله المكلف في صورة التقليل؛ لأن الأيام جمع قلة، فتهون عليه، كما في قصة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] ، ثم لما اطمأنت النفوس، وأحبت الصوم جاءهم بكماله: ((شهر رمضان)) ، وبين سبحانه أحكام هذا الشهر وفضله. إذاً: كانت بداية الصوم بالتخفيف والتدريج، ثم أكمل الشهر وأكملت الفرائض، وانتهى الأمر كما جاء في قوله سبحانه في ختام عمره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ، ومن هنا يقول مالك رحمه الله: ما كمل لا يحتمل زيادة، ولا يجوز فيه النقص؛ لأنك إذا زدت عليه كأنك تقول: الخبر بالإكمال غير صحيح، فبقي عليه هذه حتى يكتمل اكتمالاً تاماً، فهذا خطأ، ولهذا كان مالك يقول: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((وأكملت)) ، وهذا يأتي ويقول: بقي هذه، فهذه الذي جئت بها أنت هل محمد صلى الله عليه وسلم يعرفها أو لا يعرفها؟ إن كان يعرفها ولم يخبرنا بها فيكون قد كتم، وإذا كان لا يعرفها، فشيء لم يعرفه محمد بن عبد الله هل تعرفه أنت؟! إذاً: شهر رمضان لا يقبل نقصاً ولا يقبل زيادة، ومن هنا افتتح المؤلف مبحث باب الصيام.

حرمة تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين احتياطا

حرمة تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين احتياطاً يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا -أو لا تتقدموا، المعنى واحد- رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) مثلاً: كان لك أمر مهم جداً، ونذرت لله إن قضاه الله لك فثاني يوم تصوم، ولا تدري متى يأتي، ولا متى يقضى، فقضي لك يوم السابع والعشرين من شعبان، ففي الغد سيكون يوم ثمان وعشرين، وفي الحديث: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين) ، لكن يجوز لك الصيام بصفة خاصة؛ لأنك ستصوم قبل رمضان بيوم أو بيومين لا لرمضان، وإنما لنذرك الأول الذي التزمت به، فلا دخل لصومك مع رمضان. إذاً: لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إذا كان نافلة في شعبان، فهذا ممنوع؛ لأنه إذا فتح باب النوافل قبل رمضان بيوم أو يومين، واستمر الناس على ذلك؛ سيظن الناس بعد زمن طويل أن اليوم واليومين من رمضان، فيزيدون فيه، والزيادة مرفوضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، لا يتطوع من نصف شعبان، من خمسة عشر شعبان إلى رمضان لا يتطوع، إلا إذا كانت له نافلة ثابتة، كان يصوم الإثنين والخميس، والإثنين والخميس ستأتي في الأسبوع الأخير من شعبان، فيصوم؛ لأنه صامه على نافلة سابقة، أما إذا كان لا يصوم الإثنين والخميس، ولا كان يصوم نوافل، ويوم أن انتصف شعبان قال: أريد أن أصوم، نقول له: لا. وقد جاء التشديد كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم، ونبقى مع حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) . جميع أركان الإسلام محفوفة بزمن، فمثلاً: الصلاة قال الله عنها: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح أن تصلي قبل دخول الوقت، ولا يجوز لك أن تؤخرها حتى يخرج الوقت، فإن خرج الوقت تكون قضاءً وليست أداءً، كذلك الحج قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وكذلك الزكاة {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] ، وفي الحديث: (إذا حال عليه الحول) ، وبعض العلماء يقول: لا يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحول؛ لأنها لم تجب، ومالك يقول: يجوز تقديمها لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة سنة مقبلة، فأخذ منه زكاة السنة المقبلة لحاجة طرأت، وهذه على غير العادة. فجميع الأركان محددة ومقيدة بزمنها، فرمضان مقيد بالزمن، وقد حدث في الأمم الماضية أنهم صاموا اليوم واليومين المنهي عنهما هنا، وقالوا: نصوم يوماً قبله احتياطاً له، ونصوم يوماً بعده احتياطاً له، فكان الصوم الرسمي ثلاثين، وقالوا: للاحتياط نصوم يومين: يوم في الأول، ويوم في الآخر، ومضى الزمن، وطالت المدة، فدخل الاحتياطي في الأصل، وصار الصوم الرسمي اثنين وثلاثين، ثم جاء من بعدهم وهم لا يعلمون بدخول الاحتياطي، وظنوه أنه رسمي، فقالوا: نصوم قبله يوماً احتياطاً، ونصوم بعده يوماً احتياطاً، فصاموا أربعة وثلاثين يوماً، اثنين وثلاثين رسمي، ويومين احتياطاً، فطال الزمن حتى دخل الاحتياطي الثاني في الرسمي، وظن الناس أن الصوم أربعة وثلاثون يوماً، فقالوا: فلنحتاط، فصاموا يوماً قبله ويوماً بعده، وهكذا خمس مرات، حتى زادوا عشرة أيام. والأهلة تدور مع فصول السنة، فرمضان تارة يأتي في الربيع، وتارة يأتي في الشتاء في شدة المطر، وتارة يأتي في الصيف، وأذكر في هذه البلدة المباركة أن الناس مرة كانوا يصومون ستة عشر ساعة، كان النهار طويلاً والليل قصيراً في شدة الحر. وبعض الأمم السابقة زادوا في رمضان حتى صار أربعين يوماً، فجاءهم في شدة الحر، فعجزوا عن الصيام، فقالوا: الحر شديد، ونحن لسنا قادرين على صيامه، فننقل الصوم عن الأشهر القمرية إلى الأشهر الشمسية، ونزيد عشرة أيام، فصار خمسين يوماً، وجعلوا الصيام عن أشياء معينة عن كل ما فيه الروح: الغنم والدجاج والسمك، والأشياء النباتية يأكلونها، يعني: صيام لعب، يأكل من النباتيات، ويأكل من الخبز، ويأكل من الفاكهة، فكيف هذا الصيام؟! فعندما أخطئوا بالزيادة في رمضان، وعجزوا عنه، تحيروا ماذا يفعلون؟ فانتقلوا إلى الأشهر الشمسية فضاع عليهم الشهر، فخوفاً من أن تقع الأمة في مثل هذه الخطيئة وضع لرمضان سياج؛ لا أقول: من حديد أو من فولاذ، بل أقوى من ذلك كله، في أوله لا يمكن أن تتخطاه، ممتد إلى السماء، وآخره لا يمكن أن تزيد فيه، فجعل اليوم الذي يشك فيه محرم صومه، فلا يصام المتردد بين شعبان ورمضان، وجعل في نهايته يوم العيد، ويحرم بالإجماع صوم يوم العيد، إذاً: سلم رمضان من الزيادة في أوله، وسلم من الزيادة في آخره، ولهذا -أيها الإخوة- بفضل من الله ونعمة من الله أنه قد تكرر رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ويأتي وكأنه شرع، لا زيد فيه ساعة، ولا نقص منه ساعة، وإنما حفظ بهذه السنة النبوية الكريمة فلا يتقدم بصوم، وكذلك لا يتبع بصوم، ولابد أن يفصل بين رمضان وغيره كما جاء في حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) ، ليست متابعة ملازمة، بل لابد أن يفصل بينهما، وأقل شيء بصوم يوم العيد، وإن زاد الفصل فلا مانع، ويهمنا أن هذه السنة النبوية جاءت حفظاً لرمضان عن أن يدخله زيادة في أوله، أو يتبعه زيادة في آخره، (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان له صوم فليصمه) ؛ لأنه إذا كان له صوم يصومه فهو في هذه الحالة سيصوم يوم ثمانية وعشرين أو تسعة وعشرين من شعبان، ولا دخل له في رمضان، إنما يصومه لصومه الذي التزم به، كالنذر يصادف هذا اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شعبان، وبهذا حفظ رمضان، ونحن على هذا النعمة، ولله الحمد.

حرمة صوم يوم الشك

حرمة صوم يوم الشك الحديث الثاني: (من صام اليوم الذي يشك) ، يقول علماء المنطق: التشكيك هو دوران المعنى على أمرين متساويين، انظر إلى توءمين متشابهين، أقول: هذا علي، لا، هو أحمد، تساويا في الشكل، والذي لا يعرفهما حقيقة كالأم والأب يتردد، لأن بين أحمد وعلي مائة في المائة تشابه، لكن لو كانت هناك قرينة فلا إشكال، فإن ناداه: ما اسمك؟ قال له: علي. زال الشك، وتميز، فإذا كان الشيء لا يحتمل إلا أمراً واحداً فهذا علم، أي: أن المعلوم لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فحينما نظرنا إليه دون أن نسأله عن اسمه، كنا مترددين شاكين بين علي وأحمد، فنميز بالتدريج، فإذا تكلم وكان الصوت بينهما متفاوتاً، فلما سمعنا الصوت بدا لنا أنه علي، لوجود قرينة، فوجود القرينة في أحد الجانبين المتساويين تجعل أحدهما ظناً، والثاني وهماً، لما سمعنا صوته، وكنا نعرف صوت علي الذي نعرفه، لكن ما زالت الشبهة قائمة، فكونه علياً هذا ظن، والظن قريب من العلم، وكونه يحتمل أن يكون أحمد هذا وهم، فقوي جانب كونه علياً، إذاً: القرائن ترجح أحد الطرفين، وترفع الشك، ويكون الراجح ظناً، والمرجوح وهماً. وإذا لم يكن هناك اشتباه فلا إشكال: من هذا؟ هذا صبري، ليس له توءم، ولا نختلف فيه، فصبري هو صبري، فهذا هو علم. وعلى هذا فاليوم الذي يشك فيه هو اليوم الدائر باحتمالين متعادلين بين كونه نهاية شعبان أو كونه بداية رمضان، ويوضح هذا أنه معلوم بالإجماع أن الشهر القمري لا ينقص عن تسع وعشرين يوماً، ولا يزيد عن ثلاثين، فإذا تيقنا دخول شعبان، ورأينا الهلال يوم واحد شعبان، ومشينا معه إلى أن أكملنا تسعة وعشرين من شعبان، فلما أكملنا تسعة وعشرين من شعبان فاليوم الذي من غد، يمكن أن يكون ثلاثين شعبان، ويمكن أن يكون واحد رمضان، فيكون عندنا شك، ولكن متى يقع الشك؟ هل كل يوم ثلاثين شعبان يحصل فيه شك؟ لا، يكون الشك إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم، ولم نر الهلال، فلو رأينا الهلال لكان يوم غد رمضان يقيناً، وارتفع الشك، فإذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان الجو صحو لا غيم فيه، فنحن بين أحد أمرين: إما أن نرى الهلال ولا شيء يحجبه، وإما ألا نراه، فإن رأيناه فلا شك عندنا، وإن لم نره فلا شك عندنا؛ لأن السماء صحو، فإن قدر وجود الهلال رؤي، فلا يكون هناك شك، وإن لم يظهر الهلال علمنا أن الغد تتمة شعبان، وليس عندنا شك. إذاً: إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما رمضان بالرؤية، وإما شعبان لعدم الرؤية. إذاً: ليلة الثلاثين من شعبان إذا كانت صحواً فلا شك، فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم يحجب السماء، فيمكن أن الهلال ظهر ولكن يحجبه السحاب، ويمكن أنه لما يظهر، فالاحتمال متعادل، فهنا يكون الشك، فإن رئي زال الشك، وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل غداً؟ هل نصوم أو نترك الصوم؟ إن صمنا غداً نكون قد صمنا يوم الشك، ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! عبادة ويكون من يقوم بالعبادة عاصياً! نعم؛ لأنه لم يوقعها في محلها؛ لأنه أتى بها على غير ما شرعت، والعبادة إذا لم تكن مشروعة فهي باطلة. فأعظم ذكر لله هو قراءة القرآن، وما عبد الله بشيء أحب إليه مما خرج منه، فهو كلام الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فهل يجوز لك وأنت أقرب ما تكون إلى الله أن تتعبد الله بالقرآن وأنت ساجد؟ أليس أحب شيء إلى الله كلامه؟ لكن نهيت عن قراءة القرآن في السجود، فإذا قرأت القرآن في السجود، فهل تقول: أنا أعبد الله بأحب شيء إليه؟! لا، أنت جئت بما يكره، فيجب أن تكون العبادات على قاعدة التوقيف كما قال الفقهاء، يعني: نتوقف فيها إلى أن يأتي النص: افعل، لا تفعل. فهنا: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى) ، وهل عصى أميراً أو مأموراً أو ملكاً أو وزيراً؟ عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] أي: ومن عصى الرسول فقد عصى الله، وطاعة الرسول من طاعة الله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . إذاً: لماذا هذا التشديد، وجعل العبادة معصية؟ لئلا يدخل في رمضان ما ليس منه، هذا تقرير المبدأ، ولكن نحن كطلبة علم، قد نرجع إلى المكتبة ونجد أقوالاً أخرى، ونقرأ في الموسوعات فنجد أن البعض يقول: يصام اليوم الذي يشك فيه احتياطاً لرمضان، وقال بعض السلف: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان، إذا جئنا إلى الفلسفة العقلية يمكن أن نجد لها مجالاً، ولكن لا، حتى العقل يردها، فأنت أتريد أن تجعل احتياطاً لرمضان؟ جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، فهل أنت أشد حرصاً على رمضان من رسول الله؟ إذاً: العقل يقول لك: لا، أنت غلطان؛ لأن الرسول أشد احتياطاً منك، والرسول أشد حرصاً على رمضان منك، وقد نهاك أن تصوم هذا اليوم احتياطاً كما تقول، إذاً: لا نحتاط بصيامه.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [2]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [2] الشريعة الإسلامية مبنية على السماحة والتيسير، ومن ذلك جعلها العبادات علامات يعرفها العامة والخاصة، فالصوم لا يجب إلا برؤية الهلال، فإن لم يُر فقد أغلقت الشريعة باب التنطع، وأوجبت أن يتم شعبان ثلاثين يوماً، وبهذا ينتظم الصوم، ويزول الشك والارتياب، وتحصل الطمأنينة والانشراح.

بطلان صوم يوم الشك

بطلان صوم يوم الشك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: الإمام مالك رحمه الله يقول: يمتنع صوم يوم الشك، حتى لو أن إنساناً قال: أنا أصومه على أنه إن كان من رمضان فقد صمت رمضان، وإن لم يكن من رمضان وثبت أنه من شعبان فأنا أعتبره نافلة، يقول مالك: لو فعل ذلك لا يصح له رمضان إن كان رمضان، ولا يصح له نافلة إن كان من شعبان، يعني: أتعب نفسه بالجوع والعطش بدون فائدة وبدون مقابل، لماذا؟ قال: لأن صوم الفرض لابد فيه من تبييت النية جازماً، أما أن تقول: إن كان وإن لم يكن فلا يصلح، مثل أن تأتي في الصلاة وتكبر تكبيرة الإحرام: الله أكبر. ولو أنك قلت: الله أكبر. ونويت لو دق إنسان الباب لتركت الصلاة، وذهبت إليه، أو قلت في نفسك: لو ناداني إنسان لانصرفت من الصلاة وذهبت إليه، لو حضر هذا الاعتقاد عند تكبيرك للإحرام لا تنعقد الصلاة؛ لأنها مفروضة على الجزم والقطع، وأنت هنا تنوي إن كان من رمضان فرمضان! لا يا أخي! لا يقبل الله منك هذا، يجب أن تكون النية لرمضان قطعاً، وأنت لست جازماً أنه رمضان قطعاً، أنت عندك شك. فإن قال: أجعلها نافلة. قلنا: كلا، أنت لم تنو النافلة، أنت شركت بين النافلة والفرض، وهذا لا يصلح. إذاً: لا ينبغي لأحد أن تحدثه نفسه أن يصوم اليوم الذي يشك فيه احتياطاً أو تقديراً أو استعداداً أو بأي معنى يخطر بالبال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه. هذا ما يتعلق باستقبال رمضان وحفظه وصيانته من أن يتطرق إليه زيادة في أوله أو زيادة في آخره، فيضيع عنا الشهر، وبحمد الله أنه بهذه السنة المتواترة بقي رمضان على ما هو عليه، ونعمة من الله أن تظل الحالة على ما هي عليه، يتطلع الناس إلى الرؤية، ويوجد من يعرف مطالع القمر ويتحرى رؤيته، ونصوم على الرؤية، ونفطر على الرؤية.

لا تجوز الزيادة في الفرض

لا تجوز الزيادة في الفرض ومن فوائد هذين الحديثين: أنه لا ينبغي أن يزاد في الفرض باسم التطوع، كما سئل مالك رحمه الله: أراد إنسان أن يخرج زكاة الفطر -وهي صاع- فأراد من باب القربة أن يخرج صاعاً ونصف؟ قال: لا، ليفصل الفرض -وهو الصاع-، ثم يتطوع بما شاء. وهذا من بُعد النظر والفقه؛ لأننا لو تساهلنا وقبلنا الزيادة على الفرض، ستأتي زيادة أخرى، ويزيد آخر، حتى يضيع الحد الأساسي المفروض، وتصبح المسألة اجتهادية لا فرضية، وهكذا إذا أراد في الطواف أن يزيد شوطاً، أو في السعي أن يزيد شوطاً تطوعاً، فيقال له: لا، أد الفرض الواجب أولاً، ثم افعل ما شئت من نوافل، وينبغي الحفاظ على ما هو مشروع في حدوده. والأصوليون يبحثون هذه المسألة فيما إذا كان الفرض والنفل مندمجين ولا فصل بينهما، فهل الجميع يكون فرضاً أو يجزئ من مجموع ذلك الفرض ويلغى الباقي؟ ومثلوا لذلك في الركوع والسجود، فالقدر الواجب في الركوع هو قدر الطمأنينة، وقدره بعض العلماء بثلاث تسبيحات، فإذا أطال في ركوعه بما يسع ثلاثين تسبيحة فهل هذا الركوع الطويل كله هو الفرض في الصلاة أو أن الفرض منه مقدار الثلاث تسبيحات والباقي يعتبر تطوعاً؟ الأصوليون يختلفون في ذلك، وأكثرهم يقول: الفرض معتبر بقدره، وما زاد عنه فهو تطوع.

اليقين لا يزول بالشك

اليقين لا يزول بالشك حديث: النهي عن صوم يوم الشك؛ هناك قاعدة أصولية أخرى، وهي: أن اليقين لا يرفع بشك، فإذا كنا في شعبان فنحن على يقين من الفطر، فإذا حصل شك في يوم الثلاثين من شعبان، ولم نتبين دخول رمضان من غيره، فنحن على يقين سابق وهو: فطر شعبان، فنستمر على هذا اليقين حتى يأتي يقين آخر ينقلنا عنه، واليقين الآخر إما برؤية، وإما بإكمال العدد كما سيأتي. وفي نهاية رمضان إذا حصل غيم كما حصل في دخول رمضان فاليقين لا يرفع بشك، فنحن في رمضان على يقين من الصيام، فإذا لم يأت يقين ينقلنا من الصوم إلى الفطر فنبقى على اليقين وهو الصوم، حتى نستيقن ثبوت شوال بعدد أو برؤية، وقدمنا عن مالك رحمه الله أن من بيّت النية لليوم الذي يشك فيه على أنه إن كان رمضان فلرمضان، وإن لم يكن رمضان فنافلة في شعبان، لو ثبت أنه من رمضان لم يجزئه صوم هذا اليوم؛ لعدم اعتبار تلك النية؛ لأنه لم يجزم ولم يقطع بها، ولم يكن على يقين من رمضان، ولا يحسب له صوم نافلة؛ لأنه أيضاً لم يجزم بنية النافلة.

متى نصوم رمضان؟

متى نصوم رمضان؟ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقدم رمضان بصوم، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم اليوم الذي يشك فيه، فمتى نصوم؟ هنا نذكر منهج الإسلام في بيان التوقيت لكل عبادة مؤقتة، العبادات المؤقتة بالنص هي الصلوات الخمس، وشهر رمضان، والحج، والعمرة لا توقيت فيها، ولكن جاء توقيت فيها بالمنع: فتمنع العمرة للحاج في يوم عيد الأضحى، وفي يومين من أوائل أيام التشريق باتفاق، والخلاف في ثالث أيام التشريق، والمانعون يقولون: هذا اليوم ثالث أيام التشريق، والحاج مشغول فيه برمي الجمار. وبعضهم توسط وقال: إن هو قد رمى وانتهى وتعجل فلا مانع، والمانعون يقولون: لا، وإن تعجل فقد تأخر غيره، فهو يوم محسوب للرمي، فلا يعتمر في ذلك اليوم، أما ما عدا ذلك فالسنة كلها وقت للعمرة، سواء تكررت على رأي المالكية أو لم تتكرر، إذاً: العمرة لا وقت لها. والحج -كما أخبر الله- سبحانه أشهر معلومات، ومن هنا نتأمل علامات التوقيت، فنجد أن المولى سبحانه ربط المفروض بالتوقيت بعلامات كونية يستوي فيها العامي والمتعلم، بل إن البدوي أعرف بها من الحضري؛ لأنها ألصق بها في حياته، أما رمضان فجعل الله سبحانه وتعالى لثبوته الهلال، والهلال أمر كوني يظهر في كبد السماء، ويراه القاصي والداني، فكل من أعطاه الله نعمة البصر يراه، والأعراب أقدر على رؤيته من الحضر؛ لأن أهل الحضر قد تحجبهم عن رؤيته أنوار الأجهزة الحديثة، أما الأعرابي فإذا غربت الشمس فليس عنده مصابيح كهربائية ولا غيرها، فتستمتع عينه بظلام الليل، وذلك أقوى لها؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، على ما سيأتي تفصيل الكلام في الرؤية وغيرها.

التوقيت الهلالي

التوقيت الهلالي التوقيت الهلالي هو المعتبر في جميع معاملات المسلمين وعباداتهم؛ ولذا نجد في القرآن بيان تشريع الصوم وتوابعه، من أول قوله تعالى: ((كتب عليكم)) إلى قوله: ((شهر رمضان)) إلى قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، ثم يأتي الصوم الأعم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، ثم يأتي الكلام عن الأهلة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] أي: في معاملاتهم {وَالْحَجِّ} [البقرة:189] أي: في عباداتهم، ويلحق بالحج من حيث التوقيت كل العبادات، فالمطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فإن لم يكن لها قروء فثلاثة أشهر، وهل هي أشهر إفرنجية أو أشهر عربية هجرية قمرية؟ الثاني، وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، ثم يأتي بعد ذلك: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] هل صيام الكفارات يكون بالأشهر القبطية أو بالأشهر القمرية؟ وكذلك بقية العدد: أربعة أشهر وعشراً، تعتبر بالأشهر القمرية، والعالم الآن فيه سنوات متعددات: شمسية، وقمرية، وميلادية، وكل هذه اصطلاحات عند أصحابها، والمولى سبحانه وتعالى بين للعالم في كتابه الكريم {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، وهل يمكن أن نحافظ على الأشهر الحرم في سنة ميلادية أو قبطية أو شمسية؟ لا يمكن، فهي أربعة حرم من الاثني عشر، وهكذا بين سبحانه: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، وهذا يعني: حافظوا عليها، وتعاملوا بها. وهذه الاثنا عشر شهراً من أين تبدأ؟ العرب اختاروا أن تبدأ من محرم؛ لأن السنة العملية عندهم تنتهي بذي الحجة؛ لأنهم كانوا يسيحون في الأسواق، ويقول علماء الأدب: أسواق العرب: شحر ومجاز ومجنة وعكاظ ومنى. كل هذه كانت أسواقاً تجارية للعرب، يأتون من حضرموت وينزلون في نجد، ثم إلى الحجاز ليحجوا ويحضروا مواسم عكاظ في الحجاز، فإذا انتهوا من هذه الدورة بدءوا سنة جديدة، واعتبروا أول السنة شهر محرم، وكانوا لا يعتبرون سنة بحد معين، وكانوا يؤرخون بالأحداث العظام، نحن في هذه الآونة نسمع الناس يقولون: سنة كسوف الشمس سنة كذا، مثلاً: كسفت الشمس هنا في المدينة عام [1363] هجرية كسوفاً نصفياً، فصار أهل المدينة يؤرخون بذلك، فكانوا في السابق يؤرخون بالأحداث، كما أرخوا -مثلاً- بعام الفيل؛ لأنه كان حدثاً عظيماً جداً في تاريخ مكة، وجعل الله سبحانه وتعالى فيه آية وعبرة، وعظم العرب جميعاً أهل البيت، وجاءت الآية الكريمة تقرر ذلك: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:1-3] أي: الذي حماه الله من الفيل {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] ، وما علاقة البيت بذلك؟ لأن أهل البيت -وهم قريش- كانوا يرحلون شتاءً إلى اليمن، وصيفاً إلى الشام، فكانت القبائل تنهب من يمر بها إلا قريشاً تسلم، يقولون: هؤلاء جوار البيت، حماه الله من الفيل وجيشه، فكذلك نحميهم ولا نعتدي عليهم، فكان حفظ الله للبيت من أبرهة وجيشه سبب لحماية العرب لأهل البيت لمجاورتهم له.

بدء العمل بالتاريخ الهجري

بدء العمل بالتاريخ الهجري رفع إلى عمر رضي الله تعالى عنه سند بدين يدفع في شعبان، فتساءل: أي شعبان: الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ فقيل: لابد أن نجعل لنا بداية تاريخ ليضبط لنا هذه الأمور، فاجتمعوا وتشاوروا، فبعضهم أشار إلى عام الفيل، فقالوا: هذا يوم جاهلي، فجاءوا إلى أحداث الإسلام، فمنهم من ذهب إلى مولده صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مولده لم يظهر أثره بعد، وجاءوا إلى بعثته، فقالوا: أثرها لم يأت بعد، وأعظم حدث في الإسلام هو الهجرة؛ لأن بها انتقلت الدعوة من موضع الضيق إلى السعة والمواساة، وبعدها انطلق الإسلام في العالم شرقاً وغرباً، فكانت الهجرة أعظم منة من كل ما سواها، وتلك الأحداث الكبرى كغزوة بدر -يوم الفرقان-، وفتح مكة، والحديبية، قالوا: هي آثار الهجرة، فهي نتجت عن الهجرة، وما حدث للمسلمين من تجمع؛ فاختاروا أن يكون عام الهجرة بداية التاريخ الإسلامي. وكان وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، فقالوا: لا نخرج عن العرف، ولا نجعل أول السنة ربيع، بل نعتبر أول السنة المحرم. ومضى التاريخ الإسلامي على التوقيت الهجري إلى اليوم بحمد الله، قال سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:36] فإذا كانت عند الله فلا ينبغي الإعراض عنها، وعلينا أن نأخذ ما هو معتبر عند الله، ونحن نعلم أن ما حدث من الأشهر ومن السنوات السابقة على التاريخ الهجري هي أيضاً عند الله، وحسابها عند الله، ومجراها من عند الله، فهي باعتبار حركة الشمس في الفلك، ولكن المعتبر القمرية، ولماذا؟ نسأل عامة الحاضرين: أولئك الذين يعتمدون التواقيت غير الهلالية بم يعرفون الشهر؟ لا يمكن أن يعرفوه إلا بتخصص جماعة يعينون دخول الشهر وخروجه، ومن هنا عجزوا عن ذلك، واتفقوا على أن يجعلوا شهورهم متفاوتة ما بين ثلاثين وواحد وثلاثين، يقبضون الكفين، فالعظم الناتئ واحد وثلاثون، والمنخفض ثلاثون، وهكذا فاختلف العدد عندهم في عدد أيام السنة، وكما يقال: سنة كبيسة وغير كبيسة، والفرق عندهم يومان، فجعلوا فبراير -شهر الكذب- ثمانية وعشرين، ما وصل إلى الثلاثين، يهمنا أنهم وقعوا في حيرة، واستمر الأمر عندهم على ذلك، أما نحن -بحمد الله- فلم نحتج إلى هذا ولا إلى ذاك، ولا إلى أن ننقص شهراً عن حسابه، إنما القمر آية كونية يضيء بالليل، ويراه القاصي والداني، كل من أنعم الله عليه بنعمة البصر يعرف أن الشهر قد جاء، وسمي الشهر شهراً للشهرة، فهو يشتهر بظهوره، وسمي الهلال هلالاً؛ لأنهم كانوا من عادتهم إذا طلع الهلال رفعوا أصواتهم، ورفع الصوت يسمى إهلالاً وتهليلاً، هلل فلان أي: رفع صوته، ويقال: التهليل والتحميد والتسبيح، من باب نحت الكلمتين في كلمة، التهليل: قولك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والتكبير: الله أكبر، والتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، وهذا اصطلاح آخر. جعل المولى سبحانه وتعالى الأهلة علامة للشهور فيما نحتاج إليه، وفي هذا مبحث بسيط، وهو: المرأة إذا طلقت وعدتها ثلاثة أشهر، -مثلاً-: طلقت يوم خمسة عشر في الشهر، هل ينتهي الشهر الأول بخمسة عشر في الشهر الثاني وتنتهي من الشهر الثاني في خمسة عشر في الشهر الثالث؟ قالوا: لا؛ لأن الأهلة تزيد وتنقص، بمعنى: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، إذاً: كيف تفعل؟ قالوا: تلتزم بالأهلة. وماذا تفعل في هذا الكسر من الشهر؟ قالوا: إذا طلقت يوم خمسة عشر، تعد الأيام الباقية من الشهر، فمضى عليها خمسة عشر، ودخل الشهر الثاني وظهر هلاله، الخمسة عشر التي مضت تجعلها على جهة، وتأخذ الهلال والهلال شهران، بقي الشهر الثالث، عندها من الثالث خمسة عشر، فتكمله من الشهر الذي يليه، وتكون بذلك قد اكتملت عدتها ثلاثة أشهر، فتعتبر الأهلة في الشهرين السليمين، وتعد الأيام للشهر الذي حدث فيه الطلاق، وهكذا بقية المواطن التي يحتاج فيها المكلف إلى عدة أشهر.

سهولة المواقيت الزمانية الشرعية

سهولة المواقيت الزمانية الشرعية من توقيت الإسلام للعبادات الصلاة، فربط مواقيت الصلاة بحركة الشمس، فلماذا ذهبنا للشمس؟ قالوا: شهر الصوم حركة شهرية وليست يومية، فكان القمر مجزئاً فيها، أما وقت الصلاة فحركة يومية، والشمس يومية، فربطت مواقيت الصلاة اليومية بحركة الفلك اليومي كما قال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، فلا يخفى على إنسان قط دخول الفجر؛ لأن انفجار الفجر من ظلام الليل واضح، حتى الطيور تحس به وتستيقظ قبل الإنسان، والنبات يحس به. وإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، فالشمس من شروقها تدور في منتصف الدائرة إلى الزوال، وتكون متعامدة مع الأرض، فإذا تحولت إلى النصف الثاني إلى جهة الغرب تحول الظل من الغرب إلى الشرق، ولما أشرقت وفي طريقها إلى منتصف السماء كان الظل غرباً، لما وصلت إلى المنتصف وبدأت تتحول إلى الغرب تحول الظل شرقاً. إذاً: لو لم ننظر إلى الأفق، ولم يكن عندنا مقياس سنتيمتر أو ميل أو غير ذلك يحدد موقع الشمس من السماء فعندنا ظل في الأرض يحدد لنا موقع الشمس من السماء. وإذا جئنا إلى وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وإذا جئنا إلى المغرب هل نحتاج إلى شيء؟ الكل يرى الشمس قد غابت في الأفق والحمد لله. وإذا جئنا إلى العشاء فعلاقته ذهاب الشفق، والشفق هو الحمرة على ما عليه الجمهور، وبهذا تكون مواقيت العبادات في الإسلام طبيعية، أي: مرتبطة بآيات كونية يدركها العامي قبل المتعلم. ويبحث العلماء توقيت الصوم، ومتى يدخل الشهر، وما رمضان إلا دورة أيام من دورات الفلك، ليست لأيامه ألوان خاصة، ولا أطوال متخصصة، ولا رياح معهودة، إنه يوم من الأيام، ومعرفة ذلك ببداية الشهر. وسيأتي المؤلف بالأحاديث التي تدور حول رؤية الهلال، وهل الرؤية تثبت بواحد أم اثنين؟ وهل الرؤية خبر أم شهادة؟ وهل دخول رمضان كخروجه أو لا؟ وهذه مباحث باب الصيام فيما يتعلق بدخول شهر رمضان.

شرح حديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)

شرح حديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) متفق عليه، ولـ مسلم: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) ] . عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتموه) ما هو الذي رأيناه؟ الهلال، وأصل حديث ابن عمر طويل، واقتصر المؤلف منه على موضع الحاجة، وفيه أنهم تراءوا الهلال -تطلبوا رؤية الهلال- قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: تراءى الناس الهلال فرأيته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمهم: (إذا رأيتموه) ، أي: الهلال، وهو معلوم من السياق بالضرورة، مثل قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: الروح، فهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم بما يثبت عندنا دخول رمضان، فقال: (إذا رأيتموه) ، ولم يقل: إذا رأيته. فالخطاب هنا للجمع، فهل يتعين على كل واحد أن يراه ليصوم؟ بعض الناس ضعيف النظر، سيصوم على رؤية غيره، إذاً: (إذا رأيتموه -أي: في مجموعكم، بمعنى: لو رآه واحد منكم فكأنكم جميعاً رأيتموه- فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) ، وفي بعض روايات حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زيادة: (فانسكوا) ، من النسك وهو العبادة، ويشمل ذلك الحج، أي: إذا رأيتم هلال ذي الحج، فإنكم تعرفون يوم الوقفة، وتعلمون دخول الحج برؤية الهلال في أول ذي الحجة، والنسك: مطلق العبادة. فلو لم نره، كانت السماء مغيمة، ويوجد رعد وبرق ومطر، والسماء لا ترى، فماذا نفعل؟ وهذا أمر واقع، فهل انتظر أن يسألوه؟ هل قالوا: وإذا لم نره لغيم أم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأهم بذلك؟ هو ابتدأهم؛ لأنه يعلم أن هذه أمور واقعية، فماذا يكون الحكم؟ أتاهم بالحل والجواب مقدماً: (فإن غم) ، يقال: الغمام لأنه يغم الجو، (فإن غم) أي: ستر وغطى، إما بغمام وهو السحاب، وإما بقتر، وهو: الغبار التي تثيره الرياح أو الأحداث، فيكون في الأفق طبقة رمادية لا تبصر معها، ولهذا أحياناً حينما تتلقى ماء المطر في إناء نقي تجده معكراً، من أين أتاه هذا التعكير وهو الآن نازل من السماء؟ الرياح أثارت التراب فعلق في الهواء لخفته ونعومته، فإذا ما نزل الماء أنزله معه؛ ولذا ترى السماء بعد المطر نظيفة نقية، كأنك أخذت مرآة ومسحتها، لماذا؟ لأن قتر الغبار كان يحول دونها، فلما نزل المطر أنقاها.

معنى (فاقدروا له)

معنى (فاقدروا له) قال: (فإن غم عليكم -بشيء ما- فاقدروا له) ما معنى (فاقدروا) ؟ المعنى اللغوي يدور على معنى التضييق والقلة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] ، فبعضهم يقول: (نقدر له) نضيق، أي: نحتاط ونصوم في اليوم الذي يشك فيه إقداراً للشهر، هذا مدلول فاقدروا وحدها، ولكن لم تقتصر الرواية على قوله: (فاقدروا) بل فسرت بقوله: (أكملوا العدة ثلاثين) . والمؤلف جاء براوية (فاقدروا) عن عبد الله بن عمر وانتهى، وهذا عند البخاري، قال: ولـ مسلم: (أكملوا العدة ثلاثين) ، ويريد المؤلف بهذا أن قوله: (فاقدروا) مجمل يحتاج إلى تفصيل، ووجد عند مسلم التفصيل بعدد الأيام، ولهذا يقول ابن عبد البر في الاستذكار: إن من حكمة مالك وفقهه أنه لما بحث هذا الباب أورد حديث عبد الله بن عمر هذا، ثم أورد حديث ابن عباس الذي فيه: (فاقدروا له ثلاثين يوماً) ، قال ابن عبد البر: لقد ساق مالك حديث ابن عباس بعد حديث ابن عمر وأخره عنه؛ لأن فيه بيان ما أجمل في حديث ابن عمر؛ ولهذا مراراً نقول: إن من تأمل إيراد مالك للأدلة في الباب، وأمعن النظر فيها بملكة فقهية، يستطيع أن يعرف مراد مالك، فيشرح الموطأ بالموطأ، وهذه من دقة ملاحظة الفقهاء، حديث ابن عمر وحديث ابن عباس كلاهما في معنى واحد، فكان من الممكن أن يقدم حديث ابن عباس لأنه أبين، لكن قدم حديث ابن عمر الذي فيه الإجمال، وأردفه بحديث ابن عباس ليرفع الإجمال الموجود في حديث ابن عمر. وبعض العلماء فسر كلمة (فاقدروا له) بأنه بالحساب، قدروا أي: خمنوا، وكيف يقدرون؟ قالوا: بعلم الفلك، وأجمع العلماء عل عدم حساب الصوم بالحساب إلا ما روي عن ابن سيرين، وما روي عن الشافعي قد كذبه ابن عبد البر، فقال: ما ذكر عن الشافعي أنه قال: من كان يعلم علم الحساب وثبت عنده رمضان فله أن يصبح صائماً، بناءً على يقينه بعلمه، رد ابن عبد البر هذا النقل، وقال: الذي وجدناه في كتب الشافعي خلاف ذلك. يعني: أنه لا يقول بالحساب. والذين يقولون: (فاقدروا له) أي: فاحسبوا له، ويذكرون قاعدة عجيبة، وهي من علم الفلك، يقولون: يقدرون لهلال رمضان إذا علموا يقيناً بهلال شعبان باليقين. فكيف يعرفون رمضان بهلال شعبان، وشعبان يمكن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين؟ قالوا: القاعدة الفلكية في حركة القمر وظهوره وغيابه أنه أول ما يرى الهلال في أول الشهر يمكث في الأفق ستة أسباع الساعة، ثم في الليلة الثانية يطول مكثه ستة أسباع الساعة مرة ثانية، وفي الليلة الثالثة يزيد مكثه، وهكذا إلى الليلة السابعة، وفيها غياب القمر في منتصف الليل. نعيد هذا مرة ثانية، يقولون في علم الفلك بالنسبة للقمر: أول ما يظهر لا يغيب حالاً، يمكث ستة أسباع الساعة، نحو الأربعين دقيقة؛ لأننا لو قلنا: تسعة في سبعة، ستكون ثلاثة وستين، وثلاثة زائدة، وإن قلنا: ثمانية في ستة ستكون ثمانية وأربعين، وتسعة في ستة بأربعة وخمسين، إذاً ننزلها ونقول: ستة في ثمانية بكم؟ بثمانية وأربعين، إذاً: ثمانية ونصف، ستة في ثمانية ونصف حوالى الأربعين دقيقة، فلنصطلح على أربعين دقيقة، فالليلة الثانية يمكث في الأفق أربعين مرتين، أي: ثمانين دقيقة، والليلة الثالثة يمكث أربعين ثلاث مرات، ويغيب في ليلة سبعة من الشهر في منتصف الليل. ثم يظل في مكثه ستة أسباع الساعة إلى أن تأتي ليلة أربعة عشر، ويظل طيلة الليل لا يغيب، وهي ليلة بدر التمام. إذاً: ليلة أربعة عشر يظهر القمر من أول الليل إلى آخره، وبعد أربعة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة، وليلة ستة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة -مرة ثانية- وهكذا، فكل ليلة من النصف الثاني من الشهر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة عن الليلة التي قبلها، إلى ليلة ثمانية وعشرين في الشهر، ففي ليلة ثمانية وعشرين المفروض أن يرى في الصبح عند الفجر، فإن رؤي فالشهر كامل أي: ثلاثون يوماً، وإن لم ير عند الفجر ليلة ثمانية وعشرين فالشهر ناقص أي: تسعة وعشرون يوماً، فإذا علمنا بدخول شعبان وتتبعنا هلاله، وزدنا في كل ليلة ستة أسباع إلى أن يغيب في منتصف الليل في الليلة السابعة، ثم يبدأ يزيد إلى أن يستغرق الليل كله، وهي ليلة بدر التمام، ثم يبدأ في النقصان إلى ليلة ثمانية وعشرين، فإن لم يظهر فيها فالشهر ناقص، فإذا عرفنا أن شعبان ناقص فيوم غد رمضان، هكذا يقولون في علم الحساب، ولكن البعض يقول: قد يختلّ هذا النظام، ونحن لسنا مكلفين بهذا العناء، وستة أسباع الساعة نحن محتارون فيها، فكيف نتتبع ذلك طيلة الشهر، ثم نحكم بأن شعبان خرج، ورمضان جاء؟ وقد قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [3]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [3] شهر رمضان تتعلق به أحكام كثيرة، وهو أفضل شهور السنة، وفيه فضائل عديدة، ومن الأحكام المتعلقة بدخول رمضان: بيان كيفية ثبوته، واعتبار اختلاف المطالع فيه، وحكم تبييت الصيام من الليل، بالإضافة إلى الاكتفاء بنية واحدة لجميع أيام الشهر، وهذه المسائل اختلف العلماء فيها، فينبغي فهمها لمعرفة الراجح من الأقوال فيها.

أنواع العلوم

أنواع العلوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم ظنية، وعلوم توقيفية. أما التوقيفية: فهي كل ما يتعلق بالغيب من صفات المولى سبحانه، وأحوال القبر، وأحوال القيامة، ونعيم الجنة، وعذاب النار -عياذاً بالله-، فكل ذلك توقيفي لا نجزم بشيء منه إلا بخبر يقين عن صادق، فلا نستطيع أن نحكم بشيء، بل نتوقف، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت بأخي موسى في قبره قائماً يصلي، ولو كنت هناك لأريتكم قبره بجانب الكثيب الأحمر) ، بالتحديد، ثم إذا به يرى موسى يستقبله مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إذا به يرى موسى في السماء السادسة يستقبله، فهل العقل يستطيع أن يحكم بذلك؟ لا، بل هو توقيف، ومثله قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ، هل نستطيع أن نحكم أن حقيقة الخمر واللبن والعسل في الجنة كما هو عندنا؟ والميزان الذي يزن الأعمال، هل هو ميزان حرارة أو ميزان كذا أو كذا؟ والبطاقة التي فيها "لا إله إلا الله" ترجح بسجلات مد البصر، هذه أمور غيبية لا دخل للعقل فيها. العلوم التجريبية: مثل علم الطب؛ لأن الصيدلة ومعرفة خواص الأشياء من نباتات أو معادن أو كيماويات إنما هي بحسب التجربة، ويقال في علم الصيدلة: إن أكثر من خمسين في المائة من الأدوية المتداولة اكتشفت عن طريق الصدفة أثناء التجارب! ينتقل الصيدلي أو الكيميائي في معمله من قصد إلى قصد آخر لشيء فاجأه في بحثه. أما العلوم العقلية: مثل الرياضيات -الحساب والهندسة- لا يمكن أن قضية رياضية تخطئ؛ لأن القواعد الرياضية لا خطأ فيها، وإنما يأتي الخطأ من العقل الذي يعملها. مثلاً: (5×6=30، 6-5=1، 1+5=6) فهذه لا تتغير، مهما حورت ومهما دورت في عمليات الأرقام؛ ولذا جعلوا لها الآن قواعد جمادات، فالآلة الحاسبة نظموها على تلك العقليات الرياضية فلم تخطئ، الإنسان يخطئ عشرين مرة، والآلة الحاسبة لا تخطئ لماذا؟! لأنها لا تملك الخطأ، وتعجز عن الخطأ؛ لأن الخطأ نتيجة اجتهاد، والآلة لا اجتهاد لها. أما العلوم الظنية: مثل العلوم الفلكية، وإن كان الفلكيون الآن سيروا المراكب في الفضاء، وأرسلوا الصواريخ، وفعلوا وفعلوا، لكن لا زالوا في دائرة الظنيات. إذاً: إذا اعتمدنا في الصوم على الحساب فلن نخرج عن نطاق الظنيات؛ ولهذا جاء الحديث صحيح: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) ، إن كنا في أول رمضان أكملنا عدة شعبان ثلاثين، وإن كنا في آخر رمضان وغم علينا أكملنا عدة رمضان ثلاثين يوماً، وانتهت القضية، والحمد لله.

هل يثبت الشهر برؤية عدل؟

هل يثبت الشهر برؤية عدل؟ من الذي يعتمد عليه في الرؤية؟ إذا رآه مسلم عدل في أول دخوله اكتفي به، وهناك من ينقل عن الشافعي أنه يقول: لابد من شاهدي عدل. وهل الإخبار عن رؤية الهلال شهادة أم إخبار؟ والفرق بين الخبر والشهادة دقيق جداً؛ لأن كلاً منهما يخبر عن مغيّب، والفرق بينهما: إذا كان مضمون الكلام -أي: مضمون الخبر- له علاقة بشخص ثالث غير المتكلم والسامع فهو شهادة؛ لأنه يشهد على إنسان ما، وإن كان موضوع الكلام لا يتوقف على شخص ثالث فهو خبر، حينما يقول: طلعت الشمس. يريد أن يخبر السامع بطلوعها، فهل هناك شخص آخر يعنيه ذلك في هذا الخبر؟ لا، وإذا قال: سمعت زيداً يقول عند طلوع الشمس: أعط فلاناً كذا. فهل هذا خبر أو شهادة؟ شهادة؛ لأنه يتعلق بحق شخص ثالث، ومن هنا: من اعتبر رؤية الهلال شهادة قال: لابد من اثنين {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] ومن اعتبر رؤية هلال رمضان خبر فيكتفي بواحد، حتى المرأة، فخبر المرأة وخبر الرجل في باب الأخبار سواء، ونحن تأتينا الأحاديث برواية النساء، فهل نقول: هذه امرأة لا نقبل شهادتها؟ لا، فهي تقول: أنا لا أشهد، بل أخبرك بما سمعت؛ ولهذا ورد في الحديث: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عشية وقال: أشهد بالله أني رأيت الهلال. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي: ألا فافطروا وامضوا إلى المصلى غداً) ، وابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال، فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام) ، وكل هذا من باب الإخبار. ومذهب الجمهور قبول خبر الواحد في دخول رمضان، ويتفقون على وجوب عدلين في خروج رمضان إلا من شذ، والفرق عندهم هو ما قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي شهد برؤية الهلال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟) سبحان الله! لم يقل: أتشهد أني، بل قال: أتشهد أن محمداً؛ لأن شخصية الرسالة ليست بالأنية، ولكنها المحمدية، قال الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] ، ولم يقل: آمنت بما أنزل إليك من ربك، فقال: (نعم أشهد، فقبل منه ذلك واكتفى بهذا، وأمر الناس بالصيام) ففي دخول رمضان الأحوط أن نقبل خبر الواحد؛ احتياطاً لرمضان، وأما الخروج فنحن على يقين من صومنا، فلا يخرجنا خبر الواحد، ونحتاج إلى زيادة تأكيد، فإذا شهد عدلان خرجنا عن الصيام، وكان الشهر تسعةً وعشرين يوماً.

خلاف العلماء في اعتبار المطالع

خلاف العلماء في اعتبار المطالع قوله: (صوموا لرؤيته) خطاب لأهل المدينة في ذلك الوقت أو خطاب للأمة كلها؟ من قال: هو خطاب لمن كان موجوداً في ذلك الوقت، قال: خاص بهم. ومن قال: هو عام للأمة كلها، قال: إذا رئي في بلد وجب على جميع بلاد العالم الإسلامي أن يصوم. ولكن وجدنا الأخبار والعمل على اعتبار كل قطر لمطلعه، كما في قضية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كريب، فـ كريب أرسلته بعض أمهات المؤمنين إلى معاوية رضي الله تعالى عنه وهو خليفة بالشام، فأدركه رمضان بالشام، ورءوا الهلال ليلة الجمعة، وأصبحوا صائمين يوم الجمعة، ثم جاء كريب إلى المدينة وهم في رمضان، فتحادث هو وابن عباس عن أهل الشام، وعن معاوية وعن رمضان، فقال كريب: أما رمضان فقد رأينا الهلال ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصمنا وصام معاوية وأمر بالصوم. فقال ابن عباس: أما نحن -وكان في المدينة- فلم نره إلا ليلة السبت. فقال: ألا تكتفي برؤية معاوية وصومه؟ قال: لا، بهذا أمرنا رسول الله، فقوله: (صوموا) خطاب لكل قطر على حدة. بقي الخلاف والنزاع في تباعد الأقطار وتقاربها، وبعضهم يقول: السياسة تدير الأمر، فإذا تقاربت السياسة صمنا برؤية البلد الفلاني، وإذا تباعدت السياسة، يقولون: لم يثبت عندنا. يا سبحان الله! ونجد كثيراً من طلبة العلم يشغلون أنفسهم بهذه المسألة، فالآن السعودية ثبت عندها رمضان يوم الثلاثاء، من الذي يمنع العالم كله أن يأخذ بهذه الرؤية؟ هل هناك مانع؟ لا يوجد مانع، هل هناك ملزم يجبرهم بالصيام معنا؟ لا، لا يوجد ملزم، فهي أمور شخصية، فهم يقولون: لا نقبل، لا نثق، إذاً: سندخل معهم في ملاحاة، فنقول: حينما يثبت عندكم رؤيته صوموا، وحينما يثبت عندكم رؤيته أفطروا، ونصيحتي: أن هذه القضية بالذات لا ينبغي أن تكون مجالاً للبحث وللنقاش، ولا نتهم الأمة بالفرقة من أجل هذا، أو ندعو الأمة إلى الوحدة في هذا، فلا يوجد حاجة إلى هذا كله؛ لأنه لا تكون هذه الوحدة أبداً، نحن الآن في هذا الوقت هنا، ولو سألت عن بلد يقع شرقاً عنا على بعد ألفين ميل لوجدتهم قد أفطروا من قبل ساعات، وصلوا العشاء، ولو أنك أفطرت هنا وسألت عن بلد في الغرب: هل أفطرتم؟ يقولون: لا، نحن لم نصل العصر بعد! فالتوقيت -مثلاً- بينك وبين الدار البيضاء في المغرب ثلاث ساعات، فنحن نفطر، ونصلي العشاء، ونصلي التراويح، ونرجع إلى بيوتنا، ثم هم يقولون: باسم الله، اللهم! لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا. إذاً: لا يوجد وحدة في هذا، وهل هذا يعيب العالم الإسلامي؟ لا، الوحدة تكون عملياً في غير ذلك، الوحدة تكون على تحكيم كتاب الله، الوحدة تكون في نظام الإسلام وفي تشريعه، الوحدة تكون في أعمال المسلمين بما فرض الله، نوحد الزكاة، نوحد الأموال، هل استطاعوا أن يوحدوا العملة النقدية؟ ما استطاعوا؛ لأنها أمور تختص بالبلد، ولا حاجة لكثرة الكلام في هذا، وإذا ما اتحدت قلوب المسلمين، فبنعمة من الله يستطيعون أن يوجدوا الوحدة بأبسط من ذلك، الآن بدءوا يقولون: وحدة التعرفة الجمركية، وحدة التعرفة البريدية، وحدة كذا، وهم الآن مضطرون إلى أن يوحدوا وسائل المواصلات، وتتبادل الشركات تذاكر بعضها بعضاً اضطراراً. إذاً: النزاع في كون رؤية الهلال رؤية للعالم كله أو ليست رؤية للعالم كله، هذه أمور نظرية وليست عملية، وعلى هذا فكل بلد له مطلعه، والذي يهمنا أن العالم الإسلامي ينبغي أن يرتبط في دخول رمضان وخروجه بهذه الآية الكونية الكبيرة، ألا وهي: رؤية الهلال، فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أما أن نحسب مقدماً، ونعلن الصوم قبل مجيئه بأيام، ونقول: سيكون يوم كذا، والعيد سيكون يوم كذا، على أساس الحساب والتقدير، فالحساب والتقدير قطعاً لا يخلوان من الخطأ، والله ما تعبدنا ولا كلفنا أن نتحمل هذه المشاق، وإذا عرف الحساب بعض الأفراد فمن الذي يحسب لأهل البادية، وأهل الأرياف الذين لا يعرفون حساباً؟ إن قلت: إن الدولة ستخبرهم. فكيف بالذين لم تصلهم مواصلات الأخبار؟ وكم يوجد من أهل البادية في الجبال وفي الكهوف! كم يوجد من البوادي بعيدة عن المواصلات! فهؤلاء عندهم توقيتهم، إذا رءوا الهلال لا يحتاجون إلى إخبار ولي أمر، فيصومون لرؤيته، وإذا رءوا الهلال يفطرون لرؤيته، وهكذا. إذاً: قضية الحساب، وقضية تعميم الرؤية، فيها نظر، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ولاة أمورنا إلى الحق، وإلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (تراءى الناس الهلال.

شرح حديث: (تراءى الناس الهلال ... ) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان] . أتى المؤلف رحمه الله بحديث ابن عمر؛ لأن فيه أن الذي أخبر بالرؤية واحد، وهو ابن عمر، (تراءى الناس) ، أي: كل يرى لعله يراه، لكن ما رآه أحد إلا ابن عمر، وللأحناف هنا مباحث: إن كانت السماء صحواً فلم لم يره إلا ابن عمر؟ فهم لا يقبلون واحداً، وإن كان في السماء غيم فلا مانع، وقد يخفى الهلال على بعض أولي الأبصار القوية، ومن الضروري للتمكن من رؤية الهلال أول ليلة أن يعلم الرائي أين يكون الهلال في أول ليلة؛ ولذا يتتبعه بعض الناس في خط سير الشمس؛ لأنه يتبعها، فإذا كان يتتبع مجراها فحري أن يرى الهلال، فهو لا يذهب إلى يمين أو إلى يسار مجرى الشمس في غروبها، فإذا كان إنسان يعرف ذلك فلربما يراه، والآخرون لا يرونه لوجود الغيم، وهذا الذي ساقه هنا عن ابن عمر يوافق عليه الجميع. إذاً: حديث ابن عمر يثبت قبول خبر الواحد، ونبهنا على الفرق بين أن يكون الأمر خبراً وبين أن يكون شهادة، مواطن الشهادة كما قال تعالى: {ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أما الإخبار فيكفي فيه الثقة، حتى لو أن امرأة أخبرتنا بخبر فلا نرد ذلك الخبر، وكما قيل: وعند جهينة الخبر اليقين. ومن قصص الجاهلية أن امرأة أخبرتهم أن القاتل ظفر به ولي المقتول فقتله، وكانوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نعمل؟ نقاتل أو لا نقاتل؟ ندفع دية أو لا ندفع؟ وبينما هم على ذلك، قالت لهم: صاحب الدم قتل صاحبه، فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالخبر يكفي فيه الثقة، لا مجنون ولا سفيه ولا غبي، فإذا أخبر واحد برؤية الهلال؛ قبل ذلك ولي الأمر، وأمر بالصيام.

شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غدا)

شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً) قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله] . أتى المؤلف رحمه الله بهذا الخبر، وماذا فيه من زيادة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر يقول: تراءى الناس، ورأيت، وأخبرت، فصاموا، والأعرابي يقول: إني رأيت، فأخبره، فقال: (فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) ، الناحية الموضوعية في الحديثين واحدة، وليست هناك زيادة إلا أن ابن عمر صحابي جليل ثقة، حريص على اتباع سنة رسول الله أكثر من غيره، لكن الأعرابي هذا يسكن البادية، ولا نعرفه، وقد قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] ، فالأعراب فيهم وفيهم، فجاء المؤلف بحديث شهادة الأعرابي، وهل تثبت شهادته؟ هل قال له: أحضر لي شهوداً، أحضر لي مزكين، أين شيخ القبيلة حتى أسأله عنك؟ لا، بل قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم أشهد. قال: أتشهد أن محمداً -وهذا التجريد كما يقولون- رسول الله) ، ونبهنا على أن الرسالة ليست أنية، لم يقل: أتشهد أني رسول الله؟ لا، محمد بن عبد الله هو الذي أرسله الله قال الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:28-29] ، لم يقل: وكفى بالله شهيداً أنك رسول الله، لا، مع أن هناك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ، لكن هنا في معرض التقرير قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد. ويتفق العلماء على أن هذا وحده يكفي للعدالة، قالوا: لأن الإسلام يجب ما قبله، فهذا الأعرابي مهما كانت درجته في سلوكه وانحرافه فأسلم، فقد محا الله عنه كل آثار الماضي قبل ذلك، وهكذا التوبة كما نعلم بقضية الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فتداركه الله بلطفه، وهداه إلى التوبة، فذهب إلى عابد من العباد ليس فقيهاً، فقال: هل لي من توبة بعد التسعة والتسعين؟ قال: أعوذ بالله! قتلت تسعة وتسعين وتريد توبة أيضاً؟! قال: يعني ما هناك فائدة؟ قال: لا. قال: إذاً نكمل المائة، وقتله. فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى، فذهب إلى عالم من العلماء، فقال: يا سبحان الله! ومن يحول بينك وبين الله؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه القرية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم إلى تلك القرية الفلانية ففيها أناس صالحون، فتعبد الله معهم. فخرج فأدركه الموت في منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة لأنه مقبل عليهم، وملائكة العذاب لأنه مجرم من سابق، فبعث الله ملكاً يحكم بينهم: أن قيسوا بين البلدين، وألحقوه بأقربهما منه، وفي بعض روايات الحديث الصحيحة: (أن الله أوحى إلى هذه أن اقتربي -أي: التي خرج إليها-، وأوحى إلى تلك أن تباعدي) -ورواية أخرى (أن الله سبحانه قربه بصدره - يعني: انقلب وهو ميت ليكون أقرب- فقاسوا فكان أقرب إلى البلد التي خرج إليها قدر ذراع) . والذي يهمنا: أن الصحابة مهما كانوا فكلهم عدول؛ لأن الله قد شهد لهم بالعدالة، ولذا يقول بعض علماء الحديث: إن المرسل في الحديث يقبل، وهو الذي سقط منه الصحابي، والتابعي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن التابعي لم يلق رسول الله، ولو لقيه لكان صحابياً، فيقولون: غاية ما في الأمر أن الصحابي غير مذكور وغير معلوم لنا، وعموم الصحابة عدول، فعدم ذكره لا يضر في الحديث شيئاً. فهذا الأعرابي مسلم، وثبتت له الصحبة بأنه رأى رسول الله وخاطبه، ولا يشترط في الصحبة طول الملازمة كما يقول بعض العلماء، فاكتفى منه بالشهادتين فقبل خبره، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس بأن يصوموا غداً، ولم يكن عندهم مدافع، ولا برقيات، ولم يكن هناك إذاعة، والأذان كان أكبر وسائل الإعلام.

شرح حديث: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)

شرح حديث: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) قال رحمه الله: [وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني: (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) ] . كأن المؤلف رحمه الله يذكر الأحاديث بالتسلسل التشريعي، فذكر أولاً: (لا تصوموا قبل رمضان بيوم أو يومين) ، قبل أن يأتي الشهر، فإذاً: ما صمنا اليوم ولا اليومين، ثم جاء اليوم الذي يشك فيه فقال: (لا تصوموا يوم الشك) ، ثم تعدى يوم الشك، قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، فهذا تسلسل حدثي ماض، وبعد أن رأينا الهلال، وصمنا لرؤيته، بدأ في بيان الصوم، فإذا كنت رأيت الهلال وثبت عندك وستصوم، فلابد أن تبيت النية بليل. وهذا الحديث عن حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر يروي عن أخته هذا الحديث، وبعضهم يقول: هذا موقوف عليها، أي: من قولها هي. والبعض يقول: لا، لقد رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه الرواية. إذاً: حديث تبيت النية للصوم جاء عن حفصة تارة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة موقوفاً صناعة أو شكلاً على حفصة، ومهما يكن من شيء، فتصحيح الصوم بالنية، وعدم تصحيحه بدونها هل هذا من حق أحد سوى الوحي المنزل؟ فكون الصوم يشترط فيه تبييت النية أو لا يشترط هل من حق أحد أن يجتهد فيه؟ هل من حق أحد أن يتدخل فيه؟ لا، إنما ذلك لا يكون إلا توقيفاً عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً حفصة رضي الله تعالى عنها حينما قالت: لا صيام لمن لم يبيته بليل. لم تأت به من اجتهادها ولا تفكيرها، بل نجزم يقيناً أنها ما قالته إلا بعد أن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا أنها زوجه، ومن أقرب الناس إليه، ولا يفوتها مثل هذا، وعلى هذا فهو وإن كان موقوفاً شكلاً على حفصة؛ لعدم ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو مرفوع حكماً؛ لأنه ليس مما يحتمل الاجتهاد. وعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُجمع -من لم يزمع، من لم يبيت. كل هذه ألفاظ جاءت في هذا الحديث وغيره- الصوم بليل فلا صوم له) ، وكلمة (ليل) هنا: ظرف لنية الصوم نهاراً، ومتى تكون النية إذاً؟ قالوا: من بعد غروب الشمس أول الليل إلى قبيل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهذا كله ليل، إذاً: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ليل.

حكم النية في الصوم

حكم النية في الصوم وهنا يبحث العلماء عن حكم النية في الصوم، فيقسمون الصوم إلى صوم رمضان وما في حكمه: صوم النذر، صوم الكفارة، والقسم الآخر صوم التطوع، والجمهور على أن صوم رمضان وما يلحقه في الحكم لا يصح إلا إذا بيت النية من الليل، ومن أي جزء من الليل؟ قالوا: من عند غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ففي أي لحظة من ذلك الوقت نوى الصوم فقد حصل المطلوب. وقوله: (يبيت) هل يشترط أن يأتي بهذه الألفاظ والقوالب لمعانيها، فيقول: نويت الصوم يوم غد الخامس عشر من رمضان سنة ألف وأربعمائة وخمسة عشر بالمدينة المنورة؟ هل يلزم هذا كله؟ لا أبداً، ونويت الصوم غداً. هل تلزم هذه؟ أيضاً لا، وكونه بعد غروب الشمس علم بثبوت رمضان، وحمد الله أنه أدركه، وغداً سيصوم الناس، وهو مع الناس، فهذه نية، وهذا الإدراك في نفسه هو بنفسه نية، ولو كان نائماً، ولا يدري عن مجيء رمضان، وأيقظه أهله وقالوا: قم! قال: ما الأمر؟! قالوا: قم تسحر. قال: لماذا؟ قالوا: جاء رمضان. قال: الحمد لله، وقام فتسحر معهم للصيام غداً، فهذه نية، فالنية في الصوم هو ورود الصوم على خاطره بالجزم أنه صائم غداً. وهل يتعين كل ليلة نية لصيام نهارها أم يكفي من أول ما ثبت رمضان أن ينوي أنه صائم الشهر إن شاء الله، وتكون نية بالجملة تشمل الشهر كله؟ بعض العلماء كالحنابلة يقولون: تجزئ. ويأتون بقاعدة: هل رمضان بأيامه الثلاثين عبادة واحدة أو كل يوم عبادة مستقلة عن الآخر؟ فمن نظر إلى أن رمضان فرضاً واحداً قال: تجزئه نية واحدة. ومن نظر إلى أن كل يوم فرضاً مستقلاً بذاته قال: لابد لكل يوم من نية. والنية على ما تقدم بيانها. وهل صيام رمضان عبادة واحدة أم أن كل يوم عبادة مستقلة؟ يترجح لي -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه المالكية من أن كل يوم عبادة مستقلة بذاتها. ولماذا؟ يقول المالكية: من أفسد صوم يوم من رمضان، -مثلاً- يوم تسع وعشرين من رمضان، فهل أفسد رمضان كله أو هذا اليوم فقط؟ هذا اليوم فقط، إذاً: هذا اليوم عبادة مستقلة بذاتها، فالأولى تبييت النية لكل يوم. وكما أشرنا أن مجرد خطور الصوم على باله ليلاً يجزئ. وينبه العلماء على أنه من كان عازماً على سفر، وحجز في الطائرة، والموعد غداً في التاسعة صباحاً، والحجز مؤكد، والتذكرة في جيبه، والسيارة ستوصله إلى المطار، إذاً: السفر بالنسبة لهذا (99. 9%) ، فهذا الشخص يتعين عليه ما دام في بلده أن يبيت الصوم لذلك اليوم الذي هو غداً مسافر فيه، ولماذا؟ لهذا الواحد من عشرة من مائة، لاحتمال أن يتخلف السفر، -مثلاً-: ألغيت الرحلة غصباً عنه، جاء الذي كان سيسافر من أجله، كأن يكون طلب شيئاً من جدة أو من خارج البلاد وتأخر عليه، وعزم أن يسافر ليأتي به، ففي الصباح الحجز الساعة التاسعة، وفي الساعة سبعة جاء الذي يقول له: خذ حاجتك. فهل سيسافر أم يمتنع؟ سيمتنع لانتهاء المهمة. إذاً: عليه أن يبيت النية، حتى إذا تعطل السفر يكون قد احتاط ومعه شرط صحة صوم يوم غد، وإن حصل سفر فمع السلامة. وكذلك المرأة التي تعلم من نفسها مجيء الدورة، ومتعودة أنه يوم كذا تأتي الدورة، وتعلم أن غداً موعد الدورة بعد الظهر، فعليها أيضاً أن تبيت النية للصوم؛ لأن الدورة ليست حركة ميكانيكية مثل الساعة، قد تتأخر إلى ما بعد غروب الشمس، إذاً: تبيت النية للصوم، فإن جاءت الدورة خرجت من الصوم، وإن لم تأت الدورة واصلت الصوم، وصح صومها لهذا اليوم.

عدم اشتراط تبييت النية في صوم التطوع

عدم اشتراط تبييت النية في صوم التطوع الصوم منه فرض ومنه نافلة، هل يشترط لصحة صوم النافلة أن يبيت الصوم بليل أيضاً أو يصح للإنسان أن ينشئ نية الصوم للنافلة في النهار بعد طلوع الفجر؟ الجمهور على أنه بالنسبة للنوافل له أن يعقد الصوم في النهار ما لم يكن قد أكل. إذاً: تبييت الصوم بليل عام، ويستثنى منه النوافل، وما الذي أخرج النوافل من عموم الصوم؟ قالوا: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا. قال: إني إذاً صائم) (إني إذاً) أي: في هذا الوقت نويت الصوم، فما دام لا يوجد أكل فسأصوم، وهذا بشرط ألا يكون أكل قبل ذلك. وبعضهم يقول: لو أكل في يومٍ صومه واجب، وهو غافل عنه، فيمسك حينما تبين له، ويقضي يوماً آخر، فمثلاً: الصبي يبلغ في نصف النهار، احتلم وأصبح مكلفاً، فيمسك عن الطعام في ذلك اليوم، ولأنه قد أكل فعليه قضاء يومه، وإذا لم يكن قد أكل فكثير من العلماء يقول: يجزئه؛ لأنه قبل البلوغ غير مكلف، واليوم سليم لم يقطعه بطعام. والآخرون يقولون: لا، يقضي يوماً غيره؛ لأنه لم يبيت الصوم بليل، ومثل ذلك الكافر إذا أسلم أثناء النهار. والحائض إذا طهرت أثناء النهار، فإنها تمسك لحرمة رمضان، ولأنها أمسكت وصامت نصف نهار، والنهار لا يتجزأ، فعليها أن تقضي هذا اليوم المجزأ. هذا ما يتعلق بوجوب تبييت النية للصوم. بعض العلماء يقول: بالنسبة للنية الإجمالية من أول الشهر، لو قدر أن هذا الذي نوى إجمالاً طرأ له سفر يبيح الفطر، لكنه اختار الصوم، فهل تجزئه نية الإجمال الأولى أو يتعين عليه لكل يوم نية؟ قالوا: المسافر عليه أن يبيت النية لكل يوم، وما الذي أخرج المسافر على القول بأن الشهر كله تكفيه نية واحدة؟ لأن المسلم مكلف أن يصوم الشهر كاملاً، لكن المسافر جاءته رخصة، فله أن يصوم، وله أن يفطر، والمقيم ليست عنده رخصة، وليس مخيراً، بل عليه الصوم، فتكفيه النية الأولى، أما إذا أنشأ سفراً، فالسفر يعطيه حق الصوم وحق الفطر، فهذه الليلة لا ندري هل هو في الغد صائم أم مفطر؟ فيتعين على المسافر عند الجميع أن يبيت النية لكل يوم؛ لأنه دائر بين جواز الصوم وجواز الفطر، فلا بد أن يحدد. هذا ما يتعلق بمبحث تبييت النية في الصوم ما بين فرض وما بين نفل، وما بين سفر وحضر.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [4]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [4] إن مما يشرع للصائم في صومه تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من لوازم بقاء الخير في هذه الأمة حرص أفرادها على هذا الأمر.

شرح حديث: (فإني إذا صائم)

شرح حديث: (فإني إذاً صائم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم. ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: أهدي لنا حيس. فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) رواه مسلم] . بعدما قدم لنا المؤلف رحمه الله تعالى وجوب تبييت النية في الفرض، جاء بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي يخصص ذاك العموم، ويتعلق بنية النافلة، فتقول رضي الله تعالى عنها: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم) . قبل الحديث عن النية، وعن نوافل الصيام، وعن أحكام الفطر، ننظر إلى هذا الحديث في مدلوله، سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن تكون جبال الدنيا ذهباً في يده، يسأل أهله: هل عندكم طعام؟ فيقولون: لا، ليس عندنا! هل ذلك لهوانه على الله؟ هل ذلك لنقصان ما عند الله؟ لا والله! بل هو ابتلاء وامتحان لآل بيت النبوة، وقد تحلوا بالصبر والعفة والرضا والقناعة بما لا يقوى عليه أحد في الدنيا. قد يقول قائل: هذه عائشة ليس عندها شيء، وقد يكون عند بعض زوجاته طعام، فيأتي حديث ضيف رسول الله، عندما أرسل إلى جميع زوجاته يسألهن: هل عندكن ما تعشين به الضيف؟ وكل واحدة تعتذر: ليس عندي. فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف هذا الليلة وله الجنة؟) يا سبحان الله! الجنة بعشاء ضيف ليلة! ليس لهوان الجنة، ولكن لعظم قري الضيف، بيوت رسول الله التسعة ليس فيها ما يعشي به الضيف؛ وذلك لندرة الطعام وقلته، ولماذا صار الذهب غالياً؟ لقلته وندرته، فيذهب به الرجل إلى بيته، فيقول لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله. فتقول: والله ما عندي إلا عشاء عيالك! فيقول لها: علليهم حتى يناموا، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج، كأنك تصلحينه فأطفئيه، فإني سأمد يدي في القصعة لتلتقي بيد الضيف فيظن أني آكل معه وأرفعها خالية؛ لأوفر الطعام لضيف رسول الله! وبات العيال والرجل والمرأة خماصاً، وشبع ضيف رسول الله وهو لا يعلم، فما كان لهذا الرجل الذي احتال على الضيف طاعة لله ومرضاة لرسول الله إلا أن استقبله رسول الله في صلاة الصبح قائلاً: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) . فهذا رجل من عامة الناس، والطعام الذي عنده إن عشّا به عياله لا يعشي الضيف، وإن عشا به الضيف لا يجد ما يعشي عياله وأمهم ونفسه. أيها الإخوة الكرام! إن أوجب ما يجب على المسلم وعلى العاقل -لو لم يكن مسلماً- أن يحفظ نعمة الله عليه، وإن أعظم أسباب حفظ النعم الشكر لله سبحانه، فهذا الرجل ليس عنده إلا عشاؤه وعشاء عياله، وكم الذين يتجاوزون الحد في إهمال شكر النعمة، ولا يضعونها في مواضعها! فنسأل الله تعالى أن يردهم إلى الصواب، ونوصيهم أن يفيضوا بما أفاض الله عليهم على أولئك الذين يبيتون طاويين لا طعام لهم. يقول: (هل عندكم من شيء؟ قالت: قلت: لا) !! بل تقول رضي الله تعالى عنها: كان يمر بنا شهران هلال وهلال وهلال، ولم يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقيل لها: فما كان طعامكم حينئذ يا أماه؟! قالت: الأسودان: الماء والتمر. يا سبحان الله العظيم! لما أراد أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أن يدخل الحجرات في المسجد النبوي، وكان لإدخالها سبب سياسي ومنافسة، بكى أهل المدينة، وقام سعيد بن المسيب يعارض ذلك، فقال عمر: والله! ما هي إلا عزمة أمير المؤمنين -أي: لا أستطيع أن أخالف ذلك- فقال سعيد: وددت لو بقيت حتى يأتي الناس من كل مكان فيروا كيف كانت حالة رسول الله، وكيف كان يعيش، وكيف كان يبيت، وكيف كان يسكن، يقول أنس: إذا مددت يدي نلت سقفها! (هل عندكم من شيء؟ قالت: لا. قال: إني إذاً صائم) ، أعتقد أن هذا الموقف لا يمكن أن تترجم عنه الكلمات، ولا يمكن أن يدركه إلا ذو حس رهيف، وحساسية شفافة يستطيع أن يقايس بين حياة الناس وحياة سيد الناس صلى الله عليه وسلم. يذكر العلماء خلافاً ضعيفاً، وهو: أن النفل والفرض يستويان في وجوب تبييت النية، ولكن الجمهور على أن النافلة تغاير الفرض، ويجوز للإنسان إن لم يأكل أن ينشئ نية صوم من ضحى النهار، وبعضهم يقول: إلى زوال الشمس، وابن عبد البر يذكر في "الاستذكار" عن البعض: ولو إلى قبل الغروب. ثم البعض يقول: هذا الذي أخر تبييت الصيام وأنشأه من النهار له ثواب من وقت إنشاء النية إلى غروب الشمس، والجمهور يقولون: له ثواب اليوم كله. وبعضهم يستدل بما وقع عملياً حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء من ينادي: (من كان أكل فليمسك، ومن لم يكن أكل فليصم) فقالوا: هذا إعلام وإلزام بالصيام في وضح النهار، ولم يعلمهم بالليل، ولم يبيتوا الصوم بالليل، وإنما أنشئوه نهاراً، وبعضهم يقيس الفرض على عاشوراء، وبعضهم يجعل ذلك للنافلة فقط، فالذين يقيسون يقولون: صوم عاشوراء في بادئ الأمر كان فرضاً، ولكنه نسخ لما جاء ما هو أهم منه وهو رمضان. وبعض العلماء يناقش في كلمة (إني إذاً) ، (إذاً) ظرف، فهل معنى (إذاً) يعني: الآن أنشأت نية الصوم أو أني كنت قد بيت النية لصوم، وإذا وجدت شيئاً أكلت، فلما لم أجد شيئاً فأعلمكم أني صائم، يعني: مبيت للصوم من الليل؟ كل هذه أشياء فيها تكلف، وإذا ثبتت لفظة (إذاً) فهي تدل على إنشاء النية نهاراً، وعلى هذا يكون سياق المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها إنما هو بيان لما يستثنى من عموم (لا صيام لمن لم يبيته بليل) ، فيخصص هذا العموم بصحة صيام النافلة لمن لم يبيته بليل.

حكم الفطر في صيام التطوع

حكم الفطر في صيام التطوع جاء في حديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءها في يوم وسأل: (هل عندكم من شيء؟ قالت: بلى، أهدي إلينا -تعني: ليس من عندنا، الله أكبر! - حيس) والحيس من الحوسة: الدقيق مع التمر مع الأقط مع السمن، الكل يخلط ويعرك ويصير طعاماً، وهو طعام جيد، والنسوة يصنعن ذلك للنفساء؛ لأنه ينفعها لما فيه من التمر والسمن، فقال: (أرنيه، فأكل) ، وأخبر أنه كان صائماً، فقالت: كنت صائماً وتأكل؟! قال: (يا عائشة! إنما صاحب التطوع كرجل أخرج من ماله جزءاً ليتصدق به، فإن شاء أمضاه وتصدق به كله، وإن شاء أمضى البعض وأمسك البعض) ، وفي الحديث الآخر: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر) . ولكن المالكية ينصون عن مالك رحمه الله أنه لا ينبغي للمتطوع أن يفسد تطوعه، والمالكية يشددون في هذا، وينقلون عن مالك: أن من أفطر في التطوع قضى يوماً مكانه. ويذكرون حديثاً عن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما فيه: (كلا، وصوما يوماً مكانه) ، والجمهور على أن النوافل لا تقضى، والقضاء للفرائض.

شرح حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)

شرح حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) قال رحمه الله: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه، وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ] . في الحديث السابق: (إني إذاً صائم) ، جاء عن أبي أيوب وأبي طلحة أنهما كانا يفعلان ذلك، يصبح أحدهم فيسأل أهل البيت: عندكم شيء؟ فإن وجد أكل، وإلا صام، وذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا أن إنشاء النية في النهار ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو تشريع عام، بدليل فعل بعض أصحابه رضوان الله تعالى عليهم. انتهينا من مسألة تبييت النية، وما بعد النية إلا الصوم، وما بعد الصوم إلا الإفطار، فجاءنا المؤلف رحمه الله بآداب الإفطار، فذكر حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) . إذا صمنا اليوم، واستقبلنا المغرب، هل نبادر بالفطر أو نتأخر عنه احتياطاً؟ جاءنا المؤلف رحمه الله بهذا الحديث القدسي عن الله سبحانه: (أحب ... ) (أحب) أفعل تفضيل، أصلها: أحبب، وأدغم المتماثلين: (أحب عبادي إلي -يعني: عبادي كلهم محبوبون عندي، لكن أشدهم حباً إلي، وخاصة من الصائمين - أعجلهم فطراً) الذي يتأخر ويقول: أنتظر بعد غروب الشمس قليلاً حتى أتأكد زيادة، وزاد في صومه نصف ساعة من الليل، فصام النهار، وزاد نصف ساعة، فهل هذا أحب إلى الله أم الذي وقف عند نقطة الصفر؟ تأملوا في أصول التشريع، وسيأتي الحديث الآخر: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) ، ما الفرق بين تعجيله وتأخيره؟ وما المشكلة لو جاع الرجل ساعة أو ساعتين زيادة على الوقت المحدد، ففعله هذا على نفسه؟ نقول: لا، قدمنا سابقاً تنبيه العلماء على ضرورة الوقوف عند حد المفروض، ولما سئل مالك رحمه الله: هل يجوز أن يعطي في زكاة الفطر صاعاً وزيادة؟ قال: لا، احص الصاع أولاً وحده، ثم زد ما شئت في غير هذا الحال. لماذا؟ حتى لا يضيع حد الصاع، ويبقى المشروع محدوداً منتظماً، فإن كان هذا يزيد، وهذا يزيد، وهذا يزيد؛ ضاع الأصل، وهكذا هنا، الله تعالى يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وبمجرد اكتمال غروب الشمس تحقق الليل، إذاً: هذا حدك، فعجل الفطر بعد ثبوت دخول الليل لا أن تتعجل قبل الغروب، فإذا حافظ الإنسان وحافظت الأمة على هذا، ووقفت عند حد الله في هذا العمل؛ ظل هذا العمل محفوظاً بدون زيادة ولا نقص؛ لأنه لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص، ولهذا قال: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ، وجاء في الحديث: (إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) ، وبعض العلماء يقولون: أكل أو لم يأكل، وبعضهم يقول: وجب عليه الفطر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] يعني: أرضعن، وهنا قال: (أفطر الصائم) ، وفي بعض الروايات: (ولو لم تجد إلا لحا شجرة فامضغه) ، حتى لا تحسب نفسك على إمساك وصيام؛ لأن الليل ليس وقتاً للصيام ولا يصلح له، إذاً: إمساكك جزءاً من الليل مع النهار ليس إلا زيادة جوع وعطش وليس لك فيه أجر. فحفظ النهار يكون من أوله من حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ويكون من آخره إذا غربت الشمس. وجاء في بعض الأخبار والروايات: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر؛ لأن اليهود تؤخر الفطر حتى تشابك النجوم في السماء) . في وقت الفطور يتوجه للصائم أمران: فطره من صومه وصلاته المغرب، فأيهما يقدم؟ هل يقدم الفطر ثم يصلي أو يقدم الصلاة ثم يفطر؟ يذكر العلماء رحمهم الله عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يصليان المغرب ثم يفطران، ولا يكون ذلك تأخيراً للفطر لاشتغاله بالركن. ويذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الجمهور على الفطر ثم صلاة المغرب، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأكل ثلاث تمرات ثم يصلي المغرب) ، ولعل هذا أقرب؛ لأن صلاته للمغرب إذا لم يفطر ستكون وهو في صيام، وهذا ليس مشروعاً، وفعل عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما يخالف فعل الجمهور، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على كل فعل، فهو (كان يتناول ثلاث تمرات ثم يقوم ويصلي المغرب) ، فهذه السنة، ثم العشاء بعد صلاة المغرب.

شرح حديث: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر)

شرح حديث: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) قال رحمه الله: [وعن سليمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) ] . يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على -سبحان الله! الإرشاد حتى في نوع الفطور رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد فليحسو حسوات من ماء) ، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه يحسن أن يفطر الإنسان على شيء لم تمسه النار، وبعض الناس أول ما يفطرون على (السمبوسة) ، وهي مما مسته النار، ويقول العلماء: هذا تفاؤل بأن يجنبه الله النار. أرشد صلى الله عليه وسلم أن يفطر الصائم على رطبات، يعني: إذا كان الرطب موجوداً، وإلا فعلى تمرات، والله لا أدري أيهما أقوى مادة غذائية: الرطب أم التمر؟ يختلفون في هذا، الرطب فيه رطوبة زيادة، والتمر تخلص من كل الرطوبات، وفيه جميع المواد الغذائية، والعرب كانت تعتقد أنه خال من الدهونات، فكانوا يضيفون إلى التمرة الزبدة، والآن اكتشف بأن التمر فيه المادة الدهنية أيضاً، ولا يوجد ثمر يمكن لإنسان أن يعيش عليه المدى الطويل مثل التمر، وتقدم حديث عائشة: هلال فهلال فهلال، شهران طعامكم التمر والماء، وهو كما قالوا: زاد المسافر، وفاكهة المقيم. وهنا يتكلم علماء الطب النبوي، وسبحان الله! يا إخوان: كان السلف يدرسون الطب والفلك كما يدرسون الصيام والزكاة، وكان غالب العلماء أطباء، جاءنا حافظ من باكستان، كان صاحب مصحة في كراتشي، وصحيح البخاري عنده كصورة في مرآة، حينما تسأله: الحديث الفلاني في البخاري؟ إن غيرت حرفاً قال لك: ليس هذا في البخاري، تزيد هذا الحرف يقول: هذا نعم موجود! فكانوا يدرسون الطب، وانظر كتاب الطب النبوي لـ ابن القيم، والطب للسيوطي، والطب للذهبي، وهو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الطب، وتأملوا قصة مريم عليها وعلى نبينا الصلاة والسلام، كانت في ذلك الموقف الحرج {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] ، أجاءها غصباً عنها، إلى أن أرشدها الله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] ، امرأة في النفاس هل عندها القوة لكي تهز الجذع؟! لكن تهز بقدر ما تستطيع {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] ، ولم يذكر تمراً، إذاً: الرطب أحسن في تلك الحالة؛ لأنه أبرد من التمر، ويتفق الأطباء على أن الرطب في تلك الحالة أحسن ما يمكن أن تستقبله المعدة الخالية، وأشد ما يستفيد من حواس الإنسان البصر؛ لأن الجوع يضعف قوة الإبصار، فإذا ما تناول الحلو -وخاصة الرطب- استفاد البصر أكثر من جميع أعضاء الجسم. ويقول الأطباء: حينما يكون الإنسان جائعاً ظامئاً فهو في لهفة إلى أن يأكل ويشرب كثيراً، وهذا على المعدة الخالية مضر، فإذا أكل الحلو -مطلق الحلو عندهم- فإنه يكسر شهوة النهم، ويجعل الإنسان يكتفي بالقليل من الطعام، فإذا كان جائعاً عطشاناً وأكل الرطبات انكسرت حدة الجوع، واكتفى بما تيسر، فيكون أنفع له. إذاً: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير الإنسان عند فطره أحد هذه الأنواع. قد يقول إنسان: هناك مناطق باردة لا توجد فيها النخل، ولا يوجد فيها رطب ولا تمر، وعندنا فواكه متنوعة من حمضيات وحلويات. إلخ، فنقول: إن لم تجد هذا، فلتأخذ أقرب ما يكون إليه، إن وجدت الزبيب، إن وجدت التين، إن وجدت البرتقال، إن وجدت التفاح، إن وجدت هذه فهو أولى من أن تذهب إلى الماء. وهنا لفتة بسيطة: أولاً: ينبغي للإنسان ألا ينسى نفسه عند الإفطار من دعوة خير؛ لأن الدعاء عند الإفطار مستجاب. ثانياً: لا ينسى أن يفطر أخاً له، غنياً كان أو فقيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فطر صائماً فله كأجره، ولا ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله! ليس كل واحد منا يجد ما يفطر الصائم. قال: يؤتي الله ذلك على تمرات أو على قبضة سويق أو على جرعة لبن أو على جرعة ماء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! أجر إنسان صائم طول النهار تحصل مثله على تمرات تقدمها له: شيء من سويق، جرعة ماء، جرعة لبن؟! هذا فضل الله. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدخل باللقمة ثلاثة الجنة -لقمة واحدة يدخل الله بها ثلاثة-: صاحبها -الذي يمتلكها-، وطاهيها -الذي طبخها-، ومناولها للمسكين) ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي لم ينسَ خدمنا) ، الخادم يناول اللقمة للمسكين على الباب فيدخل الجنة، هذا إذا احتسب ذلك لوجه الله. إذاً: إذا أفطر أحدكم فليفطر على رطبات أو تمرات أو حسيات من ماء.

شرح حديث: (تسحروا فإن في السحور بركة)

شرح حديث: (تسحروا فإن في السحور بركة) قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه] . إذا فطرنا، وأكلنا طوال الليل أو نمنا، فبقي السحور، هل أقول: أنا شبعان، أو ما عندي غرض في الأكل؟ لا، لابد من السحور، وليس بلازم أن تمد الموائد، وتعرض الأصناف، بل ولو تمرات، المهم أن تعمل بهذه السنة، وجاء في الحديث أيضاً: (فرق ما بين صيامنا وصيامهم: أكلة السحر) . إذاً: (تسحروا فإن في السحور بركة) ، ومن الذي لا يريد هذه البركة؟ الكل يريدها، والبركة تحصل ولو بتمرات وجرعة ماء. ثم من مباحث السحور: تأخيره وعدم تعجيله، هل تعجيله تورع وتحفظ؟ لا، بعض الناس يقول: أنا أكلت ونويت، وبقي على الأذان ساعة، ثم يعرض عليه الماء، فيقول: لا، لا، أنا نويت، ماذا يعني هذا؟! هل سيبطل نيتك؟! هل سيبطل صومك؟! مادام الوقت باقياً، ولم يتبين الفجر إلى الآن، فكل واشرب ما شئت، وقد يبيت النية للشهر كله من أول يوم، وكل يوم يأكل ويشرب. إذاً: عقد النية لصوم الغد لا يمنع الإنسان من أكل ولا شرب ما دام الخيط الأبيض لم يتبين. سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: قدر خمسين آية، أي: بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية كنا نمسك عن الطعام والشراب، ويأتي وقت الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس: يؤخر شرب الماء إلى أن يسمع طقطقة الميكرفون للأذان فيبادر إلى الماء، وبعضهم إلى أن يسمع المؤذن يقول: الله أكبر!! لماذا؟! الله جعل حداً لا تتعداه. ويؤسفني أن البعض يحتج على ذلك الخطأ بحديث أبي داود رحمه الله: (إذا كان القدح على كف أحدكم فسمع النداء فلا يضعه حتى يقضي حاجته) ، والجمهور على أنه لابد أن يمسك جزءاً من الليل ليضمن إمساكه كامل النهار، على قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمثلاً: قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، وحد الوجه: منابت الشعر من الجبهة، ولكن قالوا: يزيد قليلاً فوق منابت الشعر؛ ليتأكد أنه قد استوعب الوجه، فكذلك قالوا: يمسك قبل تبين الخيط الأبيض ولو بدقائق، ويفطر بعد أن يكتمل غياب قرص الشمس ولو بدقيقة واحدة، لا أن يكون فطره مع نقطة الصفر أول سقوط القرص، لا، هذا مشترك، ولا يصلح. وقد ناقش البعض هذه المسألة ليلة طويلة مع أفاضل العلماء في المدينة جزاهم الله خيراً، وتمادى الحديث بهم، وأطالوا الأمر، وقال بعضهم: لو كان يأكل والمائدة موجودة وسمع النداء، فلا يقوم عن المائدة حتى يشبع. فقال لهم شيخ ذاك المجلس: الله يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة:187] ، والحديث يقول كذا، فقلت: لو سمحتم! إذا أخذنا بنص الحديث فهو يقول: (والقدح على كفه) ، لا والمائدة بين يديه، وروح اللغة العربية وجمالها في ألفاظها وتعبيرها؛ لأنه قال: (والقدح على كفه) ولم يقل: في الأرض يتناوله، أو في الثلاجة، أو في الترامس يذهب يبحث عنها، بل قال: (والقدح على كفه) ، وهل وضع القدح على كفه ليراه؟! وهل وضعه على كفه ليرى كم ثقله؟! إنما تناول القدح من الأرض ليشرب، وفي منتصف المسافة ما بين الأرض وفمه فاجأه الأذان، فلا ترده، خذ غرضك منه؛ لأن تبين الخيط الأبيض فيه من النسبية ما يحتمل شرب الماء الذي في القدح، ولو كنا جميعاً في الصحراء نترقب الفجر، فهل كلنا في لحظة واحدة سنقول: طلع الفجر؟ لا يمكن، سيطلع الفجر ونختلف فيما بيننا؛ فطلوع الفجر وتبين الخيط الأبيض ليس كطلوع الشمس، وليس كغروبها؛ لأن الشمس جرم أمامنا، يبتدئ الطلوع ويبتدئ بالنزول، لكن الفجر خيط، ورؤية الخيط دقيقة، وليس كل الناس يرون هذا الخيط رؤية كاملة. إذاً: إلى أن نقول ظهر أو لم يظهر يكون هذا قد شرب القدح كله، ولا يضر ذلك صومه. إذاً: هذا الحديث في حالة ضرورية: رجل رفع القدح من الأرض ليشرب ليصوم غداً، فالرسول قال: لا بأس، خذ حاجتك، فلا ينبغي أن نمطط فيها ونزيد حتى نأتي بالمائدة ونأتي بأنواع الطعام، حتى قال له شيخ ذلك المجلس: يمتد إلى متى؟ قال: إلى أن يشبع، قال: حتى تطلع الشمس؟! قال: ولو! هذه -يا جماعة- هفوة، ونصف العقل لا يقبل ذلك. فنصيحتي للإخوان: كل شخص بيده ساعة، والجدران معلقة بالساعات والإمساكيات، ومعلن متى يكون الإمساك، ومعلن متى أذان الفجر، ولا يعذر في هذا أحد بجهالة، فليحتط المرء لدينه، وليمسك قبل طلوع الفجر بزمن احتياطاً للنهار. قد يأتي واحد يقول: هذا الاحتياط من الذي أتى به؟ ابن أم مكتوم وبلال ما كان بين أذان هذا وهذا إلا أن يصعد هذا وينزل ذاك. فنقول: أنت جعلت وقتاً للصعود والنزول، فاجعل فرقاً بين أكلك وإمساكك، فكفيف البصر عندما يطلع إلى السطح، ويستقبل القبلة، ثم يؤذن؛ سيأخذ دقائق. يا إخوان: السنة ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وما كان أحد منهم يفعل مثل هذه الفعلات، وينبغي أن يكون مع تأخير السحور احتياط لأول النهار؛ حفظاً للصوم. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [5]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [5] إن الله عز وجل إنما يريد بعباده اليسر، وهذه الشريعة مبنية على التيسير، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولهذا حرمت الشريعة الوصال في الصوم، ومن استشهد على ذلك بوصال النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليه: بأن وصاله كان مما اختص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمة.

شرح حديث: (نهى عن الوصال)

شرح حديث: (نهى عن الوصال) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله! فقال: وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رءوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم. كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا) متفق عليه] . بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آداب الفطر والحث على السحور، جاء بهذه المسألة المشهورة في الصيام، وهي: الوصال، والوصال: مأخوذ من الوصل، وأصله: وصل الشيء بغيره كما تصل طرفي الحبل، وهو في العرف الشرعي: أن يصل صوم النهار بالليل، ويصير صائماً نهاراً وليلاً، وهذا يسمى وصلاً، ولأنه يتكرر مرة ومرتين سمي وصالاً. ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال) أي: نهى الصائم أن يصل النهار بالليل سواء مرة واحدة أو كرر ذلك، ولما نهى والحال أنه صلى الله عليه وسلم يواصل، وجد المسلمون نهياً يغاير فعلاً! فقال رجل من المسلمين: نهيتنا عن الوصال وأنت -يا رسول الله- تواصل! ونحن إنما نستن بسنتك ونقتدي بهديك. وهذا فعلاً سؤال في محله، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مثله، فقال: (لست كهيئتكم أو لستم مثلي) . ومن هنا يقول الأصوليون: يشترط لصحة القياس أن يستوي الطرفان، فكأنه قال: تقيسون أنفسكم بي، والحال أن هناك فرقاً بيني وبينكم، وما هو الفرق في هذا الباب؟ قال: (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، وفي بعض الروايات: (لستم مثلي؛ فإن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) .

الحكمة من تحريم الوصال

الحكمة من تحريم الوصال يبحث العلماء حكم الوصال، وقبل أن نذكر الحكم الفقهي -كما جرت العادة- نذكر ما يستفاد من الحديث ومدلوله العام. الوصال هو زيادة عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم الليل معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها وإلخ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من تحريم ذلك لها جهتان، وينضمان أو يصبان في غاية واحدة: الجهة الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم فوق طاقتهم تحت عاطفة حب العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة وانفعال، وهو مندفع، وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن بعد أن فات الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل. الجهة الأخرى: لحفظ الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات والأيام، ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه، وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي عنه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا: أعماله في البيت لا نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس، وذكر الله، لكن ما العمل الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟ فعندهم زيادة رغبة في الخير. فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم ويفطر، وأحياناً يكون في شغل أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف نعله صلوات الله وسلامه عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك جديد قالوا: إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى الإكثار من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام. والثاني قال: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر. والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل إلى الله بأنواع العبادات. وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا، وبما أجابتهم، وبما قالوا فيما بينهم. ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في العبادة حصل في ذلك اليوم، وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في العبادات، والرغبة في الخير، وإلخ؟ لا والله! بل غضب، هل يغضب لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي بنقص فهي ناقصة، فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان هناك أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني عن الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض الفائدة- يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة- أما إني والله! لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني- وإني والله! -مع أفعل التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) صلوات الله وسلامه عليه.

خير الأمور أوسطها

خير الأمور أوسطها هذه الأمة وسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] بأقواله وأفعاله، ما زاد ولا نقص، وقلنا: إنها وسط بين ماذا؟ الوسط: الشيء المتوسط بين طرفين، يقول علماء التفسير: الأمم التي سبقتنا عندهم إما تفريط وإما إفراط، وعلماء الأخلاق يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، وبها جاء القرآن، فالبخل طرف مذموم، والتبذير طرف مذموم، والوسط وهو الإنفاق باعتدال هو الكرم {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] بخيل شحيح إلى أقصى حد {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] يعني: كن معتدلاً {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] . وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم النظر في العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلج انظر في العواقب، فوسطية هذه الأمة بين الأمم الماضية هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء- مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى، فالجسم له متطلبات الحياة من أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر. إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله والرغبة في الله. إلخ. والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح، ويفرِّط في الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى، فاليهود أفرطوا جداً في جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة المحرمة بالحيل، لما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد، ولما حرم عليهم الشحوم إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا الثمن، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة. والنصارى بالعكس: فرطوا في أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا رهبانية، وابتدعوا عبادات {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فجنحوا إلى الجانب الآخر. ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما استطاع اليهود أن يواصلوا بها السير، ولا استطاع النصارى أن يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع الموازنة المعتدلة بين الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] هذا النداء روحي أم مادي؟ روحي {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:9-10] هل قال بعدها: امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في المساجد، اتركوا الدنيا؟ لا، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] ، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه وتعالى، يعني: فاجمعوا بين الدين والدنيا. وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات صاحب الدكان والبقالة أو القماش في رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة أو القماش وضع الريشة حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا ذهب الزبون رجع إلى المصحف، دين ودنيا.

النهي عن الغلو

النهي عن الغلو لما كان الاهتمام بأحد الجانبين مضر بالجانب الثاني كان الغلو في الدين أضر من التقصير؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن كل باب يدخل الإنسان في الغلو في الدين. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع، وبعد سنة جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك. قال: أنا الذي جئتك العام الماضي بكذا وكذا وكذا. قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك، أين أنت من الأشهر الحرم؟ صم من الأشهر الحرم وأفطر) ، ما رضي له أن يظل صائماً، فإن ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال. وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله! قال: إن لعينك عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض الروايات: ولزوجك-) . وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما عندها رجل، فقال: ما هذا يا أم الدرداء؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك واجب تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً، فانتظر حتى جاء وبات عنده، فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم قام أبو الدرداء يصلي في البيت، فأمسكه وقال: نم. فلم يقدر على مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال: نم. حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا أردت. وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر. وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فـ أبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم. فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل. وقال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً. إلخ، فأعط كل ذي حق حقه. فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا رسول الله! سلمان صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا. فقال: (صدق سلمان) .

الإفراط في العبادة له آثار سيئة

الإفراط في العبادة له آثار سيئة الإفراط في جانب يؤثر على الجانب الثاني، جاءت امرأة إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي نهاره صائم، وليله قائم. فقال: مثلك يثني بخير. يعني: جزاك الله خيراً، مدحت زوجك، وكان بجانبه كعب بن سور، فالمرأة غطت وجهها وانصرفت، فقال كعب لـ عمر: المرأة تستعديك على زوجها وتشتكي. قال: هي تشتكي؟! بل هي تمدح زوجها. قال: لا، بل أتت تشتكي. فناداها: تعالي، قال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكين زوجك، قالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! أنا امرأة شابة، وأنتظر ما تنتظر النسوة، وزوجي يصوم النهار ويقوم الليل، ولم يبق له حاجة فيَّ، فعرف أمير المؤمنين. لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته كخليفة وكحاكم وكأمير لا يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون هذه الأبيات: قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا. قال: وماذا قال؟ قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة. قال: نعم الوفاء، عندهم وفاء. قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل. قال: إن الله حرم الظلم. قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل. قال: خادم القوم سيدهم. قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم كعب بن نهشل. قال: كفى بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فـ عمر بليغ، وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن تهنئ قبيلة بنبوغ شاعر أو فارس فيها تبعث عمر، وإذا أرادت قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات فيها تبعث عمر، وهو القائل: إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً، وفيها معنى واحد حسن، فاحملها على الواحد الحسن. إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى المرأة. ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله عنه فأقرت، فقال: يا كعب! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين زوجها. فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك وبين يديك؟ قال: نعم. القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها، وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب القاضي نائباً عن الخليفة. سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من البعث وأخاف. وأخاف. إلخ. فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال يتهجد فيها، ويتعبد فيها كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء، والليلة الرابعة واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي. فقال له: ومن أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟! قال: الله أعطى للرجل حق التزوج بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة أعطيتها للمرأة، فقال عمر: والله! لا أدري هل أعجب من فهمك لشكواها أو من حسن قضائك؟! كلاهما. وقد قال عمر في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: الفهم الفهم، وأول باب القضاء الفهم. إذاً فرط إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر، ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه في الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه اليوم أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على جانب.

حكم الوصال

حكم الوصال نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال، هل هذا النهي يقتضي الفساد أم الكراهية أم التحريم؟ ماذا يكون الحال فيه؟ نجد العلماء يبحثون ذلك، فمنهم من يقول: النهي للكراهية. لماذا والأصل في النهي التحريم؟ قالوا: لأن النهي لعلة ولحكمة يناط بها وهي: الإشفاق على الناس؛ لأن الوصال فيه صعوبة، فنهاهم أن يشقوا على أنفسهم، كما قالوا في صيام يوم عرفات لمن في عرفات، فبعضهم قال: هذا شفقة بهم. بالأمس كانوا في منى واليوم في عرفات، وفي الليل في مزدلفة، ومن الفجر في منى ورمي ونحر وحلق، ثم طواف إفاضة، فالصوم يشق عليه، ويجعله يقصر في بعض هذه الواجبات التي هي أهم، فمن استطاع ووجد في نفسه قوة صام، وهذا اجتهاد منهم، فكذلك هنا. والآخرون قالوا: لا، النهي يقتضي التحريم، فلا يجوز أن يواصل. وجاءت بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ، لا يكمل إلى الليل، فوقت يأتي السحور يتسحر، يعني: يقطع صومه بأكلة السحور، وهذه رخصة وإباحة، ومواصلة صوم الليل كله مع النهار لا يجوز. وبعض السلف كـ ابن الزبير وطلحة كانوا يواصلون، وينقلون عن ابن الزبير عجائب: كان يواصل خمسة أيام وستة أيام بلياليها! ولكن فعلاً كان يجد العنت، وإذا انتهت مدة وصاله لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب نظراً لحالة المعدة، فكانوا يذيبون له التمر في السمن، ثم يلعق من مجموع التمر والسمن إلى أن يلين المعدة ويرطبها، وتمتص هذا الخليط شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يأكل الطعام.

الوصال من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام

الوصال من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وهو يواصل تساءلوا -وهم محقون في ذلك-: نهيتنا والأصل أننا نتبعك ونستن بسنتك، ونهتدي بهديك وأنت تواصل! فمن حقنا من باب اتباعك أن نواصل لمن قدر عليه. فبين لهم الفرق، فقال: (لا، لست مثلكم، إني أبيت -وأكثر الروايات ليس فيها: عند ربي- يطعمني ربي ويسقيني) ، (إن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) ، هذا اللفظ في هذا الحديث احتار العلماء فيه وإلى الآن، ولم نجد جواباً شافياً في ذلك، إنما هي معجزة لرسول الله، والمعجزة -كما يقال- فوق الطاقة الإدراكية، فوق طاقة العقل؛ لأنها لو نزلت لمستوى إدراك العقل خرجت عن كونها معجزة، جميع المعجزات لا يحيط بها العقل: نبع الماء بين أصابعه، تسبيح الحصى في كفه، تفتيت الصخرة بضربات وهم قد عجزوا عنها، تكثير الطعام القليل حتى يكفي ثمانين شخصاً أو ثلاثمائة شخص، هذه أشياء لا تقاس بمقاييس العقول، هي معجزات. وهنا قال بعض العلماء: يطعمني ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام وشراب الجنة لا يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً ما واصل، وكل الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة. فهل نحمل (يطعمني ويسقيني) على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني ويسقيني) على أمر معنوي؟ القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب حقيقة فليس هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك وصال. وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟ أكثر من أطال في هذا ابن القيم رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه المسألة، وقال: إن العبد إذا اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي بأبسط الأشياء من الطعام، ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت الجسم، بخلاف الجسم، فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها الجسم، وقد وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان أميرها أبا عبيدة، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما في أيدي أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل واحد تمرتين أو ثلاث أو كذا حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة في اليوم، غزاة في سبيل الله وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا طعامك اليوم، لا يصبر على هذه الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله، وأحسوا أن جوعهم قربة لله، وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم الشدائد، وأحسوا بالشبع والقوة. تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا، فوجدنا لها وجداً شديداً -حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون أكل، سبحان الله! - ثم ساق الله لهم حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه، ويتفكهون أربعة وعشرين قيراطاً. فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف روحانيته، فإن هذه الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس بعض الناس تحصل لهم غيبوبة ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا بعض الخواص. إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم يطعمني) نحاول أن نفهمها، ولكن نعترف بأننا لن نفهمها. الذي يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله ثم لرسول الله. إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمراً أو نهى نهياً، وإن كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال: (لا تواصلوا) ، وأنت تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل أن يقول: أنت تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو المتكلم، وهو داخل في النهي. وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر، والناهي يدخل تحت النهي إلا إذا جاء صارف. وعلى هذا، يذكر ابن عبد البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه لمن شق عليه، ومن قدر فليواصل. ويقول ابن عبد البر: الجمهور أنه لا يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [6]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [6] الحكمة من فرض الصيام هي التقوى، فعلى الصائم أن يحرص على تحقيق التقوى حال صومه، ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.

شرح حديث: (من لم يدع قول الزور.

شرح حديث: (من لم يدع قول الزور ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] . ما مناسبة مجيء قول: (من لم يدع قول الزور) بعد النهي عن الوصال؟ لماذا ما أتى به في الأول حتى نحتاط لصيامنا؟ ولماذا جعله في الأخير؟ لماذا أتى به بعد حديث النهي عن الوصال؟ ما السر في هذا؟ أم هو مجرد رص؟ في الحديث السابق، قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحدكم، لكنهم ما اكتفوا بهذا، وطمعوا ورغبوا أن يحصلوا الفضل، وما دام أنهم لا يستطيعون أن يواصلوا وهو يواصل فقالوا: دعنا نواصل، فأرشدهم ألا يواصلوا، ولا يكلفوا على أنفسهم، قالوا: لا، قال: (أنتم لستم مثلي) أي: أنا عندي استطاعة ليست لديكم. قالوا: لا. فواصل بهم يوماً، واليوم إذا أطلق يشمل الليل والنهار، ثم يوماً، فصارت ثمانية وأربعين ساعة، فرءوا الهلال، يعني: ربنا رحمهم، لما رءوا هلال شوال انتهى الصيام، ولم يعد هناك وصال، فقال لهم: (لو لم نر الهلال لواصلت بكم يوماً آخر) ، كان يقول لهم: لا تواصلوا، والآن يقول: أريد أن أواصل بكم، هذا الأسلوب ماذا نسميه؟ هذا تشديد أو تخفيف؟ تشديد، والتشديد من ورائه التنكيل، الراوي يقول: ينكل، أي: يشدد عليهم ويعزرهم حتى لا يعيدوا الكرة مرة أخرى، كما أنك تنهى إنساناً عن شيء مصلحةً له، ولكنه يتطلع ولا ينتهي، تقول له: تعال، -مثلاً-: تقول له: أنا ذاهب إلى قباء ماشياً. فقال: أمشي معك. قلت له: أنت لا تستطيع، أنا أقوى على المشي أما أنت لا تقوى. قال: لا، بل أقوى. فقلت له: هيا نمشي، وفي نصف الطريق قعد وأخذ يفرك رجليه. ماذا بك؟ قال: يكفي. قال: لا، لابد أن تواصل، لابد أن تمشي. قال: أنت قلت من قبل: لا تمشِ أنت لست تقوى، والآن تقول: لا، لابد أن تمشي!! لماذا؟ حتى لا يعود إلى هذا الإلحاح، كالمنكل بهم، والتنكيل: التعذيب، كأنه يحمل عليهم نتيجة لتشددهم وعدم قبولهم الرخصة في أول الأمر، ولم يقبلوا اللين فكأنه قال: تعالوا، تحملوا. ومن هذه الجزئية قال الشافعي: لو كان الوصال حراماً ما واصل بهم اليوم واليومين؛ لأنه لا يجوز التنكيل بمحرم. وإلى هنا عرفنا أنه مكروه، وأنه جائز لمن يستطيع. إذاً: لا ينبغي لإنسان أن تأتيه الرخصة في الإسلام ويرفضها، وهو في حاجة إليها، زيادة ورغبة في الخير، قبولك الرخصة رغبة في الخير، إلا إذا لم يكن هناك أية مشقة، وكان أمراً عادياً، وكان اتباعاً للأصل على ما سيأتي في الصوم والفطر في السفر إن شاء الله. إذاً: واصل بهم اليوم واليومين على غير ما كان يريد، كان لا يريد أن يواصل بهم، لكن فعل ذلك تأديباً، كما يقال: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم لم جاء المؤلف بحديث: (من لم يدع) بعد حديث النهي عن الوصال، وجعلهما مقترنين؟ فما العلاقة بينهما؟ التأليف فن وحكمة، وأشرنا إلى ما قال ابن عبد البر في إيراد مالك لنصوص رؤية الهلال، حيث قدم حديث ابن عمر: (فاقدروا له) ، ثم جاء بحديث ابن عباس: (فاقدروا له ثلاثين) ، وقال: حديث ابن عمر مجمل، وحديث ابن عباس يفسره، فأخر المفسر ليكون بياناً للمطلوب، يعني: أن العلماء حينما يوردون الأدلة في الأبواب يكون إيرادهم إياها عن حكمة وعن دلالة خاصة، وليست مجرد رصف أحاديث ونصوص، والله سبحانه وتعالى أعلم. كنا تساءلنا ما هي العلاقة بين مجيء هذا الحديث وبين النهي عن الوصال؟ وكما قال الأخ: لما نهاهم عن الوصال وهم يرغبون في الوصال زيادة في الخير، فكأنه يقول لهم: إذا كنتم تريدون الخير بزيادة فليس في نوعية زيادة العمل، ولكن في إحسانه وفي جودته، وهو أن تحافظوا على صوم النهار من الفجر إلى الليل، وأن تصوموا عما لا يليق بالصائم.

معنى الزور

معنى الزور قال في الحديث: (من لم يدع) يدع: فعل مضارع، وأمره دع كحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) بمعنى: الترك، من لم يترك قول الزور. والزور -كما يقول علماء اللغة-: هو ملتقى نهاية الفم بأول البلعوم، ففيه زاوية، هذه الزاوية هي الزَور، والعلماء يطلقون عليها الزُور، زَور الإنسان، زَور الحيوان، وسمي الزور زوراً لأنه جاء جانبياً؛ لأن فتحة الفم كان مقتضاها الاعتدال إلى الرقبة، لكن انحنت ونزلت إلى الحلقوم وإلى المعدة. فالزور: هو ما انحنى عن طريق الاستقامة، ومنه الزائر يأتيك من جانب البيت، لا يأتيك عامداً بطول، مثلاً: يأتي في الشارع، وإذا وصل إلى بيتك انحنى وانعطف على باب مزوره. وقول الزور: هو القول الذي ينعطف عن الطريق المستقيم، فكل قول انحرف عن الصراط السوي فهو زور، أكبر ما يكون في ذلك شهادة الزور -أي: الكذب- يليها بعد ذلك الكذب في القول، يليها أيضاً النميمة، الغيبة، التنابز بالألقاب. كل هذه قول الزور؛ لأن التنابز بالألقاب يسيء إلى صاحب اللقب، فكان هذا من قول الزور؛ لأنه مغاير للطريق الذي يحبه أو يرضاه صاحب اللقب. فقول الزور: هو كل قول جانب الحق، وكما أشرنا: أعلاه شهادة الزور؛ لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان متكئاً بين أصحابه، وحذر من الكبائر، ثم اعتدل وقال: ألا وشهادة الزور، وأخذ يكررها حتى قلنا: ليته سكت) . ونحن نعلم -يا إخوان- أن شهادة الزور وقول الزور يكفي في تقبيحها أنها تغير الحقائق، وتقلب الأمور، وتبطل الحق، وتحق الباطل، وتضلل العدالة، وأشياء كثيرة جداً، ومن هنا اهتم لها صلى الله عليه وسلم، وكذلك الكذب، ففرق بين الكذب والصدق كما بين الظلام والنور، وما بين الحق والباطل، وما بين الليل والنهار؛ لأنه أيضاً يغير الوقائع، ويحق الباطل، ويبطل الحق. ما الفرق بين شهادة الزور والكذب؟ شهادة الزور تتعلق بحق لثالث، والكذب يكون مطلق إخبار، مثلاً: جاء زيد؟ لم يجئ، وهو قد جاء ورآه، فهذا كذب. وفي الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق) ، الرفث: من الزور أيضاً، وهو الحديث عن النساء بحضرة النساء، (ولا يفسق) : الفسوق الخروج عن الطاعة، كما يقول العرب: فسقت النواة عن الرطبة، أي: خرجت عنها، وفسقت الحبة عن الرحا، أي: نقزت من تحتها ولم تطحن، ومنه الفويسقة، وهي الفأرة تخرج بالخفاء ليلاً وتفسد أو تضرم على الناس بيوتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوكئوا السقاء، وخمروا الإناء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم) وقوله: (تضرم على الناس بيوتهم) لأنهم كانوا يستصبحون بالسرج، والسراج: عبارة عن إناء صغير يوضع فيه الزيت، وفتيل يأتي إلى الزيت، وعلى حافة هذا الإناء مثل الكأس، يشعل الفتيل فيظل يضيء ويستمد من الزيت إلى أن يفرغ الزيت وينطفئ، فتأتي الفأرة تريد أن تلحس هذا الزيت، ولكن إشعال طرف السراج بالنار يضايقها، فتدخل ذنبها تحت الفتيل هذا وتخرجه عن إناء الزيت، والحال أنه مشتعل، فينزل هذا الفتيل بما فيه من الشعلة على الفراش فتضرم النار في بيوتهم، فسميت فويسقة بخروجها للإفساد. إذاً: الفسق يكون بالقول بما يغاير الحق، ويكون بالعين بالنظر إلى ما لا يحل له، ويكون بالسمع حينما يتسمع إلى قول خطأ، اثنان يتكلمان على شخص ثالث بالغيبة أو بالنقيصة، واستمع إليهما، هو لم يتكلم ولكن مجرد سماع، فكما قيل: وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل فإذا تسمع إنسان لاثنين أو جماعة يتكلمون على شخص في عرضه، بنميمة أو بذم أو بكذا، ولم يشارك في الحديث، ولكنه يستمتع بالسماع أو يصغي إليه دون أن ينكر عليهم، فهو مشارك معهم. والفسق باليد يكون بالبطش وامتدادها واكتسابها ما لا يجوز شرعاً، وكذلك بالقدم حينما يسعى إلى أمر منهي عنه محرم، فكل هذا من أنواع الفسق بالجوارح التي يكون عن طريقها.

معنى العمل بالزور

معنى العمل بالزور قوله: (من لم يدع قول الزور، والعمل به) العمل بالزُور يشمل كل عمل منهي عنه؛ لأن الزور باطل، وكل عمل منهي عنه فهو باطل، يبدأ الإنسان في معاملاته أولاً في بيته مع أهله، إذا لم يفِ بالوعد، أو كانت معاشرته فيها نوع من التعالي، أو نوع من الامتنان، أو نوع من التقصير. فكل ذلك عمل بالزور، أو إذا خرج إلى السوق يتعامل بالمعاملات المنهي عنها، وأعلاها: الربا، ثم التدليس، الغش، فالصانع في صنعته، والأجير في عمله، إذا لم ينصح ولم يؤدِ الواجب الذي عليه فهو عامل بالزور؛ لأنه يأخذ أجراً على غير ما عمل، مثلاً: كان مؤاجراً على يوم كامل، واليوم عمله ثمان ساعات أو عشر ساعات حسب العرف، وهو أخذ يراوغ حتى لم يعطِ من العمل إلا نصف الوقت، أو استئجر على بناية جدار أو صناعة شيء فدلس في البناء ولم ينصح، فمثلاً ربط اللبن بعضه ببعض، ولم يحسن العمل، أي نوع من الغش في الصنعة فهو عمل بالزور. إذاً: الحديث يحث الصائم على أن يكون صومه -كما قال بعض السلف- عفيفاً كريماً، كما قال جابر: لا يصوم الإنسان حتى تصوم جوارحه. وصوم الجوارح -كما أسلفنا - هي أن تصوم العين عن التطلع إلى المحرم، وإذا صادف أمامه شيئاً فجأة غض البصر، ولم يتبع النظرة النظرة، وكذلك إذا سمع قوماً يخوضون في حديث لا يرضي الله أعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإذا رأى جماعة يشتركون في عمل فيه فساد، سواء كان لفرد أو للجماعة أو للأمة من إتلاف المرافق العامة أو نحو ذلك فإنه إن سكت عن ذلك فهو أيضاً داخل في هذا الباب.

عظم ارتكاب الصائم للذنب

عظم ارتكاب الصائم للذنب هذا الحديث يحمل الصائم على أن يكون مسلماً مثالياً؛ ولهذا يقول العلماء: هل النهي عن قول الزور به خاص برمضان فقط؟ يعني: هل بعد رمضان يكون كيفما شاء، ويعمل كيفما شاء؟ لا، هو محرم قبل أن يأتي رمضان، ومحرم في رمضان وفي غير رمضان، ولكن حرمته في رمضان أشد. ويقول ابن عبد البر في "الاستذكار": قال العلماء: الكبر محرم في كل وقت، والزنا محرم في كل وقت، لكن جاءت شدة تحريم في أوصاف مناسبة كحديث: (إن الله سبحانه وتعالى يبغض الفقير المتكبر) ، وفي الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي) ، فأي إنسان فقير أو غني لا يجوز له أن يتكبر، لكن يكون فقيراً ومتكبراً! لو تكبر إنسان غني معافى فإن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، فالجبلة والغريزة حملته على ذلك، لكن الفقير الذي لا يجد شيئاً ما الدافع له على الكبر إلا خبث النفس. ومثل ذلك: (وشيبة زان) ، فالشاب إذا زنى فلديه دوافع، وغره الشيطان، مع أنه لا عذر في محرم، لكن عجوز شائب بالكاد يمشي على عصاتين ويذهب يزني أيضاً! هذا منه أكثر قبحاً. فكذلك قول الزور والعمل بالزور طيلة العام محرم، لكن إذا دخل رمضان فيجب أن يكون أطهر منه في غير رمضان، فإذا كان مرتكباً للزور في غير رمضان فيجب أن يستحي في رمضان ويتركه، وإذا لم يكن مرتكباً له في غير رمضان فمن باب أولى أن يحافظ على صومه، وأن يبتعد كل البعد عن قول الزور والعمل به. وإذا أخذنا في الجملة بهذا، صار المجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع حق، ومجتمع صدق، لا زور فيه، أفراده كلهم على الصدق، أفراده كلهم صادقون، وأفراده كلهم عفيفون، وأفراده كلهم كرام بررة، بعيدون عن الهزل، بعيدون عن المزاح، بعيدون عن الزور، كيف نتصور هذا المجتمع؟! أعتقد أنه يكون مجتمعاً مثالياً وفوق المثالية؛ لأنه تخلق بأخلاق الإسلام. ويمكن أن نقول أيضاً: من معطيات الصوم تربية النفس على مكارم الأخلاق، وكل ركن في الإسلام نجد له معطيات أخلاقية، ففي الصوم في أول تشريعه في كتاب الله قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، وهنا: ترك الزور قولاً وفعلاً. إذاً: سيصبح الصائم -كما قلنا- النموذج المثالي. وإذا جئنا إلى الصلاة نجد لها أيضاً عطاء وأثراً {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ، وإذا جئنا إلى الزكاة نجد لها عطاءً مزدوجاً {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وإذا جئنا إلى الحج فكذلك الحال، وعلى كل فعطاء الصيام في الناحية النفسية وفي سلوك الإنسان أخلاقياً؛ عطاءً عظيماً.

معنى الجهل

معنى الجهل قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة ... ) الجهل له مدلولان: جهل ضد العلم، وجهل ضد الحلم، فالجهل ضد العلم هو جهل الإنسان بما لا يعلم ويعلمه غيره، فنحن مثلاً نجهل علوم الفلك، ونجهل علوم الذرة، هذا جهل ضد العلم، وليس كل جهل مذمة، إذا كان في حدود الطاقة، وفي حدود العامة، هذا أمر عادي؛ لأن الناس كلهم لن يكونوا سواء في العلم، وهذا ليس مطلوباً؛ لأن العلم موجود في الأمة في أفرادها، وفي بعض الجماعات، ولكن الجهل أمر نسبي، ولا ينبغي للمسلم أن يكون جاهلاً جهلاً ضد العلم فيما يلزمه من ضروريات الدين، لا يحق لإنسان أن يدعي الجهل بأحكام الصلاة؛ لأنها ضرورية وفرض عين، كذلك لا يصح لإنسان أن يدعي الجهل أو يكون فعلاً جاهلاً بأحكام الصيام أو جاهلاً بأحكام الزكاة، ومعرفة الأنصباء إذا كان من أهلها، وكذلك من أراد أن يحج لا ينبغي له أن يكون جاهلاً بأحكام الحج، هذا من الناحية الدينية، ووجوب طلب العلم لما يلزمه عمله. والجهل الثاني ضد الحلم، وهو -كما يقولون-: التعدي، الحماقة، إساءة الأدب، انتهاك الحرمات، وقد قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا الجهل هنا ضد الحلم، ومراده: لا يأتي إنسان يغضب علينا، فإذا غضب علينا إنسان غضبنا عليه أكثر من غضبه، فتكون: المقابلة بالمثل وزيادة، وهذا الجهل هو المراد هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل) أي: ضد الحلم، ومنه تسمية ما قبل البعثة بالجاهلية، فكلمة (الجاهلية) ليست جهلاً عن كل علم، فالعرب كانت عندهم علوم الطب، وعلوم النجوم، وعلوم السير. فهذه أشياء كانوا يعلمونها، ما وصفوا بالجهالة التي ضد العلم، ولكن وصفوا بالجهالة التي ضد الحلم، على أتفه الأسباب تقوم الحروب بينهم، حرب داحس والغبراء كانت على فرسين، وحرب يوم ذي قار، وغير ذلك، كانت العرب في الجاهلية قد تقوم الحرب بينهم على أتفه الأسباب، وهذا من الجهل الذي هو ضد الحلم. إذاً: فليدع الصائم العمل بالجهل، ولذا في الحديث: (إذا سبه أحد أو شاتمه أحد فليقل: إني صائم) ؛ لأنه إذا رد عليه خرج عن كونه حلم عنه إن جهل عليه، فيكون الجهل مسايرة من يشاتمه، ومن يسبه، ومن يعتدي عليه، لكن إذا انصرف عنه وقال: إني صائم. ترك الجهل. أيها الإخوة! هذه الصفات: قول الزور، والعمل به في جميع الشئون، والعمل بالجهالة التي هي ضد الحلم، يجب أن يكون الصائم بعيداً منها، وأن يكون على سعة بال وسعة صدر، وحسن أخلاق؛ ليكون ذلك أدعى لكمال صومه، والله تعالى أعلم.

معنى قوله: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)

معنى قوله: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) من لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، إذا لم يتركها فليس لله حاجة في أن يصوم؛ لأنه صام عن جزئية من الصوم، والصوم صوم عن كل شيء نهى الله عنه، فمن لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. سؤال: إذا تركها الإنسان، وأصبح المسلمون على أعلى مثالية في الآداب والأخلاق، فهل لله حاجة في ذلك؟ يقول الفقهاء: هل مفهوم المخالفة مراد في قوله: ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؟ أي: فهل لله حاجة فيمن لم يرتكب ذلك؟ الجواب: لا، فالله سبحانه وتعالى غني عن عبادة العباد، وغني عن عمل العباد، وإنما مردود العمل راجع إليهم (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) والله غني عن ذلك، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين. إذاً: (فليس لله حاجة في أن يدع ... ) لا مفهوم لذلك؛ لأنه ليست له حاجة فيما لو ترك الصائم هذه الخصال الذميمة، ولكن المراد بهذا: أنت تركت الطعام والشراب، وهذا أنت مأمور به، ولكنك تذهب وترتكب قول الزور والعمل به والجهالة، وأنت منهي عنه، فهل إذا لم تأكل ولم تشرب وعملت بالزور، وفرت في خزائن الله زيادة؟ لا، لم يكن تركك الطعام والشراب لحاجة عند الله أو قلة في العطاء، أو لأنه يزيد في خزائنه، كل ذلك لا أصل له، إنما ليس هناك داع أو ليس هناك موجب لأن تبقى على ترك الطعام والشراب وأنت أفطرت بغيره، كما جاء في حديث المرأتين اللتين صامتا في يوم حار، وسألتا رسول الله أن يسمح لهما بالفطر فأبى، وسمح لغيرهما ولم يسمح لهما، ثم استدعاهما وأحضر قدحاً وأعطاه للأولى وقال: قيئي في هذا. فتقيأت، وما تقيأت طعاماً: دماً ولحماً عبيطاً -أي: طرياً- حتى تناصف القدح، ثم أعطاه للثانية ففعلت كذلك، ثم قال: (تصومان عن الحلال -أي: الطعام والشراب- وتفطران على الحرام) ، أي: على غيبة الناس، كانتا تأكلان لحوم الناس، فهذا الدم العبيط واللحم العبيط الذي قاءتاه من الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ، فهما صامتا عن الطعام والشراب، وأكلتا لحوم المسلمين. إذاً: هذا تناقض؛ ولهذا جاء الحديث بالعموم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ؛ لأنه لا فائدة له. وبعض العلماء يقول: الغرض من هذا هو إبطال هذا الصوم وإن أسقط الفرض عنه، ولا نقول: عليه القضاء. والعجب أن بعض الطوائف -وهم موجودون الآن- يقولون: من كذب على الله أو على رسوله في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة، ومن كذب على أحد من عامة الناس في نهار رمضان فعليه القضاء! ويدينون بذلك نظراً لهذا الحديث: (فليس لله حاجة في أن يدع) ويقولون: أي: ليس له حاجة في صومك، فصومك مردود، ويقولون: الكذب يبطل الصوم، فإن كذب على الخلق فعليه القضاء، وإن كذب على الله أو على رسوله فمع القضاء كفارة. والله أسأل أن يحفظ لنا صيامنا.

تهذيب غريزة الغضب

تهذيب غريزة الغضب يا إخوان! هل العالم كله معصوم من قول الزور أو العمل به أو الجهل؟ قد يأتي إنسان يمتحن الإنسان -كما يقولون- ويغضب عليه ويصيح، هذه جهالة، ولكن هل أحد يسلم من هذه؟ الرسول لما قال للرجل: (لا تغضب) هل معنى ذلك: أن تخلص من غريزة الغضب؟ لا يمكن، من تخلص من غريزة الغضب فلا خير فيه؛ لأن غريزة الغضب تحمي الإسلام؛ لأن من لا غضب عنده ولا غيرة يرى المنكر أمامه ولا يحس به ولا يتغير له، فإذا كانت الغيرة والغضب والحمية موجودة فإنه لحميته ولغضبه ولغريزته تلك يتحرك، حمزة رضي الله تعالى عنه أول إسلامه حمية لرسول الله، قالت له المرأة: انظر ماذا فعل فلان مع ابن أخيك! قالت: رأيت أبا جهل يسب ابن أخيك، وكان آت من القنص بأداة الصيد، فذهب إلى الكعبة ووجد أبا جهل في نادي القوم، فضربه بالقوس على رأسه فشجه، وقال: أتسب محمداً وأنا على دينه؟ منذ متى كنت على دينه؟ الآن فقط، فهذه حمية وغيرة حركته إلى الخير. وهكذا من فقد الغيرة وفقد غريزة الغضب فلا خير فيه، فهو ميت، لكن لا ينبغي التجاوز في ذلك؛ لأن التجاوز يأتي بضد النتيجة، يغضب لأقل شيء، يثور لأقل شيء، تأتيه الحمية لأبسط الأشياء لا، يجب أن يكون مع الاعتدال والوسطية، وكذلك المرأة إذا تسلطت عليها الغيرة من ضرتها أفسدت حياتها وحياة زوجها، لكن إذا كانت بقدر، وكانت بأمر في حدود الجبلة، فلا بأس، الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته قصعة الطعام من عند حفصة في بيت عائشة، وعائشة تعرف بأن حفصة كانت تحسن الطهي، فلما جاء الجارية بالقصعة ضربتها بيدها فسقطت القصعة فانكسرت، وتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (غارت أمكم) . فهذه غيرة، لكن ما تجاوزت حدها، صبت غضبها على القصعة، وما لمست حفصة بشيء، ولا لمست جانباً آخر بشيء، ولكن موضوع الغيرة هو القصعة، فجمع الطعام وأخذ قصعة من بيت عائشة وقال: (قصعة بقصعة) . وتدارك المسألة. إذاً: الجهالة لا ينبغي أن تتجاوز حدها، ولا ينبغي أيضاً أن تُطفأ وتُخبأ نارها؛ لأن الإنسان إذا فقد الحمية والغضب يكون فاقد الدفاع أو فاقد الإحساس. إلخ.

شرح حديث: (كان النبي يقبل وهو صائم)

شرح حديث: (كان النبي يقبل وهو صائم) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه) متفق عليه واللفظ لـ مسلم، وزاد في رواية: (في رمضان) ] . المناسبة بين هذا الحديث والذي قبله، أنه لما نهى عن قول الزور والعمل به والجهالة ربما يظن بعض الناس بأن ملاطفة، ومداعبة الزوجة من هذا الباب، ويجب أن يترك، فجاء المؤلف بهذا الحديث ليبحث حكم ملاطفة الزوجة بصفة عامة، والملاطفة لا حد لها، ما دامت بعيدة عن علبة اللؤلؤ كما يقولون. والرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو معتكف يقدم رأسه لـ عائشة، سريره في الروضة ورأسه في البيت، وتمشط شعره وتدهنه، وهذا العمل من أحسن المداعبة أو المؤانسة للزوجة، ويعجبها أن تجد فرصة مع زوجها بهذه الحالة. نأتي إلى حكم التقبيل، عن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يقبل بعض زوجاته وهو صائم) وضحكت، وما الذي يضحكك؟ كأنه من حلاوة النسبة إليها هي؛ لأن الحدث كان معها هي، وما كان أحد يراه يقبل زوجاته في بيوتهن، إذاً: أخبرت بما وقع معها، وكونه صائماً ويقبلها هذا معناه زيادة معزة ومحبة لها، لكن أم المؤمنين حكيمة، ما قالت: كان يقبل؛ لكي تتأسوا به، وتذهبون تقبلون ثم تزل قدم أحدكم، لا، بل نبهت بقولها: (وأيكم أملك لإربه) ، والإرب الحاجة، وهي في هذا المقام معلومة، فكأنها تبين المشروع، وتنبه عن المحظور.

اختلاف العلماء في حكم القبلة للصائم

اختلاف العلماء في حكم القُبلة للصائم اختلف العلماء في القبلة للصائم، فهناك من منعها كلية، وقال: من قبل فقد بطل صومه وعليه القضاء مطلقاً، وهناك من قال: القبلة ليست ممنوعة لذاتها، لو أن امرأة قبلت يد زوجها أو رأس زوجها ماذا في هذا؟ ولا شيء، لكن القبلة في محل التقبيل هي محل التماس كما يقولون، ويقولون: القبلة من حيث هي ليست ممنوعة وليست محظورة، وليست مبطلة للصوم، ولكنها منعت من باب سد الذرائع، القبلة ماذا بعدها؟ وقد قال القائل: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء، وأظن هذا من شعر شوقي، يقول: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء. وما بعد اللقاء؟ الالتقاء. فالأمور تأتي بالتدرج، وكما يقولون: بعضها يجر بعضاً، فقالوا: إن النهي عن التقبيل إنما هو من باب سد الذرائع. والآخرون قالوا: لا، نحن ننظر إلى هذا الشخص الذي يريد أن يقبل، إذا كانت حرارته زائدة، وبمجرد التقبيل يقع منه الخطأ، فهذا نقول له: ابتعد بعيداً جداً. ومن كانت حرارته منطفئة، وليس هناك إلا العاطفة، وليس هناك إلا المودة، فنقول: دونك! وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً ومرفوعاً، جاء عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في مجلس أصحابه، فجاء رجل فسأله عن القبلة، فنهاه، ثم جاء آخر وسأله عن القبلة فرخص له) ، ولهذا مالك بوب في الموطأ: باب الرخصة في القبلة، ثم جاء بعده بباب آخر: باب التشديد في القبلة. الترخيص والتشديد! الترخيص لمن؟ والتشديد على من؟ على هذه الصورة التي ذكرها ابن عباس، وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما منع الأول وأباح للثاني، التفت لأصحابه وقال: (لكأنكم تعجبون أني منعت الأول وأجزت الثاني؟! قالوا: إي والله -يا رسول الله- نتعجب! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شاب فخشيت عليه، وإلى الثاني فإذا به شيخ لا يخشى عليه) . ونقول: هذا التشريع يكون عاماً؛ لأن أحكام التشريع لا تنظر إلى الأفراد، تنظر إلى العمومات كما قال الشاطبي رحمه الله: تكون شاملة عامة، ولكن يختلف الأفراد في هذا الشمول، قد يكون شائباً ولكنه أنجح من الشباب، فإذا كان شخص في مشيبه، ولكنه في هذا الباب شباب، هل نقول: نرخص للشيوخ ونمنع الشباب على أنه شيخ وشاب أم ننظر إلى مظنة المنع في حالة الشباب؟ قد يكون شاباً عنيناً لا يصلح للنساء، وقد يكون الشيخ منجباً، ونسمع قصصاً كثيرة عن أشخاص أنجبوا بعد المائة سنة! تزوج بعد المائة وجاء بأولاد! إذاً: المسألة شخصية، التشريع عام، والتطبيق خاص، أي: جزئي من هذا العموم، وأنت أعرف بنفسك، فإذا عرف الإنسان من نفسه أنه أملك لإربه فنقول: إنه جائز. وأبعد ابن حزم وقال: إنه مستحب؛ لأن الرسول قبل، لكن عائشة قالت: أيكم أملك لإربه؟ فلينظر الإنسان في خاصة نفسه. جاء في بعض الروايات أن (الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلمس وجه عائشة وهي صائمة) ، إذاً: فمتى قبلها؟! هو يمكن وهو صائم وهي مفطرة؛ لأن عائشة تأتيها الدورة، وإذا جاءتها الدورة منعتها من الصيام، فيكون هو صائم وهي مفطرة، فلماذا لم يلمس وجهها وهي صائمة؟ هذا ينبغي أن يلاحظ، هي زوجة شابة، ومع المداعبة قد تغلبها نفسها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة: (إن الله لا يستحيي من الحق يا رسول الله! فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم؛ إذا رأت الماء) إذاً: المرأة عندها ماء، وهو يأتي بالمداعبة أو باللقاء، وإذا خرج منها وهي نائمة فتكون قد احتلمت، وعليها الغسل. إذاً: في حالة اليقظة هي شابة، وكان الزوج يملك إربه وهي لا تملك، ويقولون في بعض كتب الأدب: الشهوة مائة جزء، تسع وتسعون للمرأة، وواحد للرجل، ولكن المرأة يمنعها حياؤها، فإذا كانت المرأة لا تستطيع مسايرة الزوج في المداعبة فيجب أن يعرف طاقتها، ويحجب عن ذلك؛ لئلا يفسد عليها صومها. إذاً: حكم القبلة للصائم هناك من يمنع مطلقاً، ويقول: من قبل فعليه القضاء، وهناك من يبيح مطلقاً دون أن ينظر إلى شيء، بل قال: إنه مستحب كما قال ابن حزم، وهناك من يقول: ليس على الإطلاق، إنما ينظر الشخص في حالة نفسه، وكذلك المفتي يجيز للبعض بنظره واجتهاده، فتباح لمن يملك إربه، وتمنع لمن لا يملك إربه. والله تعالى أعلم، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبالمناسبة هذه يذكر الفقهاء أشياءً عميقة -لا أظن أن عندنا نسوة يسمعن هذا-، يذكرون تبعاً للقبلة: أنه من دواعي المؤانسة مع المرأة أن يمتص لسانها، فإذا امتص لسانها هل له أن يبتلع ريقه بعد هذا الامتصاص؟ قالوا: لا؛ لأن هذا إدخال شيء غريب إلى جوفه. إذاً: القبلة من الخارج ليس فيها ريق، وليس فيها سائل، وليس فيها شيء، لكن إذا امتص لسانها فيحتاط، ولا يبلع الريق في هذه الحالة. والله أعلم.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [7]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [7] اختلف أهل العلم في حكم الحجامة للصائم، ومعرفة أدلة كل قول، ووجه الجمع بين أدلة المسألة؛ يفيد طالب العلم زيادة في العلم، وسعة في الصدر. هذا وللحجامة فوائد كثيرة، وورد في الترغيب فيها أحاديث عديدة.

شرح حديث: (احتجم وهو صائم)

شرح حديث: (احتجم وهو صائم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم) رواه البخاري] . انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى مفطرات الصوم، ما يكون منه الفطر وما لا يكون، أو ما يجوز فعله للصائم وما لا يجوز، وبدأ بالحديث عن الحجامة، وقدم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم) ، وعلى هذه الراوية يكون الحديث عن الحجامة مرتين: مرة في الصيام، ومرة في الإحرام، وهناك رواية أخرى: (احتجم وهو محرم صائم) فتكون الحجامة مرة واحدة في حالة الإحرام ومعه الصيام. والحجامة من المسائل التي يتناولها الباحث من جهتين: جهة المعالجة، وجهة الفقه. ويتفقون في الجملة أن للمريض الصائم أن يتداوى كيفما شاء ما لم يصل الدواء إلى الجوف، فإذا كان الدواء يصل إلى الجوف من أي منفذ فلا يجوز للصائم إلا إذا كان يحتاجه ويفطر، وكذلك قال البعض: دواء الشجاج -وهي الشجة في أم الدماغ من الداخل- يبطل الصوم؛ لأن الرأس مجوف، والنووي ينص على أنه لا يبطله.

معنى الحجامة

معنى الحجامة وقبل الكلام على الحجامة للصائم ينبغي أن نعلم ما هي الحجامة، ولعل البعض لم ير حجاماً ولا محجوماً ولا آلة حجام، وكانت الحجامة منتشرة بكثرة في المدينة، وكان لهم موطن معروف، والآن لا نجدها في ذلك الموطن الذي كان معروفاً للناس، ولا في غيره، وكأنها لم تكن! الحجامة: هي استخراج الدم من الجسم بواسطة شرطة موس، وشفط الدم بالقرن أو ما يماثله، إذاً الحجامة: إخراج الدم من الجسم عن طريق الجلد، وهناك إخراج الدم عن طريق العرق مباشرة، ويسمى الفصد، وهناك إخراج الدم أيضاً عن طريق الجرح أو عن طريق الرعاف، وكل أنواع إخراج الدم من الجسم ما عدا الحجامة يتفق العلماء أنه لا يفطر، ما عدا الحجامة عند الحنابلة كما سيأتي بيانه عند الكلام على الحجامة للصائم إن شاء الله.

فوائد الحجامة

فوائد الحجامة الحجامة معروفة من القدم أنها من أنواع العلاج، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحث عليها، حتى جاء عند أبي داود أن جبريل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة، وهناك: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة) ، وهناك: (احتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) . والحجامة من الناحية الطبية يتكلمون عنها من حيث الزمن، ومن حيث الشخص الحاجم والمحجوم، أما من حيث الزمن فإنهم يستحبونها أن تكون في ساعات النهار ما بين الثانية والثالثة بالتوقيت الغروبي -يعني: عند الضحى-، وأما في أيام الأسبوع فيكرهونها يوم الأربعاء ويوم السبت، وأما من حيث الشهر فإنهم يكرهونها في أول الشهر وفي آخره، ويمتدحونها من منتصف الشهر فما بعده، وينصون على السابع عشر والتاسع عشر والواحد والعشرين، ومن العجب أن الفقهاء فطنوا إلى مسألة عجيبة جداً! وهي: أن الحجامة في السابع عشر والتاسع عشر تكون عند هيجان الدم، وينص الفقهاء على أن هذا الوقت هو بتأثير اكتمال ضوء القمر، وهو الذي يعبر عنه الآخرون بالمد والجزر؛ لأن المد والجزر في البحار أشد ما يكون عند اكتمال ضوء القمر في ليلة الرابع والخامس والسادس عشر، ومن هنا قال بعض العلماء الحكماء: إن من حكمة صوم الثلاثة الأيام البيض من كل شهر: اليوم الثالث والرابع، والخامس عشر؛ لأنها تصادف شدة مد الدم في الجسم، والصوم يخفف ويلطف ذلك؛ لئلا يؤثر على الإنسان أكثر، وقالوا: إن الإنسان بحر دم، فكما أن البحر يتأثر مداً وجزراً باكتمال ضوء القمر فكذلك الدم في الإنسان في تلك الآونة تشتد حركته على صاحبه، فإذا صام خفف من هذه الآثار ومن تلك الإثارة. إذاً: الحجامة من جهة الطب ومن جهة المداواة يختار لها زمن، ثم من حيث المواضع في الجسم يحدده المختص في ذلك، سواء في نقرة القفا، أو على الركبة، أو في الفخذ، أو. إلخ، بحسب الحاجة التي دعت إلى استعمال الحجامة. وينبهون على أن من لم يحتجم قبل الأربعين لا يحتجم بعدها؛ لأنه لا يتحمل ذلك، ويفرقون بين الحجامة والفصد في العلاج بأن الحجامة علاج للدم في خارج الجسم -أي: الجلد وتحته-، والفصد علاج لداخل الجسم كما هو في الأعضاء الداخلية كالكبد والمعدة والكليتين وغير ذلك. هذا ما يتعلق بالحجامة، وكان استعمالها سابقاً بكثرة، وأما الآن فتكاد تكون قد تلاشت بالكلية.

حكم الحجامة للصائم

حكم الحجامة للصائم في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وذكر لنا وقت حجامته: احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، ويستدل العلماء به على جواز تداوي المحرم حالة إحرامه، سواء كان إحرامه بالحج أو بالعمرة، فالتداوي جائز، والحجامة لا تضر الإحرام بشيء. بقي الكلام على حكم الحجامة في الصوم، وسواء كانت حجامة النبي صلى الله عليه وسلم في حال كونه محرماً، أو صائماً بدون إحرام، ونجد العلماء يناقشون في ذلك ويقولون: ما صام صلى الله عليه وسلم في سفر فيه إحرام قط؛ لأنه ما سافر محرماً إلا في حجة الوداع وفي عمرة القضية، أما عمرة ذي الحليفة فما كانت في رمضان، وعمرة حنين أيضاً لم تكن في رمضان، فإذا احتجم وكان قد خرج صائماً محرماً فمتى ذلك؟ قالوا: لم يثبت أنه صام في حال إحرامه، سواء كان إحرام حجة الفرض -وهي حجة الوداع- أو كان إحرامه في عمراته الثلاث التي اعتمرها. وعلى هذا قالوا: لعله كان صائماً صوم تطوع، وهذا ممكن في بعض أسفاره تلك، فيكون صائماً صوم تطوع، ثم يحتجم وهو صائم، أما رواية: (احتجم وهو صائم) ، لم تحدد المكان، فمن الممكن أن يكون احتجم وهو صائم وهو مقيم، وحينئذ يحتمل أن يكون في رمضان أو في غير رمضان. والمهم إثبات فعله صلى الله عليه وسلم للحجامة وهو صائم، وبهذا أخذ جمهور العلماء، وقالوا: الحجامة لا تبطل الصوم بصفة إجمالية، لكن جاء عن رافع وعن أوس بن شداد وعن غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وقال أنس في حديثه: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ جعفر وهو يحتجم فقال: أفطر هذان -أي: الحاجم والمحجوم-) وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فوجد رجلين يحتجمان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) ، والكلام على (أفطر الحاجم والمحجوم) من جانبين: الجانب الأول: معناه أساساً، والجانب الثاني: معارضته لحديث ابن عباس. أما الكلام على نفس الحديث: (أفطر الحاجم) ، الحاجم: هو الشخص المداوي الذي يشرط الجلد ويضع القمع، ويشفط من منسم فيه الدم، هذا هو الحاجم، والمحجوم هو الذي يشرط جلده، ويعالج بالحجامة، ويخرج الدم من جلده، فقال العلماء: هل أفطر الحاجم والمحجوم على الحقيقة أو على المجاز؟ ومعنى المجاز هنا: أن يكون مآلهما إلى الفطر، يعني: أخذا بأسباب الفطر، أو تسببا بالفطر وسيفطران، أما حمله على الحقيقة بأنهما أفطرا فعلاً فهذا فيه نظر؛ لأن الحاجم لم يخرج منه دم، هو شرط الجلد، وشفط بفيه الدم، فبم يفطر؟ قالوا: (أفطر) يعني: كاد أن يفطر؛ لأنه لا يسلم أحياناً من كونه يشفط الدم من الجلد إلى المحقن ثم يغلبه الدم ويدخل إلى فيه، فيسبق إلى حلقه فيفطر، قالوا: إذاً: لم يفطر بنفس الحجامة؛ ولكن يفطر بما يغلبه من الدم ويصل إلى جوفه، فإذا لم يصل إلى جوفه شيء فلم يفطر على الحقيقة. أما المحجوم فإن فطره بخروج الدم. والحنابلة يقولون: إذا شرط وشفط ولم يخرج دم فلا فطر؛ لأن الأصل في ذلك خروج الدم. إذاً: الذين قالوا: إن الحجامة تفطر أخذوا بظاهر هذا النص، وسواء كان الفطر على الحقيقة أو على المجاز.

خلاف الأئمة في الفطر بالحجامة

خلاف الأئمة في الفطر بالحجامة الأئمة الثلاثة رحمهم الله أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: الحجامة لا تفطر، ولكن يخشى منها أن تئول إلى الفطر، ومن هنا ينبغي أن يتجنبها الصائم سداً للذريعة؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد يفطر، منعت القبلة لمن يخشى عليه منها مخافة أن يقع فيما هو أبعد من ذلك، فيكون منعها سداً للذريعة. ومذهب أحمد رحمه الله وتبعه أكثر أصحابه -كما في المبدع والإنصاف- أن الحجامة تفطر، قال في الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، واختار بعض الحنابلة أنها لا تفطر، وذكر الخلاف بين علماء الحنابلة في أن الحجامة تفطر أو لا تفطر، ولكن الراجح عندهم في المذهب أنها تفطر. ثم ذكر الفصد، وذكر الخلاف فيه، ورجح أنه لا يفطر، والفصد -كما أشرنا-: هو أن يقطع العرق، ولا يجرح الجلد، يقطع العرق فيتقاطر الدم منه، كما في عملية نقل الدم وأخذ الدم، فإن الطبيب يأتي إلى العرق مباشرة ويدخل فيه تلك الإبرة، ويسحب الدم من العرق مباشرة. فهذا الفصد فيه خلاف عند الحنابلة في كونه مفطراً أم لا، والصحيح عندهم أو المقدم عند أكثرهم: أنه لا يفطر. وكذلك ينصون على أن من لم يرد أن يحتجم، ولكن جرح نفسه بدلاً من الحجامة، وليس هناك شفط، وخرج الدم من الجرح فإنه لا يفطر. واختلفوا فيمن أخرج الدم عن طريق الرعاف من الأنف عامداً متعمداً، هل يفطر أو لا يفطر؟ وعلى هذا فالحجامة للصائم عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله أنها لا تفطر، وبالتالي الفصد، وبالتالي الرعاف، وبالتالي الجرح، وأن للصائم أن يبط الدمل، ويقلع السن إذا احتاج إلى ذلك، وليس فيه إبطال للصوم، وكذلك له أن يعطي الدم لغيره إن كان يستطيع ذلك، فالذي يعطي الدم أو يأخذ الدم لا علاقة لصومه بالدم الذي يعطيه أو يأخذه، هذا عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله. أما عند الحنابلة فالحجامة والفصد والرعاف والجرح موضع اختلاف بينهم، وأما الحجامة فالراجح فيها عندهم، وهو المقدم عندهم في المذهب أنها تفطر، وهذا القول من مفردات المذهب، واختلفوا في الفصد، والراجح عندهم أنه لا يفطر، فإذا كانت العلة خروج الدم فخروج الدم من العرق أكثر وأغزر من خروجه من الجلد، فلم تفطر الحجامة ولا يفطر الفصد؟ وكذلك إذا لم تحصل الحجامة، ولم يأت بحجام، ولكن جرح جلده وخرج الدم كما لو كان يخرج من الحجامة بمقداره أو أكثر أو أقل، فإذا كانت العلة خروج الدم فلم لم يفطر بتعمده جرح يده؟ وهل الفطر يختص بشرط الجلد؟

الجمهور على أن أحاديث الفطر بالحجامة منسوخة

الجمهور على أن أحاديث الفطر بالحجامة منسوخة الحنابلة يعولون على هذا الحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وهذا نص صريح، ويناقشون في الجمع بين الحديثين، والجمهور يقولون: إن أحاديث الحجامة منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم. وابن القيم في زاد المعاد يقول: إن دعوى النسخ لا تثبت حتى نعلم تاريخ الحديثين، وأيهما متأخر؟ هل فعله صلى الله عليه وسلم أم قوله لـ جعفر أم قوله للرجلين عند البقيع؟ التاريخ غير معروف، ثم لا نعلم في أي سفر كان، وهل هذا الصوم كان نافلة أو فريضة؟ ويذكر نقاطاً، واستبعد أن حديث ابن عباس يكون ناسخاً لأحاديث الحجامة، ويقول: دعوى النسخ لا يمكن أن نثبتها، وبقي الحديثان متعارضان: حديث من فعله صلى الله عليه وسلم، وحديث من قوله، وإذا تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل. فالحنابلة يأبون دعوى النسخ، ويقدمون أحاديث الحجامة على حديث ابن عباس، وبعضهم يقول: أفطر الحاجم والمحجوم لا لكونهما يحتجمان، ولكنه رآهما يغتابان وهما يحتجمان، كانا يتكلمان وقت الحجامة، فكان حديثهما غيبة للآخرين، فقال: (أفطرا) . أي: بالغيبة. وكثير من العلماء يتندر بهذه العلة، ويقول: وهل كل من اغتاب إنساناً يفطر؟! وأحمد رحمه الله لما سمع هذا القول قال: لو أن العلة هي الغيبة لما سلم صوم أحد أبداً. إذاً: كونهما يغتابان لا دخل له في هذا الموضوع. إذاً: من الناحية الصناعية الحديثية يكون الحديثان أحدهما فعلي، والآخر قولي، والقولي مقدم، فإذا لم نعرف التاريخ لا نستطيع أن ندعي النسخ، وإذا وجد الفعل منه صلى الله عليه وسلم، ووجد أن الأئمة الثلاثة على أنها لا تفطر، فلابد لترجيح مذهب الأئمة الثلاثة من مرجح، قالوا: جاء عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، ولكن من أجل الإرفاق به أو الإبقاء عليه) ، وجاء عن أنس أيضاً قال: (ما نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم والحجامة للصائم إلا إرفاقاً بأصحابه) ، وجاء أيضاً: (ثلاث لا تبطل الصوم: القيء، والحجامة، والاحتلام) ، والقيء سيأتي فيه تفصيل، والاحتلام مفروغ منه، فبالإجماع أن من نام في نهار رمضان فاحتلم فلا شيء عليه، بخلاف من تسبب في إخراج المني، وهذا محله في بحث القبلة، ولكن أخرناه إلى حديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي، وستأتي تتمة البحث هناك إن شاء الله، ومن هذه الثلاث التي لا تبطل الصوم الحجامة، وهذا محل الشاهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبرها مفسدة للصوم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحتجم في نهار رمضان، فلما تقدمت به السن وكبر صار يؤخر حجامته إلى الليل، ومن هنا أخذ الأئمة الثلاثة -من فعله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه رضي الله تعالى عنهم- أن الحجامة لا تبطل الصوم، ولكن -كما قال الشافعي رحمه الله- يُنظر إلى الشخص في ذاته، إن كان ضعيف البنية، وإن احتجم زاد ضعفه، واحتاج إلى أن يتناول ما يعوض ما خرج من دمه، ويلجئه ذلك إلى الفطر؛ فهي محرمة عليه، وإن كان معتدل الصحة، لا تؤثر عليه الحجامة، ولا تلجئه إلى الفطر فلا شيء في ذلك، وهذا أعدل الأقوال في قضية الحجامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)

شرح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) قال المصنف رحمه الله: [وعن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان] . قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، حُمل على أنه فطر حقيقي، ومشى على هذا الحنابلة، وحمله الجمهور على أنهما أوشكا أن يفطرا، أما الحاجم فلإمكان سبق الدم إلى حلقه فجوفه، وهذا نظيره حديث لقيط بن صبرة حيث جاء في باب الوضوء: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) لماذا؟ لأن المبالغة في الاستنشاق قد تنزل الماء إلى داخل أنفه، فيصل إلى الدماغ، فينزل إلى الحلق فيبطل صومه، فالنهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم تحفظاً على صومه من أن يسبقه الماء إلى حلقه فجوفه فيبطل صومه، وكذلك هنا منع الحاجم أن يحجم أحداً تحفظاً على صومه من أن يسبقه الدم إلى حلقه فإلى جوفه فيفسد صومه. أما المحجوم فهو تحفظ عليه؛ لأن في الحجامة إخراج الدم، والإنسان إنما يسير بالدم، فالدم في الجسم هو حياة الإنسان، ويسمى الدم نفْساً كما في قولهم: (ما لا نفْس له سائلة إذا مات في السمن لا ينجسه) مثل: الذباب إذا وقع في الشراب تغمسه في السائل ثم تشربه إن شئت؛ لأن موته فيه لا ينجسه؛ لأنه لا نفس له سائلة، فالدم يطلق عليه النفْس، وإذا خرج الدم من الإنسان اصفر وصار كالشن، أي: كالقربة الفارغة لا قيمة له، وفارق الحياة، فإذا احتجم الإنسان يضعف قليلاً، وقد يحجمه من لا يعرف قانون الحجامة، فيسحب كل الدم، فحينئذ ينهي دم صاحبه، وقد يموت بين يديه! ولكن الخبراء في عمل الحجامة يعرفون المقدار الذي يؤخذ، وفي أي موضع من المواضع، إما بتغير لون الدم، وإما بتغير ريحه، ويعرفون الموضع الذي يحجم فيه كم يمكن أن يؤخذ منه، ويراعون سن المحجوم، فهؤلاء لهم خبرة، فإذا لم يكن الحاجم ذا خبرة، أو أخطأ في خبرته، وتجاوز حد ما يؤخذ من الدم، فحينئذ يكون المحجوم على خطر. فـ (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أوشكا أن يفطرا.

شرح حديث: (رخص النبي بعد في الحجامة للصائم)

شرح حديث: (رخص النبي بعد في الحجامة للصائم) قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم) رواه الدارقطني وقواه] . انظروا إلى فقه المؤلف رحمه الله! ساق لنا الأحاديث التي بينها التعارض: ذكر أولاً حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ثم حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ثم ختم البحث بحديث أنس، ماذا في حديث أنس؟ أنس ممن روى الحجامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا إبقاءً عليه) فحديث أنس هذا فصل الخطاب. [قال: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم) ] . انظروا إلى عرض أنس رضي الله تعالى عنه! لم يقل: رخص النبي بالحجامة للصائم لا، بل أتانا بتاريخ الحجامة شرعاً: (أول ما كرهت الحجامة) يعني: هو مستوعب لفقه الحجامة من أولها، ما أولها؟ (أول ما كرهت) يعني قبل قصة جعفر لم تكن مكروهة، كانت ماضية في سبيلها، وأول ما كرهت لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جعفر يحتجم، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) . قال: [ (فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم) ] . لما أخبرنا أنس رضي الله تعالى عنه عن بداية كراهية الحجامة بسبب احتجام جعفر رضي الله تعالى عنه، ومرور النبي صلى الله عليه وسلم به وهو يحتجم بالفعل، وقوله لهما: (أفطر هذان) ؛ يأتي أنس بالحكم العملي والفقهي: (ثم رخص بعد ذلك) ثم رخص بعد ذلك في الحجامة للصائم. إذاً: حديث أنس هذا يدلنا على أن الحجامة أول كراهيتها عند قصة جعفر، وبعد ذلك رخص في الحجامة للصائم. إذاً: تكون الحجامة للصائم رخصة، والرخصة تستعمل عند الحاجة، فإذا كان الصائم في حاجة إلى الحجامة نهاراً فعنده رخصة باستعمالها، ولا قضاء عليه، أما إذا كان في غنىً عنها، وعنده ما ينوب عنها، أو عنده سعة ويمكن أن يؤجلها إلى الليل فليست له رخصة فيها، بل يتركها لغيرها أو يتركها لوقت آخر ليس هو فيه صائم، وأعتقد أن حديث أنس هذا هو الفصل، وتقدم لنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ينظر في حالة الشخص الذي يريد أن يحتجم: إن كان يستطيع أن يتحمل أثر الحجامة من الضعف والفتور، ولا يلجأ إلى الفطر؛ فلا مانع، وإن كان لا يستطيع ذلك فيمتنع من الحجامة. وهكذا سماها أنس رضي الله تعالى عنه رخصة للصائم، يعني: لا تستعمل إلا عند الحاجة الداعية إليها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (اكتحل في رمضان وهو صائم)

شرح حديث: (اكتحل في رمضان وهو صائم) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء] . هذا مما يتعلق بما يكره للصائم وما يجوز، وقد تكلمنا عن الحجامة، وذكرنا الخلاف الخفيف فيها، وقول أنس: إنها رخصة للصائم عند الحاجة، ثم أتى المؤلف بموضوع الاكتحال، وأتى بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل) ، و (اكتحل) : افتعل بوضع الكحل، والكحل محله العين، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن الاكتحال لا يضر الصائم، ولكن نص بعض العلماء أن الكحل له حالتان: حالة يكون خفيفاً جداً لا يتعدى موضعه، وحالة يصل فيها إلى الحلق، فإذا كان يصل إلى الحلق فقد أفطر الصائم؛ ولذا نص الحنابلة على أن من المبطلات والمفسدات للصوم: إذا اكتحل بما يصل إلى الجوف، وهناك أشياء تسري، وهناك أشياء لا تتعدى موضعها، ولكن تمنع سداً للباب، وجاءت آثار فيها النهي عن الاكتحال بالإثمد المطيب، أو الإثمد المروح. فمن أجاز الاكتحال للصائم قال: النهي عن نوع خاص وهو الإثمد المروح -يعني: الذي فيه رائحة طيبة-؛ لأن الصائم ممنوع من استعمال الروائح الطيبة، ولكن الإثمد مهما كان مروحاً لا يصل إلى حد أن يمنع الصائم منه من أجل الرائحة، وكراهية الروائح الطيبة للصائم إنما هي من قبيل باب القُبلة، قالوا: لأن عرقا الخصيتين في الإنسان مرتبطة بالأنف، فإذا شم رائحة زكية تحرك عليه العرقان؛ فمنعوا من الروائح الطيبة الصائم والحاج، فالحاج إذا أحرم لا يحق له أن يتطيب؛ لأنه مدعاة إلى الإثارة، إذاً: الطيب من حيث هو ليس ممنوعاً، ولكن الممنوع موجب الإثارة، ومهما يكن في الإثمد من رائحة لا تصل إلى الحد الذي يثير عند صاحبه شيئاً. إذاً: النهي عن الاكتحال إنما هو لكونه في العين، والعين منفذ، فإذا وصل إلى الحلق -كما قال الحنابلة- فإنه حينئذ يكون قد أدخل شيئاً إلى الجوف عامداً، وحينئذ يمتنع عليه أن يكتحل. والذين يقولون بأن الكحل يؤثر على الصوم يلحقون به كل معالجة للعين ما عدا الماء، فيمنعون الَصِبر للعين، وكذا التوتياء أو الششم أو القطرة، أو أي محلول فيه مادة كيماوية، ويجعلون كل نوع من أنواع المعالجات التي تصل إلى الحلق تابعة للإثمد. أما علاج العين بالماء فهذا أمر جائز، والإنسان يغسل وجه في الوضوء أكثر من مرة، ومن أنواع علاج العين بالماء: إذا كانت هناك رجرجة أو كانت هناك حرارة، أن تأخذ كأساً من الماء البارد العادي، وكما يقول بعض الأطباء: يبيته في الخلاء في الليل، ثم يأخذه صباحاً، ويفتح العين فيه، ويكون الإناء مليئاً بالماء، ويضعه على بؤبؤ العين، ويحرك حاجبيه أو رمشيه، فيدخل الماء البارد تحت الحاجب هنا أو تحت الرمش -كما يقولون- ويصل إلى شحمة العين، فيستخلص الحرارة منها، هذا نوع من العلاج، وينفع من ضعف البصر في بعض الأحيان، لكن لا دخل له ولا سريان له إلى الدماغ. إذاً: الكحل للصائم ممنوع، ويلحق به كل ما له نفوذ من العين إلى الجوف، واعتبروا العين منفذ، والأنف منفذ، والأذن عند الحنابلة أيضاً منفذ، وكل دواء لهذه الجهات أو عن طريقها يصل أثره إلى الحلق فهو مبطل للصوم، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه)

شرح حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه. وللحاكم (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) ، وهو صحيح] . ذكر المؤلف رحمه الله من مبطلات الصيام الحجامة، والكحل، ثم جاءنا بمن أفطر أو أكل ناسياً، وكذلك أيضاً إذا احتجم ناسياً أو اكتحل ناسياً، فما حكم من تعاطى مبطلاً للصوم ناسياً بصفة عامة؟ يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (من أكل أو شرب وهو صائم ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) . هذا الحديث يعتبر منة من الله سبحانه وتعالى، ولطفاً من الله، فإنه لا يؤاخذ الإنسان في نسيانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . فإذا نسي الإنسان صومه، وتناول الماء تلقائياً وشرب، أو تناول الأكل تلقائياً وأكل، ثم تنبه بأنه صائم، ماذا يفعل؟ الحديث يقول: (فليتم) ، تذكر أنه صائم فليمسك، ويتم صومه بقية يومه، ولا يفطر بما أكله، قال الله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، والذي أكل أو شرب في نهار رمضان ما أتم الصوم، بل قطعه، لكن الحديث صريح بأن الإنسان يتم صومه، وأنه فضل من الله، وقد أطعمه الله وسقاه. وقوله: (أطعمه الله وسقاه) هنا واضح، أكل وشرب حتى ولو شبع، كما في بعض الآثار أن جارية دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده ذو اليدين وهما يفطران، فقال: (هلم إلى الطعام) ، فجلست وأكلت، ولما انتهوا قالت: أوه! أنا كنت صائمة، نسيت. فقال لها: أبعدما شبعتِ؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (أتمي صومك؛ فإنما أطعمك الله وسقاك) . إذاً: تفسير: (أطعمه الله وسقاه) واضح، أطعمه ما أكل، وسقاه ما شرب، فالإطعام والسقيا هنا حقيقة واقعية لا تحتاج إلى تأويل، بخلاف (لي طاعم يطعمني، وساق يسقيني) ، فهناك فيه الإشكال، أما هنا فلا إشكال، أطعمه الله، أي: ساق له الطعام، وعفا له عن أثره، وصحح له الصيام، فهذه منحة جاءته من حيث لا يعلم. والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله يقولون: من أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه، ويتم صومه ولا شيء عليه. ومالك رحمه الله يقول: عليه قضاء يوم مكانه. لماذا -يا مالك - فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أطعمه الله وسقاه) ؟ قال: نعم، ولكن لم يقل: وليس عليه قضاء. بل قال له: (يتم صومه) ، وكونه يتم صومه فصومه ماض، لكن في بعض الروايات: (ولا قضاء عليه) قال: لا تصح، والله تعالى يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وهذا لم يتم، (أطعمه الله وسقاه) هذه نعمة من الله، وأنه لم يؤاخذه على الأكل والشرب في رمضان؛ لأنه لو أكل أو شرب عامداً لكان عليه القضاء، ومع القضاء كفارة؛ لأن مالكاً يوجب الكفارة بالأكل والشرب، خلافاً لمن لا يوجبها إلا بالجماع. فـ مالك أخذ الحديث على الرخصة أو على العفو، وطالب من أكل ناسياً بيوم مكان اليوم، ولكن الصحيح الواضح أن من أكل أو شرب ناسياً فإنه يتم صومه، وصومه كامل، ولا قضاء عليه، والله تعالى أعلم.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [8]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [8] اختلف الفقهاء في الأفضل للمسافر في رمضان، فقيل: الصوم أفضل له، وقيل: الفطر أفضل له، وقال المحققون من العلماء: الأفضل الأيسر له، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ومعرفة طالب العلم لهذه المسألة بتفاصيلها، وأدلة كل قول فيها؛ تدربه على التفقه، وعلى معرفة الراجح من الأقوال، وأنه قد يمكن الجمع بين جميع الأقوال في المسألة الواحدة.

شرح حديث: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه)

شرح حديث: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) رواه الخمسة، وأعله أحمد، وقواه الدارقطني] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في مباحث ما يمنع أو يباح في الصوم ما يتعلق بالقيء، والقيء: هو لفظ المعدة لما فيها من الطعام عن طريق الفم. ومعنى: (ذرعه) أي: غلبه، تقول: ضقت بالأمر ذرعاً. أي: غلبت عليه، فمن غلبه القيء، وخرج بدون رغبة منه ولا إرادة له وهو صائم فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، سواء كان هذا القيء قليلاً أو كثيراً، تغير أو لو لم يتغير. والقلس: هو أن تخرج المعدة عند امتلائها شيئاً من الماء ملء الفم أو دون ذلك، فهذا يسمى قلساً، ويكون حديث عهد بأكله وبتناوله، أما القيء فيكون الطعام قد تغير لمكثه في المعدة، وكما قيل: إن المعدة تعمل آلياً وكيميائياً، آلياً بمعنى: أنها تتحرك بنفسها على الطعام كالرحا تطحنه، وكيميائياً ما يأتيها من إفراز من المرارة، فإنه يساعد على هضم الطعام، كالحمضيات مثلاً تساعد على إذابة الأجرام، فإذا ما عملت المعدة في الطعام ثم طرأ عليها عدم ارتياح لهذا الطعام، وقد يكون شيء طارئ يتقدمه مثل المغص أو القلق النفسي، أو أسباب أخرى، فلا تقبل الطعام، فتتقلص وتدفعه، فهذه الحالة إذا وقعت بالصائم فهو لم يتسبب فيها، ولم يكن له عمل فيها، ولا رغبة منه، فهذا لا قضاء عليه. وقوله: (استقاء) الهمزة والسين والتاء -كما يقولون- للطلب، كما تقول: (أستغفر الله) أي: أطلب الله الغفران، (أستعين الله) : أطلب الله العون، (أستهدي الله) : أطلب من الله الهداية، (من استقاء) يعني هو الذي طلب القيء بنفسه، وذلك حينما يحس بازدحام الطعام، وإرهاق النفس، وعدم الارتياح، فإنه لا يريحه إلا إخراج الطعام من المعدة، ويسميه الأطباء القدامى (استفراغ) أي: افراغ المعدة مما ازدحم فيها، وقد تكون بالمعدة بعض الأشياء الصفراء والسوداء، وكانوا يعالجون الجسم على حسب تلك الطبائع، فإذا كان بالمعدة شيء من ذلك، وغالباً يكون قديماً، فيأتيها شيء من الطعام لا يوافقها، إما لدهنيات، إما لقلويات، إما لأشياء أخرى، فلا تستطيع المعدة أن تهضمها، ولا يستطيع هو أن يتحمل غثاء المعدة، فلا يجد له راحة إلا استفراغ بعض ما في المعدة. فإذا استقاء هو -أي: حاول وطلب القيء- فإنه يبطل صومه وعليه القضاء، والاستقاء أو الاستفراغ يكون بأحد أمرين: إما بتعاطي ما طبيعته أنه يثير القيء، وإما بإدخال جرم إلى الحلق ويجعل عنده قدحاً فتلقي المعدة ما فيها، وإذا كان صائماً فلا يستطيع أن يتعاطى ما يثير القيء مثل الماء الدافئ الذي فيه قليل من الملح، أو نترات النحاس، أو بعض الأشياء التي يذكر الأطباء أنها تجعل الإنسان يستفرغ حالاً، فالصائم لا يتناول شيئاً من هذا؛ لأن تناوله إياه يفطره قبل أن يستقيء. فإذا وضع إصبعه أو أدخل جرماً إلى حلقه فأثار المعدة فخرج القيء، ففي هذه الحالة يُبطل صومه، ويمسك بقية يومه، وعليه القضاء. وهنا يتساءل الناس: إذا ذرعه القيء فلا قضاء، وإذا استقاء هو فعليه القضاء، والقضية واحدة وهي إخراج الطعام من المعدة، ذرعه أو استقاءه! فما الفرق بينهما؟ هل الفرق أنه تسبب أو لم يتسبب؟ هل الفرق أنه ليس له سبب إذا ذرعه القيء كما يقولون -مثلاً- في إخراج المني، لو نام واحتلم فلا شيء عليه؛ لأنه لم يتسبب في إخراجه، أما إذا باشر أو تسبب في إخراج المني يقظة فهناك الكلام في القضاء والكفارة وما يتعلق بهذا الباب؟ فيقولون: ليست العلة التسبب وعدم التسبب، ولكن العلة في طبيعة إخراج هذا الطعام؛ لأنه إذا ذرعه القيء فمعناه: أن المعدة هي التي تقلصت ودفعت الطعام عنها، فيكون دفعها قوياً، وتخرج الطعام على دفعات فلا ترجع منه شيئاً إليها. أما إذا استقاء فكأنه يسحبه من عنده، وقد يخرج البعض وقد يرجع البعض؛ فلاحتمال رجوع بعض الطعام ممن يستقيء، ورجوع الطعام بعدما يصل إلى الحلق، ورجوعه إلى الجوف مرة أخرى كأنه أدخل الطعام من جديد، فيكون ذلك مفطراً. إذاً: حكم القيء أنه إن ذرعه القيء وغلب عليه فلا قضاء عليه، وإن تسبب هو في إخراجه فإنه يكون عليه القضاء، والفرق بينهما في إيجاب القضاء في إحدى الحالتين وعدم إيجابه في الأخرى: هو طبيعة خروج الطعام من المعدة؛ لأن خروجه في حالة غلبته على الإنسان يخرج دفعات ولا يرجع منه شيء إلى المعدة، أما في حالة استعصائه ومحاولة إخراجه فإنه يغصب المعدة على الإخراج وهي لا تريد إخراج، فقد يخرج البعض ويرجع البعض إلى ما كان عليه، فيكون في ذلك صورة من أدخل طعاماً جديداً إلى المعدة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (أفطر النبي في رمضان بعد العصر في السفر)

شرح حديث: (أفطر النبي في رمضان بعد العصر في السفر) قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) ، وفي لفظ: (فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب) رواه مسلم] . أيها الإخوة الكرام! يأتي المؤلف الآن إلى مسألة عملية واقعية، صحبها الخلاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وسيظل فيها الخلاف، وهي: قضية الصوم في السفر أو الفطر، وهذه القضية اهتم بها العلماء كثيراً، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار تكلم عنها، وأورد ما يزيد على مائة أثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الآثار يوردها بتعدد طرقها، وابن عبد البر في الاستذكار أطال أيضاً في التفصيل فيها، وكذا في التمهيد، والشوكاني في نيل الأوطار أورد الآثار في هذه القضية إلى حد بعيد. والناس في هذه القضية طرفان وواسطة، فهناك من يقول: لا يصح الصوم في السفر، وهناك من يقول: الصوم في السفر أفضل من الفطر مطلقاً، وهما قولان متباعدان جداً، ويقول ابن عبد البر: جمهور علماء أمصار المسلمين على أن الصوم على من لا يشق عليه أفضل. وكان يمكن -أيها الإخوة- أن نكتفي بذلك؛ لأنها الخلاصة والنتيجة، ولكن سأتوسع فيها نظراً لما في هذه المسألة من مباحث عديدة، والخلاف فيها أكثر وأشد ما يكون بين طلبة العلم، والعامة لا يختلفون فيها اختلافاً شديداً، العامة يأخذون بما أفتاهم المفتي، ولكن النزاع والشدة إنما هي بين طلبة العلم، وموجب النزاع عندهم ليس هو حباً في المخالفة، ولكنه اختلاف في فهم النصوص الواردة. وهذه المسألة نص الله سبحانه وتعالى عليها في كتابه، ونص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ونص عليها الخلفاء الراشدون فيما أثر عنهم، وكذلك بقية الصحابة والتابعين. وقد ذكرت في كتاب الله مرتين، قال الله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] ، والمرة الثانية في نفس السياق: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهنا بين سبحانه وتعالى أن المريض -وفي حكمه المسافر والحامل و. إلخ- يعجز عن الصوم، والمسافر مثله، فإذا شق عليه الصوم فله أن يفطر، وعليه عدة من أيام أخر. ونجد قولاً غريباً يقول: إن الله أسقط صوم رمضان عن المسافر والمريض، ونقل فرضه إلى عدة من أيام أخر، فإذا صام وهو مسافر أو وهو مريض فلا يصح صومه؛ لأنه ليس من أهل رمضان، وإنما عليه عدة من أيام أخر! وهذا قول ابن حزم ومن وافقه. والجمهور يقولون: قوله سبحانه وتعالى: ((فمن كان مريضاً أو على سفر)) هل هو للمرض وللسفر فقط أو يوجد كلام مقدر؟ يوجد كلام مقدر لولا تقديره لكان في الآية خلل يتنزه كتاب الله عن ذلك، قالوا: وما هو الكلام المقدر؟ قالوا: ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر. وهذا عند علماء الأصول يسمى بدلالة الاقتضاء، أي: أن المقام اقتضى أن نقدر هذا القسم من القول ليلتئم الكلام ويصح، ومثل هذا ما في قصة موسى عليه السلام: {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ} [الأعراف:160] ، هل المعنى: لما قلنا له: اضرب بعصاك الحجر انبجست أو فضرب فانبجست؟ فضرب فانبجست، إذاً: التقدير بحسب الاقتضاء أسلوب عربي، والقرآن جاء به. فإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا المريض تحامل على مرضه وصام، فبإجماع المسلمين بلا نزاع أن صومه هذا يجزئه ما عدا ابن حزم، وكذلك يقولون: المسافر إذا تحمل الصوم وصام أجزأه، وهذا على مقتضى دلالة الاقتضاء: فأفطر فعدة. وابن حزم يأتي في نظيرها ويقول بدلالة الاقتضاء ولا يقول بها هنا! ففي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] ، فهو بنفسه في المحلى يقول: ليست الفدية للمرض ولا للأذى، ولكن نقدر: فحلق ففدية. فنقول: لماذا قدرت (فحلق) ورتبت الفدية على الحلق وليس على المرض والأذى ولم تقدر (فأفطر) في آية الصوم؟ فكما أن في محل الأذى من رأسه قدرنا فحلق، والفدية مرتبطة بحلق الرأس؛ فكذلك نقدر في الصوم، مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر مرتبة على دلالة الاقتضاء وهو (فأفطر) ، كما أنك قلت: فحلق ففدية، وهذا كلام لا غبار عليه، ولا ينبغي المكابرة فيه. إذاً: سياق القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى جعل للمريض والمسافر أن يفطرا في رمضان، ثم بعدد أيام فطرهما يقضيان عدة من أيام أخر. ونحن الآن في حكم المسافر فقط، فإذا سافر الإنسان وكان يستطيع الصوم، فهل عليه أن يفطر وجوباً ثم يقضي عدة من أيام أخر أم ننظر في حالة من استطاع الصوم أو لم يستطع؟ نأتي إلى أساس التشريع والتطبيق الفعلي من سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الحديث الذي ساقه جابر مستفيض عند علماء المسلمين، جاء عن ابن عباس وأبي هريرة و. إلخ؛ لأن هذا كان في عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وأصحاب رسول الله حوله، ومعه منهم العدد الكثير. إذاً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة صائماً، وفي بعض الروايات: لعشر خلون من رمضان. يعني: في يوم الحادي عشر من رمضان كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للفتح، وهناك من يقول: ليال خلون. هذا أجمل العدد، وهذا فصل العدد، والذي يهمنا أنه خرج في رمضان. وتتفق الروايات كلها أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وأنه خرج من المدينة صائماً، ويظل يصوم يومياً حتى بلغ كراع الغميم، وبعضهم يحدد إلى قديد -أي: بعد رابغ وقبل عسفان-، وتلك المنطقة تحتاج إلى سفر حوالى ستة أيام بالإبل، فمتى كانت مشروعية الصوم؟ في شعبان في السنة الثانية من الهجرة. إذاً: قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] كان قد مضى على نزولها ست سنوات، والمسلمون يحفظون ذلك، وبعد ست سنوات من نزولها يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، فهل أوجب على نفسه الفطر ونقل ما وجب عليه إلى عدة من أيام أخر أو أخذ بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) ؟ أخذ بأصل المشروعية، وهذا أمر واضح، فمضى صلى الله عليه وسلم صائماً ومن معه من الصوام، يقول ابن عباس: خرج في عشرة آلاف مقاتل، وأنس رضي الله تعالى عنه يقول: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في بعض الغزوات، منا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، إذاً: كان من أصحاب رسول الله عام الفتح من هو صائم ومن هو مفطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصائمين، وفي مجموع الروايات التي جاءت في أحداث المسير هذا أن بعض الناس قد شق عليه الصوم، ولكن ينظر إلى فعل رسول الله، فقيل: (يا رسول الله! إن الناس قد شق عليهم الصوم، وينظرون ما تفعل، فأخذ قدحاً، ووضعه على كفه بعد العصر، ثم شرب والناس حوله ينظرون) ، وفي بعض الآثار: (فأفطروا) ، وفي بعض الروايات الأخرى أنه مر على رجل يظلل عليه تحت شجرة، فقال: (ما باله، ما مرضه؟) قالوا: ليس بمريض، ولكنه صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر) ، فأخذ البعض أنه ليس من البر الصوم في السفر مطلقاً، وأن الفطر أفضل، ومسألة الأفضلية نؤجلها قليلاً، نحن نريد الآن أن نثبت جواز الصوم والفطر، وأن الصوم والفطر متعادلان، والتفضيل يأتي من جانب آخر، فإذا ثبت صحة الصوم في السفر انتهت نصف القضية، وبقي النصف الثاني: ما هو الأفضل؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) قال العلماء: لأنه صام إلى الحد الذي أغمي عليه فيه، وفي بعض الروايات: (كانت ناقته تطرح نفسها على الشجر) أي: لم يعد يتحكم فيها، فإذا وصل الحال بإنسان في الدوخة وفي الضعف إلى هذا الحد وعنده رخصة من الله ((عدة من أيام أخر)) ؛ فهل يكون البر بأن يلحق بنفسه هذا الأذى أو أن يأخذ برخصة الله ويكون معافى مع الناس؟ وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد كراع الغميم وصل إلى كديد، وكديد ماء عند قديدة -كما يقولون- قبل عسفان، فقال للناس: (لقد دنوتم من عدوكم) ، هل كانوا ذاهبين للنزهه أم حجة وعمرة أم ذاهبين للقتال؟ هم ذاهبون للقتال، وسيقاتلون أناساً في عقر دارهم، تحدٍ إلى أقصى حد، فقال: (إنكم دنوتم من عدوكم فأفطروا) ، فأصبح بعض الناس مفطراً، والبعض صائماً، ويقول أبو سعيد: لقد رأيتنا وما منا من أحد إلا ويضع الماء ويده على رأسه من شدة الحر، وليس فينا صائم إلا رسول الله وابن رواحة، فلما قال لهم: (أفطروا) أفطر البعض وظل البعض على صومه، فقيل له: (يا رسول الله! إنك أمرت بالفطر بالأمس، وأصبح البعض صائماً، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) كما في حديث جابر، والذين قالوا: لا يصح الصوم في السف

جواز الفطر والصوم في السفر والتفضيل بينهما

جواز الفطر والصوم في السفر والتفضيل بينهما إذا صح وثبت عندنا جواز الصوم في السفر، فسنرجع إلى النقطة الثانية: ما هو الأفضل؟ نجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في ذلك، فنجد ابن عمر رضي الله تعالى عنه ورواية عن عمر يريان بأن الفطر أفضل، ويقول ابن عمر: أرأيت لو أن إنساناً أهدى إليك هدية، فرفضتها، أكان يرضيه ذلك أم يغضبه؟ قال: يغضبه. قال: فالفطر صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته. ونجد الآخرين يقولون: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون معه في رمضان، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، إذاً: يستويان. ولكن في الحديث الذي جاء به المؤلف ثانياً أن رجلاً سأل رسول الله: إني كثير السفر، وكان يديم الصوم، وفي بعض الروايات أنه جاءه رجل هو أو غيره وقال: (يا رسول الله! إني صاحب ظهر أكريه) يعني: عندي من الإبل ما أكريه في نقل الأمتعة أو الأشخاص، وإني أحب أن أديم الصوم، وقد يصادفني الشهر وأنا في السفر، أأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، وفي بعض الروايات يقول: (يا رسول الله! إنه قد يأتيني الشهر في الشتاء، وأكره أن أفطر في الشتاء وأقضي في الصيف، فقال: صم إن شئت) ، وفي بعض الروايات: (إني أكره أن أفطر والناس صيام، ثم أصوم والناس مفطرون، فقال: صم) ، فإذاً الأمر دائر بين الأمرين، ووقع نزاع بين رجل وبين عروة بن الزبير، فقال أحدهما: أنا أفطر في السفر. وقال الثاني: أنا أصوم في السفر، وارتفعت أصواتهما، وهذا يقول: أنا أروي عن ابن عمر، والثاني يقول: أنا أروي عن عائشة؛ لأن عائشة كانت تصوم في السفر حتى أزلقها -يعني: أنحفها-، فارتفعت أصواتهما، وكان عندهما عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فقال: أوه! تتنازعون في ذلك! أيهما أيسر لكما فخذا به. وهذه القاعدة منطوق القرآن الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فإذا كان الصوم أيسر للإنسان بأن كان الصوم في شتاء، أو كان لا يحب أن يقضي وحده، أو كان لا يشق عليه؛ فالصوم أفضل، وإذا كان العكس: الحر شديد، والمشقة موجودة، والمسافة بعيدة؛ فيكون الفطر أولى، وهو منطوق قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فمسألة: أيهما أفضل الفطر أم الصوم؟ نقول: ترجع للإنسان في حد ذاته وظروفه في سفره، فلينظر أي الأمرين أيسر عليه فليأخذ به. وكما جاء عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: الصوم أفضل عندي - وأنس من رواة حديث الفطر- فذكرت له الأحاديث والآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فقال: كنا نسافر جياعاً، وننزل جياعاً، والآن نسافر شباعاً، وننزل شباعاً. يعني: من قبل كان يشق علينا الصوم، والآن ليس هناك مشقة. فإذا جئنا في الوقت الحاضر، وأراد إنسان أن يسافر السفر الذي تقصر فيه الصلاة، ويصح فيه الفطر، وركب السيارة أو الطائرة، ومن جهة الحر ومن جهة الجو فكما يقول العامة: السيارة مكيفة، والطائرة مكيفة إلى أن ينزل إلى بيته الثاني، والطعام ميسر معه أو في محل سفره حيثما نزل يجد الطعام، فليست هناك مشقة عليه تلحقه بسبب صومه، إذاً: مثل هذا نقول: الأيسر عليه الصوم. لكن قد يكون بعض الناس مع وفرة وسائل الراحة لا يتحمل الصوم في السفر، فنقول: يفطر، ونرجع إلى مقالة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أفضلهما أيسرهما، ويكون ذلك مرده إلى الإنسان في ذاته. ونوصي طلبة العلم: ألا يجعلوا من هذه المسألة مصدر خلافيات، ويثيرون فيما بينهم الجدل والنقاش على أن هذا أفضل أو ذاك أفضل، ومن أراد أن يقف على ما لا زائد عليه فيه، فليرجع إلى مسند علي عند الطبري، فسيجد ما لا يقل عن مائة أثر في هذا الباب، وذكر آراء العلماء سواء من الصحابة أو من التابعين، ويفصل القول في الترجيح، وأن من قدر على الصوم فالصوم في حقه أفضل، ومن شق عليه فالفطر في حقه أفضل، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (الفطر رخصة من الله)

شرح حديث: (الفطر رخصة من الله) قال رحمه الله: [وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إني أجد فيّ قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) رواه مسلم، وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن عمرو سأل] . هذا الحديث هو الفصل في المسألة السابقة، هذا الصحابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أجد في نفسي قوة على الصوم، فهل علي من حرج إن أنا صمت؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه لا حرج عليك، والذين يقولون بأن الفطر أفضل قالوا: غاية ما في هذا الحديث أنه رفع عنه الحرج، أما الفطر فلا حرج فيه، ولكن يقول العلماء: جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حرج عليك) ، إنما هو مطابق لسؤال السائل؛ لأن السائل قال: فهل علي من حرج؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بمقتضى سؤاله: (ليس عليك من حرج) ، وكونه ليس عليه من حرج لا يمنع أن يكون فعله أفضل. إذاً: هذا الحديث يكفي في الدلالة على صحة الصوم في السفر. كان في حياة والدنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه نزاع شديد جداً بين بعض الإخوة من طلبة العلم في أنواع المناسك، بعضهم يقول: لا يصح إلا التمتع فقط، وكانت هناك مباحثات، وتوسعت، فبعض المشايخ سأل والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في الفسحة الوسطى: أيهما أفضل من الأنساك الثلاثة؟ فقال: الأفضلية أمرها هين، ولكن يجب أن نعلم جميعاً أن المناسك كلها صحيحة، وليس هناك منسوخ منها، أما الأفضلية فبحسب ما ترجح عند البعض، والأئمة رحمهم الله اختلفوا فيما هو الأفضل، فـ الشافعي ومالك فضلا الإفراد، وأبو حنيفة فضل القران، وأحمد فضل التمتع، وهذه مسألة جانبية. فنحن كذلك هنا يهمنا في هذا الحديث الذي رواه مسلم، وله أصل في الصحيحين -أي: في البخاري ومسلم -، أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للرجل الذي يجد في نفسه قوة أن يصوم في السفر. ثم نحن نأتي بسؤال عام: هل فطر المسافر والمريض أصل التشريع أم رخصة بعد الشدة؟ إنما هي رخصة، إذاً: إذا كانت هناك رخصة وهناك عزيمة، والمكلف يستطيع أن يأخذ بالعزيمة، فأيهما أولى في التشريع؟ الأصل في ذلك العزيمة، وإنما ينتقل إلى الرخصة حينما يعجز عنها، فمثلاً الوضوء والتيمم، فالتيمم رخصة للمريض وعادم الماء، والأصل إنما هو الماء، وإنسان سليم معافى وعنده الماء فليستعمله، وهل يحق له أن يذهب للتيمم؟ لا؛ لأن التيمم رخصة عند انعدام الماء، فكذلك الصوم في السفر والفطر في السفر، الصوم عزيمة، والفطر في السفر رخصة إذا احتاجها، والرخص لا يعمل بها إلا عند الحاجة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا)

شرح حديث: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً) قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني والحاكم وصححاه] . هذه القضية تتعلق بالمرضى ومن في حكمهم، والمرضى على قسمين: قسم مرضه مؤقت عارض، ينتظر زواله، وتمتعه بالصحة، ومرض لا يرجى زواله، إما أن يكون مرضاً عضالاً -عافانا الله وإياكم- وإما أن يكون مرض الشيخوخة، والشيخوخة لا علاج لها إلا الشباب، وكما قيل: ليت شباباً بوع فاشتريته، و (ليت) لا تأتي بشيء. فإذا كان إنسان مريضاً مرضاً مزمناً، واتفق الأطباء على أنه لا شفاء له منه، وإنما يصحبه مدة حياته، وما قدر الله له أن يعيش، فهل ننتظر من هذا عدة من أيام أخر؟! لا ننتظر منه، كذلك الشيخ الكبير، وصل إلى التسعين أو المائة وتعدى إلى القرن الثاني، فهل ننتظر منه أن يعود إلى شبابه ليأتينا بعدة من أيام أخر؟ قالوا: لا، فهذان الصنفان: مريض بتلك الحالة أو كبير في السن إلى ذلك الحد؛ رخص الله لهما ابتداءً من أول الشهر، فلكل واحد منهما أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه لا ينتظر مجيء فرصة قضاء، وماذا يفعل؟ يطعم عن كل يوم مسكيناً، وهل يطعم ذلك يوم بيوم أو يؤجل ذلك كله إلى آخر الشهر أو يعجل هذا كله في أول الشهر؟ كل ذلك جائز باتفاق، وكان أنس رضي الله تعالى عنه حينما كبر، إذا دخل عليه رمضان جمع ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، ثم قال: يا رب! هذا إطعام عن صومي طيلة الشهر. إذاً: هذا ليس عليه صيام، ولا ينتظر منه قضاء، وإنما عليه إطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] ، يعني: إن أطعم عن اليوم مسكينين أو ثلاثة أو أكثر فلا مانع من ذلك، لكن يعرف الحد الأدنى وهو إطعام مسكين عن كل يوم، وما زاد بعد ذلك فهو تطوع منه. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [9]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [9] حديث الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان، من الأحاديث التي استخرج العلماء منها مئات الفوائد الفقهية، فحري بطالب العلم أن يهتم بدراسته، ومعرفة ما يؤخذ منه من المسائل والأحكام المتنوعة.

من أحكام الصيام

من أحكام الصيام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: هناك مباحث تتعلق بالصوم والفطر في السفر، وهي من متطلبات الوقت الحاضر، وفيها تتمة بيان أحكام الصيام، تلك المباحث هي: ما المسافة التي يفطر فيها الصائم؟ ومن أين يفطر الصائم؟ وإذا نزل منزلاً مؤقتاً فهل يصوم أو يفطر؟ وإذا عاد من سفره وعلم أنه سيدخل نهاراً، أيدخل مفطراً أم صائماً؟ وإذا دخل مفطراً فهل يمسك أو له أن يأكل بقية يومه؟ وإذا وجد زوجته مفطرة فهل له أن يأتي أهله؟ كل هذه النقاط من متطلبات بحث الفطر في السفر.

السفر الذي يفطر فيه الصائم

السفر الذي يفطر فيه الصائم أما مسافة السفر التي يفطر فيها الصائم فقد اتفق العلماء أنها هي المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وهذه قد حددت بالمكان والزمان، والمكان أضبط كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بين مكة وجدة، أو ما بين مكة والطائف، أو ما بين مكة وعسفان، وحددت بالمسافة أيضاً ذرعاً أربعة برد، والبريد ثلاثة فراسخ، والفرسخ أربعة أميال إلخ، وبالحساب المتعارف عليه اليوم هي حوالى الخمس والسبعين كيلو متراً، فإذا كان الصائم يسافر مسافة بهذا المقدار فإن هذه المسافة تعطيه حق الفطر، بصرف النظر عن نوعية وسيلة السفر، سافرها على الأقدام في يوم أو في عشرة، سافرها على الدواب في يوم أو في خمسة، سافرها على السيارة في يوم أو في ساعة، مطلق قطع هذه المسافة في رمضان فإنه يعطيه حق الفطر، سواء كان في السفر مشقة فعلاً أو لم يكن في السفر أدنى مشقة؛ لأن الأصوليين قالوا: الرخصة من أجل التيسير رفعاً للمشقة، ولما كانت المشقة ليست أمراً محدداً بعينه، ولكنها نسبية، فما كان مشقة في حق زيد قد لا يكون مشقة في حق عبيد، بل ما كان مشقة على زيد اليوم قد لا يكون مشقة عليه هو بنفسه غداً، فلاختلاف تحديد المشقة قالوا: إذاً: تناط بالسفر الذي هو مظنة المشقة، كما جاء: (السفر قطعة من العذاب) . فعلى هذا، فإن هذه المسافة إذا وجدت فللمسافر الحق في أن يفطر.

حكم من سافر في نهار رمضان

حكم من سافر في نهار رمضان إذا أراد أن يفطر في سفره فمتى ينشئ الفطر؟ نجد -يا إخوان- أن الأقوال متعددة، فهناك من يقول: من دخل عليه رمضان في بلده فلا يحق له أن يفطر إذا سافر؛ أخذاً بعموم قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، وهذا -كما يقول ابن عبد البر وغيره- قول لم يلتفت إليه أحد؛ لأن السنة جاءت بغير ذلك. وإذا حضر الشهر، وأراد أن يسافر أثناء الشهر، يوم ثلاثة أو يوم خمسة أو يوم عشرة، فمن حيث اليوم قالوا: إن كان قد طلع عليه الفجر وهو في بلده، فكما قدمنا في باب تبييت النية أن المسافر المتحقق السفر، والحائض المتحققة مجيء حيضتها غداً على كل منهما تبييت النية، فهذا المسافر سيسافر غداً، وهو حاجز، والتذكرة في جيبه، لكن عليه أن يبيت نية الصوم، فهو أصبح مبيتاً لنية الصوم، فإذا أراد ضحى النهار أن يسافر، فالجمهور -ومنهم المالكية والشافعية والأحناف- يقولون: هذا الشخص الذي أدرك جزءاً من هذا النهار مقيماً لا يحق له أن يفطر في هذا اليوم؛ لأنه بيّت النية، وصام جزءاً من النهار، فلا يبطل هذا الجزء، ويسافر ثم إذا أراد الفطر فيكون من الأيام التالية المقبلة. وإذا لم يطلع عليه الفجر في بلده، أراد أن يسافر، فتهيأ وجمع عدة السفر، وركب، وهو في طريقه في سفره طلع الفجر وهو في أطراف البلد، فهل يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها، فحينئذ له أن يفطر، كما قالوا في بداية قصر الصلاة: لا يجوز لإنسان أن يبدأ قصر الصلاة من بيته، بل إنما يبدأ القصر بعد أن يغادر حدود البلد، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه خرج من الكوفة، وواجهتهم صلاة العصر، فنزلوا في طرف البلد فصلوا أربع ركعات، فقيل لـ علي: ألسنا مسافرين؟! قال: بلى. قالوا: لماذا تتم ونحن قد خرجنا؟! قال: لولا هذا الخصيِّص -والخصّ: مثل الحجرة من أغصان الشجر وأعواده- لقصرت الصلاة. يعني: أن علياً رضي الله تعالى عنه اعتبر الخصيِّص هذا من توابع القرية، وأنه لم يخرج عنها كلية. إذاً: متى يبدأ المسافر فطره في سفره؟ القول الأول لم يلتفت إليه أحد من العلماء، والراجح أنه إذا سافر في أثناء النهار، وأدرك جزءاً من النهار في بلده، فهذا اليوم الأول لا يفطره، بل يمسك ويتم صومه، وينشئ الفطر بعد ذلك اليوم من أيام سفره، وإذا كان في البلد وأراد أن يفطر في صومه، فلا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها.

هل يفطر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة؟

هل يفطر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة؟ ما حكم الفطر للمسافر إذا نزل في أثناء سفره منزلاً لحاجة؟ لنفرض أن إنساناً سافر من المدينة إلى مكة لعمرة، أو سافر من المدينة إلى الشام لتجارة، وهو في رمضان، وكان يفطر أثناء السير في الطريق، فوصل البلد الذي يريده مؤقتاً، فهل يظل مفطراً بحكم السفر أو بمجرد وصوله إلى البلد الذي نزل فيه انقطع عنه حكم السفر؟ الجمهور قاطبة يقولون كما قالوا في قصر الصلاة: إن كانت إقامته في تلك البلدة المؤقتة أربعة أيام فأقل فله الفطر، ولكن يكون سراً، ولا يظهر فطره للناس، وإن كان أكثر من ذلك فليصم من أول يوم وصلها، وقالوا: إن دليل ذلك من الحالة والعرف، واقتباساً من النص أو الفعل الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم. وإن كانت إقامته في تلك البلدة مجهولة النهاية عنده، فيختلف الحكم عن الحالة الأولى التي عرف أنها أربعة أيام فأقل، وينقطع عنه حكم السفر، فإذا عرف أنها أربعة أيام فأكثر محددة، عشرين، شهر، أو أكثر أو أقل؛ فإنه يرتفع عنه حكم السفر ويصبح صائماً. وإذا لم تكن المدة معلومة، هل هي يوم أو أربعة أو عشرة أو عشرين؟ ويشبهون ذلك بمن يسافر برفقة غيره، كأتباع التجار وأتباع الأمراء وأتباع القادة، لا يعلمون متى تنتهي المهمة، وعندما يرجع المسئول عنهم يرجعون معه، ولم يخبروهم متى سنرجع أو متى سنرحل، فالمدة مجهولة عندهم، فإذا كان شخص كذلك ذهب إلى الشام للتجارة، أو ذهب إلى مكة عمرة، وجاءت شواغل وهو لا يدري متى تنتهي، العمرة معروف أمدها، لكن إذا كان في سفر آخر يريد أن يلقى فلاناً، يريد أن يصنع كذا، ولا يدري متى ينتهي التصنيع؛ فحينئذ له أن يفطر ويقصر إلى عشرين يوماً، وما زاد عن ذلك وجب عليه الصوم، هكذا يقولون فيمن أقام مدة لا يعلم مداها. والآخرون يقولون: ما دام قد وصل فعليه الصوم؛ لأن مشقة السفر قد انتهت عنه، ولكن يقولون: الثلاثة الأيام وما شابهها تتبع ما قبلها؛ لأنه لا يزال في عناء السفر، وسيواصل السفر بعدها.

حكم من رجع من سفره وهو مفطر في نهار رمضان

حكم من رجع من سفره وهو مفطر في نهار رمضان إذا انتهى المسافر من حاجته، وقدم إلى بلده، وهو في العودة إلى بلده، علم بحسب طبيعة السفر ووسيلة السفر أنه سيدخل بلده غداً في النهار، فإذا علم ذلك، فعليه أن يدخل بيته صائماً، ويروى عن بعضهم أنه أراد السفر في آخر الشهر -في خمسة وعشرين منه- فقال لأصحابه: (أرى الشهر تشعشع -تششع بمعنى: تخلخل- وكاد أن ينتهي، فأرى أن نحفظ شهرنا) ، فصام وسافر صائماً ليكمل صيام الشهر، فهذا عند البداية، وكذلك في العودة يقدم صائماً، يعني: يبيت الصوم من الليل ما دام أنه يعلم أنه سيصل إلى بلده أو إلى بيته نهاراً؛ لأنه إذا وصل إلى بيته مفطراً فسيمسك لحرمة الشهر، فما دام أنه سيمسك وتلحقه حرمة شهر رمضان؛ فيبيت النية ويصوم، ويدخل صائماً، أما إذا وصل نهاراً وكان مفطراً، فهل له أن يظل مفطراً بقية نهاره؟ الجمهور على أن الأولى له أن يمسك لحرمة الشهر. ونجد الخلاف في قضية قد تكون نادرة، ولكن الفقهاء رحمهم الله يذكرونها للتنبيه عليها: إذا قدم من سفره مفطراً، ودخل البلد مفطراً، فوجد زوجه كانت مريضة مفطرة وتعافت في نصف النهار، أو كانت فيها الدورة وارتفعت عنها ضحىً، فهي تمسك من أجل حرمة الشهر وستقضي هذا اليوم، فلو وجدها مفطرة بعد ارتفاع حيضتها وقبل مجيء الليل، فإذا واقع زوجه وهي على هذه الحالة، فهو مفطر للسفر، وهي مفطرة للدورة، فهل يكون عليه كفارة في ذلك أو ليس عليه شيء؟ المالكية والشافعية ينصون أنه لا شيء عليه، ونجد الخلاف عند غيرهم. إذاً: هذه مسائل من أراد الفطر في سفره في بداية أمره، وفي أثناء طريقة، وفي حالة عودته.

شرح حديث كفارة المجامع في رمضان

شرح حديث كفارة المجامع في رمضان قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا. فقال: أعلى أفقر منا؟ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه السبعة واللفظ لـ مسلم] . هذا حديث من أفسد صومه في رمضان بالجماع، والصوم يكون بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فإذا لم يمسك إحدى الشهوتين -شهوة البطن بأكل أو شرب، أو شهوة الفرج بوطء- فماذا يكون حكمه؟ المالكية والأحناف يقولون: من أفسد صومه بأكل أو شرب عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، وعندهم مبحث في نوعية الأكل -أي: للتغذي- وهذا لا حاجة للخوض فيه؛ لأنهم انفردوا بذلك، كما لو ابتلع حصاة فإنها غير طعام، فعندهم خلاف في المذهب، والمقدم عندهم أنه لا كفارة عليه، ويروى عن زفر ومحمد أنه إن فعل ذلك عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، ونحن نبحث في مسألة من أبطل صومه بأكل أو شرب عامداً، أما النسيان فقد تقدم الأمر فيه: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) . وأما الحنابلة والشافعية فعندهم أن من أبطل صومه بتعاطي الأكل أو الشرب أو ما يلحق به عامداً فإن عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنهم لا يجعلون الكفارة إلا في شهوة الفرج، وأن يكون بوطء حقيقي، وعلى هذا فمن أفسد صومه بوطء فهو الذي عليه الكفارة، وسيأتي التعليق أيضاً على ملحقات الأكل وملحقات الوطء.

روايات حديث المجامع في نهار رمضان

روايات حديث المجامع في نهار رمضان روايات هذا الحديث وطرقه تختلف في الإيراد، ففي بعضها وصف حالة مجيئه: (يضرب صدره، وينتف شعره، وينادي بالويل: هلكت وأهلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان - (واقعت أهلي) كناية عن الجماع، وهو حقيقة في الوطء، بخلاف مقدماته- فقال له صلى الله عليه وسلم: أتجد رقبة فتعتقها؟ فضرب على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا هذه. قال: أتستطيع صوم شهرين متتابعين؟ قال: والله! ما أهلكني إلا الصوم -أنا ما استطعت صيام رمضان فكيف أصوم شهرين متتابعين؟! - قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا -والله- ما عندي. قال: اجلس. فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -تنطق هذه الكلمة بتسكين الراء أو فتحها (عرْق أو عرَق) ، وهو نوع من الأوعية المصنوعة من خوص النخل، ويسمى قفة أو مقطف، ليس كبير الحجم- فناداه وقال: خذ هذا وتصدق به عن نفسك. فقال: يا رسول الله! أتصدق به؟! أعلى أفقر منا؟! والله -يا رسول الله- ما بين لابتيها أفقر مني) ، واللابتان: هما الحجارة السوداء المحيطة بالمدينة، ومعروفة بدايتها ونهايتها، فهي تأتي من الغرب من جهة سلطانة، وتدور من وراء قباء إلى قربان إلى أن تأتي إلى قريبة، وتقطع الخط إلى أن تنزل إلى المغرب مرة أخرى، وكما يقول بعض المؤرخين: اللابتان محيطتان بالمدينة كالحدوة للحصان، وليس لها إلا فتحة واحدة كالحدوة، وتلك الفتحة هي مجرى وادي العقيق، وهو المحل الذي احتفر فيه صلى الله عليه وسلم الخندق؛ لأن اللابتين حصن طبيعي للمدينة، لا تقوى الخيل ولا الإبل أن تقطعه، يعسر المشي عليه، فكان مدخل المدينة الوحيد يأتي من أبيار علي، ومع وادي العقيق إلى سلطانة، ويدخل من هناك من باب الشام، وهناك كان محل الخندق في طرف الحرة من جهة عمائر أو فلل المدني، ويمتد إلى أطم الشيخين من الجهة الأخرى. وعلى كل فقال: (ما بين لابتيها أحد أحوج إليه منا -هذا الذي تريدني أن أتصدق به لن أجد فقراء ولا محتاجين أشد حاجة إليه منا- فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: قم فأطعمه أهلك) . إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف أخذوا بهذا النص، وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر للوقاع، ولم يأمر أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُكَفِّر) فهذا النص: (أفطر) ، ولكن من صنيع مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب: (رجل أفطر فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكفر) ، وجاء بعده بهذا الحديث: (أعرابي جاء وقال) ، فبعض الناس يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث الأعرابي ليبين نوعية الفطر الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه. والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص عليه- فعليه الكفارة، والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.

حكم من أمنى في نهار رمضان بدون جماع أو أمذى

حكم من أمنى في نهار رمضان بدون جماع أو أمذى يناقش العلماء رحمهم الله مسألة: لو أن إنساناً باشر أهله ولكن لم يواقع -بمعنى: لم يولج-، فهل عليه في تلك المباشرة من شيء؟ يختلفون إن أمنى بالمباشرة دون الفرج، فـ مالك يقول: فيه كفارة، وغيره كالحنابلة والشافعية يقولون: لا، بل عليه القضاء، ويستغفر الله، ولا كفارة إلا بالإيلاج. وإذا باشر أهله ولم يمنِ، ولكنه أمذى، فما حكمه؟ مالك يقول: عليه قضاء يومه، وغيره يقول: المذي لا شيء فيه؛ لأن حكم المذي حكم البول. وإذا لم تكن مباشرة، ولكن كان هناك مقدمات المباشرة كالقبلة، اللمس، دوام النظر، دوام التفكير، هل هذا يتعارض مع صومه؟ قالوا: هذه الأشياء القبلة اللمس المداعبة دوام النظر تكرار الفكر، إن أحدثت منياً فـ مالك يقول: عليه القضاء والكفارة، والآخرون يقولون: إن أمنى بسببٍ كقبلة فعليه القضاء.

دقة الإمام مالك في الأصول

دقة الإمام مالك في الأصول سألت والدنا الشيخ الأمين عن صنيع مالك في الباب، حيث قرن حديث أبي هريرة مع حديث قصة الأعرابي، ولم أخذ مالك الكفارة في غير الجماع مع أن النص فيه: (واقعت أهلي) ؟ فقال: مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله العلماء بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، فهذا حكم موجود، ولكن بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] ، لكن تحقيق المناط في هذه القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما هو؟ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما هو جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق المماثلة في كل صيد على حدة هو تحقيق المناط. لكن التنقيح: هو كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من التبن، فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا هو التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات، ومالك زاد تنقيحه عليهم، والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف المناسب له، فقوله: (جاء رجل -هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب صدره، ينتف شعره -هل هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة أو كونه يضرب الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه تنقيحة تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت) ، فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت وأهلكت؟ لا، إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي غاية البساطة، وأسر إلى رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف المعتبر، وهو (واقعت) ، ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي زيادة، ما هي الزيادة -يا مالك - على هذا؟ قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه تستوي فيها (واقعت) و (أكلت) . ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه القضية: أن من انتهك حرمة رمضان فعليه القضاء والكفارة.

حكم من جامع في نهار رمضان ناسيا أو مكرها

حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً أو مكرهاً إذا واقع أهله ناسياً؟ تقدم في الأكل والشرب (إنما أطعمه الله وسقاه) ، فإذا جامع زوجته ناسياً وهي أيضاً ناسية أو متناسية، فهل تلحقه الكفارة للفعل أو لا تلحقه للنسيان؟ نرجع إلى تحقيق المناط: هل يمكن أن ينسى مثل هذا؟ يعني: هل يتصور أن إنساناً في رمضان ينسى بأنه صائم ويواقع أهله؟ فمن قال: يمكن ذلك، فلا شيء عليه بسبب النسيان. ومن نفى ذلك وقال: هذا مستحيل فوقائع الحال تشهد أنه مستحيل على إنسان يكون في رمضان صائماً، ثم في ضحى النهار ينسى أنه صائم ويواقع أهله! فإذا نسي هو وزوجته أو توطآ على النسيان؟ قالوا: إن أمكن أن يقع بالنسيان فلا مانع، كما قالوا في المكره: لو أكره على وقاع أهله، هل عليه كفارة؟ أو أكره الزوج زوجته فهل عليها كفارة؟ فمن تصور إمكان وقوع ذلك بالإكراه قال: لا شيء عليه؛ لأنه مكره (وما استكرهوا عليه) ، ومن استبعد أن يكون الإكراه في هذا الفعل قال: عليه كفارة، كما قال ابن تيمية رحمه الله وغيره: هذا الفعل لا يتأتى إلا بالاختيار، فإذا كان مكرهاً فليست عنده الصلاحية لأن يباشر هذا العمل. وقالوا: من قال: يمكن أن ينتصب ذكره ويباشر بإكراه السوط، أو إكراه القتل، أو إكراه كذا وكذا؛ فلا شيء عليه، ومن قال: لا يتأتى الإكراه، وإنما أكره في الأول ثم رغب في الحال، وباشر وهو راض راغب، فكان الإكراه في البداية، وكان الرضا في أثناء العمل، فعليه الكفارة. إذاً: تحقيق المناط في الإكراه والنسيان يتعلق به الكفارة وعدم الكفارة، وهذه مسائل نادرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء- بينوا هذه الوقائع، ولو كان وقوعها نادراً.

اختلاف العلماء في قدر الكفارة من الطعام

اختلاف العلماء في قدر الكفارة من الطعام يبحث الفقهاء في قوله: (عرق من تمر) ، كم كان فيه؟ الأقوال كثيرة: عشرون صاعاً، خمسة وعشرون صاعاً، أكثر أو أقل، وإذا قلنا: إن عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فهل الكفارة في هذا العمل على الترتيب المذكور أو هو بالخيار؟ الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أولاً عن إعتاق الرقبة، إذاً: أولاً: العتق، فإن لم يجد فصيام -كما يقول الفقهاء ككفارة الظهار- إذاً: يبدأ الذي عليه الكفارة بعتق الرقبة، فإن لم يجدها أو لم يجد قيمتها فالصيام، بعض الناس الآن يقولون: لا يوجد رقاب، والمال موجود ولكن لا يوجد رقاب، وهل يوجد في بعض البلدان الإسلامية أو لا يوجد؟ هذا شيء آخر. إذاً: بحسب الترتيب يبدأ بالعتق، فإن لم يجدها أو وجدت ولم يجد قيمتها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين، والتتابع في الشهرين شرط، فلو قطع التتابع بغير عذر استأنف من جديد، أما إذا قطع التتابع بعذر من مرض، أو امرأة كانت تكفر وجاءتها الدورة، وقطعت من أجل الدورة فتستأنف عند رفع المانع حالاً، فإنسان كان يصوم شهرين متتابعين وفاجأه المرض، وأعجزه عن الصوم، فأول ما يتعافى من مرضه ويستطيع الصوم يستأنف حالاً وهكذا. ثم إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، والستون مسكيناً كم إطعامهم؟ قدروا للمسكين نصف الصاع، يعني الصاع الذي يخرج به زكاة الفطر يكفي عن نفرين، فيكون خمسة عشر صاعاً من الطعام، سواء هيأ الطعام في بيته ودعاهم وأكلوا، أو أعطاهم إياه ليهيئوه عندهم، فإن أخرج تمراً فالتمر طعام جاهز، وإن أخرج الأرز -مثلاً- فهو طعام يصنع، وإن أخرج البر فيحتاج إلى طحن وغير ذلك، فبعض العلماء يقول: يجعل مع البر أو مع الأرز ما يصلحه، والبعض يقول: هو مقدار كافٍ. وعدد الستين هنا هل هو مقصود لذاته، فيطعم ستين شخصاً أو هو مقدار ما يطعم الستين حتى ولو أعطاه لستة أشخاص؟ فهناك من يقول: المراد مقدار ما يطعم الستين؛ لأن الغرض المقدار، ومالك يؤكد على أنه يجب أن يكون العدد ستين مسكيناً، ويقول: حينما يأكل طعامك ستة أشخاص فأنت تستفيد من استغفار ودعاء ستة نفر فقط، أما إذا جمعت العدد في الإطعام، ووزعت الكفارة على ستين شخصاً؛ فكل واحد سيستغفر لك، وكل واحد سيدعو لك، وكل واحد سيصوم بطعامك الذي قدمت له، ويكون لك زيادة وانفساح في الأجر.

هل على المرأة كفارة؟

هل على المرأة كفارة؟ الوقاع وقع من طرفين، فهل على المرأة كفارة أيضاً؟ وهل يتحملها الزوج أو لا كفارة عليها؟ هناك من يقول: لا كفارة عليها، والكفارة من الرجل تجزئ عن الوقاع، والمرأة لم تواقع، إنما هي محل العمل، والعمل للرجل. وهناك من يقول: لا، إن كانت مكرهة فلا شيء عليها، وكفارتها عليه، وإن كانت مطاوعة فعليها كما هو عليه أيضاً، ثم إن قلنا بأنها مكرهة، وألزمنا الزوج بالكفارة، فقالوا: الرسول لم يسأل الرجل: هل المرأة مطاوعة أو غير مطاوعة؟ والرسول لم يقل: اعتق رقبتين عنك وعن زوجك، إنما أفتاه فيما يتعلق بنفسه فقط، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الوقاع لا يكون إلا من طرفين، فلما سكت عن المرأة سكتنا. والآخرون يقولون: على حسب قواعد الأصول أو قواعد الفقه أو القياس أنه يلزمها الكفارة، فإذا قيل: إنها مكرهة، وقلنا: كفارتها على من أكرهها وهو زوجها، ونلزمه الكفارة من أجلها، فهل كفارتها مثل كفارته أم تختلف؟ إن كانت من ذوي الأموال فإن كفارتها العتق، فعليه أن يعتق عنها، ولو عجز عن العتق لنفسه، لكن هو لم يعتق عن نفسه فكيف يعتق عن غيره؟ وإن كانت كفارتها بالصوم فالصوم لا يصوم أحد عن أحد، بل تصوم هي، وإن كانت كفارتها بالإطعام أطعم عنها كما يطعم عن نفسه.

من عجز عن الكفارة فهل تبقى في ذمته؟

من عجز عن الكفارة فهل تبقى في ذمته؟ هذا الموطن من مباحث الصيام يتفرع عليه أشياء كثيرة، منها أنه صلى الله عليه وسلم: (أُتي بعرق بتمر، فقال: قم فأطعمه أهلك) ، فأطعمه أهله، فهل هذا هو مقدار الكفارة؟ بعضهم يقول: الباقي دين في عنقه، فهل الرسول قال له: كمل الباقي؟! الرسول ما قال له: أطعم هذا، وكمل ما بقي عليك من إطعام ستين مسكيناً، بل أعطاه الطعام وقال له: اذهب؛ ولذا هناك من يقول: المعدم يطعم قدر ما يستطيع، ويسقط عنه الباقي. ولا نستطيع أن نستوعب كل جزئيات هذه المسألة، ولعل في القدر الذي أوردناه الكفاية أو التنويه عن مسائل ومباحث هذه المسألة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً وإياكم لما يحبه ويرضاه!

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [10]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [10] ثبت عن السلف الصالح أنه كان يقع بينهم خلاف في بعض المسائل الشرعية، مثل خلافهم في حكم الرجل يصبح جنباً ثم يصوم، وكان خلافهم بأدب وسعة صدر ورجوع إلى الحق إن اتضح، وهكذا ينبغي أن يكون طلاب العلم؛ ولذا فمن الضروري معرفة آداب الخلاف، فبالتأدب بها يحصل الائتلاف.

شرح حديث: (كان يصبح جنبا ثم يغتسل ويصوم)

شرح حديث: (كان يصبح جنباً ثم يغتسل ويصوم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع، ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه، وزاد مسلم في حديث أم سلمة: (ولا يقضي) ] . هذا الحديث تتمة لمبحث من واقع في نهار رمضان، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وذلك في رمضان.

خلاف الصحابة في هذه المسألة

خلاف الصحابة في هذه المسألة حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هذا، ومثله عن عائشة رضي الله تعالى عنهما، وقعت فيه قضية في هذا المسجد النبوي الشريف، وذلك كما يروي مالك في الموطأ أن العلماء في مجلس مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة آنذاك- تذاكروا ما يكون منه الصوم والفطر، فقال قائل: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له. يعني: من باشر أهله ليلاً، ونام حتى طلع الفجر قبل أن يغتسل، فلا صوم له في ذلك اليوم. والاغتسال من الجنابة يجوز في أول الليل أو أوسطه أو آخره كما جاء في سنن البيهقي رحمه الله: (أن رجلاً سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معكِ وأنت حائض؟ قالت: نعم، كنت آخذ العظم فآكل ما عليه من اللحم، وأناوله رسول الله فيعرشه من بعدي، وأشرب القدح وأناوله رسول الله فيضع فاه في موضع فمي ويشرب. قال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: يا أماه! أكان صلى الله عليه وسلم يوتر من أول الليل أو من آخره؟ قالت: من كل الليل أوتر رسول الله -من أوله، من أوسطه، من آخره- قال: قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. قلت: يا أماه! أكان صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أو ينام ثم يغتسل؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل. فقال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) . وهنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه نقل عنه في هذا المجلس: أن من أخّر غسل الجنابة، وطلع عليه الفجر وهو جنب، فلا يصح صومه من الغد، فلما سمع مروان هذا الكلام، واختلف العلماء الذين عنده، قال لرجل عنده اذهب إلى أم المؤمنين أم سلمة فسلها عن ذلك، فذهب وسلّم وسألها، فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وسلوا عائشة) ، فذهب أيضاً إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت للسائل: أترغب عن سنة أبي القاسم يا فلان؟! قال: لا والله! ولكن تذاكرنا وأخبرنا إنسان عن أبي هريرة أنه قال: كذا وكذا. قالت: لا، ليس الأمر كما قال أبو هريرة (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي) ، فرجع وأخبر مراون ومن عنده بما أفادت به أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما. وإلى هنا يكون قد تبين الأمر، ولكن نظراً لوجود رأي مخالف، نجد منهجاً عظيماً نرجع إليه بعد نهاية هذه القضية، فقال مروان: يا عبد الرحمن! أقسمت عليك لتركبن دابتي وهي بالباب، وتذهب إلى أبي هريرة في بستانه بوادي العقيق -وبستانه هناك على طريق الهجرة -كما يقولون- وراء أرض السراني، أي: قريباً من ذي الحليفة- وتخبره بما حصل، قال: فذهب عبد الرحمن فسلم عليه، ثم تحدث معه قليلاً، ثم قال: يا أبا هريرة! لقد كنا في مجلس مروان، وتذاكرنا ما منه الصوم والفطر، فقال قائل: إنك تقول كذا، فأرسلني إلى أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة، فسألتهما، فأخبرتا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع لا احتلام فيغتسل ويصوم، فقال أبو هريرة: أو قالتا ذلك؟ قال: نعم، وسمعته منهما وبلغته للقوم، فقال: أما أنا فلا أدري، فقد أخبرني مخبر، وبعض الروايات تسمي هذا المخبر، وبعضها يسكت عنه، وحيث سكت أبو هريرة فنسكت عنه، والذي يهمنا أن عبد الرحمن رجع إلى مروان ومن عنده، وأخبره بما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه نزع عن هذا القول بعد أن بلغه خبر عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهت القضية برفع الخلاف، وانعقد الإجماع على صحة صوم من أصبح جنباً، وأنه يغتسل بعد الفجر ويكمل صومه. يقول علماء الأصول: إن صحة صوم من أصبح جنباً تؤخذ من باب الإيماء والتنبيه من كتاب الله، وقد نص على ذلك ابن عبد البر وقال: إن الله سبحانه أباح للصائم المباشرة ليلاً في قوله سبحانه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ، فإذا أباح الله ليلاً للصائم المباشرة والأكل والشرب حتى يتبين الفجر، لم يبق وقت لإيقاع الاغتسال إلا بعد الفجر، وهذا من دقة استنتاج العلماء رحمهم الله. إذاً: فقه الحديث، وصحة صوم من أصبح جنباً انتهينا منها، ويلحق بذلك أيضاً الحائض التي تطهر وترى القصة البيضاء قبل الفجر، ولكنها تتأخر في غسلها حتى يطلع عليها الفجر وهي طاهر لم تغتسل، فحكمها حكم الجنب الذي وقع منه سبب الجنابة ليلاً، وأدركه الفجر وهو بجنابته، فكذلك الحائضة أو النفساء إذا طهرت قبل الفجر، فإنها تغتسل بعد الفجر وتصوم ذلك اليوم. هذه المسألة أو هذه القضية قد انتهينا من موضعها الفقهي، وهو: صحة صوم من أصبح جنباً، ويزيدون في الاستدلال أيضاً ويقولون: الجنابة لا تمنع الصوم، لو أن صائماً في منتصف النهار نام فاحتلم، فهل الاحتلام في نهار رمضان يبطل صومه؟ لا يبطل صومه، ولا يلحقه في ذلك كفارة ولا قضاء ولا شيء، يغتسل لجنابة الاحتلام، وهو كغيره في باب الصوم سواء.

كيفية معرفة الراجح من الأقوال

كيفية معرفة الراجح من الأقوال في هذه الآونة نجد المسائل الخلافية لربما تناولها بعض الإخوة بشيء من الجدل، وبشيء من الشدة فيما بينهم، وكنت سابقاً قبل الاشتغال بالموطأ، والوقوف على هذه القضية، أدرس بداية المجتهد، وهو الكتاب الوحيد في بابه الذي يورد أسباب الخلاف، وعند كتاب زكاة الحلي وما فيها من خلاف وضعت منهجاً وقلت: لا يمكن لإنسان يريد أن يفهم مسألة خلافية إلا إذا تتبع خطوات أربع: الخطوة الأولى: معرفة الخلاف على ما هو عليه، فلان قال، فلان قال، فلان قال، احصِ الأقوال المختلفة. الخطوة الثانية: قف على دليل كل صاحب قول، هذا القول ما دليله؟ دون مناقشة. الخطوة الثالثة: إذا أحصيت الأقوال، ثم عرفت أدلتها عند أصحابها تساءلت مع الجميع عن دليل كل شخص آخر: لم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ وهذه الخطوات الثلاث تشبه عند المناطقة التصور. ثم تأتي الخطوة الرابعة النهائية، وهي: الترجيح والحكم، وهي ما تعادل عند المناطقة بالتصديق. فلما وقفت على قضية مروان هذه وجدتها طبق الأصل لما ذكرته من منهج تحقيق المسائل الخلافية، وبيان ذلك: مجلس منعقد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسألة فقهية أثيرت: هل الصائم الذي يصبح جنباً، يصح صومه أو لا يصح صومه؟ وجدنا الخلاف من طرفين: طرف يقول: لا يصح. وطرف يقول: يصح. ما مستند كلا القولين؟ مستند من يقول: لا يصح، ما جاء عن أبي هريرة، ومستند من يقول: يصح، ما يأتيه من أخبار أخرى، ولم يسمع بقول أبي هريرة، ومروان لم يعرف الدليل الثاني إلا بعد ذلك، فقبل أن يأخذ برأي أبي هريرة أو يرفضه احترمه ووقف عنده، ولكنه رد الأمر إلى أهله؛ لأن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بحاله الداخلي من غيره، ولما سأل جاءه الجواب، فتبين عند المجتمعين وجود القولين ووجود الدليلين، بقي حينئذ أن نسأل أبا هريرة عن قول عائشة: ماذا يجيب عليه؟ ولم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ فأرسل إليه بتلطف، ولم يستدعه إليهم، ولكن أرسل إليه في مكانه وسأله، فتبين أن ما قاله أبو هريرة لا يرفعه إلى رسول الله، بل يقول: أخبرني مخبر. فحينئذ يبقى الترجيح، وكيف نعادل بين دليل يقول: أخبرني مخبر. ودليل يقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويصبح صائماً؟ أعتقد أن الحق اتضح، والطريقة واضحة.

أدب الخلاف

أدب الخلاف ينبغي على طلبة العلم حينما يصادفون مسألة خلافية، أن يتأدبوا بأدب الخلاف، ولا يجوز لأصحاب الأقوال المختلفة أن يعنف أحدهم الآخر، ولا أن يسفه رأيه، ولا أن يطرح قوله، بل يعتبره إلى أن يصفي القضية، أنت قلت كذا، وأنا بلغني كذا، وهذا بلغه كذا، على ما تستندون؟ فإذا بحث كل منهم عن الحق، وكان الغرض من ذلك البحث الوصول إلى الحق، وليست نصرة الرأي، وليست شهوة الانتصار والغلبة، بل الغرض هو إصابة الحق، فالجميع يتعاونون ليصلوا معاً إلى معرفة الحق. ونظير ذلك أيضاً في هذا المسجد النبوي الشريف: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جلس مع بعض أصحابه، فتذاكروا الغسل من الجنابة، فقال قائل: إذا أولج ولم ينزل فلا غسل. وقال آخر: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل أنزل أو لم ينزل. فوقع الخلاف، هناك من يقول: لا غسل إلا إذا أنزل، والثاني يقول: مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وليس بشرط أن يُنزل. إذاً: الخلاف من شقين، وكل من الحاضرين يبدي ما عنده، فدخل عليهم علي رضي الله تعالى عنه، فسأله عمر: القوم اختلفوا، ماذا عندك؟ فقال علي رضي الله تعالى عنه لـ عمر: ولم تسألني وتسأل غيري من هؤلاء وبجوارك أمهات المؤمنين وهن أعلم بذلك؟! أرسل إليهن وسلهن. فقال: أحسنت، وأرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يفعله ويغتسل -يعني: يولج ولم ينزل ويغتسل- وقالت: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل -وهذا متفق عليه، ويزيد مسلم في روايته:- أنزل أو لم ينزل) ، وقد تقدم معنا هذا الحديث في نفس هذا الكتاب المبارك بلوغ المرام في باب الغسل. فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع قول عائشة أن هذا فعل رسول الله، ثم يسمع بعد ذلك ما يخالف هذا قال: والله! لن أوتى بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره -أدبت به غيره- فقال أبي بن كعب: على رسلك يا أمير المؤمنين! أنا أخبرك -أي: لماذا كان هذا الخلاف، وهذه هي نتيجة رجوع طالب العلم للسلف وعلماء الأمة؛ لأنهم جمعوا شتات المسائل- أنا أخبرك لماذا اختلفوا وما هو السبب- كنا في بادئ الأمر لا غسل إلا من إنزال، ثم بعد ذلك عُزم علينا، وأصبح إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، فكنا في بادئ الأمر: (إنما الماء من الماء) ، فإذا ما جامع ولم ينزل المني فلا ماء للغسل (الماء من الماء) الماء الذي هو ماء الغسل من الماء الذي هو ماء المني، ثم عزم علينا أن نغتسل. فهذا مجلس بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في مسألة تعم بها البلوى في كل البيوت، فالمباشرة أمر طبيعي، ويختلفون في حكم من جامع ولم ينزل: أيغتسل أو لا يغتسل؟ إذاً: كانت هناك مسائل ربما تخفى على بعض الناس، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه طرفاً في هذه المسألة. إذاً: لا غرو أن تخفى بعض المسائل على كبار أصحاب رسول الله، أو على صغار أصحاب رسول الله، أو على كبار التابعين، ثم بعد ذلك مع البحث والتنقيب يطلع على الراجح، ومن هنا كان السلف من التابعين ومن يأتي بعدهم أجمع لجزئيات المسائل، وانتهى الخلاف فيما يتعلق بهذه القضية، وأصبحت مطردة (إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل) . أمر يتعلق بالإخوة طلبة العلم في الدراسات العليا، وهو بعيد عن أحكام الصيام، ولكن له صلة بالأصل العلمي الفقهي، وهو ما نراه في الآونة الأخيرة أو المتقدمة قليلاً، حيث يقوم طالب علم مجتهد فيختار لموضوع رسالته (فقه فلان) ، مثل كتاب فقه سعيد بن المسيب في حوالى سبعة أو ثمانية مجلدات، فقه إبراهيم النخعي، فقه مجاهد، فقه ابن المبارك، وينفرد الطالب ببحث مسائل فقهية وردت عن صحابي أو تابعي. وأقول: أيها الإخوة! هل هذا الصحابي أو هذا التابعي قد جمع جميع مسائل الفقه الاختلافية والاتفاقية؟ لا يمكن أن يدعي ذلك أحد، فإذا ما اقتصرنا على مسائله التي وردت عنه فأين بقية مسائل الفقه؟ وإذا اقتصرنا عليها هل نأخذ بها ونترك غيرها؟ وهل نتمذهب بمذهبه فتصبح عندنا عشرات المذاهب، والناس يضيقون ذرعاً بالأربعة؟ الحقيقة إنه ترف علمي، أما عملياً بالنسبة لخدمة الفقه الإسلامي فلا أعتقد ذلك، بخلاف الموسوعات العلمية، فمثلاً البخاري في صحيحه ما اقتصر على صحابي، ولا على تابعي، وإنما جمع ما صح عنده، وليس كل ما صح عنده جمعه، إنما أودع لنا في صحيحه من الصحيح فقط دون الضعيف، ولكن لا يقتصر في الباب على ذكر صحابي، بل يأتي ما حضره من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، فيقف طالب العلم على آراء جملة من الصحابة في الباب الواحد، وحينئذ يكون أدعى إلى استيعاب النصوص في هذه المسألة أو في هذا الباب، وتنظر -مثلاً- في فتح الباري، فتجد أنه يطوف في آفاق أوسع من البخاري عشرات المرات، ويأتينا بالنصوص عن أصحاب السنن جميعاً، وعن أصحاب رسول الله جميعاً، فيجمع لك المسألة بأطرافها، وكما قيل: لا هجرة بعد الفتح، تستغني به عن غيره، ولا تستغني بغيره عنه؛ لأنه جمع ما لم يجمعه غيره.

سعة الصدر في مسائل الاجتهاد

سعة الصدر في مسائل الاجتهاد المنهج العلمي في بحث المسائل الخلافية، يكون بالرفق وحسن القصد، وينبغي أن تكون الغاية عند الباحثين إنما هي الوصول إلى الحق. ونجد جزئية هي كلية بالنسبة إلينا: فـ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحابي جليل، سمع أن عائشة رضي الله تعالى عنها روت خلاف ما سمع هو، فهل تعصب لما سمع؟ هل بقي على ما كان عليه؟ بل إنه حالاً نزع عما كان عليه، ورجع إلى الحق، وهذه هي سمة طلاب العلم، والرجوع إلى الحق أحق. فالإنصاف من سمات علماء المسلمين حقاً، وفي هذا المسجد النبوي الشريف كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في درسه في رمضان بعد العصر كهذا الوقت، وكان يتكلم على الأشهر الحرم، ثم قال: وليعلم الإخوة أننا كنا تكلمنا عنها سابقاً، وظننا أنها قد نسخت بآيات القتال، ثم الآن تبين لنا أنها لم تنسخ، وأنها محكمة، وأن حرمتها باقية؛ ولهذا وجب التنبيه على ذلك! مسألة تكلم فيها، ومضى عليها زمن طويل، وسمع بها من سمع، ولم يسأله أحد، ولن يطالبه أحد بالتدقيق في ذلك، ولم يناقشه أحد فيما قال، ولكنها أمانة العلم، ولكنه الوفاء للحق، ولكنه الرجوع إلى الله وإلى الحق، يعلنها في المكان الذي أعلن فيه الرأي الأول! أيها الإخوة! إن أجمل ما يتحلى به طالب العلم هو سرعة الرجوع إلى الحق حينما يتبين له، ومن هنا نعلم حقيقة أن غرضه وقصده وغايته من طلب العلم إنما هو الحق، ولا شيء سوى الحق. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً -أيها الإخوة- إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

التشاور قبل الاجتهاد في معرفة الراجح من الأقوال

التشاور قبل الاجتهاد في معرفة الراجح من الأقوال ينبغي لطالب العلم أو المسئول أو العالم إذا واجهته قضية ليس عنده فيها نص، وليس عنده فيها ما يعتمد عليه؛ أن يتوقف ويستشير، ويبحث ما استطاع ليصل إلى الحقيقة، فإن وجد من القواعد والنصوص والأصول ما يبني عليه قوله فالحمد لله، وإلا اجتهد طاقته والتوفيق من عند الله. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سافر إلى الشام، وفي قرية بينه وبين الشام نزل، وجاءه القواد بالشام ليستقبلوه، ثم أخبر بأن الطاعون قد نزل بالشام، فماذا يفعل؟ أيقدم بالقوم على الطاعون فيهلكهم أم يرجع عن مسيره الذي خرج إليه؟ ما استبد برأيه، مع أن عمر يسمى الملهم، إذا سار في طريق شرد الشيطان منه، وقد نزل الوحي موافقاً لرأيه في عدة مواطن، ماذا فعل؟ دعا مشيخة المهاجرين، فجيء بمشيخة المهاجرين فسألهم فاختلفوا عليه، منهم من قال: امضِ إلى ما خرجت إليه، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء، قال: قوموا عني. ثم دعا مشيخة الأنصار فسألهم، فاختلفوا عليه، منهم من قال: امض إلى ما خرجت إليه متوكلاً على الله، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء. قال: قوموا عني. ثم طلب مشيخة قريش، فاجتمعوا عنده وسألهم، فما اختلف عليه واحد فيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يرجع بمن معه، فلما كان الليل قال: إني مصبح على ظهر -يعني: راكب راجع- فجاء عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً من قبل، وسمع بالذي حدث، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم -إذاً: ظهر النور- قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل الطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها) ، فحمد الله عمر وكبر، وشرح الله صدره، وفرح بأن اجتهاده بأنه مصبح على ظهر راجعاً موافق لما جاءه من هذا العلم النبوي الشريف، وهو أننا إذا سمعنا به في أرض فلا ندخلها. أيها الإخوة! ليس هناك من يدعي علم عمر، ولا خيال علم عمر، وليس عندنا من يدعي ورع عمر، إذاً: مع فضله وجلالة قدره، وهو الخليفة، وله الحق في أن يشرع ما لم يكن فيه نص (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ؛ ومع ذلك يستشير، ويبذل الجهد حتى يفرغ ما في وسعه، ثم يجتهد ويستقر رأيه على جهة، ثم يأتيه العلم مطابقاً لرأيه الذي استقر عليه. وقد سمعت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في مسألة: والله! لقد مكثت عشر سنوات وأنا أبحث عنها حتى وجدتها في كتاب الله! إذاً: طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة أو واجهته مشكلة أو قضية لا يبادر، ولا يسارع، سواء كانت فتوى، أو كانت علماً، أو كان غير ذلك، بل يستشير ويبذل الوسع، ويراجع، ونحن في الوقت الحاضر أمامنا -ولله الحمد- مصادر التشريع من كتب التفسير ومن كتب الحديث. ابن تيمية رحمه الله الذي عاش ومات وحياته كلها في العلم، ويمكن أن تقول: قد عجن بماء العلم؛ يقول: كنت أقرأ للآية مائة تفسير، وأقول: اللهم! يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، لم يقتصر على تفسيرين أو على عشرة أو عشرين، يقرأ مائة تفسير في الآية الواحدة؛ ليطلع على آراء العلماء؛ ليستوعب الأقوال فيها، والشيء بالشيء يذكر، اليوم نكون في جولة في هذا الموضوع.

سبب اقتصار الشنقيطي على تدريس التفسير والأصول

سبب اقتصار الشنقيطي على تدريس التفسير والأصول سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ! أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله. قال: وما هو؟ وكان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب، وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير وهكذا. فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟! قلت: الذي حملني عليه أن هذا السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا حنيفة! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وفقه وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط! قال: نعم، أما رواية الحديث فإن هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا لست في حاجة إلى هذا. أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا. وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون. أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به. فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا. قلت: وأنت؟ قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية. وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست بغاية. قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً. وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه. إلخ. وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة؟ بجميع أطرافها هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك، وهنا في المدينة يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب. أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها! ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من علماء التفسير جميعاً! قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على تدريس التفسير، والأصول ما هو السبب في تدريسه؟ قال: نعم، أما الأصول فهو ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال: ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي. ويأتي. وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله. والذي يهمني من هذا أن طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة وأشكلت عليه، فلا يستنكف عن المشاورة والسؤال، بل يبحث ويجتهد، لعل الله أن يفتح عليه، فهو يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها، يعني: لو راجعنا جميع كتب التفاسير الموجودة، والخلافات عن أئمة التفسير لوجدناه محصلاً إياها!! وهكذا أقول: ينبغي لطالب العلم إذا تعرض لمسألة أن يجمع أكثر ما قيل فيها، ليكون على بينة من أمره. ولكن لو عمل الجميع بهذا لما وجدنا من يستطيع أن يجلس يدرس الناس، فإذا وجدنا عُشر ذلك ففيه البركة والخير. والله أسال أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.

بركة طلب العلم في المسجد النبوي

بركة طلب العلم في المسجد النبوي أقول: يا إخوان! ما وجدنا أيسر تحصيلاً وأكثر بركة في طلب العلم من هذا المسجد النبوي الشريف، جئت إلى شيخنا الأمين مرة وقلت: يا شيخ! يطرأ لي أن أبحث عن مسألة في البيت، وأتطلبها في مظانها جميعاً، فيتعذر علي الوقوف عليها، فأصر على أني أتجاوزها، فيصادف بعض الأحيان حينما آتي إلى المسجد النبوي وأضع إحدى قدماي في المسجد، وقبل أن أدخل الثانية، إذا به يخطر على بالي حكم المسألة! فإذا به يقول: لست وحدك! قلت له: كيف لست وحدي؟! قال: وأنا يحصل هذا عندي، أستشكل الأمر، ويطول إشكاله عندي، فإذا ألقيت الدرس في المسجد النبوي ألهمني الله الجواب! ولهذا -أيها الإخوة- حث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم في هذا المسجد، فقال: (من راح أو غدا إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) . والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، والله! الحديث ذو شجون! وبالمناسبة أيها الإخوة: أحمل طلبة العلم بالمدينة ما حملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي عنه أنه قال: (يا معشر أهل المدينة! إن الناس لكم تبع، وستفتح الأمصار، ويأتي رجال يطلبون العلم -أي: هنا- فآووهم وعلموهم) ، وكان سعيد بن المسيب إذا جاء واحد من خارج المدينة لطلب العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله. وهذا هو الواجب على من أكرمه الله سبحانه بطلب العلم في المسجد النبوي، فإذا جاء طالب جديد فينبغي أن يشرح له صدره، وأن يوسع له باله، وأن ييسر له طريقه، وأن يبذل ما في وسعه لمساعدته لطلب العلم. والله الموفق.

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [11]

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [11] مسألة انتفاع الميت بعمل الحي، من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والجدال، فينبغي لطالب العلم أن يعرف خلاف العلماء فيها، ودليل كل قول فيها، ولعله بهذا يتضح له الصواب، وعليه ألا ينكر على من خالفه؛ لأن مخالفته مبنية على أدلة، ومن عرف أقوال العلماء وأدلتهم اتسع صدره، وكثر علمه.

شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)

شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه] . موضوع هذا الحديث -وهو صيام الحي عن الميت- جزء من قضية كبرى، ألا وهي: مدى انتفاع الميت بعمل الحي. وقوله في هذا الحديث: (من مات) ، (من) من صيغ العموم تشمل الرجل والمرأة. وقوله: (وعليه صيام) الصيام جنس، هناك صوم الفريضة، وصوم النافلة، أما صوم النافلة فليس بداخل هنا؛ لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه) ، والنافلة لا تكون ديناً على الميت؛ لأنها غير واجبة، والصوم الواجب ينقسم إلى قسمين: واجب بتكليف من الله، وهو صوم شهر رمضان، وواجب بتكليف الإنسان نفسه دون أن يكون واجباً عليه، وهذا في صوم النذر والكفارات، فالنذر جائز، ولكن الإنسان هو الذي يلزم نفسه به. قوله: (من مات وعليه صوم) صوم هنا نكرة، وتشمل الفرض بتكليف من الله، والواجب بتكليف الإنسان نفسه به. وقوله: (صام عنه وليه) وليه أي: من أقاربه، وولي الإنسان أول من يدخل فيه عصبته، والولي هنا ليس خاصاً بالرجال، بل يدخل فيه النسوة، فعلى القول بالصوم عن الميت، لو أن أبناء الميت وبناته وزوجاته صاموا عنه بتقسيم الأيام بينهم أجزأ، ولكن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء، هناك أحاديث فيها عموم انتفاع الميت بعمل الحي، وهناك نص في خصوص الصلاة والصوم، وهناك نص: (لا يصم أحد عن أحد، ولا يصلِ أحد عن أحد) ، ومن هنا وقع الخلاف فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه أم لا؟ قيل: (يصوم عنه) بمعنى: يطعم؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام. والذين يجيزون عمل الحي عن الميت قالوا: هذا الحديث نص بأنه يصوم عنه. والمانعون يقولون: من مات وعليه صوم المراد به: صوم النذر؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه به، بخلاف صوم رمضان، فالله كلفه، والله أماته؛ فلا شيء عليه.

هل ينتفع الميت بعمل الحي؟

هل ينتفع الميت بعمل الحي؟ ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟ ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح ذلك مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل ذلك ويقول: لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور بين هذا وذاك، وقسموا أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى قسمين: عبادة مالية، وعبادة بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج، الجهاد، كل هذه من أعمال البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال: كالصدقة، سداد الديون، وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية. نقل ابن عبد البر وابن تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن الميت ينتفع بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً، وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام ونحوه. وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً- أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال: أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن على أمكِ- ديناً فقضيتيه، أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) . فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء الحج عن الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن الميت، فقالوا: إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين -ولو كانت عنده تركة تسدد الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد- فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط عنه الطلب، وبرئت ذمته. وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، عليه دين. قال: صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه. فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه ديناران. فقال: صلوا عليه أنتم. فقام أبو قتادة رضي الله تعالى عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي. قال: في ذمتك؟ قال: نعم. قال: برئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) . ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه لذويه) ، وصار صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال الصدقات. إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء تصدق عنه بنقد أو بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة عن خديجة) ، وخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة ما كان يفعل ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة تلحق النسوة: خديجة خديجة حتى بعد الممات خديجة! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها أحد معه في أشد الحالات، عندما رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال: (زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي) ، ما جلست بجواره تبكي، ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها، فقالت له: والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل. وأخذت تعدد من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي ألمَّ به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني زملوني) قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من قبلهم، ليتني كنت فيها جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك فأنصرك. فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟!) قال: نعم، ما جاء أحد قوماً بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي. فهذه هي خديجة! ولما اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب الكفار صحيفة المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة! لقد أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء) ، فشق عليها ذلك، وجمعت سادة قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد، والله! لا أسأله عن شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه. هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل. فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى. قالت: قم فاجلس في حجري. فقام فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي. فقعد على فخذها الأيمن، ثم الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه، فحسرت عن رأسها -كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس شيطاناً، إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري) . ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى جبل أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة؟! قالت: لي حاجة. قال: أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر من قصب، لا نصب فيه ولا صخب. فكان صلى الله عليه وسلم يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما لي لا أفعل ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟!) . والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة. إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد دين، أو أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.

خلاف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى

خلاف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها النزاع. إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة البدنية: الصلاة، والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله -والطحاوي من علماء القرن الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء القرن السابع أو السادس-: إن الحج عبادة بدنية، والفقهاء يقولون: هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول: الحقيقة أنه بدني محض، والمال مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل مكة يتعين عليه الحج ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج إلى المال للسفر وللسكنى. إلخ. وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج غيره عنه، كما جاء في سؤال الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟ إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال: إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها أن يهلك، أفحج عنه؟ قال: (نعم) ، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة. فقال: (ومن شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة) . إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف عند المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ، قيل: لا يحج عنه، هو الذي قصر في نفسه. والآخرون يقولون -كما يقول الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج، وبقي في ذمته فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه من بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة. فهذا الشافعي يوجبه وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث، ولا يقدم عليه إلا الدين. إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل بدني- يجزئ عن الميت، فمن مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره، وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه، فيكون له أجر حج النافلة، وللحاج عنه مثل ذلك الأجر. بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام، وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة القرآن للموتى. أما الصلاة: فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد) ، وبعضهم ينازع في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتبر من كانا يبرانه) يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما، فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب بر أبويه بعد موتهما: (أن تصلي لهما مع صلاتك) ، فقال في هذه الكلمة (تصلي لهما) ، لكن نجد المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن الأصوليين يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع والسجود والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله: (صلاتك) أي: ذات الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي: الدعاء! فإما أن تجعلوها الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون يمنعون ذلك. فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي لهما، وليس المراد: صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) ، ولكن ذلك في النافلة، أصلي ركعتين وأقول: لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي. وقوله: (وتصوم لهما مع صومك) ، في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك تصوم أيضاً تطوعاً لهما. وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من مات وعليه صوم، صام عنه وليه) ، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين عنه.

حكم الدعاء للميت وقراءة القرآن له

حكم الدعاء للميت وقراءة القرآن له هل ينتفع الميت بالدعاء؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه العبادة ينتفع بها الميت بإجماع المسلمين، ومن جحدها فقد كفر، يقول: نصلي صلاة الجنازة إذا مات الميت ولا نعرفه، فتشرع الصلاة عليه، وهي تشتمل على الفاتحة، والصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، فإذا كان الميت لا يستفيد ولا ينتفع من دعاء الأحياء لما كان للصلاة عليه فائدة، وفي القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] ، فهذا القرآن يسجل دعوات المسلمين الأحياء للمسلمين السابقين بالإيمان، وهذا جائز بإجماع المسلمين. وقالوا: كذلك تلاوة القرآن؛ لأنها عبادة بدنية قولية، فإذا قرأ الإنسان قرآناً يبتغي به وجه الله، ثم جعل هذا القرآن لميته وصله، يقول ابن تيمية رحمه الله: هذا باتفاق العلماء، وإنما نازع في ذلك الشافعي رحمه الله، وبعض أتباع المذاهب الأخرى، ويلحق بالقرآن الذكر والدعاء، فإذا سبح الله كذا، استغفر الله كذا، كبر الله كذا، وقال: يا رب! هذا لميتي. فإنه يصله، وأطال الكلام في ذلك، وروى ذلك عن كثير من سلف الأمة، وذكر نزاع الناس في مسألة التردد إلى القبر لقراءة القرآن، قال: أما في أول مرة عند دفنه فيجوز؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أهله إذا دفنوه، أن يمكث الماكث عند قبره، ويقرأ أوائل سورة البقرة وخواتيمها وخواتيم سورة الحشر، أما أن يتردد ويتخذ ذلك عادة، فقال: هذا لم يفعله السلف، وليس بجائز. ولو كان إنسان لا يقرأ، هل يجوز أن يستأجر من يقرأ؟ قال ابن تيمية: هذا عمل لم يعمله السلف قط. ولكن إن كان ولي الميت أعطى من يقرأ لميته نظرنا: هل هو فقير أو غني؟ فإن كان غنياً فليس له ولا لميته شيء من ذلك؛ لأن من أخذ الأجرة من الخلق فليس له عند الخالق أجر؛ لأن الثواب مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وهو أخذ نقداً ممن أعطاه، فتعجل الأجر مسبقاً فلا أجر له عند الله، إذاً: ليس عنده ما يهديه للميت. وأما إن كان الآخذ فقيراً، وأخذ المال ليستعين به على القراءة؛ فإن له ذلك، وأقل ما يكون أن ما دفعه ولي الميت لهذا القارئ من سبيل الصدقة؛ لأنه فقير محتاج. نخلص من هذا كله -أيها الإخوة- أن هذه النصوص في هذه القضية تثبت استفادة الميت من عمل الحي.

أدلة من قالوا: لا ينتفع الميت بعمل الحي

أدلة من قالوا: لا ينتفع الميت بعمل الحي نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب، أنه لابد أن نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين منعوا استفادة الميت من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية) ، وجاء في القرآن الكريم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] . ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة متعددة، وخلاصة ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما عمله بالواسطة الذي تسبب به في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية، مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً، حفر بئراً، بنى مسكناً للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله، فيقولان: هذا الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة، وكان يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛ فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له، فهذه القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو عمله؟ هو حسن علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم له، وتذكرهم له بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من عمله. وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره، نعم إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء، فهذا الذي سعى بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما أصبح سعيه له فهو حر فيه: إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت، فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما أصبح ملكاً له، فله أن يضعه حيث شاء. وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي الخدمة لمن استأجره ويأخذ الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده، يعطيها لولده، وله أن يعطيها للميت كما يعطي الآخرين. قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع صومك، وتصلي لهما مع صلاتك) ، وقوله: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وبين حديث: (انقطع عمله) ، فهذا عمله الشخصي، ولم يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال: (انقطع عمله) هو، ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة من عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة. قالوا: وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل له في ذلك. أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب الأول، وهو: أن الميت ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً أو بدنياً، وذكرنا القول المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء عنها، وبالله تعالى التوفيق. ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه لا صيام عن الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ عنه، وبرئت ذمته من ذلك، والله تعالى أعلم.

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1]

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1] الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من الحج كما في الحديث (الحج عرفة) ، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم به النعمة، وهو أفضل أيام السنة، ولذا ندب الشرع من لم يحج في سنته من العباد إلى صيامه، وجعل صيامه مكفراً لسنتين: سنة ماضية وسنة باقية.

فضل صوم يوم عرفة

فضل صوم يوم عرفة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه) رواه مسلم] . بدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن صوم يوم عرفة، وغيره من المؤلفين ربما بدءوا بحديث صوم يوم عاشوراء؛ لأنه أسبق، والنصوص فيه أكثر، وهو بالترتيب الزمني في محرم وهو أول أشهر السنة، ثم يأتي بعده رجب، ويأتي بعده شعبان، وبعده رمضان، وبعده شوال وهكذا إلى العشر من ذي الحجة، إلى التاسع وهو يوم عرفات، ثم الأيام المنهي عنها: يوم العيد، وأيام التشريق. ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل) ، وكونه سئل أي: أنه لم يأتِ الأمر منه صلى الله عليه وسلم ابتداءً كأن يقول: (صوموا يوم عرفة، فإن فرضه كذا وكذا) ، ولكنه في هذا الحديث سئل فأجاب، ومن هنا يقول بعض العلماء: ما كان جواباً عن سؤال قد يكون قضية عين، ولكن قضية العين تتعلق بشخص أو جماعة محدودة بأعيانهم، وأما السؤال هنا فهو عن اليوم.

الفرق بين عرفة وعرفات وسبب هذه التسمية

الفرق بين عرفة وعرفات وسبب هذه التسمية (سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة) ، يقال: عرفة وعرفات بالتاء يقول علماء اللغة: عرفة اسم للزمان ولليوم، وعرفات بالتاء: اسم للمكان، وهو موضع بمكة، كأذرعات موضع بالشام. يوم عرفة -كما يقولون- في تاريخ المناسك: أنه سمي عرفة؛ لأن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما نزل من السماء إلى الأرض، واختلف هو وحواء، ساح في الأرض ما شاء الله ثم لقيها في ذلك المكان فتعارفا فسمي عرفة، هذا القول الأول، وأعتقد أن هذا بعيد، فما هو الذي فرق بينهما لما نزلا من الجنة وهما نزلا معاً؟! القول الثاني: في سبب تسميته بعرفة أن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما بنى البيت وأُمر أن يؤذن في الناس بالحج، قال: {رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة:128] ، فأرسل الله له جبريل وخرج معه إلى منى، وبيّن له مواقع الجمرات، وذهب معه إلى المشعر الحرام، وأخيراً ذهب معه إلى عرفات، وبيّن له الموقف، ثم قال له: (أعرفت المناسك؟ قال: عرفت) فسميت عرفات؛ لأنه استعرفه على ما عرّفه عليه من المناسك. وهناك قول ثالث وهو: أنه سمي عرفات؛ لأن العالم الإسلامي يأتي من كل فج عميق فيتعارفون في ذلك المكان، ومهما يكن من سبب التسمية فقد أصبحت الآن كلمة عرفة مشهورة، وعرفات علم وتنوسي فيه الوصف، كما تقول: العباس والضحاك، فالعباس: قد يكون بشوش الوجه، فتنوسي وصف العبوسة فيه، وأصبح علماً، والضحاك: قد يكون عابس الوجه كئيباً، فتنوسي وصف الضحك فيه وأصبح علماً. وهكذا في عرفة لا علاقة للتسمية بعمل النسك. وصوم هذا اليوم يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (يكفر سنتين: سنة قبله، وسنة بعده) ، سنة قبله أي: قبل السنة التي هو فيها؛ لأنه في آخر أشهرها، وهو شهر ذي الحجة، والسنة التي فاتت، قد يحمل الإنسان فيها بعض ما قدر عليه من الأخطاء والذنوب؛ لأنه ليس معصوماً، وصوم يوم عرفة يكفرها ولكن السنة التي بعده ماذا يكفر فيها وهو لم يرتكب فيها شيئاً بعد؛ لأنه ما عاصرها ولا عاشها، فكيف يُكفر شيء لم يوجد؟! استشكل العلماء هذا، وأجابوا عنه بأجوبة: منها: أن الله يسدد هذا الشخص لفعل الخير ويبعده عن ارتكاب الآثام، ومنعه من ارتكاب الآثام بمثابة تكفيرها. ومنها: أنه إذا ارتكب شيئاً من الذنوب وفق للعودة إلى الله وسرعة التوبة، فيكون ذلك تكفيراً لها. ومهما يكن من شيء فإن بعض العلماء يقولون: لا ينبغي أن تفسر أحاديث الوعد والوعيد، بل تترك على ما هي عليه بنصها ومدلولها العام، كي يكون وقعها في قلب المؤمن أكثر. ونحن نقول: الحمد لله، قبلنا البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم صوم يوم عرفة بعرفة

حكم صوم يوم عرفة بعرفة ولكن بقي حكم صوم يوم عرفة بعرفة، حج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فيا ترى! هل صام صلى الله عليه وسلم أو أفطر؟ جاء في الحديث أن الصحابة اختلفوا هل هو صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ ولم يجرءوا أن يسألوه هل أنت صائم أو مفطر؟ وكانت أم الفضل رضي الله تعالى عنها حكيمة، فقالت: أنا أخبركم، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، وهي تعلم أنه لا يرد اللبن، وذلك ضمن ثلاث لا ينبغي للضيف أن يردها على مضيفه وهي: اللبن والريحان والوسادة. فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح. ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت. فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر. فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟ الجواب: لا. ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة. فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً. إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: (خذوا عني مناسككم) . ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: (خذوا عني مناسككم) .

فضل صوم يوم عاشوراء

فضل صوم يوم عاشوراء قوله: [: (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية) . ]

سبب تقديم وتفضيل يوم عرفة على يوم عاشوراء

سبب تقديم وتفضيل يوم عرفة على يوم عاشوراء سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة وعاشوراء، وقدم عرفة عليه؛ لأن عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة واحدة، وسنتان أولى من سنة، ويوم عاشوراء جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه على أنه هو اليوم العاشر من شهر محرم. وقال صلى الله عليه وسلم في صيامه: (إنه يكفر سنة) ، فإذا قيل: هذا يوم وهذا يوم، فلم كان هذا بسنة وهذا بسنتين، والصوم هو إمساك عن الطعام والشراب، والصوم في يوم عرفات هو كالصوم في يوم عاشوراء، وهو كالصوم في رمضان -إمساك الدورة الزمنية للشمس- فما الفرق بينهما؟ يقول بعض العلماء جواباً على هذا: إن صوم يوم عاشوراء تابع لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصوم يوم عرفات تابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان تابعاً لنبينا محمد يكون أفضل مما هو تابع لغيره، كفضله على سائر الأنبياء، هكذا يقولون، والله أعلم.

سبب الصيام في يوم عاشوراء

سبب الصيام في يوم عاشوراء صوم يوم عاشوراء له تاريخ طويل، فقد جاء في حديث عائشة قالت: (يوم عاشوراء كانت العرب تصومه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه -أي: قبل البعثة- فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه فسألهم عن سبب صومهم؟ فقالوا: هذا يوم مبارك، نجى الله فيه موسى وأهلك فرعون، فصامه موسى شكراً لله وصمناه) . إذاً: اتفق أهل مكة الوثنيون وأهل المدينة اليهود الكتابيون على صومه، فصام اليهود هذا اليوم؛ لأنه يوم مبارك نصر الله فيه الحق على الباطل، وهناك تاريخ مسبق يذكره بعض العلماء -والله تعالى أعلم بحقائق التاريخ- يذكرون أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح واستوت على الجودي، وأنه هو اليوم الذي أطفأ الله فيه نار النمرود التي أوقدها على إبراهيم، وأنه كذلك هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون ونجى فيه موسى، فيذكرون في التاريخ أن هذه الأحداث وقعت في يوم عاشوراء، ويذكرونها إما متسلسلة وإما متباعدة. والله تعالى أعلم. والذي عندنا من النقل الصحيح هو من بداية موسى مع فرعون، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم من اليهود عن سبب صومهم لهذا اليوم، قال: (نحن، وفي رواية: أنا أحق بموسى منكم) سبحان الله! بعد آلاف السنين يكون صلى الله عليه وسلم أحق منهم بموسى مع أنهم أمته الذين بعث فيهم؛ لأنهم غيروا ما كان عليه موسى أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغير كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] . فآمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت الأمة بموسى وبجميع الأنبياء وبما جاءوا به من عند الله، أما اليهود فمعلوم أنهم غيروا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. قال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصامه وأمر الناس بصيامه وفي بعض الروايات: (نحن أبناء علات ديننا واحد) ، والعلات جمع علة وهي: المرأة تأتي بعد المرأة تحت الرجل الواحد أي: أن أممنا متفاوتة ولكن الأصل لنا جميعاً واحد وهو الوحي من عند الله، فصام هذا اليوم وأمر بصيامه. ويأتي هنا سؤال: هل صومه صلى الله عليه وسلم كان تبعاً لليهود؟ الجواب: لا؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه) أي: قبل البعثة. إذاً: صومه كان معروفاً ولكن السؤال جاء عن سبب صوم اليهود، وقريش كانت تصوم يوم عاشوراء، وتجدد فيه كسوة الكعبة، وهذا يعني: أنه كان معروفاً لهم، ولكنه هنا سأل فوجد سبباً جديداً، وهو تجدد نعمة من الله على عباده، وهي نصرة الحق على الباطل، وهذه نعمة متجددة تقابل بالشكر، وسيأتي في حق النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين أنه ولد وبعث فيه، وهذه كذلك نعمٌ متجددة تقابل بالشكر.

استحباب صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود

استحباب صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود كان سؤاله صلى الله عليه وسلم اليهود عن صومهم لبيان السبب، ثم بعد ذلك قيل: (يا رسول الله! إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ونحن نصوم يوم عاشوراء فوافقناهم، فقال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر) ، ولكنه قبض صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي العام الجديد، واقتصر على ما كان عليه.

بيان أن صوم يوم عاشوراء كان واجبا في أول الإسلام

بيان أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً في أول الإسلام وقد كان صوم يوم عاشوراء في بادئ الأمر فرضاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالاً إلى مياه القبائل ينادون: (إن اليوم يوم عاشوراء فمن أصبح صائماً فليتم، ومن أكل فليمسك بقية يومه) ، فلو لم يكن فرضاً ما أمرهم أن يمسكوا بقية يومهم، وقد كان فرضاً حتى فرض رمضان، فنسخت فرضية عاشوراء وبقيت نافليته، وظل صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء كل سنة، وكان فرض رمضان في شعبان في السنة الثانية من قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فنسخ فرض صوم يوم عاشوراء وبقيت سنيته إلى اليوم. وذكر ابن عبد البر آثاراً عن التابعين في يوم عاشوراء وذكر حديثاً يقول عنه المنذري: إن سنده ضعيف وهو: (من وسع على عياله فيه وسع الله عليه طيلة العام) ، ويذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: قد جربناه وكان صحيحاً، وبعضهم يذكر هذا في يوم النصف من شعبان، والله تعالى أعلم. يهمنا أن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وقد جاء عن ابن عمر أنه لم يكن يصومه إلا إذا صادف صوماً له، وقال: كان فرضاً فنسخ، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وعلى هذا فصوم يوم عاشوراء باتفاق الجميع سنة، وليس بواجب، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وإذا صامه فإنه يكفر سنة، والله تعالى أعلم.

فضل صوم يوم الإثنين

فضل صوم يوم الإثنين قوله: [ (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل عليّ فيه) رواه مسلم] .

سبب تخصيص يوم الإثنين بالصيام

سبب تخصيص يوم الإثنين بالصيام كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من صوم يومي الإثنين والخميس، فسئل عن تخصيصه يوم الإثنين فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل عليّ فيه) ، ويذكر العلماء من أحداث الواقع التاريخي أنه أتى المدينة في الهجرة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ولذا قالوا: يوم الاثنين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة لآدم، كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) . وقول مالك في الموطأ: (فيه تقوم الساعة وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) . قوله: (ما من دابة) فيه أن الدواب كلها تعرف أيام الأسبوع، فإذا كان يوم الجمعة أصاخت من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، تنظر هل تأتي النفخة أي: النفخة ليوم القيامة إلى أن تطلع الشمس ثم تنصرف، يا سبحان الله العظيم! هذه الدواب العجماء، وهذه الحيوانات العجماوات تعلم يوم الجمعة، وتخشى قيام الساعة، وتتسمع من أجله. فقالوا: يوم الجمعة أحداثه مرتبطة بآدم، وبمناسبة كون الساعة تقوم فيه، نجد الفقهاء يستحبون في صلاة فجر يوم الجمعة قراءة سورة السجدة؛ لأن فيها قصة آدم، وفيها البعث، وفيها الجزاء، وكذلك قراءة سورة الدهر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ} [الإنسان:1] إلى آخر السورة؛ لأن فيها أحوال يوم القيامة، فقالوا: في قراءة هاتين السورتين في هذه الفريضة يتناسب اجتماع الذكر مع التاريخ فيكون أدعى لأن يتذكر الإنسان مبدأه، وحياته، ومصيره، ليأخذ من حياته إلى ما بعد مماته. إذاً: سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صوم يوم الإثنين؟ فعدد نعماً، وهذه النعم هي التي يقول عنها العلماء: لا كسب للعبد فيها وهي ثلاث نعم، ليس للعبد فيها كسب أو تسبب، وليس له فيها عمل، وليس له سعي في الحصول عليها، بل هي محض نعمة من الله عليه، أو محض إنعام من الله بها عليه، وهذه النعم هي: إيجاده من العدم، وإسلامه، ودخوله الجنة، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولدت فيه) وهو الإيجاد من العدم، وإذا فتشنا أنا وأنت حينما جئنا إلى الدنيا ماذا فعلنا لكي نأتي إلى الدنيا؟! ما عملنا شيئاً، فقد كنا في العدم، وغاية ما يمكن أن يقول القائل: إن الأبوين تسببا، فنقول: هما قضيا حاجتهما ولا يملكان بتلك الحاجة أن يأتيا بالولد؛ لأن الولد هبة من الله، كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:49] ، وهذا الملك ليس مثل ملك الملوك في الدنيا، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] ، وفي هذا القدرة والعظمة، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] ، فمن جعله الله عقيماً، والله! لن يخصب ولن ينجب أبداً. إذاً: الولد هبة، وإن تسبب الأبوان في وجوده، فتسببهما ليس بلازم أن يأتي بالولد. ونعمة الإسلام، فالإنسان في عالم العدم كما يقول علماء الجدل: جائز الوجود، بمعنى جائز أن يوجد وجائز أن يبقى في العدم، وهما نظريتان متعادلتان، فكون واحدة ترجح على الأخرى فلابد من مرجح والمرجح هو الله، فإذا رجح وجود الإنسان على بقائه في العدم فمن أين وجد؟ كان من الممكن أن يوجد من أبوين بوذيين، أو أبوين وثنيين، أو أبوين يهوديين، أو نصرانيين أو غير ذلك، ولكن كون الله أختار له أبوين مسلمين وولد بين أبوين مسلمين فسينشأ مسلماً، وهل كان له اختيار أو جهد أو كسب في أن يوجد من أبوين مسلمين؟ ليس له فيه كسب بل هو فضل من الله عليه، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (وأنزل علي فيه) . والإسلام أساساً ما أنزله الله على رسوله إلا بالرسالة، والرسالة إلى رسول الله محض فضل من الله، فقد اصطفاه الله لذلك قبل أن يوجد، وقد بحث العلماء هذا عند قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فقالوا: اصطفاه وهو في أصلاب آبائه، وآباء آبائه إلى آدم، واختاره نبياً قبل أن توجد الدنيا، وكل شيء قد سجل في اللوح المحفوظ، والرسل مصطفون عند الله من قبل أن يوجدوا، فهذه رعاية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رعاه الله سبحانه وتعالى في أصلاب آبائه، وصانه من دنس الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح لا من سفاح) ، وكانت أنواع الولادات في الجاهلية متعددة، كما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان الزواج أو النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: تخطب المرأة من وليها فيزوجها كما تفعلون اليوم، وتؤخذ المرأة بالسيف، وتنصب المرأة الراية، وتتخذ الأخدان) فولد صلى الله عليه وسلم من النكاح الذي تخطب فيه المرأة من وليها فيزوجها، كما في القصة التي ذكرها ابن هشام في السيرة وفيها أمر يذهل العقل، لما أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله في قضية زمزم فلما وقع السهم عليه، وذهب ليذبحه منعته قريش، وتحاكموا إلى الكاهنة، وقالت: فادوه بعشر من الإبل واستهموا عليه بالقرعة، فإذا طلعت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشراً، فاستهموا وفعلوا إلى أن كملت الإبل مائة فخرجت القرعة على الإبل، ثم نحرت، وفي عودته مع أبيه تلقته امرأة قريبة لـ ورقة بن نوفل -وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة- فقالت: يا عبد الله! وهو والد محمد بن عبد الله، هل لك أن تذهب معي إلى بيتي الساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ قال: نعم، ولكني الآن مع أبي فأنظريني حتى أصل معه إلى البيت ثم آتي إليك، ولكن أباه لم يذهب به إلى بيته، إنما ذهب به إلى بني زهرة، وخطب له آمنة فتزوجها، ودخل عليها من ليلته ثم لما كان الغد خرج فلقيته تلك المرأة فأعرضت عنه، فتعرض لها فأعرضت عنه، فتعرض لها وقال: ما لك بالأمس تتعرضين لي واليوم تعرضين عني؟! قالت: كنت بالأمس أرى نوراً أو وبيصاً بين عينيك رغبت أن أظفر به ولكن ظفرت به آمنة بنت وهب، فهذا النور يتفقون أنه نور النبوة، ولكن ما كل إنسان كان يراه. وبعض الناس يشكك في هذه القصة، ويؤكد ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه صين عن سفه الجاهلية وأنكحتها، وتنقل في أصلاب نكاح صحيح سليم إلى أن حملته آمنة ووضعته وأدت الأمانة ومات أبوه، وماتت أمه وبقي في كفالة ربه، فنشأ يتيماً ولكنه كفل الأيتام، وربَّى الكبار والصغار. إذاً: رعاية الله كانت تحوطه، فهو نبي ومرسل، وقد جعل الله ذلك له ولبقية الأنبياء من أول ما أمر الله القلم: (اكتب ما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة) . قوله: (يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه) كان بدء الوحي في غار حراء عند أن كان يتحنث فيه، وكان في يوم الإثنين، ثم بعد ذلك واصل الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان وصوله إليها في يوم الإثنين، وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وبقي يوم الثلاثاء، ودفن في يوم الأربعاء؛ لاشتغال الناس بالبيعة في السقيفة وبالخلافة وما وقع فيها، ولما فرغوا من أمر الخلافة جاءوا لدفنه صلى الله عليه وسلم، فهنا يقول العلماء: تلك نعم متجددة، فقوله: (ولدت فيه) ، وهذه نعمة الإيجاد من العدم، وقوله: (أنزل عليّ فيه) وهذه نعمة الرسالة، وليس بعدها نعمة، فكان يشكر هذه النعم بأن كان يصوم يومها. وهكذا موسى لما نجاه الله من فرعون صام ذلك اليوم. وقد ذكرنا سابقاً ما ذكره علماء السيرة: أن أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة استدعاهم النجاشي ذات يوم، فجاءوا إليه مذعورين، فلما دخلوا عليه إذا به جالس على أرض تراب ليس عليها فراش، حاسر الرأس، لابساً ثوباً قديماً خلقاً، مصوباً بصره إلى الأرض، فقال: أتدرون لمَ دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: نصر الله نبيكم محمداً، أو نبينا محمداً على عدوه في هذا اليوم، فقد التقى مع قريش في وادٍ يقال له: وادي بدر فنصره الله عليهم، ذاك وادٍ يكثر فيه الأراك، وقد كنت أرعى فيه إبلاً لبني فلان، فقال له جعفر: وما هذه الصورة التي نراك عليها فقد أفزعتنا؟ قال: إن فيما أنزل الله على عيسى أنه قال له: (إني أحب إذا جددت نعمة على عبدي أن يجدد لي شكر النعمة) ، فأنا على هذه الحالة شكراً لله على نصره محمداً على أعدائه، ولهذا جزم كثير من العلماء أنه مؤمن، ويؤكد ذلك أن اليوم الذي مات فيه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الجنازة. قال: (يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه) ، وهاتان نعمتان عظيمتان، فشكرهما صلى الله عليه وسلم بصيامهما، لا بلعب ولا بعيد، ولا بلهو ولا بنحو آخره، فصام للذي أنعم عليه مرضاة له سبحانه.

فضل صوم ستة أيام من شوال

فضل صوم ستة أيام من شوال قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) . رواه مسلم. ] . هذه مسألة صيام ست من شوال، ساق فيها المؤلف رحمه الله تعالى: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وجاء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسنة بعشر أمثالها) ، ورمضان بعشرة أشهر، وستة في عشرة بستين، فتعادل هذه الست شهرين، وبذلك تكون السنة كاملة.

الخلاف في حكم صيام الست من شوال

الخلاف في حكم صيام الست من شوال وهذه الأيام من العلماء من يستحب صومها، ومنهم من يكره صومها، وقد روي كراهية صومها عن مالك رحمه الله تعالى، وذكر القرطبي عن أبي يوسف أنه كره صومها، وذكر الشوكاني عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره ذلك، والتحقيق عند الأحناف وعند المالكية: أن الكراهية ليست في الصوم، ولكن في التتابع، كما قال مالك رحمه الله: إذا رأى الجهال إصرار العلماء على صوم ستة أيام من شوال عقب رمضان فسيظنون أنها من رمضان، ويقول القرطبي: إن ما خاف منه مالك قد وقع في بلادنا، ونحن أيضاً شاهدنا هنا أن بعض الناس إذا انتهى من رمضان وجاء العيد عيّد عيداً شكلياً، واستأنف الصيام ستة أيام ثم عيّد العيد الكامل وقال: عيد الست، فجعل للست عيداً مستقلاً، وابن عبد البر في الاستذكار يدافع عن مالك ويقول: لا أعتقد أن مالكاً يكره عبادة، ولكن لعله لم يبلغه حديث أبي أيوب، ثم يرجع ويقول: إن هذا الحديث حديث مدني، وقلّ أن يخفى على مالك حديث مدني، ثم يقول أيضاً: لقد روي هذا الحديث عن عمرو بن ثابت، عن أبي أيوب وتفرد به فلان وهو ضعيف، ولكن قد روي هذا الحديث من عدة جهات، ومن عدة طرق، وفي النهاية صحح الحديث ثم قال: بما أن الحديث لا يمكن أن يخفى على مالك؛ لأنه مدني، فيكون سبب الكراهية عنده هو خشية أن يعتقد الجهال أن ستاً من شوال تابعة لرمضان ولازمة له، ولهذا يقول المالكية جميعاً: إذا أتبع الست بعد رمضان ولم يفصل بينها إلا يوم العيد فقط فهذا محل النزاع وهذا محل الكراهية، أما إذا باعد بينها وبين رمضان بعدة أيام وفرقها فإنه يخرج عن المحذور ولا يظن ظان أنها من رمضان. هذا مع اتفاق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد. وهكذا علل الأحناف، وذكر ابن عقيل في حاشيته أن إطلاق الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة وأبي يوسف ليس صحيحاً، وإنما الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف إنما هي طبق الكراهية وسببها هو الذي نقل عن مالك رحمه الله، ألا وهو إلصاق ست من شوال برمضان حتى يظن الجهال أنها منه، أما مطلق صومها بدون الصورة التي توهم أنها من رمضان أو من لوازمه، فهذه ليس فيها كراهية، وعامة السلف عليها، والعمل جارٍ على هذا عند الأحناف وكذلك عند المالكية. وننبه الإخوة أننا كنا قد جمعنا عمل أهل المدينة المذكور في الموطأ بناءً على كتاب محمد بن الحسن الحجة على أهل المدينة، وكان يحتج عليهم في تمسكهم بما آثروه نقلاً عملياً عن أهل المدينة؛ لأن مالكاً ذكر في الموطأ وقال: إن الستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم يصومها. ولهذا علل الكراهية بما تقدم، فهي من نقل مالك عن عمل أهل المدينة، ولما قمت بجمع مسائل عمل أهل المدينة في الموطأ زادت على الثلاثمائة مسألة، ثم عرضتها على بقية المذاهب الأربعة، أي: المذاهب الثلاثة مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فوجدتها كلها لم ينفرد بها مالك إلا في ثلاث مسائل فقط، وكلها قال فيها: هذا ما عليه العمل ببلدنا، هذا ما أدركت عليه أهل العلم عندنا، هذه السنة القائمة عندنا، ولم يذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خبراً عن صحابي، وإنما يذكر ما شاهده من عمل أهل المدينة في زمنه أو نقل إليه. وتلك المسائل الثلاث التي لم أجد من يوافقه عليها هي: المسألة الأولى: فيما يتعلق بصوم الستة أيام من شوال أنه كان يكرهه، والمذاهب الثلاثة -قبل أن أقف على مذهب أبي حنيفة - كلها تستحب ذلك، فظننته انفرد بها، ولكن وقفت على قول القرطبي وقول الشوكاني ينقلان عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنهما وافقا مالكاً في هذا، فخرج عن كونه انفرد بها. والمسألة الثانية: قوله بصوم يوم الجمعة، وأن أهل العلم يتحرون صومه، والذي كنا نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم، أو تفرد ليلة الجمعة بقيام، ثم وجدنا في الاستذكار لـ ابن عبد البر أنه ذكر نصوصاً عديدة فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، حتى ذكر عن ابن عباس من طريق طاوس وعطاء، أنهما لم يريا ابن عباس مفطراً يوم الجمعة قط، وذكر آثاراً أخرى، فيكون إسناد مالك صوم يوم الجمعة إلى عمل أهل المدينة قد وجد له مستند عن ابن عباس وغيره، وجاء ذلك مرفوعاً من طريق علي رضي الله تعالى عنه: (أن من صام ثلاثة أيام فليجعل فيها يوم الجمعة، أو صوموا من كل شهر ثلاثة أيام، وصوموا يوم الجمعة) إلى غير ذلك على ما سنأتي عليه إن شاء الله. والمسألة الثالثة: عند مالك أن من قتل عمداً لا يدفع الدية وإنما عليه القصاص أو يعفو عنه أولياء الدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فيه أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، فقال مالك: ليس على القاتل عمداً أن يدفع دية، وليس لولي الدم إلا أن يقتل، أو يعفو. وكنت قد سمعت والدنا الشيخ الأمين يقول في هذه المسألة: إن ولي الدم إذا قال: أنا لا أريد قصاصاً وأريد الدية، فإن جمهور العلماء يقولون: عليه أن يدفع الدية ويستبقي نفسه. ولكن وجدنا في مذهب مالك ثلاث روايات عنه فيما إذا كانت الجناية في غير النفس، في اليد أو في السن أو في العين، يقول مالك: هو مخيّر بين أن يدفع أرش الجناية، وبين أن يسلم نفسه ليقتص منه، فهنا خرج عن كونه يقول: ليس لهم إلا القصاص، فكذلك إذا كان في النفس يتعين على الجاني أن يدفع الدية ليبقي نفسه. وهذا الذي سمعته من والدنا الشيخ الأمين: أنه يلزم مالكاً أن يقول: إن من قتل عمداً وطلبت منه الدية فعليه أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] ، وهذا توجه إليه القتل ووجد طريق العفو بالدية فيلزمه أن يدفع الدية، ثم وجدنا هذا القول بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله. وبهذا أيها الإخوة! يكون كل ما سجله مالك رحمه الله في الموطأ من مسائل عمل أهل المدينة لم ينفرد ولا بواحدة منها، ويكون قد انتهى ما كنا نظنه أنه انفرد به، وقد سجلنا ذلك في الرسالة التي جمعناها وطبعناها، ولكن لزم التنبيه على أنه لم تبق مسألة انفرد بها مالك فيما ذكره من عمل أهل المدينة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وهذا على ما تقدم بيانه من أن الحسنة بعشر أمثالها؛ فالشهر بعشرة أشهر، والستة أيام بستين يوماً أي: بشهرين، فذلك تمام السنة، وهو تمام الدهر فيما إذا عاش وفعل ذلك كل سنة. ويلتمس العلماء سبب ربط الستة الأيام من شوال برمضان فيقولون: إن من كان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً ورغبة ومحبة فإنه لا يستكثر على نفسه أن يواصل صوم ستة أيام من شوال وكأنه يدلل على أن صومه الثابت ليس عن إكراه، وليس عن كراهية، وإنما عن رغبة وهاهو يواصل صوماً نافلةً بعد رمضان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [2]

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [2] الإنسان بطبيعته البشرية يقع في الذنوب والخطايا، وليس معصوماً منها إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن من رحمة الله عز وجل أن جعل للعبد أبواباً كثيرة يكفر بها خطاياه ويضاعف بها حسناته، ومن هذه الأبواب باب صوم النوافل، فعلى العبد أن يستغل الفرصة ويكثر من صوم النوافل ليكفر الله عنه سيئاته وخطاياه ويرفع درجاته.

فضل الصيام في سبيل الله

فضل الصيام في سبيل الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً) . متفق عليه واللفظ لـ مسلم. يسوق المؤلف هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله) ، و (في سبيل الله) يرى بعض العلماء أن ذلك في الجهاد، فإذا خرج الإنسان للجهاد، وكان مرابطاً على الحدود لحفظ وصيانة حدود البلد الإسلامي، وليس هناك كر ولا فر، وليست هناك معركة، ولكنه جالس على حدود البلاد فصام يوماً فهذا اليوم في سبيل الله، ويرى آخرون أن المعنى أعم، وأن من صام يوماً في سبيل الله أي: بدون دافع، وبدون سبب معين، لا هو كعرفات يكفر سنتين، ولا هو كعاشوراء يكفر سنة، ولا هو كست من شوال يعادل مع رمضان صيام الدهر، ولا هو كثلاثة أيام من كل شهر، بل بدون أي سبب ولم يرتبط بأي موجب، ولكن في يوم من الأيام وجد نشاطاً فقال: أصوم غداً في سبيل الله، أو أصوم غداً لوجه الله، فهذا يترتب عليه ما جاء في هذا الحديث: (باعد الله به -أي: بهذا اليوم- عن وجهه النار سبعين خريفاً) ، والخريف هو عبارة عن جزء أو فصل في السنة، والسنة فيها فصل الخريف واحد، وفصل الربيع واحد، وفصل الشتاء واحد، وفصل الصيف واحد، فإذا قيل: سبعون خريفاً، أو سبعون ربيعاً، أو سبعون شتاءً فمعناه سبعون سنة؛ لأن الفصل المذكور ليس مكرراً في السنة مرتين، حتى نقسم العدد على اثنين وإنما سبعون خريفاً، أي: سبعون سنة، وهذا يدل على عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على عباده حيث يقبل القليل، ويجازي بالكثير، فهذا صوم يوم واحد يباعد الله به بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً، ولم يقل: سبعين يوماً، أو سبعين ساعة، أو سبعين أسبوعاً، أو سبعين شهراً، ولكن قال: سبعين خريفاً أي: سبعين سنة، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه وتعالى، ومما يتعلق بفضل الصوم ما جاء في الحديث القدسي وهو يشهد لهذا: (كل عمل ابن آدم له والحسنة بعشر أمثلها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، وكما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] . ورمضان يسمى شهر الصبر، وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله أراد أن يرغب في الصوم تطوعاً مطلقاً، ولو لم يكن في هذه الأيام نص وارد فيها بعينها.

فضل صيام أكثر شعبان

فضل صيام أكثر شعبان قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) ، متفق عليه واللفظ لـ مسلم. في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عدة قضايا: القضية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يداوم الصوم حتى يقول أهل بيته: لا يفطر، وأحياناً يداوم الفطر حتى يقول أهل بيته: لا يريد أن يصوم، أي: أنه ليس في هذا العمل منهج مقعد مرتب منظم كالمشروع وهو رمضان كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وما عداه فهو عمل اختياري، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فليس فيه التزام بزمن معين في صوم ولا زمن معين في فطر، وهذا هو عين التطوع أنه إنما يكون باختياره، وهذه قاعدة هامة جداً لئلا يكون للإنسان في النوافل منهج التزام كالفرائض، وأما حديث: (إن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه) ، فنقول: نعم، هذا إذا داوم عليه رغبة، وإذا داوم عليه دون إلزام ودون التزام له حتى لا يوهم أنه مفروض عليه. القضية الثانية في الحديث: (ما رأيته أكمل صيام شهرٍ قط إلا رمضان) . والقضية الثالثة في الحديث: كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان، ولذا قالت: (أكثر ما رأيته يصوم في شعبان) ، وجاء في روايات منها: (كان يصومه كله) (كان يصومه إلا أقله) ، فأخذ العلماء من (كله) جواز صوم شهر شعبان كاملاً، ولكن قولها رضي الله تعالى عنها: (وما رأيته أكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، فيه أنه كان يكثر الصوم في شعبان.

سبب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان

سبب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان وهنا يعلل العلماء كونه صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان مع أنه ليس من الأشهر الحرم، وقد جاء في الحديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، فقال: أما عرفتني يا رسول الله! قال: لا، قال: أنا الذي جئت إليك العام الماضي في مثل هذا، قال: ما لي أرى جسمك نحيلاً؟ -أي: نحل جسمك عن العام الماضي- قال: منذ فارقتك يا رسول الله! ما طعمت طعاماً نهاراً قط، أديم الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: من أمرك أن تعذب نفسك؟! صم من الأشهر الحرم وأفطر) وفي بعض الروايات: (صم شهر الصبر -يعني: رمضان- ويوماً بعده، قال: إني أقوى قال: صم شهر الصبر ويومين بعده) إلى أن ذكر له خمسة أيام، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل: صم من الأشهر الحرم، فالصوم في الأشهر الحرم بمقتضى هذا أفضل منه في شعبان، فلماذا كان يكثر الصوم في شعبان؟ يجيب العلماء عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: وهو جواب الجمهور قالوا: قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هذا شهر يغفل الناس عنه ما بين رجب ورمضان) ، يعلق على هذا بعض العلماء ويقول: أي: أن الناس كانوا يهتمون بصوم رجب، ويهملون شعبان، ويصومون رمضان، إذاً: صوم رجب مندوب إليه، وكان معلوماً لديهم، وهناك من السلف من كان يصوم شهر رجب وشعبان ورمضان، والبعض كان يكره ذلك؛ لأن فيه تشبيهاً لها برمضان، ويقول: يستحب أن يفطر من كلٍ من رجب، ومن شعبان بعض الأيام حتى لا يحاكي بهما رمضان، أما الجواب الثاني: فهو عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان ربما يجتمع عليه صلى الله عليه وسلم صيام الثلاثة الأيام من كل شهر؛ لأن صوم ثلاثة أيام من كل شهر من المندوبات، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وألا أنام حتى أوتر) ، فصوم ثلاثة أيام تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ربما شغل عنها بسفر، أو بمشاغل أخرى فتتراكم عليه هذه الأيام الثلاثيات فكان يصومها في شعبان. وهناك جواب ثالث وهو: أن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن كنَّ من أدركتها الدورة منهن في رمضان تفطر، ثم تؤخر قضاء أيام رمضان إلى أن يأتي شعبان، فيصمن ويقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، فكان يصوم معهن إرفاقاً بهن، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت يكون عليَّ القضاء من رمضان فلا أتمكن من قضائه إلا في شعبان لكثرة ما يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله كان يصوم أكثر شعبان حتى يعطي الفرصة لزوجاته أن يصمن ويقضين ما عليهن من عدة أيام من رمضان، والله تعالى أعلم.

فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر

فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر) ، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان. حديث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، جاءت فيه زيادة في حديث أبي هريرة بتعيين الأيام، وهي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، يعني: الأيام التي يكون القمر مكتملاً ضوءه فيها والناس مختلفون في ذلك، فـ مالك يرى أن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة فيقول: يجعل عن كل عشرة أيام من الشهر يوماً، فيأخذ يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، ففي كل عشرة أيام يصوم يوماً، وغيره يقول: يصوم ثلاثة أيام بدون تحديد كما في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن هنا جاء التحديد بثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وأما حول التعيين في هذه الأيام بالذات، فقد تقدم لنا في الحجامة أنهم يستحبونها بالنسبة لجزء النهار في الظهر، وبالنسبة لأيام الأسبوع يوم الأربعاء، وبالنسبة لأيام الشهر الخامس والسابع والتاسع عشر، وقالوا: إن الحجامة يوم الخامس والسابع والتاسع عشر أحسن، ويكرهونها في الخمسة الأوائل من الشهر والخمسة الأواخر منه، ويستحبونها من نصفه وما بعد، هكذا يقولون، والأطباء وأهل الطب النبوي والطب العربي يعللون استحباب الحجامة في منتصف الشهر فما بعد ويقولون: حينما يكتمل ضوء القمر يكون في الدم هيجان، فإذا جاءت الحجامة أخذت هيجان الدم هذا، وبعض المتأخرين يقولون: إن عملية المد والجزر في البحار مرتبطة باكتمال ضوء القمر، ويقولون: إن جسم الإنسان -كالبحر- مليء بالدم فإذا اكتمل ضوء القمر هاج الدم كما يهيج البحر بالمد والجزر، فيقولون: جاءت السنة بحكمة وهي: أن الصوم من طبيعته أن يكسر حدة الشهوة، وأن يخفف من حركة الدم في الجسم، فإذا ما صام تلك الأيام التي فيها هيجان الدم نقص الغذاء على الدم، وإذا نقص الغذاء على الدم خفت حدته ولم يكن فيه إثارة على الإنسان كما لو اكتمل طعامه وشرابه في تلك الأيام، والله تعالى أعلم.

حكم صيام المرأة تطوعا مع وجود زوجها

حكم صيام المرأة تطوعاً مع وجود زوجها قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) ، متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود (غير رمضان) . لا يحل لامرأة مؤمنة ملتزمة بالكتاب والسنة وملتزمة بحق الزوج عليها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه إلا رمضان، وصوم المرأة هو كصوم الرجل، فعندها رمضان وعندها عدة من أيام أخر، وعندها كفارة، وعندها نوافل الصوم، مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء، والإثنين والخميس، فإذا كان صوم المرأة فرضاً معيناً فليس للزوج منعها، مثاله: نذرت أن تصوم يوم مجيء ولدها من السفر، فجاء فصامت؛ لأنها تعين عليها الصوم يوم مجيئه، كأن جاء بالليل وبيتت الصوم وأصبحت صائمة، فبمجيء ولدها أصبحت ملزمة بالنذر وهو فرض عليها لا يحق للزوج أن يمنعها؛ لأنه فرض محدد بزمن، ولو منعها فسيفوت النذر عليها، أما ما عدا ذلك، كقضاء رمضان فليس محدداً بزمن؛ لأن هناك عدة من أيام أخر، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت يكون عليها قضاء من رمضان، وتأجله إلى أن يأتي شعبان حينما يكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالت: لمكانة رسول الله مني؛ لأن الرسول له دورة على زوجاته، فإذا جاء دورها وجدها غير صائمة. وكذلك رمضان لا يحق له منعها؛ لأن وقته مجدود، وهو حق لله فرضه عليها وعليه، فلا يحق له أن يمنعها؛ لأن أذنها بيدها وأمرها من عند الله، إذاً: لا يحق لامرأة أن تصوم غير رمضان، وغير ما يساوي رمضان من النذر المعين إلا بإذن زوجها، وأما غير ذلك فالأولى أن يسمح لها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، ولا ينبغي أن يضيق عليها ويمنعها. ومن هنا ينبغي أن نعلم بناتنا وزوجاتنا حق الزوج على زوجته، فهذا الصوم وهو عبادة لله، ومن أعظم القربات عند الله، ومع هذا يمنعها الشرع أن تصوم إلا بإذن زوجها، يا سبحان الله! يشترط إذن الزوج على عبادة الله! نعم، لعظم حقه؛ لأن حق الزوج على زوجته ليس بالأمر الهين، وخاصة فيما يتعلق بالزوجين مع بعضهما؛ لأنه لا عوض عنها، ولا بديل منها، فهي أحق الناس بالوفاء بحقه. ولذا جعل المولى سبحانه القوامة في البيت للرجال قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34] ، بالفضل الذاتي للرجولة على النسوة، وبما أنفقوا، ولهذا جاءت النصوص عديدة في هذا الباب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة طلبها زوجها ولو كانت على ظهر قتب، فامتنعت إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة باتت وزوجها ساخط عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) . فالرسول صلى الله عليه وسلم عظَّم حق الزوج على الزوجة، ومن ذلك ما جاء في الحديث العظيم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ليس سجود عبادة وإنما سجود تحية، وكذلك الزوجة لها حق على زوجها، وعليه أن يوفيها حقها، بل ينبغي أن يوفي الزوج الحق الذي عليه أولاً، ثم يطالب بحقه ثانياً. إذاً: الحياة الزوجية عشرة ومعاشرة، وازدواج وتبادل منافع، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، وقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، فلابد من المعادلة في هذه المسألة، ولكن يعظم حق الزوج على المرأة فيما يكون له من حق الإذن أو الرفض في عبادة لله سبحانه.

حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر

حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر) . متفق عليه] . نحن نعلم جميعاً أن أيام السنة إنما هي دورة فلكية للشمس سبتها وأحدها وخميسها وجمعتها؛ كلها دورة من شروق الشمس إلى غروبها، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يفضل بعض هذه الأيام على بعض لما تشهده من الأحداث، وقد فضل شهر رمضان على بقية الشهور وهو أيضاً دورة زمنية وإن كان في جملته دورة قمرية فأيامه دورة شمسية، ففضله على غيره من الشهور لما شرفه به من إنزال القرآن الكريم فيه، بل أنزل فيه جميع الكتب السماوية، وكذلك شرف وفضل من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام السنة الفردية يوم عرفات، بل فضل من يوم الجمعة الذي هو فضيل ساعة من الساعات فيه، وفضل ليلة من شهر رمضان المبارك على غيرها، وجعلها خيراً من ألف شهر، كل ذلك لما تشهده تلك الأيام والليالي من الأحداث. ويوما العيد في الإسلام كرمهما الله وشرفهما وجعلهما يومي مكرمة لعباده، ولكأنهم في هذين اليومين في ضيافة المولى سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لوفاء المسلمين بما عهد الله إليهم، وقيامهم به خير قيام، فكان هذا جزاءً لحسن عملهم وإكراماً لطاعتهم ربهم، ويوما العيدين هما: يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم الفطر فكما نعلم جميعاً أنه يأتي على رأس تمام صيام شهر كامل، فالأمة تصوم شهر رمضان، وتراقب ربها فيه، وكما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي) ، وهذا جاء في بيان اختصاص الصوم بالمولى سبحانه مع أن كل الأعمال لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، ولكن خصوص الصوم يقول عنه المولى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فيكون في الخلوة بعيداً عن الناس، وأمامه شهي الطعام وبارد الشراب، وهو جائع وعطشان، لا يرده في خلوته من الفطر إلا مراقبة الله سبحانه، ومن هنا كان الصوم يعود ويورث التقوى؛ لأن التقوى هي اتخاذ الوقاية مما يغضب الله سبحانه وتعالى، فدوام هذه المشاهد يجعل عند الإنسان قوة مراقبة، ويقرب من المولى سبحانه وتعالى أكثر وأكثر، ويزيل الحجب والحواجز التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى، فكأن المولى سبحانه يقول لعباده: أمرتكم فامتثلتم، وكلفتكم فأطعتم، وها أنتم أتممتم صيام الشهر، فهلموا إلى ضيافتي، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر؛ لأن من صام يوم الفطر كأنه يقول: يا رب! أنت جعلت هذا اليوم مأدبة لعبادك وأنا في غنىً عنها، وإذا استغنى عن مأدبة المولى فإن هذا تكبر، وهذا تعالٍ على الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يقبل الله صوم هذا اليوم. وكذلك عيد الأضحى نادى الله في الناس بالحج فجاءوا من كل فج عميق، وأدوا مناسكهم، وأدوا طاعة الله في تلك المواقف الكريمة، ثم أفاضوا من عرفات والحج عرفة، وهو ذاك المشهد الكبير الذي يتجلى المولى سبحانه فيه لأهل الموقف -كما أشرنا سابقاً- فيباهي بهم الملائكة ويقول: ماذا يريد العباد، ولماذا جاءوا إليّ؟ فيقول الملائكة: ربنا! إنك تعلم أنهم جاءوا إليك يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول متفضلاً: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) ، وقد أشرنا مراراً إلى الحكمة في سؤال المولى للملائكة في ذلك اليوم، وكما يقول البلاغيون: ليس المراد مقتضى السؤال، ولكن المراد لازم الفائدة؛ لأن السؤال قد يراد منه فائدة الخبر، كإخبار السائل عن مجهول بتعيينه، فإذا قلت: هل جاء زيد؟ وأنت لا تعلم، فيكون الجواب: نعم جاء، وقد يكون السؤال عن لازم الخبر وليس عن الخبر، كأن يكون السائل عارفاً أن زيداً جاء، لكن المسئول مدين للسائل، ووفاء الدين يحل عند مجيء زيد، فهو يريد بسؤاله عن مجيء زيد وعدم مجيئه لازم الفائدة، ولازمها هنا أن موعد الدين قد حل؛ لأن موعد قضاء الدين مشروط بمجيء زيد وقد جاء، فالله سبحانه وتعالى في هذا السؤال لا يريد فائدة الخبر؛ لأنه يعلم بحالهم. ويقولون: أنه كان في الأرض عوالم قبل آدم وقبل الإنس وهم الحن والبِن والجن وأمم وقد وقع بينها قتال، وإبليس كان من جند الله أولاً، فالمولى سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا} [البقرة:30] أي: مستفسرين لا معترضين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] أي: مثل الذين رأيناهم من أول؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فإذا أردت أن تجعل فيها خليفة للذكر والتسبيح فنحن نسبح، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] وأظهر الله سبحانه وتعالى شرف هذا المخلوق الجديد، إذ علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني؟ قالوا: سبحانك، فقال: يا آدم! أنبئهم، فكان هناك عرض على الملائكة بجعل خلافة في الأرض، والملائكة تخوفت لما شاهدت من قبل، وأشفقت على هذا المخلوق الجديد أن يفسد فيها ويسفك الدماء، فطمأنهم الله وقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] . فجاء آدم وهبط إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وعمرت الأرض، وجاء بنو آدم إلى عرفة شعثاً غبراً، وهنا كأن المولى يريد بهذا السؤال لازم الفائدة أي: أنتم كنتم تظنون أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فها هم جاءوا شعثاً غبراً مجردين، تركوا أوطانهم وأولادهم وأموالهم وتحملوا في سبيل تلك الرحلة المشاق، ماذا يريدون؟ هل يريدون الإفساد في الأرض، أو يريدون سفك الدماء؟ فهذا التساؤل كأنه تنبيه للملائكة على ما كانوا تساءلوا عنه سابقاً ثم قال: (أشهدكم -والله خير الشاهدين- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم) ، وهذه أعظم نعمة على الإنسان، فلقد كان طيلة حياته أسيراً للشيطان يحتنكه، وقد أحاط حبلاً في حنكه يقوده كيف شاء، ليثقله ويحمله ويكبله بكل الذنوب، وهاهو قد أصبح طليقاً خفيفاً، قد خرج من كل ذنوبه، وتخفف من كل أثقاله وقيوده، فيأتي إلى منى وإلى الجمرات ويعلن الحرب على الشيطان: بسم الله الله أكبر، رجماً للشيطان وإرضاءً للرحمان، وقبل هذا لم يكن يقدر، لأنه واقع في الأسر، أما الآن وقد تحرر وطلقت قيوده، ووضعت عنه أثقاله فقد أصبح نشيطاً يعلن الحرب على عدوه، فأي نعمة أعظم من هذه، فيصبحون يوم العيد في ضيافة الله، بل إن الضيافة في عيد الأضحى تمتد إلى ثلاثة أيام وهي أيام منى، فهي أيام أكل وشرب وتبعل، فإذا جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أصوم في هذا العيد، فنقول له: أنت مدعو من عند المولى سبحانه فأجب دعوة المولى سبحانه، فلو أن وزيراً من الوزراء جاءته دعوة من الملك فإنه يشرف بهذه الدعوة، فإذا كان شخصاً عادياً جاءته دعوة خاصة ببطاقة وفيها اسمه بتوقيع الملك، فكم سيكون فرحه بهذه الدعوة، وكم سيكون شرفه بهذه البطاقة، بل إنه سيحتفظ بها، وسيعرضها على الناس كل يوم، سبحان الله! فمن المجنون الذي يعرض عن مائدة الله، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، وقد اتفق العلماء بجميع مذاهبهم على تحريم صوم يومي العيدين، حتى قالوا: لو أن إنساناً نذر صوم يوم العيد فنذره لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعينه فنذره باطل، وإما أن يعين النذر بعمل، كأن يقول: يوم يجيء فلان من غيبته سأصبح صائماً، فجاء فلان هذا يوم تسعة من ذي الحجة، فإذا جاء يوم تسعة من ذي الحجة فسيصبح يوم العيد صائماً، وهو لم يعين يوم العيد، وإنما عين وصفاً فصادف وفاء النذر في يوم العيد، فقالوا: أيضاً لا ينعقد الصوم ولا يصح، فسواء عين يوم العيد باسمه، أو علقه على وصف فتحقق في يومه فلا يصح الصوم فيه، وهذا مذهب الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا عقد النذر وصادف يوم العيد، قال: انعقد نذره وحرم تنفيذه ويصوم يوماً آخر مكانه؛ لأن النذر لازم، ويوم العيد ممنوع صومه، فنأخذه باللازم وننقله إلى يومٍ آخر، وهذا فقه المسألة في صوم يومي العيدين.

المقارنة بين عيدي الإسلام وبقية الأعياد

المقارنة بين عيدي الإسلام وبقية الأعياد وبهذه المناسبة يا إخوان! في ذكر يومي العيدين، جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة وجد عند الأوس والخزرج أعياداً يحتفلون بها، وهذه عادة الأمم أنهم يجعلون أيام الخير أو المناسبات أعياداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (لقد أبدلكم الله بهذه الأعياد يومين خيراً منها: يوم الفطر، ويوم الأضحى) ، وأبطل بقية الأعياد، وإن سميت اجتماعية أو شعبية أو غير ذلك، ولو تأملنا أيها الإخوة! في جميع مسميات أعياد العالم عند جميع الأمم لوجدناها تخيلاً وليست حقيقية، وسنجدها أعياداً في الذاكرة وليس في الواقع، بخلاف عيدي الإسلام، ومن هذه الأعياد التي يختلفون بها: عيد رأس السنة، وعيد الجلاء، وعيد الاستقلال، وهذه أعياد عند أهلها؛ لأنهم نالوا فيها الحرية من سلطة المستعمر، ونالوا خلاء بلادهم ممن كان جاثماً عليها، ولأمور أخرى سواء كانت دينية أو كانت دنيوية، ونقول: إن هذا الحدث الذي وقع عند الأمم لا يتكرر، ولم يقع إلا مرة واحدة يوم أن حدث، فمثلاً: عيد الاستقلال، الدولة التي نالت استقلالها نالته مرة واحدة، فيوم أن استقلوا احتفلوا به وصار ذلك اليوم عيداً عندهم، وموعده من السنة الآتية عيد الاستقلال مع أنه قد ذهب وانتهى، إذاً: فهو عيد للذكرى الماضية، وهكذا جميع الأعياد، أما في الإسلام فعيد الفطر يتكرر؛ لأنّا في كل سنة نصوم ونفطر، كل سنة نصوم ونعيّد، فعيد الفطر على هذا واقع فعلي وليس مجرد ذكرى وخيال، وكذلك عيد الأضحى، ففي كل سنة من الأمة من يحجون ويفيضون من عرفات مغفوراً لهم، فيكرمهم الله بعيد الأضحى. إذاً: لم يأتِ عيد الفطر ولا عيد أضحى خيالاً أبداً، إنما هو واقع، فعيد المسلمين عملي، يصومون ويعيدون، ويحجون ويعيدون، أما بقية أعياد العالم كله، لا تتكرر على حقيقتها، ولكن على ذكرياتها، مناسبة العيد أنه هو اليوم السعيد الذي عاد على الأمة بخير جديد. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل أعياداً متعددة متكررة لأنها باطلة وقد انتهى مفعولها، وأصبحت على الذاكرة والخيال، وأبقى عيدي الإسلام لأنها عملية، يأتي موجبهما في كل سنة فتتجدد النعمة بمجيئهما، إذاً: من الناحية التشريعية إبطال الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الأعياد التي كانت عندهم أمر واقعي، والنهي عن صوم يومي العيدين أيضاً كذلك أمر واقعي وعملي، ولا ينبغي لعبد أن يعرض عن ضيافة المولى وإكرامه لعباده في هذين اليومين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3]

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3] دين الإسلام وسط بين الغلو والجفاء وبين الإفراط والتفريط، فهو ألزم المسلم بحقوق لله جل وعلا، وحقوق لنفسه ولأهله، فأمره بعبادات وحرم عليه الغلو فيها حتى لا يؤدي به ذلك الغلو إلى التقصير في أمور أخرى في حقه وفي حق من يعول، ومن أمثلة ذلك أن الشرع أمر بالصيام وندب إليه، ولكنه حرم المبالغة فيه؛ فحرم صيام الدهر، وحرم صوم العيدين، بل وأباح الفطر في الصوم الواجب إذا كان فيه مشقة كمشقة السفر والمرض والعجز.

حكم صيام أيام التشريق

حكم صيام أيام التشريق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل) رواه مسلم] .

سبب تسمية أيام التشريق بهذا الاسم

سبب تسمية أيام التشريق بهذا الاسم (أيام التشريق) التشريق: تفعيل من الشروق، من قولك: أشرقت الشمس، وسميت أيام التشريق تشريقاً؛ لأنهم كانوا في الإسلام وقبل الإسلام، تكثر لحوم الأضاحي والهدايا عن حاجتهم في يومهم، فيدخرون لحومها، فكانوا يشرحونها شرائح رقيقة وينشرونها على الصخور، أو على الحبال، حتى تتعرض إلى أشعة الشمس فتذهب عنها الرطوبة التي هي سببٌ في إفسادها، فيبقى اللحم على أليافه وخلاياه -كما يقال- وتركيبه الطبيعي، واللحم إذا تخلص من رطوبته يبقى لفترات طويلة، ويسمى (القديد) وكانت العرب تأكل ذلك، فكانوا يتزودون ويدخرون لحوم الأضاحي والهدي الزائد عن حاجتهم، سواء في ذلك من كان غنياً أو فقيراً، وسواءً مما زاد عنده مما ذبحه أو مما وجده زائداً عند غيره ومن هنا كانت تسمى أيام التشريق. وبعضهم يقول: سميت أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينتظرون بالذبح حتى تشرق الشمس، أي: لا يذبحون في الليل وإنما بعدما تطلع الشمس ويطلع النهار. ولكن التسمية الأولى هي الصحيحة العملية. كم هي أيام التشريق؟ الجواب: بعضهم يقول: هي يومان لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] . والآخرون يقولون: هي ثلاثة أيام، وهذا هو المشهور، وعلى هذا فإن أيام التشريق ثلاثة.

سبب النهي عن صيام أيام التشريق

سبب النهي عن صيام أيام التشريق نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وسيأتي بيان الاستثناء في حالات خاصة. وقد بين علة النهي فقال: (أيام التشريق -أيام منى- أيام أكل وشرب وتبعل) ، لاحظوا يا إخوان هذا التنبيه! متى بدأ المحرم إحرامه؟ أقل ما يكون أنه قبل أسبوع، أو عشرة أيام؛ وقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الآفاقيين يأتون شعثاً غبراً) أي: مسافرين من بعيد، جائين من الشرق والغرب، رجالاً وعلى كل ضامر، (وأنتم في بيوتكم إلى أن يأتي اليوم الثامن وتحرمون) يعني: أنكم لم تشاركوا الحجاج في وعثاء السفر، ولم تشاركوهم في تفث الإحرام، فأنت أيها المكي! تخرج من بيتك ومن حمامك إلى منى، وغيرك يأتي وله شهر أو أقل أو أكثر، وهو يحل ويرتحل في إحرامه، وقد وجد العناء ووجد وعثاء السفر والتفث، وهو تعبان في هذه المدة كلها، (أحرموا إذا هلّ هلال ذي الحجة) يعني: جعل عليهم بعض صعوبة الإحرام حتى يشاركوا الناس في بعض مشاق الحج. فإذا كان أقل مدة سيحرم فيها الحاج هي عشرة أيام، وهناك من له في الإحرام شهر كامل، فمتوسط مدة الإحرام عشرون يوماً، فإذا كان إنسان معه زوجته، في سيارة واحدة، على هودج واحد، يحل ويرتحل وهي أمامه، وهو لا يقربها، فإذا ما أدى النسك، فلا نضيق عليه أيام منى كذلك، وإنما نقول له: قد انتهى المحظور وحلت لك زوجتك. وقوله: (أيام أكل وشرب) هل معنى هذا أن الأيام الماضية ليس فيها أكل وشرب؟ الجواب: لا، ولكن زاد المسافر ليس كزاد المقيم، فالمسافر يجتزئ بالذي يحصل، فإذا كان في منى ليس عنده شيء، وقد ذبح الهدي، وذبح الأضحية فما بقي إلا أن يأكل. فإذا أكل وشبع وزوجته عنده وله عنها مدة عشرين يوماً في متوسط الزمان، فهو في حاجة إليها أكثر، ولهذا قال: (أيام أكل وشرب وتبعلٍ) ، تبعل: من البعل، والبعل هو الزوج، ويقال: هذا البطيخ بعلي، وتسمعون من أصحاب الحبحب قولهم: هذا حبحب بعلي، يعني: أنه وضع الحب وجاء المطر مرة واحدة وشبعت الأرض بالماء فتبعلت البذرة ونبتت واجتزأت برطوبة الأرض إلى أن أثمرت، إذاً: كذلك الرجل يبعل. ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وهي من الأيام التي نهي عن الصيام فيها كل عام. وأما يوم الشك فليس معيناً بذاته في كل سنة، فممكن أن تكون هناك شك وممكن أن لا يكون، وأما يوم عرفة فالذي هو قاعد في بيته يصوم وإنما منع صيام يوم عرفة بعرفة. إذاً: الأيام الممنوع صومها في الحالات العادية يوما العيد ولا عذر لأحد في صومها ولا استثناء فيها مطلقاً، وأما أيام التشريق فسيأتي الاستثناء فيها، وعلى هذا تكون الأيام المنهي عن الصوم فيها طيلة العام بصفة رسمية، وبتشريع عمومي هي خمسة أيام: يوما العيدين، وأيام التشريق. والله تعالى أعلم.

الرخصة في صيام أيام التشريق للحاج الذي لم يسق الهدي

الرخصة في صيام أيام التشريق للحاج الذي لم يسق الهدي قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) ، رواه البخاري. ] . لما قدم المؤلف رحمه الله أن الأصل هو المنع من الصوم في أيام التشريق، جاء بالحديث الذي فيه استثناء، والاستثناء يكون حادث بعد المستثنى منه، تقول أم المؤمنين عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: (لم يرخص) والرخصة مأخوذة من الرخص وهو اللين كما يقولون: السعر الرخيص فالرخص هو: اللين كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان كأن أطرافه علم (ومخضب) أي: كف مخضوب بالحناء، (علم) والعلم هو: نوع من النبات لين يلف بعضه على بعض، يقول: كأن أصابعها نبات العلم لينة ليس فيها عظام، وهذا أجمل ما يكون في وصف الأطراف، فهنا الرخصة هي: اللين بعد الشدة، كما قال سبحانه وتعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائةٌ يَغْلِبُوا مِائتَيْن} [الأنفال:66] ، كان في البدء الواحد يغالب عشرة، ولما علم الله أن فيهم ضعفاً خفف عنهم وجعل الواحد يغالب اثنين، ومغالبة الاثنين أهون من مغالبة العشرة، وقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. } [المائدة:3] الآية، ثم قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [المائدة:3] ، التحريم هو بالمنع وقد يجد الإنسان الشدة ويصل إلى حد الموت، والميتة عنده، والعزيمة والشدة تمنعه من أكلها، لكن جاءت الرخصة وخففت عليه، فإذا اضطر إليها فيأخذ منها ما يسد الرمق، فجاء اللين بعد الشدة. إذاً: الرخصة هي: الإباحة بعد المنع مع قيام دليل المنع، فلما أباح الميتة للمضطر، لم يرفع حكم التحريم عن الميتة، لكن هذا لظروفه الخاصة خفف عنه، وأبيح له المحرم مع قيام تحريمه فعلاً، فلا نقول: إنها أصبحت حلالاً له وقد انتفى عنها حكم التحريم، بل هي محرمة، ولكن لظروفه ولاضطراره رخص الله له فيها. إذاً: فإذا رخص الله في صوم أيام التشريق فمعنى هذا أن الأصل فيها عدم الرخصة، وعدم الصيام. فلمن تكون الرخصة في صوم أيام التشريق؟ الجواب: تكون رخصة لمن لم يجد الهدي؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] . هنا يقولون: (ثلاثة أيام) جاءت بقيد (في الحج) ، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة، يقول البعض: وعشرة أيام من ذي الحجة، وبعضهم يقول: وخمسة عشر من ذي الحجة، ويقول آخرون: وذو الحجة كله، لكن هذا بحسب الأعمال التي يمكن أن تقع في ذي الحجة، فهم يتفقون على أن أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة، يجب أن تنتهي عند أيام التشريق، فإذا تأخر إنسان في رمي الجمار حتى خرجت أيام التشريق فلا قضاء، فلو ترك رمي الجمار الثلاث في اليوم الأول الأولى والوسطى والعقبة، وترك الجمار في يوم الحادي عشر من ذي الحجة الصغرى والوسطى والكبرى، وترك أيضاً رمي الجمار الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى في الثاني عشر، وجاء يوم الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق وقضى كل ما كان قد تركه من رمي الجمار، فقد أجزأه ذلك ولا شيء عليه، لكن إذا ترك الكل إلى يوم الرابع عشر فقد خرج يوم الرمي وفات عليه الوقت؛ لأن أيام الحج العملية قد انتهت، ولذا فإن أيام التشريق هي آخر فرصة للحاج أن يكمل حجه فيها، ولذا يقول الفقهاء: إن الشخص الذي يريد أن يتمتع ولا يستطيع أن يأتي بهدي التمتع فلابد عليه من إيقاع صوم الثلاثة الأيام في الحج متلبساً بالحج، وأول خطوة يتلبس فيها للحج هي إحرامه بالحج، فالذي جاء بالعمرة وليس عنده قيمة الهدي ينتظر إلى يوم ثمانية وهو يوم التروية، فيستأنف الإحرام للحج من جديد ثم يذهب إلى منى، ويبيت هناك ومن غد في يوم تسعة يذهب إلى عرفات، يقول الفقهاء: فمادام هذا الحاج يعلم من نفسه أنه لا يملك قيمة الهدي فعليه أن يحرم يوم خمسة، أو يوم ستة من ذي الحجة ويصوم ليوقع الصوم في الحج بإحرامه، فيصوم يوم ستة ويوم سبعة ويوم ثمانية، ثم يأتي إلى عرفات مفطراً، ثم يكون في منى مفطراً، فإذا فوت على نفسه تقديم الإحرام وإيقاع صوم الثلاثة الأيام في حجه لم يبق له إلا أن يتداركها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج، فهي الأيام التي تذبح فيها الضحايا، ويذبح فيها الهدي، وترمى فيها الجمار، فيصوم فيها إذا لم يستطع الهدي، وعلى هذا لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد هدي التمتع، فيصوم الثلاثة الأيام الواجبة عليه في الحج فيها، ويصوم السبعة إذا رجع إلى بلده. إذاً: الأصل منع الصوم في هذه الأيام ولكن رخص به تخفيفاً على الحاج، وتداركاً لأمره. والأصل في أيام منى هو الأكل والشرب، ولم يرخص في صومها إلا لحاجة وضرورة لمن لم يجد الهدي، ونجد للعلماء رحمهم الله مباحث فقهية تفريعية في هذا الباب يقولون: الحديث جاء في هدي التمتع، فلو أن إنساناً عليه دم غير التمتع كأن يكون قارناً، وكثير من العلماء يقول: القران تمتع، أو كان عليه دم آخر كأن كان محصراً ولزمه دم، فهل يصوم هنا في أيام التشريق، بعضهم يقول: لا؛ لأن هذه الرخصة خاصة بدم التمتع، وإذا كان حلق رأسه ولزمته فدية، فهل يصوم عنها هنا؟ قالوا أيضاً: لا، وكثير من العلماء يقول: يجزئه أن يصوم في أيام التشريق للتمتع أو للقران أو للإحصار، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم صيام يوم الجمعة

حكم صيام يوم الجمعة قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم) ، رواه مسلم] هذه الأحاديث الآتية هي نهاية ما ذكره المؤلف في كتاب الصيام، في باب صوم التطوع وما نهي عن صيامه، وقد ذكر لنا ما يستحب صومه وهي ستة أيام من شوال مع رمضان، وعرفة وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وذكر لنا مما لا يصح صومه يوم العيدين، وأيام الشريق، إلا لمن لم يجد هدياً في التمتع، ثم جاء إلى يوم الجمعة، فجاء فيه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. منطوق هذا الحديث هو النهي عن أن يخصص الإنسان ليلة الجمعة بقيام، أو بتلاوة، أي: بإحيائها بعبادة دون سائر ليالي الأسبوع، وكذلك النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة وحده بصيام دون بقية أيام الأسبوع، إلا إذا صادف يوم الجمعة يوم صوم أحدكم، مثلاً: إنسان متعود أن يصوم كل أول يوم في الشهر، أو كل أحد عشر في الشهر، أو كل واحد وعشرين في الشهر، كما كان يرى مالك رحمه الله: أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يكون على قسمين: قسم يوزع على عشرات أيام الشهر من كل عشرة أيام يصوم يوماً، والقسم الثاني: أن يصوم ثلاثة أيام في هذا الشهر من أول الأسبوع ويصوم ثلاثة أيام في الشهر الثاني من آخر الأسبوع، يعني: في الشهر الأول يصوم السبت والأحد والاثنين، وفي الشهر الذي يليه يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس ويقول: لا يهجر شيئاً من الأيام عن الصوم، فإذا كان يصوم يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، وهذه أيام منفردة فهو متعود أن يصوم هذه الأيام الثلاثة على انفراد، فصادف في بعض الأشهر أن يوم واحد هو يوم جمعة، أو يوم أحد عشر، أو يوم واحد وعشرين أنه يوم جمعة، فحينئذٍ لا بأس أن يصومه ولو كان منفرداً؛ لأنه ما صامه لكونه يوم الجمعة، وإنما صامه للوعد الذي قطعه على نفسه والعمل الذي داوم عليه، هذا منطوق هذا الحديث، وسبق أن أشرنا إلى أن مالكاً رحمه الله يقول: إنه لا بأس بصوم يوم الجمعة، ويقول: ولقد رأيت أهل العلم ببلدنا يتحرون صيامه، فقول مالك يدل على استحباب صوم يوم الجمعة مفرداً، وهذا الحديث يدل على النهي عن صومه مفرداً، وسيأتي هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) يعني: حتى لا تحصل الخصوصية. والمسألة فيها بحث كما يقولون، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: وقد اختلفت الآثار الواردة في إفراد صوم يوم الجمعة، وساق النصوص التي جاءت بالحث على صومه وإباحة صومه وحده، قال: وروى أبو سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما رأيته يوم الجمعة قط إلا صائماً) ، وكذلك روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رأيت رسول الله يوم الجمعة إلا صائماً) ، وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يديم صوم يوم الجمعة، وذكر عن ابن عمر مثل ذلك، ثم جاء بالنصوص الأخرى التي فيها أنه لا يفرد صوم يوم الجمعة، وإنما يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، من ذلك: أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفطر، وكان في يوم الجمعة فقال: (هلمي إلى الفطار فقالت: إني صائمة، قال: أصمت بالأمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) . فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم في قضية عينية بالذات، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل وهو بمكة: هل سمعت رسول الله ينهى عن إفراد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب هذه البنية! أي: الكعبة. وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما أنا نهيت عن صوم يوم الجمعة وإنما نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم) . فهذه هي النصوص الموجودة من جانب في عدم إفراده، ومن جانب في صحة بل واستحباب إفراده، ويقول ابن عبد البر: إن بعض الآثار التي جاءت بالحث على صوم يومٍ قبله وصوم يومٍ بعده، في أسانيدها مقالات، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم الجمعة، فأجاب المانعون عن حديث أبي سعيد: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مفطراً قط) ، قالوا: لعله كان يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده جمعاً بين النصوص، وكذلك الآثار، والذين يجيزون قالوا: هذا تأويل لم يأت في الحديث، ومظنة ليس عليها دليل. إذاً: المسألة خلافية، والأولى في ذلك ألا يفرد وإن كان مالك رحمه الله ذكر أن أهل العلم في عصره كانوا يتحرون صومه، ويجعلون ذلك لفضيلة هذا اليوم، ولكن المانعون من صوم يوم الجمعة جاءوا بعلة وبسبب منع صوم يوم الجمعة فقالوا: لأنه يضعف الإنسان عن واجبات يوم الجمعة، فيقال لهم: فأنتم تجيزون صومه إذا صام معه غيره، وهذا يكون أشد ضعفاً؛ لأنه سيصوم يومين: يوم الخميس ويوم الجمعة، وسيصير في يوم الجمعة أشد ضعفاً مما قبله، إذاً: هذه علة غير صحيحة، والأولى والأقرب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن إفراد يوم الجمعة، فيه -كما يقولون- غلو في اليوم، والدين الإسلامي بعيد عن الغلو في الزمان وفي المكان، إلا ما جاء النص صريحاً فيه، فقد جاء تكريم مكة، وجاء تكريم بعض الأماكن، وجاء تكريم بعض الأزمنة كبعض الساعات والأيام والشهور، كل ذلك جاء بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: لا ينبغي إفراده قالوا: حتى لا يغالي بعض الناس فيه فيصبح يوم الجمعة كيوم السبت عند اليهود، لأن اليهود حرموا على أنفسهم العمل يوم السبت، فامتحنهم الله بالحيتان كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163] ، فيوم السبت كانت تأتيهم الحيتان شرعاً على وجه الماء، تتلاعب معهم، وفي غير السبت تختفي لا يرونها، فلم يقدروا أن يصبروا على هذا، فاخذوا الشباك يوم الجمعة، وألقوها في الماء وتركوها، وذهبوا إلى بيوتهم يوم السبت، وقالوا: نحن لا نشتغل، فلما كان يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق بها من حيتان يوم السبت وأكلوها، ولما نهاهم الأحبار قالوا: نحن لا نعمل يوم السبت، بل نحن في البيوت، وما عملنا شيئاً، فكانت هذه فتنة عليهم، فالله سبحانه وتعالى انتقم منهم، وجعل منهم القردة والخنازير. إذاً: الذين نهوا عن إفراد يوم الجمعة خافوا من الغلو الذي وقع فيه اليهود في يوم السبت، وهذا أقرب ما يمكن أن يعلل به، أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلم يكن مفرداً، إنما يكون كبقية الأيام صام في هذا اليوم كما صام في غيره، والذين ينهون عن إفراده بالصوم قالوا: لأنه يوم عيد، وقد جاءت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أن يوم الجمعة عيد، والذي يؤيد وجهة النظر الأولى: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا: أن الإسلام لا رهبانية فيه، وأنه دين دنيا وآخرة، فهناك اليهود فرطوا في جانب الدين، وأفرطوا في جانب الدنيا، حتى احتالوا على ما حرم الله ليصلوا إليه كقضيتهم في يوم السبت مع الحيتان، بينما النصارى بالعكس، فرطوا في أمر الدنيا وبالغوا وغالوا في أمر الدين حتى تجاوزوا الحد، وكل منهما لم يفلح ولم يستطع أن يواصل السير بدينه إلى النهاية، وكانت من حكمة الله سبحانه أن ينقل الرسالة من أرض النبوات بالشام إلى الجزيرة العربية إلى العرب عن طريق إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ونشأ الرسول من ذرية إسماعيل، وجاء الإسلام وتلقته الأمة وكان من أمره ما كان، فهنا جاء التشريع الإسلامي مبعداً كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغلو في أحد الجانبين، فمنع ما كان غلواً في أمر الدنيا، وما كان غلواً في أمر الدين، وأمر بالاعتدال قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسطاً في أعمالها، ووسطاً في أفكارها، ووسطاً في دعوتها، وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، فهذه الأمة الوسط المعتدلة المستقيمة هي بعيدة عن الإفراط والتفريط في الدين وفي الدنيا، وأعظم تطبيق عملي لهذه الوسطية ما جاء في سورة الجمعة، في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ماذا يكون الحال؟ {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي الجري ولكن المراد تأهبوا، وخذوا العدة، وتهيئوا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، ((فاسعوا إلى ذكر الله)) وهذا دين، ((ذروا البيع)) وهذه دنيا، فلكلٍ مكانه ولكلٍ وقته، {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] فهل قال: اعتكفوا في المساجد، واجلسوا لذكر الله إلى آخر اليوم! وامتنعوا عن العمل؟ الجواب: لا، نحن قبل الصلاة كنا في الأسواق نبيع ونشتري، فلما جاء وقت الدين تركنا الدنيا وذهبنا إلى الصلاة، فإذا قضيت الصلاة وأدينا حق الله قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ولم يقل: ارجعوا، أو عودوا إلى أسواقكم، ولكن قال: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَ

الترخيص في صيام يوم الجمعة إذا صام يوما قبله أو يوما بعده

الترخيص في صيام يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) ، متفق عليه. ] . هذا أصح النصوص الواردة سنداً فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، وفيه النهي عن صوم يوم الجمعة وفيه استثناء جواز صوم يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله، أو صام يوماً بعده، واليوم الذي قبل يوم الجمعة هو يوم الخميس، ويوم الخميس قد جاء النص في صومه بذاته، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي الاثنين والخميس؟ فقال: (أما يوم الاثنين فولدت فيه، وأنزل علي فيه) ولما سئل عن صومه يوم الخميس قال: (هذا يوم تعرض فيه الأعمال على الله، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) وأما يوم السبت فقد جاءت فيه الأخبار مختلفة أيضاً، فقد جاء النهي عن صوم يوم السبت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغها) وجاء النص: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد) ، وسيأتي إيراد ذلك وبيانه، إذاً: لما كان السبت قد جاء نهي عن صومه، فإذا ضم إليه الجمعة فقد انتهى النهي. وجاءه في بعض الروايات: (أن السبت والأحد يوما عيد لليهود والنصارى، وأنا أحب أن أخالفهما فأصومهما) ، وعلى كلٍ يهمنا أن هذا الحديث المتفق عليه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت، وبهذا ينتهي الإشكال وهذا خير ما يقال في هذه المسألة.

حكم الصيام بعد النصف من شعبان

حكم الصيام بعد النصف من شعبان قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] . عوداً على صوم شعبان، تقدم في أول كتاب الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ، وعلمنا أن العلماء بينوا أن السبب في ذلك حتى لا يضاف إلى رمضان ما ليس منه، وأن في ذلك أيضاً تحذيراً مما وقع من الغلو من بني إسرائيل، فقد كان صوم رمضان مفروضاً عليهم، ولكنهم أخذوا بالشدة، فأضافوا لرمضان يوماً في أوله، تأكيداً واحتياطاً، وأضافوا يوماً في آخره تأكيداً واحتياطاً، فصار الصوم اثنين وثلاثين، فلما طال الزمن ظن الجيل الآخر: أن أصل الصوم اثنان وثلاثون فزادوا يوماً في أوله احتياطاً، وزادوا يوماً في آخره احتياطاً، فصار الصوم أربعة وثلاثين، ومضى زمن وجاء الجيل الذي بعدهم، فظن أن أصل الصوم أربعة وثلاثون يوماً، وهكذا خمس مرات، حتى أصبح الصوم أربعين يوماً، ورمضان شهر قمري، فجائهم في فصل الصيف، فعجزوا عن صومه، فاتفقوا على أنهم يزيدون عشرة أيام ويجعلون صومهم خمسين يوماً ويؤخرونه عن الصيف، فغيروا طبيعة الصيام وصاروا يأكلون بعض الشيء ويقولون نحن صائمون، وأخروا شهر رمضان إلى فصل الربيع، فضاعت عليهم فضيلة الشهر بعينه، والمدة المفروضة التي فرضها الله فضاع عليهم الشهر، ثم لما جاء الإسلام ولكي لا تتكرر هذه الغلطة، حفظ الله رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم قبل رمضان يوماً أو يومين حتى لا تدخل في صلب رمضان، وحرم صوم يوم الشك كما قال عمار بن ياسر: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم) ، ومن الذي يجرؤ على عصيان أبي القاسم، فحفظ أول الشهر، ثم جاء إلى آخر رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم العيد. إذاً: أصبح رمضان محاطاً بسياج التحريم، فلا يقبل زيادة كما لا يقبل نقصاً، وعلى هذا حفظ لنا رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحمد الله، ما زاد ساعة ولا نقص، وهذا بسبب عدم الغلو، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث فقال: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] . قوله: (إذا انتصف شعبان) يعني: أن ما قبل النصف من شعبان لك أن تصومه، ولكن إذا جاء النصف من شعبان فكف عن صوم التطوع، أما صوم القضاء أو النذر، أو الكفارة، أو الصوم الذي هو مطلوب شرعاً فلا بأس؛ لأنك تصومه لطلبه، أما أن تتطوع من نفسك فلا، إذاً: نستطيع أن نقول توفيقاً بين تلك النصوص: أن أول النهي كان (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، ثم جاء التضييق أشد (لا تسبقوا رمضان بصوم يوم أو يومين) ويكون في هذا التدرج فنهى عن الصوم بعد منتصف شعبان حتى يمسك الناس قليلاً ويهونوا، ثم حرَّم وأكد التحريم فنهى أن يسبق رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لأنه أشد خطراً، وبهذا يسلم لنا رمضان، وهناك من يقول: هل علي شيء إذا كنت أصوم ولا أدخل في رمضان شيئاً من غيره؟ نقول: كل هذه الاجتهادات إذا جاء فيها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد، أما قضاء الفوائت فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت يكون علي القضاء الأيام من رمضان فلا أستطيع صومها إلا في شعبان مراعاة لحق رسول الله مني) ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصوم في شعبان، فتنتهز فرصة صومه؛ لأنه إذا كان صائماً وهي صائمة فليس له حاجة، بخلاف ما إذا كان مفطراً وكانت نوبتها فقد تكون له حاجة إليها، وقد تقدم لنا أن المرأة لا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، أي: صوم التطوع، إذاً: من كان عليه قضاء من رمضان أو نذر أو كفارة فله أن يصومه إذا انتصف شعبان، أما مجرد التطوع لله فلا، حفظاً لرمضان.

حكم صيام يوم السبت ويوم الأحد

حكم صيام يوم السبت ويوم الأحد قال المؤلف رحمه الله: [وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب، أو عود شجرة فليمضغها) رواه الخمسة ورجاله ثقات، إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ] . هذا الحديث بصرف النظر عن اضطرابه أو نسخه، النهي فيه صريح عن صوم يوم السبت منفرداً؛ لأنه قد تقدم لنا أنه يمكن أن يصومه ردفاً للجمعة، فإذاً: النهي هنا إذا كان منفرداً؛ إلا في صوم المفروض، مثل لو كان على إنسان نذر عشرة أيام، أو كان عليه قضاء، أو كان في رمضان، فإن في رمضان أربعة أسبت. إذاً: إفراده بالصوم منهي عنه في هذا الحديث، ثم أكد صلى الله عليه وسلم على عدم الصوم، ولو لم يكن عندك شيء فاذهب إلى شجرة العنب أو إلى غيرها وخذ منها لحاءها أي: قشرتها ومصها، مع أن شجرة العنب من أيبس الأشجار لحاءً، وغيرها من الأشجار في قشرتها ماء أكثر من قشرة العنب، ولكن المعنى: أنك تنظر نباتاً فيه ماء فتمصه حتى يصل هذا الماء إلى الحلق فيبطل الصوم، وفي هذا تشديد في النكير على صوم يوم السبت وحده، ولكن هذا الحديث استنكره مالك، واستنكره غيره، وقال غيره: إنه منسوخ بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم السبت والأحد، لماذا كان النهي قبل النسخ؟ يقولون: لأنه عيد للنصارى، وإذا صمناه عظمناه، وشاركنا النصارى في تعظيمه، وقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يخالف أهل الكتاب في عباداتهم. إذاً: كان النهي عن صومه ابتعاداً عن محاكاة ومشابهة أهل الكتاب، وقد تقدم في عاشوراء أنهم كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان الرسول يصومه في مكة، ولما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صومهم له فقالوا: لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله فصمناه، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصام يوم عاشوراء، ولما قيل له: نحن شاركنا اليهود في هذا العمل، قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) ، أي: حتى نغاير صورة صوم اليهود في عاشوراء. قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: إنهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) ، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه. ] الذي يهمنا أن النهي عن صوم يوم السبت منفرداً قد نسخ، وأنه يجوز صوم كل من السبت والأحد وجميع أيام الأسبوع، فيجوز صومها منفردة إلا يوم الجمعة للنهي الذي تقدم في الحديث المتفق عليه: (إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) .

نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن الصوم بعرفة

نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن الصوم بعرفة قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) ، رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي] قد تقدم الكلام عن صوم يوم عرفة بصفة عامة، وأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين: سنة ماضية وسنة آتية، أو السنة التي هو فيها، وسنة مقبلة، وكان ذلك على الإطلاق، وهنا جاء النهي عن صوم يوم عرفة لمن يكون في عرفة، وبين العلماء أن النهي عن صوم يوم عرفة للمعرف إنما هو مراعاة لظروفه، ورفقاً به؛ لأنه كما قالوا: يبدأ في يوم ثمانية -أي: قبل عرفة بيوم- فيصعد إلى منى، ويروي من الماء في البرك -وهذا كان في السابق- ثم يبيت بمنى ويذهب إلى عرفات، ثم في عرفات أعمال عديدة، فهو يصلي مع الإمام جمعاً وقصراً، ثم يأتي إلى الموقف، ومن بعد الصلاة من الزوال إلى أن تغرب الشمس وهو مشتغل بالدعاء والابتهال إلى الله في هذا اليوم العظيم، فإذا كان هذا هو شأن يوم عرفة، فهل يتأتى لإنسان صائم أن يقوم بواجب هذا اليوم، من الاجتهاد في الدعاء والمسألة والمسكنة بين يدي الله، فضلاً عن أنه إذا غربت الشمس وكان صائماً سينزل حالاً إلى المزدلفة ويبيت، ثم يصلي الصبح، ويذهب إلى المشعر الحرام فيذكر الله كما هداه، وقبل أن تشرق الشمس ينزل إلى منى، وبوادي محسر يسرع قدر رمية حجر، ويأتي إلى منى، ثم يرمي الجمرة، ثم يحلق شعره، وينحر هديه، وبعد الحلق والنحر يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، فهذا العمل الدائب لا يتأتى معه أداء مستوفى مع صوم يوم عرفة. إذاً: كان الأولى أن يكون مفطراً في يوم عرفة ليتقوى بفطره على أداء واجبات هذا اليوم الفذ النادر في حياة المسلم، ثم وجدنا أن من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن صومه يكفر سنتين) ، أنه جاء إلى عرفات وهو مفطر، فقد جاء أنه قدم إليه قدح من اللبن بعد العصر فرفعه بيده والناس ينظرون فشرب. إذاً: سيد الخلق وأقوى الناس في ذلك الوقت، كان مفطراً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ، فكان يفعل الشيء وهو يحب غيره للتشريع والتخفيف على الأمة، لكن نقول: جاء في موطن آخر وقال: (خذوا عني مناسككم) ، والوقوف بعرفات أهم المناسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) . إذاً: الأولى للإنسان إذا كان معرفاً في النسك أن يكون مفطراً، ومع هذا وجدنا أن بعض السلف كان يحب صومه، ويتأول ذلك ويقول: النهي عن صومه إنما هو لمن كان يضعف عن أداء الواجب، فإذا كان يجد في نفسه قوة ولا يضيره الصوم، فليجمع بين الحسنيين: الصوم والنسك، ولكن نقول: القوة نسبية والتشريع عام شامل لا يستثني فرداً عن فرد، وسيد الخلق قد أفطر، وهو أقواهم، وقد كانوا في القتال إذا اشتد عليهم القتال وحمي الوطيس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، ولما فروا يوم حنين ثبت ووقف وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وجميع القادة العسكريون حينما تشتد الأزمة يختفون؛ لأنه إذا ذهب القائد ذهبت المعركة، فيستتر ليديرها ويسترجع أنفاسه كما يقال، ولكن النبي صلى الله عليه يعلن عن نفسه! وعلى بغلته: أنا، أنا، سبحان الله! يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه، وهذا لا يكون إلا من القوة والشجاعة والثبات وشدة اليقين بنصر الله. إذاً: نقول: إن الأولى بدون شك لكل مسلم حضر عرفات في نسك أن يكون مفطراً كما فعل صلى الله عليه وسلم.

حرمة صيام الدهر

حرمة صيام الدهر قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صام من صام الأبد) ، متفق عليه، ولـ مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ: (لا صام ولا أفطر) . ] . يختم المؤلف رحمه الله كتاب الصيام بخاتمة خير إن شاء الله، وختمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام من صام الأبد) . هل الكلام هنا خبر أم إنشاء؟ الإنشاء يكون دعاء، والخبر يكون إبطال للعمل، فهل هو يخبر أنه لا صام أو يدعو عليه أنه لا يصوم؟ الجواب: كلا الأمرين كما قال بعض السلف: (ويل لمن أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه لا صيام له، وويل لمن دعا عليه رسول الله ألا صيام له) . وهنا يفسرون معنى صيام الأبد أو صيام الدهر، بأن الشخص يسرد الصوم ولا يفطر.

سبب النهي عن صيام الدهر

سبب النهي عن صيام الدهر قال بعض العلماء: سبب الدعاء عليه أو إلغاء صومه أنه يصوم جميع الأيام بما فيها المنهي عن صومها، كالأعياد، وأيام التشريق، بدون حاجة، فهذا متعد ومخطئ، فلا صيام له، وبعضهم يقول: سبب الدعاء أن الذي يواصل الصوم يضعف أمام الواجبات الأخرى وهي أولى من نوافل الصوم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في رده على النفر الثلاثة الذين قال قائل منهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر، فخطب الناس وقال: (أما أنا فإني أصوم وأفطر،) ، وقال رداً على الثاني: (أقوم الليل وأنام) ، ورداً على الثالث: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وقال للرجل الذي جاءه وسلم عليه فلم يعرفه فقال: (ألم تعرفني؟ أنا الذي جئتك العام الماضي، فقال له: وما لي أرى جسمك نحيلاً) ، أي: أنت كنت شباباً ونشيطاً، فلماذا نحلت؟ (قال: منذ فارقتك العام لم أطعم طعاماً نهاراً قط، قال: وما الذي حملك على تعذيب نفسك) ، أي: أن الله غني عن هذا، والذي نحل جسمه كهذا لا يستطيع أن يقاتل عدواً، ولا يزرع أرضاً، ولا يؤدي صناعة، ولا يؤدي حقوق الزوجة، ولا حقوق الأبوين، ولا حقوق الأولاد، ولا حقوق الجيران، وسلمان الفارسي لما جاء إلى أخيه في الإسلام أبي الدرداء وجد زوجة أبي الدرداء في لباس عادي، فقال: ما هذا يا أم الدرداء! أليس لك زوج؟ قالت: يا سلمان! أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، فنهاره صائم وليله قائم، فجلس حتى جاء أبو الدرداء فبات عنده، فلما تعشوا وناموا، قام أبو الدرداء يصلي فأمسكه سلمان وقال له: نم، فلما كان نصف الليل قام فقال له: نم، فلما كان قبيل الفجر قال له: قم الآن، فقاما فصليا جميعاً، ولما أصبحوا جاء بالفطار فقال له: كل، قال: أنا صائم، فغمس يده في الأكل وقال له: كل، فأكل، ثم قال له سلمان: إن لجسمك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -أي: الزائر- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، فذهب أبو الدرداء واشتكى إلى رسول الله، وطبعاً هذه هي الجهة العليا للشكوى، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان يا أبا الدرداء! إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) ، ومثل هذا جاء في قصة كعب بن سور، مع عمر في المرأة التي جاءت تشتكي إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي ليله قائم، ونهاره صائم، فقال لها عمر: جزاك الله خيراً، مثلك من يثني بالخير، فالمرأة استحت وقامت لتذهب، وكان عنده رجل اسمه كعب بن سور فقال: يا أمير المؤمنين! المرأة جاءت لتشتكي، لا لتمدح، جاءت تشتكي زوجها، فدعاه وقال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكي، فقالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! جئت اشتكي، أنا امرأة شابة، وهذا رجل يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة عندي، فاستدعى الزوج وقال لـ كعب: اقضِ بينهما، فقال: اقض بينهما أنت، فأنت الأمير وأنت القاضي، قال: ما دمت أنك فهمت قضيتهما فأنت تحكم بينهما، وهذا أساس قضائي، لا يمكن لأي قاضٍ في الدنيا أن يحكم حكماً عدلاً إلا إذا فهم القضية، وبعض الخصوم يكون عنده شيطنة، يلبس على القاضي حتى لا يفهم الحقيقة، ويجره إلى بعض الجوانب وبنيات الطريق، حتى يبعده عن جوهر القضية فيضيع، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا أرى أن يكون لها ليلة من أربع، ويوم من أربعة، وله ثلاث ليال يقوم فيها، وثلاثة أيام يصوم فيها إذا شاء، وأما اليوم الرابع فلا يصومه ولا يقوم ليلته، فقال له: لماذا قسمت ثلاثاً وواحدة؟ قال: أرى أن الله قد أعطاه حق الزواج بأربع، فلو كان متزوجاً بأربع نسوة، فحصتها واحدة من أربع، فقال عمر: والله! لا أدري مما أعجب من فهمك لقضيتها أم من حكمك فيها! اذهب فأنت قاضي أهل البصرة؛ لأن القضاء فهم. يهمنا من هذه القصة أنها جاءت تشتكي، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول. وكما يقولون: إذا هجر الزوج زوجته أو قصر معها فحصل منها شيء فهو مشترك معها. وقوله: (إن لبدنك عليك حقاً) ، هنا يقول بعض الناس أيضاً: لا بأس بصوم الدهر لمن استطاعه، وليس عليه تبعات لأحد، كإنسان معزول ومقطوع وليس عنده شيء، وحياته على نفسه، والتمسوا لذلك مفاهيم من بعض الأحاديث، فقالوا: وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ، وعلماء البلاغة يقولون: إن الكاف في (كأنما) أداة تشبيه والمشبه والمشبه به يشتركان في وصف واحد، ولكن الوصف يكون أقوى في المشبه به مثل زيد كالأسد أي: في الشجاعة، والشجاعة في الأسد أكثر منها في زيد. فقالوا: إذاً: ما دام صوم رمضان وستة أيام من شوال مشبه بصوم الدهر فصوم الدهر جائز، لكن هذه تلفيقه؛ لأن هذا صوم مع صوم رمضان، وقد أفطر، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نحل من الصيام قال له: (عليك بالأشهر الحرم صم منها وأفطر، ثم قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: أطيق أكثر، قال: صم الإثنين والخميس مع الثلاثة، قال: أطيق أكثر، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أكثر، قال: خير الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، أما اليوم الذي يصوم فيه فيتذكر المساكين، وأما اليوم الذي يفطر فيه فيشكر نعمة الله عليه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (خير) وخير من أفعل التفضيل وأصلها أخير، ولكن حذفوا الهمزة لكثرة استعمالها، (خير الصيام صيام أخي داود) ، وصيام نبي الله داود هو أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. إذاً: صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، أما تشبيه صيام رمضان وست من شوال بصيام الدهر فهذا للمبالغة ولبيان عظيم أجر هذه الصورة في الصوم، وليس معناها تقرير صوم الدهر، وإذا جاء المفهوم وجاء المنطوق يقدم المنطوق؛ لأنه نص في الموضوع، فلما نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر كان النهي مقدماً على ما يفهم من عملية التشبيه ووجه الشبه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [1]

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [1] فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، ففضل بعض الأنبياء على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمان على بعض، ومن تفضيل الأزمان تفضيل بعض الشهور على غيرها، وتفضيل بعض الأيام على غيرها وكذلك بعض الليالي، ومن الأزمان التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان، فجعل صيامه واجباً على المسلمين، وأنزل فيه القرآن، وفيه العشر الأواخر وهي من الأيام والليالي المفضلة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فمن وفقه الله لقيامها إيماناً واحتساباً نال بذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.

فضل قيام رمضان

فضل قيام رمضان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه] . قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) هذا جزء من حديث طويل وفيه: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فأما ما يتعلق بالصيام فقد تقدم، وبقي ما يتعلق بالقيام، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة: (ولم يعزم علينا) . قوله: (من قام) ، (من) هنا شرطية تفيد العموم، والمراد بهذا القيام: القيام في الصلاة، والصلاة في رمضان مختصة بالليل كما أن الصوم في رمضان مختص بالنهار، وقيام رمضان ليس بفريضة ولا بواجب ولكنه سنة مؤكدة وهو آكد من سنة الاعتكاف؛ لأن قيام رمضان أو ما يسمى التراويح في الآونة الأخيرة أصبح شعار الأمة في صيامها، ولهذا لا ينبغي تعطيل المساجد من قيام الليل في رمضان، سواء سمينا ذلك قياماً كما هو الاسم الشرعي الأساسي أو سميناه تراويحاً؛ واسم التراويح طارئ عليه، وسببه: أنهم كانوا يصلون ويطيلون القيام إلى الحد الذي يتعبون منه، فيجلسون بين كل تسليمتين من أجل أن يستريحوا، فسمي هذا الجلوس ترويحاً بدل استراحات؛ أي: أنه تراويح بين كل صلاة وصلاة، أو بين كل ركعتين وركعتين.

حكم قيام رمضان

حكم قيام رمضان وقيام رمضان من حيث هو جاء في عموم قيام الليل طيلة السنة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل الأول، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام النصف الثاني) ، فأقل درجات قيام الليل القيام المطلق أن يصلي الإنسان العشاء في جماعة، والفجر في جماعة، ثم ما زاد بعد ذلك فهو نافلة وزيادة، ثم أصبح القيام معروفاً باختصاصه برمضان، وأول من بدأ قيام رمضان هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء: (أنه صلى ليلة ثلاثٍ وعشرين، فشعر بعض الناس الذين في المسجد بصلاته فصلوا معه، وفي الليلة التي بعدها علم بعض الناس فاجتمعوا، فصلى رسول الله فصلوا بصلاته أيضاً، وفي الليلة الثالثة عم الخبر المدينة، ولما صلوا العشاء جلسوا ينتظرون ولم يرجع أحد إلى بيته، فنظر صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج ليصلي كالعادة فإذا بالمسجد مليء بالناس، فقال: يا عائشة! ما بال الناس جلوس؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكنهم تسامعوا بمن صلى خلفك فهم ينتظرون أن تخرج لتصلي فيصلون بصلاتك، فقال: اطوي عنا حصيرك، ولم يخرج تلك الليلة، فانتظروا وحصبوا الباب بحصباء المسجد فلم يخرج إليهم حتى الصباح، ولما خرج لصلاة الصبح، قال: والله! ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً؛ ولكني كرهت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فتعجزون) ، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة، كما جاء عنه في عدة مواضع: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا) .

عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد

عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد بعد أن انتهى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان الناس كل واحد يصلي لنفسه على ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من قام رمضان ... ) فكان كل واحد يقوم بقدر استطاعته، وليس هناك تحديد عدد ولا نوعية ولا توحيد إمام، ومضى على ذلك عهد أبي بكر رضي تعالى الله عنه، وكان مشغولاً بقتال أهل الردة، وبتثبيت الدعوة، إلى غير ذلك، وكانت خلافته سنتين فقط، ولم يحدث جديداً، لكن ثبت في عهده أنهم كانوا يصلون الليل في رمضان ويطيلون القيام لأنفسهم حتى يتكئون على العصي، ويرجعون من المسجد إلى البيوت يحثون الخدم على التعجيل بالسحور خشية الفلاح، يعني: الفجر. ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه فرأى الناس يصلون أوزاعاً -جماعات- يصلي كل مجموعة خلف من عنده قرآن، وكانوا يتتبعون حسن الصوت ويصلون خلفه، فلما رآهم أوزاعاً متفرقين -وهذه ليست صفة المسلمين، فالإسلام جاء ليجمّع الناس ويوحدهم، وهؤلاء تفرقوا فرقاً وأوزاعاً- قال: أرى أني لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً، فجمعهم على أبي بن كعب، وصاروا جماعةً واحدة، وجعل معه شخصاً آخر حتى يتناوبا، وجعل إماماً خاصاً للنساء أعجل منهما؛ كي ترجع النسوة إلى بيوتهن بسرعة.

عدد الركعات في صلاة التراويح

عدد الركعات في صلاة التراويح جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن يقرأ في الركعة بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين آيةً، ومن كان متوسطاً أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً، واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر، عثمان، علي رضي الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة الموجودين بالمدينة. واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن عبد العزيز، فزيد فيها ستة عشر ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين الركعتين فكان النشيط منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة الطواف ركعتين، فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا المنافسة فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات، وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون مجموع الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين الخمس ترويحات أربع استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف وركعتي الطواف، فنعادل الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت أربعاً في أربع ترويحات والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة، واستمرت على ذلك إلى القرن الخامس الهجري. ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل السياسة فألغى الست عشرة ركعة، وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن يجعلها عشرين ولكن لوجود المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل العشرين في أول الليل مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم القيام، وأصبحت التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست عشرة ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً، وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً للعمل، واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر ركعات في آخره. وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها خير منها، أي: أن صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور تلك الجماعة؛ لأنه إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون هناك رحمات تتنزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة. ثم أجمع العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن يكون عمله في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه لنفسه؛ لأننا أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل ويعيبونه ويقولون: هي ثمان ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، ولكنها رضي الله تعالى عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) فقد كان يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، أما الذين يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة حتى سورة تبارك التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول، وإذا صليتم على تلك الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على ذلك في رمضان وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى رمضان وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في بعض الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي إلى ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى ثلثي الليل، حتى قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: ما دام أننا صلينا إلى الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .

الرد على من يقول: إن التراويح بدعة عمرية

الرد على من يقول: إن التراويح بدعة عمرية فهذه الصورة الموجودة الآن على ما هي عليه لا ينكر عليها، فإذا قصرت بإنسان همته أو نشاطه أو طرأ عليه عذر ما فهذا أمر شخصي ولا ينبغي أن يجعل مقياساً للآخرين ولا أن يعترض على الآخرين، ويقول: هذه بدعة عمر -أعوذ بالله- هي بدعة لغوية وليست بدعةً شرعيةً؛ لأن البدعة في اللغة: هي الابتداع والابتكار على غير مثال سابق على حد قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، يعني: ابتدع خلقتها وهيئتها، فهذا الجرم العظيم الذي لا يحده النظر والذي يحيط بالعالم كالقبة لم يكن له مثال قبل هذا. إذاً: لما قال: نعمت، عرفنا بأنها ممدوحة، ولما قال: البدعة، عرفنا أنها اللغوية، وكيف يقره علي وعثمان وجميع الصحابة على شيء مبتدع؟! أنا أقول: إن الذي يقول: هذا بدعة عمر يؤدب؛ لأنه ينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما هو منه براء، فـ عمر الذي كان الشيطان يفر من طريقه، ووافق القرآن في عدة مواطن هو أبعد الناس عن الابتداع في دين الله. إذاً: هذا العمل الذي أقره عليه سلف الأمة من شاء أخذ به بحذافيره ومن شاء أخذ به بقدر طاقته، ولكن كما أشرنا لا يدعو إلى قوله ولا يعيب على غيره، ولكن بقدر طاقته وما تيسر له.

أيهما أفضل صلاة التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟

أيهما أفضل صلاة التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟ إذاً: من قام رمضان، بما تيسر له، سواءً مع الإمام في المسجد، أو مع نفسه في بيته، أو مع أهله كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول: الذي يكون حافظاً ماهراً في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته فهو أفضل ما لم تعطل المساجد من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعة هي التراويح.

شرط الإيمان والاحتساب في قيام رمضان

شرط الإيمان والاحتساب في قيام رمضان قوله: (من قام رمضان) ، بهذا القيد: (إيماناً واحتساباً) ، إيماناً بالله، وإيماناً بثوابها، وإيماناً بسنيتها. قوله: (واحتساباً) ، الاحتساب والحساب هو: العد، أي: تحتسبها عند الله، وتعدها من أعمال الخير التي استودعتها أمانة عند الله، لا أن تكون لنشاط ورياضة ولا أن يكون الشخص شبعان ويريد أن يهضم، ولا عنده مصلحة وجاء إلى المسجد من أجلها، ولا أن يكون قد اتفق مع جماعة للحضور ولا يريد أن يتخلف عنهم، فمن عمل لذلك فليس محتسباً، ولكن عليه أن يقوم رمضان إيماناً بوعد الله، وإيماناً بسنة رسول الله، واحتساب عملها وأجرها عند الله.

الذنوب التي تغفر بقيام رمضان

الذنوب التي تغفر بقيام رمضان وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) نجد العلماء رحمهم الله يقفون عند قوله: (غفر له ما) ، و (ما) هنا هي للعموم سواءً كانت صيغة إجمال أو كانت موصولة، غفر له الذي تقدم من ذنبه، وهذا الذي تقدم قد تكون فيه كبيرة وقد تكون فيه صغيرة، وبعض العلماء يقول: غفر له ما تقدم من ذنبه من الصغائر، وأكثرهم يقولون: غفر له ما تقدم من صغائر وكبائر؛ لأن الصغائر قد قال الله عنها: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبدون أعمال أخرى، إذاً: الحديث مطلق، وكما قال بعض العلماء: أحاديث الوعد والوعيد ينبغي ألا تفسر بل تؤخذ على منطوقها، والله تعالى أعلم.

فضل العشر الأواخر من رمضان

فضل العشر الأواخر من رمضان قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -إي العشر الأخيرة من رمضان- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) ، متفق عليه] . هذه الصورة التي تصفها لنا عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان: (كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله) ما معنى هذا في العشر دون العشرين الأول؟ قال العلماء: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ولكن اجتهاده في العشر الأواخر من رمضان أكثر من اجتهاده في بقية رمضان. ويعزون السبب في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوائل، ثم اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأخيرة، وبين صلى الله عليه وسلم: (أنه أول ما اعتكف إنما كان يترقب ليلة القدر أن توافيه وهو منقطع فيها إلى الله، فلما اعتكف العشر الأوائل في سنة أتي فأخبر بأن الذي ترجوه أمامك -يعني: ليس في العشر الأوائل- وفي السنة الثانية اعتكف العشر الوسطى، ثم أتي فقيل له: إن الذي ترجوه أمامك، فنظر إلى الناس من خبائه وقال: من كان اعتكف معي فليظل في معتكفه فإني معتكف العشر الأواخر) ، واعتكف العشر الأواخر وظل يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله. فكان حينما تأتي العشر يجدد النشاط ويشتد فيه وأول شيء: (شد مئزره) ، والمئزر معروف وهو: ما يكون في وسط الرجل من السرة إلى أسفل. وقوله: (شد مئزره) هل معناه: أنه اعتزل النساء؟ أو أن معناه أنه شد حزامه كناية عن النشاط كما تقول: يا فلان! شد حيلك وشد حزامك؟ وكما قيل أيضاً: أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد! تورد الإبل أي: أنه أورد الإبل والشملة على كتفه وهو غير مبال بها، وإيراد الإبل يحتاج إلى شد الحزام وإلى النشاط وإلى التشمير، والمراد شمر عن ساعديك يا سعد! فما هو المراد بشد المئزر؟ قال بعضهم قولها: (شد مئزره) ، هو كناية عن العزم وتجديد القوة في العشر الأواخر، وهناك من يقول: (شد مئزره) ، أي: أنه تجنب النساء، ويؤيد هذا المعنى قولها: (وطوى فراشه) ، يعني: ليس هناك نوم في الفراش. قولها: (وأيقظ أهله) ، إيقاظ الأهل رغبة في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر يوقظ أهله ليلة سبع وعشرين ويأمرهن بالاغتسال تهيئاً وتأهباً لليلة القدر على أنها في ليلة سبع وعشرين. إذاً: تبين لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهده فيما قبلها. ونحن نقول: هي عشر ليالٍ وتنتهي فهل يعجز الواحد منا أن يجتهد في هذه العشر؟ السنة كلها (360) يوماً أيعجز فيها الإنسان عن عشرة أيام؟ لو قيل له: في كل ليلة من الليالي العشر لك عشرة آلاف ريال، فهل سينام؟ لن ينام، بل سيقف على ثلاث أصابع ويمد يديه إلى الله. المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في غير رمضان حتى تتفطر قدماه، فلما يأتي إلى العشر الأواخر في رمضان يجتهد أكثر مما كان يجتهد في غيرها، فمن منا قد قام حتى تفطرت قدماه؟ من ومن منا يحيي الليل كما كان يحييه صلى الله عليه وسلم؟ منا عمل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ؟ فهو صلى الله عليه وسلم مع ما وُعد به من المولى عز وجل؛ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل، ولما سئل قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ثم يأتي إلى العشر الأواخر: (ويشد مئزره، ويطوي فراشه، ويوقظ أهله) ، ونحن طيلة السنة نحل الإزار ونمد الفراش وننام نوماً عميقاً وبعض الناس في رمضان ليلهم نهار ونهارهم ليل، فإذا جاءت هذه الفرصة في حياة الإنسان ولم ينتهزها، فإن هذا من التفريط، ولكن أقول: التوفيق بيد الله، نحن لا نملك إلا أن نتوجه إلى المولى العلي القدير أن يوفقنا وأن يعيننا وأن يسددنا وأن يرزقنا خير هذه الأيام المباركة، وإلا فالعاجز والكسلان يضيع نفسه، وكما جاء في الحديث: (من حرمها فقد حرم الخير كله) . نسأل الله سبحانه أن يجنبنا الكسل وأن يعطينا القوة والعافية، وأن يوفقنا ويسدد خطانا، فمهما كان عند الإنسان من عمل فهو يقدر أن يؤجله، ويقدر على أن يرجع إليه مرة أخرى، ويقدر على أن يسنده إلى غيره، فلا يفوت على نفسه هذه الفضيلة. إذاً: هذا من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بيان لحال النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي علينا وأخص طلبة العلم أن ننقطع للعبادة في هذه العشر، فنحن بخلاف طلبة الدنيا فقد يكون الواحد منهم مضطراً لأن يدير تجارته، ومضطراً لأن يوالي بضاعته، أو أن هذا عنده موسم دنيا، ولكن نقول له: أيضاً لا ينبغي أن يحرم نفسه، ولا أن يجعل كل همه في تجارته وصناعته وزراعته، بل يعطي نفسه ولو عشرة أيام في السنة كلها.

الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) ، متفق عليه] . تخبر رضي الله تعالى عنها في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله) وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ولكن لم يكررها، ثم اعتكف العشر الأخيرة وداوم عليها حتى توفاه الله، ثم تقول رضي الله تعالى عنها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) وسيأتي أن بعض زوجاته أردن أن يعتكفن معه ولكنه منعهن من ذلك، ثم كن يعتكفن من بعده. إذاً: ليس الاعتكاف خاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل له وللأمة كلها، ونقل عن مالك أنه قال: تأملت في هذا الأمر فما وجدت كثيراً من الصحابة يعتكفون فنظرت فإذا هو عندي كالوصال. ولكن الذي يهمنا هنا أن الاعتكاف مسنون، وسنيته باقية ودائمة لم يعترها نسخ ولا تعطيل، واعتكاف أزاوجه رضي الله تعالى عنهن من بعده هذا عمل خير لهن؛ ولأن المسجد ليس بعيداً عنهن، وسيأتي بيان صحة اعتكاف المرأة في أي مسجد ولو في مسجد بيتها على ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله.

متى يبدأ وقت الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟

متى يبدأ وقت الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟ قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) ، متفق عليه] . يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف إذا صلى الغداة دخل معتكفه) ، وهذا عند العلماء فيه بيان لأول وقت يدخل فيه المعتكف محل اعتكافه. وهنا تقول: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: إنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل معتكفه إذا صلى الغداة، والغداة: الصبح، وفي هذا الحديث نص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الاعتكاف يوماً فأكثر يبدأ زمن اعتكافه من بعد صلاة الصبح، وهذا قول سفيان الثوري وغيره. وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله فإنهم يقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف يوماً فأكثر فينبغي أن يدخل معتكفه قبل أن تغرب شمس ليلة اليوم الأول، فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يعتكف وأول اعتكافه يوم السبت، فإنه يدخل معتكفه آخر النهار من يوم الجمعة قبل أن تغرب الشمس وتدخل ليلة السبت، هذا ما عليه الأئمة الأربعة، ويذكره علماء الحديث والفقهاء وغيرهم. وكيف يجيبون على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح) ، وهناك فرق بين الدخول بعد صلاة الصبح وبين الدخول قبل غروب الشمس؟ يجيب الأئمة رحمهم الله: بأن الليلة تابعة لليوم، فإذا نوى أو أراد أو نذر الاعتكاف في يوم السبت فعليه أن يضم الليل مع النهار، ولا يتأتى ضم الليل مع النهار إلا إذا دخل المعتكف قبل أن تغرب الشمس بقليل، ويقولون: إن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها يفسر على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وليس في بيته، ودخوله معتكفه بعد أن يصلي الغداة تريد المكان الذي حدده للاعتكاف فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير خلف اسطوانة التوبة ليعتكف ويستريح عليه، وربما ضربت له خيمة على سريره ليستتر به عن الناس، فيكون مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بدخوله معتكفه المكان المحدد المخصوص له صلى الله عليه وسلم لا عموم المسجد. ونحن نعلم جميعاً أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) على خلاف سيأتي المؤلف ويشير إليه فيما بعد. إذاً: متى يدخل المعتكف معتكفه؟ الحديث الذي عندنا فيه أنه بعد صلاة الغداة، ورأي الأئمة الأربعة باتفاقهم على: أنه قبل غروب الشمس، ولكون الأئمة رحمهم الله قد اتفقوا على ذلك فلا يمكن أن نلغي اتفاقهم، ولكن ننظر ما هو تخريجهم وتوجيههم للحديث؟ وجهوا الحديث وقالوا: إن المراد بقولها: (معتكفه) أي: المكان المعد المخصص له دون عموم المسجد، والله تعالى أعلم.

أقل حد للاعتكاف وأكثره

أقل حد للاعتكاف وأكثره وأما قول من يقول: إن الاعتكاف لا حد لأقله، ففي هذه المسألة خلاف: فهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، وهذا القول مروي عن مالك رحمه الله. وهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة، وهذا القول منقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن أحمد. وهناك من يقول: لا حد لأقله فيصح ولو نصف ساعة ولو ربع ساعة وهذا قول الشافعي رحمه الله، وإن كان الأفضل عنده: ألا يقل عن يوم وليلة. وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: كنت أدخل المسجد لا لصلاة ولا لشيء ولا لأجلس وإنما للاعتكاف، يعني: أنه كالمار، وقالوا: إن ذلك يشبه الوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة مكث في مكان معين، ويجزئ الحاج أن يقف بعرفة ولو ساعة، حتى بالغ البعض وقال: ولو مروراً بها من شرقها إلى غربها، وهو يعلم أنها عرفة، والبعض قال: ولو لم يعلم. فقالوا: إن الوقوف بعرفة هو عبارة عن مكث في مكان معين في زمن محدود، فقالوا: وكذلك الاعتكاف هو عبارة عن مكث في مكان معين لعبادة فلا يتقيد بزمن كما أن الوقوف بعرفة لا يتقيد بزمن، مع أنهم يقولون في عرفة: من أمكنه الجمع بين ليل ونهار فترك ذلك فعليه دم مع صحة حجه؛ لأنه ترك واجباً، ولو أن مريضاً بالمستشفى كان محرماً بالحج فأخذوه في سيارة ووصلوا به إلى عرفات ثم ردوه إلى المستشفى في وقته فإنه يكون قد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة. إذاً: مدة الاعتكاف يختلفون في أقلها ولا يختلفون في أكثرها، فله أن يعتكف شهراً أو شهرين أو أكثر، وسيأتي عند بحث الصوم أن الذين قالوا: لا حد لأقله، يستدلون بقصة عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة عند الكعبة في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أوفِ بنذرك) ، قيل: كان هذا السؤال في الجعرانة عند رجوعهم من الطائف. فكونه يعتكف ليلة والليلة ليست يوماً كاملاً، وذكر ابن حجر في فتح الباري أن هناك من يروي (يوماً) فيقول: عمر كان نذر يوماً، ومن روى (ليلة) فأراد مع نهارها، ومن روى (يوماً) أراد النهار مع الليل، ولكن رواية: (نذرت أن أعتكف يوماً) يقول: إنها شاذة، والمحفوظ: (نذرت اعتكاف ليلة) ، فقال الشافعي رحمه الله: الليلة ليست يوماً كاملاً، والليل ليس موضع صيام فليس الصوم شرطاً في الاعتكاف. إذاً: نحن في مبحث متى يدخل المعتكف معتكفه؟ فإن كان زمن اعتكافه يوماً فأكثر فعلى ما تقدم، فرأي الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنه يدخل معتكفه قبل غروب شمس اليوم الذي قبله، والحديث محمول على أن المراد بمعتكفه المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يخصصه لجلوسه ونومه واعتكافه. والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [2]

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [2] جعل الله عز وجل مواسم للخير في كل السنة، من أجل مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، وتجديد النشاط والهمة عند الإنسان، ومن تلك المواسم العشر الأواخر من رمضان، فقد حث الشرع ورغب في الاعتكاف فيها والتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التفرغ المطلق للعبادة والقيام فيها تحرياً لليلة القدر التي تأتي في إحدى ليالي هذه العشر.

ما يجوز للمعتكف وما يحرم عليه

ما يجوز للمعتكف وما يحرم عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) متفق عليه، واللفظ للبخاري] . في هذا الحديث الثاني تقول لنا رضي الله تعالى عنها: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ليدني -أو ليدخل- عليَّ رأسه فأرجله) ، زاد البخاري في رواية هذا الحديث: (وأنا حائض) ، وللعلماء هنا مباحث عديدة تحت هذا الحديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ) ، فأين كانت رضي الله عنها؟ الجواب: أنها كانت في حجرتها، وبين الحجرة وبين المسجد فتحة الباب التي في الجدار، إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يستلقي بجسده الشريف في المسجد موضع الاعتكاف ويخرج رأسه عن المسجد إلى الحجرة وتتولى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ترجيل شعره، والترجيل هو المسمى الآن بالتسريح وهو: تطييب الشعر وتنظيفه. وبوب البخاري مرة أخرى على هذا الحديث (باب غسل المعتكف رأسه) ، ومن مباحث هذا الحديث: أن للمعتكف أن يرجل شعره، وقاسوا على الترجيل الطيب والزينة، وقاسوا على ذلك حاجته في غير الضرورة ما دام في المسجد.

حكم مباشرة المعتكف لزوجته

حكم مباشرة المعتكف لزوجته وأخذوا من هذا الحديث أيضاً: جواز مباشرة المعتكف لزوجه حال اعتكافه، وأجابوا عن الآية الكريمة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فقالوا: المباشرة الواردة في الآية والمنهي عنها هي الجماع، أما المباشرة الجائزة فكما في فعل عائشة، والمباشرة مأخوذة من البشرة وهي الجلد لمباشرته الهواء والفضاء، والمباشرة هي: ملامسة البشرة للبشرة، ولذا سمي بنو آدم بشراً؛ لأن بشرتهم وهي الجلدة مكشوفة بخلاف الطيور والحيوانات فإنها مكسوة، إما بالريش في الطيور، وأما بالشعر والصوف في الحيوانات. فهنا قالوا: المباشرة المنهي عنها في الآية الكريمة إنما هي الجماع، كما جاء في أول الآية: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: من الولد. فالمباشرة تطلق بالمعنى الأعم وهو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، وبالمعنى الأخص وهو الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن ربكم حيي كريم يكني ولا يصرح، ففي قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] كناية، وهي كناية لطيفة، وكذلك في آخر الآية: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] يعني: إذا كان أحدكم معتكفاً وخرج إلى بيته لحاجة فلقي أهله فلا يباشرها وإن كان في البيت وليلاً؛ لأنه معتكف ومنقطع إلى الله سبحانه وتعالى. فقال العلماء: المباشرة التي هي دون الجماع جائزة للمعتكف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمكن عائشة من أن تباشر ترجيل شعره، ومعلوم أن مجرد ترجيل الشعر ليس خاصاً بهذه الأسلاك الناعمة التي لا تسري فيها حرارة، بل لابد أن تمس جلدة الرأس، ولابد أن تمس جانباً من الوجه، ولابد أن تمس جزءاً من الرقبة، فهذه مباشرة لا مانع للمعتكف من فعلها، وأيضاً كون المرأة حائضاً لا يمنع من أن تخدم زوجها، ولو كان متلبساً بالعبادة.

حكم خروج المعتكف إلى بيته لحاجة

حكم خروج المعتكف إلى بيته لحاجة قوله: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) . في قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) جاء عند البخاري ومسلم زيادة وهي: (لحاجة الإنسان) ، وهذه كناية أيضاً؛ لأن حاجة الإنسان من الأمر الذي لا يستغني عنه قط، وهي حاجة الحيوان أيضاً، وقد فسرها سفيان الثوري: بالبول والغائط، فكان صلى الله عليه وسلم إذا كان في معتكفه لا يدخل البيت إلا للضرورة. وهنا قال العلماء: إذا دعت الظروف لحاجة أخرى سوى الضرورية التي هي البول والغائط فيجوز أن يدخل المعتكف البيت، كما لو احتاج إلى التداوي، أو احتاج إلى حجامة، أو احتاج إلى فصد، والحجامة لا تتأتى في المسجد مخافة من تلويثه بالدم، وكذلك الفصد وكذلك التداوي، فإذا كانت هناك ضرورة تقتضي دخوله البيت دخل للضرورة، وإذا دخل للضرورة امتنع عليه الذي يمتنع على المعتكف من المباشرة التي هي الجماع. قوله: (وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان) الرسول صلى الله عليه وسلم كان بيته في المسجد، ففرع الأئمة رحمهم الله على ذلك وقالوا: لو كان للإنسان بيتان: بيت قريب من المسجد، وبيت بعيد عنه، وكلاهما له فيه زوجة وأهل، فهل يحق له أن يعمد إلى البيت البعيد ويطيل المسافة والزمن بعداً عن معتكفه، أو يتعين عليه أن يقضي حاجته في البيت القريب؟ ومثله إذا كان له صديق وبيته بجوار المسجد وأذن له صديقه أن يقضي حاجته عنده، فهل يلزمه أن يقضي حاجته في بيت صديقه القريب لقربه أو لا؟ أما بيت صديقه فيتفقون على أنه لا يلزمه؛ لأن الإنسان قد يستحي في هذه الحالة، ولا يأخذ راحته كاملةً إلا في بيته. أما البيت البعيد والقريب فإن الجمهور على أنهما سواء، ولكن الأولى والأفضل أن يختار الأقرب اختصاراً للوقت وتقليلاً لبعده وانقطاعه عن محل معتكفه. وهكذا الآن في الوقت الحاضر توجد محلات المياضي حول المسجد، فإذا كانت هذه المياضي عامة، ويمكنه أن يقضي حاجته فيها بالقدر الذي يقضيه في بيته فالأولى أن يقضي حاجته فيها، فإن كان يستحي أن يقف لينتظر محلاً يخلو، أو إذا دخل يتحفظ من صوت أو ريح، فليس بلازم عليه أن يقتصر على هذه القريبة، وله الحق في أن يذهب إلى بيته ليقضي حاجته على راحته.

حكم خروج المعتكف للأكل والشرب وغسل الجنابة

حكم خروج المعتكف للأكل والشرب وغسل الجنابة ومما تدعوا إليه الحاجة وهو من الضروريات الأكل والشرب، فهل للمعتكف أن يخرج إلى بيته وقت الطعام فيأكل ويرجع؟ يقول بعضهم: لا يخرج، ويؤتى إليه بطعامه، إلا إذا لم يكن عنده من يأتي له به فيذهب ليأكل ويرجع، وهل له أن يجلس حتى ينتهي من توابع الأكل والشرب؟ قالوا: لا، هو ممنوع عليه، كما قال بعضهم، بل يقضي حاجته في بيته ويأتي يتوضأ في المسجد؛ حتى لا يمكث في البيت كثيراً، وذلك حينما كان المسجد تراباً وماء الوضوء لا يعفن المسجد، أي: إذا أمكن ذلك ولم يضر المصلين ولم يضر المسجد. وفترة قضاء الحاجة وفترة الوضوء أمور نسبية بسيطة فيقضي المعتكف حاجته ويتوضأ ولا شيء عليه. ولو أنه احتلم في معتكفه -وهذا أمر يجري على الإنسان- فلا يضر اعتكافه كما لا يضر صومه، وعليه أن يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأن الاغتسال ضرورةً من أجل رفع الحدث لصومه ولصلاته.

مسائل تتعلق بالمعتكف

مسائل تتعلق بالمعتكف قال المصنف رحمه الله: [وعنها قالت: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس إمرأةً، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) ، رواه أبو داود، ولا بأس برجاله، إلا أن الراجح وقف آخره] . هذا الأثر ساقت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها العديد من المسائل التي تتعلق بالاعتكاف، ولكن علماء الحديث والنقد يقولون: ليس كل ما جاء عنها في هذا الأثر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في هذا الأثر قالت: من السنة. والسنة لا تكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعض العلماء يقول: لم يأتِ في هذا الحديث في بعض الروايات كلمة من السنة، وإنما فيه: (المعتكف لا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازةً وو إلى آخره) ، وقالوا: إن الحديث في آخره إدراج، وسنأتي عليه جملة جملة؛ لأن كل جملة لها أحكامها، وفيها مباحث إما اتفاقية وإما خلافية. فقولها رضي الله تعالى عنها: (من السنة) ، إذا أطلق الصحابي أو التابعي كلمة من السنة فهو أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي يملك أن يسن للناس.

حكم عيادة المعتكف للمريض

حكم عيادة المعتكف للمريض قولها: (أن لا يعود مريضاً) . لا يعود المعتكف مريضاً، فإذا كان جالساً في معتكفه وجاءه إنسان وقال: صديقك فلان مريض فلا يخرج من معتكفه، ولا يقطع اعتكافه لزيارة المريض، حتى بالغ بعضهم وقال: ولو كان المريض أباه. وأما الشافعي رحمه الله فيقول: إن كان قد اشترط عند دخوله المعتكف أن يعود مريضاً، وأن يشهد جنازة فله ذلك، واعترض عليه الآخرون بأن المعتكف منقطع من هذا كله، وقد جاء عنها رضي الله عنها أنها كانت تخرج إلى بيتها وتمر بالمريض في بيته فتسأل: كيف هو؟ وهي مارة لا تقف، وكذلك تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يمر بالمريض في بيته فيسأل عنه ولا يدخل لعيادته) . إذاً: زيارة المعتكف للمريض الجمهور على منعها وقالوا: يبقى في معتكفه فإن خرج لزيارته انقطع اعتكافه، فإن كان اعتكافه نافلة وتطوعاً فلا شيء عليه، ويستأنف من جديد، وإن كان نذراً فإنه يستأنف ويعتبر هذا اليوم غير صحيح، وعليه أن يبدأ اعتكافاً آخر بدل هذا اليوم.

حكم حضور المعتكف للجنازة

حكم حضور المعتكف للجنازة قولها: (ولا يشهد جنازة) . وشهود الجنائز في السابق كان له وضع آخر، يقول أبو سعيد الخدري: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكان المهاجرون محصورين فكان الرجل إذا مرض في المدينة وهو من المهاجرين أو من الأنصار فإذا كان في حالة النزع، آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب معهم إلى بيته ليحضره، فإذا مات جهزوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيعوه، فلما كثر الحال كذلك والشخص قد يحتضر في الليل، في أوله أو في آخره، فاجتمعوا وقالوا: لقد أشفقنا على رسول الله في أن نؤاذنه في كل موتانا، فالأولى أننا ننتظر المريض حتى يموت فنجهزه ونحمله إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، واتفقوا على ذلك وأعدوا المكان لذلك وهو الموجود الآن ما بين باب جبريل وباب البقيع، هذا السور الصغير ويسمى مصلى الجنائز، والشارع الذي كان في قبلي المسجد يسمى درب الجنائز، فكانوا يأتون بالجنازة ويضعونها في هذا المكان المستطيل، ويؤذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم به فيخرج فيصلي عليه، وربما صلى عليه أحياناً في المسجد. فكان المعتكف لا يشهد جنازة؛ لأنه كان يصلى عليها خارج المسجد بجواره، والمعتكف معتكف في المسجد فكان لا يشهدها بمعنى: لا يحضرها ولا يشيعها ولا يصلي عليها؛ لأنه مشغول في معتكفه.

حكم مس المعتكف للمرأة

حكم مس المعتكف للمرأة قولها: (ولا يمس امرأة) . كيف لا يمس المعتكف امرأة وعائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المراد لا يمسها لحاجة المس، أي: لا يقصد مسها. قولها: (ولا يباشرها) . وكذلك لا يباشرها لا بقبلة ولا بمقدمات الوطء.

حكم تصريف المعتكف لعمله وهو في المسجد

حكم تصريف المعتكف لعمله وهو في المسجد قولها: (ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه) . ولا يخرج من معتكفه لحاجة إلا لما لابد له منه، وهو كما يعبر عنه بقضاء حاجة الإنسان، وهنا يبحث بعض العلماء والفقهاء في مسألة وهي: إذا كان هناك إنسان له ضيعة بساتين، أو له تجارة وعنده غلمان يعملون له، وهو الذي يديرها، فهل يجوز له أن يديرها ويشير بما يراه، ويأمرهم أن افعلوا كذا وكذا وهو في معتكفه أم لا؟ الجمهور يجيزون ذلك؛ لأن فيه حفظ ماله وليس فيه طول اشتغال. ويبحثون في مسألة أخرى وهي: إذا كان هناك إنسان معتكف وليس عنده مصدر للأكل والشرب إلا من صنعة يديه، كأن يكون خياطاً يخيط الثياب، أو وراقاً ينسخ الكتب والأوراق، أو يعمل أي شيء من العمل اليدوي، فهل يجوز له أن يعتكف ويزاول ما يمكن أن يعيش به وهو في معتكفه أو أنه لا يصح له اعتكاف مع هذا العمل. نجد كثيراً من العلماء يقولون: إن توقفت معيشته على صنعة يده وكانت الصنعة لا تتنافى مع حرمة المسجد، كالحدادة التي فيها دق بالمطارق وأصوات ونفخ كير، ولا كالدباغة؛ لأن فيها روائح غير مقبولة، قالوا: فإن كان عمله لا يؤثر على حرمة المسجد ولا يؤذي المصلين ولا يضيق عليهم فلا مانع؛ لأنه لا يمنع من فعل الخير، فهذا لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان.

حكم الاعتكاف من غير صوم، وصفة المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف

حكم الاعتكاف من غير صوم، وصفة المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف قولها: (ولا اعتكاف إلا بصوم) . ولا اعتكاف إلا بصوم، يقول علماء الحديث: (ولا يخرج إلى البيت إلا لما لا بد له منه) هذا نهاية ما قالت في أول الأمر: من السنة، وما بعدها إنما هو ممن أضافه بعد ذلك إلى الحديث، وهو: (ولا اعتكاف إلا بصوم) وما بعده، فكثير من علماء الحديث يقولون: هذا ليس مما جاءت به السنة؛ لأن الصوم مع الاعتكاف موضع خلاف، ولكن على هذا النص: (لا اعتكاف إلا بصوم) اختلف العلماء هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟ فـ مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد المشهور عنهم أنهم يقولون: لابد للمعتكف من الصوم، وأما غيرهم فيقولون: لا يشترط لما جاء من قول النبي لـ عمر عند أن قال له الرسول: (أوف بنذرك) ونذره كان بالليل، وإذا أراد أن يوفيه فسيوفيه بالليل، والليل ليس موضع صيام، فهذا يدل على أن الصوم ليس بشرط. والشافعي رحمه الله لا يشترط الصوم مع أنه يستحبه، قال: يستحب له أن يكون صائماً ولكن ليس بشرط في صحته، والجمهور يقولون: الرسول لم يعتكف إلا صائماً في رمضان، قالوا: اعتكف في شوال -كما في قصة الأخبية على ما سيأتي- العشر الأول، ومن العشر الأول يوم العيد ويوم العيد ليس بيوم صوم. فقالوا: إنه لم يعتكف إلا بصوم وفي المسجد النبوي، فقال النووي رحمه الله: نعم هو اعتكف في رمضان صائماً، فهل صومه في رمضان وهو معتكف كان لرمضان أو للاعتكاف؟ فإن قلتم: كان صومه لرمضان فلا دخل للاعتكاف في صومه، وإن قلتم: كان صومه للاعتكاف ضيعتم عليه صوم رمضان. إذاً: يتعين في هذه الحالة أن يكون الصوم لرمضان وصادف أن جمع معه الاعتكاف، ولهذا فإن الصحيح الراجح أن الاعتكاف يصح بدون صوم، ولكن كما قال الشافعي: الأفضل أن يكون المعتكف صائماً؛ لأنه أدعى إلى خلو نفسه وإلى صفاء روحه، والصوم يساعده على العبادة أكثر. قولها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) . ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع هذه الجملة يتفق عليها الجمهور، بمعنى: أن لا يكون الاعتكاف في بستان، ولا يكون الاعتكاف في خيمة في مكان ما، بل لابد للمعتكف أن يكون اعتكافه في مسجد، والمسجد يقول هنا: مسجد جامع يعني: أنه تصلى فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة، فأما بالنسبة للجمعة فيقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف تشتمل على يوم الجمعة؛ فهو إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة سيكون بين أحد أمرين: إما أن يبقى في معتكفه ويترك الجمعة والجمعة أولى من الاعتكاف. وإما أن يخرج من معتكفه إلى مسجد تقام فيه الجمعة، فيكون قد قطع اعتكافه بخروجه إلى الجمعة. إذاً: إذا كانت مدة اعتكافه تشتمل على يوم جمعة فيشترط أن يكون اعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة، وأما بالنسبة لغير الجمعة وهي الصلوات الخمس في جماعة، فإذا كان هناك مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس جماعةً فلا يصح اعتكافه فيه؛ لأنه سيضيع الجماعة، والجماعة للصلوات الخمس أولى من اعتكافه. إذاً: لابد أن يكون المسجد جامعاً، يشتمل على صلاة الجمعة، وعلى إقام الصلوات الخمس في جماعة. بقي هل يشترط على المرأة إذا اعتكفت أن يكون اعتكافها في مسجد عام أو أن مسجد بيتها يجزئها؟ يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ومسجد بيتها هو المكان الذي خصصته لصلاتها وتصلي دائماً فيه، وهذه هي السنة، كما جاء عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فلما أتى قلت: أريد أن تصلي لنا يا رسول الله! في بيتنا لنتخذ مكانه مصلى لنا، فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس، فنضحته بالماء وقام فصلى … الحديث) . وهنا يستحب العلماء أنه إذا كان في البيت متسع أن يُخصص فيه مكان للصلوات؛ الفريضة للنساء، والنافلة للرجال، وهذا لما جاء في الحديث: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها مقابر) ؛ لأن المقابر لا صلاة فيها، والصلاة في البيوت فيها الرحمة والخير والبركة وتعليم الجاهل وتعليم الصغير، فإذا كان للمرأة مسجد في بيتها بمعنى: مكان مخصص لصلاتها فيصح اعتكافها فيه. ويقول بعض السلف: لولا أنه جاء اعتكاف النساء في المسجد على عهد رسول الله لقلت: ليس لها أن تعتكف في المسجد؛ لكثرة ما يراها الناس، ولكثرة تعرضها للناس. وكلمة (مسجد) اسم جنس، ولكن هناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ويستدل بقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، وبأثر عمر: نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة عند البيت. وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي. وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي؛ نظراً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في أي مسجد قط إلا في مسجده، فلم يعتكف في مكة، ولا في بيت المقدس ولا في أي مسجد آخر، فقالوا: السنة أن يعتكف الإنسان حيث اعتكف صلى الله عليه وسلم. وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وسيأتي المؤلف في آخر باب الاعتكاف بحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، يشير إلى هذا القول، ولكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: على صحة الاعتكاف في أي مسجد كان مادام مسجداً جامعاً. قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، رواه الدارقطني والحاكم، والراجح وقفه أيضاً] . بعدما ساق لنا المصنف المدرج في حديث أم المؤمنين عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصيام) ، جاءنا بأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، بأن نذر أو اختار أن يصوم مع اعتكافه، أما من أجل الاعتكاف فـ ابن عباس يقول: ليس عليه صيام. وهنا يقول بعض العلماء: هذا موقوف على ابن عباس، أي: أن ابن عباس لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه يتعلق بأمر تشريعي، وبصحة عبادة مشروعة؛ لأنه قال: (لا صوم على المعتكف) . إذاًَ: ابن عباس يقول: لا صوم على المعتكف، وأم المؤمنين عائشة تقول: لا اعتكاف إلا بصوم، ووجدنا مع المناقشة أن الراجح أنه يصح الاعتكاف بدون صوم. ولعل في هذا القدر -فيما يتعلق ببداية دخول المعتكف، وما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز له، وصحة الاعتكاف بصوم أو بغير صوم- كفاية إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.

سبب تسمية بعض الأسطوانات التي في المسجد النبوي

سبب تسمية بعض الأسطوانات التي في المسجد النبوي في حديث عائشة: (إن كان صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه فأرجله وأنا حائض) ، هذه الصورة لا تتأتى إلا إذا كان السرير مقابلاً لباب الحجرة، وباب الحجرة موجود إلى الآن مشرع على الروضة، ولا يمكن أن يكون السرير عند المنبر ويدخل رأسه إلى الحجرة؛ لأن بينهما مسافة بعيدة، ولا يمكن أيضاً أن يكون مستطيلاً شمالاً وجنوباً؛ لأنه إذا كان شمالاً وجنوباً فلا يتأتى أن يدخل رأسه، إذاًَ: السرير كان ممتداً شرقاً وغرباً ومقابلاً لباب الحجرة. وجاء في بعض الروايات عند مالك في الموطأ أن نافعاً قال: لقد أخبرني ابن عمر وقال: إن شئت أريتك موضع اعتكافه، يعني: إذا أحببت أن أريك أين كان محل السرير أريتك. وجاءت رواية أخرى صريحة: أن سريره كان خلف أسطوانة التوبة، وأسطوانة التوبة موجودة إلى الآن في الروضة بعد الحجرة بأسطوانة واحدة، وسميت بأسطوانة التوبة لقصة أبي لبابة حينما ربط نفسه فيها حتى نزلت توبته، وفي القصة أن بني قريظة جاءوا إليه ونادوه من بعيد: ماذا ترى أننزل على حكم محمد؟ فقال بأعلى صوته: نعم، وأشار بيده إلى رقبته، أي: نعم، وإن نزلتم فسيذبحكم، ففي هذا ما فيه من الأمر وكان أبو لبابة يقول: والله! ما زالت قدماي من موضعهما حتى أيقنت أني خنت الله ورسوله، بمعنى: أني قلت: نعم، ولكن أخفيت شيئاً خلاف ذلك، فانطلق من هناك ولم يرجع إلى رسول الله ليخبره حتى جاء إلى المسجد وربط نفسه في السارية، وأقسم ألا يفك وثاقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبطأ على رسول الله سأل عنه، فأخبروه، فقال: أما وقد فعل فليبق في مكانه، ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث ما شاء الله أن يمكث نزلت توبته ليلاً وكان صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، فقالت: ألا أبشره يا رسول الله؟! قال: إن شئتِ، فنادت: إن الله قد تاب على أبي لبابة، فبادر الناس ليحلوه من السارية فقال: لا والله! حتى يخرج رسول الله ويفكني بيده الشريفة، فسميت هذه الأسطوانة بأسطوانة التوبة. وتجدون في أسطوانات الروضة لوحات وعناويين: أسطوانة عائشة، أسطوانة السرير، أسطوانة الحرس، الأسطوانة المخلقة، أسطوانة التوبة أو أسطوانة أبي لبابة، كل ذلك مكتوب بلوحات في الأسطوانات الموجودة في الروضة، ولهذا يقول عنها علماء تاريخ المسجد النبوي: الأسطوانات ذات التاريخ في المسجد النبوي. وكان بعض السلف يتحرى الصلاة عندها، وبعض الناس ينتقد على ذلك ويقول: في هذا تتبع بقاع لا حاجة لها، وجاء عن ابن الزبير وعن غيره: أنهم كانوا يسألون عن الأسطوانات، ودخل على عائشة وهي خالته فسألها، فقال أصحابه: انتظروا حتى يخرج وانظروا أين يصلي؟ فلابد أن تكون قد أخبرته بها، فلما خرج صلى عندها فعرفوها. وهذه الأسطوانات ليس معنى إبقائها على تاريخها وأحداثها أن فيه تقديساً لجماد السارية ولا لجماد الأسطوانة، ولكنه عنوان وتذكير للعالم الإسلامي لما شهدت من تلك الأحداث، فمثلاً أسطوانة السرير إذا دخل الإنسان المسجد وهو على طوله في التوسعة الأخيرة الثانية وقد أصبح المسجد مائة ذراع في مائة ذراع فلن يعرفها إلا إذا كان مكتوباً عليها. وقول عائشة: (وكان يدني إليَّ رأسه وأنا في حجرتي) ، أين كان السرير؟ الجواب: كان في الروضة في الصفوف الأول، ولكنه كان لا يمنع المصلين من الصلاة، وإذا كان لا يمنع المصلين من الصلاة فلا شيء في ذلك. وأبو لبابة لما ربط نفسه ويُعرف أين مكانه الذي ربط فيه نفسه؟ وتأتي السيرة ويأتي التاريخ يذكر ذلك، عندها يتذكر الإنسان ويحذر أن يخون الله ورسوله، تأتي كذلك أسطوانة ثمامة بن أثال الذي جاء من بني حنيفة: (لما أخذ أسيراً وكان سيد قومه وربط بالمسجد وهو مشرك، وكان يؤتى كل ليلة بحلب سبع نياق أو سبع شياه فيشربها، ومكث ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول له: (كيف بك يا ثمامة؟! فيقول وهو مشدود في السارية: يا محمد! إن ترد مالاً أعطيتك فأرضيتك، وإن تمنن -بالعتق- تمنن على كريم وإن تقتل تقتل ذا دم -أي: أن قومي سيطالبون بدمي- فتركه ثلاثة أيام ثم مر عليه فقال: أطلقوا ثمامة، فلما أطلق سأل: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينطق بشهادة الحق، فسأل عن أقرب ماء وكان بيرحاء، فذهب واغتسل ثم جاء ودخل المسجد، وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الظهر جلس إليه ونطق بالشهادتين، فقيل له: لماذا لم تسلم قبل وأنت في الوثاق ثلاثة أيام؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم قال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا في طريقي إلى مكة معتمراً، قال: اذهب فاعتمر) ، وذهب وكانت له قصة مع أهل مكة. والأسطوانة المخلقة وتسمى أسطوانة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس إليها ويستقبل عندها الوفود، وليس في معرفة هذه الأسطوانات ما يعاب، وليس في تتبع ذلك ابتداع، كما يظنه البعض، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [3]

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [3] ليلة القدر هي أفضل ليالي السنة؛ لأنها هي الليلة التي أنزل الله عز وجل فيها القرآن إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مجزأ على حسب الحوادث، ولهذا جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر، وجعل العبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر، وهو ما يساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.

تعيين ليلة القدر والخلاف في ذلك

تعيين ليلة القدر والخلاف في ذلك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) ، متفق عليه. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة سبع وعشرين) ، رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً أوردتها في فتح الباري. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ، رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم] . إن هذا المبحث وهو مبحث ليلة القدر متعدد الجوانب، من ذلك تعريفها، ولماذا سميت ليلة القدر؟ ومن ذلك أيضاً تعيين وقتها ومتى تكون، هل هي في عموم السنة أو في خصوص رمضان أو في العشر الأواخر أو في الوتر منها؟ وهل هي ثابتة أو متنقلة؟ وهل هي باقية أو رفعت وماذا يقول من صادفها؟ وهل لها علامات؟ وما هو فضلها؟ كل ذلك يتناوله العلماء بتوسع. ومما توسعوا فيه موضوع تعيينها، وهذا الموضوع يهم الجميع، وقد ذكر لنا المؤلف أنه أورد أربعين قولاً في تعيينها في فتح الباري، ونقلها عنه الشوكاني وزاد عليها أربعة أقوال، فتحصل بذلك أربعة وأربعون قولاً في تعيينها. وفي الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله: (بأن رجالاً أروا في منامهم أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان -أي: السبع الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان- وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: أرى -أي: أظن- أن رؤياكم قد تواطأت) ، التواطؤ هو كما يقول العلماء: التطابق، كالوطي على الوطي تواطأت، تضع القدم على القدم تتابعه، فتواطأت رؤياكم أي: اتفقت رؤياكم، على أنها في السبع الأواخر من رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في السبع الأواخر من رمضان) . ففي رؤياهم إياها تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم لهم عليها، ثم أصدر التشريع من قوله لا من رؤياهم فقال: (التمسوها) ورؤيا المؤمن قد جاء في الحديث عنها: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وقال العلماء: هذا العدد الذي هو جزء من ستة وأربعين، ليس من خمسة وليس من أربعة ولا من سبعة قالوا: لأن رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت مدتها ثلاثاً وعشرين سنة: منها ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكانت مدة تحنثه في الغار قبل أن يأتيه الوحي بالرسالة ستة أشهر، فقالوا: إذا قسمنا الثلاث والعشرين سنة على نصف فسيكون فيها ستة وأربعون نصفاً؛ لأن الستة الأشهر نصف السنة، إذاً: نسبة مدة تحنثه صلوات الله وسلامه عليه من مدة الرسالة كاملة نسبة واحد من ستة وأربعين، وكان صلوات الله وسلامه عليه في مدة تحنثه -أي: تعبده وانقطاعه- في غار حراء يرى الرؤيا، فإذا رأى الرؤيا جاءت من الغد كفلق الصبح واقعية، فكانت الرؤيا تصدق في تلك المدة، فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) . وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا صلى الصبح سأل أصحابه: (أيكم رأى رؤيا البارحة؟) فيقصون عليه ما رأوا ويعبرها لهم.

أقسام الرؤيا

أقسام الرؤيا يقول العلماء: الرؤيا على ثلاث أقسام: القسم الأول: أن يرى الإنسان ما يسره، فيحكيه لأحب الناس إليه؛ ليفسرها بأحب الوجوه فيها، والقسم الثاني: أن يرى خلاف ذلك فليتفل عن يساره، ولينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره شيئاً، والقسم الثالث من الرؤى: إنما هو تصور وتخيل أحداث عمل النهار، كما يقولون: المخيلة تختزن بعض الصور، فيبيت يحلم بما كان فيه في النهار من بيع وشراء أو خصومة أو فرح. إلخ، وهذه هي التي يقال فيها: إنها أضغاث أحلام. وهنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أُروا في المنام ليلة القدر؛ وكلنا يعلم مدى صحة الرؤيا في قضية مشروعية الأذان، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في أمر إعلامهم بالوقت من أجل أن يجتمعوا للصلاة، فقد كان الواحد منهم يخرج من بيته ويمر على أخيه في بيته فينبهه: الصلاة يا فلان! الصلاة يا فلان! وكل يُعْلِم الآخر حتى يجتمعوا لصلاة الفريضة جماعةً، فتشاور صلى الله عليه وسلم معهم ليتخذوا وسيلة للإعلام، فمنهم من اقترح الناقوس -وهو الجرس- فقال: لا، هذا للنصارى، ومنهم من اقترح الطبل، فقال: لا، هذا لكذا، ومنهم من اقترح البوق، فقال: هذا لليهود، ومنهم من اقترح إشعال النار، فقال: لا، هذا للمجوس وهكذا، وانصرفوا دون أن يتفقوا على شيء، فلما كان الغد جاء عبد الله بن زيد وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم أنه طاف بي رجل، عليه حلة خضراء، يحمل ناقوساً على كتفه -وفي رواية: خشبة على كتفه- فقلت: أتبيع الناقوس؟ فقال: وماذا تفعلون به؟ قلت: ننقس به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى. فوقف وأذن، وذكر ألفاظ الأذان الخمسة عشر، ثم تنحى قليلاً وذكر الإقامة، وقال: هكذا تفعلون. فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتاً -يعني: أليق وأبعد وألطف. إلخ- فلما قام بلال وأذن، سمع ذلك عمر بن الخطاب، فجاء من بيته يجري ويجر الرداء، وقال: يا رسول الله! والله! لقد رأيت مثلما سمعتُ. فقال: تواطأت رؤياكم) وجعلها ألفاظ الأذان المشروعة. والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رؤيا الصحابة، ووجدها واضحة، أقرهم عليها. وأذكر هنا بالمناسبة أن علماء التعبير يقولون: كل من حسن طعامه ولطف، وحسن لباسه ونظف، وتعود النظافة في جسمه دائماً وغالباً تكون رؤياه صالحة صادقة، وهذا في الأول والآخر يرجع إلى صلاح العمل، وإلى شفافية الروح وطهارة القلب؛ لأن الرؤيا رؤية البصيرة وليست رؤية البصر، والذي يهمنا في هذا الحديث أنهم ذكروا ليلة القدر في السبع الأواخر. والذي أورد على خاطرهم ترائي ليلة القدر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يخبرهم بليلة القدر.

التلاحي والتخاصم سبب في حرمان الخير والنعمة

التلاحي والتخاصم سبب في حرمان الخير والنعمة وفي الحديث الصحيح: (خرجت لأخبركم عن ليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت) أي: رفع تعيينها، ولذا قال العلماء: شؤم التلاحي والخصومة حرمهم نعمة تعيينها. ولذا يقول ابن دقيق العيد وابن عبد البر: من اشتغل من طلبة العلم باللجاج في العلم، وتتبع الخلافات والخصومات في الشواذ حرم العلم؛ لأنه يشتغل بأشياء مختلف فيها، فيفوت على نفسه الأهم. إذاً: في هذا الحديث النص على أن ليلة القدر في السبع الأواخر، والسبع الأواخر هي العشر الأواخر ما عدا الأولى، والثانية والثالثة من العشر، وبقي الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، إذاً: الثالثة من أول العشر هي أول السبع، فيقولون: إن النصوص وردت في العشر الأواخر آكد منها في غيرها، وكما قال المؤلف في آخر الحديث الثاني: لقد أوردت أربعين قولاً في تعيينها، منها ما جاء عن ابن مسعود أنه قال: من قام العام كله صادف ليلة القدر. ولما ذكر ذلك لـ أبي بن كعب قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، والله! لقد علم أنها في العشر الأواخر -أو في الوتر من العشر الأواخر-.

الحكمة من عدم تعيين ليلة القدر

الحكمة من عدم تعيين ليلة القدر ويقول العلماء: أخفاها الله على الأمة كما أخفى الساعة التي في يوم الجمعة، ليجتهد الناس في عمل الخير في رمضان كله، وفي العشر كلها، وفي يوم الجمعة بكامله؛ لأنه لو عين ليلة بذاتها لتقاصرت الهمم، وتكاسل الناس، ونشطوا في تلك الليلة فقط وتركوا ما عداها.

أرجى الليالي التي يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر

أرجى الليالي التي يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر ونأتي إلى بعض النصوص الأخرى المتفق عليها، ونترك الأربعين قولاً التي ذكرها المؤلف. وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على الناس برأسه من خبائه وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف) لأن راوي الحديث يقول: فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال: (من كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه أمامي -يعني في العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم، أو رأيتني فيما يوحى إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي. كل ذلك يصدق عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) يقول راوي الحديث: وما كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد من العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف السقف ونزل الماء من المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت الطين والماء على أرنبة أنف رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة أنه قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) وجاء الماء والطين صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين. وفي عموم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) روى مالك رحمه الله في الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة كبيراً في السن كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد رجاء ليلة القدر) فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي بقومه، سأل رسول الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء ليلة القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) . ونحن نقف عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله- بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب أن ينزل ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة وعين لي ليلة أنزل فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل كبير، وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في النزول إلى هذا المسجد النبوي الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها. إذاً: لا نعيب على الناس حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي الشريف يتحرون ليلة القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن الصلاة فيه بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً: فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى فضل الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا صحيح ولا مانع أن يصلي الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته، وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى أن يصادف فيها ليلة القدر. تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها نصوص بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة والعشرين، ثم نأتي إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها هذا الحديث الذي اختاره المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين) وهنا نجد أن الجمهور يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة رأوها في منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين. فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] إلى كلمة (هي) فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من كلمات السورة، و (هي) ضمير مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع وعشرين. وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق ابن كثير والقرطبي وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس في مجلسه وهو غلام، ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار الصحابة، فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن كان غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى بالنصر، وبشرى بانتصار الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر: ماذا تقول يا ابن عباس؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا؛ لأنه إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فمهمة الرسالة قد تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء، فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه. فقال عمر: وأنا أقول ذلك. ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث وفي رؤى بعض الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟! قال: إني لأعلم أي ليلة هي. قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛ لأنه قد خلت ومضت قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق السماوات سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً، والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق من سبع، وغذي بسبع. وذكر أشياء من هذا كثيرة. قال: فهذا الطواف والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف غذي؟ قال: يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:24-31] والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى خلقاً آخر، قال: والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه بالفضل وبدقة الاستنتاج. يهمنا هنا قول ابن عباس: لسبع بقين، أو لسبع مضين. وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق بالتعيين.

الجمع بين الروايات المتباينة في تعيين ليلة القدر

الجمع بين الروايات المتباينة في تعيين ليلة القدر وهنا يقف العلماء أمام هذه النصوص الصحيحة: ليلة واحد وعشرين وفيها المطر، وليلة ثلاث وعشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المسن بالنزول فيها، وليلة سبع وعشرين رؤياهم تواطأت فيها، فكيف يكون هذا مع أن إحدى وعشرين تغاير ثلاثاً وعشرين وتغاير سبعاً وعشرين، فهل هذا تناقض أو تعارض؟ قالوا: ليس فيه تناقض ولا تعارض وإنما في السنة التي سألوا فيها أولاً كانت في ليلة واحد وعشرين، وفي السنة التي رأوا فيها الرؤى كانت في ليلة سبع وعشرين، وفي السنة التي سأل فيها الجهني وقد صارت معروفة عند أهل المدينة بليلة الجهني؛ لأنه كان ينزل في العصر وينيخ دابته، فيصلي العصر، ويبقى إلى أن يصلي الفجر، ودابته عند الباب فيركب ويرجع إلى مكانه، فعرفت بليلة الجهني كانت في ليلة ثلاث وعشرين فقالوا: كل حادثة كانت ليلة القدر في سنتها في ذلك التاريخ، فإذاً: هي ليست بثابتة، ومن هنا قال الشافعي وغيره: إن ليلة القدر ليست مربوطة ومعينة بليلة واحدة من الوتر من العشر الأواخر، بل هي تتنقل وتدور في الوتر من العشر الأواخر، فمرةً تكون في ليلة واحد، ومرةً تكون في ليلة ثلاث، ومرةً تكون في ليلة تسع وعشرين، ومرةً تكون في ليلة خمس، ومرةً تكون في ليلة سبع، فهي ليست مرتبطة وثابتة في ليلة من الليالي، ولكنها تتنقل في الوتر من العشر الأواخر. وهذا أحسن ما يجمع به بين النصوص، وهو يساعد على المعنى الذي قالوه في الحكمة من إخفائها: ليجتهد الناس في كل العشر الأواخر.

بيان أن ليلة القدر باقية لم ترفع

بيان أن ليلة القدر باقية لم ترفع ثم إن هناك من يقول: إن ليلة القدر قد رفعت كما جاء في الحديث: (فتلاحى رجلان فرفعت) وهذا يقوله بعض طوائف الشيعة، ولكن الجمهور يقولون: إن معنى (رفعت) أي: رفع العلم بتعيينها؛ لأنه في نفس الحديث قال: (فالتمسوها في العشر الأواخر أو في الوتر من العشر الأواخر) فكيف تكون قد رفعت وهو يقول: (التمسوها) إذاً: هي موجودة، ولكن الذي رفع هو العلم بتعيينها بالذات في أي الليالي.

هل ليلة القدر خاصة بهذه الأمة أم أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟

هل ليلة القدر خاصة بهذه الأمة أم أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟ ثم يأتي البحث أيضاً: هل هذه الليلة خاصة بهذه الأمة أو أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟ فبعضهم يقول: هي خاصة بهذه الأمة، ويذكرون في ذلك ما رواه مالك رحمه الله بلاغاً، وهو من البلاغات الأربعة التي يقولون: لم يوجد لها سند، ولكن تتبعها أبو زرعة رحمه الله فوجدها مسندة بأسانيد تدور بين الحسن والضعف والصحة، هذا البلاغ الذي رواه مالك هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته مع أعمار الأمم الماضية، فتقالها؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والذين قبلهم كانوا يعمرون المائة والمائتين، فلما تقالها عظم عليه أنهم لا يعملون زمناً بقدر زمن الأمم الماضية، فلا يحصلون من الجنة بقدر ما يحصل غيرهم؛ لأن الشخص الذي يعيش مائة سنةً في طاعة الله ليس كالذي يعيش ثلاثين سنةً أو أربعين سنةً كما في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) فأتي بليلة القدر، وجعلت لأمته تلك الليلة التي قال فيها: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما نقص من أعمارها، وفي الرواية الأخرى: أنه ذكر لهذه الأمة أنه كان في من قبلنا رجل كان يقوم الليل ويجاهد في النهار صائماً ثمانين سنةً أو مائة سنة، فتقال الصحابة أعمالهم وقالوا: من يستطيع أن يظل ثمانين سنة يقوم الليل، وثمانين سنة يجاهد العدو وهو صائم؟! فلما قارنوا أنفسهم بالنسبة لهذا النوع من البشر المتقدم عظم عليهم ذلك، فأنزل الله سورة القدر، وفيها: أن تلك الليلة خير من الألف الشهر؛ لأن الرجل لبس السلاح ألف شهر، والألف شهر في الحساب تساوي ثلاثة وثمانين سنة وكذا شهراً، يعني فوق الثمانين سنة، فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما فاتها من القدرة والاستطاعة على عمل الخير كذاك الرجل الذي عَبَدَ الله ألف شهر قياماً لليل وجهاداً في النهار. ومن هنا قالوا: إنها خاصة بهذه الأمة، والآخرون يقولون: بل هي موجودة في الأمم قبلنا؛ لما جاء في حديث أبي هريرة: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل ليلة القدر كانت تكون في الأمم مع الأنبياء، فإذا مات النبي رفعت، أو هي باقية وخاصة بهذه الأمة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل كانت مع الأنبياء في الأمم الماضية) وسواء كانت في الأمم الأوائل، أم كانت جديدة في هذه الأمة فنحن يهمنا الاجتهاد فيها.

العلامات التي تعرف بها ليلة القدر

العلامات التي تعرف بها ليلة القدر بقي هل هناك علامات لها في ليلتها؟ العلامات التي وردت إنما تظهر في صبيحتها، وبعضهم يقول: من أكرمه الله فقد يرى بعض العلامات، وليست علاماتها عامة كالشمس والقمر، ولكن ربما يجد إنسانٌ شيئاً ما دون أن يراه الآخرون، ولكن العلامة العامة هي معنوية روحانية، يذكرونها عند قوله سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ} [القدر:4-5] فقالوا: (سَلامٌ هِيَ) أي أن الملائكة تسلم على كل من في الأرض، فيقولون: من صافحته الملائكة -وقد تصافح البعض- يشعر أن في قلبه رقة، وكأنه يميل إلى البكاء فرحاً أو خوفاً من الله، وهذه الحالة المعنوية قد تعتري بعض الناس إذا قرأ شيئاً من القرآن، فإن المولى يتجلى عليه بروحانية كتابه، فيحس طمأنينة وارتياحاً نفسياً لم يكن يحس به من قبل، وهي السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن كما ذكر ذاك الصحابي لرسول الله أنه كان يقرأ القرآن بالليل والفرس في مربطها فإذا بها تجول، وعندها طفل فخاف عليه، وترك القراءة وذهب ليرى الطفل فوجد الفرس قد سكنت وهدأت فإذا عاد إلى صلاته وقرأ تحركت الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تلك السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن، فتراها الفرس فتتحرك) . وهكذا قد يرى أنواع وأشخاص وأفراد من الناس في تلك الليلة بعض تلك العلامات التي من يحسها يحس بانشراح صدره، وبخفة روحه، وبرفعة معنوياته، وبمحبته لذكر الله وما والاه. أما العلامات التي يشهدها الجميع ففي صبيحتها تشرق الشمس وليس لها شعاع كشعاع الأمس، بل تكون الشمس هادئة رائقة فيها شبه من ضوء القمر، يقولون في سبب ذلك: إن الملائكة حينما تنزلوا ليلة القدر لم يبق شبر في الأرض إلا وفيه ملك، فإذا صلى الناس الفجر بدأ الملائكة يصعدون إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، فيصعدون من بعد الفجر إلى طلوع الشمس وإلى الضحى فكثرة عددهم مع نورانيتهم -لأن الملائكة من نور- يختلط نور الملائكة مع شعاع الشمس، فيختلط النور والشعاع، فيتغير لون أشعة الشمس بسبب ذلك. ويقولون في علاماتها: إن ليلتها سلام، فلا يقع فيها من الأحداث العظام التي تفزع الأمم، لا يقع فيها خسف، ولا يقع فيها غرق، ولا يقع فيها إحراق، وكذلك نهارها يكون تابعاً لليلتها بسلام: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] والواجب على العالم في هذا الوقت الحاضر -لو كانوا عقلاء- أن يجعلوا لهم فترة سلام يستريحون فيها ولو كانوا في حالة قتال وشحناء، ويعطون أنفسهم فرصة للمفاهمة، وللتوصل إلى السلام الحقيقي، وسابقاً جعلوا سويسرا بلداً بعيداً عن الحروب، يلتقي فيها المتحاربان، يتقاتلان في الميدان، ويجلسان على طاولة واحدة وعلى مائدة واحدة في سويسرا، وإذا خرجوا منها شهر كل منهما السلاح على الآخر، فجعلوها بلداً بعيداً عن الحروب، حتى إنه كان في الأول ليس لها جيش؛ لأنها لا تحارِب ولا تحارَب؛ لتكون موطناً لالتقاء الأعداء وفرصة للتفاهم، وقد سبق الإسلام ذلك قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] يحرم على الإنسان أن يعتدي على الآخر ولو كان له دم عنده، فيتواصل الناس، وتسافر القبائل وتنتقل في مأمن أثناء هذه الأشهر الحرم. وكذلك قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125] فالمتقاتلان في غير مكة إذا التقيا في حرم مكة فهما أخوان، لا يهيج أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر؛ لأنهما في مظلة أمن البيت الحرام كما قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] حتى الطير يأمن فيه، والوحش يأمن فيه فضلاً عن الإنسان، فالإسلام جعل مكاناً وزماناً للسلم والأمن وجعل فرصة للمتخاصمين أن يتصالحوا، وفرصة للمتخالفين أن يتفاهموا في ظل حرمة من حرمات الله قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] . إذاً: نحن مقصرون في حق الإسلام، وكان علينا لزاماً أن نعلِّم العالم بأن السلام عندنا، ومن عندنا انطلق، سواء كان في المكان بمكة، أو في الزمان في الأشهر الحرم، والتشريع العام: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] يا سبحان الله! يقول: لا تحلوهم، ولا تستحلوهم، وابقوا لهم الحرمة، من أمَّ البيت الحرام فهو آمن، وقد كانوا في الجاهلية من خرج من أمن الحرم وخاف على نفسه في غير الأشهر الحرم يأخذ لحاء شجرة ويجعله كالقلادة في عنقه، فإذا مر بأي قبيلة قالوا: تحرم بالحرم، فهذه القلادة، والقشرة من لحا الشجرة تحميه من أعدائه؛ لأنها من جوار البيت. والآن صار المسلمون لا يرقبون في بعضهم إلاً ولا ذمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالقوة للقاهر، والسلطة للقادر، ورجعت جاهلية من عز بز ومن غلب استلب، فلنرجع إلى الإسلام، إن لم نصدره للآخرين فليكن لنا فيما بيننا، لا أن نأتي في رمضان ونحشد الجيوش للقتال، الواجب على الجميع أن يكون رمضان أقل ما فيه هو السلم والسلام، نعم لأخذ الاحتياط! ونعم لأخذ الأهبة! ونعم لإعداد القوة! ولكن أن نقاتل! وأن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً في رمضان، وفيه ليلة السلم والسلام التي قال الله فيها: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] ! فنسأل الله السلامة والعافية! أين المسلمون من هذا؟! أين أجهزة الإعلام من هذا التشريع الإلهي؟! إن الكلام على ليلة القدر لا يمكن أن يستوفيه إنسان في جلسة.

سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم

سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم وإذا جئنا إلى تسميتها قالوا: القدر: هو الشرف والرفعة، فهي ليلة رفيعة القدر، جليلة المكانة؛ لأنها شهدت عظيم القدر على عظيم الخلق في عظيم الأمم، شهدت أعظم ما شهدت ألا وهو إنزال القرآن الكريم على خير خلق الله في أمة هي خير الأمم، ومن هنا كانت ليلة القدر رفيعة الشأن. وقيل القدر: هو التقدير؛ لأن الله سبحانه يقدر فيها أحوال العالم الأرضي، وينزل ذلك التقدير إلى الملائكة ليطبقوا ذلك كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] من كل أمر من أمور الخلائق: من رزق ومن شقاء ومن سعادة ومن مولد ومن ممات ومن. إلخ، ولذا يؤكد العلماء على أن ليلة القدر هي في رمضان، وأن ما جاء في سورة الدخان في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4-5] إنما هو في ليلة القدر؛ لأنه قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وكان إنزال القرآن قطعاً في رمضان. إذاً: الليلة التي تقدر فيها الأمور، وتقدر فيها شئون الحياة إنما هي ليلة القدر، يقدر الله أو ينسخ من اللوح المحفوظ ما قدره طيلة العام، وينزّله إلى الملائكة الكرام، ثم بعد ذلك ينزل ويطبق وينفذ في العام كله.

الأدعية الواردة في ليلة القدر

الأدعية الواردة في ليلة القدر أما ماذا يقول من صادفها؟ فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا تأملنا في هذه الألفاظ وجوها: السائل عائشة، وسألت رسول الله، ومن تكون عائشة من رسول الله؟ هي أحب الناس إليه بعد أبي بكر، فأتاها بأحب النصح، يعني: أن جوابه لها هو نهاية النصح والمحبة، ولو أن هناك خيراً من ذلك لقاله لها. ويقول علماء اللغة: الميم في (اللهم) بدل (يا) النداء في (يا ألله) فتحذف ياء النداء في الأول، ويعوض عنها بميم في الأخير. قوله: (اللهم! إنك عفو) هذا وصف للمولى سبحانه أنه عفو، وكم من عفو لله على الخلق! وكم من ذنب يرتكبه الإنسان في خفاء أو علن والله يعفو عنه! إذاً: يمتدح الله بصفته أولاً؛ لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: عند الدعاء قدم وسيلة لاستجابة دعائك، وهذا مبدئياً، فإذا قلت: (اللهم! إنك عفو) فقد أثنيت على الله، ومدحت الله بالصفة التي تتناسب مع حاجتك وسؤالك، ولو كنت تريد الرزق: فقل: اللهم! يا رزاق! يا رازق الطير! يا رازق النمل! يا رازق كذا في جحره ارزقني؛ لأنك تطلب رزقاً فتسأله بصفة الرزاق، وهنا تريد أن تسأله العفو، فتمتدحه سبحانه بصفة العفو. وقوله: (إنك عفو تحب العفو) قال تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] في قضية مسطح وغيره، وقوله: (إنك عفو تحب) أي: وأنا أسألك لأن من صفتك العفو وأنت تحبه أن تعفو عني. وإذا تأمل الإنسان في قوله: (فاعف عني) العفو -كما يقولون-: هو الإزالة، نحو: عفت الريح الأثر، إذا مرت قافلة في الصحراء ورسمت أخفافها وأقدامها في الطريق، فإذا جاءت ريح شديدة وحركت الرمل عفت أثر المسير في الصحراء ولم يبق للمسير أثر، فكذلك العفو عن الزلة يمحو أثرها من الصحيفة، فلا يبقى لها أثر مكتوب على الإنسان. قوله: (إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من عوفي في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، وقوله: (من عافاه الله في بدنه فهو سعيد) ، وقوله: (من عافاه الله في دينه وسلم من الشرك، وسلم من الرياء، وسلم من كبائر الذنوب فهو سعيد) ، وقوله: (من عافاه الله يوم القيامة من تلك المضايق فهو السعيد الناجي) ، وقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] علمنا أن أجمع دعاء يكون هو هذا الدعاء الموجز (فاعف عني) مع المقدمة التي يقدمها الإنسان إليه. ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير بأنه عفو يحب العفو أن يعفو عنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة، اللهم! إنا نسألك أن تعافينا في أبداننا، وفي ديننا، وفي جميع أعمالنا، اللهم! إنا نسألك يا سلام! يا منزل السلام! أن تنزل السلام على الأمة الإسلامية، اللهم! خذ بنواصي ولاة أمور المسلمين إلى الحق وإلى العدل، اللهم! أنزل رحمتك علينا واجعلنا من عتقائك من النار، ومن المقبولين، اللهم! أوردنا حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! وأسقنا منه وبيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! أكرمنا بفضلك شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [4]

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [4] جعل الله عز وجل البيت الحرام مهوى أفئدة الناس من جميع أقطار الأرض، فكلما زادت زيارته ورؤيته زاد الشوق والحنين إليه، ولفضله وشرفه نسبه الله إليه، وجعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وجعله المكان الذي يؤدى فيه الركن الخامس من أركان الإسلام ألا وهو الحج، وجعل الله عز وجل المسجد النبوي مقارباً له في الفضل، وجعل المسجد الأقصى مقارباً للمسجد النبوي في الفضل؛ لأن هذه المساجد الثلاثة بناها أنبياء بوحي من الله سبحانه وتعالى.

حكم شد الرحال إلى الثلاثة المساجد

حكم شد الرحال إلى الثلاثة المساجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله والتابعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه] . يسوق المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث الخاص بشد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب الاعتكاف بمناسبة تحديد المكان الذي يصح الاعتكاف فيه.

الخلاف في المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف

الخلاف في المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف قد تقدمت الإشارة إلى قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأن الجمهور يرون صحة الاعتكاف في كل مسجد، ويشترطون المسجد الجامع للرجل حتى يصلي الصلوات الخمس في جماعة، وحتى يحضر صلاة الجمعة، ولا يضطر إلى أن يخرج ويقطع اعتكافه للجمعة والجماعة، ولكن يوجد من العلماء من غير الأئمة الأربعة من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، أخذاً من قوله سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] . وهناك من يقول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد النبوي، عملاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يعتكف قط إلا في المسجد النبوي. وهناك من يقول: الاعتكاف جائز في تلك المساجد الثلاثة، وألحقوا المسجد الأقصى بالمسجدين السابقين لاشتراطه معهما في خصوصية شد الرحال، ويستدل بهذا الحديث بأنه لا يجوز لأحد أن يشد الرحل إلى أي مسجد في الأرض ليعتكف فيه إلا إلى أحد هذه الثلاثة؛ لأن جميع المساجد على وجه الأرض ما عدا تلك المساجد الثلاثة فيما يتعلق بالعبادات سواء، فمثلاً: لا يجوز لإنسان في مصر يشد الرحل إلى الجامع الأموي في دمشق ليعتكف فيه؛ لأن المساجد في مصر تعادل المساجد في دمشق، ولا يحق لأحد في دمشق أن يشد الرحل إلى مصر ليعتكف مثلاً في الجامع الأزهر؛ لأن مساجد دمشق بالنسبة للعبادات سواء مع مصر وغيرها، وهكذا الجوامع القديمة كجامع قرطبة أو الزيتونة أو غير ذلك من المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ومعلوم أن شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة إنما هو لموضوعية المساجد، وهي: الصلاة والاعتكاف. إذاً: بهذا الحديث ينبه المؤلف رحمه الله على أن أي إنسان في أي بقعة من العالم إذا أراد أن يعتكف فيعتكف في مسجد من مساجد بلده أياً كان موقعه وأياً كان نوعية مسجده، مادام يجمع فيه، إلا إذا أراد الفضيلة فله أن يشد الرحال إلى واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإذا جاء أي إنسان من شرق أو غرب أو شمال أو جنوب في محيط الأرض إلى أحد هذه المساجد الثلاثة ليعتكف فيه فلا مانع.

سبب تخصيص المساجد الثلاثة بجواز شد الرحال إليها

سبب تخصيص المساجد الثلاثة بجواز شد الرحال إليها ولماذا خصت تلك المساجد الثلاث بجواز شد الرحال إليها ليعتكف فيها؟ قد سبق أن نبهنا أن طالب العلم إذا وجد متعددات في حديث واحد فعليه أن يطلب الرابط والجامع والمناسبة بين جمع هذه المتعددات في سياق واحد، ومثلنا بحديث المنبر والتأمين عليه ثلاث مرات، حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الدرجة الثالثة فقال: آمين) ، وكان منبره صلى الله عليه وسلم في زمنه من ثلاث درجات، قيل: كان يصعد على الأولى وتستقر قدماه الشريفتان على الوسطى، ويجلس على الثالثة، وربما وقف على الثالثة وأدى بعض الأعمال ليري الناس كيف يفعلون، كما جاء أنه صعد عليه وصلى ركعتين فاستقبل القبلة وكبر وقرأ وركع ثم رفع، ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد إلى الركعة الثانية ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وموضوع التأمين ثلاث مرات: (قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن ولا نعلم على ما أمنت، قال: نعم، أتاني جبريل آنفاً وقال: يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين. ولما صعدت الثانية قال: يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: من أدرك رمضان وخرج عنه ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين) فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد في حديث واحد في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث: ففي بر الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما ولم يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في الحديث: (لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان على خروجي. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى منه، ومع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدم بر الوالدين عليه. وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما لأنهما السبب في وجود الإنسان من العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات تلقح وتنتج، وابن آدم أيضاً يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية كما في قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فحق الله أولاً ثم حق الوالدين. والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله. إذاً: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم فللرسول على المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه بالله ويسعده في الآخرة. ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض، وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله في رمضان ولم يغفر له فيه ولم ينل حظاً منه فمتى ينال حظاً؟! إذاً: هذه الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد. ونأتي إلى ذكر هذه المساجد الثلاثة: فواحد في مكة، وواحد في المدينة، وواحد في بيت المقدس، والذي في مكة هو أول بيت وضع للناس، والذي في بيت المقدس وضع بعده بأربعين سنة، والذي بالمدينة وضع بعدهما بآلاف السنين، فما الذي ربط بينها رغم التباعد فيما بينها؟! وإذا تأملنا أيضاً نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بينها في جانب آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فصارت صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وصلاة في مسجد المدينة بألف، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، ووجدنا أن المسجد الأقصى قد ارتبط بالمسجد الحرام قبل المسجد النبوي في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] إذاً: هذه المساجد الثلاثة اجتمعت لها تلك الفضيلة، وهي مضاعفة الصلاة فيها، فتكون أيضاً مشتركة في مضاعفة الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف عبادة، فما دامت تتفاضل الصلوات فيها على سائر مساجد الدنيا فكذلك الاعتكاف.

سبب مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة

سبب مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة ثم يأتي السؤال الآخر: وما السبب في أن الصلاة تضاعفت فيها بمائة ألف، وألف، وخمسمائة، والأرض كلها مسجد وطهور؟ نجد أيضاً أن في تاريخ كل منها ارتباطاً وثيقاً وصفات معينة لم يشاركها -أي: الثلاثة- غيرها من مساجد العالم كله، أولاً: إن اختيار المكان لها ما جاء عفواً، بل كان اختيارها في هذه الأماكن من الله، ثانياً: إن إقامتها وبناءها جاء عن طريق رسل الله وليس عامة الناس. إذاً: ما دامت قد اشتركت في كيانها ووجودها في تلك المبادئ فبينها اشتراك أساسي، أما تعيين المكان فقد جاء في حق المسجد الحرام قوله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] والبيت كان قد انطمس، وزمزم كانت قد ردمت، ولم يبق في مكة أثر للبيت، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى خليله إبراهيم أن ينقل ولده إسماعيل إلى مكة، فجاء امتثالاً لأمر الله كما قال الله عنه أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] وهذا باعتبار ما كان؛ لأنه لا يوجد بيت في وقت مناداة إبراهيم؛ لأن إبراهيم عليه السلام بناه بعد أن كبر إسماعيل وبوأ الله لإبراهيم مكان البيت - (بوأ) بمعنى: أطلعه على المباءة، والمباءة: المكان الذي يبوء إليه الإنسان ويئول- تقول كتب تاريخ المسجد الحرام: إن الله أرسل إليه سحابة في وقت الظهيرة -وقت الزوال- فسارت ثم وقفت وثبتت، وقال له المولى: خط على حدود ظلها. فخط على حدود ظل تلك السحابة، ثم بدأ بالحفر فنزل حتى وصل إلى القواعد الأساسية كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فلم يضعها ابتداءً ولم يحط حجر الأساس، بل كانت القواعد موجودة من قبله، ومن الذي كان قد وضعها؟ نجد في ذلك آثاراً كثيرة، منها أن الملائكة بنته لآدم، ومنها أن آدم هو الذي وضعها بعد أن جاء شيث، وغيرها من الآثار، وكلها آثار لا ترتفع إلى درجة الصحة التي يقطع بها. والذي عندنا من علم اليقين ما جاء في كتاب الله من العمارة الثانية وهي عمارة الخليل عليه السلام، فلما وصل إلى القواعد بنى عليها ورفعها، وكان إسماعيل عليه السلام يساعد أباه، وكما يقولون في تاريخه: كان يأتيه بالحجر ويرفعه إليه، إلى أن استوى البناء إلى قامة الإنسان، وبعد أن وصل إلى قامة الإنسان لم يكن لديهم (سقالة) ، وليس لديهم (مصعد) ، فجاء مقام إبراهيم، وهو: حجر كان يقف عليه إبراهيم، فإذا بالحجر يصعد بإبراهيم وهو حامل الحجر للبناء حتى يضعه في الجدار في مستوى ارتفاعه، وينزل الحجر بإبراهيم حتى يأخذ الحجر من إسماعيل ويصعد به، وهكذا. ولذا فإن مقام إبراهيم فيه آيات بينات، يقول الفخر الرازي: الآيات جمع آية وهي موجودة في الحجر في مقام إبراهيم، وكيف هي؟ قال: وجود حجر أصم، ثم يلين هذا الحجر تحت قدميه كأنه من الطين، وتبقى صلابة الحجر في حوافها لم تلن، فحجر واحد البعض منه يلين والبعض منه يظل قاسياً هذا فيه آية، فالجزء الذي لان فيه آية، والجزء الباقي على قساوته فيه آية، وإلى الآن يوجد مقام إبراهيم في الفانوس الموجود في صحن المطاف، وفيه أثر قدمي إبراهيم في الحجر. إذاً: المسجد الحرام اختص أولاً بقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] وهل هذه أولية مطلقة، بأن كان هو أول حركة عمران على وجه الأرض، أم هي أولية بالنسبة للمساجد؟ هناك من يرجح الأول، ويقول: إن أول عمران على وجه الأرض عند أن نزل آدم إلى الأرض هو البيت -الكعبة- ثم جاء إبراهيم عليه السلام وبوأ الله له المكان، وهذه خصيصة ثانية، فقام ببنائه إبراهيم يساعده إسماعيل والحجر معهم مساعد، وهذه خصيصة ثالثة، فاختص المسجد الحرام بهذه الأمور. ثم هو في حرم آمن، ويتفق الجميع بأن الصلاة تتضاعف في جميع حرم مكة وليس في المسجد فقط، فبيوت مكة كلها داخلة في الحرم، فحدود الحرم إلى مسجد التنعيم، وجميع المساحة التي حول الحرم والتي لا يصح الإحرام منها للعمرة داخلة في الحرم وتتضاعف فيها الصلاة. نأتي إلى مسجد المدينة: لما تمت بيعة العقبة الثانية، وجاءت الهجرة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -كما نعلم- نزل أول ما وصل بقباء، فبنى مسجدها، وكيف بناه وأين؟ تذكر كتب تاريخ المدينة حديثاً ضعيفاً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (اركب الناقة، فركب، قال: ارخ زمامها، فأرخاه، فقامت واستدارت في مربع، فقال: خطوا على أثرها، فخطوا على أثرها، وبدأ ببناء مسجد قباء على ما خطته الناقة) ، فقالوا: أيضاً كان اختيار المكان لمسجد قباء من الله، وقد شارك في بعض الاختصاصات، فالذي بناه هو رسول الله، وجعل من تطهر في بيته وأتى إليه وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة، وقال سعد بن أبي وقاص: (لأن أصلي ركعتين في مسجد قباء أحب إلي من أن أذهب إلى بيت المقدس، ولو تعلمون ما لهذا المسجد لضربتم إليه أكباد الإبل ولو شهراً) يعني: لو لم يكن عندنا لكان لفضله يستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل شهراً، يعني: تشد الرحال إليه. والكلام على مسجد قباء كثير، ويكفي فيه من الفضل أن من قصده للصلاة فيه كان له كأجر عمرة، وقول هذا الصحابي الجليل: (لأن أصلي ركعتين فيه أحب إلي من أن أذهب إلى المسجد الأقصى) . وبعد أن بنى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء نزل دافعاً إلى المدينة، وكانت -كما نعلم- قبائل الأوس والخزرج الذين بايعوه عند العقبة في استقباله بالعَدد والعُدد، وكل قبيلة تقول: هلم إلينا يا رسول الله! هلم إلى العَدد والعُدد. أي: لنوفي لك بالعهد، فكان جوابه: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) يا سبحان الله! هذا نبي يوحى إليه بوحي السماء وفي أخطر رحلة يترك أمره إلى المأمورة وهي عجماء؟ ولماذا لا؟! ألم يوحِ ربك إلى النحل، والحيوانات لا تتحمل الوحي، لكنها تعقل، كما ذكر مالك في الموطأ: (أن يوم القيامة يكون يوم الجمعة، وأنه ما من دابة إلا وتصيخ بسمعها فجر يوم الجمعة شفقاً من الساعة) ، فإذاً: جميع الحيوانات تعلم يوم الجمعة من الخميس من السبت، وتدرك أن يوم الجمعة تقوم فيه الساعة، وتتسمع هل جاءت النفخة أو لا، فهي تعقل وتدرك، والناقة هنا مأمورة، فمضت إلى أن وصلت إلى هذا المكان المبارك فبركت، ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، ثم نهضت وهو عليها وراحت ودارت واستدارت ورجعت إلى المكان الأول وبركت ومدت عنقها وتحركت، يا سبحان الله! هل عندها خارطة تطبقها لتتثبت مما أمرت به؟! ليس عندها شيء من ذلك وإنما هذا لكي يكون عندهم علم بأنها ما جاءت عفواً وإنما بركت مأمورة بركت على العلم الأول، ثم قامت تتثبت وتتأكد بأنها مأمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه المنزل إن شاء الله) فرجع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه المنزل، وبتقريره المأمورة على ما أمرت به. ويأتي السؤال هنا: لماذا ترك أمره للمأمورة؟ يجيب العلماء على ذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان عليه المجتمع في المدينة قبل مجيئه، فقد كانت الحرب سجالاً بين الأوس والخزرج مائة سنة، ولم تقف إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، إذاً: هم بالأمس كانوا في سباق في القتال، وكانوا طائفتين متقاتلتين متنافستين، ولا يوجد واحدة تسلِّم للثانية، فلما وضعت الحرب أوزارها وهدأت، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من جاءهم، فلو قال: سأنزل عند الأوس، فستقول الخزرج: الجرح لم يبرأ بعد، ولو قال: سأنزل عند الخزرج فستقول الأوس: ولماذا لسنا نحن؟ ولماذا تركتنا؟ فتثار بينهم الحزازات مرة أخرى. لكن لما قال لهم: (إنها مأمورة) أي: عندكم الناقة وهي مأمورة فتفاهموا معها، واتركوني من تحمل مسئولية تفضيل قبيلة على قبيلة، فجاءت إلى حيث أمرها الله وبركت، فلم يتكلم أحد بشيء؛ لأنهم يعلمون أن المأمورة إنما يأمرها الله، فإذا اعترضوا كان اعتراضهم على الله، وهم جاءوا ليستقبلوا رسول الله لا ليعترضوا على الله! إذاً: انتهت مشكلة تنافس الأوس والخزرج. بقي لنا المحل الذي نزل فيه وقال عنه: (إنه المنزل) والمنزل هذا ليس بخال وليس بقفر، بل هناك بيوت وفيها أناس، فلو قال: أنا سأنزل عند فلان لقال الأخرون: لماذا فلان؟ وستأتي المسألة ثانية، فوقف الجميع وكل واحدٍ يقول: عندي عندي، بيتي قريب، بيتي هنا، وهو ساكت، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه كتب الله له الخير فما زاحم ولا شارك ولا دافع وإنما قام ساكتاً وأخذ الرحل من على الناقة وجعله في بيته، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الناقة فوجدها خالية، فسأل أين الرحل؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: (المرء مع رحله) فلم يتخير أحداً ولم يبق على أحد غضاضة في ذلك. إذاً: سلمت الرحلة من كل شوائب قد تثير في النفس شيئاً، فلما استقر في بيت أبي أيوب نظر فإذا أمام البيت -كما يقال- بستان صغير أو مربد، والمربد عند أهل النخيل: هو المتسع بين البساتين الذي يجمعون فيه الرطب حتى يتمر، وينشرونه فيه للشمس حتى تذهب الرطوبة عنه ويشتد، فسأل لمن هو؟ فقالوا: لأيتام - سهل وسهيل - عند أسعد بن زرارة، قال: عليَّ به. فجاء، فقال له: ثامني على هذا المربد -ثامني يعني: اذكر لي ثمنه وبعه علي بالثمن-. قال: لا يا رسول الله! هو لك بدون ثمن، هو لأيتام عندي سأرضيهم عنه بأرض بدله أو بتعويض عنه، قال: لا، ثامنّي. فثامنه وانتهى الثمن على عشرين ديناراً ذهباً، فدفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فكل ركعة يركعها الإنسان في المسجد النبوي يكون لـ أبي بكر فيها أجر. فقطع الجريد، وسوى الأرض، وبدأ ببناء المسجد من جذوع النخ

مباحث متعلقة بالمسجد النبوي الشريف

مباحث متعلقة بالمسجد النبوي الشريف بقي عندنا مباحث متعددة، وكلها عملية وضرورية بالنسبة للمسجد النبوي الشريف. ونجمل هذا في الآتي: أولاً: المسجد النبوي طرأت عليه توسعات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي السؤال عن تلك التوسعات مع الحديث: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فهل يا ترى! قوله: (مسجدي هذا) ينسحب إلى التوسعات التي جاءت بعده أو لا ينسحب؟ ثم (ألف صلاة) هل هي في عهده أو من بعدِه؟ وهل هي للفريضة والنافلة أو للفريضة فقط؟ فنأخذ أولاً: التوسعة، لما وسع عمر رضي الله تعالى عنه المسجد رأى بعض الصحابة يتحرج من الصلاة في توسعة عمر، فلاحظ ذلك، فقال: والله! إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -أبيار علي-. إذاً: عمر يقسم بأن الزيادة التي زادها إنها من مسجد رسول الله، ولو جاءت الزيادة بعده، وقد جاءت من عثمان، ومن الوليد، ومن الخلفاء بعدهم، ومن العثمانيين، ومن الدولة السعودية. فهي من مسجد رسول الله. والواقع يصدق ذلك. فلو امتد إلى ذي الحليفة، وجلس إنسان على الحائط الغربي من ذي الحليفة، وقيل له: أين أنت جالس؟ لقال: في مسجد رسول الله، إذاً: التوسعة مهما كانت فإنه ينسحب إليها فضل المسجد النبوي. وسبب هذا الخلاف هو مدلول اللغة في كون اسم الإشارة اسم يعين مسماه كما يقول ابن مالك في الألفية: اسم الإشارة وضع بالوضع العام لموضوع له خاص. فكلمة (هذا) تصدق على كل مفرد مذكر، فيقال: هذا إنسان، هذا جهاز، هذا عمود، هذا مصباح، هذا قلم، فكلمة (هذا) كلمة عامة تطلق على كل مفرد مذكر، ولكن مع كونها عامة هل تطلق على العموم في وقت واحد أو على فرد من أفراد العموم؟ الجواب: على فرد من أفراده، ولهذا قال بعض العلماء: اسم الإشارة هو: اسم يعين مسماه كالعلم، فقالوا في قوله: (مسجدي هذا) يكون خاصاً بما أشارت إليه الإشارة الحسية فيما يصلح لها؟ وقد ذكرنا في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي) و (مسجدي) في اللغة: مضاف ومضاف إليه، مسجد: مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، إذاً: مهما اتسع المسجد فهو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تكون للتخصيص كما تقول: باب الدار، وتكون للتمليك، كما تقول: كتاب زيد، إذاً: (مسجدي) مدلول الإضافة فيه يعادل مدلول اسم الإشارة. ونأتي إلى قضية أخرى جاء فيها الحديث الصحيح: لما نزل قوله سبحانه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] تلاحى بعض الناس: هل هو مسجد قباء أو مسجد رسول الله؟ فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأخذ كفاً من حصباء وضرب به الأرض وقال: (هو مسجدكم هذا) وأما مسجد قباء فما مصيره؟ مسجد قباء فيه النص: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] ولما نزلت ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف وهم أهل قباء فقال: (إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فماذا تفعلون؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) أي: نستنتجي بالحجارة، ثم نغسل بالماء. إذاً: الآية قطعاً نزلت في مسجد قباء، وعلى هذا فقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هل الأولية هذه أولية زمانية أو أولية تفضيل؟ إن جئنا إلى الأولية الزمنية فمسجد قباء هو أول، وإن جئنا إلى أولية الأولولية فلا شك أن المسجد النبوي أولى، ثم جمع العلماء وقالوا: كلاهما أسس على التقوى من أول يوم، ولذا فإن الآية الكريمة تشمل كل مسجد في كل زمان وفي كل مكان إذا بني من أول يوم على التقوى، لا على الرياء ولا على السمعة ولا على مزاحمة لمسجد آخر، إنما بني لوجه الله سبحانه. إذاً: الصلاة في الزيادة تتعادل مع الصلاة في البناء الأول، ولكن لا شك ولا ريب أن المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه هو أولى من المكان الذي جاء من بعده، وأفضلية الألف موجودة فيهما، ولكن الأولوية لا شك أنها في البناء الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت الخصيصة الخاصة بهذا وأنه روضة من رياض الجنة قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، وقد أشرنا إلى اختصاصه بالعبادة في الصلاة والاعتكاف، وذكرنا قصة الرجل الجهني الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني رجل كبير، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد ابتغاء ليلة القدر) فلم يقل له: صل حيثما كنت، ولم يقل له: ابق وصل مع قومك، ولكنه قال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) ففي هذا إجازة بأن يأتي الإنسان إلى هذا المسجد من أي مكان كان للاعتكاف كما يأتي للصلاة. وقد جاء اختصاصه أيضاً بالمجيء إليه لطلب العلم في حديث: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه، أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) ولا توجد هذه الخصوصية في أي مكان في العالم، ولذا سمعنا من كثير من مشايخنا ومن زملائنا، وجربناه في أنفسنا: أن الله سبحانه يفتح على طالب العلم في هذا المسجد بما لا يفتح عليه في غيره، وهذا من خصائص المسجد النبوي الشريف. وبقي في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قضية كبرى، ونزاع طويل كما يقول ابن كثير، لا ينبغي الدخول فيها إلا إذا كان هناك وقت يتسع لبيانها، ثم التعليق عليها وإيضاح الراجح فيها، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى الجزء الثامن من تتمة أضواء البيان، فهناك بحث مطول قريباً من خمسين صفحة في حكم شد الرحال إلى المدينة أو إلى المسجد النبوي للصلاة وللسلام على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحج

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [1] الحج والعمرة عبادتان عظيمتان، وموسمان عظيمان لتحصيل الأجور، وتكفير الذنوب، وقد سماهما النبي صلى الله عليه وسلم (جهاداً لا قتال فيه) وذلك لما فيهما من الصبر على المشقة والتعب، بل والتضحية بالمال والنفس، فحري بالمسلم أن يحرص على أدائهما، وتكرارهما، والمتابعة بينهما.

شرح حديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)

شرح حديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه] .

خلاف العلماء في المراد بالذنوب التي تكفر بالعمرة

خلاف العلماء في المراد بالذنوب التي تكفر بالعمرة بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) . موضوع هذا الحديث هو الترغيب في هذين النسكين العظيمين: (العمرة إلى العمرة) أي: الزيارة إلى البيت، من أي قطر من أقطار الدنيا، فأداء عمرتين يكفر ما بينهما من ذنوب، طال المدى أو قصر، ويأتي بحث للعلماء في نوعية المكفَّر أهي الكبائر، أم الصغائر، أم هما معاً؟ وقد جاءت أحاديث فيما يسمى بمكفرات الذنوب، جاء في القرآن الكريم: أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيئاتِكُم} [النساء:31] ، وجاء أيضاً: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام) ، وكذلك المشي إلى المساجد للصلوات الخمس، وكذلك يوم عرفة، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في مكفرات الذنوب. ويرى بعض العلماء أن هذا عام (العمرة إلى العمرة كفارة) لم يأت قيد لكبيرة ولا لصغيرة، ولم يأت قيد لحق الله أو لحق العبد، والعلماء مختلفون في هذه المسألة: فهناك من يقول: تكفر حق الله وتكفر حق العباد على الإطلاق. وهناك من يقول: تكفر حق الله فقط، أما حق العباد فمتوقف على الأداء. وهناك من يقول: تكفر الصغائر فقط ولا تكفر الكبائر. وأشد من تشدد في ذلك ابن عبد البر رحمه الله، والذين قالوا: تكفر حتى حقوق العباد، مع أن حق العباد لا يسقطه حتى الجهاد وحتى الشهادة في سبيل الله؛ لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تكفر الشهادة -فأخبره بأنها تكفر كل شيء-؟ ثم ولى، فدعاه مرة أخرى، وقال: إلا الدين، فإن الميت مرهون في قبره بدينه) وقالوا: إن حق العبد مبني على المشاحة، فهو يقف بين يدي الله ويطالب بحقه. فالذين قالوا: إنها تكفر كل شيء حتى حقوق العباد، قالوا: إن الله سبحانه قد وعد بذلك، فهو الذي يتولى إرضاء ذوي الحقوق عن حقوقهم، وقد جاءت نصوص وفيها: (إذا كان الناس في عرصات القيامة، ترفع غرف يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا ربنا! لمن هذه الغرف؟ فيقول -سبحانه-: لمن تنازل عن مظلمة له عند أخيه) ، فكل ذي مظلمة يتنازل لينال من تلك الغرف الرفيعة المنازل، كرفعة النجوم في الدنيا إلى غير ذلك. ومهما يكن من شيء فهذا نص عام، إلا أن المسلم العاقل لا ينبغي أن يتكل على ذلك كل الاتكال، فعليه أن يؤدي حقوق العباد، وأن لا يقصر في حقوق الله.

آداب بنبغي على من أراد الحج مراعاتها

آداب بنبغي على من أراد الحج مراعاتها وقد جاء عند الفقهاء جميعاً: بعض آداب الحج، قبل البدء فيه، فمن أراد أن يحج فليبدأ أولاً: بالتحلل من حقوق العباد، فإن كانت عنده أمانات فليردها إلى أهلها، وإن كانت عليه ديون فليسدد ديونه، وإن كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلل منه، حتى قالوا: عليه عند عزمه على السفر أن يزور صالحي أهل بلده، ويوادعهم، ويسألهم الدعاء له بالسلامة والقبول إلى غير ذلك، ونحن أمام هذا النص نقول: هذا فضل الله، وفضل الله عظيم.

العمرة ليس لها وقت محدد

العمرة ليس لها وقت محدد والمباحث الفقهية في هذا النص النبوي الكريم عديدة منها: إطلاق الإتيان بالعمرة: (العمرة إلى العمرة) لم تقيد بيوم، ولا بشهر، ولا بزمن محدد، بخلاف الحج فقد قال تعالى فيه: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] فقال الفقهاء رحمهم الله: كل وقت من السنة صالح لأداء العمرة، ولكنهم استثنوا الأيام الخاصة بالحج، وهي: يوم عرفة، وأيام التشريق، واختلفوا في أيام التشريق فيمن تعجل في يومين: هل له أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، أو أن هذا اليوم الثالث من خصائص الحج؟ فإن هناك من الناس من تأخر ولم يتعجل، فهي أيام ثلاثة لرمي الجمرات، فاختلفوا في اليوم الثالث فقط، وما عدا يوم عرفة وأيام التشريق فجميع أيام السنة صالحة لأداء العمرة.

حكم تكرار العمرة

حكم تكرار العمرة وكذلك من المباحث الفقهية في هذا الحديث الشريف: تكرار العمرة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة) دونما تقييد بزمن، فأخذ الجمهور وأتباع الأئمة الأربعة ما عدا المالكية: بأن العمرة يجوز تكرارها في الشهر وفي السنة. وبعضهم قال: لا تكرر في الشهر الواحد. وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام. وحجة أولئك: بأن من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت شعره ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة لمن أراد ذلك. ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر، وأتى مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين، وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة، مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور: بأن فعله صلى الله عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على عدم الجواز، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛ مخافة أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم. ومن هنا ترك العمرة في فتح مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة ثمان سنة فتح وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له، فما كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان إلا قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم كرر العمرة في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة آلاف من أهل مكة، انضموا إلى جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد، وتكرار العمرة سنة ونافلة، وليس بواجب. وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على عدم الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد أتى بالقول، وجعله عاماً ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة، ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار منه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت مع أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: لا عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة في حجة -فأدخلت العمرة على الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت: أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك، قالت: لا، أيرجع صاحباتي بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة مستقلة- فقال صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: اذهب بها فاعمرها من التنعيم) فذهب وأعمرها من التنعيم، وجاءت وقضت عمرتها ورحلوا، وقد كانوا على أهبة الرحيل، والوقت ليل، ولولا صحة العمرة أكثر من مرة -وقد أتت معهم بعمرة في تلك السنة مع حجها- لما قال له وهم على سفر: اذهب وأعمرها -أي: ويدركهم في موضع كذا- فلما أجاز لها، وأعمرها وأتت بعمرتين في السنة؛ علم الجميع بأن العمرة يجوز تكرارها. ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛ لأن بقاءهم عند البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في الذهاب والإياب إلى غير ذلك. إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت لأداء العمرة، خلافاً لما جاء عن مالك رحمه الله.

معنى الحج المبرور والأجر المترتب على الإتيان به

معنى الحج المبرور والأجر المترتب على الإتيان به والقسم الثاني من الحديث: (والحج المبرور) يرى بعض العلماء أن بر الحج إنما هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل. ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضاً؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (أن تعين الرجل على دابته، تحمله عليها وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة) وهكذا الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك، ثم تجده يرفث عند النساء. إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من إتمام واجباته، وسننه، ومندوباته، وأركانه. والبعض يقول الحج المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من أدى الحج بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام في هذه السفرة المباركة. وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك. إلخ، ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه في منهجه في أمانته في معاملاته في محافظته على العبادات في وفائه للحقوق أهو خير مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس، ويظهر ذلك في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله. ومهما يكن من شيء فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور على ما جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة: (إطعام الطعام وإفشاء السلام) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير في أداء الحج. قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) ، أعظِم بهذا الجزاء! يخرج في رحلة، أياماً وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم الله على إنسان بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو فضل من الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا سلطانه، إنما هي نعمة من الله. ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام البيت ورفع القواعد، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب! وأين يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج، حتى الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم الذر، قبل أن يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها. وهكذا عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك، و (لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك إنسان فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك، وممتثل لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك، إنما هي إجابة لذاك النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة السلام. إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم كم خلف في قومه ممن هو أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه.

شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه ... ) [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) رواه أحمد وابن ماجة واللفظ له، وإسناده صحيح وأصله في الصحيح] . يقول هنا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (يا رسول الله! أعلى النساء جهاد؟) قولها: (على النساء) خبر يراد به الإنشاء أو الاستفهام؟ (على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وجاء بصيغة أخرى وفيها: (يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟) تقول رضي الله تعالى عنها: نرى الجهاد -معشر النسوة- أعظم الأعمال وأفضل الأعمال، أفلا نشارك في هذا الفضل؟ (قال: نعم، ولكن جهادكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) .

أوجه الشبه بين الحج والجهاد

أوجه الشبه بين الحج والجهاد وهنا يتبين فضل الحج، وأنه يعدل في ثوابه ثواب الجهاد، والمجاهد في سبيل الله ينال إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وفيها حياة برزخية دائمة إلى يوم القيامة، ثم مأواه الجنة، وإما النصر والغنيمة. والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو جهاد للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل للمشاق، ولربما البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج على الحالة التي كان عليها من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته من وسائل الراحة قد يجدها أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في الحج من وعثاء السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان أو المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة، والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة. نجد في الحج جهاد النفس، فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف بها، وقد نجد في الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا إلى محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه، فتكون زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي حلال له بكتاب الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي حجه، ونجد الحاج يرى الصيد بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه من الحلال، ولكن لإحرامه يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه إلى غير ذلك. والجهاد كما قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ، وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس إلى غير ذلك من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج وأنه يعدل فضل الجهاد. وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) إذاً: الجهاد الذي لا قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على سبيل التشبيه؛ لأن الحديث السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) .

من فقه الفتوى مراعاة حال السائل

من فقه الفتوى مراعاة حال السائل وبهذه المناسبة فقد نجد أحاديث في تفاضل الأعمال، تختلف الفتوى فيها باختلاف الأحوال، كما سئل صلى الله عليه وسلم مرة: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) وسئل مرة أخرى: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ثم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) فنجد أن السؤال واحد، بينما الجواب مختلف، ومن هنا قال العلماء: ليس هناك تناقض، وليس هناك تعارض؛ لأن كل جواب ينزل منزلته بحسب حالته، والمسئول الحكيم يجب أن يراعي حالة السائل، فقد يسأل اثنان في حكم مسألة واحدة، فيبيحها لأحدهم، ويمنعها عن الآخر. كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء رجل وقال: أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا به شاب قد خشيت عليه، فمنعته منها) وهكذا. جاء في بعض الأخبار: أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى- جاءه رجل وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق وتقطع يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير، قال: نظرت إلى الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك، فأخذتها من قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] . إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه الأحاديث الثلاثة: بر الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في سبيل الله، لاختلاف أحوال السائل: فقوي البنية الذي يقوى على الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي لا يقوى على الجهاد أرشده إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده إلى برهما، وهكذا كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه. إذاً: النصوص التي جاءت في بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا مراد المؤلف رحمه الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.

حكم العمرة في الشرع

حكم العمرة في الشرع [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك) رواه أحمد والترمذي والراجح وقفه، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف، عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (الحج والعمرة فريضتان) . ] هذا ترتيب حسن من المؤلف رحمه الله، فبدأ كتاب الحج بحديثين موضوعهما بيان فضل الحج والعمرة، والترغيب فيهما، وكأنه يدعو الناس ويرغبهم في الحج والعمرة، ثم دخل في موضوع الأحكام. فقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة) لكن هل هي واجبة أم سنة؟ وقوله: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هل هو واجب أم ليس بواجب؟ مع أن الحج مفروغ من أمر وجوبه، فوجوبه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] (لله على) هذا آكد من قوله: (أوجبت) ؛ لأنه أصبح ديناً وحقاً لله على العباد، والفرض قد يسقط، والدين لا يسقط. وفي نهاية الآية الكريمة: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ثم قال: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] هذا وعيد شديد، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [آل عمران:97] أي: ومن لم يحج، فإن الله غني عنه، ولكن ما جاء المقابل من جنسه، فلم يقل: ومن لم يحج، بل جاء بديلاً عن من لم يحج (ومن كفر) ليبقى كما يقول أهل المنطق الماصدقي (ومن كفر) تصدق على من لم يحج، أو من لم يحج كفر. وقد جاء عن عمر أنه قال: (من استطاع الحج ولم يحج، فليمت إن شاء نصرانياً، أو يهودياً) وجاء عنه كذلك: (لقد هممت أن أبعث رجالاً للأعراب على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين! (. إذاً: بدأ المؤلف في بيان الأحكام، وبدأ بالعمرة؛ لأنها محل الخلاف، أما الحج فلا خلاف في وجوبه بالشرط المذكور: (من استطاع) .

تحقيق الخلاف في حكم العمرة

تحقيق الخلاف في حكم العمرة وهنا يروي جابر لنا حديثين: الأول: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة؟) أخبرني عن حكم العمرة أواجبة هي؟ هذا سؤال إنسان متثبت: أهي واجبة أم ليست بواجبة؟ ماذا كان الجواب؟ الجواب: لا، وكما يقولون: الجواب يتضمن إعادة السؤال، (لا) العمرة ليست واجبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على ذلك؛ حتى لا يظن إنسان أنها مستوية الطرفين: الفعل والترك، بل قال: (وأن تعتمر خير لك) كأنه قال: ليست واجبة، ولكن فعلها خير من تركها، وهذا الأسلوب يدل على عدم وجوبها، وأنها مرغب فيها ومندوب إليها. ومن هنا بدأ خلاف العلماء، فهناك من أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا، وقالوا: ليست بواجبة، أخذاً بهذا النص، ولكن هل سلم سند هذا الحديث؟ العلماء متفقون على أنه ضعيف. ثم يأتي المؤلف رحمه الله -من فقهه- بالأثر الثاني عن جابر. [ (وعن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً) ] . (مرفوعاً) يعني: مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجابر: صحابي، ولو كان القول من عنده لاعتبره العلماء موقوفاً على الصحابي، لكن إذا قال: (مرفوعاً) فإنه يرفعه درجة، وإذا رفع الصحابي الحديث درجة عن طبقة الصحابة فإنه يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وعن جابر أيضاً مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الحج والعمرة فريضتان) . (الحج والعمرة فريضتان) ولكن هل هذا أيضاً صحيح قوي أو ضعيف مثل الذي قبله؟ قال المؤلف: [وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف] . كلا الأثرين -عن جابر - ضعيف، فمن أخذ بالأول أخذ بسند ضعيف، ومن احتج بالثاني احتج بسند ضعيف، إذن: كما قال الشافعي: حديث في عدم فرضيتها خير من حديث في فرضيتها. ويرجع الاستدلال على وجوبها إلى مسائل أخرى: من ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (العمرة والحج مقترنان) ، واستدل بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ولكن الذين يقولون بعدم الفرضية قالوا: الأمر هنا: (إتمام) والإتمام يكون بعد البداية، لا ابتداءً، وبالإجماع: أن نافلة العمرة، ونافلة الحج، إذا شرع فيها الإنسان وجب عليه أن يتمها، مع أنها نافلة، ولو اعتمر عشر مرات، ثم شرع في عمرة جديدة فإنه وجب عليه بعد الشروع فيها أن يتمها، فقالوا: الإتمام يكون بعد الابتداء، أما الوجوب ابتداءً فليس فيه نص، والآخرون يقولون: هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وفتواهم جميعاً. والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ما عدا مالكاً يقولون: العمرة فرض كالحج. إذاً: ما هو الفرق بين حديث: (فرض على كل مسلم) ، وحديث: (لا. وأن تعتمر خير لك) يقول الأصوليون: إذا جاء نصان متعادلان في السند، أحدهما ينفي ويسقط الوجوب، والآخر يثبت وينشئ الوجوب، قالوا: المثبت مقدم على النافي، وقالوا: ما يخرج عن البراءة الأصلية مقدم على غيره؛ لأن الأصل عدم الوجوب، فلما جاء النص بالوجوب ولو كان ضعيفاً فإنه أقوى من النص الأول الذي مؤداه كالعدم؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وحديث: (لا) ، ما زاد عن الأصل بشيء، بخلاف الحديث الثاني الذي قال: (العمرة والحج فرض على كل أحد) . إذاً: الناقل من البراءة الأصلية إلى التكليف مقدم عما لا ينقل عن البراءة الأصلية؛ لأن فيه زيادة تكليف وزيادة علم، ولهذا قال الجمهور: إن العمرة واجبة كوجوب الحج. وهناك نصوص أخرى أصح سنداً، منها: (إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج أفأحج عن أبي؟ قال: نعم، حج عن أبيك واعتمر) فهو سأل عن الحج، فزاده (واعتمر) كأنه يجهل أمر العمرة، أو كأنه أغفلها، فذكّره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [2]

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [2] إن وجوب فريضة الحج ثابت في كتاب الله تعالى ثبوتاً قطعياً مؤكداً، ووجوبه ثابت أيضاً بالسنة والإجماع. وإن من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم أن علق وجوب الحج بالاستطاعة، وتكون: بالزاد والراحلة، وصحة البدن، وأمن الطريق، وتجوز الإنابة من الحي العاجز عن الحج ببدنه، إن كان مستطيعاً بماله. ويجب الحج على الفور ويستحب تكراره، ويصح من الصبي.

شرح حديث: (ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة)

شرح حديث: (ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف] .

صيغة وجوب الحج والتأكيدات الواردة في كتاب الله تعالى لها

صيغة وجوب الحج والتأكيدات الواردة في كتاب الله تعالى لها ساق المؤلف رحمه الله أولاً الأحاديث في الترغيب فيه، وبيان فضله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، (نرى الجهاد أفضل الأعمال يا رسول الله! أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه) ثم جاء بما يبين على من يجب. والأصل في الوجوب أو الإيجاب هو الكتاب الكريم ثم السنة النبوية المطهرة، وجاء في كتاب الله بيان الفرضية المؤكدة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يرى العلماء: أن هذه الصيغة للوجوب مؤكدة بعدة تأكيدات: اللام، في قوله: (ولله) وهي لام الملك والاستحقاق. (على) : وهي للاستعلاء والفرضية. (الناس) : عموم الناس، حتى قال البعض: لقد شملت غير المسلمين؛ لأنهم مطالبون بالإسلام وبفروع الإسلام، وهذا العموم والشمول يؤكد الوجوب والفرضية. (حج البيت) : تقدم تعريف الحج أنه: القصد إلى معظم، و (البيت) : هو البيت الحرام، وهو الكعبة، وهو البيت العتيق، وهو {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران:96] ، وهذا البيت جاء في بيان حرمته ومكانته ما لا يحتاج معه إلى مزيد بيان. (من استطاع) يقول العلماء: (من) هنا بدل البعض من الكل، فالكل: الناس، و (من استطاع) بعض الناس، وهذا بمثابة الاستثناء، وهذا يؤكد الفرضية أيضاً، وتعلق الفرضية بالاستطاعة بيان لهذه الملة الحنيفية في يسرها وسهولتها، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فنجد في جميع التكاليف والعبادات التيسير، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فأهم أركان الإسلام الصلاة أي: بعد الشهادتين، حتى في الشهادتين تيسير، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] . والصلاة مفتاحها الطهور، فمن عجز عن استعمال الماء رخص له في التيمم، ومن عجز عن القيام رخص له أن يصلي على حسب حالته جالساً أو متكئاً. والزكاة ما فرضت إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده حولاً كاملاً مستغنياً عنه. والصيام من كان مريضاًََ أو على سفر فاضطر إلى الفطر للمشقة: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] . والجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] . وهنا في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، وهنا يسأل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما السبيل؟ الذي شرطت الآية استطاعته في وجوب الحج (من استطاع إليه) ؟ فيفسره صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (الزاد والراحلة) هذا التفسير لو أن الحديث سلم من التضعيف لكان نصاً قاطعاً في تفسير كتاب الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يقفون من هذا النص المفسر بالمقارنة بينه وبين العمومات الأخرى في كتاب الله، ويقولون: إن قصر الاستطاعة على الزاد والراحلة أسقط شروطاً أخرى، ألا وهي: صحة البدن، وأمن الطريق.

المراد بالاستطاعة في الحج

المراد بالاستطاعة في الحج وهنا يبحث الفقهاء موضوع الاستطاعة من حيث هي: فيرى بعض العلماء: أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن والمال، والمال ماثل في الزاد وفي الراحلة، أي: وسيلة السفر والوصول، وقد تكون الاستطاعة بالبدن فقط ولا مال، وقد تكون الاستطاعة بالمال فقط ولا صحة للبدن. ومن هنا يقع الخلاف عند الأئمة رحمهم الله فيمن تجب عليه فريضة الحج؟ فالجمهور: على أن الاستطاعة بصحة البدن ووفرة المال، المال الذي يهيئ له الزاد، ووسيلة السفر، مع توفير الزاد لمن تلزمه نفقته حتى يرجع، فإن كان له عيال، أو تبعة مطلوبة منه، فإنه مع اشتراط وجود الزاد له في سفره حتى يرجع يجب أن يكون الزاد موجوداً أيضاً لمن يخلفه في بيته: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإذا وجد ما يكفيه وحده ولا يكفي أهله فليس بمستطيع، والسعي على أولاده في تلك الحالة أولى من السفر إلى الحج وتركهم في ضياع، إذن: الزاد له ولمن تلزمه النفقة حتى يرجع. والاستطاعة بالبدن ليست شرطاً عند بعض العلماء، فقالوا: إذا عجز عن الحج ببدنه -أي: عجز عن القدرة على السفر، وعنده مال، تعين عليه أن يخرج من ماله ويدفعه لمن يحج به عنه من بلده، فيدفع المال لشخص آخر من بلده؛ ليكون سفر البديل معادلاً لسفر الأصيل من مكان واحد، وسيأتي: أن هذا البديل يجب أن يكون قد حج عن نفسه أولاً؛ لتصح أعمال حجه عن غيره، وسيأتي ذلك في حديث شبرمة، حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يطوف بالبيت ويقول: (لبيك اللهم عن شبرمة، قال: من شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب لي -شك الراوي- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة) . وسيأتي مبحث الاستئجار للحج، وهل تجوز الأجرة للإتيان بالحج أو لا تجوز؟ وهل هي على البلاغ، أو هي على الإجارة؟ ومعنى البلاغ: أن يأخذ ممن سيحج عنه ما يبلغه الحج حتى العودة، فإن نقص شيء وفَّاه إليه، وإن زاد شيء رده إليه. أما إذا كانت من باب الإجارة: فعلى ما اتفقا عليه، إن نقص وفىّ لنفسه، وإن زاد أمسك الزائد، وسيأتي في ذلك زيادة بيان إن شاء الله. وهناك من يقول: الاستطاعة بالبدن فقط، ولو لم يوجد المال، وهذا عند الشافعية بشرط: أن يكون قادراً على المشي، وأن يكون ذا مهنة، أو صنعة، أو عمل يمكن أن يتكسب به مدة سفره حتى يرجع، وقيل لمن قال ذلك: هل أوجب الله على الناس المشي إلى مكة على أقدامهم؟ قال: أرأيت لو كان له ميراث في مكة أكان يتركه؟ قال: لا. بل يأتي إليه ولو حبواً، قال: كذلك الحج. وبعضهم يقول: الاستطاعة بالمشي لمن كان قريباً، وليست للآفاقي البعيد، مع أننا وجدنا رحلات وجماعات تخرج من الآفاق وتسافر الأيام والأسابيع والأشهر، حتى يصلون إلى مكة، ولكن في هذا من المشقة والضياع ما يمكن أن يقول الإنسان فيه: ليس هذا في منهج التشريع بصفة عامة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] . إذاً: لا ينبغي أن نحكم على الناس بأن على المستطيع للمشي من الآفاق -من القارات البعيدة والأقطار النائية- أن يمشي ليحج، وهناك من يقول: شرط الحج ماشياًً للصحيح المعافى المتكسب بمهنته أن يضمن غالباً أن يكون عمله في اليوم الواحد يكفي لمئونة اليومين، ولماذا؟ احتياطاً؛ لأن هذا الصحيح قد يمرض؛ ولأن تلك المهنة قد تتعطل في يوم من الأيام، وليس بلازم أن يجد عملاً لمهنته في كل يوم ما يكفيه، فإذا كان أجر عمله يكفيه لمئونة يومين، فلو قدر أنه مرض بعض الأيام فسيكون قد توفر عنده زاد بقية الأيام. وهنا لفتة فقهية للمذاهب الاقتصادية، بأن تقييم الأشياء -كلها- في العالم ليست العملة، التي ترتفع وتنزل في (البورصات) ، وفي الأسواق المالية، ولكن تقييم الأشياء -حقاً- إنما هو بكسب العامل في اليوم، أجرة هذا العامل غالية أو رخيصة، وهذه أمور نسبية، فقد تكون أجرة عامل في قطر درهماً، وقد تكون في قطر آخر عشرة دراهم، وهذا فرق كبير، ولكن نسأل: العامل الذي يعمل بدرهم في بلد، كم يكفيه هذا الدرهم؟ فلربما كان يكفيه لقوت يومه؛ لرخص الحاجات عنده، والذي يعمل بعشرة دراهم، أتكفيه لقوت يومه -في بلده- أو لقوت يومين؟ فربما لا تكفيه بسبب غلاء الأسعار، إذن: التسعير الحقيقي والتقويم الحقيقي، لقيم الأشياء، إنما هو كسب العامل اليومي، فإذا كانت له أسرة وعائلة فليكن ذلك أيضاً في الحسبان. ومن هنا كان مأخذ الشافعية بقولهم: الاستطاعة قد تكون بالمشي إن كانت له مهنة يتكسب منها، ويكسب بها في اليوم ما يكفي نفقة يومين. وزاد بعض المالكية: إن الفقير المعافى الذي يعيش في بلده على التكفف، أي: يمد يده ويبسط كفه للناس، ويعيش على السؤال، إن تيسر له في سفره أن يجد من يسأله، ويعيش كما يعيش في بلده؛ يعتبر مستطيعاًً، وعليه أن يصحب القافلة بالسؤال ليحج. وهذا القول فيه ما فيه. وقد قال العلماء: من لم يجد مالاً، ووجد إنساناً يدفع له المال من عنده هبة ليحج، قالوا: ليس بواجب عليه أن يقبل، خشية أن تكون فيه عليه منَّة. وهنا يمكن أن نأخذ سر التعبير في كتاب الله حيث قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، ولم يقل: من استطاع إليه وصولاً؛ لأن الوصول إليه قد يكون من عنده، أو قد يكون من عند غيره، أما السبيل: فلا يكون إلا من عنده هو، وعلى هذا فالجمهور على أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن وبالمال معاً. وقال الشافعي: من استطاع ببدنه ومات ولم يحج، فإن على الورثة إخراج جزء من ماله قبل قسمة التركة لمن يحج عنه من بلده؛ لأن الشافعي رحمه الله يرى تقديم الحقوق المتعلقة بالتركة ومنها حق الله؛ فلذلك قدمه على تقسيم التركة، وبالمناسبة: فإن الحقوق المتعلقة بالتركة منها ما هو دين للناس، ومنها ما هو دين لله، والدين للناس: دين موثق، ودين غير موثق، وكذلك حق الميت في التجهيز، وكذلك الوصايا، ثم بعد ذلك كله الميراث، فإذا كان مديناً، وكان قد أوصى، وعليه حق لله: في كفارة، أو نذر، أو حلف، وترك ما يكفي واحداً من ذلك فقط، فأيها يقدم؟ عند الحنابلة: تقدم مئونة تجهيزه؛ لأنه حقه هو، كما لو كان مفلساً وعليه دين للآخرين فإنه يباع ما يملك في دينه إلا ثيابه ونفقته، فحقه الخاص مقدم. الشافعي يقول: يقدم في ذلك كله حق الله، أما تجهيزه فعلى بيت مال المسلمين، واستدل على ذلك بما سيأتي في قصة المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أمها فقال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها، قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . قال الشافعي قوله: (دين الله أحق) هذا أفعل تفضيل. وغيره يقول-وهم المالكية-: ديون العباد مقدمة؛ لأن حق الله مبني على المسامحة، وحق العباد مبني على المشاحة، والشهيد يحبس في قبره في دينه إلى آخر ذلك، ولذا قال الشافعية: إن من مات وكان مستطيعاً للحج فلم يحج، أخرج من تركته ما يحج به عنه قبل أن تقسم التركة، أي: قبل حق الورثة والوصايا، وغير ذلك.

اختلاف الزاد والراحلة باختلاف الأشخاص والأزمان والبلدان

اختلاف الزاد والراحلة باختلاف الأشخاص والأزمان والبلدان وقد فصل الفقهاء في الزاد والراحلة: فتختلف الراحلة، ويختلف الزاد باختلاف الأشخاص، فهناك من يقوى على السفر على ظهر بعير بدون شيء، وهناك من لا يقوى ولا يستطيع أن يثبت حتى نأتي له بالهودج، أو نأتي له بالرحال، أو نأتي له بالفراش، فلا تكون استطاعة شخص هي استطاعة لشخص آخر، والآن هناك من يستطيع أن يركب على ظهر سيارة (لوري) ولو كانت محملة بالبضائع، وهناك من لا يستطيع أن يركب إلا (الأتوبيس) ، وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في سيارة صغيرة، وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في الطائرة أو في الباخرة، وهي درجات. إذاً: الراحلة تتنوع حسب تنوع الأشخاص، فإذا كان مستطيعاً للراحلة المناسبة مع حالته فقد توفرت، وكذلك الزاد، هناك من يجتزئ في سفره بالتمر والخبز، وهناك من لا يستطيع ذلك، بل يحتاج إلى أنواع الأغذية والأطعمة، فإذا توفر التمر فقط لا نقول: هذا زادك؛ لأنه لم يتعود على هذا. إذاً: الزاد والراحلة كل ذلك بحسب أحوال الأشخاص، فمن توفرت له الراحلة والزاد، وكان مستطيعاً للحج، تعين عليه أن يحج.

الأمر بالحج يقتضي الفورية من غير تكرار

الأمر بالحج يقتضي الفورية من غير تكرار بقي هنا الأمر في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، يبحث الأصوليون في صيغ الأمر هل تقتضي التكرار وهل تقتضي الفورية؟ أو لا تقتضي الفور وتكون على التراخي؟ نجد أن هذا الأمر لا يفيد التكرار؛ لأن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالحج فقالوا: (أفي كل عام يا رسول الله؟! يعني: يتكرر، فسكت عنهم، حتى سألوا ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج في العمر مرة) . ولهذا قالوا: إن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم في العمر مرة؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في العمر مرة واحدة خرج من عهدة هذا الأمر، ولكن وردت نصوص أخرى تطلب التكرار، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عندما صعد المنبر: (آمين! آمين! آمين! -وكان المنبر ثلاث درجات- فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، ولا ندري على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل، وقال: يا محمد! من أدرك شهر رمضان، وخرج ولم يغفر له، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما، ولم يغفر له -أي: ببرهما- باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده، ولم يصل عليك، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين) ، فتعين على كل مسلم إذا سمع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا التكرار بطلب جديد، وليس بالطلب الأول: (صلوا عليه وسلموا تسليماً) وقد جاء في النصوص بيان فضل ذلك: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) . إذاً: الأمر لا يقتضي التكرار. بقيت الفورية، هل الأمر يقتضي الفورية، أو يكون على التراخي؟ بحث الأصوليون في ذلك، فعند الجمهور -ما عدا الشافعية- الأمر على الفورية، وقال الشافعي: الأمر على التراخي؛ لأن وقت الحج: العمر كله، ومع ذلك يقول: من أخر الحج؛ لكونه على التراخي فمات، أخرج من تركته، وعلى هذا نقول: لماذا لا يُطلب منه الحج على الفور، فتبرأ ذمته ويخرج من هذه الإشكالات. ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث: الترجيح والتأكيد على أن الأمر للفورية: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وجاءت نصوص خاصة في الحث على الحج منها: (حجوا قبل أن لا تحجوا) ، وأيضاً: فلو أن سيداً قال لعبده: أعطني ماءً، فذهب العبد ومن الغد جاءه بالماء، فقال له السيد: لماذا؟ فقال: الأمر على التراخي، فماذا يكون موقف السيد من هذا العبد الذي لم يتمثل الأمر الذي كلف به؟ فقد كان على هذا العبد أن يذهب حالاً، ويأتي بالماء لسيده، فيكون قد أدى الواجب عليه، وامتثل الأمر. والشافعية يقولون: لقد فرض الحج سنة ست من الهجرة، وما حج صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة، ويقول الجمهور: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج؛ لأن مكة تحت أيدي الكفار، وما فتحت إلا في السنة الثامنة، قيل: ولماذا لم يحج في السنة الثامنة؟ قالوا: لم تكن هناك فرصة للحج؛ لأن فتح مكة كان في رمضان، ثم ذهب إلى هوازن، ورجع إلى المدينة، ولم يتأتى له الحج، ولما قيل: وفي سنة تسع لماذا لم يحج؟ قال الجمهور: لموانع منعته من تنفيذ الأمر، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يحج بالناس، ثم أردفه بـ علي رضي الله تعالى عنه ليقرأ على الحجيج سورة براءة، ويعلن للناس: أنه لا عهد لمشرك بعد اليوم، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. إذاً: كان للمشركين عهد، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساء، وهل يتأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر هذا المشهد؟ لا والله، هكذا يعلل العلماء، ولكن التحقيق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في تلك السنة؛ لما أعلنه صلى الله عليه وسلم بقوله -في السنة التي حج فيها-: (إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ومعنى ذلك: أن العرب كانت عندهم أيام النسيء، يقدمون ويؤخرون في الأشهر، فكانوا ينسئون المحرم إلى صفر، ويقدمون صفر إلى المحرم؛ لأنهم كانت تطول عليهم الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ لتواليها، وكانوا يغير بعضهم على بعض، فيؤخرون المحرم بحرمته، ويقدمون صفر مكانه؛ ليغير بعضهم على بعض، ولهذا حصل تخلخل في مواعيد الحج، فما كان الحج يصادف ذا الحجة الذي هو وقت الحج، وما كان الوقوف بعرفات يقع يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة، وقيل: إن حجة أبي بكر ما كانت في الزمن المحدد يقيناً، ولما استدار الزمن وجاء يوم عرفة مطابقاً لأمر الله وهو اليوم التاسع من ذي الحجة كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعت في الزمان والمكان المأمور به. يهمنا أن الشافعية قالوا: الحج على التراخي، (من استطاع إليه سبيلاً) والجمهور قالوا: الحج على الفور، فعلى من استطاع الحج أن يحج ولا يؤخر. وجاءت نصوص قد أشرنا إليها من قبل منها: (من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) وعمر يقول: (لقد هممت أن أبعث للأعراب رجالاً على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين!) . إذاً: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] على الفور لا على التراخي، ومرة دون تكرار، ولكن التكرار نافلة، كما سيأتي عنه صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: الاستطاعة المشروطة في الحج فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، وقد كان أناس من اليمن يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، فأمرهم الله بقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ} [البقرة:197] تزودوا لسفركم، وتزودوا من حجكم لميعادكم، فلابد من زاد الدنيا للبدن، ومن زاد الآخرة بالعمل، ولا ينبغي لإنسان أن يقول: أنا متوكل على الله، ولم يأخذ بالأسباب التي أمر الله بها، كالزاد هنا، وإلا فإنه متواكل على الناس وليس متوكلاً على الله.

المستطيع بماله دون بدنه له أن ينيب من يحج عنه

المستطيع بماله دون بدنه له أن ينيب من يحج عنه بقي في ما إذا كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه وهو على قيد الحياة، فالجمهور: يجيزون له أو لوليه أن ينيب عنه من يحج عنه، كما سيأتي في سؤال المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبوت على الراحلة) ، وسؤال شخص آخر: (لا يقوى على الثبوت على الراحلة، أخاف إن وثقته عليها أن يموت، أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك) وخالف في ذلك المالكية، ومنعوا الإنابة في حج الفريضة عن الحي، وهذه الأحاديث حجة عليهم، وسيأتي للمؤلف رحمه الله زيادة نصوص في كل هذه المسائل وبالله تعالى التوفيق.

حديث ابن عباس في اعتبار حج الصبي

حديث ابن عباس في اعتبار حج الصبي [وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) رواه مسلم] . يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذه الحادثة، وكما أشرنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتملت على جميع أصول الحياة، فهؤلاء رفقة يسيرون في الطريق فأدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء، وهي: منطقة ما بين المدينة وبدر، وهو بئر معروف في الطريق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (سَيهلُ عيسى ابن مريم بالروحاء بحج أو بعمرة أو بهما معاً) فالروحاء معروفة لأهل المدينة.

مشروعية التعارف بين الناس في السفر

مشروعية التعارف بين الناس في السفر عندما بقي النبي صلى الله عليه وسلم الركب قال: (من القوم؟) الذي بدأ بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من واجب ولي الأمر، أنه إذا لقي قوماً أن يتعرف عليهم: من أي الجماعات هم؟ وأين وجهتهم؟ مع أنه من المعلوم أنهم ذاهبون للحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحج، وقبل مجيء أشهر الحج بعث رجالاًَ إلى القبائل في الجزيرة أني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني، وكل وافاه بحسبه، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من وافاه بالطريق، ومنهم من وافاه بمكة، كل على حسب موقعه. فهؤلاء قوم وافاهم في الطريق، فسألهم (من القوم؟) ، لكنهم لم يجيبوا مباشرة، وإنما تعرفوا أولاً على السائل مَنْ هو، وهذا من دهاء العرب ويقظتهم، وفي هذا احتياط لهم، وما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أقرهم على ذلك، مع أنهم لم يجيبوه، وإنما سألوه هو: ومن أنت؟ فأجابهم: أنا رسول الله. إذاً: هم عرفوه، وقد يكون حصل بينهم وبينه جوار بعد ذلك، وليس هذا ما يهمنا في هذا المقام، فيكفي أن الفريقين تعارفا بالإسلام، وأنهم جميعاً مسلمون والحمد لله، يعني: ما هم أعداء.

مشروعية استغلال مواطن الاستفادة والتعليم

مشروعية استغلال مواطن الاستفادة والتعليم فلما عرفت المرأة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهزت الفرصة لتستفيد، فرفعت طفلاً بيدها، وقيل: بضبعه، أي: رفعته من تحت إبطه، إذن: هذا الطفل غلام كبير أم طفل رضيع؟ رضيع، وفي بعض الروايات (في محفته) المحفة: عبارة عن قطعة قماش مستطيلة وفي طرفيها أعواد، ينام الطفل فيها ويربط بالأعواد، وتحمله على ظهرها، وهذا أحسن من هذه العربيات التي يوضع فيها الأطفال اليوم، يوشك أن ينكسر ظهر الطفل من طول قعوده في العربية، أما هذه المحفة فينام الطفل فيها مستريحاً وفي قماش لين، وهي من عادات العرب. (ألهذا حج) أي: انظر إليه فهو أمامك، ويلاحظ أن ابن عبد البر رحمه الله يقول: كيف يصح لهؤلاء أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ ولكن لعل اللقاء كان في الليل. ولكن إذا كان اللقاء في الليل فكيف تقول المرأة: ألهذا حج؟ وكيف يراه صلى الله عليه وسلم؟ ولا أدري هل أجاب ابن عبد البر على هذه الناحية أم لا، وسواء أكان اللقاء في الليل أو في النهار، فهل كل مسلم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه؟ لا. إذاً: لا مانع أن يكون اللقاء نهاراً ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألم نجد في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، ونزل في ظل نخلة، هو وأبو بكر وجاء الأنصار أو بعضهم، ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرقوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر؛ لأنهم لم يروه قبل ذلك، حتى اشتد النهار وقام أبو بكر يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك عرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صاحبه؟! إذاً: لا حاجة أن نفترض أن اللقاء كان ليلاً، يهمنا من الحدث: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) . وكما يقال: الجواب يتضمن السؤال، وعليه فالمعنى: نعم لهذا حج، ولك أجر، يقول العلماء: (لك أجر) أي: في معانات حجه، ولكن القضية عامة، وكما جاء: (من فطر صائماً كان له كأجره لا ينقص من أجره شيئاً) فهذا فعل الخير وكما جاء في الحديث: (الدال على الخير كفاعله) فهذا فضل الله.

سن الإدراك ليس شرطا للحج بالصبي

سن الإدراك ليس شرطاً للحج بالصبي وهنا يبحث الفقهاء: من هو الصبي الذي له حج؟ قال بعضهم: هو الذي له إدراك، وهو: الذي خوطب بالصلاة، أي: أمر وليه أن يأمره، (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) قالوا: لأن أول سن الإدراك عند الطفل سبع سنوات، ولهذا فالنظم التعليمية الحديثة لا تقبل الطفل في الدراسة قبل سن سبع سنوات؛ لأنه إن قُبل قبل هذه السن فستسبب الدراسة الكد والإكلال لذهنه؛ فيعجز عن التحصيل، والطفل في هذا السن إنما يقبل التلقي عن طريق اللعب والأمور العملية، أما الأمور الذهنية فصعبة عليه. والذي يظهر أن هذه المرأة لم ترفع طفلاً عمره سبع سنوات على يدها، فإن هذا بعيد، وإنما رفعت طفلاً في محفته، وهذا يدل على أنه طفل صغير. ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليبين أن الحج فرض على المستطيع، وأنه يصح للصغير، لكن هل يصح منه استقلالاً، أم أنه يصح منه بواسطة وليه؟ وكيف يحج الولي بالصبي؟ قالوا: يفعل له ما يفعل لنفسه: يجرده عن المخيط، ويلفه في لفائف، ويجنبه النجاسة، ويلبي له عند الميقات بقوله: لبيك اللهم عن نفسي كذا لبيك اللهم عن طفلي كذا وإذا أحرم له بالعمرة متمتعاً وحج به عليه دم له. ومن الذي يملك أن يحج بالصبي؟ قالوا: أبوه أو وصيه، وهل يشمل هذا كل وصي؟ وهل المرأة تملك أن تحج عن الصبي؟ وهناك نفقة، فمن الذي يؤدي تلك النفقة؟ قالوا: أبوه، أو وصي أبيه، أو الأم إذا كانت لها وصاية عليه، تنفق من ماله، فإذا لم يكن الشخص وصياً لا يحق له أن ينفق من مال الصبي في حجه؛ لأن هذا الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام، فيكون ضياعاً لمال الصبي؛ لأنه سيأتينا: (أيما صبي حج قبل البلوغ، فعليه أن يحج حجة الإسلام إن استطاع) وكذلك المملوك: (أيما عبد حج وهو مملوك فأعتق فعليه حجة الإسلام إن استطاع) . إذاً: لا يحج بالصبي إلا أبوه؛ لأنه ولي أمره وماله، أو وصي الأب، أو الأم إن كانت لها وصاية؛ وذلك من أجل التصرف في مال الصبي، أما إذا كان متبرعاً من عنده فيحج بالصبي وينفق عليه معه، فجزاه الله خيراً، ولا إشكال في ذلك، والله تعالى أعلم.

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [3]

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [3] إن للحج أهمية عظيمة، وقد رتب الله على أدائه الأجر الجزيل، ولما كان الإنسان لا يخلو من موانع تمنعه وتحول بينه وبين هذه العبادة العظيمة، كالعجز والموت، فقد كان من تيسير الله على عباده أن أجاز حج الولد عن والده، كما أجاز الحج عن الغير بشرط أن يكون الشخص قد حج عن نفسه. ويصح الحج من الصبي والمملوك، إلا أن حجهما لا يسقط عنهما حجة الإسلام بعد البلوغ والعتق.

شرح حديث ابن عباس في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير

شرح حديث ابن عباس في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الفضل بن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع) متفق عليه واللفظ للبخاري] . بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى حكم حج الصبي انتقل إلى بيان حكم الحج عن الغير، فجاء بهذا الحديث وهو المعروف عند العلماء بحديث الخثعمية. أورد المؤلف رحمه الله تعالى حديث ابن عباس وفيه: أن الفضل بن عباس، أي: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم. والرديف: هو الذي يركب خلف صاحب الدابة. (فجاءت امرأة من خثعم) هنا تأتي عدة روايات يسوقها ابن حجر رحمه الله في الجزء الرابع من فتح الباري: تارةً (جاء رجل فسأل عن أمه) ، وأخرى: (جاء رجل فسأل عن أبيه) وأخرى: (جاءت امرأة فسألت عن أمها) وكل ذلك وارد بأسانيد صحاح، فقيل: بتعدد السؤال، وتعدد الجواب. وفي بعض الروايات لهذه القصة: أن هذه الخثعمية معها أبوها، وجاء في بعض روايات الفضل: أن أباها أتى بها يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يتزوجها، أو أمرها بالسؤال ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثها، وقد جاء في وصفها أنها حسناء.

نظر الفضل بن العباس إلى الخثعمية وكلام العلماء في ذلك

نظر الفضل بن العباس إلى الخثعمية وكلام العلماء في ذلك وكما جاء في الحديث هنا: كانت تنظر إلى الفضل، وكان الفضل ينظر إليها، فكان صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عنها إلى الجهة الأخرى، وتكرر ذلك حتى قال العباس رضي الله تعالى عنه -وكان حاضراً-: يا ابن أخي! قد أتعبت أو أوجعت عنق ابن أخيك. أي: في تكرار صرف وجهه إلى الجهة الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت شابة وشاباً فخشيت أن يدخل الشيطان بينهما) . وهنا للعلماء مباحث: كيف كان الفضل ينظر إليها، وقد فرض الحجاب من قبل؟ يقول بعض العلماء: إن المرأة في الحج تسفر عن وجهها؛ لأنها نهيت عن لباس البرقع والنقاب، ولكن جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا إذا لقينا الركبان أسدلنا على وجوهنا، وإذا فارقونا كشفنا عن وجوهنا) . ومن هنا تكلموا في تغطية المرأة لوجهها أثناء الإحرام، والذين قالوا: إن المرأة تكشف وجهها دائماً في إحرامها، أخذوا ذلك من هذا الحديث: أن الفضل ينظر إليها، وهي حسناء، وقالوا: لا يتأتى ذلك إلا إذا كانت مسفرة عن وجهها، ولكن فاتهم ما يوجد في الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت فتاة وشاباً) ، فإن الفتاة ولو كانت مخمرة وجهها، فإنها لقرب الحجاب من عينيها ترى الطريق، وترى من تلقاه من الرجال، فكما يخشى على الشاب من الفتاه، كذلك يخشى على الفتاة من الشاب. إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لا يدل قطعاً على أنها كانت مسفرة عن وجهها، بل يدل قطعاً بأنها لشبابها ولشباب الفضل يمكن أن تفتتن به، ويتفق العلماء: على أن بني هاشم بصفة عامة كانوا من أجمل الناس، رجالاً ونساء، وجاء في هذه القصة -بالذات- أن الفضل كان وسيماً. إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل لا يقتضي أن تكون الفتاة مسفرةً وجهها، ولا دليل فيه لمن يقول ذلك. وقد قدمنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم تأتي على كل شيء في الإسلام، فهذه الحادثة وقف عندها العلماء وبحثوا سفور المرأة في الحج وعدم سفورها. ثم ذكروا أن من الشفقة ومن الرأفة بالإنسان أن تردفه على دابتك إذا كانت تحتمل اثنين، أما إذا كانت لا تحتمل فلا يجوز، وهذا من باب الرفق بالحيوان. وقد جاء في شأن الرفق بالحيوان ما هو أبعد من ذلك، جاء: أن امرأة دخلت النار في هرة، وجاء: أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب سقته، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن له وقال: (بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) ، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.

الحج عن العاجز

الحج عن العاجز وفي هذا الحديث: أن المرأة سألت، وفي رواية: جاء أبوها يعرضها، أو يعرض بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأب موجود، فكيف تسأل عن عجزه عن الحج؟ قالوا: لعل المراد: الأب الأعلى، وهو: جدها، وقالوا: لعلها قضية أخرى، يهمنا صيغة السؤال وصيغة الجواب، قالت هذه المرأة: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة) . فقولها: (لا يثبت) . أي: لا يثبت بنفسه على الراحلة، وجاء في بعض الروايات: (أن امرأة سألت، وقالت: إني أخشى إن أنا شددته على الراحلة بالحبل أن أقتله) وجاء -أيضاً مرةً أخرى- (أن رجلاً سأل عن أبيه وقد عجز، ولا يستطيع أن يربطه ويثبته على الراحلة) . وهذه الصور بمجموعها تعطينا أن هذا العاجز قد بلغ به عجزه إلى حد لا يستطيع أن يثبت بنفسه على الراحلة. وهنا ينظر العلماء في هذا العجز ما سببه؟ إن كان للشيخوخة فهو لا يرجى عوده إلى الشباب والصبا، فهو ميئوس من ذهاب هذه العلة عنه، أما إذا كان مريضاً مرضاً عارضاً ويظن أو يرجى له البرء فإن حكمه يختلف، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز الحج عن الغير في حال الحياة إلا إذا كان عاجزاً بهذه الصفة، أو بسبب لا يرجى برؤه ولا زواله، فحينئذٍ يجوز أن يحج عنه، والكلام في حجة الفرض لا في النوافل؛ لأنهم متفقون على أن الحج نافلة عن الغير يصح، ولو كان الغير سليماً معافى، اللهم إلا قولاً للمالكية يخالف في ذلك. إذاً: هذا المبحث ونظيره إنما هو في حجة الفرض لا في حجة النفل. فقالت: (أفأحج عنه؟) (قال: نعم) يعني: نعم حجي عنه، وهنا قد يأتي البعض ويقول: هذا مجرد جواز الحج عنه، ولكن هل يسقط به الفرض أم لا؟ لا حاجة إلى هذا التساؤل؛ لأنه كما يقال: الجواب يتضمن السؤال، فهي سألت عن أبيها، وقد أدركته فريضة الحج على العباد، فهل قوله: حجي عنه، يكون حج فريضة أم حج نافلة؟ لا شك أنه حج فريضة، وسيأتي ما يبين ذلك أكثر، وأن هذا واجب عليها، وكما سيأتي في قصة المرأة التي سألت عن أمها التي نذرت حجاً وماتت ولم تحج، فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين؟ -إلى أن قال- دين الله أحق) . إذاً: ما دام قد تعلق بذمته وجوب الحج، فسألت: هل تحج عنه أم لا؟ وأجابها: بنعم، فيكون ذلك حج الفريضة.

صحة الحج عن الغير

صحة الحج عن الغير وفي هذا الحديث -كما يقول الإمام ابن حجر وغيره- من المسائل الفقهية: صحة حج الغير عن غيره، وهذه كما قالوا: مغايرة للأصول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وأنهم مجمعون على أنه لا يصلي إنسان عن إنسان، ولا يصوم إنسان عن إنسان وهو على قيد الحياة، وقال الآخرون: هذه قضية فيها نص، فلا حاجة إلى قياسها على غيرها. وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص بعينه. وعبادة مالية ليست مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال، فالعبادة البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر شخصي يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن صلى عنه؟! وكذلك الصوم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: بالصوم، فإذا صام إنسان عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني اكتساب التقوى. أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء النذور، فإنها تتعلق بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك، ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما سيأتي في الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟) أي: هل يسقط عنها الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم، لتعرف حكم ما لم تعلم. فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع الأداء وأخذ إلى السجن، فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة، فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة. وقالوا: إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في الزاد، والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا يحج أحد عن أحد في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان عن أي إنسان في الحياة، وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه ولا نيابة، فغلبوا جانب العبادة البدنية. ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل، وكذلك رجل يحج عن امرأة، ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية. من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به الكبر إلى هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من عهدة الواجب عليه، وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه. إذاً: الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال والحرام، والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من الإحسان، والبر، ونحو ذلك. كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه الإنسان سداً للذرائع، كما هو الأصل في مذهب مالك؛ لأن صرف وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة بينهما، وهذا على قدر سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم تكن له سلطة باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة، وهي القلب، وذلك أضعف الإيمان. إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو: العجز عن السفر إلى الحج لعذر لا يرجى زواله ولا برؤه.

حكم من أناب في الحج لعجزه ثم قوي بعد ذلك

حكم من أناب في الحج لعجزه ثم قوي بعد ذلك بقيت مسألة واحدة وهي: إذا كان الإنسان لا يستطيع الحج لكبر سنه، وأناب في الحج عنه، ولكن مع الزمن قوي بدنه، وتيسرت له الوسائل التي بها يستطيع أن يحج، فهل نطالبه بحجة الإسلام؛ لأن الأولى كانت لعلة وقد زالت، أو يكتفى منه بما مضى في وقته بوجه شرعي؟ اختلف الأئمة في ذلك، فـ مالك لا يرى أن يحج عنه أصلاً مادام حياً، وعلى هذا فيلزمه الحج، وأحمد يقول: لا يطالب بالحج؛ لأنه أُدِّيَ عنه بوجه مشروع، وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يقولان: عليه أن يحج حجة أخرى، على ما سيأتي في حق الصبي والمملوك. والله تعالى أعلم.

شرح حديث ابن عباس في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج

شرح حديث ابن عباس في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري] . الحديث الأول: امرأة من خثعم، والحديث الثاني: امرأة من جهينة، وكونها من خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من الأجناس لا علاقة له بالحكم، ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد أن المرأة معروفة بعينها وقبيلتها، وهذا مما يعطي السند قوة، والخبر أصالة.

أحكام النذر وأقسامه

أحكام النذر وأقسامه والمؤلف رحمه الله بعدما ذكر الحديث الدال على الحج عن العاجز الحي لعذر المرض ذكر الحديث الدال على الحج عن الميت، فهذه المرأة الأخرى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إن أمي كانت قد نذرت أن تحج) إذا كان هذا النذر لحج الفريضة، فيكون واجباً بأمرين: بالإيجاب الأول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] وبالإيجاب الثاني: وهو النذر، وإذا كان نذراً لحج النافلة، وكانت قد حجت الفريضة، ثم نذرت حجة أخرى نافلة، والنافلة بالنذر تصبح واجبة إيجاباً جديداً، ومهما يكن من شيء فأمها نذرت. والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام، فأراد أن يلزم نفسه بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا، ويوم كذا لله، فهذا يسمى: نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في الامتحانات. أما النذر المطلق فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم يلزمه به الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك النذر، وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر، وهذا هو الأفضل، أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) النذر لن يأتي لك بالنجاح وإنما يكون النجاح بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت وتصدقت، هل الحج أو النذر هو الذي سيشفي المريض؟ لا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] . هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا اعتمر؛ لأنه بخيل. إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل) ، يعني: لا يأتي به لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى. فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت البنت تريد أن تفك أمها مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في عافية، ولكن لما نذرت صارت مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، ولقد كان عصر الصحابة أحسن العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم، (خير القرون قرني) إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم أمر بادروا بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي) . ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لها ليزول هذا الإشكال، وهذا رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت) يعني: أخبريني بما تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي مطالبة بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها، قال: دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه، ويرفع عنه المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق، والنذر دين لله، ودين الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن الميت. والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من نذر بالحج أنحج عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه، بخلاف ما أوجبه الله على العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه، فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون هو الذي ورط نفسه، فيكون الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي حمّل نفسه وألزمها. ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان عليه بأصل الوجوب: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران:97] أو كان عليه بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه، أو ينفعه حج الغير عنه. إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج عن الميت، بسبب موته، واستقرار الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا أن الحي مشروط فيه أن يكون عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة الفريضة.

نيابة الأجنبي في الحج

نيابة الأجنبي في الحج وهنا يبحث العلماء في نيابة الأجنبي؛ لأن الوارد في السؤالين نيابة البنت أو الابن، وإذا كان النائب أجنبياً فهل يجزئ أم لا؟ يقول البعض: القياس لا يجزئ؛ لأن ولد الرجل من عمل أبيه، إذ الولد بضعة من أبيه ويقول صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالحٌ يدعو له) لأن عمل الولد تابع للوالد، فإذا كان أجنبياً عنه فلا توجد بينهما رابطة ولكن سيأتينا حديث شبرمة وفيه: (أخٌ لي، أو صاحب لي) أي: ليس بأبي ولا بأمي، فيدل هذا على صحة حج الإنسان عن غيره، والأولى أن يكون النائب من ولده، وإذا لم يكن من ولده ولا من أقربائه صح ذلك، على ما سيأتي الشرط فيه.

شرح حديث ابن عباس في حكم حج الصبي والمملوك

شرح حديث ابن عباس في حكم حج الصبي والمملوك قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق، فعليه أن يحج حجةً أخرى) روا ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف] . هذا الخبر جاء موقوفاً على صحابي، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حكمه حكم الرفع؛ لأن حج الصبي، وإجزاؤه وعدم إجزائه تشريع، ولا يتأتى لإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشرع ويصدر مثل هذا الحكم، إذن: سواء ثبت في الصناعة الحديثية رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه موقوف على الصحابي، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً لا يملكون أن يقولوا مثل ذلك، والعلماء يقولون: الموقوف على الصحابي إذا لم يكن للرأي فيه مجال فهو مرفوع حكماً؛ لأنه لا يتكلم فيه بالرأي ولا بالعقل، ولكنه يكون قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اعتبار الأهلية في التكليف

اعتبار الأهلية في التكليف وموضوع هذا الحديث مرتبط بالحديث الذي تقدم في قصة المرأة التي رفعت صبياً بالروحاء وسألت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) . فهذا الصبي قد حجت أمه عنه في صغره قبل أن يُكلف، فإذا بلغ هذا الصبي سن التكليف، فهل يُكلف بالحج أم أن حجه الأول يسقط عنه فريضة الحج؟ فهذا الحديث جواب على هذه المسألة. (أيما) أي: من صيغ العموم، و (ما) كذلك وهما معاً كلمة واحدة (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى) الصبي هذا كم عمره؟ تقدم أنه رفع في المحف، وكانوا يحجون بالصبيان دون البلوغ، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال عن نفسه: (كنت مع الضعفة ليلة المزدلفة وكنت غلاماً) ، وجاء عنه أيضاً أنه قال: (جئت على أتان وقد ناهزت الاحتلام -يعني: قاربت أن أحتلم ولم أحتلم بعد- والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بمنى، فمررت بالأتان بين الصفوف، حتى وجدت مكاناً، فنزلت عنها وتركتها) أي: وقمت في الصلاة، فهذا غلام ناهز الاحتلام وكان حاجاً معهم. إذاً: سواءً كان غلاماً أو صبياً رضيعاً، أو فطيماً، أو ابن سبع سنوات، أو تسع، ما دام أنه حج دون البلوغ، فعليه أن يؤدي حجة الإسلام بعد البلوغ.

حكم من بلغ أثناء أدائه للمناسك

حكم من بلغ أثناء أدائه للمناسك وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء، ومما يجب على طالب العلم أن لا يقف عند نصوص الحديث، بل لابد أن يرجع إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن للفقهاء تفريعات واستنتاجات نحن لم نتوصل إليها. فيقولون: لو أن إنساناً أخذ صبياً ليحج به، ولما جاء إلى مكة وهو محرم بالحج بلغ واحتلم، يقولون: متى كان احتلامه؟ هل كان قبل الوقوف بعرفة أم بعده؟ إن صح احتلامه قبل الوقوف بعرفة، أو وهو في أرض عرفات، قبل أن ينصرف منها، أجزأت عنه حجة الإسلام؛ لأنه أداها وهو بالغ، وإن كان احتلامه بعد أن نزل من عرفات، فهو قد حج دون البلوغ؛ لأن الحج عرفة، وما يأتي بعد عرفة فهو من مكملات الحج فعليه حجةٌ مرةً أخرى، (فأيما صبي حج، ثم بلغ) أي: بلغ سن التكليف، واستطاع الحج؛ لأنه في حال صغره قد يحججه وليه، فلما بلغ أصبح كعامة الناس: (من استطاع إليه سبيلا) يعني: أن الحجة الأولى، التي أوقعها له وليه قبل البلوغ لا تجزئ عن حجة الإسلام.

حكم حج قاصر الأهلية

حكم حج قاصر الأهلية ثم يأتي بعد ذلك قاصر الأهلية وهو: المملوك، ومعنى قاصر الأهلية: أنه لا يتصرف بأهلية كاملة في نفسه وفي ماله، والصغير قاصر الأهلية، يحجر عليه في ماله، ولا يعطى المال في يده، وإنما يعطى بقدر ما يمتحن به؛ حتى يجرب: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا} [النساء:6] أي: بعد بلوغ سن الرشد، أو بعد البلوغ مع الرشد في التصرف، وهل المراد الرشد في الدين أو الرشد في الدنيا؟ هذا بحث آخر. وفي حق المملوك: (أيما مملوك) أيما عبد أيما جارية -فالمملوك يصدق على العبد والجارية، وعلى الذكر والأنثى- كان قد حج مع مواليه وهو مملوك، ثم بعد ذلك أعتق أو كاتب على نفسه وصار حراً، كذلك إن استطاع سبيلاً للحج فعليه أن يحج حجة أخرى، وبهذا يستدل على أن العبد المملوك قاصر الأهلية لأنه في حكم سيده، وهناك تفريعات عديدة على هذا، في من سقطت عنه الجمعة، وسقطت عنه الزكاة في ماله، إلا بإذن سيده، إلى أشياء أخرى والله تعالى أعلم. وأيضاً يضاف إلى هذين الاثنين -كما تقدم- من المريض الذي لا يستطيع الحج، فحج عنه غيره، ثم تعافى، فيكون أيضاً مضافاً إلى الصغير وإلى المملوك، وكذلك من حج عنه لعجزه عن الركوب، ثم استطاع أن يركب بعد ذلك.

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [4]

كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [4] إن المرأة مأمورة بالحج كالرجل، إلا أن الإسلام راعى ضعف المرأة، وحاجتها إلى غيرها، فأوجب عليها إن أرادت أن تسافر إلى الحج أن يكون معها محرم، فإن لم تجد فلا يجب عليها الحج، والمحرم هو كل من حُرّمت عليه المرأة تحريماً مؤبداً. ويجوز الحج عن الغير فرضاً كان أو نفلاً، بشرط أن يكون قد حج عن نفسه أولاً، والوصية بالحج تنفذ من ثلث مال الموصي، ويستحب تكرار الحج كل عام ويكره تأخيره -لمن كان مستطيعاً- أكثر من خمس سنوات.

اشتراط وجود المحرم مع المرأة عند خروجها للحج

اشتراط وجود المحرم مع المرأة عند خروجها للحج الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلُونّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . هذا الحديث يتناول قضية كبرى من كبريات قضايا المجتمع، ألا وهي: قضية سفر المرأة، ومفهوم سفر المرأة يقتصر على ما يسمى سفراً في العرف، بخلاف ما كان دون ذلك، كما لو خرجت المرأة من المدينة إلى قباء، فلا يقال: إن هذا سفر، أو خرجت من بيتها من ضاحية المدينة إلى المسجد النبوي فلا يقال: ذلك سفر، وإنما السفر كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (كل ما احتاج الإنسان معه إلى زاد وراحلة) هذا بالجملة، ولكن جاءت نصوص: (يوم وليلة) ، (يومين) ، (ثلاثة أيام) ، إلى غير ذلك. وصدر الحديث (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) قضية عامة: لا يخلون رجل بامرأة، حضراً أو سفراً، والخلوة: أن يكون الاثنان معاً فقط، سواءً كان في السيارة، أو كان في الخيمة، أو كان في البيت، أو. إلخ، إذا خلا المكان من غيرهما فهذا ممنوع؛ لأنه قد جاء في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة، إلا كان الشيطان ثالثهما، أو معهما) وإذا كان الشيطان معهما فسيجرهما إلى الشر، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ثم جمع مع النهي عن الخلوة ما يتعلق بموضوعها أيضاً وهو السفر للحج، فالمرأة حين سألت النبي: هل تحج عن أمها؟ فقال: حجي، فعندها يأتي السؤال: كيف تحج؟ فجاء بشرط حج المرأة وسفرها: أن يكون معها محرم، ومن هنا يرى أحمد رحمه الله: أن استطاعة المرأة للحج بالزاد والراحلة والمحرم، وإذا لم يكن لها محرم كزوج، وأب أو كان محرمها فقيراً لا يستطيع الحج فلا تتم استطاعتها، والجمهور: على أن استطاعة المرأة كاستطاعة الرجل، الزاد، والراحلة، والمحرم شرط زائد عن ذلك. والأئمة الثلاثة رحمهم الله في حج المرأة حجة الفريضة من غير محرم يقولون: إن كانت هناك رفقة مأمونة فلها أن تخرج للفريضة فقط، وما هي الرفقة المأمونة؟! إذا كانت المرأة في جمع من النسوة مع محارمهن إلى غير ذلك، فتخرج لحج الفريضة ولا تخرج لحج النافلة. لما قدم المؤلف رحمه الله بيان فضل الحج، جاء بشروط وجوبه، وهي: الاستطاعة، وتفسيرها من النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، ثم جاء بعد ذلك بمن يحج عن غيره، من أب أو أم، حياً أو ميتاً، نذراً أو غير نذر، ثم جاء هنا بواجب من الواجبات، أو بشرط من الشروط وهو: حج المرأة بمحرم لها.

اختلاط المرأة بالرجال وخلوتها بهم في السفر وفي غيره

اختلاط المرأة بالرجال وخلوتها بهم في السفر وفي غيره وفي صدر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو يخطب على المنبر، والخطابة على المنبر قد تكون للجمعة وقد تكون لغيرها-: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم) هذا الجزء من الحديث -على إيجازه- يعطينا صورة كاملة على مدى الحفاظ على المرأة في الإسلام، وعلى وجوب التوقي من فتنتها؛ وذلك أن علاقة المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة علاقة أصل بفرع، وفرع بأصله، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فالأصل يعطف على الفرع، والفرع يحن إلى الأصل، وهذه جبلة وغريزة، والله سبحانه وتعالى حفظ الجنسين من بناء علاقة بينهما إلا ما كان في عقد نكاح، أو ملك يمين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] . فإذا جاء العقد كانت هناك رابطة أخص: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وقبل أن يأتي هذا اللباس فالمرأة الأجنبية محرمة على الأجنبي، وبهذه المناسبة -وقد انتشر في العالم التساهل في هذه القضية- نجد أن الله سبحانه سدّ منافذ الوصول إلى المرأة، من الحواس الخمس، عن النظر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] ماذا؟ {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فأمر بغض البصر من كلا الجانبين، وحفظ الفرج، وكذلك السماع: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ، وكذلك: {وَلا يَضْرِبْنَ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] لأن ضرب الخلخال يصدر صوتاً تسمعه الأذن ويلفت النظر، وكذلك الملامسة من باب أولى، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون) ، بل أيضاً منع ما يثير حاسة الشم: (أيما امرأة تعطرت وخرجت من بيتها، فمرت على رجال، فوجدوا منها ريحها، فهي زانية) . وقد يتعاظم الإنسان هذا الحكم، ولكن إذا عرفنا بأن العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السماع والتلذذ، والأنف أيضاً تزني وزناها الشم إلى غير ذلك هان الأمر علينا. ثم منع الخلوة أياً كانت، وهذا زيادة في الحفاظ عليها، حتى جاء في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله: (أفرأيت الحمو يا رسول الله؟!) والحمو: أخو الزوج، يعني: يدخل في غيبة أخيه، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه أشد خطراً فقال: (الحمو الموت) ؛ لأن الأجنبي لا يجرؤ أن يدخل، وإذا دخل لفت الانتباه، أما أخو الزوج فيدخل بيت أخيه، وهناك تكون عدم المبالاة، فيكون هناك ما يشبه الموت. إذاً: في هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن على الرجل أن يتوقى من المرأة، وكذلك المرأة. وتقدم لنا في قضية الخثعمية التي كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ ينظر إليها، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عن الخثعمية، ولما سأله العباس في ذلك قال: (رأيت شاباً وشابة، فخشيت عليهما الفتنة) .

حرمة سفر المرأة من غير محرم

حرمة سفر المرأة من غير محرم قوله: (ولا تسافر امرأة بغير محرم) السفر بصفة عامة يكون للحج ولغير الحج، والمؤلف ساقه فيما يتعلق بالحج؛ لأن الرجل الذي قام وسأل ربط السفر بالحج، ولا تسافر المرأة بغير محرم، والسفر ليس مطلق النقلة، بل له حدود ومسافات، وجاء مسيرة يوم وليلة، (مسيرة) في اللغة: مفعلة، تصلح مصدراً ميمياً، وتصلح: اسم زمانٍ ومكان، فعلى أنها اسم زمان يكون النهي أن تسير يوماً وليلة قطعت فيها عشرة أميال أو آلاف الأميال، ويكون النهي متعلقاً بجزء زماني وهو: اليوم والليلة، وعلى أنها اسم مكان: يكون النهي عن أن تسافر مكاناً، ومسافته تقطع عادة في يوم وليلة، حتى ولو قطعتها في ساعة واحدة. إذاً: (مسيرة) هنا تحتمل الأمرين، وقد وجدنا أن بعض العلماء يأخذها على الناحية الزمنية، فإذا سافرت أقل من يوم وليلة، -ولو قطعت مئات الأميال- لم تبلغ الحد الذي نهيت عنه، ومن حمله على المكان قال: لا تسافر تلك المسافة التي من عادتها أن تقطع في يوم وليلة، ولو سافرتها في ساعة واحدة. ونجد ابن حجر رحمه الله في فتح الباري يفرق فيما يتعلق بقصر الصلاة والفطر في رمضان، فيجعله من باب المكان، وعموم السفر يجعله من باب الزمان، والمسألة مشتبهة جداً وخطيرة، والغرض من ذلك: الحفاظ على المرأة من أن تخلو في سفرها؛ لأنه كما يقال: يخشى عليها من ذئاب الخلاء، وحينئذٍ إن اضطرت إلى سفر فهل تسافر أم لا؟ والنهي هنا هل هو للتحريم أو للكراهية؟ نجد القول متشعباً ومتعدداً في هذا الأمر، ولكن عندما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيان، فالرجل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تسافر المرأة بغير ذي محرم، فأدرك المعنى، وهو يعلم أن زوجته خرجت للحج، وهو جالس وليس معها محرم، فقام وسأل: ماذا أفعل؟ ما هو الحكم؟ وقد اكتتبت في غزوة كذا؟ فهنا مقارنة بين أمرين: أن يصحب الزوجة لتكون ذات محرم في الحج، أو أن يذهب إلى الغزوة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذهابه مع زوجه ليحج معها، حتى لا تحج بغير محرم، فلكأن وجود المحرم مع المرأة أهم من وجوده في تلك الغزوة، والمشاركة في الغزوة بالنسبة له من باب فروض الكفاية؛ لأنهم لم يهاجموا، والقتال يكون فرض عين على كل شخص حتى النساء إذا داهم العدو البلد، ويكون فرضاً كفائياً، إذا كان بعيداً عن بلده، والقوة موجودة، والعدد متوفر، ويكون من النافلة إذا توفر العدد الكثير ولم يتوقف عليه. وهكذا رجح النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة بين هاتين العبادتين، فقال: (اذهب وحج مع امرأتك) . ربما يقول البعض: إن تلك المرأة التي خرجت للحج كانت برفقة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولكن في النفس من ذلك شيء؛ لأن حجة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت في السنة التاسعة، وفتحت مكة عام ثمانية من الهجرة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس سنة تسع، وأي غزوة كانت في سنة تسع؟ لا نعرف إلا غزوة تبوك، وهي لم تكن في وقت الحج. إذاً: كونها في صحبة، أو رفقة أبي بكر هذا فيه نظر. وهنا نجد بعض علماء الحنابلة يقولون: لا تتم استطاعة المرأة للحج، ولا تلزمها الفريضة إلا باستطاعتها في ذاتها وأيضاً كونها مستطيعة لمحرم يحج معها؛ لأنها في حاجة إليه، ونفقته عليها إن لم يكن خرج للحج عن نفسه معها. ونجد الشافعي رحمه الله يرى أن ذلك النهي للكراهية، ويقول: إن كانت الحجة فريضة، ووجدت رفقة مأمونة من النسوة وغيرهن سافرت معهن، فهي عندما تكون في جماعة النسوة معهن المحارم، فإنها تخدم وتحفظ وتصان مع النسوة فتكون في مأمن. والنووي يدلل على هذا الجانب فيقول: لو أن امرأة خرجت مع محرمها، وفي منتصف الطريق مات المحرم، ماذا ستفعل تلك المرأة؟ أتبقى في مكانها في خلاء؟ أم ترجع إلى بلدها وحدها؟ إذاً: تمضي مع الرفقة حتى تتم حجها. ثم جاءوا واستدلوا أيضاً بحديث الظعينة التي تسير بين يثرب والحيرة لا تخاف على راحلتها السرق، قالوا: فهذه ظعينة تسير وحدها، وأجاب الآخرون: بأن هذا إخبار -في الجملة- عن استباب الأمن، ولكن ليس فيه جواز مسير المرأة بغير محرم، ولا ينبغي أن ننصب التعارض بين هذين الحديثين، ولا سيما مع طول الزمن وفساد الحال.

المحرم الذي تسافر معه المرأة في الحج

المحرم الذي تسافر معه المرأة في الحج من هو المحرم الذي يكون للمرأة في الحج؟ قالوا أولاً: الزوج. ثانياً: من كانت المرأة تحرم عليه تحريماً مؤبداً، أما إذا كان زوج أختها، أو زوج خالتها، أو زوج عمتها، فهي لا تحل له، لئلا يجمع بين الأختين، ولا تنكح المرأة مع عمتها أو خالتها، لكن هذا التحريم مؤقت، لأنه إذا ماتت الأخت أخذ أختها، وإذا ماتت البنت أخذ خالتها، وهكذا يمكن أن يأخذ الواحدة منهن على انفراد، وقد يطلقها في الطريق، وتحل له هذه بعد طلاقها وخروجها من العدة، فالمقصود بالتحريم أن يكون مؤبداً. والعجيب أن نجد قولاً لـ مالك رحمه الله، يستثني من هذا التحريم المؤبد الأخ من الرضاع، وولد الزوج، فالأخ من الرضاع محرم على التأبيد، وولد الزوج محرم؛ لأنها زوجة أبيه، ويعلل ذلك بفساد الزمن، فإذا كان في زمن مالك يمنع أن يكون ولد الزوج محرماً في السفر مع زوجة أبيه لفساد الزمن، فماذا نقول في وقتنا الحاضر؟ إذاً: المسألة تحتاج إلى تحفظ واحتياط. ولكن للأسف فإننا نشاهد مجيء المرأة بدون محرم في حلها وترحالها، عند ركوبها السيارة، عند نزولها، وعند وجودها في منى، وعند وقوفها في عرفات، فلو أرادت أن تشرب ماءً، أو أن تريق ماءً، فإنها في حاجة إلى من يكون معها، ويأخذ بيدها إلى قضاء حاجتها. إذاً: إذا كان المولى سبحانه أعفى المرأة ولم يوجب الحج عليها إذا لم يكن لها محرم، فلا حاجة أن تغرر بنفسها، ولا حاجة أن نشجعها على مخالفة السنة النبوية المطهرة، لكن إذا حدث وجاءت فهل نردها؟ لا نملك ذلك، وسنقع في المحظور، ولكن ينبغي أن يُعرف هذا الحديث ويحفظ ويعلّم ويدرس قبل أن تخرج المرأة من بيتها، وأنتم الآن وقد علمتم ذلك، فقد حملكم الله الأمانة، وحملكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب فرب مُبَلغ أوعى من سامع) ، وقال: (رحم الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) . إذاً: هذه قضية عامة ينبغي أن تراعى. ونجد بعض الناس يقول: المرأة إن كانت شابة فتمنع؛ لأنها موضع الفتنة، وإن كانت عجوزاً فلا مانع، ونجد الآخرين يقولون: لكل ساقطة لاقطة، فالعجوز لها عجوز أيضاً، ولكن: آخر ما يمكن أن يقال: سددوا وقاربوا، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)

شرح حديث: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه] .

الحج عن الغير وشرطه

الحج عن الغير وشرطه هذا الحديث تتمة لما تقدم بيانه من أن المرأة الخثعمية سألت: (فريضة الله في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً) . وهكذا ثبتت صحة حج الإنسان عن الغير عند الجمهور، وكذلك الحج عن الميت إن أوصى أن يحج عنه، وهذا عند مالك فقط، إذن: يجوز أن يحج إنسان عن غيره، لكن ما هو المشروط في هذا النائب في حجه عن الغير؟ وللجواب على ذلك جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث. الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع إنساناً يطوف بالبيت قائلاً: (لبيك اللهم عن شبرمة) اسم علم، قال: من شبرمة هذا؟ أي: ماذا يكون لك؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، أو قريب لي، الشك من الراوي؛ لأن الملبي سمى واحداً فقط، لكن الراوي التبس عليه أي الألفاظ قال. يهمنا أنه حاج عن غيره، فسأله صلى الله عليه وسلم: (أحججت عن نفسك؟ -أنت الآن تحج عن شبرمة، فهل حججت عن نفسك أنت؟ - قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) . وعلى هذا فعند الجمهور: من لم يحج عن نفسه لا يتأتى منه أن يحج عن الغير، لكن لو قدر أن وقع ماذا يكون؟ هذا هو الفقه. مدلول النصوص قد يستوي في إدراكه الكثيرون، ولكن فقه الحديث قد يختص به العلماء وسلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم، فلو وقع وجاء إنسان ولبى عن غيره، وهو لم يحج عن نفسه، قالوا: تقع الحجة عن نفسه، وإن كان قد أخذ أجراً من ولي أمر الذي يريد أن يحج عنه، فما أخذه دين في ذمته، فإن شاء حج في السنة التي تليها عمن أراد، وإن شاء رد الأجر على أهله.

حكم الإجارة في الحج

حكم الإجارة في الحج وعلى هذا يأتي بحث الإجارات في الحج، وهل هذا الرجل حج عن شبرمة متطوعاً أو بأجرة؟ لم يسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن كلمة (أخ) وكلمة: (صاحب) تشعر بأنه متطوع ومتبرع، وما كان يعرف في الزمن السابق أن إنساناً يأخذ أجرة على الحج، والآن أصبح طريقاً من طرق الكسب، والله المستعان. ويبحث العلماء عن حكم أخذ الأجرة على الحج عن الغير، فمن العلماء من يمنع ذلك بالكلية، قال: لأن الحج عبادة، والعبادة لا يؤخذ عليها الأجر، وقوم قالوا: هناك فرق بين أمرين: من حج ليأخذ، ومن أخذ ليحج، فمن أخذ ليحج أي: أنه لا يريد أن يتمول، ومستعد أن يحج عن الغير، وقد حج عن نفسه، لكنه لم يستطع أن يقوم بلوازمه بنفسه، فأخذ من ولي النائب عنه ما يحججه، بمعنى: يأخذ على الوصول، ولو أن ولي من ينوب عنه أخذه في صحبته بسيارته، أو أسكنه معه في خيمته وتكفل بأكله وشربه، حتى أدى المناسك ورده إلى بيته، أجزأه، ولا مانع في ذلك. ولكن من ليست له رغبة في الحج في البدء، ولما عرض عليه الولي الأمر، وجعل له مبلغاً من المال لفت نظره، فحج ليأخذ هذا المبلغ، فهذا حج ليأخذ ولم يأخذ ليتبلغ، فهو يأخذ هذا المبلغ ويحج منه، وما زاد فله، بخلاف الذي يحج على البلاغ، فإنه لو لم يصحبه معه، وأعطاه مبلغاً فأنفق منه بالمعروف، على ما ينفق على مثله، ولو زاد شيء من المال رده لصاحبه، وإذا نقص عليه شيء استوفاه من صاحبه؛ لأنه على البلاغ، وهكذا، من حج ليأخذ فلا يحق له، ومن أخذ ليستعين به على الحج فلا مانع. ثم إن الشافعي رحمه الله قال: من أخر الحج بعد الاستطاعة بالزاد والراحلة، ومات قبل أن يحج، فإن الواجب على ورثته أن يخرجوا من رأس مال التركة قبل قسمتها، وليحجوا عنه من تركته ومن بلده.

الوصية بالحج وكيفية تنفيذها

الوصية بالحج وكيفية تنفيذها ومن أوصى بحجة من تركته، تعلقت الوصية بالثلث، فريضة كانت أو نافلة؛ لأنه له الحق في التصرف في الثلث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أجوركم) فلو أوصى وقال: فأوصى: حججوا عني، نظرنا كم يحتمل؟ ثلث التركة فإن احتمل من يحج عنه من بلده تعين إنفاذ الوصية، وإن احتمل من يحج عنه من نصف الطريق اكتفينا، وإن لم يحتمل إلا أن نأخذ من مكة فيكتفى بذلك، وهكذا، فتتعلق الوصية بالحج بثلث التركة، ومن حيث احتمل الثلث أخذنا من يحج عنه، وبالله تعالى التوفيق. ثم إنهم اتفقوا على أن من حج عن أحد تطوعاً، كأحد أبويه، أو قريب له، أو صديق، فإن له من الأجر كأجر الذي حج عنه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إن الله كتب عليكم الحج.

شرح حديث: (إن الله كتب عليكم الحج ... ) قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟! قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع) رواه الخمسة غير الترمذي، وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة] .

استحباب تكرار الحج

استحباب تكرار الحج أخيراً: يأتي المؤلف رحمه الله ببيان ما يلتبس على الناس، لأن الحج يأتي كل سنة، ورمضان يأتي كل سنة، والصوم في رمضان كلما جاء رمضان واجب، فهل كلما جاء الحج وجب على المستطيع؟ فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الله كتب عليكم الحج) (كتب) بمعنى: ألزم، وهي صيغة تكليف مؤكدة، وتأتي في الأمور الهامة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] . (إن الله كتب الحج) أي: أوجبه بكتابه، وجاء في الكتاب الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] فقام: الأقرع بن حابس -وهو سيد في قومه- وقال: (يا رسول الله! كتب الله علينا الحج، والحج يأتي كل سنة، أفي كل سنة نحج؟) أي: يكون التكرار بتكرار موجبه كما في رمضان؟ فرمضان جاء فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فكان إلزاماً لكل من شهد الشهر بأن يصومه، ولكن هنا قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] . فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم، لوجبت، ولم تستطيعوا) وفي بعض الروايات: (دعوني ما تركتكم، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) . ثم بين صلى الله عليه وسلم أن الحج في العمر مرة واحدة، وما زاد عن المرة فتطوع، ومتى يكون؟ لم يحدد، فإذا كرر الحج كل سنة، فهو طيب.

تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته

تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته وقال بعض العلماء: تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته؛ لأن فيه منافع كثيرة؛ ولكن جاء هناك تحديد في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي: (لا يحل -أو لا يحق- لعبد عافيته في بدنه، وأوسعت له في رزقه، أن يهجر البيت فوق الخمس) ، إنسان مستطيع وثري، والطريق آمن، فما ينبغي أن يهجر البيت أكثر من خمس سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم سماه هجراً: (أن يهجر البيت) فإذا كان يستطيع لأقل من الخمس فهو المطلوب، وإن وفاها إلى الخمس فلا ينبغي أن يتجاوزها، وهكذا الحج في العمر مرة، والنافلة لا حد لها، ولا ينبغي لمستطيع أن يجاوز الخمس سنوات، وكيف وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من أراد خيري الدنيا والآخرة فليؤمنّ هذا البيت) ، من أراد أن يوسع الله في رزقه فليؤمن هذا البيت، ففي الحج فوائد كثيرة. ويكفي عموم قوله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} [الحج:28] واتفق علماء البلاغة على أن التنكير في مثل هذا للعموم: منافع دنيوية شخصية، واجتماعية، واقتصادية، ومنافع أخروية. إذاً: الحج مرة في العمر، ونافلته لا تنحصر، ولا ينبغي تركه أكثر من خمس سنوات، والله تعالى أعلم.

كتاب الحج - باب المواقيت

كتاب الحج - باب المواقيت إن لحج بيت الله الحرام مواقيت زمانية لا يصح الإتيان بالنسك إلا فيها وهي: شوال وذو القعدة وأول ذي الحجة، كما أن له مواقيت مكانية محيطة من كل الجهات ببيت الله الحرام، لا يجوز للحاج أن يتجاوزها إلا بإحرام، ومنها: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، ولها أحكام متعلقة بها ذكرها أهل العلم في المطولات.

شرح حديث ابن عباس في مواقيت الحج

شرح حديث ابن عباس في مواقيت الحج بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) متفق عليه. ] . المؤلف رحمه الله بعد أن بيّن لنا فضل الحج: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ثم بيّن من يجب عليه الحج بالأصالة أو النيابة، ثم بيّن لنا شروط النيابة، ثم بيّن لنا أنه واجب في العمر مرة، فلكأننا رغبنا في الحج، ولكأننا اكتملت لنا الاستطاعة، ولكأننا عزمنا على الحج، ونريد البداية، فجاءنا بباب المواقيت؛ لأن المواقيت هي أول أبواب الدخول في الحج، ووقفنا على الأبواب فبين لنا مكان الميقات.

أحكام الحرم وحدوده

أحكام الحرم وحدوده المواقيت على وزن: مفاعيل من الوقت، أصلها موقت، نأتي ونُبعد الدائرة قليلاً، ونجد أن هذه المواقيت لمن أراد القدوم على البيت في نُسك، ونجد هناك دائرة أضيق وهي: حدود الحرم، فإن المولى سبحانه جعل للبيت حدوداً وهي داخل مكة للمقيم وللقادم، في نسك وفي غير نسك، تلك الحدود لها أحكام الحرم: عموم الأمن: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] بلوغ الهدي: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] والكعبة لا أحد ينحر فيها الهدي، لكن المراد به إطلاق الحرم داخل مكة، تحريم الصيد وقطع الشجر، وتأمين الخائف: يأمن فيه الطير، والوحش، والإنسان، والصيد، فهذه دائرة محدودة داخل مكة، للمحرم ولغير المحرم، ثم نجد الدائرة الأوسع لمن أراد أن يقدم على البيت بنسك، ونجد هذه المسافات مختلفة، وكذلك المسافات في حدود الحرم، نجد حداً من حدود الحرم: سبعة كيلومترات، وهو: مسجد التنعيم، ونجد حداً من حدود الحرم عشرين كيلومتراً، وهو: ما بين المزدلفة وعرفات، ونجد أيضاً هناك الجعرانة. إذاً: اختلفت حدود الحرم، واختلفت مواقيت المحرم، أما اختلاف حدود الحرم فالعلماء الذين كتبوا في تاريخ الكعبة، وفي هذا الموضوع، يذكرون أسباباً عديدة، نلم بالقليل منها، فمنهم من يقول: بأن الخليل عليه السلام لما أتمَّ بناء البيت، جاءه جبريل حينما قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] فعلمه المناسك، ثم بيّن له حدود الحرم على ما هي عليه الآن. وبعضهم قال: لما نزل الحجر الأسود من الجنة كانت له إضاءة، وكان مشعاً مضيئاً، ولكن إضاءة الحجر لم تأخذ دائرة الضوء المعروفة، بل كانت متفاوتة الأطراف، وحيث ما انتهى الضوء من الجهات الأربع كان حد الحرم منها، فكان اختلاف حدود الحرم باختلاف وصول الضوء من الحجر، والله تعالى أعلم.

توقيت المواقيت علم من أعلام النبوة

توقيت المواقيت علم من أعلام النبوة أما المواقيت فإننا بالتأمل نجد هذه المواقيت وفيها مباحث عديدة من جانب المعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن باب بيان علاقة الحرمين معاً، ومن باب الآداب التي يجب التزامها عند الدخول على البيت، أما تلك المواقيت فوجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم حج سنة عشر، وبيّن المواقيت، وانتقل إلى الرفيق الأعلى سنة عشر والإسلام لم يخرج من جزيرة العرب، إنما وصل إلى اليمن، وكان حده إلى تبوك ولم يتعد النهرين، ولم يعبر البحر الأحمر، ولكنا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع الحد في المواقيت لأهل الشام، وأهل العراق، ولم يكن هناك شام مسلم، ولا عراق مسلم، ولا مصر مسلم، فيكون ذلك من باب المعجزة أن الله تعالى أعلمه بذلك، وهو مستفاد أيضاً من منطوق: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] وأن الدين سينتشر، وكما قال في غزوة الأحزاب، لما استعصت عليهم الكدية، وضربها بالمعول ثلاث ضربات، فأبرقت عند كل ضربة، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تكبيرات، وقال في الأولى: (الله أكبر! فتحت مدائن كسرى) وكان بعض المنافقين يقول: نحن خائفون على أنفسنا، وهو يقول لنا: فتحت مدائن كسرى! ولكن المؤمنين صدقوا ذلك، وكان أبو هريرة يقول: (اغزوا ما شئتم، واغنموا ما شئتم، فقد أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل) . إذاًَ: هذه المواقيت التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقتها لأهلها قبل أن يأتي الإسلام إليهم فيه توطيد وتشريع مسبق للشمول.

المواقيت توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها

المواقيت توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها حين ننظر في هذه المواقيت، فسنجد أن أهل المدينة يهلون من: ذي الحليفة. وقوله: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، يعني: المواقيت توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يملك أحدٌ أن يغير أو يبدل فيها، ولا نقول: المسافة طالت على أهل المدينة، دعونا نقدمها قليلاً، ولا نقول: المسافة قريبة على أهل اليمن، دعونا نبعدها قليلاً، فما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها فتبقى على توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فكرنا أو تخيلنا قليلاً بحثاً عن العلة فقد يقال: إن معزة المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلته يربطها بحرم مكة، فيخرج من حدود حرم المدينة إلى حدود الإحرام بالحج؛ لأن حرم المدينة من: ثور، وهو: الشمال الغربي من أحد إلى عير، وهو المحاذي لذي الحليفة، فإذا كان حد الحرم ينتهي إلى عير عند ذي الحليفة، والمحرم من المدينة يحرم من ذي الحليفة، يعني: لا يخرج من حرم المدينة إلا بإحرام إلى حرم مكة، فيكون على ارتباط واتصال، وأما الشام ومصر، وأهل حوض البحر الأبيض المتوسط -والبحر الأبيض المتوسط كالبحيرة، وهو كالحوض الكبير جداً- فيشمل كل من يأتي من الشمال من إيطاليا وما حولها، إلى تركيا، وإلى سوريا، وإلى لبنان، وإلى وإلى ويدخل على البحر الأحمر، ومن ذلك مصر، ومن يأتي أيضاً من المغرب إن جاء عن طريق البحر الأبيض، فكل من جاء عن طريق البحر الأبيض إلى البحر الأحمر فإن ميقاته الجحفة، والجحفة قرية كانت في محاذاة رابغ على ساحل البحر، لكن البحر مع المد والجزر جحفها؛ فسميت الجحفة، وأصبح الميقات الآن في محاذاتها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله، ووقّت لأهل اليمن: يلملم، وهو موضع معروف لأهلها على بعد مرحلتين، والجحفة على بعد خمس مراحل، وذو الحليفة على بعد تسع مراحل، وقرن المنازل وهو لأهل نجد على بعد مرحلتين، ووقّت لأهل العراق ذات عرق، وقيل: الذي وقت هذا الميقات هو عمر. ويهمنا قوله رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة،ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل) .

الميقات لمن أتى عليه ولو لم يكن من أهله

الميقات لمن أتى عليه ولو لم يكن من أهله ولما سمى تلك المواقيت لتلك البلاد قال: (هن لهن -يعني: لأهلهن- ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) يعني: لو أن إنساناً تركياً أو شامياً أو هندياً أو باكستانياً جاء إلى المدينة ولم يأت عن طريق البحر الأحمر، ولا عن طريق حوض البحر الأبيض، فما دام وصل إلى المدينة لا يكون ميقاته الجحفة بل ميقاته ميقات أهل المدينة لقوله: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وكل الحجاج الذين يجتمعون في المدينة من جميع الأقطار، ويريدون الخروج إلى مكة للحج، فميقاتهم ميقات أهل المدينة، وهكذا أهل المدينة إن جاءوا من الشام على الجحفة، أو جاءوا من اليمن على يلملم، أو جاءوا من نجد على قرن المنازل، لا يقولون: ميقاتنا المدينة ولابد من الرجوع إليه، فما دام أنه سيدخل من ذلك الميقات إلى مكة مباشرة فيحرم من هناك، وهذا هو الشمول والعموم، فلا تخصيص ولا عنصرية -كما يقال اليوم-، فالتوقيت عام لجميع الأجناس، والغرض أن من أراد النسك -حجاً أو عمرة- فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات الذي في طريقه إلا وهو محرم، سواءً كان من أهل هذا الميقات أو كان وافداً وماراً عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك) أي: داخل الدائرة، كالناس الذين بين الجحفة ومكة، والذين بين يلملم ومكة، والذين بين قرن المنازل ومكة. إلخ، هل يرجعون إلى الميقات ليحرموا منه؟ قال: لا، ومن كان محله دون ذلك نحو مكة، فمن حيث أنشأ، فلو كان في منتصف الطريق بين يلملم ومكة، أي: على بعد مرحلة، فيحرم من مكانه ولا يرجع إلى الميقات. وهكذا كل من كان دون الميقات إلى مكة، فموقع إحرامه وميقاته: مكانه الذي هو فيه، حتى قالوا: لو أراد أهل عرفات العمرة أحرموا من عرفات، وجاءوا إلى البيت، ولو أرادوا الحج أحرموا من عرفات، ووقفوا الموقف، وأتموا حجهم. وأهل مكة إذا أرادوا الحج فمن مكة، وإن أرادوا العمرة فلابد من خروجهم إلى أدنى الحل ثم يدخلون الحرم محرمين، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمرها من التنعيم) لأن العمرة زيارة، والنسك لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، فما وراء التنعيم حل، فيحرم من الحل، ويدخل الحرم محرماً، أما القادم من خارج الحدود فهو بطبيعة الحال يجمع بين الحل والحرم، أما أهل مكة في الحج فإنهم بخروجهم إلى عرفات يكونون قد خرجوا من حدود الحرم، فبعد وقوفهم يرجعون إلى البيت محرمين، وهكذا، والله تعالى أعلم.

شرح حديث عائشة في ميقات أهل العراق

شرح حديث عائشة في ميقات أهل العراق قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق) رواه أبو داود والنسائي، وأصله عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، إلا أن راويه شك في رفعه. وفي صحيح البخاري: أن عمر هو الذي وقّت ذات عرق. وعند أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل المشرق العقيق) ] .

تحقيق الخلاف في توقيت ذات عرق

تحقيق الخلاف في توقيت ذات عرق تقدم في الحديث الأول: (وقّت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة) وتقدمت المواقيت أن لأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق) وكلٌ من: يلملم، وقرن المنازل، وذات عرق، تبعد عن مكة مرحلتين. ثم ساق المؤلف رواية أخرى: (أن عمر رضي الله تعالى عنه هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق) وهذا عند العلماء يسمى باختلاف الحديث؛ لأن الرواية الأولى تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو عمر رضي الله تعالى عنه. ويجمع بعض العلماء بين الروايتين وأن كلتيهما صحيحة، قالوا: وقّت النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ولكن الخبر لم يبلغ عمر، ولما كان في خلافته رضي الله تعالى عنه، ودخلت العراق في الإسلام، فسألوا عمر أن يوقِّت لهم فوقت لهم ذات عرق، وغاية ما هناك أن يكون توقيت عمر وافق توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بعيداً على عمر رضي الله تعالى عنه، فقد وافق القرآن الكريم في ستة مواضع، فلا غرابة من أن يوافق السنة في هذا الموضع، وبعضهم يقول بالترجيح؛ لأن خبر عائشة فيه راوٍ ضعيف، وخبر عمر أصح سنداً، وعلى كل فقد انعقد الإجماع على أن ميقات أهل العراق هو ذات عرق. ثم يأتي المؤلف بهذا الخبر الآخر: (وقّت لأهل المشرق العقيق) ، وهو: من العقوق وهو أن يشق السيل الأرض، أي: يعقها، والمعروف منه: وادي العقيق بالمدينة، وهو الذي يمر بذي الحليفة وينزل إلى عروة إلى سلطانة إلى ملتقى الأسيال إلى الغابة. ووادي العقيق بالطائف، وكلاهما بهذا الاسم، ويقال: هناك ثالث باليمن، والله تعالى أعلم؛ فقالوا: رواية أهل المشرق هم أهل العراق، والعقيق هو بنفسه يمر أو يقع بذات عرق، فإذا كان ذات عرق بالعقيق؛ فلا منافاة بين التسمية؛ لأن كليهما يصدق على مكان واحد، ويرى بعض العلماء أن هذا التوقيت من عمر قياساً، أي: على تباعد ما سنه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواقيت اليمن ونجد.

من لا يمر طريقه بميقات فيحرم عند محاذاة الميقات

من لا يمر طريقه بميقات فيحرم عند محاذاة الميقات ثم ذكر العلماء مسألة وهي: أن من أتى إلى مكة، ولم يكن طريقه على ميقات من تلك المواقيت ماذا يفعل؟ هل يتعين عليه أن يقصد إليها حتى ينشئ إحرامه منها؟ قالوا: لا، ولكن إذا حاذى الميقات يميناً أو يساراً فهناك ميقاته ويحرم من تلك المحاذاة، ثم جاء بعد ذلك أيضاً -كما يقولون الجهات الست- الوراء، والأمام، واليمين، واليسار، والفوق، والتحت، هذه تسمى الجهات وهي نسبية، فقالوا: كل من مر بمحاذاة ميقات، في البر في الجو في البحر فإن ميقاته محاذاته، واليوم تأتي السفن وتمر بالبحر فتحاذي الجحفة، فيكون ميقات من في البحر وهو في السفينة أن يُحرم من محاذاة الميقات، وكذلك في الطائرات فمن جاء في طائرة، ومر بميقات بلده، عليه أن يتأهب قبل أن تصل الطائرة إلى الميقات، ويحرم قبل مجاوزة الطائرة محاذاة ميقاته؛ لأن الطائرة ليست كالسفينة فهي تقطع المسافة بسرعة، وتخرجه عن حدود الميقات بسرعة، فعليه أن يبادر ولا يتأخر، فمثلاً: ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة، والذي يسافر على السيارة سيمر بها، فإذا كان طريقه كما هو الحال الآن بما يسمى بخط الهجرة، فلا يمر بالمسجد ولا بالقرية إنما يجانب عنها إلى جهة الجنوب الشرقي، فلا مانع أن يحرم في الطريق من محاذاة الميقات، ولا يأتي إلى المسجد.

كيفية الإحرام لمن أراد السفر بالطائرة

كيفية الإحرام لمن أراد السفر بالطائرة ومن لم يمر على الميقات له أن يحرم من أول حدود (الميقات) وكذلك له أن يحرم من طرف الميقات، المهم أنه لا يتجاوز حدود الميقات إلا وقد أحرم، فإذا كان سفره بالطائرة والطائرة تأخذ طريقها جنوباً، فتمر بمحاذاة ذي الحليفة وقد تمر فوقها عمداً كما هو في خطوط الطيران، فإذا خرج الحاج من المدينة، لا نقول: عليك أن تذهب بالسيارة إلى ذي الحليفة فتحرم، ثم تأتي وتطلع إلى المطار وتسافر على الطائرة، لا، ولكن تجهز في بيتك، والبس الإزار والرداء، واذهب إلى المطار، وعندما تأتي الرحلة فلا تُلب، ولا تنو عقد الإحرام حتى تضمن الرحلة، فإذا ما صعدت الطائرة، وشُدَّ الحزام، وأقفل الباب، وتحركت محركاتها، واتجهت في طريقها في مدرج المطار، فعندما ترتفع عن مستوى الأرض هناك تُحرم؛ لأنك إذا انتظرت حتى ترى ذا الحليفة تكون قد اجتزتها، وخرجت قبل أن تحرم، وهكذا إذا جاء إنسان على الطائرة من نجد أو من اليمن ومر في الجو بمحاذاة الميقات فإنه يحرم من محاذاة ميقاته، سواءً كان في البر أو كان في البحر أو كان في الجو، فهذه هي المواقيت وهذا ترتيبها لمن أراد إنشاء الإحرام منها.

الإحرام في الميقات إنما هو لمن أراد النسك

الإحرام في الميقات إنما هو لمن أراد النسك بقي ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن ممن كان يريد الحج والعمرة) مفهوم المخالفة: من أتى عليهن ولم يكن يريد الحج ولا العمرة هل نلزمه بالإحرام؟ لا نلزمه بالإحرام؛ لأن التوقيت لمن أراد النسك، ومن أراد أن يدخل مكة لتجارة لزيارة لاعتكاف لشيء آخر من غير العمرة أو الحج فله أن يجتاز المواقيت من غير إحرام، ولكن وجدنا الفقهاء رحمهم الله قالوا: من أراد الدخول إلى مكة وكان قد مضى عليه من إتيان مكة زمن طويل لا ينبغي أن يدخل مكة غير محرم بعمرة توقيراً وتعظيماً للبيت، وبعضهم حدد بعض الأشهر، وبعضهم قال: لا يزيد عن أربعين يوماً، واستثنوا من ذلك صاحب التردد: كالحطاب، وصاحب البريد، والآن بعض الناس يعمل في جدة وهو ساكن في مكة، ويومياً يسافر إلى جدة، والعكس رجل يعمل في مكة وهو ساكن في جدة، فهؤلاء لا يدخلون في هذا الحكم، ولكن إن تيسر له فالحمد لله، وإن لم يتيسر له فليس بواجب عليه، وقد أخذ الفقهاء هذا الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم في عام فتح مكة، حيث دخل مكة وقد مر بذي الحليفة ولم يحرم، ودخل مكة وعلى رأسه المغفر، والمحرم يكشف رأسه، وما أتى عنه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما جاء مكة أنه طاف؛ لأنه كان مشغولاً بأمر وبشئون فتح مكة، فاستدل العلماء بذلك على أن من دخل مكة لغير نسك، بتجارة أو زيارة أو أي شيء آخر فليس عليه أن يُحرم، وإنما يدخل دخولاً عادياً، هذا ما يتعلق بالمواقيت.

حكم من جاوز الميقات من غير إحرام ناسيا أو جاهلا

حكم من جاوز الميقات من غير إحرام ناسياً أو جاهلاً ترد هنا مسألة فقهية: لو أن إنساناً جهل الميقات، مثال ذلك: إنسان أتى من نجد، أو أتى من الشام، أو خرج من المدينة، ولا يعلم منطقة ذي الحليفة أين هي، ويظنها أمامه، فجاوز الميقات، ولما وصل إلى المركز هناك أخبروه، وقالوا له: كيف تذهب إلى الحج ولم تحرم؟! قال: سأحرم من ذي الحليفة، قالوا له: ذو الحليفة وراءك! فكان جاهلاً بها، أو كان يعرفها ولكنه نسي، وجاوز الميقات، ولم يحرم، فماذا يفعل؟ يقول الجمهور: النسيان لا يعفيه من الفدية، ولكن هل يُحرم من مكانه؟ أو يرجع إلى ميقاته، لأنه مر عليه جاهلاً ناسياً؟ وإذا رجع إلى الميقات هل يسقط عنه دم التجاوز للميقات، أو لا يسقط عنه؟ فالبعض يقول: لا يسقط عنه؛ لأن المجاوزة حصلت، والبعض يقول: إن رجع، وكان قد تجاوزه ناسياً أو جاهلاً سقط عنه الدم، أما إذا تعمد وهو يعلم فجاوزه ولم يحرم فلا يسقط عنه الدم ولو رجع، هذا ما يتعلق بقضية الميقات المكاني.

الميقات الزماني للحج والعمرة

الميقات الزماني للحج والعمرة وللحج ميقات زماني، وقد تقدمت الإشارة إلى أن العمرة لا زمن لها (العمرة إلى العمرة) مطلقاً، وإنما تكلم الفقهاء في الأيام التي لا يجوز له أن يأتي بعمرة فيها وهي: الأيام المختصة بالحج، كيوم عرفة، ويوم العيد، وأيام التشريق، فمنهم من يقول: يومان، ومنهم من يلحق اليوم الثالث بها، ومنهم من يفصل: إن كان قد تعجل في يومين فله أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، وإن لم يكن تعجل فليس له أن يفعل ذلك، وبعضهم يقول: لا يجوز ولو تعجل؛ لأن اليوم الثالث من أيام الحج؛ ولأن جماعة آخرين تأخروا في منى يرمون الجمرات، إذن: جميع السنة وجميع الأيام وقت زمني للعمرة ما عدا يوم عرفة، ويوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة على الاحتياط. أما الميقات الزماني للحج فكما بيّن سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وأجمعوا على أن الجمع هنا يطلق على الشهرين وبعض الثالث تغليباً، وهي: شوال، وذو القعدة، وبعضٌ من ذي الحجة، فإذا أنشأ الإحرام في الميقات الزماني وقع، وهل يجوز تقديم الإحرام عن الميقات المكاني، وعن الميقات الزماني أو لا يجوز؟ وإذا فعل ما هو الحكم؟ فلو أن إنساناً أحرم بالحج أو بالعمرة من المدينة، أو من المسجد النبوي أو من بيته، فـ مالك رحمه الله أتاه شخص وقال: (أريد أن أحرم من هذا المسجد، قال: لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة تخشاها؟ قال: أخشى أن يخطر ببالك أنك أحرمت بخطوات أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من مكان أفضل من المكان الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخطر ببالك أنك فعلت خيراً مما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك) والآخرون يقولون: إن كان من غير المدينة -وهذا الاحتمال ليس وارداً- قالوا: لا بأس، فيجوز أن يُقدم الإحرام عن المواقيت المسماة، واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: جاء حديث: (من أحرم بعمرة من بيت المقدس كان له من الأجر كذا) فقالوا: يُحرم من بيت المقدس، وقوم قالوا: هذا خاص ببيت المقدس؛ لأنه من حرم إلى حرم ولا يجوز ذلك من غيره، وقال الآخرون: جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال رضي الله تعالى عنه: (إتمامهما إحرامك بهما من دويرية أهلك) فيجوز له أن يحرم من بلده من أي قطر من الأقطار، لكن العلماء كرهوا هذا؛ لأنه قد يطول عليه الوقت فيضيق عليه الحال فيكون ذلك مدعاة لأن يرتكب محظوراً من محظورات الإحرام لطول الزمن، فالأولى أن يجعلها من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: أقل الأدنى هي المواقيت، وما وراءها يصح، هذا في الميقات المكاني. إذاًً: حكم الميقات الزماني قالوا: الميقات الزماني ليس كالمكاني، فمن أحرم بالعمرة فلا زمان لها، ومن أحرم بالحج قبل التوقيت فله ذلك، وهناك من يقول: لا إحرام له ولا نسك، والشافعي رحمه الله يقول: (إن أحرم قبل ميقات الحج بحج انعقد إحرامه، وانصرف إلى ما يصح في ذلك الوقت) ، فلو أحرم بالحج في رمضان على قول الجمهور: لا حج له، والشافعي يقول: (انعقد الإحرام وانقلب إلى عمرة) لأن العمرة تصح في رمضان، وعليه أن يجدد الإحرام بالحج في زمن الحج، والله تعالى أعلم.

كتاب الحج - باب وجوه الإحرام وصفته

كتاب الحج - باب وجوه الإحرام وصفته الأنساك ثلاثة: الإفراد، والتمتع، والقران، وقد حج الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من كان مفرداً، ومنهم من كان متمتعاً، ومنهم من كان قارناً، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر مفرداً ثم أمره جبريل بالقران، وكان قد ساق الهدي فأمر المتمتعين والقارنين الذين لم يسوقوا الهدي بالتحلل، وإنما امتنع صلى الله عليه وسلم عن التحلل؛ لأنه كان قد ساق الهدي. وقد اختلف العلماء فيما هو الأفضل في هذه الأنساك الثلاثة، والذي عليه بعض المتأخرين: أن الأفضل ما كان أسهل في حق كل مهل.

شرح حديث عائشة في وجوه الأنساك وأنواعها

شرح حديث عائشة في وجوه الأنساك وأنواعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: [عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه، وأما من أهل بحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر) متفق عليه]

الأنساك الثلاثة

الأنساك الثلاثة وجوه وأوجه: جمع وجه، وقد جاء تفسير ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، ولكن نلاحظ أن المؤلف رحمه الله أوجز في هذا الباب فيما كان ينبغي زيادة بعض النصوص، وهنا نجد النص الذي عندنا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: خرجنا -جماعة- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بكذا، ومنا من أهل بكذا، ومنا من أهل بكذا، فمن أهل بعمرة تحلل عندما وصل، ومن أهل بحج أو بحج وعمرة ما أحلوا حتى يوم النحر، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً. إذا جئنا إلى الحديث، نجد أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها نقلت لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل نقلت لنا أعمال الناس؟ لاحظوا هذه الدقة في الحديث، قالت: (خرجنا) (فمنا) ولم تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكرت معه أفعال الناس، فما وجه استدلال المؤلف بحكاية عائشة لحال إهلال الناس؟ المؤلف يسوق هذا مستدلاً لأنواع وأوجه الأنساك الثلاثة، بأي شيء؟ كأنها تقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا ومنا ومنا وهو يعلم ذلك وأقرنا عليه، فيكون الاستدلال هنا بالإقرار، ولكن النص الصريح أولى وأقوى، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: (لما جئنا ذا الحليفة قال صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يهل بالحج فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة فليفعل، ومن أراد أو ومن شاء أن يهل قارناً فليفعل) أي الروايتين أقوى في التشريع؟! خطابه: من أراد أن يفعل فليفعل؛ لأن هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإلى هنا يتفق الجمهور على وجوه الأنساك الثلاثة، وأوجه الإحرام (لبيك اللهم حجاً) للمفرد، (لبيك اللهم عمرة) للمتمتع إن حج من سنته، (لبيك اللهم حجاً وعمرة) لمن قَرَن النسكين معاً فهو قارن، وعلى هذا تتفق كلمة العلماء شرقاً وغرباً. ولكن عندنا مباحث مطولة في أمرين: صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، هذه واحدة، المبحث الثاني: إذا كانت الأنساك ثلاثة، فهل هي على المساواة، أو هناك ما هو أفضل من غيره؟

بماذا أهل النبي صلى الله عليه وسلم؟

بماذا أهل النبي صلى الله عليه وسلم؟ تبقى المباحث عندنا مبحثان: الأول: صفة حجه صلى الله عليه وسلم، والشوكاني في نيل الأوطار، وابن حجر في فتح الباري، وابن القيم في زاد المعاد، والطبراني وغيرهم، أطالوا جداً النقاش والإيراد، ولا يتسع الوقت لدراسة كل هذه الأقوال وإيرادها في هذا المجلس. وخلاصة الأمر في حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءت نصوص صريحة صحيحة منها حديث عائشة المتفق عليه، (حج النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً) وجاءت أحاديث أخرى وفيها: (حج متمتعاً) وابن القيم رحمه الله يجمع بين تلك الروايات بأنه: حج قارناً، فالروايات جاءت في حج النبي صلى الله عليه وسلم بالأوجه الثلاثة، فبعضهم قال: إن بداية حجه صلى الله عليه وسلم أول ما أحرم كان -على رواية عائشة - مفرداً الحج (لبيك اللهم حجاً) ثم بعد ذلك جاء الحديث الصحيح الصريح: (أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي المبارك -وادي العقيق الذي في ذي الحليفة- ثم قل: عمرة في حجة) إذاً عندما أنشأ الحج كان مفرداً، ثم بتوجيه من جبريل عليه السلام: أدخل العمرة مع الحج فصار قارناً، فمن قال حج مفرداً نظر إلى أول أمره، ومن قال: حج متمتعاً فبهذا الحديث، وفيه القران أيضاً، قالوا: إنهم كانوا يسمون القران تمتعاً؛ لأن التمتع هو أن يأتي بالحج والعمرة في سفرة واحدة، فيأتي بالعمرة وبعد أن ينتهي منها يجلس، ثم يحج، ويجمع النسكين في سفر واحد، وكذلك القارن، فإذا كان الأمر كذلك فمن قال: متمتعاً أراد بالتمتع القران بجامع التسمية. إذاً: كل الروايات التي جاءت في نوعية حجه صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا تعارض فيها؛ لأنه في بداية الأمر كان مفرداً، ثم طرأ على ذلك القران، والقران يطلق عليه التمتع، إذن: انتهينا من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند الجمهور: القران. ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها (فأما من حج أو أهل بالعمرة فإنهم حلوا حينما وصلوا) يعني: أدوا عمرتهم عندما وصلوا، فطافوا للعمرة، وسعوا، وحلقوا، وتحللوا، ولبسوا، وأما من أهل بالحج أو به وبالعمرة فلم يحلوا حتى إذا كان يوم النحر، ويوم النحر يأتي بعد عرفات، وبعد تمام الحج، فعلى هذا النص الناس على طبيعتهم ما طرأ عليهم جديد، ولكن وجدنا نصوصاً أخرى، من أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل مكة وطاف طاف الجميع معه، من كان متمتعاً فلعمرته، ومن كان مفرداً أو قارناً فللقدوم، ثم ذهبوا جميعاً وسعوا، فمن كان معتمراً سعى سعي العمرة، ومن كان مفرداً أو قارناً سعى سعي الحج مقدماً بعد طواف القدوم، بقي الحلق والتحلل، أهل العمرة تحللوا ولبسوا، وأهل الإفراد والقران لم يتموا نسكهم وكان عليهم أن يبقوا إلى يوم النحر، كما قالت عائشة، وهذا الأمر طبيعي. ولكن وجدنا في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن سعى وسعى الجميع معه كل على نيته قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) إذن أهل العمرة على عمرتهم من أول، والخطاب موجه للمفردين والقارنين، فمنهم من كان معه الهدي فبقي على إحرامه، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي على إحرامه ولم يتحلل، ومن لم يكن ساق الهدي معه وهو محرم بالحج؛ مفرداً أو قارناً توجه إليه الخطاب بجعلها عمرة، فتحللوا، فمن لم يسق الهدي وكان مفرداً بالحج أو قارناً بين النسكين عليه أن يتحلل لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا أمر جديد على الناس جميعاً، في الإسلام وقبل الإسلام، فتأخر بعض الناس عن التحلل، فوجد فيهم ثقلاً عن المبادرة فقال لهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لحج وأحرم بدون هدي (ولجعلتها عمرة) كأنه يقول: ما منعني أن أتحلل كما أمرتكم إلا لأني سقت الهدي، ولما سئل: (ما بال الناس حلوا من إحرامهم، وأنت لم تحل يا رسول الله؟! قال: لقد سقت الهدي، ولبدت شعري) فسوق الهدي منعه من التحلل، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ومحله يشمل: الزمان والمكان، فالمكان: منى، والزمان: بعد الرجوع من عرفات وهو يوم العيد. ينقل بعض العلماء أن سبب استثقال بعض الصحابة: هو مخالفة هذا الأمر لما اعتادوه من قبل فقالوا: (أي الحل يا رسول الله؟! قال: الحل كله) ليس فقط لبس الثياب، كل ما كان محظوراً على المحرم لإحرامه صار حلالاً، ومن ذلك النساء، قال: (الحل كله، فقال قائل: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى، وذكره يقطر -يعني: ونحن حدثاء عهد بالنساء، وما كانوا عهدوا ذلك من قبل- فقال: لو استقبلت من الأمر ... ) إلى آخره.

المفاضلة بين الأنساك الثلاثة

المفاضلة بين الأنساك الثلاثة وقد اختلف العلماء في أي الأنساك أفضل، فقال بعضهم: بأنه لا يصح إلا التمتع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المهلين بالحج أن يقلبوها إلى عمرة، وقال: (لو استقبلت) فعلى كل من يستقبل الحج أن يأتي متمتعاً، وهذا فيه تطرف، وقال الآخرون: الأنساك لا زالت قائمة بأنواعها الثلاثة ولكن الأفضل موضع نظر، كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في محادثة لما سئل عن الأفضل؟ قال: الأفضلية أمر هين، ولكن ترسيخ وتثبيت الأنساك الثلاثة هو الأهم. فإذا جئنا إلى أقوال العلماء فيما هو الأفضل، نجد هناك من يقول: الأفضل هو الذي بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ بالحج مفرداً، ونجد من يقول: الأفضل ما انتهى به نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى نسكه بالقران، ونجد آخر يقول: الأفضل ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو التمتع. أردت بهذا أن أبسط القضية لنرى مواقف الأئمة الأجلاء من النصوص الواردة، ومن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، لنرى على أي شيء يبني الأئمة مذاهبهم، فمن قال: الإفراد أفضل، لم يأت به من عنده، ولكن أخذ بابتداء حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه الأنساك الثلاثة، ولا يختار لنفسه إلا الأفضل، وقال بهذا مالك والشافعي، ونجد الآخرين يقولون: الختام هو المهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه الإفراد، والله سبحانه وتعالى اختار لرسوله صلى الله عليه وسلم القران، فالذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أولى من الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، أجاب على ذلك أصحاب الإفراد وقالوا: إن مجيء جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره إليه: (قل: عمرة في حجة) هذا تعليم جديد، وأمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه المفردين أن يجعلوها عمرة، هو أمر جديد، يقضي على أمر قديم، وليس لعينِ النسك في ذاته، فهو: لعلة وقصد، وليس لأفضلية القران أو التمتع، نقول: ما هي العلة التي عندكم؟ قالوا: يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام، لا يرون العمرة في أشهر الحج) حتى يتساءل أحد الصحابة قائلاً: أيذهب أحدنا إلى منى وكذا؟ قال: (فقدموا صبح رابعة) يعني: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه -كما قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله) - اليوم الرابع من ذي الحجة في الصباح، واليوم الرابع من ذي الحجة من أيام الحج، فأمرهم بالتحلل من العمرة، وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يأتون بصفر بدل المحرم، وهو النسيء، فيقدمون صفر؛ لأنه يحل فيه القتال، ويؤخرون المحرم؛ لأنه يحرم فيه القتال، لئلا يجتمع عليهم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فتطول عليهم المدة؛ فأخروا المحرم وقدموا صفر، وكانوا يقولون: (إذا انسلخ صفر، وبرأ الدبر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر) بمعنى: إذا خرج زمن الحج (وبرأ الدبر) والدبر: هو الجرح في ظهر البعير، من الرحل من طول المشوار، وهذا يحتاج إلى مدة يرتاح فيها (وعفا الأثر) والأثر هو: وطء الأقدام في السفر، وهذا لا يعفى أثره مع كثرة الرواحل إلا بعد مدة تعميها الرياح وتغطيها، فكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، قالوا: فلذلك أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة. قول الراوي: (كانوا يرون فأمر) يتفق علماء اللغة بأن الفاء هنا سببية، أي: بسبب ما كانوا يعتقدون، وبسبب ما كانوا يقولون، أمرهم؛ ليقضي على هذا القول وهذا الاعتقاد، ثم قال: (دخلت العمرة في الحج هكذا: وشبك بين أصابعه) وقوله: (دخلت العمرة في الحج) أفي القران؟ أم دخلت العمرة في أشهر الحج في الزمان؟ الاحتمالان واردان، وعلى هذا يقول الذين قالوا بالإفراد: إن قران رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الطريق بأمر جبريل؛ ليدل على جواز العمرة في أشهر الحج، على خلاف ما كانوا يعتقدون، وأمره صلى الله عليه وسلم بالتحلل وجعلها عمرة للعالم كله وليُعلن ذلك للجميع، وأصحاب القران يقولون: هذه لا تكفي، لأنه اعتمر صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الحج: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، وكلها كانت في أشهر الحج، وهذا يكفي لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، وقال الآخرون: بل هذا لا يكفي؛ لأنها وقعت في حوادث متفرقة وعند جماعات محدودة، ولو كان ذلك بياناً كافياً لما توانى الناس، ولما تساءلوا وقالوا: أيذهب أحدنا إلى منى وهو كذا؛ إذاً: لم يكن عندهم بيان كافٍ يزيح ما كانوا قد اعتادوه من قبل؛ فلذلك تعين البيان في هذا الجمع، وكان قاضياً على ذلك الاعتقاد. إذاً: القران والأمر بالتحلل إنما كان لتشريع جديد يقضي على الماضي، وقالوا أيضاً: الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، وباشروا بأيديهم، ماذا فعلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل جاءوا متمتعين، كما تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا قارنين كما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا مفردين كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وباتفاق الأمة فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه في خلافته حج مرتين مفرداً، وعمر في خلافته -عشر سنوات- حج مفرداً، زيادة على ذلك وجدنا عثمان رضي الله تعالى عنه -وهو ثالث الخلفاء الراشدين- في أثناء الطريق ينهى عن التمتع، وقد جاء في رواية أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه وهو يعلف بقرات له فقال: (أما رأيت ما يقول عثمان؟ قال: وما ذاك؟ قال: ينهى عن التمتع، يعني: التمتع بالعمرة إلى الحج، فذهب علي -يقول الراوي: لا أنسى أثر العجين على يده- فدخل على عثمان وقال: أتنهى عن التمتع! وقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أردت أن يفرد الناس الحج بسفر مستقل) أي: لا أريد معتمرين يمكثون في مكة بعد العمرة، ومنها يحرمون للحج، فقال: (وجدنا عمر قبل عثمان ينهى عن القران، قيل: يا عمر! كيف تنهى وتعلم أننا حججنا مقرنين الحج والعمرة؟! قال: أردت أن يكثر الوافدون على البيت) يعني: ما يريد أن يجعلهم يرمون عصفورين بحجر، لا، ولكن يأتي إلى العمرة بسفر ويرجع، ثم يأتي إلى الحج بسفرة أخرى. إذاً: وجدنا بداية إهلاله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً، ثم قران وكان لأمر يقتضيه البيان، ثم وجدنا الخليفتين عمر وعثمان ينهيان: أحدهما عن القران، والآخر عن التمتع، فما هو الذي بقي عندنا؟

أفضل الأنساك أيسرها على الحاج

أفضل الأنساك أيسرها على الحاج ومع هذا كله يرى كثير من المتأخرين: أن أفضل تلك الأنساك الثلاثة في الوقت الحاضر ما كان أيسرها على المهل، فانظر إلى ظروفك، وإلى وضعك، وما هو الأيسر عليك فيكون هو الأفضل في حقك، ونجد بعض الناس يأتي إلى مكة في اليوم السابع أو في ليلة الثامن، فيأتي متمتعاً، ويرهق نفسه: يطوف ويسعى ويتحلل، ومن الغد يهل بالحج، لكن مثل هذا ما دام أنه قد جاء متأخراً فلو دخل مفرداً وطاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج مقدماً، وإن شاء أخره، ثم يتم حجه على راحته، ويقال: لو ضاق الوقت أكثر من ذلك فهل عندهم متسع للعمرة؟ لا. إذاً: القول الأخير: كما سمعنا من والدنا وشيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن الأفضلية أمر سهل، ولكن المهم تثبيت الأنساك الثلاثة، ولا أنسى مجلساً لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه مع سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في خيمته بمنى صبيحة يوم العيد، وقد جرت العادة أن المشايخ يُسلم بعضهم على بعض، وكان من ضمن خيام المشايخ خيمة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، والشيخ عبد الملك، والشيخ عبد اللطيف، وكبار المشايخ، فمررنا -وكنت بفضل الله في شرف صحبة الشيخ الأمين - فسلم على الشيخ محمد وهم يشربون القهوة، فإذا بالشيخ محمد يسأل الشيخ الأمين: بلغني يا شيخ -وكان يوقره جداً- أنك حججت مفرداً، ألكونه أفضل عند مالك؟ فقال رحمه الله: نعم يا سماحة الشيخ! جئت مفرداً وقصداً فعلت ذلك، ولكن ليس لكونه مذهب مالك، قال: وقصداً فعلت ذلك، لماذا؟ قال: لأنه بلغني أن هناك أشخاصاً متطرفين، لا يكتفون ببيان الأمر الذي يرونه، ويقولون: إن التمتع أفضل، بل يجبرون الناس عند المروة على الحلق، ويحللونهم من الإفراد بالحج، وأنا لا أملك السلطة لأمنع هؤلاء، والناس يأتون من أقطار الدنيا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يهل بما تيسر له من نسك، وما وجدنا أحداً قط أمر أحداً بهذا عملياً، ثم لقد جاءت النصوص عن أبي ذر وعن غيره -فليراجع طالب العلم بداية المجتهد- لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإدخال العمرة في الحج، قام رجل وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني دخلت العمرة في الحج هكذا- قال: لا، بل للأبد وأبد الأبد) ومع ذلك، لم يقم أحد يلزم الناس بأن يتحللوا من الإفراد إلى العمرة، وأنا لا أملك السلطة، فجئت مطبقاً لذلك عملياً، ومن رآني أو سألني فهذا جهدي، وما كان بعد ذلك فلا أملكه، ثم يا صاحب السماحة! إن النصوص كذا -وأورد كل ما ذكرته وأضعاف أضعافه معه- وسماحة الشيخ محمد الله يغفر لهم جميعاً ويرحمهم ويجزيهم عنا أحسن الجزاء مصغ إلى آخر كلمة، فما زاد على أن قال: أحسنت جزاك الله خيراً. إذاً: نحن نعيد هذا القول، أو نورد هذه القضية لأننا نعلم أن كثيراً من طلبة العلم قد يتطلع إلى مثل ذلك متأثراً بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) ويتركون بقية الملابسات الأخرى، والواجب على طالب العلم ألا يستقل برأيه، وإنما يرجع إلى أقوال العلماء سواءً كانوا من أهل الحديث، أو كانوا من الفقهاء ومن الأئمة الأعلام، ويأخذ أقوال الجميع ولا ينفرد برأيه. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1] إذا أراد المحرم أن يحرم بالحج أو العمرة فيشرع له أن يهل بالنسك، والإهلال هو التلبية، ويشرع رفع الصوت بها، ولها معان عظيمة جليلة، كإفراد الله تعالى بالتوحيد والعبودية، ونحو ذلك من المعاني، وعند الإهلال يجب على الناسك أن يتجرد من ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، ويسن له الاغتسال، وبعد الاغتسال يلبس ثياب الإحرام، وعليه أن يجتنب لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف، ولا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس.

الإهلال بالحج والعمرة وصفته

الإهلال بالحج والعمرة وصفته قال المؤلف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) متفق عليه] . بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت للإهلال، وكأن كل مريد للحج قد وصل إلى ميقاته، شرع في بيان ميقات أهل المدينة؛ وذلك لقرب المدينة من مكة، وأراد أن يبين لنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الظهر في هذا المسجد النبوي الشريف أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة ووصلها قبل العصر وصلى العصر قصراً ركعتين وبات ليلته هناك، ثم أهلّ بنسكه.

تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم

تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات. وقد تقدمت الإشارة إلى أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء. وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء -والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك بذلك كله. ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه تعارض؟ قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر بما سمع. إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك. وعلى هذا: فمن قدّم الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض المحظورات وقد كان في عافية من ذلك. وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (خذوا عني مناسككم) ؛ علمنا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.

معنى الإهلال بالنسك

معنى الإهلال بالنسك وقوله: (أهل) أي: رفع صوته مهلاً بنسكه، والإهلال: مأخوذ من التهليل وهو رفع الصوت، والتهليل مأخوذ من الهلال، يقول أهل اللغة: إن أسماء المعاني مأخوذة ابتداءً من أسماء الذوات، أي: المحسوسات، فالاسم يوضع أولاً للذات المحسوسة، ثم ينقل منها إلى المعنوي، كما تقول: أذن الآذن بكذا، وفلان مأذون بكذا، فإن أصل مادة (أذن) هي الأذن؛ لأنها يلقى فيها الأمر الذي أُذن فيه للسامع بما أُذن، فكذلك الإهلال، فقد كانوا إذا رأوا هلال الشهر رفعوا أصواتهم بالتهليل، أي: إعلاناً برؤية الهلال لهذا الشهر، ثم انتقل الاستعمال لكلمة الإهلال والتهليل لكل صوت مرتفع، ولهذا يقال للصبي عند ولادته: أهلّ باكياً، إذا استهل صارخاً ثبتت حياته وثبت ميراثه ولو مات بعدها بلحظة. وعلى هذا فقوله: (أهلّ النبي من عند المسجد) أي: رفع صوته بالتهليل بالنسك الذي أراده، وهنا يقول العلماء: إن عقد النية لجميع أعمال العبادات يكون سراً في القلب إلا في أحد النسكين، فله الحق في أن يتلفظ به رافعاً صوته: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم عمرة وحجاً، وما عدا ذلك من صيام وصلاة وزكاة وغير ذلك فلا يرفع فيها صوته ولا يتكلم بالنية إلا بقدر ما يسمع به نفسه توكيداً لما انعقد عليه القلب.

رفع الصوت بالإهلال

رفع الصوت بالإهلال قال المؤلف رحمه الله: [وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان] . الخبر الأول: في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل. والخبر الثاني: في حق أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهنا نجد جبريل عليه السلام مع رسول الله في هذه الحجة، فنجده صلى الله عليه وسلم يقول: (أتاني جبريل) ، فهو يأتيه بكل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من كتاب الله قرآناً، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك. فهنا أتاه جبريل وأمره، ولم يلقِ الأمر جزافاً، بل قال أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، وهناك رواية: (بالتلبية) ؛ لأن الإهلال هو التلبية، والتلبية هي الإهلال، ورفع الصوت من شعار الحج، وهذا خاص بالرجال، أما النسوة فيسمعن أنفسهن فقط.

من معاني التلبية

من معاني التلبية وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا سامع مجيب مستعد لما تأمرني به. وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟ قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] ، ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) ، فأبلغ الله سبحانه وتعالى بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر. فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم لبيك، تكرار للتأكيد. وقوله: (لا شريك لك لبيك) ، هذه هي عقيدة التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم، فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا الحج ولا في غيره. ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول: موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، و (رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛ لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة) : التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله. إذاً: ما دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك. والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال. ومن المعلوم أن الأذان وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع: الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة) ؛ لأن الله أكبر مما أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه. وهكذا يكون الإمعان في التلبية بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.

التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال

التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: تجرد لإهلاله واغتسل) ، رواه الترمذي وحسنه] . التجرد: هو الخروج من هذا اللباس العادي، وإذا ما تجرد فلابد أن يستتر فيلبس الإزار والرداء بعد التجرد، وقبل اللبس يغتسل، ولذا اتفق الجميع على أن من شروط الإحرام: التجرد، ولكنه ليس شرط صحة، فإذا أهل ولم يتجرد صح إهلاله وانعقد نسكه، ثم يجب عليه أن ينزع ما هو لابس من ثيابه، فإن لم يفعل فتلزمه فدية. ويصح أن يتجرد الإنسان قبل الميقات أو في الميقات، أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو أنه تجرد في بيته في المدينة واغتسل ثم خرج إلى ذي الحليفة بإزاره وردائه، وطيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. إذاً: السنة والواجب على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وإذا نظرنا إلى هذا العمل نجده من غرائب حكمة التشريع فحينما تأتي وفود المسلمين من أقطار شتى ويجتمعون في المدينة، فتجد كل جنس في كل قطر له لباس خاص به يميزه عن غيره، ولو رأيته بلباسه لعرفت من أي الأجناس أو من أي الأقطار هو، فإذا ما أرادوا الحج فلا يجتازون الميقات إلا وقد خرجوا من تلك الألبسة وتوحدوا بلباس واحد إزار ورداء، وهناك تكون قد ذهبت الفوارق، وألغيت العادات، وظهر المسلمون أمة واحدة في شكل واحد، توحدت أشكالهم كما توحد شعارهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. وفي هذا التجرد خروج من مظاهر الدنيا، سواءً كانت مظاهر غنى أو فقر، مظاهر إقليمية أو جنسية أو غير ذلك، والإسلام في ذاته لا يعترف بشيء من هذا إلا للتنظيم فقط: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، للتعارف والتنظيم فقط، والحقيقة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . فهنا حينما يريد الحاج أو المعتمر أن يهل فإن عليه قبل ذلك أن يتجرد، فإذا تجرد اغتسل، وكما أسلفنا فإن التجرد شرط للإحرام، ولكن إذا لم يفعله جبر بدم، وسيأتي أن البعض قد يعذر في تجرده من بعض ما يحتاج إليه من لباس، فيترخص ويدفع قيمة ذلك الترخص. ويسن كذلك الاغتسال، وقد سن الاغتسال للمحرم في عدة مواطن، وكلها -كما أسلفنا- سنة حسب ما تيسر له، وهي: عند إرادته الإحرام بعد التجرد، وعند دخول مكة، وعند الوقوف بعرفات، فقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن، فإذا لم يتيسر له أن يغتسل توضأ وأجزأه ذلك، وإن كان معذوراً في استعمال الماء أو لم يجد الماء تيمم. ثم إن أهل دون أن يغتسل ودون أن يتوضأ ودون أن يتيمم فإن إهلاله صحيح؛ بل إن المرأة الحائض أو النفساء عند الإهلال تغتسل للإهلال وليس للحيضة، فإذا جاءتها الحيضة مثلاً في الصباح فتهل في المساء ولا زالت بحيضتها، والسنة أن تغتسل لا لحيضتها ولكن تطهراً واستقبالاً لهذا النسك، كما جاء (أن أسماء بنت عميس -زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما- نفست -أي: ولدت- في ذي الحليفة ليلة مبيته صلى الله عليه وسلم بها فجاء أبو بكر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مرها فلتغتسل) ، وبين له أنها تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من نفاسها، وكذلك مثلها صاحبة الحيضة. إذاً: الإهلال ينعقد ويصح ولو لم يغتسل، ولو لم يتوضأ، ولو لم يتيمم، ولكن الغسل هو السنة، وكذلك مس الطيب في البدن لا في الثياب، على ما سيأتي إن شاء الله. إذاً: على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وأن يغتسل لإهلاله، وأن يلبس إزاراً ورداءً أو ما ينوب عنهما، كما سيأتي إن شاء الله.

شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)

شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب) قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . بعدما قدم المؤلف رحمه الله التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟) وهذا الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس) ، أي: سُئل عن بيان ما يجوز للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا. وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال، ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل، وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب. ومن مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] ، أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون. وكذلك من الزيادة في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر. وهنا سُئل صلى الله عليه وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه، وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] . والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده أهون عليه، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120] ، فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه. (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] . ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة، فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) ، وكما قال جرير: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه الأبيات: ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فسلطان الهوى أعز من سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك وامرأة، فقال: خذوا الملك كله. فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني: وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز فدمه متحرز حرام لكنها تقتله. فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا، حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف: اليوم يبدو جله أو كله وما بدا منه فلا أحله وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟ وصل إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون المغفرة من الذنوب؟ فقالوا: هذا كلام صحيح. فقال: إن ثيابكم التي تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي، فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟ فقالوا: وما هو الحل إذاً؟ قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء. فقالوا: لقد أصبت. وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين: إما أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا. وإما أن يشتري ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت. ثم جاء الإسلام وكرم الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) ، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة بعدما فتحت مكة بسنة. إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟ فالسؤال منهم عما يلبس المحرم هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها فالبسوا ما شئتم. وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله (لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري. وقوله: (لا تلبسوا القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف، فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو قميص. ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [2]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [2] إذا أراد المحرم أن يلبس ثياب الإحرام فعليه أن يجتنب أموراً، منها: لبس القميص، والعمامة، والسراويل، والبرانس، والخفين، إلا إذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين، على خلاف بين العلماء في ضرورة قطعهما أسفل من الكعبين، وكذلك لا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب، إلا أنها لا تلبس النقاب ولا القفازين. ويمنع المحرم من الطيب، على تفصيل وخلاف بين العلماء مذكور في بابه.

النهي عن لبس القميص في الإحرام

النهي عن لبس القميص في الإحرام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص) أي: على الهيئة المعهودة، ولو أن إنساناً وجد إزاراً ولم يجد رداء، فأخذ ثوبه الذي كان يلبسه قبل أن يتجرد وجعله على كتفيه وارتدى به فلا مانع من ذلك، ولو أن إنساناً أخذ (دراعة) -وهي معروفة عند المغاربة والشناقطة وهي كبيرة مثل الملحفة- وجعلها إزاراً فلا مانع من ذلك؛ لأنها مخاطة من الأمام ومن الخلف. إذاً: المراد هو النهي عما يحيط بالجسم على هيئته بأي نوع من الإحاطة، سواء كانت بخياطة، أو بدبابيس، أو بمسامير، أو بتلصيق ونحو ذلك، حتى هذا الذي يسمونه: التريكو، فما دام محيطاً بالجسم فهو ممنوع. ويدخل في مسمى القميص كل ما يحيط بالبدن: كالفنيلة، والجاكيت، والبالطو، والجبة، ونحوها.

النهي عن لبس العمائم للمحرم

النهي عن لبس العمائم للمحرم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا العمائم) العمائم: جمع عمامة، قالوا: العمامة رمز لتغطية الرأس، وكل ما غطى الرأس فهو مندرج تحت العمامة: كالطاقية، والقلنسوة، والكسكيتى، والبرنيطة إلخ، فكل ما يجعل لباساً خاصاً للرأس فهو ممنوع. وهنا يقول العلماء: قوله: (لا تلبسوا القمص) أي: المحيط وليس المخيط، أو المخيط على هيئة الجسم، وفي الرأس لا يغطى الرأس بالعمامة، وكل ما يغطي الرأس فهو مندرج تحتها، ولو أن إنساناً معه متاع فحزمه ووضعه على رأسه وكان رخواً، فدخل الرأس في ضمن المحمول، ونزل على جانبي الرأس وغطاه إلى أذنيه، فإنه يكون قد غطى رأسه، بحمل، فهل يكون داخلاً في معنى العمامة؟ يقول بعض العلماء: إذا قصد بهذا الوضع تغطية رأسه من شمس ونحوها فهو لابس، وإن كان فيه متاعه وحمله ونزل إلى هذا الحد فلا يقال له: لابس له، إنما يقال له: حامل متاعه. ولو أنه أخذ شريطاً على منتصف الرأس إلى أسفل الحلق لجرح أو لصداع أو لأي حاجة من الحاجات، فهذا الذي أخذ شريطاً عرضه (5سم) ونزل به إلى أسفل حلقه يقال له: رابط رأسه، فلا يكون لابساً ولا يكون مغطياً. وإذا نام على فراش وثير ولين وغطس فيه رأسه، فلا يقال: لبس المخدة، ولا يكون مغطياً رأسه وهكذا. إذاًَ: المنع من تغطية الرأس بعموم مسمى العمامة وما يلحق بها، كالغترة ونحوها، وإذا كان في الحر أو في المطر وظلل رأسه بالمظلة، فهذا يقال عنه: استظل بالمظلة. وأبعد من هذا يقول النووي: لو وقف الحاج في الخيمة، والخيمة واطية، فدخل رأسه في الخيمة ورفعها، فهل يكون غطى رأسه أو حمل الخيمة على رأسه؟ يقال: رفع الخيمة على رأسه. أريد أن أبين بهذا أن الفقهاء عند هذه النقاط الأساسية يفرعون عليها بتوسع، ولهذا يؤكد العلماء ضرورة أو حتمية دراسة الفقه قبل دراسة الحديث لطالب العلم إذا أراد أن يتوسع في معرفة الفقه، ويكون الحديث تثبيتاً وأدلة لما قرأ من الفقه، وإذا درس طالب العلم الحديث فلا يقتصر على كتب الحديث مهما كان الشرح فيها متوفراً واسعاً، وللأسف لم أجد كتاباً شارحاً لبلوغ المرام شرحاً وافياً يكتفى به أو يستغنى به عن غيره. ولا يمكن أن تقف على حقيقة شرح بلوغ المرام إلا في الأحاديث التي رواها البخاري أو هي من المتفق عليه، فترجع إلى شرح المؤلف وهو فتح الباري على صحيح البخاري، فتجد الكلام وافياً على ذلك الحديث في ذاك المكان، أو ترجع إلى شروح السنة، فحينما يقول: رواه النسائي أو أبو داود أو الترمذي، فترجع إلى مراجع الحديث وتقرأ الشرح هناك موسعاً، فتستطيع أن تلم بحقيقة الأحاديث أو النصوص الواردة في بلوغ المرام. ومن وراء ذلك المجاميع والموسوعات الفقيه، مثل المجموع للنووي، وهو خاص بمذهب الشافعية، ولكنه يفرع ويذكر مذاهب الأئمة الآخرين، وكذلك المغني لـ ابن قدامة، فإنه وإن كان خاصاً بالحنابلة إلا أنه أيضاً يفرع ويأتي بأقوال بقية المذاهب. إذاً: العمامة هنا رمز لكل ما يغطي الرأس، ثم نأتي إلى تحقيق المناط فيما هو غطاء للرأس.

نهي المحرم عن لبس السراويلات

نهي المحرم عن لبس السراويلات قال صلى الله عليه وسلم: (ولا السراويلات) ، السراويلات: جمع سروال، وهو ما يسمى باللباس، وهذا من تسمية الخاص باسم العام؛ لأن كلمة (لباس) تطلق على كل ما يلبس في الجسم من فنيلة أو قميص أو دراعة أو نحو ذلك، فكل هذا لباس، ولكن أصبح العرف يخصص كلمة (لباس) بما لبُس في موضع الإزار، وهو ما كان له ساقان على ساقي القدمين، فهذا لا يلبسه المحرم؛ لأن فيه إحاطة بهذا الموضع من البدن. وهذا يشمل ما استجد عند الناس من السراويل القصيرة وهي ما يسمى: (كلسيون) أو ما إلى ذلك، فكل هذا داخل تحت مسمى السراويلات، وقد كان السروال القصير موجوداً عند السلف وهو ما يسمى: التبان، وقد جاء في خبر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تسمح لمن يرحلها أن يلبس التبان تحت الإزار؛ وذلك تحفظاً من أن تنكشف عوراتهم. إذاً: يندرج تحت السراويل: البنطلون، والكلسيون، والتبان، وكل ما يلبس تحت الإزار بساق طويل أو بدون ساق، فهذا ممنوع لبسه للمحرم.

نهي المحرم عن لبس البرانس

نهي المحرم عن لبس البرانس قال صلى الله عليه وسلم: (ولا البرانس) ، البرانس: جمع برنس، ويكثر وجوده في المدينة أثناء الحج إذا كان الوقت شتاءً، وأكثر من يلبسه هم المغاربة والليبيون، وهو كما قالوا: كل لباس خيط به غطاء للرأس؛ لأن البرنس معه مثل المثلث يغطى به الرأس، وهو مخيط من عند رقبة اللباس، والبرنس شبيه بالعباية والجبة ونحوها، ولكن غطاء الرأس مخيط فيه، فإذا كان وقت الشتاء غطى رأسه، وإذا لم يرد تغطية رأسه خلعها ورماها وراء ظهره، فهذه البرانس سواء غطى رأسه بالغطاء الموجود معها أو لم يغطِّ رأسه، فإنها ممنوعة. والفرق بين القمص والبرانس: أن القمص محدودة، فالقميص يصدق على الفنيلة، ويصدق على القميص القصير، لكن البرانس واسعة، يدخل فيها الدراعة، ويدخل فيها المشالح، ويدخل فيها اللباس الفضفاض كما يوجد في لباس البادية، وهو الثوب ذو الأكمام الواسعة الطويلة. إذاً هذه البرانس رمز لكل لباس فضفاض على الجسم.

حكم لبس المحرم للخفين

حكم لبس المحرم للخفين قال صلى الله عليه وسلم: (ولا الخفاف) ، الخف لباس القدمين، والأصل فيه أن يصنع من الجلد، وأن يكون طويلاً بحيث يغطي الكعبين ويتجاوزهما، وهو الذي يجوز المسح عليه في الوضوء. فالخفاف التي يصح المسح عليها في الوضوء ممنوعة في الإحرام، وسواء كان الخف من الجلد كما هو الأصل، أو كان من القماش خفيفاً أو متيناً في هذا الباب، بخلاف المسح في الوضوء فإنه يجب أن يكون قوياً ثخيناً، سواء كان من صوف، أو من قطن، أو من كتان، أو من نايلون، أو من بلاستك، حتى قال النووي في الممسوح عليه: ولو من زجاج يكشف البدن. فإذا كان محرماً فلا يلبس الخف، ولكن سيأتي الاستثناء في صورة ما. إذاً: يمنع المحرم من لبس الخفين في القدمين، ويلبس النعلين، ولو مشى حافياً فهو وما أراد، لكن تكريماً له ولأجل الحر والبرد والأمن من الحجارة ومن الشوك ونحوها يلبس نعلين، وأصل النعل ما كان على قدر أسفل القدم، ويكون ظاهر القدم مكشوفاً، وذلك مثلما يسمونه: (زنوبة) ، وهي المصنوعة من البلاستك، ونحوها، فإذا كان ظهر القدم مكشوفاً بطبيعة التركيب والتفصيل فهو النعل، أما إذا كان مغطى وساقه مرتفعة مع ساق الرجل إلى ما فوق الكعبين. فهذا هو الخف.

حكم من لم يجد نعلين عند الإحرام

حكم من لم يجد نعلين عند الإحرام ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، فإذا أراد أن يحرم وأراد أن يلبس ثياب الإحرام، فإن وجد نعلين فليلبسهما، وإن لم يجد نعلين وعنده خفان فله أن يلبس الخفين ولكن بشرط أن يقطع ساق الخفين من تحت الكعبين. أظنه ما يسمى الآن (بالكندرة النصف) وهناك (الكندرة) العسكرية التي يلبسها الجندي إلى نصف الساق، وهناك المدنية التي تكون تجدها صغيرة قصيرة من تحت الكعبين وتسمى: نصف رباط. فهنا الخف لباس على قدر الرجل مثل الجورب، وساقه يمتد إلى أعلى فوق الكعبين، فإذا لم يجد النعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وكيف يتحقق عدم وجود النعلين؟ قالوا: بأن تكون غير موجودة في السوق بالكلية، أو كانت موجودة ولكن البائع عرف أن هذا محرم فرفع عليه في قيمتها، كأن تكون بخمسة ريالات مثلاً، فرفع قيمتها إلى عشرة أو إلى عشرين ريالاً، فليس بلازم أن يشتريها وفيها هذا الفحش، أو كانت رخيصة كأن تكون بريالين لكن لا توجد عنده قيمتها، فتكون غير موجودة في حقه. وهنا يقول العلماء: لو جاء شخص وقال له: يا أخي! أنا أعطيك نعلين تحرم فيهما هبة مني لك، فهل يجب عليه أن يأخذها أم لا؟ قالوا: لا يلزمه قبولها، مخافة المنة عليه، ولو جاء وقال: أعيرك إياها، فلا يوجد مانع من أن يأخذها؛ لأن العارية مردودة، يعير بعضهم بعضاً، ولو قال: أؤجرها لك، وكان عنده الأجرة، فعليه أن يستأجر. إذاً: من لم يجد بمعنى تعذر وجوده، أو وجد مع مشقة عليه في زيادة السعر، أو وجد ولكن بمنة من الغير؛ لأنهم قالوا في الحج: إذا كان هناك إنسان غير مستطيع، وجاء آخر وقال: أنا أعطيك مالاً لتحج هبة مني لك، فليس بلازم أن يقبل؛ لأنه فيما بعد قد يمن عليه، ويقول: أنا حججت لك أنا أعطيتك لكن رب العزة سبحانه لا يمتن علينا، والله عز وجل إذا لم يعطه ولم يجعله مستطيعاً فقد أسقط عنه الواجب. فمخافة المنة على الإنسان، ومحافظة على كرامة الإنسان عند الله، يسقط الفرض عنه، وكأنه يقول: يا عبدي! لا تتمنن على عبدي فلان، أنا أولى به منك، أنا أعطيه بغير منة، وأعطيه ما يستحق وأتفضل عليه بدون شيء. وفي الصدقة قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، فلا فائدة من صدقة هذا الذي سوف يؤذي المسكين ويكسر خاطره. إذاً: من لم يجد بالكلية، أو وجد ولكن بما يشق عليه فيه فكأنه معدوم، فإذا كان عنده خفان فليس هناك مانع من أن يلبسهما ولكن بشرط أن يقطعهما، ولماذا يقطعهما؟ حتى يصبحا في صورة النعلين، أي: كاشفين ظهر القدم ونازلين عن الكعبين. ومسألة قطع الخفين وقع فيها نزاع بين العلماء رحمهم الله، فإن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (وليقطعهما) ، قيل: في المدينة قبل أن يلبس المحرم، حين بين لهم ما يلبسون، وفي عرفات خطب صلى الله عليه وسلم وبين ما يجتنبه المحرم فقال: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل) ، ولم يذكر قطعاً للخفين، بل قال: (فليلبس الخفين) ، ولم يقل: وليقطعهما أسفل من الكعبين. فأصبح عندنا حديثان في خصوص لبس الخفين: حديث في المدينة يأمر بالقطع، وحديث في عرفات يرخص في لبس الخفين من دون قطع. فقالوا: إن حديث عرفات عام مطلق عن قيد القطع، وحديث المدينة خاص أو مقيد بشرط القطع، فيحمل العام في عرفات على الخاص في المدينة، فقوم قالوا: حديث المدينة يقضي على حديث عرفات، ويحمل المطلق في عرفات على المقيد في المدينة، فيكون حديث ابن عباس في عرفات: (فليلبس الخفين) ، بشرط القطع المذكور في حديث المدينة، ومن هنا وقع النزاع: هل حديث ابن عباس في عرفات مقيد بقيد القطع في المدينة فيجب القطع، أم أنه متأخر عنه وقد عرفنا التاريخ فيكون ناسخاً لحكم القطع؟ الناس في هذا على مذهبين: مذهب حمل العام على الخاص وأمر بالقطع مطلقاً. ومذهب يقول بأن القطع قد نسخ بحديث ابن عباس المتأخر الذي سكت فيه عن القطع. ويقال لأصحاب المذهب الأول: تقولون: إنه ترك ذكر القطع في عرفات؛ لأنه ذكره في المدينة، وهل كل من كان في عرفات وسمع حديث ابن عباس: (فليلبس الخفين) ، قد سمع حديث ابن عمر في المدينة؟ إذ أن حديث ابن عمر فيه القطع، فمن قال لكم: إن الذين في عرفات قد علموا وسمعوا بحديث ابن عمر في المدينة؟ إذاً هناك مجتمع يحتاج إلى بيان، وهنا مجتمع يحتاج إلى بيان، ولو كان بيان حديث ابن عمر كافياً لما كانت هناك حاجة إلى حديث ابن عباس في عرفات. إذاً: الحاجة باقية لبيان ما لا يلبسه المحرم، أو حكم لبس الخف للمحرم، ولهذا أعاد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مع ترك القطع. ومن ناحية أخرى، فإن الخف مال محترم، والمال يجب أن يحترم وأن يصان، وما دام أنه لم يأتِ في حديث ابن عباس الأمر بالقطع، فإذا لبسناه ولم نقطع بناءً على حديث ابن عباس وحافظنا على المال من أن نتلفه، فلا يوجد هناك مانع من هذا. وعلى كل حال: ما دامت المسألة عند العلماء دائرة بين الأمرين: وهو حمل المطلق على المقيد، أو القول بالنسخ، وقد عرفنا التاريخ، فأعتقد أن من أخذ بأحد الطريقين فحمل المطلق على المقيد أو أخذ بطريق النسخ، فكل منهما له وجه.

نهي المحرم عن لبس ما مسه زعفران أو ورس من الثياب

نهي المحرم عن لبس ما مسه زعفران أو ورس من الثياب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) . الزعفران: نبات مخصوص قيل: هو زهر أشبه ما يكون بزهر الرمان، وله لون أحمر ورائحة زكية، وله خصائص كثيرة. قالوا: إذا كان هناك ثوب أبيض وصبغ بالزعفران، والزعفران يستعمل لصبغ الثياب والتجميل ونحو ذلك، قالوا: فلا يجوز لبسه، إذا كان قد صبغ الثوب بهذا النوع على أساس أن الصبغ ثبت وأصبح بحيث لو غسل فلن يخرج من الصبغ الموجود شيء. والثوب الذي مسه الزعفران أو الورس ينقسم إلى قسمين: ثوب صبغ ولبس بعد الصبغ مباشرة، بحيث أنه لو عرق فيه لانطبع في جسمه، ولو وقع عليه ماء لخرج اللون مع الماء، فهذا ممنوع، أما إذا ثبت الصبغ ولم يبق إلا اللون فقط بحيث لو عرق لما انطبع فيه شي، ولو غسل لما وقع في ماء الغسيل منه شيء، فقالوا: لا بأس به، ولكن في العموم في غير الإحرام لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المصبوغ بورس أو زعفران، فإنه للنساء وليس للرجال. فعلى كلتا الحالتين منع من لبس الملون، ولكن في الوقت الحاضر لو وجدنا هذه البشاتير التي تكون محمرة أو مخضرة أو مصفرة، والصبغ ثابت لا ينطبع على الجسم، فلا بأس بها؛ لأن الأصل في ذلك المنع هو الرائحة وليس اللون، فإذا كان لوناً ثابتاً لا رائحة فيه، بأن غسل قبل ذلك وبقي اللون كالخضاب وأثر الحناء، فلا مانع من ذلك. وبعضهم يقول: منع الرجال من الثياب المعصفرة أو المصبوغة بالزعفران عام في الإحرام وغيره، فيكون المنع لأجل اللون أعم من كونه فيه رائحة أو ليست فيه رائحة. هذا ما يتعلق بلباس الرجل في الإحرام في الجملة.

لباس المرأة في الإحرام

لباس المرأة في الإحرام بقي ما تجتنبه المرأة من اللباس في الإحرام، فنقول: المرأة تلبس كل شيء حتى حليها، وليس محظوراً عليها لون عن لون، ولا نوع لباس عن لباس، ما دام اللباس تصح فيه الصلاة، أي: ساتراً لجميع بدنها، إلا النقاب والبرقع والقفازين، والنقاب والبرقع: نوعان من اللباس خاصان بوجه المرأة، وبعض البلاد تختلف عن بعض في شكله وحجمه، وهو شريط من القماش بعرض الوجه يتدلى من الرأس إلى الصدر، مثقوب أمام العينين وكل ثقب يكون بحجم العين ترى المرأة من خلاله، والنقاب يكون أوسع منه، وقد يكون على مجرى الأنف نوع من الذهب كالقصبة، أو نوع من الحلية، وقد توضع أنصاف الجنيهات أو أرباعها من الذهب على أطرافه زيادة ومبالغة في حلية المرأة، فهذا هو الذي تمنع منه المرأة، وكذلك القفاز، وهو قطعتان تغطيان الكفين والساعد فتمنع المرأة من لبسهما. وكونها لا تلبس النقاب ولا البرقع معناه أنها تكشف وجهها، قالوا: لأن وجه المرأة في الإحرام كرأس الرجل، فهو يكشف رأسه وهي تكشف وجهها، ولكن عند عدم وجود الأجانب، أما في حضرة الأجانب فتغطي بخمارها لا ببرقع ولا نقاب، بل تسدل خمار أو غطاء رأسها على وجهها فتغطيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا نكشف وجوهنا، فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها) . وبهذا ينتهي بحث: ما يجتنبه المحرم من اللباس ومحظوراته. وبالله تعالى التوفيق.

حكم الطيب للمحرم

حكم الطيب للمحرم قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه] . موضوع هذا الحديث هو تطيب المحرم، وألفاظه: (كنت) يقول بعض العلماء: (كنت) تدل على التكرار، ويقول البعض في هذا الحديث: ليس فيه دلالة على التكرار؛ لأنه أحرم للحج مرة واحدة. ولكن إن كان أحرم للحج مرة واحدة فقد أحرم للعمرة ثلاث مرات، أي: منفردات، وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والرابعة من عمراته كانت قراناً مع الحج، فلا مانع أن يكون هذا الفعل قد تكرر من عائشة رضي الله تعالى عنها. أما أحكام الحديث فقولها: (أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه) ، أي: إذا أراد أن يحرم طيبته، أي: أنها توقع الطيب قبل أن يحرم، وهنا يبحث العلماء: هل للمحرم أن يتطيب؟ أجمع العلماء على أنه لا يتطيب ابتداءً، أي: إذا أحرم وقال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، حرم عليه أن يمس الطيب. ولكن إذا تطيب قبل أن يحرم، أي: تطيب لإحرامه، فقال بعضهم: إن كان هذا الطيب ستبقى له رائحة فيمنع منه، كما هو مروي عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والجمهور على أنه إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا مانع من ذلك، ولهذا يقولون: الإحرام مانع ابتداء لا مانع دوام، كما سيأتي في النكاح، فإن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، فهو مانع ابتداء للتزويج ولكن ليس مانع دوام؛ لأن المتزوج يحرم وتبقى الزوجية على ما هي عليه، فهو مانع ابتداء يمنع ابتداء المحرم من أن يتزوج من جديد، ويمنع المحرم أن يتطيب من جديد، ولكن لا يمنع دوام الطيب الذي وقع قبله، ولا دوام النكاح الذي وقع قبله. ومن هنا استدلوا أيضاً بحدث عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض رواياتها: (وإني كنت أرى وبيص -والوبيص: البريق واللمعان- المسك في مفرقه صلى الله عليه وسلم) ، والمفرق هو موضع فرق شعر الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم له شعر يصل إلى منكبيه، وكان يفرقه قسمين: قسم إلى اليمين، وقسم إلى اليسار، حتى تظهر فروة الرأس، فتقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كنت أطيب) ، ثم بعد الإحرام: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رسول الله) . إذاًَ: هنا دوام الطيب، والذين قالوا: إن المحرم لا يتطيب بطيب يدوم، قالوا: صحيح أنها طيبته لإحرامه، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من المدينة وقد لبس ثياب الإحرام، وتطيب ولبد رأسه- فأتى إلى ذي الحليفة وبات هناك، وفي تلك الليلة التي بات فيها طاف على نسائه اللاتي معه، واغتسل عند كل واحدة، فإذا كان الأمر كذلك فيكون هذا الاغتسال المتكرر قد أزال وأذهب الطيب الذي طيبته إياه بالمدينة، ثم أصبح فاغتسل وأحرم) ، فقالوا: إن هذا الطيب الذي طيبته عائشة أذهبه الاغتسال في الليل. وأجاب الآخرون عن ذلك بقولها: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرقه) ، وقد رأت هذا الوبيص حينما كان في الطريق وبعد أن غادر ذا الحليفة ومضى بإحرامه. وعلى هذا يأتي نوع من التفريع: هل يصح الطيب للمحرم في ثوبه إزاراً ورداءً، وفي بدنه، وفي شعره، وفي رأسه، وتحت إبطه، وفي يديه؟ قالت المالكية: يكون الطيب في البدن وليس في الثوب، وجاءوا بالتعليلات الفقهية التي تذهب إلى الدقة، وقالوا: إن الطيب في البدن ثابت مكانه، وأما إذا كان الطيب في الرداء، فقد يطرح الرداء عنه، ثم يرجع فيلبس الرداء والطيب في الرداء فيكون لبسه الرداء وفيه الطيب بمثابة ابتداء الطيب من جديد؛ لأنه أخذ الطيب الموجود في الرداء حينما أخذه للمرة الثانية، وهذه المسألة من الدقائق التي علم حقيقتها عند الله. وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه شم ريح طيب من رجل -سواء كان معاوية أو غيره- فقال: من طيبتك هذا؟ قال: أم حبيبة يا أمير المؤمنين! فقال: عزمت عليك لتذهبن فلتغسلن عنك هذا الطيب. وجاء عن ابن عمر أنه قال: لأن أتلطخ بالقار وأنا محرم أهون عليَّ من أن أتلطخ بالطيب. فإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد هذا الحديث الصحيح من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تجرد في بيته وتطيب في بيته، فأهل بيته أعلم الناس بطبيعة إحرامه وما أخذ من طيب وغيره، ولقد جاء عنها في بعض الروايات أنها قالت: (طيبت رسول الله لا كطيبكم هذا) قال بعضهم: (لا كطيبكم هذا) أي: يزول بسرعة، وقال بعضهم: لا إنما قالت ذلك لتبين أن طيبكم لا يصل إلى هذا الطيب، وقد صرحت في بعض الروايات: (بأحسن طيب المسك) . وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم قبل أن يهل له أن يتطيب ويكون الطيب في بدنه. وإذا جئنا إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (إني أحرمت، وقلدت هديي ولبدت شعري) ، وتلبيد الشعر هو إمساكه بما يكون من أنواع الدهون أو الطيب لئلا يتشعث؛ لأن المدة من المدينة إلى عرفات إلى أن ينزلوا إلى منى طويلة، كما جاء عن ابن عباس: أنهم حينما قدموا للحج استغرقوا تسعة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة قبل عرفات، ويومين بعد عرفات، فهذه خمسة عشر يوماً، فهذه المدة إذا ترك الشعر كما هو فإنه يتخلله الهواء ويسري إليه التراب ويعلق به ما كان في الجو، فإذا كان ملبداً سلم من هذا كله. وبماذا يلبد؟ قالوا: يلبد بالطيب: كالمسك ونحوه، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها: (بطيب ليس كطيبكم هذا) ، وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم يحق له أن يتطيب قبل أن يحرم. بقي النصف الثاني من الحديث وهو قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ، الجمهور على أن الإحلال من الإحرام قسمان: الأول: التحلل الأصغر. الثاني: التحلل الأكبر. فالتحلل الأصغر: يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء، وبعضهم يلحق بها الطيب، وهو أن يفعل اثنتين من ثلاث: رمي الجمرة، وحلق الرأس، والطواف بالبيت، فإن فعل اثنتين من هذه الثلاث أياً كانت حل له كل شيء، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويحلق الشعر، فكل الذي كان ممنوعاً منه فإنه يحل له إلا النساء، فإذا فعل الثالثة حل له كل شيء. فبعضهم يقول: إذا فعل اثنتين من ثلاث حل له كل شيء إلا النساء، وبعضهم يقول: إلا النساء والطيب.

العلة في النهي عن الطيب للمحرم

العلة في النهي عن الطيب للمحرم العلماء متفقون على أن الطيب ليس ممنوعاً على المحرم لذاته؛ لأن الطيب من حيث هو شيء طيب ومحبب، وقد جاء في الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، لكن يقولون: الطيب يعتبر من الترفيه، والمحرم يجب عليه أن يتجنب المرفهات، وأن يكون أشعث أغبر. إلخ. وبعضهم يقول: العلة أن الطيب يثير عند الإنسان الغريزة. وبعضهم يقول: إنه يوجد داخل الأنف عروق لها صلة بالإثارة، فمنع من الطيب لئلا يكون ذلك مدعاة لإثارته وهو محرم، فإذا كان الطيب ممنوعاً لا لذاته وإنما لأمر آخر سداً للذريعة، فبعضهم قال: هذا من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطيب قبل أن يطوف بالبيت ويبقى الوطء محرماً عليه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان أملككم لإربه) ، أي: أن الطيب لا يثير رسول الله، ولا يتسلط عليه، ولا يتأثر به من تلك الناحية بخلاف غيره. وقال بعضهم: ليست هناك خصوصية إلا بالنص، وهنا لم يأت نص في ذلك عن عائشة، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: من عمل بهذا الحديث في هذين الموضعين: عند إرادة الإحرام قبل أن يحرم، ويبقى أثر الطيب ويدوم معه حال إحرامه، وعندما يريد أن يتحلل قبل أن يطوف بالبيت، فمن عمل بالحديث في طرفيه فلا مانع؛ لما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، والمحظور أن يستأنف طيباً بعد أن يحرم.

حكم شم المحرم للطيب

حكم شم المحرم للطيب وهنا مسألة: إذا مر الإنسان بريحان أو فل أو ورد وشم ريحه من البستان، أو من يد شخص آخر، فهل في ذلك على المحرم من شيء؟ قال العلماء: له أن يشم الرياحين لكن لا يعمد إليها، وإذا جاء الإنسان إلى الكعبة وإلى الحجر والناس يتقربون وينثرون الطيب -العود والمسك والورد- على الحجر الأسود وعلى كسوة الكعبة، فجاء إنسان ليستلم الحجر فمسح بيديه على الحجر فتلطخت بالعود ونحوه من الطيب الذي عليها، فهل هذا محظور عليه؟ ليس عليه شيء إنما يمسحه عنه في كسوة الكعبة أو في الحجر أو في غير ذلك، ولا مانع أن يشمه من نفس الحجر، فإنه لم يتطيب، ولكن الطيب موجود أمامه، ولابد أن يمسح الحجر، فليس عليه شيء إذا كان الحجر مطيباً وقبل الحجر وفيه الطيب. والله تعالى أعلم.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3] إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح، وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.

شرح حديث: (لا ينكح المحرم)

شرح حديث: (لا ينكح المحرم) قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم] . من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء، فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.

مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء

مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء، وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة، وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام. وسميت القضية؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات، فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة. الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة مرحلتين. وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى وبنى بها في سرف؟ والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه. فقال بعضهم: تزوجها وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله. وقد اختلفت الروايات فـ رافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال. وابن عباس هي خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال. فهنا اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر. فقالوا: في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو الواسطة بين الطرفين، فـ رافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما، فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟ وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك. إذاً: هنا اختلف رافع بن خديج وابن عباس، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال، والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال. فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة، وابن عباس يروي عن خالته، فهو يعادل حديث رافع، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة، فسألوها فقالت: تزوجني وهو حلال. وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح. ثم بعد ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع؟ هل يرد الزوجة في طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث. والذي يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام، ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد قبول وإيجاب؛ فالوطء من باب أولى.

حكمة تحريم النكاح على المحرم

حكمة تحريم النكاح على المحرم وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا: لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان، ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما، ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما، وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف عن ذلك؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع؛ لأنه محرم. ولو قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام كف وامتنع. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة بالقصة؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.

حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان

حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل؛ فلا يزوج وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في الروايتين. وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لـ أبي حنيفة: أنت خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح. وأما رواية ابن عباس فقالوا: هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله تعالى أعلم.

حكم الصيد للمحرم

حكم الصيد للمحرم قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين (هل منكم من أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) متفق عليه] . وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه] .

ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد

ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع الامتحانين؟ وكيف كانت النتيجة؟ قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] ، فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً، فكان ما كان، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] . ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا، والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد ما يكون على الأمم. وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير: كانوا في شدة الحر {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] ، ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس. وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء:66] ، فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه. كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي الله موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:21-22] . {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به هذه الأمة في غزوة بدر. فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي سفيان، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها) فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا بلقاء النفير. وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف) ، وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم؛ لأن الجهاد في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر بمسئولية المعركة؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى ما أراد الله، وتكلم المقداد وعمر وأبو بكر، فيثني عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس) حتى قال قائلهم: يا رسول الله! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن عبادة وقيل: سعد بن معاذ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج، فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا: ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا، وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم، ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء. ثم قال: امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان) ، وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر. ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولهذا جاء القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] ، وقال عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] ، فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.

الحكمة من تحريم الصيد على المحرم

الحكمة من تحريم الصيد على المحرم ولماذا حرم الصيد في الإحرام؟ شخص يقول على ظهر البعير: لبيك اللهم لبيك، حرام عليه أن يصيد، وقائد البعير وليس بمحرم فيصيد ويأكل، فهل الحلال غير المحرم أفضل على الله من المحرم الذي يقول: لبيك اللهم لبيك؟ والصيد هو كرامة، ولو أتينا إلى العقل لكان المحرم أولى من غيره، ولكن هذا من باب التربية، فإذا كان المحرم لا ينكح ولا يمس زوجته وهي حلال له؛ ليكون ذلك دربة وتمريناً له على العفة عن الحرام، فكذلك الأمر هنا إنما هو دربة وتعليم وتهذيب وكف لليد عن أن تريق دماً ولو كان لشيء حلال وهو الصيد، فإذا ما حل من إحرامه وعاد إلى بلاده، فاليد التي لم تمتد إلى صيد حلال مباح ستكف عن الدم الحرام، ولن يعتدي على أخيه المسلم فيريق دمه من غير ما ذنب. وهكذا تكون كل خطوة في الحج لها حكمة ولها مدلول ولها عطاء، ويحتاج المسلمون أن يتعلموا هذه المواطن وما فيها من توجيهات، وما يمكن أن يستخلصه الإنسان من تعاليم الإحرام، سواء مما كان جائزاً فيه أو كان ممنوعاً عنه. وبالله تعالى التوفيق.

حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره

حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره وبقي الكلام على فقه الحديث وما يتعلق بالحمار الوحشي. كان أبو قتادة رضي الله عنه في عمرة الحديبية غير محرم، قيل: لأنه كان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة فلم يخرج معهم في تلك العمرة، وإنما التقى معهم في الطريق، وقيل: لأنه كان طليعة للمسلمين عند قدومهم على مكة، والحاصل: أنه رضي الله تعالى عنه كان مع أصحابه في المهمة التي بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم قد أحرم وبعضهم لم يحرم، فرأى حمار وحش فأراد أن يشد عليه فسقط سوطه، فقال لبعض إخوانه المحرمين: ناولني السوط، فقال: إنا حرم، فانطلق وأتى بحمار الوحش -ومعلوم أنه رجل غير محرم، والصيد جائز لغير المحرم إذا صاده لنفسه أو لغير المحرم- فلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) والبعض يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، والبعض الآخر يقول: لم يأكل؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن أبا قتادة صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتي، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صاده بنفسه أو صاده غيره من أجله، وينص النووي وغيره في مناسك الحج: لو أن قرية من القرى يمر عليها الحجاج وهم محرمون، وفيها الذبائح واللحم، فقام أرباب الصيد وذهبوا واصطادوا وجاءوا بلحم الصيد للبيع، وعلم المحرم أنهم صادوه من أجله ولو للبيع عليه أو للهدية، فلا يجوز له أن يأكل من ذلك؛ لأنه صيد من أجله، أما إذا صاده ابتداء لنفسه أو لأهله، وحضر محرم هذا اللحم أو هذا الطعام ولم يشارك لا هو ولا جنسه من المحرمين، فله أن يأكل من هذا اللحم.

حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه

حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه وهنا يبحث العلماء: إذا لم يجد المحرم طعاماً إلا الصيد، فهل يباح له كما أبيحت الميتة لغير المحرم؟ وإذا وجد ميتة ووجد صيداً ووجد غير صيد من بهيمة الأنعام مملوكة للغير، فهل يأكل الصيد؟ أم يأكل الميتة للرخصة؟ أم يأكل من مال الغير؟ كثير من العلماء قالوا: لا يأكل الصيد، وله أن يأكل من الميتة؛ لأن الصيد محرم على كل حال ولم يأت فيه استثناء في حالة الاضطرار كما جاء في الميتة؛ ولأن الميتة جاءت فيها رخصة مستقلة، وقالوا: الصيد حرم على المحرم على الإطلاق في كل زمان ومكان، والميتة محرمة إلا على المضطر، فقالوا: يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد، فضلاً عن أن يقتل الصيد وهو حي، وهذا يدل على التشديد في تحريم لحم الصيد للمحرم. ثم جاء الحديث الآخر بأن الصعب أتى بحمار وحش أو بلحم حمار، أو حمار وحشي -بأي لفظ كان من هذه الألفاظ- وفي بعض الروايات: يقطر دمه، فقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فرده عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصحابي لأن الرسول رد هديته، ولم يعلم الحكم، فجبراً لخاطره أزال عنه هذا الأثر وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: محرمون، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صيد من أجله، ففي حديث أبي قتادة رخص لهم أن يأكلوا ما لم يشارك أحد منهم في صيده، وهنا لم يسأل، ولكن رده ابتداء، وهنا قالوا: هل يمنع المحرم من أكل الصيد مطلقاً، أم لا يمتنع منه إلا إذا شارك فيه؟ في حديث أبي قتادة لم يشارك فيه أحد، فأكلوا منه، وهنا لم يسأل، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده عليه إلا لأنه تيقن أو غلب عليه الظن أن هذا لم يأت بحمار الوحش يقطر دمه إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت القرائن محتفة بأن هذا الآتي لم يأت بهذا الحمار إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم رده عليه؛ لأن المحرم لا يأكل ما صيد من أجله، وبهذا يجمع بين الحديثين؛ فيقال: في الحديث الأول أباحه لأنه لم يصده من أجلهم، ولا شارك أحد منهم في صيده، وفي الحديث الثاني غلبة الظن أنه صاده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا رده صلى الله عليه وسلم. وهنا ينبغي الاستفادة من جانبين: جانب تحريم الصيد على المحرم، وجانب جواز أكل لحم حمار الوحش، والفرق بينه وبين الحمار الأهلي، مع أن كليهما حمار، فالجنس واحد والفصيلة واحدة.

من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم

من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، وبالتالي {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] ، والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث ممنوعاً؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة، وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام، فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا تهذيب للنفس. وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال؛ لأن الشاة التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل. قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده إلى مال أحد من المسلمين بغير حق؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره لحرمة التحريم. إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [4]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [4] أجاز الشارع للمحرم قتل الفواسق الخمس ولو كان ذلك في الحرم، وهي: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور، وألحق بها بعضهم الحية. ويجوز للمحرم أن يحتجم، وإذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام لعذر، كحلق الرأس ونحوه، فعليه فدية: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

الأشهر الحرم والحكمة منها

الأشهر الحرم والحكمة منها لقد نهى الله سبحانه وتعالى الأعراب أو سكان البوادي أو من يقعون على طريق الحجاج، ويسوقون الهدي معهم، وقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ} [المائدة:2] (لا تحلوا الهدي) ، أي: لا تأخذوه ولا تؤذوه؛ بل اتركوه يمضي آمناً. وهنا أمر يلفت النظر وهو أن العرب في الجاهلية قديماً كانوا يعظمون الأشهر الحرم فلا يقتلون فيها ولا يقاتلون ولا يقتصون، وربما يلقى الرجل قاتل أبيه أو قريبه فلا يمد يده عليه؛ لأنهم في الأشهر الحرم، وغزوة نخلة وما ترتب عليها من الأمور أمرها معروف. وهنا هؤلاء الذين يتصيدون الناس، ويقطعون الطريق، إذا مر عليهم الهدي مقلداً مشعراً ليس معه من يدافع عنه كفوا أيديهم؛ لأنه هدي يساق إلى الكعبة؛ فلحرمة الكعبة ولكونه هدياً يكفون عنه، وأنت أيها المحرم يجب أن تبادلهم هذا الأمر، فإنهم قد حفظوا لك هديك، وتركوه يمضي آمناً، فاترك لهم الصيد الذي يعيش في بلدهم وفي منطقتهم؛ لأنهم أحق به منك، وإنما أنت وافد عليهم، فلا ينبغي أن تقتل الصيد وتذهب وتتركهم جياعاً، فكما أمنوا لك هديك فأمن لهم صيدهم. ومن العجيب أن الأشهر الحرم -ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب الفرد- متزامنة مع أشهر الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وهي بالإجماع: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه أشهر القدوم إلى مكة، وينتهي الحاج من حجه في منتصف ذي الحجة، ويعود إلى بلده، فالله سبحانه وتعالى دعا الناس إلى حج بيته وقد كان الناس يقطعون السبيل، فنشر لهم الأمن في سفرهم تحت مظلة أمن الأشهر الحرم؛ ولهذا فإن الحاج يأتي من أقصى الجزيرة شرقاً وغرباً من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ويقطع المسافة في شهر أو شهرين على قدر حالة المسير، فيبدأ من أول شهر شوال، فإذا ظهر هلال شوال وأفطر الناس في عيد الفطر جاز الإهلال بالحج زماناً، فيكون أمامه شوال وذو القعدة وجزء من ذي الحجة، فيأتي من دول الخليج ومن وراء دول الخليج إلى مكة آمناً مطمئناً، فإذا وفّى حجه وانتهى أصبح عنده ذو الحجة والمحرم، وهذا يرده إلى بلده في أقصى الجزيرة؛ فيكون آمناً في سفره إلى مكة وفي العودة إلى بلده. إذاً: الحاج مضمون له الأمن في مسيره، وعليه أن يكون أميناً على ما يلقاه في طريقه، فتزامن الحج مع الأشهر الحرم مع تحريم الصيد مع احترام الهدي، وكلها وحدة متكاملة.

تحريم الحمر الأهلية والحكمة من ذلك

تحريم الحمر الأهلية والحكمة من ذلك إن فصيلة الحيوان تتفق في ماهيتها، فالإبل كلها على وجه الأرض فصيلة واحدة؛ أبو سنامين وأبو سنام واحد، والصغير والكبير سواء. والحمر تنقسم إلى قسمين كما قيل: أهلي ووحشي، فالجنس واحد، والوحشي صيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأكلوا منه، وصيده مشهور ومعروف، وفي عام خيبر حرمت الحمر الأهلية وبقيت الوحشية على أصل الحل والإباحة. وهنا يأتي السؤال: ما الذي فرق بين أبناء الجنس الواحد وهي الحمر، فهذا حلال وهذا حرام؟ وما هو الموجب أو السبب في ذلك؟ لأن بعض الناس يطعنون في الشريعة ويقولون: إن الشريعة تفرق بين أفراد الجنس الواحد، وتفرق بين المتساويين، والتفريق بين المتساويين لا يصح عقلاً، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) قالوا: فهذا بول وهذا بول، وهذا آدمي وهذه آدمية، وهذا طفل رضيع وهذه طفلة رضيعة، فلم فرق بينهما؟ حتى قال بعض المسلمين: لا فرق في ذلك، ويذكر عن بعض المالكية أنه يغسل الجميع، ولكن فيما بعد ثبت من الناحية الكيميائية: أن هرمون الأنوثة يغاير هرمون الذكورة فيتأثر به البول، وأن طبيعة بول الأنثى ثخين يحتاج إلى غسل، وطبيعة بول الذكر أقل كثافة فيكفي فيه الرش، مع أنه لا يتوقف التشريع على المعامل الكيميائية والتحليلات ونحوها، فإن الشرع جاء لأمة أمية لم تدخل إلى مختبرات ولا إلى معامل، فما جاء عنه صلى الله عليه وسلم نقبله من دون أي نقاش أو اعتراض. وهنا قالوا: لماذا حرم لحم الحمار الأهلي وبقي لحم الحمار الوحشي على حليته وهما شيء واحد؟ قالوا: إن للغذاء تأثيراً على جسم الإنسان، وهناك بعض الناس يسمون النباتيين، لا يأكلون اللحم أبداً، ويقولون: إن اللحم لحيوان، وهذا يؤثر على طباعنا ويأكلون مما تنبت الأرض، وهناك أشخاص يعيشون على الألبان، والذي يهمنا أنه باتفاق علماء التغذية والأطباء أن كل نوع من الأطعمة له تأثير على الجسم في خصائصه وغرائزه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من لحم الإبل وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ حتى قال بعضهم: هذا أيضاً تفريق بين متساويين لحم ولحم، فقالوا: إن في الإبل خصائص كالكبر والخيلاء، وفي الشاة التواضع ونحو ذلك، وذلك لطبيعة المعاشرة، فالشخص الذي يعايش الإبل يحتاج إلى عصا متينة غليظة قوية ليضرب بها، والذي يعايش الشياه لو أشار بيده بقضيب من أراك فإن الشاة تمشي أما الإبل فقد يكابر ويعصي ويتمرد، فهناك فرق بينهما، فالذي يعايش الإبل بطبيعته وسلوكه وأخلاقه غير الذي يعايش الغنم؛ ولذا يصلح لرعي الإبل راعي الغنم قبل أن يصلح لرعي الإبل؛ ولذا حرمت الشريعة لحوم بعض الحيوانات حفاظاً على الإنسان من أن يتسرب إليه بعض خصائص تلك الحيوانات. يقول أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره عند تحريم لحم الخنزير، الخنزير فاقد الغيرة على أنثاه، وقد شاهدنا أن المكثرين من لحمه عندنا لا غيرة لهم على نسائهم. وكان بعض العلماء يقول: كل الحيوانات كانت متوحشة حتى الخيل، ثم استؤنست ودربت على أن تعيش مع الإنسان، فالحمار حينما كان وحشياً قبل أن يكون إنسياً، كان يعيش على سعيه على نفسه، وحمايته لنفسه، ويأنف الضيم، ولا يخضع لنوع من الذلة، فلما استأنس نوع من الحمر وأصبح إنسياً أصبح ينتظر العلف من صاحبه، ويحرسه صاحبه ويستذله، حتى إن الطفل الصغير ليضربه ويحمل عليه وينقاد له، حتى قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد عير الحي: هو الحمار، فهو صبور، ويضرب به المثل في الصبر، وفيه طبع اللآمة؛ لأنه إذا عرف أن الذي يقوده طفل صغير تلاءم وتعاجز وتناوم وتقلب في التراب، وإذا وجد الجد ممن هو معه شمر ونشط وخاف، ففيه الذلة واللآمة، وأصبح يضرب به المثل في البلادة؛ رغم أن عنده الفهم للطريق أكثر من الإنسان، ومعرفته للطريق أكثر من معرفة الإنسان إياها، فإن الحمار إذا مشى طريقاً ولو عشرات الكيلومترات وأراد أن يمشيه مرة ثانية فلا يمكن أن يضل الطريق أبداً، ولذلك فإن أهدى المخلوقات إلى الطريق هو الحمار، لكن في الأشياء الأخرى: كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ولا يدري عنها شيئاً. فقالوا: حرمت الحمر الأهلية لما لها من صفات ليست موجودة في الحمر الوحشية؛ لأن الحمار الوحشي يعتمد على نفسه، ويقول الدميري صاحب كتاب الحيوان: إن حمار الوحش الأنثى إذا ولدت كسرت رجل تولبها - والتولب: الحمار الصغير الذي تلده- ليبقى في جحره لا يخرج إلى أن يشب ويكون قادراً على الجري سريعاً، فإذا ما خرج من جحره ولقيه وحش ليفترسه استطاع أن يفلت بالجري. إذاً: هو يقوم على حماية نفسه ويسعى على علفه ومرعاه، فهو لا يحمل منة لأحد، ولا يخضع لذلة عند أحد، فسلم مما ابتلي به الحمار الإنسي. ومن هنا: نعلم أن الشريعة ما حرمت شيئاً إلا لمضاره ومفاسده، وعلى هذا جاءت المناسبة في هذا العرض فيما يتعلق بالحمار الوحشي والحمار الأهلي أو الإنسي، وكان تحريمها يوم خيبر، والله تعالى أعلم.

الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم

الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور) متفق عليه] . من دقة المؤلف رحمه الله أن ذكر هذا الحديث بعد الحديث الدال على تحريم الصيد على المحرم، وما دام أن المحرم لا يمد يده على الصيد، فماذا يفعل في المؤذيات؟ يقتلها فكما أنه ذكر تحريم الصيد على المحرم، والصيد قتل الحيوان المباح، ذكر هنا الاستثناء وقال: أما المؤذيات فاقتلها. والفواسق: جمع فاسق، كفوارس جمع فارس، والفاسق في اللغة: ما خرج عن طريقه، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج عن طريقها وتضرم على الناس بيوتهم -أي: تحرقها - ولذا أمر بإطفاء السراج عند النوم؛ لأنهم كانوا قديماً يستضيئون بالمسرجة، وقد كان يوجد البعض منها هنا في المدينة، وهي تأتي على شكل قناديل من الزجاج مستديرة تشبه البطيخة مفتوحة من الأعلى، وهذه كانت مسارج المسجد النبوي، وكان يوضع فيها الزيت ويؤتى بالفتيل ويلقى طرفه في الزيت والطرف الآخر على حافة المسرجة ويشعل فيه الضوء، فيستجر من الزيت كما تفعل الشمعة، ويستضاء به، فتأتي الفأرة وتريد أن تشرب هذا الزيت، والمسرجة صغيرة، وهي تخاف من النار، فتأتي بذنبها وترفع الفتيل من المسرجة وتلقيه خارجاً عنها، والنار مشتعلة فيه فيحرق ما سقط عليه، فهذا هو فسقها، والعرب تسمي كل من خرج عن طريقه السوي: فاسقاً. ويقولون: فسقت النواة عن الرطبة، وذلك إذا أردت أن تأخذ القمع خرجت معه النواة، وفسقت الحبة عن الرحى، عندما يطحنون الحب بالرحى ويكون الحب كثيراً؛ فتتناثر الحبيبات وتبتعد عن الرحى ولا تطحن، فيقولون: فسقت الحبة عن الرحى؛ لأنه كان المفروض أن تبقى الحبة في الرحى حتى تطحن. وفي اصطلاح الشرع: الفاسق من خرج عن الصراط السوي إلى بنيات الطريق فيما نهي عنه. وقوله: (يقتلن في الحل والحرم) أي: أن حرمة الحرم لا تحرمها ولا تمنعها؛ بل يجوز قتلها مع وجود حرمة الحرم، وكذلك حرمة الإحرام لا تمنع هذه الفواسق من أن يقتلها المحرم. إذاً: تلك الفواسق يقتلها في الحرم المحرم وغير المحرم، وكذلك خارج الحرم يقتلها المحرم وغير المحرم.

العقرب من الفواسق

العقرب من الفواسق ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الفواسق فقال: (العقرب) لفظ العقرب يطلق على المذكر والمؤنث، وقد يلحق به التاء فيقال: العقربة على المذكر والمؤنث، وهي دابة معروفة، وهي سامة، وهي من المؤذيات، فتقتل في الحل والحرم وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي، فلدغته العقرب وهو يصلي، فأمسكها بيده وقال: (قاتل الله العقرب؛ لا تدع مصلياً ولا غير مصلٍ) .

الحدأة من الفواسق

الحدأة من الفواسق قوله: (والحدأة) الحدأة كما يقولون: من جوارح الطير، فهل يلحق بالعقرب بعض الحشرات المؤذية كبعض العناكب أو الوزغ؟ والحدأة هل يلحق بها نظيرها من الصقور والشاهين والبازي ونحو ذلك؟ قالوا في الحدأة: إنها تخطف اللحم، وقد ذكروا أن جارية مملوكة كانت عند قوم في المدينة، فضاع لابنتهم عقد، قالت: فاتهموني فيه وفتشوني حتى ما بين رجلي، فلم يجدوا شيئاً، وهم كذلك وإذا بالحدأة تأتي وترمي هذا العقد من أعلى؛ لأنه كان في خرقة حمراء، فظنت الحدأة أنه لحم فاختطفته، وقد ذكرت هذه القضية عند عائشة رضي الله عنها. والحدأة تخطف صغار الطيور، كفراخ الدجاج والحمام، وتخطف اللحم من الأطفال، فهي مؤذية، فهل يلحق بها من كان من جنسها بجامع الإيذاء أم أنه لا يتعدى النص؟

الغراب من الفواسق

الغراب من الفواسق قوله: (والغراب) الغراب ينقسم إلى قسمين: غراب الزرع، والبعض قد يسميه: أبا قردان، وهو أبيض ناصع، وقد يوجد على ظهره أو على رأسه نوع من الحمار يشبه الحناء. وغراب أسود، وهو قسمان: أسود كله وأسود أبقع، والأبقع سواده أقل من الأول، وبين جناحيه بياض، قالوا: فهذا مؤذ يقارب الحدأة في إيذائه. أما الغراب الأبيض، فيسميه أصحاب الأراضي الزراعية: صديق الفلاح؛ لأنه حينما يسقى الزرع بالماء تظهر الحشرات الكامنة في الأرض، فعند ذلك يصيدها ويأكلها وكأنه مبيد للحشرات، فالغراب المقصود في الحديث: هو الغراب المؤذي وليس غراب الزرع.

الفأرة من الفواسق

الفأرة من الفواسق قوله: (والفأرة) الفأرة سماها صلى الله عليه وسلم: الفويسقة، وهي معروفة، وهي محرمة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مضارها، فتقتل كذلك.

الكلب العقور من الفواسق

الكلب العقور من الفواسق قوله: (والكلب العقور) بعض العلماء يجعله اسماً لنوع من الحيوانات، والبعض يجعله اسماً لكل حيوان يفترس، وقد جاء في قصة أحد المشركين حينما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، وكان هذا المشرك قد سمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مع أناس في سفر، فنزلوا أرضاً مسبعة يكثر فيها السباع، فقال: والله إني لأخشى على نفسي من دعوة محمد، فقالوا: لا تخف نحن نحيطك، فناموا حوله وهو في الوسط، فجاء أسد في الليل وقفز إلى وسط الدائرة واختطفه وذهب به، فالأسد كلب من الكلاب، فقالوا: كل ما يعدو بنابه فهو كلب، ويشمل ذلك الأسد والفهد والنمر وغير ذلك. والكلب العقور بخلاف الكلب المسالم المعلم الذي لا يعقر ولا يعتدي، قالوا: فما دام أنه لا يعتدي ولا يعقر فليس فيه صفة الإيذاء بل قد ينتفع به، فبعضهم قال: يلحق بالكلب العقور الذئب؛ لأنه مؤذٍ، وكذلك الثعلب والأسد. إلخ.

الحية من الفواسق عند بعض الفقهاء

الحية من الفواسق عند بعض الفقهاء وهناك من يزيد في هذا الباب: الحية؛ لأنها مؤذية، وجاء وقد جاء أن بعض الصحابة كانوا جالسين في منى، فخرجت عليهم حية، فأرداوا قتلها فهربت وفاتتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (كفيت شركم، وكفيتم شرها) ، فقد أرادوا قتلها فلم يمنعهم، وهناك آثار الله أعلم بصحتها، منها: (من رأى الحية ولم يقتلها برئت منه كذا وكذا ... ) وفيه الحث على قتل الحيات. ويجب التنبيه على ما يستثنى من بعض أنواع الحيات وفي المدينة خاصة، فقد جاء أنه في غزوة الخندق استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته في المدينة -وكان حديث عهد بعرس - فأذن له وقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك بني قريظة) ، فذهب، فلما وصل إلى زوجته وجدها بين عضدي الباب، فهم بأخذ رمحه ليطعنها بسبب وقوفها على هذه الحالة؛ لأن هذا كان بعد نزول الحجاب، فإن الحجاب كان في السنة الثانية وهذا الحادث كان في السنة الرابعة أو الخامسة، فقالت له: لا تعجل، رد عليك رمحك وادخل إلى بيتك وانظر ما في فراشك، فدخل فإذا حية متمددة على طول الفراش، وقيل: ملتوية على وسطه، فاخترطها برمحه ثم أخذ الرمح وركزه في عرصة البيت، يقولون: فانتفضت الحية وسقط هو ميتاً، تقول زوجته: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها من الجن، وقد انتصر لها قومها - لأنه لم يسم الله حينما طعنها-إذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تؤاذنوها ثلاثاً) أي: يقال لها: اذهبي عنا ثلاث مرات، لكن هل يكون هذا في أول ظهورها أم حينما تظهر المرة الأولى والثانية والثالثة؟ قالوا: الثلاث مرات في أول رؤيتها، لأننا لا ندري بعدها ماذا يحدث، فإن ذهبت فاتركها، وإن لم تذهب فاقتلها. واستثني من ذلك نوعان: الصفراء أو الرقطاء، وهي التي يكون على عينيها نقطتان صفراوان، كاللتين تكونان على عيني الكلب الأسود. والبتراء: وهي القصيرة؛ لأن البتراء إذا نظرت إلى الحامل أسقطت حملها، وكذلك ذات الطفيتين، فإن سمها سم ساعة لا يعطي فرصة لعلاجه أو تداركه، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تؤذن الحية البيضاء، ولم يأمر بأن تؤذن الرقطاء ولا البتراء. إذاً: هذه خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، وذكروا أن الحية تكون سادسة، ويستثنى من ذلك في المدينة خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة ليهاجر إليها مسلمو الجن كما تهاجرون أنتم إليها) .

الحكمة من قتل الخمس الفواسق في الحل والحرم

الحكمة من قتل الخمس الفواسق في الحل والحرم وماذا نستفيد من قتلهن في الحل والحرم؟ نقول: إن المسلم مهما كان في إسلامه وفي ديانته وورعه وزهده وطيبته إنما يكون سلماً لمن سالم وحرباً على من حارب، فهو محرم لله يقول: لبيك اللهم لبيك، فهو يكف يده عن الصيد الحلال، وهو خارج في طاعة الله وعبادته، لكن إذا واجهه شيء لا يؤذي فلا يستسلم له، بل يقتل ويقاتل إذا ما اعتدي عليه، وهكذا المسلمون يجب أن يتعلموا من هذا التحليل والتحريم أن يقفوا مع كل موقف بما يناسبه، فإذا جاء واعتدى عليهم قوم فلا يقولوا: نحن مسلمون، ولن نؤذيهم أو نعتدي عليهم، فإن هذه ليست صفات الكمال في الرجال، بل كما قيل: نسالم من سالمنا، ونعادي من عادانا. وهذا هو الواجب على المسلم، وهذا ما يفيده هذا الموقف من إباحة قتل الفواسق والمؤذيات وإن كان محرماً وفي الحرم؛ لأن حرمة الحرم لا تعيذ المؤذين. ثم يأتي البحث الآخر بما يتعلق بالاعتداء في مكة، وسيأتي في حديث حرمة مكة وأن الله حرمها وأباحها لرسوله، وهل يستثنى من ذلك شيء أم لا؟ وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم)

شرح حديث: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم) قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) متفق عليه] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا خبر احتجام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وما علاقة الحجامة بالإحرام؟ أولاً: الحجامة نوع من الطب القديم، وهي: إخراج الدم من الجلد عن طريق تشريطه وجذبه بالهواء، وهناك الفصد وهو: إخراج الدم من العرق عن طريق قطعه أو خرقه. وهناك كما يقال: كاسات الهواء، وهو سحب الرطوبة المتجمعة تحت الجلد. أما الحجامة فهي تدخل في كثير من أنواع العلاج، وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وحث على الحجامة في أمور متعددة، وقد أطال ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بالتداوي بالحجامة، وأين تكون، ومما ينبغي التنبيه عليه: النهي عن الحجامة في الثالث والرابع والخامس عشر من الشهر؛ لأنها ليالي اكتمال الهلال، فيكون هناك شدة المد والجزر في البحار، فإذا احتجم في تلك الليالي، فيكون خروج الدم من الجسم أشد من المعتاد، وبالمناسبة يقول بعض الأطباء: إن من الحكمة في تعيين صيام الأيام البيض -التي هي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر- إنما هي لهذه الحكمة؛ لأن أسباب المد والجزر في البحر بسبب القمر، فيكون هيجان الدم في الجسم كهيجان الماء في المحيطات، فإذا صام في تلك الأيام يكون الصوم أدعى لخفة هذا الهيجان في جسم الإنسان. فالحجامة تفيد من أمراض عديدة، وقد حددوا لها أوقاتاً، وعينوا لكل مرض محلاً يحتجم فيه، وهي من الطب العربي القديم. ويقولون: سوق هذا الحديث هنا ليدل على أصل التداوي، فالمحرم كما يتداوى بالحجامة فإنه يتداوى بغيرها من الأدوية المشروعة النافعة، ولكن الحجامة من حيث هي تحتاج إلى تشريط البشرة تشريطاً خفيفاً، وتارة تكون في موضع منبت الشعر كنقرة القفاء، وهذه يحذرون منها لأنها تؤثر على العين وعلى الدماغ، لكن لها صلة بالأكحل أو غيره، وكذلك على الفخذ إذا كانت الحجامة للمحرم تحتاج إلى إزالة بعض الشعر للتشريط أو لتركيب المحجم وشفط الدم؛ لأن الشعر يعمل فجوات يتخلل منها الهواء فلا يتوجه إلى الدم مباشرة، فإن كانت الحجامة للمحرم في موضع فيه شعر، وكانت الحاجة إليها مطلوبة، فله أن يحلق من شعره وهو محرم من أجل الحجامة ولا إثم عليه، وعليه كفارة هذا الحلق. وإذا كانت الحجامة لغير حاجة؛ فإنه يكون آثماً، لحلق الشعر بدون حاجة، وعليه دم. أما إذا كان موضع الحجامة في الإحرام لا شعر فيه كما يكون في بعض الحالات على ظاهر الكف، أو على الساعد، أو على الكتف ولا تحتاج إلى حلق شعر؛ فله أن يستعملها ولا شيء عليه؛ لأن الفدية من أجل حلق الشعر. إذاً: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، والحجامة من الأدوية النافعة المستعملة، فإن احتاجها المحرم فلا مانع في ذلك، كما أن له أن يداوي الجرح ويتعاطى الدواء للمرض الباطني، أو يجري جراحة أو غير ذلك، فإن سلم من حلق الشعر فلا شيء عليه، وإن احتاج إلى حلق الشعر من أجلها فيحلق المحل الذي يحتاج إليه، وعليه الفدية لما حلق من شعره، والله تعالى أعلم.

شرح حديث كعب بن عجرة في فدية الحلق من الأذى

شرح حديث كعب بن عجرة في فدية الحلق من الأذى قال المؤلف رحمه الله: [وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع) متفق عليه] . هذا الحديث جاء بروايتين: هذه الرواية المتفق عليها، وفيها قال: (حملت) سواء حمل على الأيدي للمرض، أو أخذ بالقوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والقمل يتناثر على وجهي) طال عليه الزمن، والمحرم لا يسرح شعره، حتى قال المالكية: لا يقتل القملة، فإذا وجدها أخذها وطرحها في الأرض، وقد أثاروا مناقشة حول قتل القملة، ولا أدري ما هو السبب في ذلك كله، والبعض يقول: لا يرميها فتموت فيكون قد قتل دابة. سبحان الله! دابة مؤذية كيف يحاسب على قتلها! والبعض يقول: القملة إذا رميت في الأرض تنمو فتصبح عقرباً، والقمل كما يقولون: أشد عنصر ينقل التيفود. والذي يهمنا أن هذا الرجل القمل كثر في رأسه، ولا يستطيع أن يحلق شعره لأنه محرم، ولا أن يمشط القمل من شعره؛ لأن المشط ينتزع بعض الشعرات، فصبر على حاله. وفي رواية أخرى: (مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ على برمة لأصحابي، فإذا به يرى القمل يتناثر من الشعر) . فالحكم يتعلق في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى) ، (أُرى) و (أرى) كلاهما من الرؤية، ولكن الرؤية البصرية والرؤية الفكرية البصيرية، تقول: أرى هذا حلالاً، أرى هذا حراماً، أرى أن تعمل كذا، فهذه رؤية علمية وليست بصرية، وتقول: أنا أرى اللون أحمر، فهذه رؤية بصرية، و: (أُرى) بمعنى: أظن، أي: ما كنت أظن أنه قد بلغ بك الوجع إلى هذا الحد، وإلا لكنت رخصت لك من قبل، فما دام أنه قد وصل بك إلى هذا الحد فقد أصبح هذا عذراً يباح معه حلق الشعر.

وجوب الفدية على من اضطر إلى فعل محظور

وجوب الفدية على من اضطر إلى فعل محظور وأما إيجاب الفدية مع أنه معذور فقالوا: هو معذور رُفع عنه إثم الحلق لعذره، وفرضت عليه الفدية لحلق شعره؛ لأنه استفاد من حلق الشعر الممنوع عليه وهو محرم. إذاً: المسألة متعادلة، فقد عذر بالمرض فلا إثم عليه، ولو حلق الشعر بدون مرض فإنه يكون متعدياً آثماً، لكن العذر أسقط عنه الإثم في حلق الشعر، واستفادته من حلق الشعر جعلت عليه الفدية مقابل هذا الشعر الذي حلقه. إذاً: من اضطر إلى فعل محذور في الإحرام فله فعله وعليه الفدية، ومحظورات الإحرام فيها أشياء تدخلها الضرورة، وأشياء لا تدخلها. فلو أن إنساناً معه زوجته في الحج، فهل هناك ضرورة لأن يباشرها؟ ليس هناك ضرورة، والبعض يذهب بعيداً ويقول: إذا كان مريضاً بالشبق ولا يستطيع أن يصبر، فإن هذه ضرورة، والمرأة ما ذنبها إذن؟ وهذه التقديرات البعيدة الأصل فيها أن تترك. ومن حالات الضرورة أن تكون هناك شدة برد، فمن الضروري أن يلتحف أو يتغطى أو يلبس؛ فإن وجد ما يلتحف به-كالبطانية ونحوها- وضعه فوقه أو لفه على جسمه، وهذا ليس فيه مانع، فإنه يتقي البرد ولم يلبس شيئاً. وإذا كان عنده صداع في رأسه، ولابد أن يربط رأسه ويلبس عليه عمامة، فهنا ضرورة، فله ذلك، كذلك إذا اضطر إلى تقليم ظفره، كما لو دق إصبعه في شيء فكسر ظفره، فقالوا: إن بقي هذا الجزء المكسور وجاء عليه الهواء فإنه قد يؤذيه، فمن أجل أن يتجنب هذا الإيذاء له أن يزيله، وعليه كفارة. فمن اضطر إلى شيء ممنوع عليه في الإحرام فعله وعليه كفارته. وهكذا أباح له صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره من أجل الأذى الذي فيه، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] يقول العلماء: هنا دلالة الاقتضاء، وابن حزم يوافق الجمهور في ذلك، والتقدير: فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه، فحلق بسبب الأذى من رأسه، فعليه فدية، وابن حزم يوافق على ذلك. لكن نجد أن ابن حزم يخالف في مثل هذا الموقف في الصوم في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة:184] والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر بسبب المرض أو مشقة السفر فعدة من أيام أخر، لكن ابن حزم يقول: إذا كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، سواء أفطر أو لم يفطر. ولماذا قدر هناك (فحلق) ولم يقدر الاقتضاء هنا (فأفطر) ؟ حصلت مغايرة ولا نستطيع أن نقول: تناقض، فهو إمام جليل رحمه الله، ولكن الأسلوب اختلف عنده، فهنا {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] أي: فحلق، كما قال ابن حزم نفسه: لأن المرض والأذى في الرأس لا يستوجب فدية، إنما الذي يستوجب الفدية هو حلق الرأس. ثم جاء أوسع من هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك نسكاً فليرق دماً) ، والنسك هنا يشمل كل أعمال الحج، قال تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] لكن هناك من المناسك ما يجبر بالدم، ومن المناسك ما لا يجبر إلا بفعله ذاتياً، فالطواف والسعي والوقوف بعرفات مناسك، لكن إذا فات واحد منها لا يجبر بالدم، بل لابد من فعله، لكن المبيت بمزدلفة والمكث في عرفات حتى تغرب الشمس وأن يجمع جزءاً من الليل مع النهار، هذا واجب، ومن ترك يوماً من أيام منى، فقد ترك نسكاً، ومن ترك طواف الوداع، أو طواف القدوم، فإن هذه مناسك لكنها تجبر بالدم. إذاً: المحرم قد يترك واجباً، وقد يفعل محظوراً، فإن كان للضرورة فلا إثم عليه وعليه الفدية، وإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية.

مقدار الفدية لمن ارتكب محظورا لعذر

مقدار الفدية لمن ارتكب محظوراً لعذر وقصة كعب بن عجرة جاء بها المؤلف ويذكرها العلماء لبيان أن العذر يبيح إزالة هذا العذر أو سببه مقابل فدية. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتجد شاة؟) وهذا سؤال الحكيم الخبير، يسأل الشخص الذي عليه المسئولية، إن كان باستطاعته أن يجد الكفارة، ثم ينتقل به إلى ما هو أسهل من ذلك وهو صيام ثلاثة أيام، ثم ينتقل به إلى الإطعام، فهو محيز بين هذه الأمور الثلاثة، وبعضهم يقول: هي على الترتيب، فلا يصوم إلا إذا عدم الشاة، فإذا وجدت الشاة فلا يجزئ الصوم، والبعض يقول: هو مخير في ذلك، فإن لم يستطع صوماً فيطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. يقول بعض العلماء: نصف صاع من أي طعام موجود تصح منه زكاة الفطرة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: نصف صاع، إن كان سيطعم من البر، وصاع كامل إن كان سيطعم من الشعير أو التمر أو الزبيب أو غيره. والحديث لم يفرق بين طعام وطعام، وقد جعل كفارة الأذى في الإحرام أن يخير بين ثلاثة أشياء، والأولى أن يكون على الترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لصيام الثلاثة الأيام: هل يصومها متتالية أو متفرقة؟ يقول ابن مسعود: يصومها متتالية، ويقول غيره: تصح متفرقة، وإذا كان سيصوم في أي مكان فله لك، وفي أي وقت كان قبل عرفات أو بعد عرفات، المهم أن يصوم بعد أن يزيل الأذى. فإذا انتقل إلى الإطعام؛ فإن الإطعام يكون في الحرم بمكة، فالنحر والهدي والفدية وكل ما يتعلق بجزاء في الحج أو العمرة فإن محل إطعامه هم أهل مكة، قال تعالى: {هدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، وكذلك يقاس عليه كل ما يكون إنفاقاً أو إطعاماً بسبب الحج أو العمرة فإنما هو لأهل مكة. وتتمة لما تقدم في قضية كعب: إذا أحس المحرم بألم في الضرس فله أن يتداوى، وكذلك لو أحس بألم في العين أو الأذن فله أن يضع القطرة، وله أن يقلع ضرسه، لكن إذا في بدنه شيء من دماميل فهل له أن يفتحه ويخرج ما فيه من الأذى أم لا؟ وإذا أصيب في رأسه وجاء بعصابة وعصبها على الجرح، فهل يكون قد غطى رأسه أم يكون عاصباً له؟ وهل يلزمه في ذلك شيء؟ والباب في هذا واسع، والمراد التنبيه على أصل المسألة في أمر الحجامة، وفي إزالة الأذى.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [5]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [5] لقد جعل الله سبحانه وتعالى لمكة مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة، فقد حبس عنها الفيل وأصحابه، ولكنه سلط عليها رسوله والمؤمنين، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، ومن عظيم مكانتها أن الله تعالى حرمها من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، ولا أن ينفر صيدها، أو يختلي شوكها، أو يقطع شجرها، ولا يجوز أن تؤخذ لقطتها إلا لمن أراد أن ينشدها ويعرف بها.

شرح حديث حرمة مكة

شرح حديث حرمة مكة قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر) متفق عليه] . هذا الحديث وهو حديث حرمة مكة يتناول عدة مسائل، ولنأخذ الحديث جملة جملة، ثم سنأخذ بعض الجوانب التي تحتاج إلى تنبيه وييسر الله تعالى أمرها.

دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا

دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة) لم يقل: لما فتح رسول الله مكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي فتحها عليه، وهل فتحت مكة عنوة أو صلحاً؟ في ذلك خلاف بين العلماء، ويترتب على ذلك الخلاف في رباع مكة، فمن قال: فتحت صلحاً فليست هناك غنائم، وليست هناك قسمة غنيمة، وإن افتتحت عنوة فهي غنيمة وهي حق للمقاتلين، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: فتحت عنوة فله وجه، ومن قال: فتحت صلحاً فله وجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخل متواضعاً لله سبحانه وتعالى، حتى إن جبينه ليمس قربوس راحلته تواضعاً لله على نعمة فتح مكة عليه. وإذا تأملنا السيرة النبوية نجد أنها كعقد متراص كل حلقة تأخذ بعجز الأخرى، وكل غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم أو سرية من السرايا نجد أنها تجر ما بعدها، وهكذا تترتب الغزوات ترتب النتائج على أسبابها. لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها، فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال حسان) ، وهنا تكريم للشاعر الإسلامي حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه قال هاجياً أبا سفيان ومدافعاً: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء فدخلوا من حيث قال حسان، والفقهاء يرمزون لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم الكاف في كُداء. فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن) ، فدخل يؤمن الناس على دمائهم وأنفسهم. إذاً: فتح الله على رسوله مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب، ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل، هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.

عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة

عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة قال رضي الله عنه: (قام صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه) لما فتح الله على رسوله مكة، لم يتجبر أو يتكبر، ولم يسلب أو ينهب؛ بل إنه ضرب المثل الأعلى في الإحسان لمن أساء إليه، حينما وقف بباب الكعبة وقال: (يا أهل مكة! ماذا تظنون أني فاعل بكم؟) في هذه الكلمة يعيد عجلة التاريخ السابقة حينما كانوا يؤذونه، ويضعون عليه سلى الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة، ويؤذون أصحابه، وها هو اليوم يقول: ماذا تظنون أني فاعل بكم بعد أن قدرت عليكم؟ وحينها تنازلوا عن ذلك الكبرياء والطغيان والإيذاء، ولجئوا إلى صلة الرحم والعطف، فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. استجداء واستعطافاً بالأخوة آلآن أصبح أخاً كريماً، وبينما عند إيذائهم له لم يكن كريماً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) . فقد كانوا في يده، وكان بإمكانه أن يحكم بأخذهم أسارى، ولكن أطلقهم لله وصلة للرحم، ووفاء للموطن، ولأشياء عديدة لا يمكن حصرها في هذا المقام.

حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل

حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل ومما قاله في ذلك الموقف رداً على تساؤلات في نفوسهم، وهذا فيه توجيه إلى أنه ينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لمشاعر الناس وما يدور في خلجاتهم بمقتضى القرائن، فالموقف الآن اقتحام مكة ودخولها بالسلاح، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر، أي: أنه ليس بمحرم بل مقاتل، فلما كانت الصورة صورة استباحة واستحلال مكة، وهي محرمة، يعظمون حرمتها وقد كان الرجل قبل الإسلام يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمد يده عليه إعظاماً لحرمة الحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، أي: ومن دخله من إنس أو طير أو حيوان؛ بل حتى النبات فهو آمن فيه؛ فلا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولقطته محرمة، أين ذهبت هذه الحرمة؟ فهنا أزال عنهم كابوس هذا التفكير فقال (إن الله حبس) فأتى بهذه المقدمة حتى نعلم جميعاً أن مكة محرمة، وأن الله حبس عنها الفيل، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، فقد جاء أبرهة بجيش عرمرم، وأتى بالفيل من أجل أن يستعين به على هدم الكعبة؛ لأنه كان قد بنى كنيسة وسماها (القليس) وزخرفها وزينها ليصرف عرب اليمن إليها بدلاً من الحج إلى الكعبة، وبالتالي يصرف القبائل المجاورة لليمن، فجاء رجل أعرابي غار على الكعبة، وأراد أن يكيد للملك، فدخل القليس وتبرز فيها، فبلغ الملك هذا الفعل، فغضب وقال: لأهدمن بيتهم الذي يعتزون به انتقاماً للقليس. فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل- فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول، فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل انحسر فيه. وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه، وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل البحر. وكذلك أبرهة، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده. والفيل هو أضخم حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء. فهنا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حبس عن مكة الفيل) ، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش) وقال القائل: أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم الله إلا أجبتهم إليها) ، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا. إذاً: الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة، الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت مقارنة مثل هذه؟! إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟ وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟ إذاً: تلك الحيوانات لها إدراك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ، بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم) . ولما ورد كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، فقرأه على أهل العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل سيفه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.

حرمة مكة إلى يوم القيامة

حرمة مكة إلى يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) أي: في فتحها، (وإنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) جاء في بعض الروايات ( {وقد أحلها الله لي ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي) . وقوله: (لم تحل لأحد قبلي) أي: في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله، وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة، وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت مندثر، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] ، فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه لإبراهيم، كما جاء لـ عبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر، فحفر حتى وصل إلى القواعد. وقد جاء في الحديث الآخر: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) ، وسيأتي الحديث الآخر: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة) ، وجمعوا بين الحديثين: بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛ فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه وبين حدود حرمها. إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛ لأنها غير حلال له. قال: (وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن تحل لأحد بعدي) يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً. وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره: (فإن ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد بعده) ، وفي بعض الروايات: (وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم القيامة) . إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي: بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.

حكم إقامة القصاص والحدود داخل مكة

حكم إقامة القصاص والحدود داخل مكة وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها. وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة: لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك. وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة لحرمتها. فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛ لأن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر. وبعض العلماء يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة. وكذلك قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟ قال بعضهم: يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ( {إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه) . وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي. والذي يهمنا في هذا الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.

حكم تنفير صيد الحرم

حكم تنفير صيد الحرم قال صلى الله عليه وسلم: (فلا ينفر صيدها) . من حرمتها أن لا ينفر صيدها، والتنفير: هو التخويف والإهاجة، وهنا كما يقولون: من مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب: إذا كان الصيد فيها آمناً فلا تزعجه ولا تنفره من مكانه، فهل يجوز صيده وقتله؟ من باب قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] ، فهل يجوز له أن يفعل أكثر من ذلك؟ لا يجوز له ذلك. والصيد: هو كل حيوان بري يحل أكله، أما إذا كان وحشياً كالسباع فقد تقدم: (يقتلن في الحل والحرم) . ويضيف العلماء أيضاً: لو أن حلالاً اصطاد خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فإنه يطلق من يده؛ لأنه منهي عن إمساك الصيد أو قتله أو تنفيره في الحرم.

حكم قطع شوك الحرم وشجره

حكم قطع شوك الحرم وشجره قال: (ولا يختلى شوكها) . الاختلاء: هو أخذ الحشيش من الخلاء كالصحراء والوادي، ويذكر عن الشافعي رحمه الله: أنه أباح قطع الشوك الذي في الأغصان، كما يقول الصنعاني شارح البلوغ، وقد استدل بأن الشوك مؤذٍ، وإنما أبيح قتل الفواسق الخمس لأجل الأذى، فلما كانت الفواسق تقتل في الحل والحرم لوجود الأذية، والشوك مؤذٍ، فيقاس عليها ويجوز قطعه، لكن يقول الصنعاني أو غيره: إنما أباح قطع الشوك من الأغصان. وأعتقد أن هذا مغاير لطبيعة الحرم؛ لأنه يوجد في الحرم نبات قصير جداً ينبت على وجه الأرض وفيه الشوك، فهذا هو الذي يؤذي؛ لأنه إذا أراد الإنسان أن يجلس أو أن ينصب خيمة أو أن يفرش فراشه، فإن هذا الشوك سوف يؤذيه، فقد يضطر لقلعه من أجل أن يمهد له مكاناً يجلس فيه، فإذا نقل عن الشافعي أنه أباح قلع الشوك للإيذاء فيكون هذا النبت من باب أولى؛ لأن الشوك في الأغصان فوق الدوحة ونحوها لا يؤذي أحداً بشيء، فيكون هذا أولى بحمله عليه. وإذا كان الشوك المؤذي لا يختلى، فإن النباتات الأخرى من باب أولى. قال صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجره) أي: لا يقطع شجره، قيل: في الشوك النبات وفي الشجر ما لم ينبته الآدمي، فما كان من نبات الآدمي فهو يزرع ويحصد، أما ما كان نبتاً طبيعياً من خلق الله سبحانه دون أن يكون للإنسان فيه عمل كالنباتات الصحراوية، فهذه هي التي لها حرمة ولا يعتدى عليها.

حكم لقطة الحرم

حكم لقطة الحرم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد) . الساقطة: هي اللقطة التي سقطت من صاحبها، وقوله: (إلا لمنشد) أي: لا يأخذها شخص من مكانها إلا على نية الإنشاد، أي: الإعلام بها، فهي لا تملك بالالتقاط، بخلاف اللقطة في غير الحرم؛ فإن حكمها أن ينشدها لمدة سنة، فإن ظفر بصاحبها سلمها إليه، والإنشاد لمدة سنة إنما هو إن كانت صالحة للبقاء سنة، وإلا باعها أو تصرف فيها بعد أن يعرف قيمتها، وتكون ديناً عنده وأمانة، فإذا ظهر صاحبها أعطاه إياها، فكل ضالة أو ساقطة للإنسان أن يأخذها بنية التعريف والإنشاد، وينشدها على أبواب المساجد، أو مظنة وجود صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا سمعتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) ؛ لأنه سوف يستغل المسجد في غير ما وجد له، كما جاء النهي عن البيع والشراء في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع، فقولوا: لا أربح الله تجارتك) ، وكما قال عمر رضي الله عنه: (من أراد الثواب والأجر وسوق الآخرة فليأت إلى المسجد، ومن أراد البيع أو الشراء أو الحديث فليخرج إلى أسواق الدنيا) ، وقد بنى رحبة في غربي المسجد، وقال: (فمن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى هذه الرحبة، ومن أراد حديث الآخرة فليبق في المسجد) فالذي يجد ساقطة في الحرم في مكة فلا يحل له أن يأخذها إلا إذا كان على استعداد أن ينشدها، ومهما أنشدها سنة أو سنوات فلا يتملكها، بخلاف الساقطة في غير الحرم المكي، فإنه يتملكها بعد سنة، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فإن كان قد استفادها لنفسه واقتناها سلمه قيمتها، وإن كان قد تصدق بقيمتها على نية صاحبها فيخبره ويقول له: لقد انتظرت وعرفت فلم يأت أحد، فتصدقت بها على نية صاحبها، فإن قبلت الصدقة فأجرها لك، وإن لم تقبل فأكون قد تصدقت بغير ما أملك، فهذه قيمتها والصدقة لي. وهنا يأتي السؤال: لماذا تملك ساقطة غير الحرم بعد سنة وساقطة الحرم لا تملك أبداً؟ قالوا: لأن حرم مكة يأتيه الحجاج في كل سنة من كل مكان، ولا ندري ممن سقطت تلك اللقطة، ولا يلزم أن من سقطت له ساقطة يعود في العام القادم من أجل أن ينشد ساقطته أو ضالته، ويمكن أن لا يتأتى له المجيء إلا بعد خمس سنوات على أقل تقدير، أي: في التطوع؛ كما في الحديث القدسي: (من عافيته في بدنه وأغنيته في ماله، فلا يحق له أن يهجر البيت فوق خمس) أي: خمس سنوات، فيمكن أن لا يأتي إلا بعد خمس سنوات، فنقول: هذا خاص بالحرم، فإذا سقطت لقطة من حاج آفاقي، وأنشدها الملتقط سنة أو سنتين، ولم يأت صاحبها، ولا يدري عنها أحد شيئاً، فتبقى أمانة في يد ملتقطها وينشدها إلى أن يأتي صاحبها.

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [6]

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [6] لقد حرم الله سبحانه وتعالى مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ومن حرمتها: أن من قتل خارج مكة ثم لجأ إليها فلا يقتل حتى يُخرج منها، أما من قَتَل فيها فإنه يُقتل فيها، ومن قٌتِل له قتيل فهو بخير النظرين: القصاص أو الدية. ومن حرمة مكة: أنه لا يجوز قطع شجرها إلا الإذخر، فإنه يجوز قطعه للحاجة. والمدينة حرم كمكة، فلها حرمتها وتعظيمها، فلا يجوز قطع شجرها، ولا قتل صيدها، ومن فعل ذلك فهو آثم ولا جزاء عليه، وحدود حرم المدينة ما بين الحرتين شرقاً وغرباً، وما بين جبل عير وثور شمالاً وجنوباً، والحد وهو الحرتان وعير وثور داخل في حدود الحرم.

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين) قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين) . قوله: (فهو بخير النظرين) : النظران في قتل العمد؛ لأن قتل الخطأ فيه نظر واحد وهو الدية، أما العمد فله الدية وله القصاص، ومناسبة ذكر القتل في هذا الحديث: قالوا لأن حرمة مكة تعيذ القاتل من القتل، وتجعل من دخلها آمناً، حرمة مكة تعيذ من لجأ إليها، أي: أن من ارتكب جريمة خارج مكة ولجأ إليها دخل في نطاق الأمن، لكن مجيء هذا الحديث بهذا السياق يشعر بأن القاتل في مكة لصاحب الدم الخياران، فله أن يقتله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراجه من الحرم، والمعروف أنه يقتل حيث قتل، إذاً: الحديث هنا يشعر بأن حرمة تلك النباتات والحيوانات في الصيد وحرمة مكة لا تمنع القاتل من أن يقتص منه في الحرم، وهذا ما يرجح القول -وهو قول الأكثرين- بأن الجاني في مكة يقتص منه في مكة، بخلاف من جنى خارج مكة ولجأ إلى مكة؛ فإنه يخرج إلى الحل ويقتص منه. وقوله: (فهو بخير النظرين) النظران هما: القصاص أو الدية، وفي قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] اتفق العلماء في هذه القضية على أن اليهود كان عندهم حكم واحد: وهو أن القاتل يقتل، ثم جاء النصارى وأصبح الحكم عندهم أن القاتل يدفع الدية، ثم جاء في الإسلام التخيير بين الأمرين. وفي فقه المسألة عند الأئمة رحمهم الله: أنه إذا قبل أولياء الدم عن القاتل عمداً بالدية فعليه أن يدفعها. وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أنه ليس لولي الدم على القاتل إلا نظر واحد إما القصاص وإما الترك، وهذا مذكور عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ولم يذكر في العمد دية، فقالوا: الجاني إن لم يرض ويقبل بدفع الدية عند طلبها من ولي الدم فليس بملزم، بل إما أن يقتص ولي الدم أو يتركه، وفي المذهب المالكي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول هو هذا، وهو المشهور عن مالك. القول الثاني: وافق فيه الجمهور: وهو أنه إذا طلب ولي الدم الدية فعلى القاتل أن يدفعها. القول الثالث: التفصيل: فإن كانت الجناية في النفس، وطلب ولي الدم الدية، وكان الجاني واجداً، وجب عليه أن يدفع الدية، وإذا كانت الجناية في عضو؛ كأن اعتدى على يده أو عينه أو أذنه، فإن طالبوا بالقصاص فعليه أن يقدم القصاص، وإن طالبوا بالأرش ودية العضو فالجاني بالخيار؛ إما أن يمتنع من دفع الأرش ويقول: اقتصوا كما جاء في الشرع، ولست ملزماً بالدية. وفي هذه المسألة سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: الراجح أنه في قتل النفس إذا طلب الولي الدية فيتعين على الجاني أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ، فإذا وجد الدية وعوفي من القصاص فلا يقل: اقتصوا؛ لأنه حينئذ يكون كقاتل نفسه؛ لأن الدية تعفيه من القتل وهو يأبى إلا أن يقتص منه. إذاً: الحديث هنا يرد على هذا القول، سواء كان عند مالك أو عند أبي حنيفة رحمهما الله.

حكم المصالحة على أكثر من الدية

حكم المصالحة على أكثر من الدية لو أن ولي الدم تمسك بالقصاص، وعرض الجاني الدية، وبدلاً من أن تكون دية جعلها عدة ديات، فمثلاً: الدية مائة بعير، فهو يعرض مائتين وثلاثمائة أو أكثر، فإذا قبل ولي الدم فلا مانع، يعني: لا يقال: إن ولي الدم لا يحق له أن يأخذ من الجاني أكثر من الدية؛ بل إذا كان الحكم قصاصاً، فهو الآن لم يأخذ الدية إنما يأخذ الصلح عن التنازل عن القصاص، وهذا راجع للتراضي بين الطرفين، والحد الأدنى للدية هو مائة من الإبل، وهذا في قتل الخطأ، لكن في العمد يكون الطلب هو القصاص، وإذا تصالح الجاني عن قتل نفسه بعدة من الديات فلا مانع لولي الدم أن يقبلها.

جواز قطع الإذخر من الحرم للحاجة

جواز قطع الإذخر من الحرم للحاجة قال العباس لرسول الله بعد أن ذكر حرمة شجر الحرم: (إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا، فقال: إلا الإذخر) . قول العباس رضي الله تعالى عنه: (إلا الإذخر يا رسول الله) (إلا) أداة استثناء، والإذخر نبات، فالإذخر مستثنى من قوله: (ولا يختلى شوكها) ومن قوله في الحديث الآخر: (ولا يختلى خلاها) والخلاء: هو النبات الذي ينبت في الأرض على الأمطار أو السيول أو غير ذلك، وهنا من ضمن الخلاء الذي ينبت في الأرض البيضاء: الإذخر، وهو نبت حجازي معروف، طيب الرائحة، وله خصائص مذكورة في كتب الطب، وقد كان يؤخذ الإذخر قديماً ويوضع على أفواه أكياس الفحم. فـ العباس رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستثني من الخلاء الإذخر، ولما كان معروفاً عندهم ما احتاج إلى تعريف، ثم علل رضي الله عنه موجب هذا الاستثناء فقال: (فإنا نجعله في قبورنا) ، فقد كانت العادة أن أهل مكة يشقون وأهل المدينة يلحدون، والشق: هو أن يحفر القبر، ثم يحفر في الوسط خد على قدر الجسم ويمدد فيه، واللحد: بعد أن يحفر القبر في جهة القبلة قدر ما ينام فيه الميت ثم يسد عليه، وفي كلتا الحالتين يسد على الميت باللبن أو بالحجارة، وكان يتخللها فراغ، فإذا أهيل التراب على الميت تساقط التراب من بين الأحجار أو الطوب على الميت، فيجعلون الإذخر يسد المسام والفراغ الذي بين الحجر والآخر، وقد يتعذر عليهم استعمال الطين خاصة وأنه لا يوجد هناك؛ لأن الأرض رملية. إذاً: العباس رضي الله تعالى عنه طلب استثناء الإذخر لمصلحتهم وحاجتهم: الأولى: أنهم يضعونه في قبورهم. والثانية: أنهم يضعونه في بيوتهم، وذلك حينما يسقفون بالخشب ويأتون بالجريد أو الأغصان ويضعون فوقها من الطين ما يحميها من الأمطار، فيكون بين الأخشاب فراغ، فيجعل الإذخر طبقة فوق الأغصان أو الجريد أو الخشب، ثم يوضع فوق ذلك ما يطلى به السقف من الطين. الثالثة: قوله: (ولقيننا) واللفظ هذا موجود في بعض النسخ، القين: هو الحداد، وحاجة الحداد إلى الإذخر حينما يأتي بالحطب ليشعله ليذيب به الحديد، والحطب الكبير إذا أشعل فيه الكبريت لا يشتعل، فيحتاج إلى صغار الأغصان ودقائق النباتات، فيؤتى بالإذخر فيشتعل حالاً ثم توضع الأخشاب الكبيرة بعد ذلك، فنار الإذخر تحرق الأخشاب، وهكذا يكون وسيلة لإشعال الحطب، وإلا لما استطاع الحداد أن يشعل النار في الحطب الجزل، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم استثناء العباس، وعرف حاجتهم إليه؛ قال: (إلا الإذخر) . وهنا مسألة: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بعد السؤال مباشرة، أي: أنه لم يتربص مجيء الوحي ليجيبه عن هذا السؤال؛ بل أجاب حالاً، فهل تكون هذه الإجابة اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الوحي جاء سريعاً وأخبره بالحكم؟ فمكة حرام منذ أن خلق الله السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، فهو استثنى من ذلك الإذخر، فيقول ابن دقيق العيد: يحتمل أن هذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وقد أقره الله عليه، ويحتمل أن يكون الوحي قد جاء بسرعة؛ لأن الوحي إعلام في الخفاء، فيكون جبريل عليه السلام قد جاءه بالجواب. وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب العباس لحاجته، فهل كل ما نهى عنه رسول الله يباح للحاجة؟ قالوا: لا؛ لأن النص جاء باستثناء الإذخر بخصوصه، ولم يأت باستثناء الحاجة في الخشب لسقف البيوت، ولا لآلات البيت من النجارة وغيرها، ولم يأت باستثناء الخلاء للرعي، حتى قال بعض العلماء: الخلاء الرطب وهو المرعى الذي ترعاه الدواب لا يحل رعيه، ولكن أين يذهبون إذا كان عندهم دواب؟ يقال: هذا من نبت الله، المهم أنهم لا يعتدون. إذاً: أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وأنها محرمة من قبل، وإنما أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت إلى يوم القيامة، ومن حرمتها أن يتجنب فيها قتل الصيد وتنفيره، وقطع شجرها، واختلاء شوكها، والتقاط لقطتها إلا لمنشد، وهنا يبحث الفقهاء فيمن ارتكب أحد هذه الأشياء المنهي عنها في الحديث السابق، فمن اختلى خلاها، أو اقتطع شجرها، أو نفر أو قتل صيدها، هل عليه في ذلك جزاء أم لا؟ من المعلوم أن المحرم إذا قتل الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] قالوا: وفي الحرم كذلك، فهناك لحرمة الإحرام خارج الحرم، وهنا لحرمة الحرم في الحج وفي غيره، للمحرم ولغيره، حتى قالوا في الشجرة الكبيرة فيها نعامة، والشجرة الصغيرة فيها شاة، قياساً على كبار الصيد وصغاره، ولكن لم أقف على نص مرفوع فيما يتعلق بجزاء النباتات والأشجار، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها.

شرح حديث: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ... ) قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) متفق عليه] . قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة) هنا إسناد التحريم إلى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهناك إسناد التحريم إلى الله سبحانه وتعالى، والحديثان كلاهما صحيح، وقد جمع العلماء بين هذين الخبرين: بأن الله قد حرمها فعلاً يوم خلق السموات والأرض، وأخبر ملائكته بذلك، ولكن العمل بهذا التحريم لم يكن إلا زمن إبراهيم عليه السلام، فيكون تحريم الله سابقاً تكريماً، وتحريمه في زمن إبراهيم عليه السلام تعليماً، وإنما التكليف حصل بتحريم إبراهيم عليه السلام، أو أن إبراهيم أظهر تحريمها بعد أن نسيه الناس وتوالت عليه القرون الطويلة، والذي يهمنا أن حرمة مكة أمر مقطوع به.

حرمة المدينة المنورة وحرمها

حرمة المدينة المنورة وحرمها وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني -يسند النسبة إليه- حرمت المدينة) يقول بعض العلماء: إن حرمة المدينة قديمة أيضاً، وإنما أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في تاريخ الهجرة ومعالمها أنه صلى الله عليه وسلم قال (أريت دار هجرتي أرضاً سبخة ذات نخيل، أُراها هجر أو يثرب) وهجر هي الأحساء حديثاً، ويثرب هي المدينة المنورة، ويذكر في أخبار الإسراء والمعراج أن جبريل عليه السلام في رفقته للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى أنزله مرتين يصلي، ففي الأولى قال: (أعلمت أين صليت؟ قال: لا، قال: بيثرب، وهي المهاجر، والثانية في بيت لحم) إذاً: حرمة المدينة أو اختيارها إنما هو من ذي قبل، ولكن إعلان حرمتها إنما هو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

المفاضلة بين مكة والمدينة

المفاضلة بين مكة والمدينة وهنا ربما تناول بعض العلماء المقارنة بين مكة والمدينة بأن تحريم مكة من إبراهيم، فيكون هناك المقارنة بين ما حرمه إبراهيم عليه السلام وبين ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوا هذا في باب المفاضلة بين مكة والمدينة، واستدل بذلك من يفضل المدينة على مكة، وهنا ينبه -كما يقول العلماء- إلى أن الخوض في المفاضلة بين مكة والمدينة إنما هو إشغال وقت وإثارة شعور لا طائل تحته، إنما ينظر فيما هو أفضل للمهاجر والمقيم، هل الأفضل له أن يهاجر إلى مكة أم إلى المدينة؟ وهل الأفضل أن يقيم في مكة مجاوراً أم في المدينة مهاجراً؟ هناك قول لبعض العلماء وعلى رأسهم مالك: أن الهجرة والإقامة بالمدينة خير من الهجرة والإقامة بمكة، والبعض يستدل على أن الإقامة بالمدينة أفضل: بأن مكة تتضاعف فيها الحسنات وكذلك السيئات، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فيؤاخذ الإنسان في مكة بمجرد الإرادة ولو لم يفعل، أما المدينة فتضاعف فيها الحسنات ولا تتضاعف فيها السيئات، إن فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وهذا لا قول لأحد فيه، وهو صحيح بالإجماع، وجاء أن صوم رمضان في المدينة بألف، وجمعة في المدينة بألف، وهذان الخبران فيهما مقال. وقد فضل بعض العلماء المقام في المدينة لأن الله اختارها مهاجراً لرسوله ومقاماً له، ثم كان فيها مثواه صلى الله عليه وسلم.

المقارنة بين حرمة مكة وحرمة المدينة

المقارنة بين حرمة مكة وحرمة المدينة ونحن الآن نتكلم عن تحريم المدينة وليس عن تعداد فضائلها وخصائصها، فقد عدد بعض العلماء خصائص المدينة وأبلغها إلى حوالي مائة خصيصة، وهذا أمر يطول بيانه، لكن يهمنا تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم آمن) ، فتسميته صلى الله عليه وسلم المدينة حرماً يرد على بعض العلماء المتأخرين الذين يقولون: لا يسمى حرماً إلا مكة، ولكن هذا صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرم آمن، ثم بين صلى الله عليه وسلم حكم الحرم المدني كما بين حكم الحرم المكي بأنه لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد، فذكر حرمة الخلاء والشجر في حرم المدينة إلا لحاجة علف دابته أو خشبه، فإن ذلك لا بأس به للحاجة، ومع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو أن يقطع شجرها إلا لحاجة، أو أن ينفر صيدها، اتفق العلماء -إلا ما جاء عن بعض المالكية- أن من قتل بها صيداً فإنه لا جزاء عليه كجزاء صيد مكة، لكنه آثم بانتهاكه حرمة الحرم، ويعزر من جانب ولي الأمر، بل قال بعض العلماء: يسلب، أي: تؤخذ ثيابه، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى غلاماً يصطاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه، فأبى أهله وطلبوا رد الثياب إليه، فقال: (حاشا، طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أردها عليكم، إن شئتم أعطيتكم قيمتها فعلت، أما هي فلا) . ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بأهلها خيراً، وبين أن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار كما يذاب الرصاص، أو أذابه الله كما يذاب الملح في الماء. ثم حث صلى الله عليه وسلم وحذر من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإحداث الحدث يراد به عند العلماء: الابتداع، أي: أن يبتدع في دين الله في المدينة ما ليس من دين الله، أو يبتدع أمراً لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا تأملنا في ذلك فإننا نجد أن حرمة المدينة وتعظيم شأنها والحفاظ على أمر الدين فيها من ضروريات الدين؛ لأن مكة بحرمها كانت وما زالت مأوى المؤمنين؛ وهي دار السلم والسلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولما ضيق على المسلمين في بادئ الأمر واضطروا إلى الخروج إلى مكان آمن كانت المدينة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المدينة أصبحت المدينة آنذاك عوضاً لهم عن مكة، وأصبحت العاصمة للعالم الإسلامي كله، يفد إليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان لزاماً أن يبقى الدين كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتى آتٍ من الآفاق وأراد أن يأخذ أحكام الدين وجدها نقية بعيدة عن أي الشوائب والعلائق. وهكذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لكم تبع، ستفتح الأمصار، ويأتي إليكم رجال يطلبون العلم، فأقرئوهم وعلموهم) . وقد اعتبر مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة، وقد استدل به على أعمال عديدة لم يأت بها نص من الكتاب ولا من السنة، ولكن يستدل بمجرد عمل أهل المدينة -أي: عمل علمائها- ويقول: إنهم يأخذون ذلك خلفاً عن سلف، ويأخذونه كابراً عن كابر. وقد جاء تطبيقاً لذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله لما جاء مع هارون الرشيد إلى المدينة ولقي مالكاً رحمه الله، تذاكرا العلم وتدارسا في المدينة، وسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فقال أبو يوسف: بل هو عندنا ثمانية أرطال، فقال مالك لجلسائه: من كان عنده صاع يؤدي به زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به غداً، ومن الغد اجتمعت عند مالك ما يقارب خمسين صاعاً، وكلهم يخبر عن أبيه أو عن أمه عن جده عن جدته أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو يوسف: فنظرتها فإذا بها كلها سواء، فأخذت واحداً منها وذهبت به إلى السوق، فعايرته بعدس الماش فإذا هو خمسة أرطال وثلث، فلما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث، قالوا: خالفت شيخ القوم -أي: أبا حنيفة رحمه الله- فقال: وجدت أمراً لم أجد له مدفعاً، أي: منقولاً عن ذاك العدد الكبير. فكان عمل أهل المدينة وما ينقلونه عن سلفهم حجة، وكان ذلك عملاً لـ مالك، وقد أحصي ما في موطأ مالك مما هو مسند لعمل أهل المدينة دون أن يورد عليه آية أو حديثاً أو قول صحابي أو خليفة فوجد أنه يزيد على ثلاثمائة وثلاث عشرة مسألة، وقد قورنت هذه المسائل مع ما عند الأئمة الثلاثة فما اختلفوا مع مالك إلا في مسألة واحدة انفرد بها ولم يوافقه غيره عليها، وأما بقية المسائل فقد شاركه فيها غيره، فقد يتفق معه إما الثلاثة أو اثنان أو واحد، فكان ذخيرة للمسلمين أوردها مالك في موطئه ليس عليها نص من آية أو حديث، ولا يتأتى لإمام غيره أن يحصل عليها؛ لأنه أخذها مباشرة عن أهل المدينة المعاصرين له، وهم أخذوها عن أسلافهم فيما قبل. إذاً: المدينة حرم آمن، وينبغي أن تظل بحرمتها إلى يوم القيامة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على تلك الحرمة، وحذر وزجر ونهى من إحداث البدع فيها أو إيواء محدث. ثم حث على الإقامة فيها، بل والموت فيها لمن استطاع، بل قال: (من استطاع أن يتخذ له أصلاً في المدينة فليفعل) أي: من سكن أو زراعة أو غير ذلك، وقال: (من مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) ، قالوا: (شهيداً) فيمن حضره، و (شفيعاً) فيمن كان بعده. ثم يذكر العلماء من الفضائل العديدة: أن أهل البقيع في المدينة أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة بعد القبور الثلاثة المشرفة، وهكذا دعوته صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة، ولأجل هذا ذكر المؤلف رحمه الله حرم المدينة وحرمتها بجوار ذكره لحرم مكة وحرمتها، وقد أشرنا إلى أن أحكام حرم المدينة كأحكام حرم مكة سواء بسواء، إلا أنه ليس فيه جزاء كجزاء مكة، إلا ما جاء عن بعض المالكية أنه رأى في حرم المدينة جزاء كجزاء حرم مكة. وهناك حرم ثالث لا يطلق إلا بالقيد وهو: وادي وج، وهو وادٍ في الطائف، فيرى الإمام الشافعي رحمه الله أنه يطلق عليه حرم ولكن بملازمة الإضافة، فيحرم صيده، وله أحكامه المعلومة.

حدود حرم المدينة

حدود حرم المدينة حدود حرم المدينة بحث قديم متجدد، وقد أطال العلماء البحث فيه، ولكن كل ما يطرأ من بحث حول حدود الحرم فإنما هو لتحقيق المناط ولتبيين المراد، وإلا فقد أجمع المسلمون على مسميات حدود الحرم، والمجمع عليه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها) واللابتان: الحرتان، واللابة: الحرة، أي: الحجارة السوداء، والمدينة محاطة باللابتين الشرقية والغربية، وهي في الحقيقة حرة واحدة لكن لها طرفان: طرف في المشرق وطرف في المغرب، وجنوب الحرة قد يمتد ويوغل في الامتداد حتى يصل إلى المهد أو يزيد أو ينقص، فهي مدورة حول المدينة. يقول النووي رحمه الله: إن الحد هنا داخل في المحدود، أي: أن اللابتين داخلتان في مسمى الحرم، والحرتان طرفان أو حدان للحرم شرقاً وغرباً، فالطرف الشرقي يمتد من وادي قناة وينزل إلى مسامتة ما يقرب من وسط جبل أحد، والطرف الغربي يمتد وينزل إلى قريب من طريق سلطانة إلى جبل أبي عبيد، وهو خلف المعهد المهني بقليل. أما من الشمال والجنوب فقد جاء في الصحيحين: (المدينة من عير إلى ثور) وجبل عير موجود في منطقة ذي الحليفة، ولم يختلف أحد من المؤرخين في موضعه، وإن خالف بعض من كتب في ذلك ونفى أن يكون بالمدينة جبل يقال له: عير، أو جبل يقال له: ثور، وحمل الحديث على تقدير المسافة بين عير وثور بمكة، ولكن التحقيق الذي عليه العلماء وتناقله الناس خلفاً عن سلف: أنه يوجد في المدينة جبلان: جبل عير، وجبل ثور، وعير يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من ذي الحليفة، أي: من مسجد الميقات، وهو مشهور لأهل المدينة جميعاً، فهذا حد الحرم من الجنوب، أما حده من الشمال فهو جبل ثور، وقد اختلف في مسمى هذا الجبل حتى قال البعض -كما ذكرنا-: لا يوجد في المدينة جبل يسمى: جبل ثور، ولكن المحققين أثبتوا ذلك وتناقلوه خلفاً عن سلف، وحقق المطري في تاريخه للمدينة وجود هذا الجبل، وقال: قد حققته بالمشاهدة، وكبار السن الموجودون الآن في تلك المنطقة يتناقلون أخباره وهو الذي يسمى: جبل الدقاقات، وهو يقع شمال الخط الجديد الذي يمر به، وبينه وبين الخط مسافة ميل، ويقول المؤرخون: إنه يقع شمال جبل أحد إلى الغرب، وهو أحمر مدور، وهو فعلاً على ما قالوا، وهو حد الحرم من الشمال، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات: (وجبل وعيرة) وجبل وعيرة: هو الجبل الذي بعد محطة الكهرباء الجديدة التي على خط المطار، وهو مسامت لجبل ثور من وراء أحد بالفعل. وعلى هذا: فإن حرم المدينة الذي يحرم فيه الصيد إنما هو ما بين هذه المعالم الأربعة: الحرتان من الشرق والغرب، وعير وثور من الشمال والجنوب، وقد جاء في حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدد ذلك بالمسافة: بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف بالحساب الحديث، وعلى هذا يكون حدود الحرم إن اعتبرناه دائرة فيكون قطر الدائرة بريدان: بريد من الشرق وبريد من الغرب، وبريد من الشمال وبريد من الجنوب. وبعضهم يقول: إن حدود الحرم من الجنوب الشرقي من البيداء وذات الجيش، والبيداء: هي التي يصعد إليها الحاج من ذي الحليفة، وقد قدم معنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل: أهل حينما سلم من صلاته في مصلاه، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحلته، ومن قائل: أهل بالبيداء، والبيداء ملاصقة لذي الحليفة، وبقربها أيضاً ذات الجيش، ومن جهة الشمال الحفياء، والحفياء تمتد خلف جبل ثور إلى مسافة ليست بعيدة، وأحكم الأقوال في ذلك والمتفق عليه بلا نزاع هو: بريد في بريد في بريد.

حكم قطع شجر حرم المدينة وقتل صيده

حكم قطع شجر حرم المدينة وقتل صيده وعلى هذا يتعين على كل مقيم بالمدينة أن يحفظ هذا الحرم بحدوده، ولا يقطع الشجر إلى لحاجة، ولا يختلي خلاه إلا لحاجة، ولا ينفر صيده ولا يقتله، وإن قتله فهو آثم، ولكن لا عقوبة عليه. والذين قالوا: لا عقوبة عليه، والذين قالوا: لا بأس بالصيد فيه - مع أنه مخالف للجمهور- استدلوا بقصة أبي عمير، وأبو عمير غلام لـ أبي طلحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاه كثيراً، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجد بيده طائراً يعرف عند أهل المدينة بالنغر، ولا يزال هذا الطائر موجوداً في البساتين إلى اليوم وله تغريد طيب في الصباح، فإذا به يلعب به، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، وفي عودته وجد الغلام يبكي والطائر ميت في يده، فقال (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقالوا: هذا صيد في يد الغلام، فلم يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رآه ميتاً لم يحمله صلى الله عليه وسلم جزاءه ولا قيمته. وأجاب المانعون بأن هذا غلام، وليس على الغلام تكليف؛ فتركه صلى الله عليه وسلم، أو لعله أتى به من خارج الحرم، وهو في هذا خلاف حرم مكة؛ لأن من أدخل صيداً من الحل إلى حرم مكة أُجبر على إطلاقه، بخلاف المدينة.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة كدعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة كدعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن إبراهيم دعا لأهل مكة) إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بأدعية كثيرة، منها قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126] وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] ودعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا زال أثرها باقياً حتى اليوم، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى حب القلوب وهفوها وميلها ورغبتها إلى مكة، سواء استطاع الشخص أن يأتي أو لم يستطع، فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها تجده يهفو قلبه إلى مكة، وكيف لا وهو في كل يوم خمس مرات على الأقل يتوجه إليها في صلواته، وقبلته الكعبة التي هي شرف مكة كما هو معلوم. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ، فهو أمن لمن كان فيه، ومثابة للبعيد عنه، يأوي ويثوب إليه، أي: يرجع إليه، سواء يرجع إليه في لجوئه، أو يرجع إليه في هجرته، أو يرجع إليه في حجه وعمرته، أو يرجع إليه في صلواته كل يوم خمس مرات، فهذه بركة دعوة إبراهيم عليه السلام، قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] يقولون: إنه توجد في مكة ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] . وهذا خبيب رضي الله تعالى عنه لما أخذ أسيراً وبيع على أهل مكة لينتقموا منه لقتلى بدر، تقول المرأة التي حبس في بيتها: والله ما رأيت مثل خبيب، كنت والله أراه يأكل في يده قطف عنب، وما على وجه الأرض في ذلك الوقت من حبة عنب، أي أنه في غير أوانه، ولكنها كرامة لهذا الصحابي الشهيد الذي ضحى بنفسه، والذي أعلن مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ووفائه وفدائه له حينما قدم ليضرب عنقه، فقيل له: أتود أن محمداً مكانك تضرب عنقه وتكون أنت آمناً في أهلك؟ قال: لا والله، ولا أن يصاب بشوكة في قدمه وأنا في أهلي. وهكذا كان فداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب من أن يشاك بشوكة في قدمه ويسلم من ضرب عنقه، ولذلك أكرمه الله في حال أسره أن جاءه بالعنب في غير وقت العنب وفي غير زمنه. ونحن الآن نجد كل ثمرات العالم يؤتى بها إلى مكة والمدينة؛ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب، من آسيا ومن أوربا ومن أفريقيا؛ فكل الثمرات تجبى إلى مكة والمدينة. فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) ، وفي بعض الروايات: (ومثليه معه) وقد جاءت نصوص عديدة أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة، وسيأتي الحديث الذي يبين تعلق البركة في دعواته صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور)

شرح حديث: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) رواه مسلم] . هذا اختصار من المؤلف رحمه الله تعالى لحديث علي رضي الله تعالى عنه، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء؟ أي: هل خصكم بشيء دون الناس؟ فقال علي: لا والله، إلا رجلاً أعطاه الله فهماً في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا: وما فيها؟ فأخرج سيفه وأخرج من غمده صحيفة مكتوب فيها: فكاك الأسير، ودية القتلى، وأنصباء الأموال في الزكاة، وهذا الأثر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، وهذا نص من علي رضي الله عنه، والمؤلف أخذ المعنى فقال: عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، ثم قال: رواه مسلم، والتحقيق أنه متفق عليه، فقد جاء في صحيح البخاري: (المدينة حرم من عير إلى كذا) بالكناية، ولم يصرح بلفظ (ثور) ، فأخذ العلماء من ذلك أن كلمة (ثور) ليست في صحيح البخاري، وقال البعض: الأصل: (المدينة حرم من عير إلى أحد) ، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد جاء في البخاري: (من عير إلى ثور) ولكنه لم يذكره في بيان حرم المدينة، إنما الذي ذكره البخاري قوله باب: حرم المدينة من عير إلى كذا، ولم يصرح ما هو كذا، ولكن في باب الفرائض ذكر البخاري رحمه الله: ما بين (عير) إلى (ثور) ، وصرح رحمه الله بذكر (ثور) مقابل (عير) ، وهذا ما ينبغي التنبيه عليه؛ لأن ابن حجر رحمه الله أغفل ذلك وقال: لم يأت عن البخاري إلا: (عير وكذا) بينما هو موجود بالتصريح بلفظ (ثور) مع (عير) في باب الفرائض، فيكون لفظ (ثور) متفق عليه وليس قاصراً على رواية مسلم. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [1]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [1] حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حجة واحدة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وهي التي سميت بـ (حجة الوداع) لأنه ودع فيها الناس، وفي هذه الحجة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مناسك الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فبين في حجته تلك أنواع الحج، وأركانه، وشروطه، وواجباته، وسننه، وكذلك بين فيها مفسدات الحج، ومحظوراته، ومكروهاته، وبهذا التبيين كمل دين الإسلام، وتمت نعمة الله على العباد.

شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ] . (صفة الحج ودخول مكة) يعنون العلماء في كتب الحديث لهذا الحديث بقولهم: حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث جابر الذي صدّر به المؤلف الباب هنا هو أوسع وأشمل رواية لحج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرويها من بداية خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى نهاية الحج والعودة إلى المدينة. وقد عني كثير من العلماء بهذا الحديث، بل وكتب فيه بعض السلف رسائل مستقلة، وقد ذكر النووي رحمه الله عن بعض السلف أنه استخرج منه ما يفوق المائة والخمسين قاعدة فقهية فيما يتعلق بالحج وبغيره، وجابر رضي الله تعالى عنه حدّث بذلك في الكوفة، حينما أتاه جماعة من التابعين وسألوه عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فعقد تسعاً) والعقد هو: نوع من الحساب بالأصابع، وهو هنا أن يضم أصابعه العشر وينصب إبهام إحدى الكفين، أي: عشراً إلا واحدة، قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعاً) أي: تسع سنوات، وفي العاشرة أعلم الناس أنه حاج، فاجتمع إلى المدينة خلق كثير، كلٌ يريد أن يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية أعمال الحج، وسميت هذه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: في الإسلام، وما حج صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلا تلك الحجة.

تسميات حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابها

تسميات حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابها وتسمى حجة الإسلام وحجة الوداع وحجة البلاغ. فسميت حجة الإسلام؛ لأنها هي الوحيدة التي أدى بها الفرض، وسميت حجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وسميت حجة البلاغ؛ لأنه بلغ الناس في خطبه التي كانت في الحج وهي ثلاث أو أربع، بلغهم أصول الدين كله، وحقوق الإنسان مع أخيه، وحق الله سبحانه، وحق المرأة، وحق الملوك، وأشياء عديدة أوصاهم بها في تلك الخطبة.

بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل البعثة

بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل البعثة وقد حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان في حجه ذلك مغايراً لما كان عليه أهل الجاهلية، وذلك أن أهل مكة كانوا يقولون: نحن الحمس، والحمس هم: خدَّام البيت، أو جيران البيت، أو سدنة البيت، فكانوا يقولون: نحن لا نخرج عن الحرم، وكانوا في يوم عرفة يقفون في المزدلفة ويقولون: لا نخرج عن حدود الحرم، ويقفون عند المشعر الحرام، وكان بقية العرب يذهبون إلى عرفات، فلما حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة اجتاز المزدلفة ومضى ووقف مع الناس في عرفات، حتى قالوا: ما بال هذا الرجل وهو من الحمس؟ أي: كيف نقف مع عامة الناس؟ فلم يقف صلى الله عليه وسلم مع قريش، وإنما ذهب ووقف مع عامة الناس واستمرت قريش على هذا إلى أن جاء الإسلام ونزل قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، فتركت قريش موقفها بالمزدلفة وصارت تقف في عرفات حيث يقف الناس، ويفيضون من حيث يفيض الناس.

عدد الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم

عدد الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه الحجة التي يصفها جابر رضي الله تعالى عنه اجتمع فيها خلق كثير كما قال جابر: (كنت أنظر أمامي فلا يقطعهم البصر، وخلفي فلا يقطعهم البصر، وعن يميني وعن شمالي كذلك) قدر بعضهم ذلك بعشرة آلاف، وبعضهم بأربعين ألفاً وبعضهم أكثر، وبعضهم بأقل، ولكن جابراً قدر ذلك بمدى النظر، قال: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ينزل عليه الوحي، وهو أعلم به، ويفعل ما يوحى إليه، ونحن نأخذ عنه) .

سبب عناية العلماء بحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم

سبب عناية العلماء بحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا عني العلماء بهذا الحديث؛ لما فيه من التفصيل للجزئيات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت سابقاً أن ابن كثير رحمه الله في كتابه التاريخ في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في أحداث السنة العاشرة من الهجرة اعتمد حديث جابر، ثم أتى بجزئيات من الأحاديث الأخرى، والروايات المتنوعة في أماكن أخرى تتمم وتبين ما أجمل في حديث جابر؛ لأنه هو الأصل عنده، ويعتبر ما أورده جابر منسكاً كاملاً وافياً، ولهذا فنحن سنمشي مع المصنف في حديث جابر، وإن كان قد اختصره في بعض المواطن، واكتفى بما يلزم من الضروري منه، وأشمل سياق لحديث جابر هو ما ورد في صحيح مسلم، حيث جاء بكل جزئياته وبما لم يأت به المصنف هنا. وقوله: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) . يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) هذا موجز لما تقدم من أنه أعلن للناس أنه حاج، بل أرسل إلى القبائل قبل الحج: (إني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) ، فوافاه أناس بالمدينة، ووافاه أناس بالطريق، ووافاه أناس بمكة، كلٌ بما تيسر له بالنسبة لمقامه ومحل سكناه، فهو أعلمهم وبين لهم وواعدهم وهم توافدوا إليه.

الأولى للحاج الذي طريقه قريب من المدينة أن يبدأ بالمدينة

الأولى للحاج الذي طريقه قريب من المدينة أن يبدأ بالمدينة وقول جابر: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً فخرجنا معه) هذه الصحبة الكريمة التي يقتفون فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كثير من العلماء يقول: إذا كان للإنسان في حجه نية في الذهاب إلى المدينة وكان الطريق إلى المدينة أقرب فليبدأ بالمدينة؛ ليكون إهلاله وطريق حجه من حيث أهلّ وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان طريقه أقرب إلى مكة فليقدم الواجب الذي هو الركن وهو الحج، ثم بعد ذلك إن شاء ذهب إلى المدينة.

حكم تلبيد الشعر للمحرم

حكم تلبيد الشعر للمحرم في حديث جابر وفي غيره: (خرج رسول الله) ، (حج رسول الله) يبين الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج تجرد من ثيابه، واغتسل، وادهن، ولبد شعره، ولبس إزاره ورداءه، يقول بعضهم: لبد شعره ببعض الزيت، ويقول بعضهم: لبد شعره بالعسل، أي: ليجتمع الشعر ولا يتشعث مع الهواء، فيكون موضع الغبار والقذى ونحو ذلك، ثم خرج صلى الله عليه وسلم ولم ينو ولم يلب.

قصر الصلاة للمسافر يبدأ بعد خروجه من أطراف بلده

قصر الصلاة للمسافر يبدأ بعد خروجه من أطراف بلده بعد ذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في المسجد النبوي الشريف أربعاً، أي: أنه لم يشرع في قصر الصلاة من مكانه وإن كان على سفر طويل؛ لأن السنة في قصر الصلاة للمسافر أن شروعه في القصر يبدأ بعد أن يغادر أطراف القرية التي خرج منها، ويستدلون لذلك بكون علي رضي الله تعالى عنه حينما كان خارجاً من الكوفة في سفر صلى الظهر أو العصر أربعاً، فقيل له: ألسنا مسافرين، ألا نقصر الصلاة؟! قال: (لولا هذا الخصيِّص لقصرت الصلاة) . والخصيِّص تصغير الخص، وهو: عبارة عن عشة أو غرفة من الأعشاب والجريد وأغصان الشجر، فجعله علي رضي الله تعالى عنه تابعاً للقرية، ولا يقصر الإنسان الصلاة إلا بعد أن يغادر معالم القرية وتوابعها، وهكذا فعل هنا صلى الله عليه وسلم. وبهذه المناسبة يرى بعض الناس أن المسافر بالطائرة إذا وصل إلى مطار المدينة النبوية مثلاً، فإنه يقصر، ويرى أنه خارج عن حدود المدينة، والواقع أن المطار اليوم يعتبر جزءاً وضاحية من المدينة النبوية؛ لاتصال البنيان أكثر المسافة، ولوجود الخدمات التي تمتد إليه من المدينة، من ماء وكهرباء وطرق وغير ذلك، فالأولى أن لا يقصر الإنسان في هذا المطار في أول سفره، والله تعالى أعلم. خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجرد واغتسل وادهن، ولبس الإزار والرداء، وصلى الظهر بالمسجد النبوي أربعاً، فلما أتى ذا الحليفة جاء وقت العصر فصلاها ركعتين، وذا الحليفة هي التي تسمى عند العامة: آبار علي، والمسافة بينها وبين المدينة معروفة، وليس هناك اتصال عمراني متشابك من المدينة إليها. وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ركعتين، وبات كذلك بذي الحليفة، وكان معه نساؤه التسع، فطاف عليهن واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم في ضحوة النهار اغتسل لإحرامه.

متى يبدأ الإهلال والتلبية؟

متى يبدأ الإهلال والتلبية؟ ثم بعد ذلك صلى الظهر وأحرم ولبى قيل من مجلسه الذي صلى فيه، وقيل: بعد أن انبعثت به راحلته، وقيل: حينما استوى على البيداء، كما في حديث جابر هنا: (أتى إلى ذي الحليفة، فلما أتى البيداء أهلّ) . والإهلال هو: رفع الصوت بالتلبية، وهو مأخوذ من الهلال، وهو القمر في أول ظهوره، لأنهم كانوا إذا أهل الشهر وطلع الهلال ورأوه رفعوا أصواتهم إعلاماً بوجود الهلال وبدخول الشهر الجديد، فصار الإهلال مأخوذاً من رفع الصوت بالتلبية، ثم صار يطلق على كل من رفع صوته، يقال: هلل أي: رفع صوته بما يتكلم به، فأهل بمعنى رفع صوته بالتلبية. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي في صفة الإحرام قالت: (منا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة معاً) وفي بعض روايات حديث جابر هنا: يقول صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت البارحة -يعني: في الليل- وقال: صل بهذا الوادي المبارك) ولذا يقال له: الوادي العتيق، والوادي المبارك، وقد نزله كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى وبات فيه كما تقدم، ثم أهل ووبيص المسك يظهر في مفرق رأسه، كما جاء عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، قيل: بم كنت تطيبينه؟ قالت: بأطيب الطيب) ، وتقول: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام) ، أي: بعد ثلاثة أيام من إحرامه.

وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ووصوله إلى مكة

وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ووصوله إلى مكة يتفق العلماء على أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة، يعني: يوم خمسة وعشرين من ذي القعدة، وماذا يوافق من أيام الأسبوع؟ يقول بعضهم: يوافق يوم الجمعة وهذا هو قول ابن حزم وقد ردوا عليه، ومنهم من يقول: يوافق يوم الخميس، وأكثرهم يقول: إنه كان يوم السبت، وأياً كان من الأيام، فالذي يهمنا من الناحية الزمنية أنه خرج من المدينة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ووصل مكة لأربع خلون، ويعبرون ببقين أو خلون، وبقين يعني: في آخره، وخلون يعني: من أوله، ووصل مكة لأربع خلون -يعني: مضين- من ذي الحجة، فكانت الفترة الزمنية التي قطع فيها المسافة من المدينة إلى مكة تسعة أيام، خمسة أيام من ذي القعدة، وأربعة أيام من ذي الحجة.

جواز الإهلال بأحد الأنساك الثلاثة

جواز الإهلال بأحد الأنساك الثلاثة وفي قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج، فمنا من أهل ... ) ، وبينت أنواع الأنساك الثلاثة فمن أراد أن يهل بالعمرة متمتعاً أهل، ومن أراد أن يهل بالحج مفرداً أهل، ومن أراد أن يهل بهما معاً أهل، ولم يعب بعضهم على بعض، وتركهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أتى مكة وطاف وسعى، وهناك كان أمر جديد.

ما يشرع للمرأة إذا حاضت أو نفست قبل أن تحرم وبعد أن تحرم

ما يشرع للمرأة إذا حاضت أو نفست قبل أن تحرم وبعد أن تحرم يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا ذا الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس) وهي زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولدت له محمداً، وهي في تلك الحالة مقبلة على الإحرام، فتساءلت: ماذا تفعل؟ لأن المحرم يذكر الله ويصلي ويطوف، والحائض ممنوعة من ذلك، والنفساء مثل الحائض، فماذا تفعل؟ وهل يصح منها الإحرام وهي نفساء أو لا يصح منها؟ فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية في الموطأ: (فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلاً: إن أسماء نفست، فماذا تفعل؟ فقال: مرها فلتغتسل ولتستثفر بثوب ولتهل) وفي القاعدة الأصولية: (الآمر للآمر آمر للمأمور) فهل يا ترى! تنطبق هذه القاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل) وهل يكون الأمر لـ أبي بكر أو لـ أسماء؟! الصحيح عند الأصوليين أن الأمر لـ أسماء وإنما جاء من طريق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومثل هذا ما جاء في قضية عبد الله بن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (مره فليراجعها) فراجعها عبد الله بن عمر إلى آخر الحديث. ومن هنا نعلم أن الحيض والنفاس لا يمنعان المرأة من أن تهل بالحج أو بالعمرة، أي: من أن تهل بنسك، ولها -كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها- أن تصنع كل ما يصنعه الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فتلبي مع الناس، وتذكر الله مع الناس، وتحمد وتسبح وتهلل وتفعل كل ما يفعله الحاج، إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك إذا وصلت إلى مكة لا تسعى حتى تطهر؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد طواف مشروع، والطواف المشروع لا يكون في حالة الحيض أو النفاس، إذاً: لا تسعى؛ لأن السعي مرتب على الطواف، والطواف مرتب على الطهر. وقوله: (مرها فلتغتسل ولتستثفر) الثفر في الأصل هو: الحبل الذي يوضع تحت ذنب البعير ليمسك الرحل من أن يتزحزح إلى الأمام، وكذلك صورة ما تفعله المرأة فهي تشد على نفسها مثل الحزام، ثم تأخذ خرقة، فترم بها بين فخذيها وتربطها من الخلف ومن الأمام، ليكون ذلك مانعاً من تساقط الدم عليها أو على الأرض، خاصة في المسجد، وليبقى الدم في محله ولا تتلوث به أو ينجس ثيابها أو بدنها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى ما تعمله تحفظاً من دم النفاس. ودم النفاس كما يقول العلماء: لا حد لأقله، وأما أكثره فيختلفون فيه ما بين الأربعين يوماً وبين الخمسين يوماً، إذاً: المسافة طويلة، ولكن متى ارتفع الدم عنها ولو بعد ساعة أو يوم أو أسبوع فعليها أن تغتسل؛ لأنها قد أصبحت طاهرة، ولها كل ما هو للطاهر التي لا حدث عليها، وهنا مضت أسماء مع الحجاج. وهكذا فقد أخذت قضية الحيض والنفاس حيزاً في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! من حكمة الله أن تقع تلك الأحداث في صحبة رسول الله وفي بيته، فهذه أسماء زوج الصديق، والصديق مع رسول الله دائماً كما نعلم جميعاً، وبيتهما كأنه بيت واحد، وحينما جاءوا إلى سرف في أثناء الطريق حاضت عائشة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك لعلك نفست؟! -لأن الحيض يسمى نفاساً أيضاً، للتنفيس بخروج الدم- قالت: نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي هذا رد على من يقول: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل فنقول: لا، هو موجود في بنات حواء عموماً؛ لأن الخلقة للمرأة من حيث هي أنها تحيض، وهذا كما يقال: دورة الرحم الشهرية، وأما دورة الرحم السنوية فهي بالحمل. وقوله: (قولي: لبيك اللهم! حجة في عمرة) لأنها كانت قد أهلت من ذي الحليفة بالعمرة، وبكت لأن الوقت قصير، ومن سرف إلى مكة مرحلتان، والوقوف بعرفة قريب، وليس عندها مدة تطهر فيها قبل الصعود إلى عرفات، فلا تتمكن من إتمام عمرتها، فبكت لهذا السبب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا عليك قولي: حجة في عمرة) يعني: حتى تصيري قارنة، وهكذا الحيض الذي يطرأ على الإحرام لا ينقضه ولا يتعارض معه، بل تمضي المرأة في إحرامها وإن طرأ عليها حدث الحيض أو النفاس، كما أنه في بداية إحرامها لا يمنعها الحيض ولا النفاس من عقد الإحرام. وفي نهاية الحج بعد النزول من عرفات، وحينما أراد صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة كانت نوبة صفية في ذلك اليوم، فسأل عنها، فقالت عائشة: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي) يعني: أننا سننتظر حتى تطهر لتطوف بالبيت طواف الإفاضة، فقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تحيض، قال: (فانفروا إذاً) فبين صلى الله عليه وسلم حكم حيض المرأة في بداية الإحرام عند الميقات، وفي أثناء الطريق بين الميقات ومكة، وفي نهاية الحج قبل الطواف بالبيت طواف الإفاضة، وبهذا اكتملت دورة معالم حيضة المرأة بالنسبة لإحرامها.

حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها

حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها ولما صعد على البيداء أهل ولبى، وفي بعض الروايات: (أهل بالتوحيد) لأن التلبية في الحج هي بمثابة الأذان في الصلاة، وكل منهما يرفع فيه الصوت إلا المرأة لا ترفع صوتها، وقد جاء الحديث في رفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) . وصيغة التلبية هي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا لفظ حديث جابر في بيان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويذكر بعض العلماء زيادة عن عبد الله بن عمر: (لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) ، ويذكر بعض العلماء أن الإنسان بعد التلبية يسأل الله المغفرة، ويسأله الجنة، ويستعيذ به من النار إلى غير ذلك من المسائل التي يحرص عليها المسلم عقب كل قربة إلى الله سبحانه. وأما حكم هذه التلبية فيقول بعضهم: هي ركن في الحج ولو مرة، وبعضهم يقول: هي واجبة، ولا خلاف في ذلك، فمن قال: إنها ركن نظر إلى النية؛ لأنه في التلبية قد أهلّ بحج، يعني: نوى الحج، فإذا اعتبرنا أن التلبية في أول الأمر نية للنسك فهي ركن ولا شك في هذا، وإن اعتبرنا أن النية محلها القلب وإنما التلبية إظهار وبيان لنوع النسك الذي اختاره الملبي، فتكون واجبة، ويقولون: للإنسان أن يلبي أو يسبح أو يكبر إلى أن يأتي البيت ويرى الكعبة، فإذا رآها قطع التلبية؛ وذلك لأن معنى التلبية السمع والطاعة والإقامة على طاعة الله، كما يقال: لبى بالمكان بمعنى أقام فيه، وتكون جواباً للنداء، فإذا ناديت وقلت: يا زيد! فإنه يقول: لبيك، أي سمعت وأطعت وأنا مقيم ومستديم على طاعتك، فإذا كانت (لبيك) إجابة للداعي، والحاج إنما خرج مجيباً للداعي الذي دعاه وهو في عالم الذر، والداعي هو إبراهيم كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] فنادى إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس: (أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) وقد سأل إبراهيم ربه فقال: (يا رب! أنا إذا ناديت أين يبلغ صوتي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ) ، وأبلغ الله سبحانه نداء إبراهيم إلى كل من أراد الله له الحج إلى يوم القيامة، فأجابوا وهم في عالم الذر في أصلاب الآباء، ومن لبى النداء مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج بعدد ما لبى نداء إبراهيم عليه السلام، فحينما تقول: (لبيك) فأنت تجيب الداعي، والداعي هنا هو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فأنت الآن تجيب حينما جئت إلى عالم الوجود، وكلفت وأردت أن تؤدي ما عليك من فريضة الحج. وقوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) هذا هو التوحيد وهو بمعنى: لا إله إلا الله، وقد كان العرب في الجاهلية يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فإذا كان هو لله، والله يملكه وهو لا يملك شيئاً، فلماذا تعبدونه؟ اتركوه وأخلصوا التلبية لله وحده، لكن هكذا كانوا يقولون، وهكذا نقل إلينا. وقوله: (إن الحمد والنعمة) الحمد هو: الثناء على المحمود لكمال ذاته، لا بشيء يصدر منه إلى الحامد، واللغة فيها الحمد، وفيها الثناء، وفيها الشكر، وكلها ثناء على المحمود والمثنى عليه والمشكور، إلا أن الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته ولو لم يصلك منه شيء، وكمال الذات ليس إلا لله سبحانه وحده، وليس في الكون ولا في المخلوقات من هو كامل لذاته، بل هو مكمَّل من غيره، ولابد أن فيه جانب نقص، حتى الرسل أقل ما يقال فيهم: أنهم ماتوا، والموت نقص، والمولى سبحانه وتعالى حياته دائمة باقية. والحمد هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقولون: (أل) في قولك: الحمد لله للاستغراق، أي: تستغرق جميع المحامد التي يمكن أن يحمد الله تعالى بها وتكون لله وحده، والثناء يكون على حسن فعال المثنى عليه، كأن يصنع شيئاً ويبرز فيه، مثلاً: رأيت عمارة جيدة، وأعجبك التصميم والتنسيق الذي فيها فأثنيت على المخطط لها أو المنفذ لها لحسن فعاله لا لكماله في شخصه، ولكن لحسن فعله ولو لم يأتك منه شيء، ومثله لو اخترع إنسان دواءً نافعاً، أو جهازاً صالحاً للناس، أو خدمة للناس، فتثني عليه لحسن فعاله ولو لم يأتك منه شيء. وأما الشكر فهو يكون في مقابل ما يصل إليك ممن تشكره، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فتشكر الله على نعمة العافية ونعمة الرزق ونعمة العلم ونعمة التوفيق، وعلى كل ما جاءك من الله من النعم، وكذلك تشكر زيداً؛ لأنه خدمك في كذا، أو ساعدك في كذا، فتشكره مقابل ما أسدى إليك من النعم، فتشكر الشخص على ما أتاك منه من خير، وتثني على الشخص على ما يفعله من حسن فعال، ولو لم يكن لك، وتحمد ولا يكون الحمد إلا لكمال الذات، ولا يكون ذلك إلا لله. وقوله: (إن الحمد والنعمة) النعمة هي: كل ما فيه نعومة: كالعيش والرخاء والصحة والمال، كل ذلك فيه نعومة الحياة؛ لأن الشخص إذا توفرت له الأموال توفر له الغذاء، واكتملت له الصحة، وكانت حياته ناعمة، بخلاف ما إذا كان في شظف من العيش، أو كان في مرض، أو كان في شدة فحياته تكون خشنة، فالنعمة من النعومة التي يطمئن إليها الإنسان، ويركن إليها ويستريح بها، وكل ما في الوجود من نعمة فهي من الله كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] أي نعمةٍ؛ لأن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة دلت على العموم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] و (من) هنا جاءت قبل النكرة للتعميم، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، فهي تفوق الحد وتفوق الحصر، والإحصاء مأخوذ من الحصر: كالعد من واحد واثنين وثلاثة إلى ما لا نهاية، فإذا جاء الإنسان ونظر في شخصه فقط، وفيما أنعم الله عليه في ذاته وفي تكوينه من بصر وسمع وتذوق وحركة فلن يستطيع أن يحصي هذه الفضائل والنعم التي أنعم الله تعالى بها عليه. وهنا قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) أي: إن كمال الذات لا يساويك يا رب! فيه أحد ولا شريك لك في ذلك، وكذلك في نعمك على خلقك ليس هناك من هو شريك لك في الإنعام، فالحمد والنعمة لك، والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك. وهنا يقال: إذا أعلنت على ملأ العالم، وسمع وشهد الحجر والشجر والمدر والجن والإنس أنك تقر بأن الحمد والكمال لله سبحانه، وأن كل نعمة على منعم عليه بها فهي لله لا شريك له، فهل يليق بك أن تتوجه بعد ذلك إلى غير الله بتزلف أو ثناء، أو بطلب أو باستعانة، أو برغبة فيما عنده؟! هذا الذي تتوجه إليه هو من مخلوقات الله، وكل ما عند المخلوق نعمة من الله، فلماذا تذهب إلى هذا المخلوق الذي أنعم الله عليه، ولا تذهب إلى المنعم سبحانه؟ ولهذا فإن في التلبية تجديد التوحيد لله سبحانه وتعالى. وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هكذا ذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه صيغة التلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطويل. وقد أشرنا إلى أن ابن عمر كان يزيد: (لبيك وسعديك، والملك كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) (الملك كله بيديك) فلماذا تسأل مخلوقاً هو نفسه من ملك الله؟! (والرغباء) أي: الرغبة إليك، لا نرغب إلى غيرك؛ لأنك أنت بيديك الخير وغيرك محتاج إليك، (والعمل) أي: نعمل العمل خالصاً لك وليس لغيرك. وبالنسبة للتلبية يقول الفقهاء رحمهم الله: ليستمر الحاج في التلبية، كما نقول: مثل الشريط المسجل: لبيك لبيك لبيك طول الوقت، ويقولون: لا يتركها بالكلية، ولا يشغل جميع أوقاته بها فيشق على نفسه، وقالوا: يحسن به أن يجدد التلبية عند كل تجدد حال له، فكلما تجدد له حال جدد التلبية، فمثلاً: إذا كنت تمشي فأدركت ركباً فهذا حال جديد، فأعلن التلبية، وإذا وجدت أمامك وادياً منحدراً فنزلت هذا الوادي فهذا أمر جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا صعدت من الوادي إلى مرتفع فهذا حال جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا نزلت منزلاً للمقيل أو للطعام أو لشيء من ذلك فهذا حال جديد فجدد التلبية، وإذا أردت أن ترحل من هذا المكان فهذا حال جديد فجدد التلبية، وهكذا تكون التلبية عند كل حال متجدد للحاج أو للمعتمر. وتستمر التلبية كما أشرنا مع المعتمر إلى أن يرى الكعبة، ثم بعد ذلك حينما يحرم في يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عليه أن يجدد التلبية لحجه إلى أن ينزل من عرفات إلى المزدلفة وإلى أن يصل إلى منى، ويصل إلى جمرة العقبة.

حكم المبيت والاغتسال بذي طوى قبل دخول مكة

حكم المبيت والاغتسال بذي طوى قبل دخول مكة قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا) ] . يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا البيت) وقبل إتيان البيت في حديث جابر وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مجيئه من المدينة إلى مكة حينما وصل مكة لم يأت إلى البيت مباشرة، بل بات بذي طوى، وهو المكان المسمى الآن بأبيار الزاهر، وهو معروف إلى الآن بـ (أبواب الزاهر أو بأبوار الزاهر) ، وكان مسمى بذي طوى سابقاً، فبات واغتسل لدخول مكة، ولما أصبح دخل إلى مكة نهاراً، وهنا يقول العلماء: من تيسر له المبيت والغسل في هذا المكان فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له المبيت وتيسر له الغسل فبها ونعمت، وإن تيسر له المبيت ولم يتيسر له الغسل فبها ونعمت، يعني: أيهما تيسر له من الأمرين إما المبيت وإما الاغتسال فليفعله، والاغتسال يكون تكريماً لمكة، ومن هنا قالوا: إن على المحرم أغسالا ًمسنونة وهي: الغسل لإحرامه، والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفات، فهذه الاغتسالات مسنونة في الإحرام، وهي للإحرام وليست للنظافة أو للرفاهية، ولكن من أجل النسك ومن أجل المكان. فإن لم يتيسر للإنسان المبيت بذلك المكان، ولأن الحال الآن قد تغير عن ذي قبل، فإذا لم يتيسر له فليعمد إلى مكة وإلى مقر سكناه، فإذا وصل واستقر في موطن سكناه إن تيسر له أن يغتسل فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له فعليه الوضوء حتى يأتي إلى الكعبة للطواف وهو على طهارة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2] شعار المرء المسلم إذا أمره الشرع أو نهاه السمع والطاعة، والرضا والتسليم سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر، وسواء عقل المعنى أو لم يعقل. ومن تلك الأوامر التي يجب السمع والطاعة فيها استلام الحجر الأسود وتقبيله، فاستلام الحجر الأسود وتقبيله ليس لحجريته ولا لذاته، وإنما هو لامتثال أوامر الشرع.

بيان العمل الذي يعمله المحرم إذا وصل إلى البيت

بيان العمل الذي يعمله المحرم إذا وصل إلى البيت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) ] . لما وصل إلى البيت أي: بعد ما كان منه من مبيت واغتسال أتى البيت، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله لتعظيم هذا البيت وتشريفه وتكريمه، وبعض الفقهاء يقول: يدخل الحاج الآن من باب السلام، وأما في ذلك الوقت فلم يكن هناك باب السلام ولا باب الرحمة ولا غيرهما؛ لأنه لم يكن هناك بنيان على المسجد، وإنما كان الناس يطوفون حول الكعبة، والبيوت من حولها تطوقها عن بعد، ثم بني المسجد بعد ذلك.

من أين يبدأ الطواف؟

من أين يبدأ الطواف؟ وقوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي: الحجر الأسود، وهو نقطة البداية؛ لأن الطواف حركة دائرية حول الكعبة، والحركة الدائرية تكون البداية فيها من قطر الدائرة، فإن بدأت من الركن اليماني فسوف تنتهي بالركن اليماني، وإن بدأت بالركن الشامي الأيمن أو الشامي الأيسر، فسوف تنتهي الدائرة أو الشوط عند نقطة البداية التي بدأت منها، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد حدد نقطة البداية في الطواف. إذاً: أيّ نقطة في الدائرة يصح منها البداية للشوط، ولما كانت جميع النقاط صالحة للبداية خص صلى الله عليه وسلم منها نقطة، وفي هذا ترجيح بعض المتساوي على بعض ليتعين البداية به، وما دام أنه قد بدأ صلى الله عليه وسلم بالركن فيتعين البداية بالركن، ومن بدأ مثلاً: بالركن اليماني فلا يحتسب له ما بين الركن اليماني والحجر الأسود في هذا الشوط، ويكون بداية شوطه من الحجر.

كيفية استلام الركن وحكمه

كيفية استلام الركن وحكمه فجاء (واستلم الركن) والاستلام إنما هو للحجر الأسود؛ لأنه في الركن، كما هو معلوم للجميع، وأما كيفية استلام الركن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك أنه استلمه ووضع كفيه عليه وقبّله بدون صوت، فإذا تيسر للإنسان ذلك فبها ونعمت، وإذا لم يتيسر له ولمسه بيده عن بعد قبّل يده، وإذا لم يتيسر له وكان بيده محجن أو عود أو شيء ولمس بالعود طرف الحجر قبّل الجزء الذي لمس الحجر من ذلك العود أو القضيب أو نحوه، حتى ولو بطرف الغترة إذا كنت بعيداً وأعطيتها لشخص قريب من الحجر وقلت له: مس بهذه الغترة الحجر، فإذا مسها أخذتها وقبّلتها، وإن لم يتيسر هذا أشرت بيدك وكبّرت ومضيت في طريقك. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الزحام عند الحجر، قال لـ عمر رضي الله عنه لما قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية فماذا أفعل؟ فقال: أوف بنذرك، ثم لما أراد الذهاب، قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول: إن الضعيف والقوي لا ينبغي أن يزاحما؛ لأن القوي يؤذي غيره، والضعيف يتأذى بغيره، إذاً: لا حاجة إلى الزحام، وإن كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه له في ذلك رأي آخر، ولكن رأي الجمهور وحث النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى، وخاصة مع ما نشاهده الآن من مزاحمة النسوة على استلام الحجر أشد من مزاحمة الرجال، وهذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يحق للمرأة -كما يقولون- أن تهدم مِصراً لتبني قَصراً، أتريد أن تصل إلى فضيلة تقبيل الحجر على أكتاف الرجال؟!! فلا ينبغي لها هذا أبداً، وكذلك يجب على الرجل الذي معها أن يحدها وأن يمنعها عن مثل هذا الزحام الذي لا يليق بحرمة المرأة، وخاصة تحت جدار الكعبة. إذاً: لا ينبغي الزحام على الحجر، لا من رجل ولا من امرأة، لا من قوي ولا من ضعيف. وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حينما قدم إلى الركن ليقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، يقولون: جاء في رواية -الله أعلم بصحتها-: أن علياً سمع قول عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع؛ لأنه يأتي يوم القيامة له لسان وعينان، يشهد لكل من استلمه) ، ويذكر العلماء في هذا آثاراً عديدة منها: (الحجر يمين الله في أرضه) ومنها: (الحجر نزل من الجنة) وتاريخ الحجر طويل. ويهمنا هنا قول عمر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) فيه ما يرد به على أولئك الذين يشككون ويوردون شبهة وهي: أنهم يقولون: الإسلام ينهى عن تعظيم الأحجار، ويحطم الأصنام، ثم يقول: قبلوا حجراً! فما الفرق بين هذا الحجر وبين الصنم؟ ويوردون بهذا تشكيكاً على بعض الناس، ومن الأسف كل الأسف أني وجدت من يتصف بالعلم قدم من الآفاق، وطاف بالبيت وامتنع عن استلام الحجر، وقال لي من يصحبه: أنا لا أؤمن أو لا أوقن بمشروعية تقبيل الحجر بعد أن حطمت الأصنام، وهذا تحكيم للعقل، والعقل يقتضي أيضاً الإيمان بالله وبما جاء عن رسول الله؛ لأن سيد الخلق الذي حطم الأصنام بقضيب في يده جاء وقبّله، أي: لبيان الامتثال لأمر الله سبحانه. ثم لنعلم أيها الإخوة! أنه صلى الله عليه وسلم عندما طاف بالبيت واستلم، وجاء إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين سنة الطواف، ماذا قرأ فيهما؟ قرأ بالتوحيد، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] فكأنه بعد أن قبّل الحجر واستلمه يعلن بأن الله واحد أحد، وأنه ما قبّل الحجر عبادة له، وما قبّل الحجر تعظيماً لحجريته، وإنما قبّله امتثالاً لأمر الله، ولسان حاله أنه يقول: يا أيها الكافرون! أنتم في دين وأنا في دين، وأنا بعيد عنكم وأنتم بعيدون عني كما قال تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي: فلم أقبّل الحجر كما تقبلون أنتم، وهكذا تأتي سورة الكافرون، وسورة الإخلاص في ركعتي الطواف رداً على هذه الشبه مسبقاً من ذلك التاريخ.

استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك

استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) ] . يقول جابر رضي الله عنه في إيراد حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خرجنا مع رسول الله إلى أن قال: ثم أتى البيت) ، والبيت أي: الكعبة، (واستلم الركن) والركن هو: الذي فيه الحجر الأسود، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الاستلام، والصورة الأكمل في الاستلام هو أن يضع الشخص كفيه على الحجر ويقبل الحجر من بين الكفين، وبعد ذلك يمسحه بيده ويقبل يده، أو يمسحه بواسطة ثوب أو عصا أو نحو ذلك، ويقبل تلك الواسطة، فإن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك فيشير ويمضي ولا يقبل يده. وكذلك يستلم الركن اليماني إلا أن الركن اليماني ليس فيه تقبيل، والخلاف إنما هو إذا لم يتيسر له أن يستلمه، فهل يشير إليه بيده كما يشير إلى الحجر أو لا؟ البعض يرى الإشارة إليه إذا لم يتيسر له استلامه بيده. يقول جابر رضي الله عنه (فرمل ثلاثا) ً الرمل هو: مشي سريع ببطء، بمعنى: أن يكون سريع الحركة بطيء الانتقال، يعني: أنه يمشي بخطىً متقاربة، في صورة الجري ولكن بدون إسراع، كما لو كان الإنسان معه طفل صغير والطفل يجري، فهو يريد أن يجري معه، لكن لا بخطىً واسعة بل بقدر جري الطفل، كان للرمل سبب في مشروعيته، وقد استمرت هذه المشروعية بعد انتفاء السبب، وبقي هذا العمل تسجيلاً لذلك السبب لما له من عظيم الأهمية، ولهذا دائماً نقول: إن جميع أعمال الحج هي تاريخ ومواعظ وإرشاد، وبيان لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، والسبب هو أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب معتمراً في عمرة الحديبية، وقد رأى صلى الله عليه وسلم قبلها رؤيا أنه يأتي البيت معتمراً، فأخبر أصحابه بذلك وخرج في ألف وأربعمائة رجل، فلما سمعت بهم قريش واجهتهم على حدود الحرم ومنعتهم من الدخول، وصدتهم عن البيت، ثم جرت المفاوضة بين الطرفين على أن يرجعوا من عامهم هذا، فتحللوا في مكانهم، وعظم ذلك على المسلمين، وتم الاتفاق على أنهم يأتون من عام قابل ويعتمرون وتخلي قريش لهم مكة ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بغير سلاح القتال، ولكن بسلاح المسافر وهو السيف في قرابه. فخرج صلى الله عليه وسلم من العام الثاني الذي بعده على هذا الاتفاق، ولكنه أخذ معه سلاحاً كافياً، وأودعه قبل مكة، وأقام عليه الحراس، تخوفاً من غدر قريش، فلما دخلوا المطاف جلس سادة قريش على جبل أبي قبيس وما حوله ينظرون ماذا سيفعل المسلمون في عمرتهم، أيطوفون كما كانوا يطوفون بالسابق أم سيفعلون شيئاً جديداً جاء في الإسلام؟! فلما وصلوا إلى البيت أتاهم الشيطان وقال لهم: هذا محمد وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم، وهذه مؤامرة خطيرة؛ لأن المسلمين يعتبرون كالعزَّل، وهم بعيدون عن أي مدد، فلو انقضَّت عليهم قريش ولو بالحجارة لآذوهم، لأن أولئك فوق الجبل، وهؤلاء في بطن الوادي، وأهل مكة بكاملهم، وهؤلاء عددهم محدود. فلما تآمروا على ذلك كان الوحي أسرع، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما تآمروا عليه، وهنا يقف كل عاقل ويتأمل كيف سيصنع المسلمون أمام هذه المؤامرة الغادرة؟ وليس هناك أحد قريب يمكن أن يسعفهم بعدد من الرجال والسلاح، ولكن يوجد هنا نور النبوة، وتوجد الحكمة النبوية الكريمة، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بواقع الحال، ليتعاونوا معه على مواجهة هذه الأزمة، وأمرهم وقال: ما دامت قريش تظن بكم الضعف والوهن فيجب أن تقلبوا عليهم فكرتهم، وعكس الضعف والوهن هي القوة، ولذا قال: (فأروهم منكم اليوم قوة) كي يخلف الظن عندهم، ويعلموا أن هؤلاء ليسوا بضعفاء وليس الوهن يعتريهم، فأمرهم بالاضطباع، وذلك بأن يجعلوا وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، وأن يرملوا، وتلك هي صورة المشمر المستعد القوي الفتي، فلما رأى المشركون ذلك، ورأوا المسلمين يطوفون وهم أشداء قالوا: أتقولون: إن هؤلاء قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر وهم ينقزون كالجن، والله! ما هم بأنس إنهم كالجن لا طاقة لنا بهؤلاء. وبهذا أحبطت مؤامرة الشيطان مع أعوانه، وسلم المسلمون من الغدر الذي كان يحاك ضدهم جميعاً. وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وأن يمشوا مشياً عادياً في الأربعة الأشواط الباقية، وكذلك يرملون من الحجر الأسود حين يطوفون بالكعبة إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، فيمشون مشياً عادياً يلتقطون أنفاسهم فيه، فإذا قيل: لماذا لم يرملوا في الأشواط الأربعة الباقية؟ الجواب: المتأمل في هذه الحالة يرى أنه لا يمكن أن الألف والأربعمائة سينزلون المطاف في لحظة واحدة، ويستلمون الركن في لحظة واحدة، ويسيرون معاً جميعاً في لحظة واحدة، لا يمكن هذا، بل سيأتون إلى المطاف أرسالاً، فإذا كانت الدفعة الأولى في الشوط الثاني ستكون الدفعة الثانية في الشوط الأول، وإذا كانت الدفعة الثالثة في الشوط الأول فستكون الدفعات التي سبقتها في الشوط الثالث أو الرابع وهكذا، فدخلت الأشواط الأربعة ضمن الثلاثة الأولى في صورة الهرولة، ولن يخلوا المطاف من جماعة تهرول في مدة الأشواط السبعة، وعلى هذا كانت مشروعية الرمل من أجل أن يعكسوا على المشركين خطتهم وتآمرهم مع الشيطان. وبعد ذلك فتحت مكة، وصارت بلداً إسلامياً في إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة، ولما فتحها أقام عليها أميراً، وكان الحج في السنة العاشرة، ولما جاء صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد فتح مكة بسنتين ومكة آمنة ليس فيها عدو، والمسلمون آمنون مطمئنون، وقد انقضت دولة الشرك، وانتفى الإيذاء، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل في الأشواط الثلاثة أول ما قدم إلى مكة، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال هذه الهرولة، لقد هرولنا سابقاً ونحن في خوف، والآن نحن في أمن، وليس هناك خوف؟ يعني: أن العلة قد انتفت، والمعلول باقٍ. فقال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وهرولنا معه، وفتحت مكة وجاء رسول الله فهرول في حجة الوداع وهرولنا معه، إذاً: فهي سنة باقية، ومثل هذا قد يقال في القوادح عند الأصوليين بالكسر وهو انتفاء العلة مع بقاء المشروع. ولهذا صفة الهرولة باقية إلى اليوم. والهرولة للرجال وليس للنساء فيها شيء، وكذا العاجز وكبير السن والذي لا يستطيع الهرولة ليس عليه في ذلك شيء، وإذا تركه الإنسان ليس عليه دم في تركه، وإذا كان هناك زحمة ولا يستطيع أن يهرول فعليه أن يتحرك حركة المهرول كما يقولون في رياضة الصباح: محلك سر، يرفع أرجله وينزلها وهو لا يتقدم إلى الأمام، فبقدر ما يستطيع يهرول، وبهذه المناسبة لا يكون الاضطباع في الإحرام إلا عند البيت لمن سيهرول، أما الذين يكشفون أكتافهم من الميقات فهذا خطأ، ومغاير للسنة، ويعرضون أنفسهم بذلك للحر وللبرد، حتى إن بعض الناس يتقشر جلده من شدة الحر وهو باق على هذه الحالة. إذاً: محل الاضطباع والهرولة إنما يكون في الطواف الذي يعقبه سعي، فإذا كان هناك شخص حج فإذا طاف طواف القدوم، أو طاف طواف الإفاضة وليس عليه سعي فليس عليه هرولة؛ لأن الهرولة لا تكون إلا في الطواف الذي يعقبه سعي، سواء كان في طواف العمرة الذي يأتي بعده السعي للعمرة أو كان في طواف القدوم الذي يسعى بعده للحج تقديماً. وها نحن في هذه الآونة وبعد أربعة عشر قرناً نهرول؛ لأننا بهذا العمل نحيي تلك الذكرى، ونتذكر موقف المسلمين في ذلك الوقت، وكيف صبروا وتحملوا، وكيف كانت حياتهم في سبيل الإسلام وفي نصرته، وكيف يواجه الناس مكائد الأعداء، لو تركنا ذلك لنسيناه ولانمحى من تاريخ المسلمين، ولكن إذا استمر الناس على إحيائه وعلى فعله فإنه بمثابة السجل الناطق على مدى الزمن على تلك الأحداث. والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا بدأ عملاً واظب عليه ولو لم يكن واجباً، وقد يصير في حقه واجباً، وأما في حق الأمة فعلى حسب التشريع من وجوب أو ندب أو استحباب أو غير ذلك. إذاً: (رمل ثلاثا) ً أي ثلاثة أشواط من السبعة، (ومشى أربعاً) أي مشى مشياً عادياً. والله تعالى أعلم.

مشروعية الصلاة خلف المقام واستلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف

مشروعية الصلاة خلف المقام واستلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] . بعدما أكمل الطواف سبعة أشواط أتى إلى مقام إبراهيم فصلى ركعتين، وفي رواية عند مسلم في هذا الحديث: وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وهذا من المواضع التي وافق عمر فيها ربه سبحانه، أو وافق القرآن فيها رأي عمر؛ إذا ثبت أن عمر رضي الله عنه أول ما جاءوا قال: يا رسول الله! ألا نصلي خلف المقام؟! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وقد أشرنا إلى أن هاتين الركعتين هما سنة الطواف، وأن السنة أن يقرأ المصلي فيهما بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وأشرنا إلى أن هذا المعنى الذي تضمنته هاتان السورتان فيه رد عملي على أولئك الذين يثيرون الشبه والشكوك عند ضعاف النفوس، لأنا وجدنا من يقول: الإسلام يحطم الأصنام وأنتم تعظمون بنية من الحجارة وتقبلون حجراً، وهذا بعينه هو الوثنية، ولكن غاب عنهم الابتلاء والامتحان لمجرد الامتثال، فالمؤمن إذا قيل له: افعل هذا، قال: على العين والرأس، وإذا قيل له: لا تفعل هذا، قال: مرحباً وأهلاً وسهلاً، والكلام في هذا يطول، وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1-6] فأين الوثنية هنا؟ وأين المشابهة والمشاكلة؟ الجواب: لا توجد، وهكذا في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] إلخ. إذاً: ليست هناك شبهة بين الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر قطعاً. يقول بعض الفقهاء -والله تعالى أعلم-: إن الله سبحانه وتعالى ينزل مائة رحمة على البيت: ستين للطائفين، وعشرين للمصلين، وعشرين للناظرين، أو ثلاثين للمصلين وعشراً للناظر أي: الذي ينظر إلى الكعبة، وهناك بعض الآثار أن من طاف سبعين شوطاً يعني: عشر مرات أجر كذا وكذا، والله تعالى أعلم، فإذا أراد إنسان أن يطوف سبعين شوطاً نافلة، فهل يا ترى! يصلي ركعتين بعد كل سبعة أشواط، ثم يستأنف الطواف، أو أنه يواصل الطواف سبعاً سبعاً سبعاً ثلاث مرات ثم يذهب إلى المقام فيصلي ركعتين ركعتين ثلاث مرات؟ الجمهور على أن الأفضل في ذلك أن يصلي ركعتين خلف كل سبعة أشواط من الطواف. قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] . بعد أن صلى خلف المقام رجع صلى الله عليه وسلم إلى الركن، أي: إلى الحجر فاستلمه قبل أن يخرج إلى السعي، إذاً: استلمه في بادئ الأمر في أول الطواف، ثم بعد ذلك على ما تيسر من استلامه في بقية الأشواط، ثم صلى ركعتين خلف المقام سنة الطواف، ثم رجع إلى المقام فاستلمه، أي: كالاستلام الأول، ثم ذهب إلى الصفا والمروة.

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:) ] . قوله: (خرج من الباب) يشعر هذا أنه كان هناك باب، وبعض التواريخ تقول: إن أول من بنى المسجد إنما هو عمر، والآخرون يقولون: عمر إنما وسعه وأدخل فيه دار الندوة، والله تعالى أعلم، فهنا خرج إلى الصفا، فلما وصل إلى الصفا رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة وهو على الصفا، ثم نبه وقال: (أبدأ بما بدأ الله به، أو: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو أنهم سألوا: (من أين نبدأ يا رسول الله؟! قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو سألوا: (من أين تبدأ يا رسول الله؟! قال: أبدأ بما بدأ الله به) ومن هنا نجد أن المنهج العلمي في كتاب الله أنه سبحانه إذا قدم أحد المتماثلين كان لتقديمه دلالة أولولية في الموضوع، والصفا والمروة كلاهما غاية، والجمهور على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعودة من المروة إلى الصفا شوط، إلا رواية عن ابن بنت الشافعي وغيره يقولون: إن الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة إلى الصفا شوط واحد، وهذا ما يقول به ابن حزم، ولكن كما قال النووي: هذا شاذ مغاير لما عليه إجماع المسلمين. فهنا صعد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وهذا الترتيب هو المنهج في كتاب الله، ومن ذلك ما جاء في الحدود: ففي حد السرقة قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] وفي حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ففي حد السرقة قدم الرجل؛ لأن الرجل في السرقة أقوى؛ لأنه يقاوم ويدافع، وأما المرأة في السرقة فهي ضعيفة، وفي باب الزنا قدم المرأة؛ لأنها هي السبب، وهي التي تغري الرجل كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلما كان الرجل أقوى في عنصر السرقة قدمه على المرأة، ولما كانت المرأة أقوى فاعلية في أمر الزنا قدمها على الرجل؛ لأن الرجل لا يمكن أن يزني بامرأة إلا إذا وجد منها الميل، أو جد منها الإغراء بنفسها. إذاً: إذا وجدنا في القرآن الكريم متساويين فبدأ أو قدم ذكر أحد هذين المتساويين عرفنا أن لهذا المقدَّم خصائص أو أولوية في الموضوع، لهذا قال صلى الله عليه وسلم هنا (أبدأ أو ابدءوا بما بدأ الله به) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا.

ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا

ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا قال المؤلف رحمه الله: [ (فلما دنا من الصفا قرأ: إن {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] . أبدأ بما بدأ الله به) ] . والمناسبة هنا هي مثل التي هناك في المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وكأنه يشير إلى المناسبة، وهنا لما صعد على الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] يعني: أنه ذكر الآية التي تنص على السعي. قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] . شعائر جمع شعار، وجمع شعيرة، والشعيرة هي: النسك، والشعار هو: العلامة المظهرة، كما تقول: شعار الشركة الفلانية كذا، وكذلك هنا الصفا والمروة من شعائر الله، وجميع مناسك الحج من شعائر الله. قوله: [ (أبدأ بما بدأ الله به، فرقى الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبره) ] . وحد وكبر، وحد عنوان لقوله: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد، وكبر قال: الله أكبر، وكبر من ألفاظ النحت، تقول: كبر، وسبح، وحمدل، وحوقل، فكبر أي: قال: الله أكبر، وهلل قال: لا إله إلا الله، وحوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا سبحل قال: سبحان الله، فهذه ألفاظ يسمونها ألفاظ النحت. قوله: [فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] . وهنا عيّن الذكر الذي يقال على الصفا كما عيّن الذكر الذي جاء في التلبية وهو: (لبيك اللهم، لبيك لبيك لا شريك لك) . إلخ، وكذلك هنا وحد الله وأعلن أن الملك كله لله. قوله: [لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده] . في هذا تذكير بغزوة الأحزاب (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) أي: بنصر دينه ونبيه والمسلمين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] فهذا وعد الله والنصرة بالفعل، ((وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا)) والجنود هنا غير الرياح؛ لأن الرياح مذكورة وحدها، وجنود الله لا يعلمهم إلا الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] . وقد جاء في حديث حذيفة في غزوة الأحزاب أن الملائكة شاركت في القتال، ففي قصة حذيفة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) ولشدة البرد والجوع والخوف لم يتحرك أحد، كما قال حذيفة: فلم يتحرك أحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟) فلم يتحرك أحد، وفي الثالثة قال: (وأضمن له العودة ويكون رفيقي في الجنة) فما قام أحد، فتتبع الحاضرين واحداً واحداً حتى إذا وقف علي وقال: حذيفة. قلت: نعم، وكنت أتقاصر إلى الأرض، فلما سماني لم يكن لي بد من أن أقوم، فقمت وأنا أقرقر من البرد أي: يرتعش وأسنانه تدق في بعضها، قال: وهو ملتف في مرط لأهله فضمني إليه، فوالله! لكأنني في حمام، وقال لي: (اذهب وائتني بخبر القوم، ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني) فذهبت. وهو خبر طويل وفيه عند رجوعه قال: (لقيت عشرين رجلاً معمماً على خيل، فقالوا لي: أخبر صاحبك بأن الله قد كفاه) وهؤلاء العشرون المعممون على هذه الخيل من أين جاءوا؟ لو كانوا من جيش المسلمين لعرفهم حذيفة، فإذاً: هؤلاء ليسوا من جيش المسلمين، وليسوا من جيش المشركين، فهم فريق ثالث، فمن يكون؟ لاشك أنهم من الملائكة. إذاً: نصر الله عبده وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، هزمهم بتسليط الريح عليهم، وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو. قوله: [ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة] بعد ما أدى نسك الصفا والذكر الوارد في ذلك نزل إلى المروة، والسنة هنا في السعي هي أن يستغرق الساعي كامل المسافة بين الغايتين، يبن الصفا والمروة، فكيف يتحقق الشخص أنه قد استغرق البينية؟ والبينية نهايتها من الطرف الأول الصفا ومن الطرف الثاني المروة؟ لا يتحقق الإنسان من ذلك إلا إذا صعد على جزء من الصفا، ومشى وأتم المشوار وصعد على جزء من المروة، فإذا كان قد أخذ في مشواره جزءاً من الصفا وجزءاً من المروة جزمنا يقيناً أنه قد استغرق بينية ما بين الصفا والمروة.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3] الخلاف الذي يقع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب هو من الخلاف الجائز، وهو إما خلاف أفهام وإما خلاف تنوع، ومن هذا الخلاف ما حصل بينهم في تفضيل أنواع الحج الثلاثة، فمن أخذ بهذا أو بهذا فلا ينبغي الإنكار عليه، ولكن ينبغي على المسلم أن يتحرى الحق وأن ينظر الأقرب إلى الصواب.

مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة

مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) ] . أي: ذهب متجهاً إلى المروة (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) أي: كان يمشي مشياً عادياً، ولكن لما وصل إلى بطن الوادي سعى، أي: أسرع في المشي، وهنا أيضاً فقال: إن سبب هذا السعي قد انتهى، ولكن المشروعية لا زالت باقية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسعوا، فإن أمكم هاجر قد سعت) .

سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة

سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة وما هو سبب هذا السعي؟ يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من هاجر، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية. وعلم الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما قال تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] ولكن {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل، فلما جاء إبراهيم بـ هاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من تدعنا هاهنا؟ قال: لله. من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله. إنه اليقين بالله فعلاً؛ لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بـ هاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار. ونحن لو أودعنا أسرة بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله! إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] . مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد النبوي، وهذا باتفاق. فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت، فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب، ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير، فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟ المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك، فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء

حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء ومن الناحية الفقهية الإسراع على الرجال، وليس على النساء إسراع؛ لأن الإسراع والهرولة فيها حركة لا تتناسب مع حالة المرأة؛ لأن المرأة مبناها على الستر وعلى الوقار وعلى الحشمة، وعلى أمور تليق بها، أما الرجل فلديه استعداد لأمور عديدة. قوله: [حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي دعا، حتى إذا صعدتا مشى فأتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا] . وكان الوادي يا إخوان! موجوداً إلى عهد قريب، أي: إلى السبعينات، وإذا جاء السيل يمر منه وكان المسعى سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا كما كان عليه في السابق، ولكن لما شيد المسعى على هذه الحالة عدِّل في أرضية المسعى، وأصبح الوادي لا أثر له، ولكن المسئولين وضعوا علامات وهي (اللمبات) ذات الضوء الأخضر، فوضعوا علامة في بداية الوادي وعلامة في نهايته؛ لأن الذي يسعى يسعى في بطن الوادي في ذهابه ويسعى في بطن الوادي في إيابه وعودته.

أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها

أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث] . أي: بأن استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية إلخ. وهنا المؤلف ترك جزءاً هاماً من حديث جابر، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل، وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار، وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي والموفق. قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) . ] ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق بها من عوامل الستر والحشمة. فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) وذكر هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري، وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك) وسأل أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال: فتحلل) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه. وفي الحديث أن علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي!) . وهنا لما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟ جاء أن أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر، قيل له: على رسلك يا أبا موسى! لقد أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) . وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف، والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت لبيان التشريع؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول: يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم: يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند المتأخرين. ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم تمنى، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) . وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم، على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ. فكانوا يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] . فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقولون بذلك. (فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة، وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد. (فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة) الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون، ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟!) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء، فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه. ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة) فأمره جبريل عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل. ومن هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر، وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً وا

ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين

ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس، جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) ؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد لـ أبي بكر ولرسول الله كان واحداً. إذاً: هما لم يفترقا قط، بل كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه: (لو استقبلت ... ) ، (لو لم أسق) ، كل ذلك قد سمعه ووعاه وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا وكلا. ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت ... ) ولم يكن غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا: يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى. إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج. وعثمان رضي الله تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه، وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال: أأنت تنهى عن القران -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم، قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع. فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان، ليعلن جواز القران بين الحج والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان لـ علي: أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك، ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداء ثم إقرانه الحج مع العمرة

إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج) فيكون في بداية الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي: الإفراد أفضل؛ لأنه هو الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... ) يعني: لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي، ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء في: ما هو الأفضل في الأنساك؟ ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع، وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي: متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك. وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما، وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد، وعلى العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وسلم و (عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم، وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد: ألأنه أفضل في مذهب مالك؟ قال: لا، ليس للأفضلية ولا لـ مالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟ قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع، وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً. ثم قال -ويا نعم ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس، والأحاديث التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.

الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم

الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لـ ابن رشد، وهو كتاب منهجي في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم على المروة: (لو استقبلت من أمري) (لو لم أسق) ، ويتصور أن خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى، الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟ لا شك أن الذين شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله، فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم، قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ! قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا لم تنم؟ قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم، في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء. ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه. وقد أطلت القول في هذه المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول العالم مع علمه بدليله فيه. إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.

بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية

بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية وفي يوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون الدواب في ذلك اليوم، ويملئون قربهم وآنيتهم بالماء ويصعدون بها إلى منى ثم إلى عرفات، خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى، وجاء في بعض الآثار أنه خطب الناس بمكة في اليوم السابع وبين لهم ما يحتاجونه من الغد، أي: في اليوم الثامن، ثم خطب في عرفات، وبين البيان الوافي، فخرج صلى الله عليه وسلم يوم الثامن أي: يوم التروية، وخرج معه الجميع.

من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟

من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟ وهنا سؤال: من كان قد تحلل إذا جاء اليوم الثامن من أين يحرم بالحج؟ الجواب: اتفق العلماء على أنه يحرم من منزله الذي هو فيه، وليس بلازم عليه أن يذهب إلى المسجد الحرام ويعقد الإهلال للحج من المسجد الحرام أو من عند الكعبة، بل يحرم من بيته أو من محل سكنه، فيتجرد ويغتسل ويتطيب ويلبد شعره، ويلبس لباس الإحرام، ويهل بالحج من مسكنه، ثم يذهب إلى منى.

الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج

الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج وطرأ على الناس أيضاً ما أتى به عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وأنتم منعّمون في بيوتكم ولا تهلون إلا في اليوم الثامن، أهلوا بهلال الشهر) فأمر أهل مكة ألا يؤخروا الإهلال إلى يوم التروية، وأن يبادروا بالإهلال من أول يوم في ذي الحجة، فقال بعض الناس: لماذا يا عمر! والرسول لم يأمرهم بذلك؟ قال: لأن الناس كلهم يأتون شعثاً غبراً عليهم آثار السفر وهؤلاء يظلون جالسين في بيوتهم منعمين إلى يوم التروية ثم يلبون، فلابد أن يلبوا من أول يوم من ذي الحجة حتى يشاركوا الناس في أحوال الإحرام والتجرد، والتحمل إلى غير ذلك، وهذا لاشك أنه اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، ولنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... ) ويهمنا في ذلك أن الأمر من حيث الإجزاء أو الوجوب أو الندب سواء.

الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها في منى

الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها في منى خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الثامن ضحىً، وهناك صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات في منى ثم صلى الصبح، وكانت صلاته صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقصر الرباعية دون أن يجمع، فلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء في منى عند ذهابه، بل كان يقصر الرباعية فقط، ويصلي كل صلاة في وقتها، ولما صلى الصبح انتظر حتى أشرقت الشمس، وكما قيل: كانت على قمم الجبال كالعمائم على الرءوس، وبعد أن أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات. قوله: [ (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) ] . قوله: (وركب صلى الله عليه وسلم) هناك من يقول: الذهاب إلى المناسك راكباً أفضل؛ لأن الرسول حج راكباً، وهناك من يقول: الرسول إنما جاء مسافراً من المدينة، ومعه راحلته، فهو لن يسوقها ويمشي على قدميه، وعلى هذا فالمشي أفضل؛ لأن فيه زيادة تكلفة، ولكن نقول: إن الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكلف الإنسان نفسه في شيء في غير محله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يسوق بدنة ويمشي، قال له: (اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -أي: ولو كانت بدنة مساقة إلى البيت- إن الله غني عن أن يعذب أحدكم نفسه) والذين يقولون: إن المشي أفضل قالوا: يكون المشي من المسجد الحرام إلى عرفات ثم العودة، أو من المسجد الحرام إلى عرفات إلى منى أو إلى مكة إن كان سيطوف الطواف النهائي، واستدلوا على أفضلية المشي برواية جاءت عن ابن عباس: (من حج ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم) والحسنة من حسنات الحرم بمائة ألف حسنة، فهناك من رغب في الحج ماشياً، وهناك من رغب في الحج راكباً، فالذين قالوا: يحج راكباً قالوا: تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ركب، والذين قالوا: المشي أفضل قالوا: لأن في كل خطوة حسنة من حسنات الحرم. ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج ماشياً لشق ذلك على الناس، ولكان كل واحد يريد أن يقتفي أثر رسول الله في ذلك، ولذا جاء في شأن زمزم أنه قال: (اسقوني، لولا أن يغلبكم الناس على زمزم لمتحت معكم) أي: لسحبت الحبل وأخرجت الدلو وشربت بنفسي، ولو فعل ذلك لكان كل إنسان يريد أن يمتح لنفسه ويشرب بنفسه، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه لما ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس دخل كنيسة، فلما حضرت الصلاة خرج منها فقال بعض النصارى: صل فيها، قال: لو صليت فيها لأخذها العرب منكم، يقولون: نصلي كما صلى عمر، فيحتلونها ويأخذونها منكم، إذاً: ما منع عمر الصلاة في الكنيسة، ولكن خشي أن يغلبهم الناس على حق من حقوقهم.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [4]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [4] الوحدة كلمة ترتاح لها النفوس الزكية، وتتطلع إليها القلوب النقية، لما لها من مدلول عظيم، فالوحدة بها لم الشمل، وتوحيد الصف، وقوة الأمة، ولا أعظم ولا أدل على هذه الوحدة من الموقف الذي يتوحد فيه المسلمون ويجتمعون فيه ألا وهو موقف يوم عرفة، ذلك اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون من شتى بقاع العالم، ويلبسون لباساً واحداً، لا يتميز فيه الغني عن الفقير، ولا القوي عن الضعيف، ذلك اليوم الذي يباهي الله عز وجل ملائكته بمشهد عباده المجتمعين في ذاك الصعيد في مشهد لا يتكرر إلا في ذلك الزمان وذلك المكان.

بيان الوقت الذي يذهب فيه الحاج من منى إلى عرفة والأعمال التي يعملها في يوم عرفة

بيان الوقت الذي يذهب فيه الحاج من منى إلى عرفة والأعمال التي يعملها في يوم عرفة قال المؤلف رحمه الله: [ (فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة) ] . مكث النبي صلى الله عليه وسلم في منى في صبيحة يوم عرفة إلى أن أشرقت الشمس وارتفعت قليلاً ثم واصل السير إلى عرفات، ويقال: عرفات للأرض كأذرعات، ويقال: عرفة لليوم، أي: للزمن، صوم يوم عرفة، إذاً: عرفة للزمن. قوله: (فأجاز حتى أتى عرفة) . أجاز يعني: تجاوز المزدلفة والمشعر حتى أتى عرفة. قال المؤلف رحمه الله: [ (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) ] لما وصل عرفات -وهي أرض الموقف- وجد القبة قد نصبت له بنمرة، ونمرة هو: الوادي الذي يفصل أرض عرفات عن المزدلفة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) وجد القبة قد ضربت له، والقبة هي: الخيمة، وضربت بمعنى: نصبت، فنزل بها حتى جاء الزوال، أي: نزل بعرنة ولم يدخل أرض الموقف إلى أن زالت الشمس.

حكم استظلال المحرم في يوم عرفة

حكم استظلال المحرم في يوم عرفة وهنا يبحث البعض: هل المحرم يدخل الخيمة أو لا يدخل؟ وهل يستظل أو لا يستظل؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم لما وجد القبة مضروبة نزل بها؟ وهنا: نجد أن بعض الطوائف لا يرون للمحرم أن يستظل، ويستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: (اضح لمن أحرمت له) وعند بعض المالكية المتأخرين تفصيل وهو: أن الاستظلال للمحرم يجوز عند نزوله ولا يجوز عند مسيره، وهذا من باب المستحبات ولا دخل في صحة الإحرام وعدمه، وليس من الواجبات التي يجب فيها دم، لكن يأخذ العلماء من كل نقطة ومن كل خطوة -كما ذكرت- من أعماله صلى الله عليه وسلم أحكاماً ومواعظ وتوجيهات.

مسجد نمرة ليس كله في عرفة

مسجد نمرة ليس كله في عرفة قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس) ] . نزل في القبة في بطن عرنة حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت بالتخفيف وبالتشديد فرحِّلت، أي: وضع الرحل عليها، وهيئت للركوب والمسير، ثم أتى المكان الذي فيه الآن مسجد نمرة، والمسجد كما يقولون: جزء منه وهو حائط محرابه خارج عن حدود عرفات، ومؤخرة المسجد من أرض عرفات، ولذا فإن الذين يجلسون في المسجد في نمرة ويصلون في الصف الأول، أو في الذي يليه ينالون أجر التقدم في الصفوف، لكن إذا قضيت الصلاة فعليهم أن يتنحوا إلى مؤخرة المسجد، حتى يتحقق وقوفهم في الموقف لقوله صلى الله عليه وسلم: (ارتفعوا عن بطن عرنة) . وقد جاء في موطأ مالك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذهب إلى الحجاج وكان أمير الحج، فنادى: أين فلان؟ قالوا: ها هو ذا، فقال له: هيا قد آن أوان الرحيل إن كنت تريد السنة، وذلك عندما زالت الشمس، فقال: أمهلني يا أبا عبد الرحمن! حتى أغتسل، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل في عرنة قبل أن يتوجه إلى الموقف، وقبل أن يخطب، فاغتسل لإحرامه، واغتسل لدخول مكة، واغتسل لوقوفه بعرفات، فاغتسل صلى الله عليه وسلم وأمر بناقته فرحلت له، ثم ذهب من محل إقامته في القبة إلى موضع نمرة لأداء الخطبة. وهنا يقول بعض العلماء: على أمير الحج ألا يعمد إلى عرفة رأساً، بل عليه أن يأتي وينزل في عرنة، فإذا ما زالت الشمس ذهب إلى نمرة وأكمل النسك على ما سيأتي في الخطبة والصلاة.

الخطبة في يوم عرفة

الخطبة في يوم عرفة قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً) ] . يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا أيضاً، وهو من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من منى بعد شروق الشمس أتى إلى عرنة، فوجد القبة قد ضربت له فنزل فيها إلى أن زاغت الشمس، فأمر بناقته فرحلت له، وقد أشرنا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل للوقوف بعرفة، وهذا إن تيسر فبها ونعمت، وإلا فهو من الأغسال المسنونة في ذلك اليوم، فلما زاغت الشمس أمر بناقته فرحلت له، ثم أتى بطن الوادي أي: أتى نمرة وهو مكان المسجد الموجود الآن، فخطب الناس، وهذه الخطبة في ذلك اليوم هي عبارة عن خطبتين أو خطبة طويلة مفصول بينها، وكذلك بقية خطبه صلى الله عليه وسلم التي خطبها في هذا الحج المبارك، سواءً التي في اليوم السابع قبل الصعود إلى منى، والتي بين لهم فيها أعمال اليوم الثامن وأعمال منى، أو التي في يوم الحج الأكبر بعد أن نزل من عرفات ورمى جمرة العقبة، أو غيرهما من الخطب المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم. ولما فرغ من الخطبة أذن فصلى.

قصر الظهر والعصر والجمع بينهما في عرفة والخلاف في سبب ذلك

قصر الظهر والعصر والجمع بينهما في عرفة والخلاف في سبب ذلك وهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أنه صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وجمع بينهما جمع تقديم، ولم يسبح بينهما أي: ولم يصل بينهما شيئاً، وهذا الجمع والقصر اختلف فيه العلماء: هل هو للنسك، أو هو للسفر؟ فالذين يقولون: هو للنسك قالوا: كل من حج سواء من أهل مكة أو حتى من أهل منى أو حتى من سكان أرض عرفات فإنه يقصر ويجمع من أجل النسك، والذين قالوا: إن هذا الجمع والقصر من أجل السفر قالوا: يقصر ويجمع الآفاقي الذي قدم من خارج مكة، أما أهل مكة الذين يحجون من مكة أو سكان منى الذين يحجون من منى فلا يجمعون ولا يقصرون، ومذهب أبي حنيفة على أن هذا الجمع من النسك، ولهذا لا يوجد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله جمع بين صلاتين إلا في النسك -أي: بين الظهر والعصر جمع تقديم، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير- وما عدا ذلك من نصوص الجمع بين الصلاتين فحملها رحمه الله على الجمع الصوري، كما جاء في خبر المستحاضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (وإن استطعت أن تؤخري الظهر إلى آخر الوقت وتغتسلين وتصلين العصر في أول الوقت فافعلي) يعني: تغتسل للوقتين، وتجمع بينهما بالغسل، ولكنها توقع كل فرض في وقته، فتصلي صلاة الظهر في آخر وقتها، وتصلي صلاة العصر في أول وقتها، فتكون الصورة صورة جمع. أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فقالوا: إن هذا الجمع والقصر للصلاة إنما هو للسفر، وأما كيف يقصر ويجمع أهل مكة وليست المسافة بين مكة وعرفات مسافة قصر؟ فأجابوا عن ذلك: بأن الغرض هنا هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه قد حج معه المكي والمدني والأعرابي الذي جاء من ضواحي عرفات، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، كما قال لهم ذلك في فتح مكة؛ لأنه في فتح مكة إنما صلى قصراً تبعاً لسفره من المدينة إلى مكة، وكان في طريقه إلى الطائف وإلى ثقيف، فكان يقصر بسبب السفر، فقال لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) . ولما جاء في الحج وهو يعلم أن معه من الحجاج من مسكنه قريب فلم يقل لهم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، إذاً: الكل قد قصر وجمع معاً، سواء القادم من بعيد أو القادم من قريب. وهناك من العلماء من يقول وهذا القول مروي عن الشافعي رحمه الله، وأخذ به الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن كل ما سمي سفراً، واحتاج الإنسان فيه إلى زاد وراحلة فهو سفر تقصر فيه الصلاة، ولا يشترط له مسافة ولا يقال: لابد من مرحلتين، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (تقصر الصلاة فيما بين مكة وجدة، وفيما بين مكة وعسفان، وفيما بين مكة والطائف) . وتقدير هذه المسافات الثلاث تدور حول السبعين والثمانين كيلو، والذين حددوها حددوها بأربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقدر باثنين وسبعين كيلومتراً بالمقاييس الحالية. والذي يهمنا في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع وقصر، ونحن الآفاقيون إذا قدمنا إلى الحج لنا أن نجمع ونقصر كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد قال: (خذوا عني مناسككم) إذاً: الكل متفق في أن القريب والبعيد في ذلك اليوم يجمع ويقصر، سواء قلنا: إنه للسفر أو للنسك، على ما تقدم من تفصيل في مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وفي أقوال الأئمة الثلاثة، وفي عدم بيانه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أتموا) ، كما قال ذلك في فتح مكة، وعلى هذا فالجميع يقصر ويجمع الصلاتين في ذلك اليوم.

الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع العصر في عرفة

الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع العصر في عرفة ومن الناحية العلمية وقع نقاش: هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات صلاة جمعة أو صلاة ظهر وأضاف إليها العصر؟ الجمهور يقولون: إنما كانت صلاة ظهر. وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله ناقش هذه المسألة مع مالك رحمه الله، وكان أبو يوسف يرى أنها صلاة جمعة ليوم الجمعة، فقال له مالك: لماذا؟ قال: لأنها ركعتان لخطبتين، وهذه هي الجمعة، فسأله مالك رحمه الله قائلاً: أترى جهر بالقراءة أو أسر بها؟ قال: أسر بها، قال: والجمعة يجهر بها. إذاً: هذه الصلاة تكون ظهراً والخطبة فيها إنما هي لبيان أعمال يوم عرفة وليلة المزدلفة وصبيحة يوم العيد، إلى أن يأتي إلى منى فيبين ما بقي في الخطبة العظيمة التي خطبها في يوم الحج الأكبر. قوله: (لم يسبح صلى الله عليه وسلم بينهما) لأنه هنا أذن ثم أقام فصلى الظهر والعصر، ثم أقام أي: بدون أذان آخر وصلى العصر، وهناك من يقول: تكفي الإقامة الأولى للفريضتين، وهناك من يقول: يؤذن مرة أخرى للعصر ويقيم لها، ولكن المنقول الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أذان واحد وإقامتين.

المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة

المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركب حتى جاء الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) ] . يقول: (ثم ركب) أي: من مكان الصلاة من نمرة، (حتى أتى الموقف) أي: الموقف الذي في عرفات، ويرد على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) قالوا: نعم عرفة كلها موقف هذا للعموم، وحيثما وقف الحاج في جزء من أرض عرفات فقد تم وقوفه، ولكن الموقف هنا، أي: الموقف الذي اختاره صلى الله عليه وسلم، و (أل) للعهد، فهو تقدم من نمرة إلى ما يسمى الآن بجبل الرحمة، وهو عبارة عن مجموع صخرات ضخمة كبيرة، تقدم إليها ووقف عندها وجعلها بينه وبين الكعبة، فكان مستقبلاً جبل الرحمة والكعبة من وراء الرحمة في سمت اتجاهه، فيكون بهذا مستقبلاً كلاً من الصخرات والكعبة. وهنا يبحث العلماء في هذا الموقف: هل يتعين الوقوف في هذا المكان على كل حاج؟ الجواب: بإجماع المسلمين لا يتعين على من أتى عرفات أن يذهب إلى ذلك الموقف، ويصح حجه ويتم بالوقوف في أي مكان من أرض عرفات، حتى ولو كان جالساً ولو كان نائماً، إذا كان قد أدرك لحظة من وقت الوقوف وشعر أنه بعرفات فقد تم حجه. وهنا يتساءل الإنسان ويقول: ما دام أن الأمر كذلك وأرض عرفات كلها موقف فلماذا ذهب صلى الله عليه وسلم إلى هناك؟ قالوا: لأنه كان قد آذن الناس وأعلمهم قبل الخروج إلى الحج من المدينة، بل وأرسل رجالاً إلى القبائل على مياههم: (إني حاج، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إلى رسول الله فمنهم من أدركه بالمدينة وخرج معه، كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: كنت أنظر عن يميني مد النظر، وعن يساري مد النظر ومن أمامي ومن خلفي، أي: أنهم عدد لا يقطعهم نظر العين. فهؤلاء توافدوا إلى المدينة، وهناك من توافد إلى رسول الله وهو في الطريق ولقيه في الطريق، وهناك من قدم إلى مكة، بل إن هناك من قدم إلى عرفات مباشرة، ولم يكن قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يقولون: هؤلاء الذين جاءوا ليحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروه ويأخذوا عنه أين سيبحثون عنه في عرفات؟ الجواب: لو لم يكن هناك مكان معلوم للجميع لتعذر على كل من أراد أن يراه البحث عنه في أرض عرفات المتسعة مع كثرة هؤلاء الخلق، فإذا كان له موقف معين وجبل الرحمة في عرفات والفضاء من حوله، وهو في الوسط مثل العلم، فإذا سأل سائل: أين رسول الله؟ قيل له: عند ذاك الجبل، فيكون الجبل علامة، أو علماً على موقفه ليذهب الذاهب إليه كيما يراه. ومن تمام الإعلام وتيسير الوصول إليه أنه صلى الله عليه وسلم قضى يوم عرفات على ظهر راحلته وهي قائمة، إذاً: المكان كان معلماً بالجبل -جبل الرحمة- ومحيط الجبل كان معلماً بالناقة وهي قائمة وهو عليها، حتى قال بعض العلماء: هل الوقوف بعرفات على الدابة أفضل أو الوقوف بعرفات على قدميه أو جالساً أفضل؟ الجواب: هذا مما يذكره الأصوليون من أفعاله صلى الله عليه وسلم الدائرة بين الجبلة والتشريع، فبعضهم يقول: جلس على الناقة لأنه أريح له فالركوب أفضل، والآخرون يقولون: لا يعذب الحاج الناقة طيلة النهار بالجلوس عليها، بل عليه أن يريحها، وهذا دائر بين الاعتبارين، فمن اعتبر أن الوقوف على الناقة من أفعال الحج قال: الأفضل أن يقف على ناقته وراحلته، ومن رأى أن ذلك كان لقصد الإعلام قال: الوقوف في الأرض أولى من تعذيب الراحلة.

حكم الإمارة على الحج

حكم الإمارة على الحج والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم اختار هذا المكان، ومن هنا يقول العلماء: يتعين على أمير الحج، وإمارة الحج قديمة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك في زمن بني أمية وبني العباس إلخ. فلابد للحج من أمير ليسير الحجاج بسيره وينزلوا بنزوله ويكون هو بذاته أهلاً لأن يرشد الحجاج إلى ما يحتاجونه، فإن لم يكن فيه الكفاءة ولا الأهلية فليكن معه من أهل العلم من يفعل ذلك، وعمر رضي الله تعالى عنه في خلافته لكثرة مشاغله، ولأنه كان يكثر الناس عليه أقام للناس على الحج ابن عباس ليقيم للناس المناسك، ولما أمره أن يقيم للناس المناسك، قال: يا أمير المؤمنين! لا أقوى على سكنى بلدٍ تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف فيه الحسنات، وإني سأتخذ الطائف مسكناً، فإذا جاء الحج نزلت إلى مكة. ومن بعده كان عطاء رضي الله تعالى عنه، وكان ينادى: لا يفتي أحد في المناسك إلا عطاء، ومن هنا يجب توحيد الفتوى، وتوحيد البيان والإرشاد والتعليم حتى لا يُشوش على الناس باختلاف الآراء، فقد يأتي إنسان ويسأل هذا عن مسألة فيفتيه بقول، ويذهب إلى ذاك في عين المسألة فيفتيه بقول آخر، فيكون في ذلك الحيرة والتذبذب لهذا السائل، ولا يدري بما يأخذ، فكانت الفتوى توحد في موسم الحج لئلا يشكك الناس ولئلا يقعوا في الحيرة. فأتى صلى الله عليه وسلم ووقف في ذلك المكان وعليه يتعين على أمراء الحج أن يقفوا هناك، أي: ينصبوا خيامهم أو منازلهم بجوار ذاك الجبل، وليس بلازم عليهم أن يقفوا على رواحلهم كما وقف صلى الله عليه وسلم.

حكم استقبال القبلة يوم عرفة وبيان الوقت الذي ينتهي فيه الوقوف

حكم استقبال القبلة يوم عرفة وبيان الوقت الذي ينتهي فيه الوقوف قال المؤلف رحمه الله: [ (وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة) ] . لما جاء إلى الموقف جعل حبل المشاة بين يديه، أي: بينه وبين الصخرات. قال المؤلف رحمه الله: [ (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) ] . فلم يزل واقفاً في موقفه ذلك على ظهر راحلته حتى غابت الشمس، يقول العلماء: ينبغي على الإمام أن يتأخر في نفرته من عرفات إلى ما بعد غياب الشمس بقليل، حين يصفر الأفق، تأكيداً في غروبها. قال المؤلف رحمه الله: [ (وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص) ] . حتى غاب قرص الشمس وانتهى واستكمل غروب الشمس، وذهبت الصفرة، أي: التي تعقب الشمس عند الغروب.

حكم الصوم بعرفة للحاج

حكم الصوم بعرفة للحاج هنا يبحث العلماء في يوم عرفات وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم هل كان صائماً في هذا اليوم أو كان مفطراً؛ لأنه قد قال: (صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر سنتين: السنة التي هو فيها، والسنة الماضية) وبين أن صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي هو فيها، قيل: لأن عاشوراء لموسى عليه الصلاة والسلام فكان يكفر سنة واحدة، وعرفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكفر سنتين. وقد اختلف الصحابة في صومه صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يجرءون أن يسألوه: هل أنت صائم أو مفطر؟ فذهبوا إلى أم الفضل رضي الله عنها وسألوها، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم قدحاً من اللبن بعد العصر، وهي تعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يرد ثلاثاً: اللبن والريحان والوسادة، إذا كان جالساً وقدمت إليه وسادة ليتكئ عليها فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه الريحان أو النباتات العطرية فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه اللبن فإنه لا يرده، وإنما يأخذه ويشرب منه، فلما علمت ذلك أرسلت إليه بقدح من اللبن بعد العصر، فأخذه ورفعه على رءوس الأشهاد وشرب، فعلموا يقيناً أنه مفطر وليس بصائم. وهنا نجد أن بعض العلماء اجتهدوا وقالوا: النص قد جاء في فضل صوم يوم عرفة، وفطر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ليبين الجواز وليس فيه الوجوب، فمن صام وقوي على أعمال الحج ولم يقصِّر في واجباته فلا بأس أن يجمع بين الفضلين، ومن كان يضعفه الصوم عن أداء واجبات الحج فلا يصم وليفطر، ولكن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم أفطر مع ما أعطاه الله من القوة البدنية، فقد كانوا إذا اشتد بهم الأمر في الحرب يحتمون بشخصه صلى الله عليه وسلم، وفي حنين حينما انصرفوا ورجعوا وقف وأعلن عن نفسه، وهذا على خلاف المعتاد، فإن العادة جرت أن القائد يخفي نفسه في حالة الانهزام أو الرجوع، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويعلن عن نفسه: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: الذي لا يعرفني فأنا هاهنا؛ وذلك لثقته بنصر الله، ولقوته وشجاعته، فكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين رجلاً، ومع ذلك لم يصم في عرفات، والله تعالى أعلم. ونحن الآن إذا تأملنا نجد: أن الله سبحانه وتعالى قد خفف في التكليف الواجب؛ ليعطي الحاج وقتاً لاغتنام فرصة عمره؛ لأن الحج قد لا يتيسر في العمر إلا مرة، فنجد أن الصلاة التي قال عنها سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أي: كل واحدة في وقتها، لكن خفف الله عز وجل فيها عن الحاج، فأذن له أن يقدم العصر مع الظهر، ويؤخر المغرب مع العشاء، ليصبح عنده نصف الزمن، فهو من زوال الشمس إلى منتصف الليل -الذي هو آخر وقت فضيلة للعشاء- غير مطالب في هذا الوقت بفرض الصلاة؛ لأنه قد انتهى منها، فقد قدم الظهر والعصر عند الزوال، وأصبح متفرغاً ليس مشغولاً بالعصر، وأما المغرب فقد أخرها حتى يصل إلى المزدلفة، فأعطى الله عز وجل الحاج فرصة فسيحة ليؤدي فيها واجب هذا اليوم العظيم؛ لأن يوم عرفة يوم عظيم وأنا أسميه يوم الأمة الإسلامية، العالم الآن يحتفل بأيام معينة؛ كيوم الاستقلال، ويوم النصر، ويوم الأمة، ويوم كذا ويوم كذا، ويجعلون هذا اليوم فخراً لهم، أو تذكاراً لنصرتهم إلخ. وهذا اليوم هو يوم العالم الإسلامي كله، ويكفي أن الله سبحانه اختص هذا اليوم بتمام النعمة وكمال الدين، وقد جاء رجل من اليهود إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! والله! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا نزلت لجعلنا يوم نزولها عيداً، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر: والله! إني لأعلم متى نزلت، لقد نزلت في يوم عيد في يوم عرفة وهو عيد للمسلمين. فهنا هذا اليوم العظيم الذي أتم الله فيه الدين وأكمل فيه النعمة لا يوازيه يوم في العام، هذا اليوم الذي يجتمع فيه العالم الإسلامي من جميع أنحاء الأرض؛ شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يجتمعون في صعيد واحد، في لباس واحد، وفي شعار واحد ينادون: لبيك اللهم لبيك فأي وحدة للأمة أعظم من ذلك؟! ونحن الآن لو أردنا أن نعقد مؤتمراً دولياً تجتمع إليه جميع الأمم، وطلبنا من هيئة الأمم أن تجمع لمؤتمر مثل هذا المؤتمر والله! إنها ستعجز، ولكن في هذا اليوم كلٌ يأتي بنفسه، وكما يقولون: عجباً لهذا الجمع في سرعة اجتماعه، وعجباً له في سرعة انصرافه. قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير) فلعظمة هذا اليوم ووجوب الاجتهاد فيه بالذكر والدعاء يحتاج إلى جهد، فإذا صمنا سننام ونعجز عن أداء أعمال هذا اليوم، وإذا غربت الشمس سيأتي الرحيل إلى مزدلفة، وهناك مشاعر أخرى، ومن بعد الفجر سيأتي الرحيل إلى منى على ما فيها من أعمال الرمي والذبح وغيرها، ومن بعد منى إلى مكة والعودة فالحاج في حركة دائبة خلال أربع وعشرين ساعة. إذاً: من حكمة التشريع ومن الرفق بالأمة أن يكون الحاج في هذا اليوم مفطراً، ثم إن من فضل الله أن من كانت له أوراد كتلاوة، أو صلاة، كان يفعلها في الإقامة وفي الصحة فسافر أو مرض وقصر عنها، فقد أمر الله ملائكته أن تكتب له مثل أعماله في الإقامة والصحة في مدة سفره ومرضه حتى يرجع ويعافى، فلم ينقص عليه من أجره شيء. والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطراً وليس صائماً.

الرحيل من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها

الرحيل من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها قال المؤلف رحمه الله: [ (ودفع وقد شنق للقصواء الزمام) ] . لما غرب القرص دفع، أي: نزل إلى المزدلفة، (وقد شنق للقصواء الزمام) الشنق هو: الخنق في الرقبة، أي: شد زمامها إليه، والناقة إذا شددتها ورفعت رأسها قل سعيها، ومشت مشياً خفيفاً؛ لأنها إذا أرادت أن تسرع مدت عنقها أمامها، فكان يشنق لها الزمام لتقصر من خطوها. قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) ] . شنق لها فرفعت رأسها حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ومورك الرحل يقولون: هو قطعة من الجلد أو وسادة خفيفة من قطن خفيف تكون أمام الرحل يضع الراكب فخذه عليها، ويرفع رجله من الجهة الأخرى ويضعها على مقدمة ظهر الناقة وأول عنقها، لكي تتوسد رجله هذه المؤخرة، فرفعت رأسها حتى كادت أن تصيب هذا الموضع، يعني: أنه شنق لها إلى أقصى غاية.

مشروعية الدفع من عرفة إلى المزدلفة بسكينة

مشروعية الدفع من عرفة إلى المزدلفة بسكينة قال المؤلف رحمه الله: [ (ويقول بيده اليمنى: يا أيها الناس! السكينة السكينة) ] . في هذا الدفع إلى المزدلفة كل الناس يدفعون، وكل يريد الإسراع، ومن طبيعة الدفع السرعة، حتى السيارات الآن يزاحم بعضها بعضاً، والمشاة يزاحمون السيارات، فكان يشير بيده اليمنى؛ لأن اليسرى كانت تشنق الزمام للناقة، وإلا لأشار بيديه إلى الجهتين، فكانت يده اليسرى تشنق الزمام للناقة ويده اليمنى تشير إلى الناس وهو يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) يعني: عليكم بالهدوء في السير، يعني: رفقاً بأنفسكم وببعضكم بعضاً. قال المؤلف رحمه الله: [ (وكلما أتى حبلا ًمن الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد) ] . (وكلما أتى حبلاً من الجبال) إذا كنت في الصحراء تجد أن من عوامل الرياح أنها تجمع الرمل ويمتد في اتجاهك كأنه حبل متين ممتد على وجه الأرض، وهذا يسمى الحبل، وربما وجدت في بعض النسخ جبلاً، بالجيم والصحيح أنها (حبلاً) أي: حبلاً من الرمل. (أرخى) أي: أرخى لها الزمام حتى تستطيع بمد عنقها إلى أمامها أن تصعد حبل الرمل، والسير في الرمل متعب؛ لأن الرِجْل تغوص فيه، ولكن المولى سبحانه جعل للناقة قواعد تمشي عليها، وليست مثل الفرس وغيرها التي حافرها يغوص في الرمل، فخفها يجعلها لا تغرز، ومع ذلك أيضاً يشق عليها المشي في الرمل، فلو كان شانقاً لها لصعب عليها أن تصعد الرمل مع الشنق، فكان يرخي لها زمامها لتمد عنقها ويسهل عليها قطع هذا الحبل من الرمل. قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى أتى المزدلفة) ] . دفع على هذه الصفة وهو يشير: (السكينة السكينة) وكان شانقاً للقصواء، مرخياً إليها عند حبال الرمل حتى أتى المزدلفة.

حكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة بين عرفة ومزدلفة

حكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة بين عرفة ومزدلفة وفي الطريق ميّل صلى الله عليه وسلم إلى بعض الوادي ونزل فبال وتوضأ، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كلما حج إذا مر بذلك المكان نزل وبال وتوضأ، فقيل له في ذلك، فقال: هكذا فعل رسول الله. وهل رسول الله فعله لكي يذهب كل الناس ويبولون هناك في ذلك المكان أو فعله لحاجة عرضت له؟! ابن عمر يقول: الرسول فعل ذلك وأنا أفعله، ولكن جمهور الصحابة لم يتابعوه على هذا العمل، وهو قطعاً من أعمال الجبلة، وليس من أعمال التشريع.

مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة

مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة فلما توضأ وضوءاً خفيفاً، قيل له: الصلاة، يعني: أن الشمس قد غربت وما زلنا في نصف الطريق، فنريد أن نصلي المغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة أمامك) أي: إن الصلاة ستكون في المزدلفة، ومن هنا يقولون: من كان عنده فسحة من الوقت وليس عليه عائق يلزمه المكث فلا يصلين إلا في المزدلفة، ولو تأخر وصوله إلى المزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل، وبعضهم يقول: إلى ثلث الليل الأخير، فإن تأخر في عرفات لظرف ما، كما يقع الآن في السرات يحبس الناس من أجلها، فإذا تأخر في عرفات أو في الطريق وعلم أنه لن يصل إلى المزدلفة إلا بعد أن يدخل ثلث الليل الأخير، فهل يؤخر المغرب والعشاء أيضاً حتى يطلع الفجر؟ قالوا: لا، بل عليه أن يصلي في مكانه؛ لأنه تعذر وصوله قبل خروج الوقت، وأصبح بين أحد أمرين: إما أن يأتي بالسنة بإيقاع الصلاة بمزدلفة وقد خرج وقتها، وإما أن يؤدي الفرض الذي هو الصلاة قبل خروج وقتها، فالحفاظ على الفرض أولى من الحفاظ على السنة. فله في تلك الحالة أن يصلي حيثما تأخر، ويجمع أيضاً المغرب مع العشاء، والفقهاء رحمهم الله يقولون: في حالة الجمع ينوي ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، إن كان يريد جمع تأخير، فعند دخول وقت الأولى لا يؤخرها سهواً ولا إهمالاً، بل ينوي أنه سيؤخرها إلى الثانية، فإذا جاء وقت الثانية صلاهما جمع تأخير، وبدأ بالأولى، فيصلى الظهر ثم العصر، وإذا جمع جمع تقديم ينوي جمع الثانية مع الأولى قبل أن يدخل في الأولى، فمثلاً: قبل أن يدخل في صلاة المغرب يكون قد نوى أنه سيجمع معها العشاء وهكذا. فإذا لم يتأخر في الطريق فالصلاة تكون في المزدلفة، وإن كان هناك ما يؤخره لظرف ما فيصلي حيثما كان على صورة الجمع، يؤذن ثم يقيم فيصلي المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء ركعتين، ثم يواصل السير إلى المزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع من عرفات ومشى إلى أن جاء إلى المزدلفة. قال المؤلف رحمه الله: [ (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) ] . (فصلى بها) أي: بالمزدلفة، والمزدلفة تسمى أيضاً جمعاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وليس بلازم أن تتحرى موقع المشعر الحرام وتنزل فيه؛ لأن المشعر الحرام مكان صغير، ولا يمكن أن يسع جميع الحجاج، ولكن المزدلفة كلها موقف، فإن تيسر لك بعد ذلك أن تأتي مكان المشعر وتدعو فالحمد لله وإلا دعوت في مكانك، فصلى المغرب والعشاء في المزدلفة بأذان واحد وإقامتين، كما صلى في عرفات الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين.

مشروعية النافلة بين المغرب والعشاء في المزدلفة

مشروعية النافلة بين المغرب والعشاء في المزدلفة قال المؤلف رحمه الله: [ (ولم يسبح بينهما شيئاً) ] . (ولم يسبح) أي: لم يتنفل بينهما شيئاً، يعني: أنه لم يأت بنافلة بين المغرب والعشاء. قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر) ] . (ثم اضطجع) أي: بالمزدلفة، (حتى طلع الفجر) ، أي: اضطجع بعد صلاة المغرب والعشاء حتى طلع الفجر.

مشروعية الوتر في ليلة مزدلفة

مشروعية الوتر في ليلة مزدلفة وأما الوتر فقد بحثنا على نص بخصوص الوتر في ليلة المزدلفة حتى تعبنا فلم نجد ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أوتر أو أنه لم يوتر، ولم يبق عندنا إلا عموم النصوص في الوتر، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك الوتر وركعتي الفجر -أي: السنة- في حضر ولا في سفر، ولما ناموا إلى أن طلعت الشمس ولم يصلوا الفجر، كانوا قد أوتروا من قبل، فصلوا سنة الصبح بعد طلوع الشمس، ثم صلوا الفجر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [5]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [5] يوم النحر يوم عظيم، فهو اليوم الذي لا يماثله يوم في كثرة الدماء التي تراق فيه تقرباً إلى الله عز وجل، سواءً دماء الأضاحي أو دماء الهدي، وهو اليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبته البليغة التي تعد دستوراً للأمة، لما اشتملت عليه من أحكام عظيمة، وهو اليوم الذي يبدأ فيه التحلل من الإحرام.

الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر

الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر) ] . وصل بنا الحديث في الكلام على حديث جابر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة، إلى أن صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما، قال: (اضطجع حتى الفجر) فلما طلع الفجر صلى الصبح بأذان وإقامة، وفي غير حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ وتبسم، فقيل له: (تبسمت يا رسول الله! في موطن لم تكن تتبسم فيه؟ قال: كنت سألت ربي أن يغفر لأمتي ويرحمها، فأعطاني ذلك إلا التبعات، فألححت على ربي -أي: في موقف عرفات- فلم يعطني، وقد أعطانيها الليلة) ، وفي بعض الروايات أنه قال له: (أما ما كان من ذنوب أمتك فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، ولكن التبعات) والتعبات: هي تبعة كل إنسان على الآخر، أي: حقوق العباد فيما بينهم، كأن يكون لإنسان مظلمة عند أخيه في مال، أو في دم، أو في عرض، أو في أي شيء، فهذه تسمى حقوق العباد فيما بينهم، وأما ما كان بين العبد وبين الله ولا تعلق لحق عبد فيه فهذه هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ويقولون: حق الله مبني على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحّة. وهنا ذكر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب له، وجاء في بعض الروايات أنه قيل له: (إلا التبعات، فقال: يا رب! إنك قادر أن ترضي صاحب الحاجة، أو صاحب المظلمة عن حاجته أو عن مظلمته، وتغفر لصاحبه، فلم يعطه) ، وفي تلك الليلة استيقظ متبسماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى استجاب له وغفر لأمته حتى التبعات. وهذه التبعات تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه) والعشية في اللغة من بعد العصر إلى غروب الشمس. وفي قوله: (فقد غفرت لكم) اختلف العلماء هل يغفر كل شيء أو تستثنى التبعات؟ أكثر العلماء يقولون: كل شيء؛ لأنه لم يستثن شيئاً في هذا الحديث. وبعض العلماء يقول: إلا التبعات، أي: التي لم يعطها صلى الله عليه وسلم، وقد أعطيها صلى الله عليه وسلم في ليلة المزدلفة. وبالمناسبة ذكر العلماء سبب هذه المباهاة فقالوا: لما أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشراً جديداً كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71-72] فتساءل الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:30-31] ، فقالوا: إن الملائكة تساءلوا لما سمعوا من المولى سبحانه قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] ؛ لأنه كان في الأرض أجناس من الخلق قبل آدم، عمروها، ففسدوا فيها وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وكان إبليس ممن يقود الجيوش في سبيل الله، ورفع إلى مكانة عليا، وكان مع ملائكة السماء الدنيا؛ لكثرة جهاده وعبادته. ولما كان الملائكة قد رأوا السلوك الذي كان من عمّار الأرض تساءلوا: (أتجعل فيها) يعني: مرة أخرى، فأعلمهم سبحانه وتعالى وقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ، ثم بين فضل آدم بتعليمه الأسماء، وعرضهم على الملائكة، فاعتذروا وقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، ثم أنبأهم آدم بها، ولما ظهر فضله أمرهم الله أن يسجدوا له سجود تعظيم وتكريم، فإذا جاء يوم عرفة، واجتمع الخلائق من كل فج عميق يباهي الله بأهل الموقف الملائكة، كأنه يقول لهم: كنتم تقولون: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وهؤلاء هل هم مفسدون؟ ولم جاءوا؟ وماذا يريدون؟ فيقولون: (جاءوا شعثاً غبراً يريدون رحمتك، ويخشون عذابك) ، فهذه هي -كما يقولون- مناسبة أن الله سبحانه يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء. وقوله سبحانه: (أفيضوا مغفوراً لكم) يقولون: هل غفر لهم كل شيء بدون استثناء، أو غفر لهم كل شيء إلا التبعات؟ قد تقدم الكلام على هذا، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله سبحانه قد تكرم على عباده، ومنحهم غفران التبعات أيضاً. فهو سبحانه وتعالى يغفرها لمن ارتكبها، ويرضي أصحابها عنها. وجاء في حديث آخر: (إن الله سبحانه وتعالى إذا كان يوم القيامة والناس في الموقف يرفع غرفاً يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا رب! لمن هذه الغرف؟ فيقول: لمن عفا عن مظلمة لأخيه، فكل من كانت له مظلمة عند أخيه يقول: يا رب! عفوت عنها) أي: لينال من تلك الغرف. وفي الجملة: فإن الله سبحانه وتعالى تكرم على هذه الأمة بهذه المنح العامة، وتكرم عليها بأن جعلها شاهدة على الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، إلى آخر خصائص هذه الأمة على غيرها.

مشروعية التغليس في صلاة الفجر يوم النحر

مشروعية التغليس في صلاة الفجر يوم النحر وهنا استيقظ صلى الله عليه وسلم متبسماً، ثم صلى الصبح في أول وقت يمكن أن تصلى فيه، حتى قال بعض الناس: لقد صلى الصبح قبل وقتها أي: قبل الوقت المعتاد في كل يوم، أي: أنه كان بعد أن يطلع الفجر، ويستبين النهار، يؤذن المؤذن، ثم يقيم على مهل، أما هنا فأول ما تبين الفجر وتبين النهار من الليل أذن المؤذن وأقام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه بادر بصلاة الصبح في ذلك اليوم دون بقية أيام السنة.

الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر

الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر وقوله: (صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) . يبين بقوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) أن نزوله كان في غير المشعر الحرام؛ لأنه لما استيقظ وصلى لم تكن صلاته في المشعر الحرام، وإنما ركب وأتى إلى المشعر الحرام بعد الصلاة. إذاً: المزدلفة كلها موقف، والمشعر الحرام جزء منه في طرف منها، وهو كان عبارة عن جبيل صغير وبني بجانبه مسجد، ثم وسع المسجد وهو المعروف الآن بمسجد المزدلفة. قوله: (فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله) . يقولون هنا: إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر الحرام ودعا الله طويلاً، ويقول بعض العلماء: إن في بعض الروايات: أنه كان رافعاً يديه وضاماً لها إلى صدره في صورة المسكين الذي يطلب إحساناً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لربه في سؤاله وحاجته، وهل كان يسأل لنفسه أو كان يجتهد في سؤاله للأمة، كما كان في عرفات يجتهد ويسأل الله تعالى للأمة أن يغفر لها، وأن لا يجعل بأسها بينها، وأن لا يهلكها بكذا؟ الجواب: أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون للأمة ولنفسه معهم. وبعض الناس ربما يأتي إلى المزدلفة ويذهب عنها وهو لا يعلم أين المشعر الحرام ولم يذهب إليه، فما حكم حجه هذا؟ الجواب: وقع الإجماع على أنه لا شيء عليه، فإن تيسر له الذهاب إليه وعلم مكانه فأتاه ودعا عنده فهذا أفضل؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وهذا مكان -كما يقولون- تستجاب فيه الدعوة، والرسول اجتهد بدعاء ربه فيه، وإن لم يتيسر للإنسان الذهاب إليه، أو كان هناك زحام شديد لم يستطع بسببه المكث فيه، فمر عليه ووقف بإزائه ودعا فلا مانع، وإذا بقي في مكان نزوله بعيداً عن المشعر الحرام كما نزل رسول الله، وصلى مكانه أو مع الإمام أو مع جماعة من جماعته فليرفع يديه وليدع الله بقدر ما يتيسر له ويستطيع. قوله: (فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) . لم يزل واقفاً عند المشعر الحرام يسأل ربه حتى أسفر، والإسفار هو: من السفر وهو النور، ولذا سمي السفر سفراً؛ لأنه ينير ويكشف عن حقيقة الصاحب في السفر، فأنت إذا كان لك صاحب في الحضر وفي الرخاء تجد منه العسل؛ لأنه ليس هناك مشقة، وليس هناك إيثار على النفس، وليس هناك حاجة إلى أن يمده إليك، وأما عند الأسفار فهناك التعب، وهناك الظنة بما في اليدين، وهناك الشح بما يملك الإنسان، وهناك الكسل وعدم المبادرة إلى المساعدة، فتظهر حقائق الرجال في السفر، ولهذا كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا جاء إنسان ليزكي إنساناً عنده، وتزكية الشهود لم تحصل إلا في زمن عمر، وقبلها كان الشهود يُقبلون بدون تزكية. فجاء رجل إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟ فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟ فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت لا تعرفه. لأن هذه هي الحالات التي تكون فيها المخالطة عن قرب، وتكون فيها مشاحة النفس؛ لأن الحياة بين الأرحام يحصل فيها شدة ويحصل فيها ضيق، ويحصل فيها غضب، ويحصل فيها رضا، كما هي شئون حياة البشر، فتعرف حقيقة الإنسان عندها، ويعرف إن كان شحيح النفس أو واسع الصدر. وكذلك المعاملة بالدهم والدينار، يعرف عندها الإنسان هل هو يحرص على تحصيله من أي سبيل أو أنه يتعفف ويتورع عن الذي فيه شبهة؟! وكذلك السفر يعرف عنده الإنسان هل هو يحافظ على الصلاة في السفر؟ وهل يؤدي الأمانة في السفر؟ وهل يساعد رفيقه في مشاق السفر؟ وهل وهل. إلخ. قوله: (حتى أسفر) يعني: ظهر ضوء النهار من الليل جداً، يعني: قبيل طلوع الشمس، وربما بدأت إشعاعاتها البعيدة تحت الأفق في جهة الشرق.

مشروعية الدفع من المشعر الحرام والإسراع في بطن وادي محسر

مشروعية الدفع من المشعر الحرام والإسراع في بطن وادي محسر قوله: (فدفع قبل أن تطلع الشمس) . دفع قبل أن تطلع الشمس، يعني: قبيل طلوعها؛ لأننا إذا صلينا الفجر عند الأذان فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا بعد طلوع الفجر بنصف ساعة فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا قبل طلوع الشمس بعشر دقائق فقد صلينا قبل طلوع الشمس، ولكن إذا قيل: قبل طلوع الشمس فمعناه: قرب طلوعها. قوله: (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً) . دفع من المشعر الحرام حينما أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس، وذلك مغايرة لما كان قبل الإسلام، فقد كانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) ولم يكونوا يفيضون من المزدلفة حتى تشرق الشمس على رأس جبل ثبير، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ونزل من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، ثم دفع حتى أتى بطن وادي محسر بين مزدلفة ومنى، فحرك راحلته قليلاً، وهنا من أعظم الدروس التي يأخذها الحجاج في حجهم في بطن هذا الوادي موجب هذا الإسراع، وموجبه أن هذا الوادي أنزل الله سبحانه فيه العذاب على قوم فأهلكهم، وجميع الأماكن التي هي مواطن المسخ أو مواطن العذاب، لا ينبغي لإنسان أن يقيم فيها ولا أن يمر بها، ولا أن يدخلها إلا للحاجة، ووادي محسر لابد للحاج أن يقطعه؛ لأنه بين المزدلفة وبين منى، وليس هناك طريق غيره، فإذا دخله فعليه أن يسرع الخطى حتى يخرج منه، وقالوا: إن الإنسان يسرع في هذا الوادي مقدار رمية الحجر، بقدر المستطاع؛ لأن الأمور تقديرية، فإن كان راكباً حرك الدابة، وإن كان ماشياً على قدميه أسرع خطاه، بقدر ما يتيسر له دون إرهاق. والسبب في ذلك كما هو معلوم للجميع ما كان من قصة جيش أبرهة حينما جاء ومعه الفيل قاصداً هدم الكعبة، فلما وصل إلى الطائف رأى صنماً كبيراً فظنه الكعبة، فقالوا له: لا، إن مطلبك أمامك، فقال لهم: أعطوني رجلاً يدلني على الطريق، فأعطوه رجلاً، فمشى معه إلى أن نزلوا ببطن الوادي، وقد أصبحت مكة قريبة منهم، فجاء هذا الرجل إلى الفيل وهمس في أذنه وقال: أتدري يا محمود! إلى أين تذهب، وماذا يراد منك؟ وكان محمود اسماً للفيل، والناس قد يسمون بعض الحيوانات، فيسمون بعض الغنم سعدية وسعدة ونحو ذلك، فبقي الفيل جالساً، فلما أرادوا أن ينهضوا به حينما أرادوا الرحيل لم يقم، فضربوه وآذوه بمحاجم فلم يتحرك، فحولوه إلى حيث أتى فقام يهرول راجعاً، فحولوه إلى جهة الكعبة فبرك مكانه. ودائماً ننبه في مثل هذه الحالات على أن الإنسان إذا كان طاغياً، وفكرة الطغيان مسيطرة عليه فإنه تغلق عليه الأبواب وتظلم بصيرته، ولا يرى الرشد، ونظير هذا ما وقع لفرعون عند أن جاء ووجد البحر مفلوقاً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كل فرق كالطود العظيم، فأنت يا فرعون! لو كان عندك عقل، وأنت ترى البحر الذي تعرفه قد أصبح الآن طرقاً، والماء الرجراج قد أصبح مثل الجبل، فستعلم أن هذا شيء ليس بعادي، وستعلم أن هذا وقع لنبي كان يدعوك من قبل، وقد أراك تسع آيات، وأراك العصا والحية، ودعاك إلى الله وتعب معك في الدعوة، وأنت الآن أمام أمر يفوق قضية العصا والحية أو يعادلها، وقد مشى فيه موسى، فلماذا لم تقف وتتذكر وتعتبر بأن الذي فعل هذا لموسى ليس بقدرة موسى، وإنما هو بقدرة رب موسى الذي كان يدعوك إليه؟ ولماذا لم تأخذ العبرة والموعظة ما دام أن ربه قد عمل له هذا؟ إذاً: هو على الحق، فكان المنطق السليم أن يرجع فرعون أمام هذه الآية، ولكن طغيانه أنساه، وأظلم بصيرته، فلج ودخل في تلك الطرق وسط الأمواج، فأطبق الله عليه البحر وأغرقه هو وجنوده. وكذلك نقول هنا لـ أبرهة: أنت قد رأيت الفيل وهو كما يقولون: أغلظ الحيوانات طبعاً، ولكنه ذكي، ويذكرون عن الفيل في تعليمه أنه من أذكى الحيوانات، ويفاضلون بينه وبين الفرس في الذكاء؛ لأن الفرس ذكي جداً، فها أنت يا أبرهة! قد رأيت أن الفيل ليس قادراً على أن يُقبل على ما أنت مقبل عليه، وقد جعل يرجع ويهرول إلى الموضع الذي أتى منه، أفلا ترجع؟! كان عليك أن تتأسى بالفيل، وأن تحجم عن الذي جئت من أجله، وأن ترجع كما رجع الفيل عنه، ولكنه أصر على المضي، فكان كما قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:1-3] الإبيل والأبابيل جمع: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] سبحان الله! يقولون: كان الطير يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في مخلبيه وحجراً في منقاره، وكان الحجر الذي يرميه على الفارس يخترق الفارس والفرس حتى يسقط إلى الأرض، وقد ذكرت لكم سابقاً أن بعض الناس يتساءلون ويقولون: إذا كان في الحجر قوة الاختراق هذه، وتخترق إنساناً من رأسه إلى الفرس إلى الأرض فكيف استطاع الطير أن يمسكها بمخالبه، وأن يمسكها بمنقاره؟ الجواب: قد ذكرت لكم أن هذا ممكن في الموجودات الأخرى، فقد وجد مثل هذا في حجر اليود، وهو يستخرج من ماء البحار المالحة، إذا وضعته على الحديد صهره، وإذا وضعته على الخشب أشعل فيه النار حالاً، وإذا وضعته على الزجاج لا يؤثر فيه شيئاً ولا يرفع الحرارة فيه حتى درجة واحدة، فالذي خصص الزجاج عن الحديد وعن الخشب هو الذي جعل الطير تأخذ هذه الحجارة ولا تؤثر فيها شيئاً، ويهمنا أن الله سبحانه أهلك ذاك الجيش بفيله في هذا الوادي، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] . فما كان موطن عذاب، فإن السنة فيه أن يسرع الإنسان ولا يقيم، ويقول كثير من المؤرخين: إن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا من الإرهاصات لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم الخطى، وكما قال في مدائن صالح: (لا تدخلوها عليهم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا) أي: ولو من باب الشكليات؛ لتظهروا الأسف، وهنا نقول: أبرهة قد انتهى هو وجيشه وفيله، والذي نأخذه نحن في هذا الموطن من الموعظة والعبر أننا ننظر إلى منهجية الفريقين: الفريق الأول: هو هذا الجيش الباغي المعتدي، ودينه النصرانية، وهو على دين سماوي، حرف أو لم يحرف، والفريق الثاني: هم القوم الذين ذهب إليهم أبرهة ليهدم البيت الذي يعظمونه وهم وثنيون، ولا شك عند الجميع أن الكتابيين خير من الوثنيين، ومهما غير الكتابيون في دينهم إلا أن عندهم مبدأ وأصل، ولهذا جاز للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المشركة الوثنية، وإنما يستمتع بها بملك اليمين، وأما بعقد نكاح فلا، وكذلك يترك أهل الكتاب على دينهم، ويُقبل منهم أن يدفعوا الجزية؛ لأنهم سيتركون على بقايا كتاب عندهم، أما الوثنيون فلا يقبل منهم أن يدفعوا الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإيمان أو السيف؛ لأننا إذا أخذنا منهم الجزية وتركناهم فسنتركهم على عبادة الأصنام، وهذا لا يقبل منهم، فهناك فرق بين الفريقين، ومع ذلك فإن الله أهلك من هم خير في العقائد وهم أهل الكتاب من أجل أولئك الوثنين الذين يعبدون الأصنام، مع أن الأولى والأحق بالنصرة هو الكتابي؛ لأنه على عقيدة، لها أصل وإن كانت محرفة، فلماذا؟ الجواب: إن الفارق الذي غلَّب جانب هلكة الكتابي هو الظلم؛ لأنه جاء ظالماً باغياً طاغياً يريد أن يهدم الكعبة، وماذا عملت به الكعبة؟ وإن أراد أن يؤذي قريشاً فماذا صنعت به قريش؟ هو بنى كنيسة وزخرفها وأراد أن يحج الناس إليها بدل الكعبة، فجاء رجل من عامة أهل البادية وتغوط داخلها، فغضب وأراد أن ينتقم، فيقال له: انظر أين الرجل الذي تغوط وانتقم منه هو، أما أن تأتي لتنتقم من جميع أهل مكة فهذا ليس فيه عقل ولا عدالة. إذاً: أيها الحاج الكريم! إذا مررت بهذا الوادي وأسرعت فعليك أن تتساءل: لماذا أسرع هنا دون جميع الأماكن في الحج؟ سيقال لك: لأن هذا المكان حصل فيه كذا وكذا، إذاً: فاحذر أن تطغى، واحذر أن تظلم، واحذر أن تبغي على أحد، وتجنب الظلم، واذكر قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) وقوله سبحانه في الحديث الآخر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ؛ لأن الكافر إذا ظُلم، وطلب من يرفع الظلم عنه فلم يجد، فتوجه إلى الله، فهو عندما يتوجه إلى الله موقناً بأنه وحده القادر على أن يأخذ حقه، فهو في هذه اللحظة مؤمن بوجود الله، ومؤمن بقدرة الله، ومؤمن بعلم الله بظلمه وأنه سينصره، وهذا القدر يكفي في إجابة دعوته، وكما قالوا في قصة فرعون مع موسى: إن فرعون لما جاءه الغرق بدأ ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه حتى لا يجيبه، فلما انتهى أمر فرعون عاتب الله موسى، فقال: يا موسى! فرعون يناديك عدة مرات، ولا تلتفت إليه لو دعاني مرة واحدة لأجبته؛ لأنه حينما يدعوه في تلك اللحظة فهو قد آمن، وهو يعلم أنه قادر على أن يعطيه دعوته. إذاً: حينما يمر بذلك الحاج الموضع يتذكر ذلك التاريخ، وكما قلنا مثل ذلك في الرمل الذي كان في عمرة القضية عند أن تآمر المشركون على المسلمين لما بلغهم من ضعفهم، وفي موضوع السعي بين الصفا والمروة، في قصة طلب هاجر للماء، وكيف استطلعت من حولها فلم تجد أحداً، فاتجهت إلى الصفا ثم إلى المروة، كل هذه خطوات يجب على الحاج أن يستفيد منها بإحياء ذكراها، والتأسي بما تعطيه من مدلول.

الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى

الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى وهنا أسرع صلى الله عليه وسلم في هذا الوادي، فلما انتهى منه وجاء إلى العدوة الثانية صار في حيز منى، ولما جاء إلى منى، أول ما فعله أنه أتى إلى الجمرة حالاً، ولم يذهب إلى منزله، ولهذا يقولون: إن تحية منى: هو المبادرة إلى رمي جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات من بطن الوادي. وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس في المزدلفة: (التقط لي سبع حصيات) فأخذ معه سبع حصيات من المزدلفة، وهذا يدل على أن الحاج لابد أن يكون متأهباً للعمل الذي أمامه وهو رمي جمرة العقبة، حتى إذا وصلها شرع في رميها، ولا يذهب ينادي ويقول: ابحثوا لي عن حصى، بل عليه أن يكون متأهباً. وهنا فكرة طرأت على ذهني في هذا الموقف وهي أن الله سبحانه وتعالى لما امتن على المسلمين بالوقوف بعرفة، وغفر لهم وحط عنهم أثقالهم، وفك عنهم قيودهم التي كبلهم بها الشيطان؛ لأن الشيطان قال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء:62] فالشيطان قد توعد الأمة بين يدي الله أنه سيأتي بحبل ويضعه في حنكهم ويسحبهم كما يسحب الإنسان الدابة، وفعلاً كثير من الناس ينقاد له كذلك، فكان الإنسان يقترف في حياته خطيئة مع أخرى حتى صارت كالجبال فوق ظهره، وصار مثقلاً ومقيداً يقاد بمقود كالبعير، ولما كان يوم عرفات غفر سبحانه وتعالى له خطاياه وأزال عنه قيوده، فكيف سيكون حاله بعد هذا؟ سيكون على أمرين: الأول: الخفة، والثاني: استشعار النصرة من الله على عدوه، ولهذا ما رؤي الشيطان أصغر ولا أذل ولا أحقر منه من يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمات، ولما يرى من أن الله قد غفر للجميع فينادي بالويل والثبور؛ لأنه طول عمره وهو يسعى وراء هؤلاء لإضلالهم، فإذا به في لحظة واحدة قد بطل مسعاه، وضاع كل جهده مع هذه الملايين التي جاءت ووقفت في الموقف، فيتأسف على ذلك، فإذا ما جاء الحاج إلى المزدلفة أخذ قسطاً من الراحة، والاستحمام، ثم ذهب ليصفي حسابه مع الشيطان -كما يقولون- لأن الشيطان كان معلناً عليه الحرب، وكان مستأسره، وكان مستضعفه، وقد فعل به ما شاء، فهو الآن جاء ليصفي حسابه مع الشيطان، وكأنه سيدخل معركة مع الشيطان، فيتزود من المزدلفة بالسلاح الذي سيعلن به الحرب على الشيطان، والذي يذهب إلى المعركة لابد أن يتزود بالذخيرة قبل أن يأتيها، ولهذا حين أن يأتي ليرمي الجمرة، يقول: (باسم الله، الله أكبر إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ؛ لأنه بعد أن كان أسيراً للشيطان قد أطلق من أسره، وأصبح في موقف القوة، يعلن الحرب على عدوه، وهاهو يرمز -ورمي الجمرات ما هو إلا رمز، لا كما يظن الجهال أن الشيطان أمامه- إلى أنه قد انتهى من عدوه وبدأ معه طوراً جديداً، ومن أعلن الحرب على عدوه فلا يغفل عنه أو ينام، بل يكون أشد حرصاً من ذي قبل. فهنا صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من المزدلفة، ويقول العلماء: من شاء اكتفى بسبع حصيات من المزدلفة، ثم يأخذ بقية الحصيات لبقية الأيام من منى، بشرط أن لا يلتقطها من مسجد، ولا يلتقطها من المرمى؛ لأنه قد أدى بها الواجب إنسان قبل، فأنت إذا أخذتها بعده فهو بمثابة الماء المستعمل في الوضوء لا يتوضأ به مرة أخرى. إذاً: من شاء أخذ الحصى من مزدلفة، ومن شاء أخذ سبعاً من مزدلفة والتقط الباقي من طريقه أو من منى، وقد بين صلى الله عليه وسلم مقدار الحصاة كما جاء هنا: (كحصى الخذف) وحصى الخذف هي: الحصاة التي مثل حبة الفولة تقريباً ويمكن أن تضعها بين أصبعين وتخذف بها، مثل (النبّيلة) فتذهب إلى مسافة بعيدة، ولا ينبغي أن تكون كبيرة مثل الليمونة، ولا أن تكون صغيرة مثل حبة القمح؛ لأن هذه الصغيرة لا يعتبر الرمي بها، والكبيرة إذا أصابت إنساناً عند الحوض فإنها تؤذية، وليست المسألة مسألة إيجاع ولا تحطيم، ولا اعتداء، وإنما هي عبارة عن رمز.

حكم غسل حصيات الرمي والتوكيل في التقاطها

حكم غسل حصيات الرمي والتوكيل في التقاطها يبحث الفقهاء في هذه الحصى: هل يغسلها الحاج أو لا يغسلها؟ والقول بغسلها جاء عن بعض الشافعية، والجمهور يقولون: غسلها بدعة؛ لأن الرسول لم يغسلها، والأصل فيها الطهارة. ولك أن تلتقطها بنفسك، ولك أن توكل إنساناً يلتقط لك، كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! التقط لي سبع حصيات) فأتى منى وجاء من بطن الوادي، وجعل منى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورمى الجمرة بسبع حصيات وهو على راحلته، ولم يقف عندها، وإنما رمى وانصرف.

نحر الهدي يوم العاشر من ذي الحجة

نحر الهدي يوم العاشر من ذي الحجة قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) . المنحر وهو اسم المكان الذي ينحر فيه، كما يقولون: المذبح، إذاً: هناك تعيين، فما كل إنسان يذبح في الطريق أو عند خيمته! ولكن عليه أن يأتي المنحر، وهذا من أوائل تنظيم الأعمال التي بها تكون منى صالحة للسكنى، وقبل مجيء المذابح الآلية الجديدة كنا إذا مشينا في أي مكان نرى الشياه مرمَّية في الشارع، وسبحان الله! الله أمر بتطهير البيت ومكة من هذه المظاهر في قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، وأين محله؟ قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وهل محله عند الكعبة بأن نذبح في مكة حول الكعبة؟ الجواب: لا، فقد جعل الله منى منحراً، إذاً: منى منحر رسمي لمكة. وبهذا تكون جيف الذبائح قد أبعدت عن المسجد الحرام؛ لتظل مكة طاهرة طيبة بعيدة عن هذه القاذورات، والفضلات إلى غير ذلك.

عدد الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين النحر والذبح

عدد الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين النحر والذبح أتى صلى الله عليه وسلم المنحر وكان معه من الهدي مائة بدنة، بعضها أخذها معه من المدينة، وبعضها أتى بها علي من اليمن، وشركه في هديه، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، ونحر علي الباقي. والنحر للإبل والذبح للغنم، وأما البقر فمختلف فيه، والجمهور على أنها تذبح كما تذبح الشاة، والذبح هو: قطع الحلقوم من عند الرأس، والنحر هو: الطعن في اللبة من عند الصدر، والسبب في النحر أنه أسرع لإخراج الدم، فلو ذبح البعير لكانت المسافة بين القلب وبين مكان الذبح طويلة، ولكن لما تنحر الإبل تكون الفتحة التي يخرج منها الدم قريبة من القلب، فيستطيع القلب في فترة ما بين الحياة والموت أن يتخلص من جميع الدم الموجود في جسم الناقة، ولكن لو ذبحت فإنها تحتاج إلى (ماطور) في الصدر حتى يخرج الدم من مسافة رقبة البعير الطويلة، فيحتاج إخراج الدم يحتاج إلى مجهود؛ لأن القلب في مكان منخفض وسيتوقف بالموت قبل أن يخرج جميع الدم، فكان السر في نحر الإبل هو تيسير خروج الدم من جسم الإبل؛ لأن الغرض من النحر أو الذبح هو تخليص اللحم من الدم؛ لأن الدم فيه ثاني أكسيد الكربون، وفيه الأكسجين، فالأكسجين هو مادة الحياة، وثاني أكسيد الكربون هو غاز سام، والدم في خروجه من القلب إلى الجسم يحمل الأكسجين ليغذي به الجسم، وفي عودته من الجسم إلى القلب يحمل ثاني أكسيد الكربون ويمر في عودته بالرئة، فتصفيه من هذا الغاز السام عن طريق (الفلتر) الموجود في الرئة، فمواضع الترشيح التي في الرئة، تستخلص منه الغاز السام وتعطيه الأكسجين ويرجع في دورته إلى الجسم للتغذية مرة ثانية، وهكذا. ولهذا يقولون: إن الحركة السريعة التي يأتي بها المذبوح من الطير أو الحيوان كبيراً كان أو صغيراً تساعد على إخراج الدم من الجسم إلى الخارج ليصفو اللحم، ومن هنا كانت الميتة فاسدة وضارة؛ لأنها تحتبس وتختزن القسم الذي فيه السم وهو ثاني أكسيد الكربون فيؤذي، ولهذا إذا وجدت شاة ميتة وذبحت شاة أخرى حية وسلختها وعلقت لحمها بجانب هذه الميتة فإن الفساد يسرع إلى الميتة حالاً، ويظل اللحم الآخر الذي هو مذكى ومذبوح صالحاً بعد ذلك لمدة يوم أو يومين لم يطرأ عليه الفساد؛ لأنه تخلص من عوامل الإفساد التي خرجت مع الدم.

نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة فيه إشارة إلى عمره

نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة فيه إشارة إلى عمره ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاث وستين سنة، فما هي العلاقة بين ثلاث وستين بدنة ينحرها وثلاث وستين سنة يعيشها وهو في آخر سنة من سني حياته؟ الجواب: هذا كأنه رمز وإشعار منه صلى الله عليه وسلم للألباء أصحاب الفطن أن اعلموا أن عدد سنواتي ثلاث وستون، وأن هذه السنة هي النهاية، ففي هذا إشعار بعدد سنوات عمره صلى الله عليه وسلم. ثم أمر علياً أن ينحر بقية المائة، ولماذا أكمل المائة ولم يكتف بالثلاث والستين؟ الجواب: أنه قد سبق لأبيه قبل ذلك، أنه وقع عليه السهم في أن يذبحه أبوه في النذر الذي كان عليه كما تقدم لنا أن عبد المطلب قال: (لئن رزقني الله عشرة أولاد يقفون بجاني يحملون السيف ويدافعون عني لأنحرن واحداً منهم) ، فأقرع بينهم، فجاءت القرعة على عبد الله والد رسول الله، ولكن عبد الله كان يحمل أمانة، وما كان الله ليتركه يذهب بها، فجاءت مفاداته وفودي بمائة من الإبل، إذاً: كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب! معذرة، أبي فودي بمائة من الإبل في الجاهلية، وأنا أقدم مائة من الإبل في الإسلام.

مشروعية أكل صاحب الهدي من هديه

مشروعية أكل صاحب الهدي من هديه ثم أمر علياً بأن يأتي بالجزارين ليسلخوها ويقطعوها، وأمره أن يأخذ من كل بدنة قطعة، وأمر أن تطبخ تلك القطع كلها في قدر واحد، فأكل من اللحم وشرب من المرق، وعلى هذا كانت السنة أن على من أهدى أن يأكل من هديه؛ من أجل أنه إذا علم أنه سيأكل من هذا الذي سيذبحه، فلن يذبح عجفاء عرجاء ويتركها في الشارع، بل سيتخير الشيء الذي تطيب نفسه أن يأكل منه؛ لأن الواجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فإذا علم صاحب الهدي أنه سيأكل منها فإنه سيتخير، وهكذا كانت السنة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [6]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [6] أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة، وكلما أحدثوا شكراً على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبداً. وفي الأمر بالذكر بعد انقضاء النسك معنى عظيم، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

بقية الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر بعد نحر الهدي

بقية الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر بعد نحر الهدي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر) رواه مسلم مطولاً] .

الحلق يوم النحر وكيفيته

الحلق يوم النحر وكيفيته يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصره في هذا الموطن، وذكر غيره بقية الحديث، وأجمع من ذكره هو الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وهنا يقول: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه) وقد تقدمت الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه من المدينة بعض الإبل، وجاء علي رضي الله تعالى عنه من اليمن أيضاً بجملة من الإبل، واجتمع من ذلك مائة بدنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، وأوكل إلى علي رضي الله عنه أن ينحر البقية، وأن يأتي بالجزارين ليسلخوا وليقطعوا وأن يعطيهم الأجرة من غير اللحم، وإذا كانوا مساكين أو يحتاجون إلى اللحم فيأخذون منه بصفة الحاجة، لا بصفة الأجر على عملهم. وقد تقدم أن العلماء قالوا: كونه صلى الله عليه وسلم اقتصر على نحر ثلاث وستين بيده الكريمة فهذا فيه إشارة خفية إلى أن سني حياته صلى الله عليه وسلم ستنتهي عند الثلاث والستين سنة، وفعلاً توفي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة بقليل، وتقدم أن العلماء بحثوا في كلمة: (نحر) و (ذبح) فقالوا: إن النحر للإبل وهو أن تطعن في نحرها، أي: في لبتها وهي في آخر العنق من جهة الصدر، والذبح يكون في طرف العنق من جهة الرأس، فالذبح للشاة والنحر للإبل، والبقر مترددة بين الإبل وبين الغنم، فبعض العلماء يلحقها بالإبل لضخامة جسمها، وبعضهم يلحقها بالغنم لقصر عنقها، وتقدم أن الحكمة في أن الإبل تنحر والغنم تذبح: أن النحر والذبح كلاهما إنما يكونان من أجل أن يتخلص جسم الحيوان مما فيه من الدم، فإذا ما نحرت الناقة فسيكون موضع خروج الدم قريباً من القلب، ويستطيع القلب أن يظل مستمراً بالنبض إلى أن يخلص الجسم مما فيه من الدم، وتأتي حركة الأطراف في الحيوان المذبوح فتنشط الدم للخروج من الأطراف إلى القلب، والقلب يدفعه إلى الفتحة الناتجة عن النحر، وهي فتحة قريبة من القلب، لا يزيد بعدها عنه على ثلاثين سنتيمتراً، أما إذا ذبحت الإبل ذبحاً فإن القلب يحتاج إلى مجهود كبير ليدفع الدم إلى نهاية هذا العنق الطويل، وربما انتهت حياته قبل أن يخلّص البدن من كامل الدم الذي فيه، فكان الأنسب بالنسبة للإبل أن تنحر؛ لسهولة خروج الدم من هذا الجسم الكبير بالنحر، بخلاف الذبح. وكان في الغنم الذبح؛ لأن مجمع العروق والحلقوم إنما هو في طرف الرقبة من جهة الرأس. ولما نحر صلى الله عليه وسلم الهدي أمر علياً رضي الله عنه بأن يكلف الجزارين أن يأخذوا من كل بدنة بضعة لحم، أي: قطعة، وجمعت المائة قطعة من المائة بدنة في قدر وطبخ جميع ذلك، فأكل صلى الله عليه وسلم من اللحم وشرب من المرق، ومن هنا يقول العلماء: من استطاع أن ينحر أو يذبح هديه بيده فهو أولى، ومن لم يستطع أناب عنه، كما أناب النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله تعالى عنه في نحر بقية الهدي، وكذلك من السنة أن يأكل الحاج من هديه؛ وذلك لكي يتخير من الهدي ما تطيب نفسه أن يأكل منه، وعلى مبدأ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فالذي تطيب نفسه أن يأكل منه يأخذه من أجل أن يأكل منه المسكين، أما إذا جاء إلى مريضة أو هزيلة أو لا تصلح للأكل فذبحها فإن المسكين يعاف أن يأكل منها كما يعاف صاحبها. وبعد أن أنهى صلى الله عليه وسلم النحر حلق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بعدما نحر صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الحلاق فحلق له قبل أن يفيض إلى مكة لطواف الإفاضة، وأما كيفية حلقه لشعره صلى الله عليه وسلم فقد دعا الحلاق وناوله شق رأسه الأيمن، فحلقه ثم قال له: قسم هذا الشعر على الناس، يقول بعض العلماء: إنه طيّب به خواطر من لم ينل شيئاً من اللحم، والتحقيق عند أكثر العلماء: أنه أمر بتقسيمه حفظاً له وإكراماً له لئلا يلقى في الأرض فيوطأ، فأمر أن يوزع على الناس، وكل يتمنى أن ينال الشعرة أو الشعرتين ليحتفظ بها ويكرمها دون أن تصاب بأذى أو امتهان. وقد كان عند بعض الصحابة بعض ذلك الشعر، حتى قيل: إن خالد بن الوليد كان يحتفظ بشعرات في قلنسوته، وأم سلمة رضي الله عنها كانت تحتفظ بشعرات في جلجل من فضة، فكان إذا أتاها محموم جاءت بماء فصبته فيه، وحركت هذا الجلجل بما فيه من هذه الشعرات ثم سقته المريض فيعافيه الله سبحانه وتعالى بفضله، وهكذا لما حلق الشق الثاني من الرأس قال: خذ هذا أنت.

الحلق أفضل من التقصير عند التحلل من النسك

الحلق أفضل من التقصير عند التحلل من النسك وهكذا حلق صلى الله عليه وسلم والحلق هو الأفضل للتحلل من النسك، كما قال سبحانه وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، ومعلوم أن تقديم أحد المتساويين يدل على فضله، أو الاهتمام به، كما جاء في الصفا والمروة في قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (من أين ستبدأ؟ قال: أبدأ بما بدأ الله به) أو قالوا: (من أين سنبدأ؟ قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، فهنا تقديم (محلقين) على (مقصرين) يدل على أفضليته، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، أو الحديبية حينما حلق بعض الناس وتأخر البعض وقصر، فقال: (اللهم! ارحم المحلقين ثلاث مرات، فقالوا: والمقصرين يا رسول الله! -وفي الثالثة أو الرابعة قال- والمقصرين، فقيل: وما شأن المقصرين يا رسول الله! وما شأن المحلقين؟ قال: أولئك لم يشكوا) أي: لم يترددوا في الحلق ولو لم يصلوا إلى البيت الحرام.

طواف الإفاضة والخلاف في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر

طواف الإفاضة والخلاف في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر نحر صلى الله عليه وسلم وحلق ثم ركب ونزل إلى البيت، وطاف طواف الإفاضة، وفي حديث جابر: (وصلى الظهر بمكة) وهذه المسألة فيها ثلاث روايات في صلاته الظهر يوم العيد: الرواية الأولى: كما ذكر المؤلف أنه صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى. الرواية الثانية: أنه رجع من مكة إلى منى وصلى الظهر فيها. الرواية الثالثة: أنه صلى الظهر بمكة حينما دخل وقتها، ولما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم الظهر مرة أخرى، ولا مانع من مثل ذلك؛ لأن غاية ما فيه أنه كرر الصلاة مرتين، ووقت صلاة الظهر ليس من الأوقات المنهي عن الصلاة بعده، بل جاء فيما يتعلق بصلاة العصر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العصر ذات يوم، فدخل رجل متأخراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ فقام رجل وصلى معه) حتى اكتسب أجر صلاة الجماعة مرة ثانية، وهنا كذلك. وسواءً صلى الظهر بمكة أو صلى بمنى أو صلى بالموضعين فإنه رجع إلى منى يوم العيد وبقي هناك وبات، أي: ليلة اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق.

الأعمال التي يعملها الحاج أيام التشريق

الأعمال التي يعملها الحاج أيام التشريق ثم بعد ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الغد، وهو أول أيام التشريق انتظر حتى زالت الشمس، فركب وأتى إلى الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصيات مستقبلاً الجمرة والكعبة، يعني: مستقبلاً القبلة، جاعلاً الجمرة بينه وبين الكعبة، أي: على مستوى مسيره من المسجد، فإذا خرجنا من المسجد وتوجهنا إلى الجمرات فإننا نواجه الجمرة الأولى في طريقنا ونكون مستقبلين الكعبة ومتوجهين إلى مكة، وهناك رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً، واستقبل القبلة ووقف ودعا طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى أيضاً وهو مستقبل القبلة، ورماها بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً واستقبل القبلة ودعا طويلاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة الكبرى، وتياسر مع الوادي، وجعل الجمرة أمامه، ومنى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورماها بسبع حصيات وانصرف ولم يقف عندها ولم يدع. يقولون: إنه لم يقف لأن المكان لا يتسع؛ لأن عندها العقبة، وهي: جبيل صغير، والجمرة تقع بجانبه من جهة بطن والوادي، فيقف الواقف في بطن الوادي ويرمي، وليس هناك متسع؛ لأن كل من رمى إذا أراد أن يدعو، وجاء إلى بعض الجوانب فسيجد العقبة تشغل المكان وليس هناك محل يمكن أن يقف الناس فيه ليدعوا كما دعوا في الأولى وفي الوسطى، فرمى جمرة العقبة الكبرى، وهي الأخيرة، أي: التي رماها بالأمس يوم العيد، وجعلها آخر ما رمى من الجمرات الثلاث، ثم رجع إلى مخيمه. وهكذا فعل في اليوم الثاني من أيام التشريق مثل ذلك.

الترخيص لرعاة الإبل وأصحاب الأعمال العامة في عدم المبيت بمنى أيام التشريق

الترخيص لرعاة الإبل وأصحاب الأعمال العامة في عدم المبيت بمنى أيام التشريق وأذن لرعاة الإبل ولأصحاب الأعمال العامة الذين يخدمون الحجاج أن يذهبوا إلى حيث يعملون، فذهب الرعاة بالإبل إلى خارج منى ليرعوا الإبل هناك، ويمكثوا اليوم الثاني من أيام التشريق، على أن يرجعوا في اليوم الثالث من أيام التشريق ليرموا عن اليوم الثاني والثالث، وعلى هذا فعملهم في يوم النحر أنهم رموا جمرة العقبة ثم أفاضوا ثم جاءوا وباتوا في منى، ثم رموا جمار اليوم الأول من أيام التشريق وذهبوا، ومكثوا في مكان عملهم اليوم الثاني ولم يأتوا إلى منى ولم يرموا، وفي اليوم الثالث جاءوا إلى منى فرموا جمرات اليوم الثاني الذي لم يأتوا فيه إلى منى، كما رموا في اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالعقبة، ثم رجعوا فرموا لليوم الذي هم فيه وهو اليوم الثالث على الترتيب السابق: الأولى فالوسطى فالعقبة. وكذلك أذن صلى الله عليه وسلم لأصحاب السقاية أي: الذين يسقون الحجيج في زمزم، وأذن للعباس رضي الله عنه لأنه كان صاحب السقاية أن ينزلوا ويبيتوا في مكة تلك الليلة من أجل مباشرة عمل السقاية، وهي خدمة الحجيج. وهنا يمكن أن نقول: إن أصحاب المهن المرتبطة بأعمال الحجاج وخدماتهم إذا كان الحال يتطلب خروجهم أو ذهابهم عن منى فإنه لا مانع أن يؤذن لهم كما أذن لرعاة الإبل، وكما أذن لأصحاب السقاية، فمثلاً: توجد المستشفيات في مكة وفي منى وفي غيرها، فإذا كان هناك طبيب محرم بالحج، وملتزم بمناسكه، وجاء وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع ليبيت في منى ولكن عمله يتطلب أن يكون في مكة، فله أن ينزل ويبيت ليزاول عمله بعد أن يرمي الجمرات في وقت من النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكلف الرعاة بأن يفدوا عن غيبتهم وعن تأخيرهم الرمي، وكذلك أصحاب السقاية، ويتفق العلماء على أن من ترك الرمي في أول أيام التشريق، وثاني أيام التشريق، ثم جاء في اليوم الثالث من أيام التشريق فرمى عن اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثاني: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثالث: الأولى فالوسطى فالكبرى، أنه لا شيء عليه، وأن ذلك يجزئه. وهكذا ينبغي أن يوسع لأصحاب الأعمال؛ لأن الذي يتخلف منهم عن المبيت بمنى لم يتخلف لمصلحة نفسه، ولا لرفاهية يطلبها، وإنما من أجل خدمة الحجيج. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر إلى اليوم الثالث.

حكم المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة والخلاف في ذلك

حكم المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة والخلاف في ذلك وحينما رجع صلى الله عليه وسلم من مكة في يوم العيد، كانت نوبة صفية رضي الله تعالى عنها، فسأل عنها: أين هي؟ فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي؟) أي: أتحبسنا حتى تطهر وتغتسل وتطوف طواف الزيارة ثم نرحل؟! فقيل له: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تأتيها الحيضة، فأمرهم بالرحيل، ومن هنا أخذ العلماء المبحث الأول الذي سقناه سابقاً وهو: أن المرأة إذا أتاها الحيض قبل أن تطوف طواف الزيارة، وهو طواف الإفاضة ماذا تفعل؟ الكلام في هذا المبحث كثير، والخلاف فيه مشهور عن الأئمة الأربعة، فـ الشافعي ومالك يشددان في ذلك ويقولان: تبقى على إحرامها وتبقى على حالتها ولو سافرت إلى بلدها فعليها أن ترجع. أما أبو حنيفة رحمه الله وهي رواية عن أحمد فيقولان: إنها إن لم تستطع أن تصبر إلى أن تطهر، لعدم وجود محرم ينتظر معها، أو لنفاد نفقتها، أو لفوات رفقتها فإنها تتحفظ وتطوف وعليها بدنة فدية؛ لأنها قد أصبحت في هذه الحالة مضطرة بين أن ترجع إلى بلدها وتبقى على إحرامها، وتبقى كذلك محرّمة على زوجها إلى أن تأتي مرة أخرى، وتكمل حجها وتفك إحرامها، وبين أن تبقى في مكة حتى تطهر وتكون وحيدة منفردة وقد فاتتها الرفقة، وقد يكون عليها من الخطر ما يكون. وقد ناقش العلماء هذه القضية طويلاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله كما بينا يجوز لها عند الضرورة القصوى أن تتحفظ وتطوف وعليها بدنة، وجاء الإمام ابن تيمية رحمه الله وبحث المسألة بحثاً ضافياً فيما يقرب من خمسين صفحة وهذا البحث موجود في كتاب مجموع الفتاوى، وبين الأدلة في هذه القضية بياناً لا يوجد نظيره عند غيره، وانتهى إلى القول بأنها معذورة، وأنها لا شيء عليها، لا بدنة ولا غيرها؛ لأنها لم تفرط، وهذا الأمر خارج عن يدها، والمشقة تجلب التيسير، ولا ضرر ولا ضرار إلخ.

نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح والخلاف في سببه

نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح والخلاف في سببه ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من أعمال منى نزل بالأبطح، وكان يسمى (خيف بني كنانة) وهو موجود الآن في أوائل مكة في ما يسمى قصر السقاف، موضع الرابطة سابقاً، وهنا يبحث العلماء في سبب هذا النزول، فبعضهم يقول: نزل فيه نزولاً تابعاً للنسك، وبعضهم يقول: إنما نزل فيه لأنه واسع وهو في بادئ مكة، فيكون أيسر له ولمن معه إذا أرادوا السفر إلى المدينة؛ لأن السفر من هناك أيسر عليهم من أن يدخلوا مكة وبيوتها وأزقتها ثم يخرجون، فهذا فيه مشقة عليهم، إذاً: مبيته في هذا المكان الذي هو خيف بني كنانة اختلف فيه هل هو تابع للنسك أو هو من أجل المصلحة؟ وابن كثير رحمه الله يذكر لذلك سبباً آخر وهو: أن خيف بني كنانة هذا في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان له تاريخ، لما تآمرت قريش على بني هاشم، أن لا يبايعوهم ولا يزاوجوهم، ولا يعاشروهم، حتى اضطروا إلى أن ينحازوا إلى الشعب، واشتد الأمر عليهم، حتى أكلوا ورق الشجر، وكتبوا في ذلك صحيفة، وعلقوها داخل الكعبة، وكانت هذه الصحيفة تسمى: الصحيفة الظالمة، وقد كتبوها في هذا الخيف. وبعد أن كتبت بمدة جاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلتها، ولم يبق منها إلا: لفظ الجلالة فقط، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وقال: إن الصحيفة التي كتبوها وعلقوها بالكعبة سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة، فذهب أبو طالب إلى سادات قريش، وقال: يقول ابن أخي: إن صحيفتكم الظالمة قد سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة فهلموا انظروا إليها، إن كان صادقاً فلا حاجة إلى هذه القطيعة، والغوا هذه الصحيفة، وإن كان كاذباً فشأنكم به. ففتحوا الكعبة، ونظروا الصحيفة، فوجدوها كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمروا في العناد، فقام أربعة نفر من قريش وقالوا: والله! إن هذا ظلم، أفنقاطعه بعد أن تبين لنا صدقه؟! فتآمروا أنهم إذا جاء الليل يكون كل إنسان من الأربعة في ركن من أركان المسجد، فيقوم الأول ويقول: إن تلك الصحيفة الظالمة لم نحضرها ولم نرض بها ولا نقرها، فيتكلم أبو جهل فيقوم الثاني ويؤيد هذا القول، وهكذا الثالث والرابع، وحينئذٍ ستجد قريش نفسها أمام الأمر الواقع، ففعلوا ما تآمروا عليه حتى قال أبو جهل: إن هذا أمر بيت بليل، يعني: ما جاء صدفة الآن وإنما أنتم متفقون عليه بليل، فيقولون: إن تلك الصحيفة الظالمة كتبت في خيف بني كنانة، حيث اجتمع كفار قريش هناك في ذلك الخيف وكتبوها وجاءوا بها وعلقوها داخل الكعبة، فيقول ابن كثير: كما أن هذا الخيف شهد كتابة الصحيفة الظالمة فليشهد نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه عقب هذا النسك العظيم، فكما شهد الظلم يشهد العدل ويشهد ذكر الله من هذا الرهط الكريم، والله تعالى أعلم.

مشروعية العمرة بعد الحج للقارن

مشروعية العمرة بعد الحج للقارن وهناك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أريد عمرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (يكفيك عمرتك مع حجك) لأنها بدأت أول ما بدأت من ذي الحليفة متمتعة، لكنها لما وصلت إلى سرف -وسرف قبل مكة بمرحلتين- أتتها الحيضة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك لعلك نفست؟) والحيض يطلق عليه نفاس أيضاً، قالت: (نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا يرد به العلماء على من قال: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا أمر كتبه الله على بنات حواء - أي: من أول الدنيا- اغتسلي وقولي: حجة في عمرة) فكانت متمتعة ولكن الحيضة منعتها من أن تتحلل من عمرتها قبل الحج، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، ولما طهرت طافت للحج والعمرة معاً، فكانت قارنة قد جمعت بين النسكين، فقالت: أترجع صاحباتي كلٌ بحج وعمرة، يعني: مفردة مستقلة، وأرجع أنا بحجة فقط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: (اذهب بأختك وأعمرها من التنعيم) والتنعيم هو: المكان المعروف الآن بـ (مسجد عائشة) ، والمسافة بينه وبين الحرم المكي سبعة كيلومترات، وهذا كما يقولون: هو أدنى الحل، لأن حرم مكة وحلها متفاوت المسافات، فبعض الجهات الحل بعيد فيها كما هو الحال فيما وراء مزدلفة، وبعض الجهات قريب؛ كالتنعيم، إذ لا يتجاوز سبعة كيلو مترات، وبعض جهات الحل المسافة إليها فوق العشرين كيلو متراً، فأدنى الحل في مكة إلى الحرم هو التنعيم، ومن هنا اشترط العلماء أن كل مكي سواءً كان آفاقياً أو مكياً أصلياً إذا أراد العمرة فإن عليه أن يخرج من حدود الحرم إلى أدنى الحل، ويعقد الإحرام هناك، ويدخل إلى الحرم عاقداً نية العمرة، وهذا يؤديه المعنى اللغوي؛ لأن العمرة هي بمعنى الزيارة، والحج هو بمعنى القصد إلى معظم، فكيف تكون زيارة وأنت تحرم من وسط البيت؟ وكيف تزور وأنت جالس في البيت؟ فالزائر لابد أن يأتي من الجانب، كما يقولون: الزور، والزور يكون من فتحة الفم، ويعمل زاوية وينزل إلى الرقبة إلى الجوف، يعني: الزائر يأتيك عن جنب، كما أن الزور يأتي عن جنب من الفم، فلا يتأتى أن يقول القائل: أنا زائر وهو جالس في البيت، بل لابد من الخروج. ويستدلون على ذلك أيضاً أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مساويين للأرض، لما أتم البناء خرج بأعيان مكة إلى التنعيم، وأحرموا منه وجاءوا بعمرة شكراً لله على إتمام بناء الكعبة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن من كان في مكة وأراد العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل، وقالوا: كل نسك عمرة أو حج لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، أما العمرة فكما ذكرت، وأما الحج فإن من جاء متمتعاً وأحرم يوم التروية من مكة فإنه سيخرج إلى الحل -أي: إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم- ثم ينزل ويدخل إلى الحرم ليكمل نسكه. فخرجت عائشة مع أخيها وأتت بعمرتها، وانتظرهما صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، ثم رجعوا إلى المدينة.

حكم طواف الوداع للحائض والنفساء

حكم طواف الوداع للحائض والنفساء ومما يتعلق بالمرأة إذا حاضت قبل ذلك، أو فاجأها الحيض بعد طواف الإفاضة وقد بقي عليها طواف الوداع، ما جاء الخبر فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض والنفساء) ، فالحائض أو النفساء لا وداع عليها؛ لعذرها ولعدم الحاجة إلى تأخرها حتى تطهر، وهذا بخلاف طواف الإفاضة. هكذا كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ من الحج ورجع إلى المدينة رجع كل وفد من الطريق الذي جاء منه، ورجع الناس إلى بلادهم بعد أن وادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا خلاصة ما بقي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.

الكليات الخمس والإشارة إليها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر

الكليات الخمس والإشارة إليها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة التي بين فيها صلى الله عليه وسلم مجمع أحكام الإسلام كاملة، وبدأ الخطبة بقوله: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالشهر الحرام؟ -لأن شهر ذو القعدة وذو الحجة والمحرم هذه الثلاثة من الأشهر الحرم، والرابع هو شهر رجب- قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -أداة التنبيه والاسترعاء- إن دماءكم وأموالك وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،) يعني: تحريم مضاعف ثلاث مرات، بحرمة الزمان والمكان. وهنا يتأمل الإنسان في قوله: (دماءكم وأموالكم وأعراضكم) وهذه أعظم ثلاث جواهر من الجواهر الست التي لا قيام لأي مجتمع بدون الحفاظ عليها، يقولون: هذه الجواهر الست لا غنى لأي مجتمع أياً كان دينه عنها، فإذا ما انتهكت تلك الجواهر ضاع هذا المجتمع، وصار لا قيام له ولا كيان، وأول شيء للمجتمعات هو الدين، فلابد لكل مجتمع من دين أياً كان هذا الدين، سواءً كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو باطلاً، فلابد من تدين؛ لأن التدين يملأ الداخل، فإن كان سماوياً صحيحاً فهذا هو الرشد، وإن كان غير ذلك فهذا هو الضلال والعياذ بالله! ولهذا يقول بعض الكتاب: من الممكن أن ترى مدينة بدون ملعب، وبدون ملهى، وبدون حديقة، وبدون مسبح، ولكن لا يمكن أن ترى مدينة بدون معبد، فالعبادة والتدين هو من طبيعة البشر، فالدين من الجواهر الست، ولهذا جاء الإسلام بالحفاظ على الدين، وأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يأخذوا بهذا الدين، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] . وبين صلى الله عليه وسلم حكم من بدل دينه فقال: (من بدل دينه فاقتلوه) وحرم كل ما يؤدي إلى تبديل الدين وتغييره من البدع والخرافات؛ لأن البدع بريد الكفر، وجعل في الردة القتل، وجعل في البدع والخرافات التعزير. النوع الثاني من الجواهر: العقل، والعقل هو ميزان الإسلام، وهو الجوهرة التي يتميز بها الإنسان عن جميع الكائنات، والتي بها عرف الله سبحانه وتعالى، وتلقى الخطاب بالتكاليف عن الله، والإنسان بغير العقل ينزل عن مستوى الحيوانات؛ لأن الحيوانات لديها تمييز ولديها إدراك، وتعرف ما ينفعها وما يضرها، فتجتنب ما يضر وتسعى إلى ما ينفع، أما فاقد العقل فهو يؤذي نفسه أكثر مما يؤذيه عدوه، ومن هنا أمر الله بالحفاظ على العقل، وحرم كل ما يفسد هذا العقل، وكذلك حرم ما يوصل إلى فساد هذا العقل، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وقال: (كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) وإن كان لا يسكر لكنه طريق إليه، وهكذا حرم كل ما يخل بالعقل من نباتات وكيميائيات، وما أشد مضرة العالم كله اليوم من تلك المفسدات التي دخلت على العقل، وشغل العالم والأمم والدول والحكومات بمطاردة هذه المفسدات التي أفسدت الشباب وأضاعت جهدهم وكيانهم. النوع الثالث: النفس، حافظ الشرع عليها ولهذا حرم الله القتل وجعل فيه القصاص، وجعل من قتل نفساً واحدة ظلماً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وشرع القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] . النوع الرابع: النسب، والنسب هو قوام المجتمعات، ولهذا حرم الله ما يفسد الأنساب، فحرم الزنا، وجعل فيه إما الرجم وإما الجلد، وحرم ما يوصل إليه، من الخلوة بالأجنبية، والسفر بدون محرم، وكذلك سد المنافذ بين الرجل والمرأة عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق الشم، وعن طريق الحركة، فعن طريق البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وعن طريق الشم قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فمرت بقوم فوجدوا منها الطيب فهي زانية) وكلمة زانية عظيمة جداً على الأذن، لكن كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) . وكذلك سد منافذ السمع، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ومنع الرجل من أن يتسمع أو المرأة من أن تلين بكلامها للرجال، وكذلك الحركة قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فكل هذه المنافذ التي توصل شبح المرأة إلى قلب الرجل أو العكس أمر الإسلام بإقفالها، سلامة لها منه وسلامة له منها؛ وذلك لئلا يصلا إلى ما فيه الحد ألا وهو الزنا، وبهذا حفظت الأنساب. النوع الخامس: الأموال، فقد حفظ الشرع الأموال بأن جعل الله في السرقة حد القطع، وحرم كل ما يوصل إليها، وحرم أكل أموال الناس بالباطل: كالغش، والخداع، والتدليس، وتطفيف الكيل والوزن إلخ، كل ذلك حرمه الله حفظاً للمال، فإذا ما حفظ للمجتمع دينه وعقله ودمه ونسبه وماله كان آمناً، وإذا ما انتهكت فيه بعض هذه الكليات اضطرب ميزانه، وتقوضت أركانه، ففي حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة قال صلى الله عليه وسلم: (إلا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... ) إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) إلى غير ذلك. ثم أتبع هذا المبدأ الأساسي بالأمر بالأمن حتى يحتفظ المجتمع بالأمن، وحتى لا يكون هناك مجال للاعتداءات، فجاء إلى المرأة شقيقة الرجل فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، استحللتموهن بكلمة الله) أي: ليس بالصداق الذي يدفع، وإنما الصداق نحلة، وإنما الذي أحلها لزوجها بعد أن كانت محرمة عليه هو قول وليها: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله، فيرد ويقول: قبلت هذا الزوج على كتاب الله وسنة رسول الله. ثم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وذكر صلى الله عليه وسلم حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الولاة، إلى آخر ما جاء في تلك الخطبة العظيمة التي لو جمعت أطرافها، وبوبت وشرحت وبين ما فيها لكانت أعظم دستور للأمة؛ لأنها تبين ما أجمله القرآن والسنة من تعاليم الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جواز التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر

جواز التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر ومما يذكر يا إخوان! في ذلك اليوم وهو من أهم ما يرفق بالناس أنه صلى الله عليه وسلم سأله: سائل فقال: ما شعرت رميت قبل أن أنحر، وقال آخر: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي، وقال آخر: حلقت قبل أن أنحر، وكلما سئل قال للسائل: (افعل ولا حرج) ويقول الراوي: ما سئل عن شيء في ذلك اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج) لأنهم يقولون: يستحب في أعمال ذلك اليوم الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهو أنه يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم بعد الرمي يذهب وينحر، وبعد النحر يحلق، وبعد الحلق يطوف طواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، ولكن في هذا الحديث جاء التيسير على من قدم شيئاً على غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) أي: وليس عليك فدية في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7] دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فليس في الإسلام حرج أو مشقة، وإن عرضت فقد رفعها الإسلام، ولهذا فإن من القواعد الكلية في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، ومن ذلك التيسير ما جاء في مناسك الحج، فقد وسع الشرع على المحرم في أداء المناسك، ورفع عنه المشقة كما جاء في القصر والجمع بين الصلوات، والتوسعة في الوقوف في أي مكان من أرض عرفات، وكذلك في المزدلفة، والإذن بالنحر في المكان الذي يكون فيه المحرم، والإذن لأهل الأعمال بالمبيت خارج منى ليالي أيام التشريق، إلى غير ذلك.

مشروعية الدعاء عقب التلبية

مشروعية الدعاء عقب التلبية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار) رواه الشافعي بإسناد ضعيف] . يذكر لنا المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث الذي رواه الشافعي رحمه الله وإن كان بسند ضعيف، إلا أنه من الأعمال التي هي من نوافل العبادات، والتي ليست من الأحكام كالحلال والحرام، وكما يقولون: أحاديث الترغيب والترهيب لا يشدد فيها كما يشدد فيما يتعلق بالتكليف من حلال أو حرام ومن فعل أو ترك. يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة) ، وقوله: (من تلبيته) أي: التلبية المنسوبة إليه، والتي كان يأتي بها، وقد تقدم لنا أن التلبية عند الفقهاء واجب من واجبات الحج، يعني: أن كل من أتى بنسك حج أو عمرة فإنه يجب عليه أن يلبي ولو مرة واحدة، أي: أن الواجب يؤدى بمرة واحدة، وما عدا ذلك فهو من باب الزيادة والفضل. وكان صلى الله عليه وسلم يجدد التلبية كلما تجدد له حدث، بمعنى: أنه إذا كان يمشي في أرض مستوية فهبط وادياً في طريقه جدد التلبية، وإذا انتهى من هذا الوادي وقابل مرتفعاً جدد التلبية، وإذا لقي ركباً في الطريق جدد التلبية، وإذا نزل منزلاً للراحة أو للطعام أو للشراب جدد التلبية، وإذا بدأ الرحيل كذلك جدد التلبية، وهكذا كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (تُجدد التلبية عند كل حدث يواجه المحرم) . وقد تقدمت صيغة التلبية عنه صلى الله عليه وسلم وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) إلى هنا كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) ويقول العلماء: إن هذه الزيادة من باب الذكر، ولا بأس بها؛ لأن ألفاظها تتناسب مع التلبية، ومعناها الإقامة على الطاعة والامتثال. فكان إذا فرغ من تلبيته صلى الله عليه وسلم يعقب ذلك أنه يسأل الله المغفرة والرحمة، ويستعيذ بالله من العذاب.

استحباب الدعاء بعد كل عبادة

استحباب الدعاء بعد كل عبادة وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) وكذلك يكون الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار، وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة، وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا كيلو- استجاب له دعاءه. وفي الآية الكريمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة:13] . إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله: (واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله! قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه) هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟ قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن) . ولهذا جاء في حديث عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) انظر الموقف! السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري الدنيا والآخرة) ؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد ذلك شيء يطلبه. وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.

آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة

آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: لقد علَّم الله سبحانه وتعالى عباده في سورة الفاتحة آداب السؤال، وطلب الحاجة ممن لك حاجة عنده؛ لأن أعظم مسألة للعبد المؤمن هي الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] . قال: فقد جعل الله في الفاتحة سؤال الهداية، ولكن لم يأت السؤال لها مباشرة، بل على العبد أن يقدم قبلها أنواعاً من القرب والتعظيم والإجلال للمولى كما في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] وبعد أن حمد الله على كمال ذاته وصفاته، يعترف لله بالربوبية للعالمين جميعاً {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ويقولون في معنى هذين اللفظين الرحمان الرحيم: رحمان في ذاته، رحيم في صفاته لعباده، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة كما جاء في الحديث: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى أهل الأرض بها يتراحمون، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها رحمة به) أي: من هذه الواحدة، واحد في المائة للعالم كله يتراحم بها قال: (وادخر تسعاً وتسعين لعباده المؤمنين إلى يوم القيامة) . ثم يأتي بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي الدنيا هو رب العالمين، وهو رحمان رحيم، وفي الآخرة الملك كله يعود إليه كما قال تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] . وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: أنت رب العالمين، والدنيا الآخرة في ملكك تتصرف فيهما كيف شئت، فنحن نعبدك وحدك؛ لأنك الرب المستحق للعبادة. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لأننا ضعاف، ولولا قوة منك وتوفيق منك وهداية منك لنا ما عبدناك. وبعد هذه المقدمات في التمجيد والتكريم والتعظيم والاعتراف تأتي المسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فأتت المسألة بعد كل هذه الاعترافات والإجلال للمولى سبحانه، وكذلك هنا في قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: أقمت على طاعتك، واستجبت لندائك الذي قلت فيه لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] . وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) هذا فيه اعتراف كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . (لا شريك لك) إلى آخر هذه التلبية وهذه الألفاظ الكريمة، وبعد هذه القربى إلى الله: (يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ بالله من النار) وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يتحرى الإنسان في مسألته أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، ومن ذلك بعد العبادات وفيها، ومن ذلك ما جاء في السجود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) .

التوسعة على المحرم في أداء المناسك

التوسعة على المحرم في أداء المناسك قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) رواه مسلم. هذه الأخبار الثلاثة: النحر في منى، والوقوف في عرفات، والوقوف في مزدلفة، أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الثلاثة في نطق واحد، وفي مجلس واحد، أو أن الراوي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأخبار كل واحدة منها في مكانها، فسمعه في عرفات يقول: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) لأن (هنا) اسم إشارة للمكان، كما تقول: زيد هنا، ولا يتأتى هذا إلا عند وجوده. فقوله: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) هل سيقول هذا وهو في منى؟ الجواب: لا، وإنما يصح منه أن يقول: (وقفت هاهنا) حينما يكون واقفاً في الموقف الذي يتحدث عنه، إذاً: هذا من تصرف الراوي فهو ذكر كل ما سمع في مجلس واحد، وهو قد سمعه في أماكن متعددة وفي أوقات مختلفة، فسمعه في منى يقول: (نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم) وهكذا والله أعلم. وفي بعض طرق الحديث: (وفجاج مكة وطرقها فجاج ومنحر أو طريق ومنحر) ولهذا يقول العلماء: إن قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ومَحِلّه بالكسر لا مَحَلّه، (مَحِلّه) يعني: مكان إحلاله، وهو الوقت الذي يحل نحره فيه، وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وفي هذه الآية يقول: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وهل محلها يكون عند الكعبة؟ الجواب: لا؛ لأن الكعبة تطلق على عموم الحرم بكامل حدوده، ومنى داخلة في الحرم، ففي قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بين النبي صلى الله عليه وسلم أين يكون محله، ومحله تصدق على اسم الزمان والمكان، فتقول: محلها إلى البيت العتيق، ومحلها يوم العيد يعني: زمن إحلالها، ومكان إحلالها على ما بينه صلى الله عليه وسلم. وقد بين النبي متى يحل الهدي؟ وأين يكون موضع إحلاله، ويقولون: إن الله جعل منى منحراً للهدي؛ لئلا تصبح مكة مجزرة لكل الحجاج فلا يطاق الجلوس فيها، والآن العالم كله يجعل المجزرة نائية عن محل السكن؛ لئلا تؤذي السكان. وقوله: (نحرت هاهنا) أي: في المكان الذي نحر فيه، وقالوا: إنه معلوم إلى الآن، وكان جهة (منحر الكبش) وأهل منى يعرفون ذلك، وعندهم منطقة معروفة تسمى: (منحر الكبش) .

حكم نحر المحرم لهديه في محله

حكم نحر المحرم لهديه في محله وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومنى كلها منحر) فيه دليل على أن لكل حاج أن ينحر محله، وقد جاء في بقية الحديث: (فانحروا في رحالكم) ولكن هل ينطبق هذا الحديث علينا الآن؟ لأن صورة النحر في ذلك الوقت لم تكن على ما عليه الناس الآن، فقبل وجود المذبح أو المسلخ الآلي، كنت إذا مشيت في طرقات منى تطأ على أغنام قد أريق دمها وتركت، وهذه الأغنام التي أريق دمها وتركت في الشارع مع الحرارة بعد ساعات ستتغير، فكانت القلابات تمشي في الطرقات، وعمال البلديات يجمعون ويرمون فيها المخلفات حتى يستطيع الناس أن يمشوا، وأما في السابق فقد كان ينحر الهدي ولا يلقى منه مقدار درهم واحد في الأرض، بل كانوا إما أن يأكلوا ويطعموا منه، وإما أن يشرقوه وينشروه على الصخور والحبال، ولذلك سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينحرون الهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً فيأكلون ما يأكلون، ويطعمون من يطعمون، والباقي يجزئونه ويشطرونه إلى أوصال، ويشرقونه على الحبال أو على الصخور، حتى إذا انتهت أيام منى كان هذا اللحم قد جفت رطوبته وأصبح قديداً، فيجمعونه في أوعيتهم ويذهبون به إلى بلادهم. إذاً: لم يكن النحر في منى في ذاك الوقت يؤذي الساكن أو المار أو المقيم في منى، وإنما كانوا يحافظون على ذلك، حتى لا يتأتى منه إيذاء للآخرين؛ لأن أنعام الهدي الأساس فيها أن تذبح وتسلخ وتقطع وتعطى للمساكين، ولا يبقى منها شيء، حتى جلودها وجلالها كما قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (ادع الجزارين وتصدق بجلودها وجلالها) والجلال هي الأقمشة التي كانوا يزينون بها الهدي، أي: يكسونها بها من باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كانوا إذا خرجوا من المدينة غطوها بهذه الأقمشة من باب الزينة، فإذا انسلخوا من المدينة وخرجوا من ضواحيها جمعوها وحفظوها حتى لا تؤذى أو تشقق، فإذا ما أقدموا على مكة ألبسوها تلك الجلال، فإذا جاءوا عند النحر أخذوها عنها حتى لا يلوثها الدم، ثم يتصدقون بها، وكانوا في السابق يجمعون تلك الجلال، ويعملون منها كسوة للكعبة، فإذا أتى من يقوم بكسوة الكعبة على حسابه، تكون هذه من باب الصدقات التي يتصدق بها، فكانوا يتصدقون بكل شيء حتى الجلود. وكان اليوم الثاني هو يوم الرءوس، أي أنهم كانوا يأخذون رءوس الأنعام التي لم يأكلوها في أول يوم لأن اللحم كان متوفراً، فإذا انتهى اللحم رجعوا إلى الرءوس التي كانوا قد تركوها. إذاً قوله: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) هذا فيما لو كان الأمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن مع كثرة الناس ووفرة الهدايا والذبائح، وعدم تحري الناس فيما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامته من العيوب، بأن لا يكون فيه عجفاء ولا معيبة ولا غير صالحة للأكل، فقد جاءت هذه المذابح الجديدة على هذا النظام الموجود، فمن استطاع أن يذبح بنفسه في تلك الأماكن فهو أولى، ومن لم يستطع وتركها للمسئولين أو أنابهم في الذبح عنه فلا مانع في هذا. وكذلك (وفجاج مكة) لو أن إنساناً نزل بين مكة ومنى وسكن هناك، وكان إذا جاء المبيت جاء إلى منى وإذا جاء وقت الرمي جاء إلى منى، ثم يرجع إلى ذلك المكان، وفي وقت الذبح ذبح هديه في مكانه، فلا مانع، وإذا كان يسكن في مكة ونزل به إلى بيته في مكة فلا مانع، إذا كان ما زال في محله الزماني، أي: إذا كان في يوم العيد وأيام التشريق، والله تعالى أعلم.

عرفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف على جبل الرحمة

عرفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف على جبل الرحمة وقوله: (وقفت هاهنا) تقدم معنا أنه صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات، وهو الذي يسميه الناس: (جبل الرحمة) وهو الجبل الوحيد المكون من مجموعة صخرات ضخمة وكبيرة، ويوجد في أعلاه علم مبني لبيان مكانه، وقد اختار صلى الله عليه وسلم هذا المكان لأنه ليس في عرفات علامة سوى هذا، ويقول العلماء: إذا خرجت من وادي نمرة، وكان عن يمينك جبال إلى جهة الشرق، وأمامك جبال إلى الشمال وعن يسارك جبال إلى الغرب فكل ما بين دائرة هذه الجبال فهو عرفة، فإذاً: على هذه السعة لا يوجد في داخل تلك الدائرة في أرض عرفات مكان معلم إلا هذا الجبل الصغير، ولذلك لو ذهبت إلى هناك في غير أيام الحج والدنيا مكشوفة فلن ترى إلا هذا الجبل، واختار صلى الله عليه وسلم وقوفه هناك؛ ليكون في مكان معلوم معلم، ولذا لو أن إنساناً كان في آخر طرف من عرفات، وأراد لقاءه صلى الله عليه وسلم وسأل: أين رسول الله؟ وقلت له: هناك عند ذاك الجبل فسيهتدي إليه، ويتأتى أيضاً لكل من قدم حاجاً أن يراه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما أراد الحج قبل أن يخرج أرسل رسلاً إلى العرب على مياههم وقال لهم: (إني حاج هذا العام، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إليه فمنهم من جاء إلى المدينة وذهب معه، ومنهم من لقيه في الطريق، ومنهم من أتى إلى مكة، ومنهم من أتى إلى عرفات، والكل يريد أن يراه، أي: لتثبت له الصحبة؛ لأن الصحابي هو: من رآه ولو لحظة وهو مؤمن به ومات على الإسلام، فكل هؤلاء الحجاج يريدون شرف رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: اختار مكاناً يسهل على الجميع أن يصلوا إليه فيه، وكان في ذلك اليوم على ظهر راحلته؛ ليكون علماً على علم، ولما قال: (خذوا عني مناسككم) فلعل كل إنسان يقول: نأخذ عنه مناسكنا، إذاً: نأتي إلى الموقف الذي وقف فيه ونقف فيه، فبين لهم أن الغرض من الموقف هو الوقوف بأرض عرفات، ولذا نبه الناس أن عرفة كلها موقف، وحيثما وقف الإنسان في أي مكان من أرض عرفات أجزأه، ولهذا قالوا: لو أن إنسانا ًحضر إلى أرض عرفات في زمن الموقف ولو ساعة زمنية ولو ربع ساعة وهو يعلم أنه في عرفات أجزأه، كمن كان مريضاً وهو في حالة إسعاف في المستشفى -عافانا الله وإياكم- فذُهب به إلى عرفات أو مُكث به في عرفات، ثم أعيد إلى المستشفى فإنه يكون قد أدرك الموقف ويجزئه ذلك، وكذلك لو أن إنساناً جاء متأخراً ولم يدرك أرض عرفات إلا قبل فجر يوم العيد بساعة أو نصف ساعة فإذا وقف في أي جزء من أرض عرفات فإنه يكون قد أدرك الموقف.

مزدلفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف في المشعر الحرام

مزدلفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف في المشعر الحرام وكذلك قوله في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع) وجمع هو: اسم للمزدلفة، ومن المزدلفة المشعر الحرام، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] فهل نقول: يجب على الناس كلهم أن يتكدسوا عند المشعر الحرام؟ الجواب: لا؛ لأنه لن يسع الناس، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختار الموقف الذي يكون أيضاً علماً، وقد بين للناس أنه لا يتحتم أن يكون المكوث في المزدلفة عند المشعر الحرام، ولكن لك أن تذكر الله عنده إذا نزلت عنده، وحيثما كنت فصليت وذكرت الله ونمت ثم أصبحت وذهبت وقد وقفت في أي مكان من المزدلفة التي هي جمع فإنه يجزئك ذلك، والله تعالى أعلم.

مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم

مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها) متفق عليه] . هذا من مستحبات السفر، أو من مستحبات العمل، ودخوله من أعلاها وخروجه من أسفلها قال بعضهم: كان من أجل النسك، وبعضهم قال: إن هذا صادف موقعها، وهو لم يتحر أعلاها للدخول ولا أسفلها للخروج، وهنا دخل من أعلاها وخرج من أسفلها، ولهذا يقولون، كَداء وكُداء، كَداء هو أعلاها، وكُداء هو أسفلها، والفقهاء يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج، والمراد حركة الكاف فقولهم: افتح أي: حركة الفتحة (كَ) ، واضمم أي: بحركة الضمة (كُ) فتقول: كَداء بفتح الكاف وتدخل أي: من أعلاها، وتقول: كُداء بضم الكاف وتخرج أي: من أسفلها. ومن أي مكان تيسر للإنسان دخول مكة فالحمد لله، وهنا يقول الأدباء: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كرم شعر الدعوة في دخول مكة والخروج منها، وقالوا: لما جاء صلى الله عليه وسلم لفتح مكة أو للحج قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل يا رسول الله؟! أي: لأن مكة لها مدخلان، والمدينة لها مدخل واحد وهو وادي العقيق على سلطانة على سلع على ثنية الوداع -الباب الشامي- وهذا كان مدخل المدينة الوحيد، وأما مكة فلها مدخلان: كَداء من أعلاها، وكُداء من أسفلها، قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل؟ قال: (انظروا ماذا قال حسان؟) أي: في قصيدته التي يرد فيها على أبي سفيان حينما هجا رسول الله وفيها: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وفي هذا تنويع، وقد جاء التنويع في نص القرآن قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] . إلى أن قال حسان رضي الله تعالى عنه: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء أي: الموعد بيننا وبينكم أن ندخل عليكم مكة من كَداء فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا قال حسان؟ قالوا: حسان يقول: كَداء، قال: إذاً: من هناك) وهذا مما يستشعر المسلم أنه فيه إكرام الشعراء الذين سخروا شعرهم للدعوة، ولفعل الخير، ولذا قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] إلى أن قال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا. } [الشعراء:227] فالشعراء المؤمنون الذين يعملون للدعوة استثناهم الله، وقد كان للرسول شعراء وخطباء في الدعوة وكانوا يمثلون وزارة الإعلام -كما يقال اليوم- لأن وزارة الإعلام في كل دولة هي الناطقة بلسانها، وكان حسان رضي الله تعالى عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجاه أبو سفيان فقال: (يا رسول الله! أرد عنك وأهجوهم، قال: كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟ قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين) فأخذ يهجوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (اهجهم وروح القدس يؤيدك، والله! إن وقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام) وهكذا كان العرب إذا هجوا يلحقهم العار بهذا الهجاء وتلصق فيهم السبة على لسان الشاعر الذي هجاهم، ولذا كانوا يتحاشون إغضاب الشعراء، وكان صلى الله عليه وسلم ينصب لـ حسان كرسياً في المسجد ويدعوه إلى نصرة الإسلام بشعره. وذات مرة مر عليه عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وهو ينشد شعراً، فنظر إليه مستنكراً، فنظر إليه حسان وقال: (والله! لقد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك) يعني: أنشدت الشعر في المسجد والمسجد فيه من هو خير منك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، والحديث عن الشاعر الإسلامي حسان رضي الله عنه مدعاة لتكريم كل من سخر آلة إعلام في خدمة الدين، سواءً بقلمه أو بلسانه نثراً أو شعراً، أو بأي وسيلة من وسائل الإعلام، ما دامت تخدم الدين.

المبيت بذي طوى قبل دخول مكة

المبيت بذي طوى قبل دخول مكة قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه] . هذه أيضاً صورة من صور كيفية دخول مكة، كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يأتي إلى مكة، أي: من المدينة إلا بات بذي طوى، وذو طوى هو المعروف الآن عند الناس بالزاهر، وهو من أبواب مكة، للقادم من جدة، وكانت كل هذه معلومة للناس بتناقلهم إياها، ولا زالت حتى الآن يقال لها: الأبواب، أو باب مكة، والمنزل الذي نزل به ابن عمر يرجع إلى الشرق من جهة التنعيم، ما بين التنعيم وما بين باب مكة، وهو معروف إلى الآن بالزاهر، وكان بستاناً كبيراً جداً، وقد أخذت عدة مرافق من نفس هذا البستان، وهو على طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فكان ابن عمر إذا جاء مكة نزل وبات على أبواب مكة، واغتسل ثم دخل مكة نهاراً، فسئل فأسند ذلك إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول العلماء: من صفة دخول مكة للمحرم لعمرة كان أو لحج إذا أتى من ذاك المكان فعليه أن يبيت ويغتسل، وإذا أصبح يدخل مكة، وهل مبيت الرسول بذي طوى كان نسكاً أو أنه وصل ليلاً فأحب أن يبيت خارج البلد، ويدخل نهاراً حتى يتيسر له ولمن معه إدراك المنازل ومعرفة الطرق، أو أنه أيسر لهم في النهار دون الليل، كما قيل في مبيته عند عودته من الحج، لما نزل بخيف بني كنانة بالأبطح، فقالوا: هل نزوله بالأبطح بعدما أنهى الحج تماماً كان للنسك أو أنه كان تيسيراً على الناس في حال خروجهم إلى المدينة؟ كل هذه الاحتمالات واردة.

مشروعية الغسل لدخول مكة

مشروعية الغسل لدخول مكة وأما الغسل فهو سنة لدخول مكة، فمن أي جهة دخل الإنسان مكة فإن السنة في حقه أن يغتسل، ولكن إذا كان الإنسان مع غيره أو في ظروف لا يستطيع أن يبيت بذي طوى لعدم وجود مكان يبيت فيه، أو لو أنه أراد أن يوقف سيارته في الطريق فسيأخذها المرور، فلا حرج عليه في عدم المبيت، فإن كان لك أيها المحرم! منزل هناك، أو كان لك صديق تنزل عنده، أو تيسر لك بوجه من الوجوه نقول: الحمد لله، وعليك أن تطبق السنة، وإذا لم يتيسر لك فلا تكلف نفسك المشاق وتقول: هنا بات رسول الله فلابد أن أبيت، فنقول: إنما بات حينما تيسر له المبيت، وأما الآن فقد لا يتيسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا عليك أن تمضي وتجتاز إلى محل سكناك، فإذا نزلت في عمارة أو نزلت في شقة أو نزلت في خيمة، أو نزلت في فندق، فاغتسل؛ لأن الغسل سنة، وإن لم يتيسر الغسل عند الدخول فقبل الطواف، حتى تأتي إلى البيت وتكمل الواجب عليك بطواف القدوم إن كنت مفرداً أو قارناً، وإن كنت معتمراً فيكون عليك طواف العمرة وهو يجزئ عن طواف القدوم. وهكذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يبيت ويغتسل بذي طوى.

حكم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الجبلية

حكم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الجبلية والمشهور أن ابن عمر قد انفرد بهذا عن مجموع الصحابة، فإنه كان يتتبع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج شبراً بشبر، حتى في الأمور الجبلية التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين عرفات والمزدلفة في الشعب فبال، فكان ابن عمر إذا جاء إلى ذلك المكان ينزل ويبول، فقالوا له: يا ابن عمر! هذه ليست عبادة؛ لأن الرسول ما فعل هذا ليتأسى الناس به، فإذا كان إنسان ليس به بول وليس هناك حاجة داعية لأن يأتي ويبول بالقوة! فقال: الرسول فعل هذا، أي: أنا أتبعه، فنقول: هذا شدة رغبة في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كما يقول الأصوليون: أعماله صلى الله عليه وسلم الجبلية ليست موضع تشريع، كما قال الناظم: وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس ملة الأكل والشرب جبلة في الإنسان وفي كل كائن حي، فالنصراني يأكل، والدرزي يأكل، والحيوان يأكل؛ لأن مطلب الحياة أن يأكل وإلا فسيموت. إذاً: الأكل والشرب جبلة، من غير لمح الوصف، فلا تقل: أنا آكل لأن الرسول كان يأكل، نقول: لا، أنت ستأكل غصباً عنك اتباعاً للرسول أو لغيره، وأما الوصف في كيفية الأكل، وهل يكون باليمين أو بالشمال؟ فنقول: الوصف هنا هو المراعى، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بيمينه ويأمر بذلك بقوله للغلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) إذاً: الوصف في الأمر الجبلي هو المطلوب، أما في الأمور من حيث هي فلا تقل: أنا أنام لأن الرسول نام، وأتزوج لأن الرسول تزوج، فنقول: لا، أنت في حاجة إلى النوم والزواج من غير هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام وكان يأكل ويتزوج، وقد تزوج حتى قبل الرسالة. والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8] الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم، ويوصف بالأسود لسواده، والحجر الأسود فيه مسائل عديدة؛ منها الفقهية وذلك فيما يتعلق بالمناسك، ومنها التاريخية، وذلك فيما يتعلق بأصله، ومن أين جاء؟ وكم عمره؟ وما إلى ذلك.

استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه

استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه) رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً] . الواقع يا إخوان! أن القضايا المتعلقة بالحجر الأسود كثيرة، ومما يرد فيه من المسائل: من أين أصله؟ وكيف جاء؟ وكم تاريخه في المكان الذي هو فيه؟ وفي أحكامه، وما طرأ عليه في التاريخ من القرامطة وغيرهم، فلو أن إنساناً أفرد الحجر الأسود بمبحث مستقل لوجد مادة واسعة ينهل منها. وقد أتت آثار وأحاديث في الحجر الأسود ولا نستطيع أن نناقش أسانيدها، ومنها: (بأنه نزل من الجنة) وهذا مما يتفق عليه العلماء، يقولون في أسانيد الأخبار التي جاءت فيه: يقوي بعضها بعضاً، وفي بعض الآثار: (أنه نزل مضيئاً مشعاً) حتى قال بعض العلماء: إن اختلاف حدود الحرم لمكة هو بحسب ما وصل إليه ضوء الحجر أول ما نزل، ولكن التحقيق العلمي: أن حدود الحرم هي كما أوقف جبريل عليه السلام الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عليها، فإنه وقف معه على أماكن حدود الحرم وعلّم له عليها. وقيل: إن البيت أول ما بني بنته الملائكة لآدم، لما نزل من السماء؛ لأن في السماء البيت المعمور فجعل الله الكعبة لبني آدم في الأرض مكان البيت المعمور في السماء، ولهذا فهو على سمته عمودياً، فوضع الحجر الأسود في الكعبة، ومر عليه الزمن، ولما جاء الطوفان هدم الجميع، وحفظ الله الحجر الأسود في جبل أبي قيس، حتى جاء إبراهيم وإسماعيل وقاما ببناء ووضع الحجر الأسود في مكانه، ثم جاء القرامطة وأخذوه إلى بلادهم ومكث عندهم فترة ثم ردوه.

بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان بناء الكعبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد اختلفت قريش في بناء الكعبة وقضية اختلافهم معروفة فيمن ينال شرف وضع الحجر في مكانه من بناية الكعبة، فإنهم لما هدمت الكعبة، اتفقوا على بنائها، ولما بدءوا بالبناء قسموا الجهات الأربع على قبائل قريش، وكل جهة قامت بالبناء إلى أن ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود، فتنازعوا فيمن يضعه حتى كادوا أن يقتتلوا، فألهم الله سبحانه وتعالى بعض عقلائهم، وقال: علامَ نقتتل، لنحكم أوّل من يخرج علينا من هذا الطريق، فنظروا فإذا أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله -وهذا قبل الرسالة- فأنطق الله الجميع: هذا الأمين ارتضيناه. إذاً: هو قبل ما يقول لكم: قولوا: لا إله إلا الله كان الأمين، وبعدما قالها كان المجنون؟! هذا تناقض واضح، لكن الله سجل عليهم هذا الاعتراف، فلما جاء صلى الله عليه وسلم أخذ رداءه ووضعه على الأرض، وأخذ الحجر بيديه الكريمتين ووضعه في وسط الرداء وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع، فاشتركوا في حمله وفي رفعه جميعاً، ولما رفعوه إلى أن ساوى موضعه من الجدار أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه إذاً: هذا الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً ظفر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن أول الاعترافات المنتزعة منهم إجبارياً بأنه الأمين.

الحكمة من تقبيل الحجر الأسود

الحكمة من تقبيل الحجر الأسود ولما جاء الإسلام جاء بتقبيل الحجر واستلامه، وقد يعجب المرء من هذا التشريع كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بتحطيم الأصنام، وبإنكار عبادة الحجارة وتعظيمها ثم يأمرهم بتقبيل الحجر، بل يأمرهم أن يطوفوا ببنية الكعبة وهي عبارة عن كتل حجرية! والذي يزيل هذا العجب أنك بعد هذا الفعل تأتي بسنة الطواف التي تقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لتنفي عنك الشرك، ولتثبت أنك ما قدست الحجر عبادة ولا تقديساً له، ولكن عملت ذلك طاعة لله. كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال حينما قبّله: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . ففي هذا تقديم النص والاتباع على العقل، أي: أنا أعلم أنك لا تنفع ولا تضر، ولكن مع ذلك أنا أقبّلك، فلماذا يقبله وهو لا ينفع ولا يضر؟ الجواب: لأن الإنسان لا يسعى في حياته إلا لجلب نفع أو لدفع ضر كما قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (لولا أني رأيت) فهو قدم النص على العقل؛ لأن النص معصوم، فإذا كان النص صحيحاً ثابتاً فألغ عقلك، واعمل بما جاء في هذا النص، ولكن نبه عقلك بالتأمل والتدبر. يقولون في هذا الأثر: إن علياً رضي الله عنه قال: (لا يا عمر! إنه ينفع، فقال له: بم ينفع؟ قال: يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه أو قبّله يوم القيامة.

صفة تقبيل الحجر واستلامه

صفة تقبيل الحجر واستلامه وقد جاء أن ابن عمر كان يسجد عليه، وكذلك ابن عباس كان يسجد عليه، وكان يقبله من غير صوت، أي: يلمسه بشفتيه دون أن يُسمع صوت للشفتين عند التقبيل، ويقولون: صفة التقبيل هي: أن يضع الإنسان كفيه على طرفي الحجر، ويضع شفتيه بين كفيه ويقبل، هكذا يقولون في صفة تقبيل الحجر واستلامه. وعلى هذا فكلام الفقهاء في تقبيل الحجر: أنك إن استطعت أن تقبل وتستلم على هذه الصفة فهي أكمل الصفات، وإن لم تستطع فمد يدك ولو من بعيد والمس أي جزء منه وقبل يدك، وإن لم تستطع فمد طرف العمامة واطلب من الذي عند الحجر أن يلمسها بالحجر ثم خذها وقبل طرفها الذي لمس الحجر، وإن لم تستطع لا هذا ولا ذاك فأشر بيدك وامض. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الرمل في الطواف حول الكعبة في الثلاثة الأشواط الأولى

الرمل في الطواف حول الكعبة في الثلاثة الأشواط الأولى قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رض الله عنهما: (أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبب ثلاثاً ومشى أربعاً) ] . الطواف الأول هو إما طواف القدوم للمفرد والقارن، وإما طواف العمرة، والرمل والخبب سواء. قال المؤلف رحمه الله: [وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعة) متفق عليه] . يسعى المحرم ثلاثة أشواط من سبعة؛ لأن الطواف هو سبعة أشواط، ويمشي أربعة، يعني: بدون خبب وبدون إسراع. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بهذا قيل: في حجة الوداع، وقيل: في عمرة القضية، وهو الصحيح، فأمرهم أن يرملوا ثلاثاً، ويمشوا أربعاً، والرمل في الطواف هو أن يمشي الإنسان في صورة المسرع، وتكون خطاه متقاربة إظهاراً للقوة والنشاط، ويكون مع الرمل الاضطباع على ما سيذكره المؤلف رحمه الله، والاضطباع هو: أن تجعل منتصف الرداء تحت إبطك الأيمن، وتجعل طرفيه على عاتقك الأيسر.

سبب الاضطباع والرمل

سبب الاضطباع والرمل ويقولون: إن سبب الاضطباع والرمل هو ما كان من المشركين حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وبعضهم يسميها: عمرة القضاء، وهي: العمرة التي جاءت بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه، ولما علم المشركون بمجيئهم، استكثروا على أنفسهم أن يدخل المسلمون عليهم مكة بدون إذن ولا علم منهم، واعتبروا أن ذلك عنوة وعدم مبالاة، فخرجوا ليصدوهم عن البيت. فلما علم صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم قال: (من رجل يدلنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟) لأنهم خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود، فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة. والحديبية تقع على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير، وقضية الحديبية قضية طويلة معروفة، وكانت في الواقع فتحاً مبيناً، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والمفاهمة بين المسلمين والمشركين، وكان من ضمن بنود هذا الصلح: أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها معتمراً، فسميت عمرة القضية، أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين، وقيل: سميت عمرة القضاء، أي: لصدور القضاء بين الطرفين، وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة، واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت بناءً على اشتراط الطرفين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام، وجلس كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف جاء الشيطان إلى كفار قريش وقال لهم: أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم. وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، ولا يقدِّر هذا الموقف إلا القادة العسكريون؛ لأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيف في القراب، وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم؛ لأن موقع الكعبة في أخفض مكان في مكة، والجبال مرتفعة من حولها، كما أن موقع المسجد النبوي في أخفض مكان في المدينة، ولذا فإن السيول تأتيه من كل جانب، فلو أنهم نفذوا مخططهم لقضوا عليهم، وليس هناك موالٍ قريب ليمد المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضوا عليهم فلن يجدوا وقتاً ليأتوا بالسلاح! ولابد أن يكون هناك ضيم على المسلمين. فكان الحل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان، وكما ننبه دائماً أن الغزو الفكري لا يقاوم بالقوة، ولكن تقاوم الفكرة بفكرة ضدها، وهنا فكرة المشركين أن المسلمين ضعاف من آثار حمى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذاً: الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها. إذاً: كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى. فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي وأخبره: أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب! أنزل لي جنوداً أو أنزل لي ملائكة؟!! وإذا كان الله سينزل له ملائكة فغيره ماذا يفعل؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عنده السياسة الحكيمة، والفكر الثاقب، ونور النبوة، فقال لأصحابه: إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم الفكرة، وبماذا تعكس؟ قال: (أروهم اليوم من أنفسكم قوة) وليس المراد المصارعة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة في عنصر العمرة، فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالهرولة. وبداية الطواف هو من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند الحجر الأسود ويطوفون بالبيت من وراء الحجر إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في السبعة الأشواط لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة الأشواط، وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملاً، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء. وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين. فهل السبب مستمر في الرمل أو قد زال؟ الجواب: السبب قد زال، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهل بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف رمل، ومكة فتحت في العام الثامن وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول الله وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل. إذاً: العلة كانت موجودة في أول رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، فلماذا بقي الرمل إذاً؟ الجواب: سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شيء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أول ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟ قال: يا ابن أخي! حج رسول الله، وطاف ورمل فرملنا، أي: لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرت مشروعيته. وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملاً، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعي ففي طوافه رمل. وأما طواف الإفاضة فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه، وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه، وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مع انتفاء العلة، وهي التي يقول الأصوليون: فيه الاعتراض أو الإيماء وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.

حكم الرمل في الطواف للنساء

حكم الرمل في الطواف للنساء والرمل هو حركة سريعة، وفيها إظهار قوة، فهل كل من طاف يرمل أو أن هذا خاص بالرجال؟ الجواب: هو خاص بالرجال؛ لأن القضية في أساسها كانت للرجال الذين رملوا عند أن تآمر عليهم المشركون، إذاً: المرأة لا تضطبع؛ لأنه ليس عندها رداء، وإنما تلبس لباسها العادي، ولا ترمل بل تمشي المشي العادي، ومن كان معه امرأة ويخشى من تركها ويضطر أن يسايرها فليمش معها في هيئة الرمل لكن بخطىً متقاربة، كما لو كان معك طفل، وأردت أن تجرّيه فهو يجري بأقصى ما يستطيع، وأنت أرجلك متقاربة مع بعضها كما يقال: محلك سر، فتكون في صورة الذي يجري وهو لا يجري. إذاً: الرمل سنة في طواف الرجال وليس سنة في طواف النساء.

استلام الركنين اليمانيين

استلام الركنين اليمانيين قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين) رواه مسلم] . تقدم الكلام عن استلام الحجر وتقبيله والسجود عليه، والحجر الأسود هو في أحد الركنين اليمانيين، وهو الركن المجاور لباب الكعبة، وبقي ثلاثة أركان في الكعبة، فما حكم استلامها؟ الجواب: ابن عمر يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين، (اليمانيين) تغليباً كما يقال: القمرين للشمس والقمر، والعمرين لـ أبي بكر وعمر، فهذه من باب التغليب، وهذا جزء من حديث طويل وفيه أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: (أراك تفعل شيئاً لم تكن تفعله من قبل أراك تطوف بالسبتيتين -وهما: نوع من أنواع النعال- وأراك لا تستلم من البيت إلا الركنين، فقال: أما لبس السبتيتين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما، وأما استلام الركنين فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) . والركنان الآخران يسميان بالركنين الشاميين؛ لأنهما في الجهة الشمالية، ويقولون: إن الذي يواجه المدينة من الكعبة هو الحجر والميزاب، ويقولون: إن الميزاب الذي فوق الكعبة على خط مستقيم مع محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالركنان اللذان يليان الحجر، واحد من الفتحة اليمنى وواحد من الفتحة اليسرى يقال لهما: الشاميان، واللذان مقابلهما من الجهة الأخرى يقال لهما: اليمانيان.

سبب استلام الركنين اليمانيين دون الشاميين

سبب استلام الركنين اليمانيين دون الشاميين وسبب استلام الركنين اليمانيين وعدم استلام الركنين الشاميين يرجع إلى تاريخ الكعبة؛ لأن الكعبة في العهد الأخير قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً قد جددت قريش بناءها، والكعبة كانت على قواعد إبراهيم، فلما أرادوا أن يبنوها من جديد حينما تصدعت، أو أحرقت أو إلخ، قال قائل منهم: لا تدخلوا في بيت الله إلا مالاً حلالاً، والقصة من أولها: أن أهل مكة حينما اتفقوا على الهدم كانت تأتي حية في الضحى وتطلع وتستشرف على جدران الكعبة، فكانوا يخافون أن يتقدموا إلى الكعبة، فأرسل الله طائراً وهم يرونه وأخذ الحية بمخالبه وذهب بها، فقالوا عند ذلك: قد أذن الله لكم بالهدم، ولكن لم يتجرأ أحد -تقديساً للبيت واحتراماً له- أن يتقدم للهدم، فجاء رجل وتجرأ وتقدم فتناول حجراً، فانتثر الحجر من يده ورجع إلى مكانه، فقال: يا معشر قريش! لا تدخلوا في بناء البيت مالاً محرماً، فلا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا حلوان كاهن، ولا مالاً ربوياً، فقالوا: وكيف نصنع وغالب أموالنا من هذه الأمور الثلاثة؟ قال: انظروا إلى حلي النساء، وهو ما يسمى بالمال الصامت، أي: الذي لا يكون متحركاً في الأسواق، فجمعوا من حلي النساء ما أمكنهم، ونظروا في قيمته فوجدوه لا يفي بالقدر المطلوب لإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الأربعة، فقالوا: ماذا نصنع؟! فاجتمعوا وقالوا: إذاً: نختصر من البيت من جهة الشمال، ونحجر على الجزء الذي اختصرناه بحجر يحفظه من أن يضيع في المسجد، وفعلوا ذلك. وفي هذا معانٍ عظيمة جداً فلو تأملنا في هذا النظر من المشركين، لرأينا أنهم كانوا يتأثمون من أن يدخلوا في بناء بيت الله مالاً حراماً، فكيف بالمسلمين الذين جاءهم الشرع الحكيم؟! فحلوان الكاهن ومهر البغي والربا كل ذلك محرم عقلاً وشرعاً، وأهل الجاهلية كانوا يقيمون تجاراتهم على الربا، فقالوا: لا تدخلوا الربا في بناء الكعبة. وأقول -والله تعالى أعلم-: أراد الله سبحانه أن يقيم من آياته الكبرى عند بيته للعالم كله على مدى الأزمان شاهداً على تحريم الربا من زمن الجاهلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن كل إنسان يأتي إلى البيت الحرام وينظر إلى هذا الحجر سيتساءل: لماذا احتجروه، ولماذا لم يضيفوه إلى البيت، ولماذا اقتطعوه من الكعبة؟ فسيكون الجواب: لأن أهل مكة قصرت بهم النفقة، ولم يدخلوا فيه الربا. ولما طلبت عائشة من رسول الله أن يدخلها البيت لتصلي فيه كما صلى فيه صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدها إلى الحجر وقال: (صلي هاهنا فإنه من البيت، فصلت، ثم قالت: ما بال هذا من البيت ولم يدخل فيه؟ فقال لها: إن قومك قصرت بهم النفقة ... ) وذكر لها السبب، فكل إنسان سيأتي ويرى هذا الأمر سيسأل سؤال عائشة: ما باله لم يدخل فيه؟! وسيتلقى الجواب كما تلقته أم المؤمنين رضي الله عنها أن السبب في ذلك هو التورع عن إدخال الربا في بناء الكعبة، والحجر هو: الستة الأذرع الممتدة من جدار الكعبة إلى جهة الشمال. إذاً: كل من أتى البيت وطاف ورأى الحجر وتساءل سيتلقى نفس الجواب، إذاً: هذا الحجر فيه آيات بينات وفيه دلالة واضحة قائمة شاهدة تنادي على العالم أجمع: أن الربا محرم. فأقاموا البناء من جهة الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم سواء، واختصروا البناء من الجهة الشامية فقطعوا الركنين عن قواعد إبراهيم إلى حيث وصلت بهم النفقة، ولما أبقوا من البيت مكاناً خارجاً عنه حجروه بهذا البناء. ومن ناحية أخرى كون النفقة قصرت بهم وجعلوا جزءاً من البيت حجراً مفتوح الطرفين فإنه إتاح الفرصة للمساكين، ولمن أراد أن يصلي في البيت أن يصلي فيه؛ لأنه لا يجد من يفتح له الكعبة، كما قال الرسول لـ عائشة عند أن سألته: (ما بالهم جعلوا له باباً مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا) فبقي الحجر مفتوحاً من هنا ومن هناك، وفي إبقاء الحجر على هذه الحالة آية، فليس كل أحد يستطيع أن يأتي إلى بني شيبة ويقول: افتحوا لي الكعبة، أو يأتي إلى من يتولى شئون الحرمين ويقول: افتحوا لي الكعبة؛ لأنها لا تفتح إلا للرؤساء والعظماء إلخ، أو في المناسبات المعهودة، فجعل الله الحجر -رغماً عنهم- مرجعاً ومأوى وموئلاً للضعفاء الذين لا يستطيعون دخول البيت، وأصبح الحجر جزءاً من البيت مفتوحاً ليلاً ونهاراً لا يرد عنه أحد. والذي يهمنا في هذا أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا على قواعد إبراهيم، ولهذا يقولون: للركنين اليمانيين خصيصة، وأحدهما له خصيصتان والآخر له خصيصة واحدة، فالركن الذي فيه الحجر الأسود له خصيصتان: الأولى: كونه على قواعد إبراهيم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، ولهذا يقبل ويستلم، ويقبل ما وصل إليه، وأما الركن اليماني فله خصيصة واحدة: وهو أنه على قواعد إبراهيم، فيستلم ولا يقبل، فليس من السنة أن يقبل الركن اليماني، ولكن يستلم باليد، ولا تقبل اليد بعد استلامه، وهكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه، وعزا ذلك وأسنده ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقول بعض العلماء: كان الخلاف موجوداً في السابق عن معاوية رضي الله عنه، فقد جاء عنه: أنه كان يستلم جميع الأركان، فسئل عن ذلك، فقال: ليس من البيت شيء مهجور، ولكن كما يقول العلماء: هذا الخلاف قد انقضى وانتهى، ولم يبق استلام إلا للركنين اليمانيين.

حكم الزحام على الحجر الأسود

حكم الزحام على الحجر الأسود عند الاستلام للحجر الأسود يجب التحذير من التزاحم عليه، ومن إيذاء الضعفاء، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر حينما قال له: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال له: أوف بنذرك، ثم قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول أيضاً: يا ضعيف! لا تزاحمن على الحجر فتؤذى وتعرض نفسك للإيذاء من القوي، إذاً: النهي عن المزاحمة يتوجه للطرفين: للقوي حتى لا يؤذي، وللضعيف حتى لا يؤذى، ومن الضعفاء النسوة، فلا ينبغي لهن أن يزاحمن على الحجر. ويذكر بعض العلماء أن رجلاً يمانياً قال لـ ابن عمر: أرأيت لو زاحمت على الركن، قال: اجعل أرأيت باليمن، ولم يقبل منه هذا العذر، ومعلوم أن ابن عمر كان عنده شيء من التشديد في هذه المسألة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! إنك رجل قوي فلا تزاحمن) هذا هو المعمول به عند جميع العلماء، وهذا الذي ينبغي مراعاته، والله تعالى أعلم.

بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه قبل الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . متفق عليه] . هذه القضية قد أشرنا إليها فيما تقدم، فقلنا: إن الأصنام كانت مثبتة على جدران الكعبة بالرصاص، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً كان يشير إلى الصنم بقضيب في يده، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا انكب على وجهه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، وما كان يلمسه بالسوط ولكن بمجرد الإشارة. ففي هذا معجزة كبرى، وقد يقال: أليس هذا القضيب كان في يده قبل فتح مكة، ألم يكن يصلي حول الكعبة وظلت الأصنام عليها، فلماذا لم يسلط عليها هذا القضيب؟ الجواب: أنه لم يكن قد حان أوان ذلك، ولهذا من الحكمة للداعية أن ينظر في عواقب الأمور، وأن لا يتعجل الأمور قبل أوانها، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه. إذاً: عمر رأى أنه قبل سنين كانت الأصنام معلقة، فخاف على العامة أو الدهماء، أو الذين لم يدركوا ذلك، أن يقع في أذهانهم أن في تقبيل الحجر تكريماً للحجر لذاته، فقال لهم: لا، الحجر لذاته لا ضر فيه ولا نفع، فهو حجر وجماد، ولكن قبّله لأمر آخر، فقال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) إذاً: عمر قبل الحجر امتثالاً واقتداءً برسول الله، علم الحكمة أو لم يعلم، وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم، فيما لم تنكشف له الحكمة فيه أن يسلم وأن يمتثل الأمر. وكذلك إذا انكشفت له بعض الجوانب وخفي عليه الكثير منها فإنه يسلم ويمتثل. إذاً: إذا جاء الشرع ثابتاً واضح الدلالة، فلا قول للعقل في قبول التشريع، ولا يجوز أن نعرض الشرع على عقولنا، بل نعرض عقولنا على الشرع، فإذا ما ثبت التشريع بطريق سليم صحيح، وكان المعنى واضحاً، والنص صريحاً فلا مكان للرأي ولا محل للاجتهاد فيه، كما يقول العسكريون في تلقي الأمر: نفذ ثم اسأل، أي: نفذ أولاً ما أمرت به، وقد يكون الأمر غير موافق لعقلك وما تدري لماذا أمرك القائد بهذا؟ فلا ترفض الأمر، وتقول: لماذا؟ فإنك قد تفوت الوقت وتضيع الفرصة، وإنما نفذ ما أمرت به ثم اذهب واسأل ما بدا لك، وهكذا الشرع، ولهذا قال عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا -هذا محل التشريع- أني رأيت) ويا نعم ما رأى! رأى عمل رسول الله مباشرة ومشافهة؛ لأنهم كانوا يتلقون عنه مباشرة، لا بنقل ينقل، ولا برواية تروى، بل رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، فامتثلوا أوامره طواعية: (لولا أني رأيته يقبلك ما قبلتك) . في هذا الموطن يذكر العلماء ومنهم الصنعاني شارح هذا الكتاب أن هناك رواية فيها: أن علياً سمع ذلك من عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه بحق) (وقد جاءت فيه أحاديث منها: (هو يمين الله في أرضه)) فقال عمر: (من أين يا علي؟! قال: من كتاب الله، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] ، فكتب ذلك في رق، وأودع هذا الرق الحجر، وكان له فم ولسان وعينان) ونحن نقول: إن هذه الأشياء يتوقف في سماعها على صحة إسنادها، وصراحة مدلولها، ونحن لا نستبعد هذا كما لا نستبعد كيف أخذ الله الذرية بعضها من بعض إلى آخر واحد من آدم، وكيف اجتمع العالم كله في عالم الذر بعرفة؟! أنا وأنت ومن سيأتي بعدنا أرواحنا اجتمعت في عالم الذر؟! ونحن لا ندرك هذا، ولكنه عالم آخر يعلمه الله سبحانه وتعالى. فإذا جاءت القضايا إلى القدرة الإلهية فاسترح؛ لأنه لا يستعصي على القدرة الإلهية شيء. إذاً: عمر ينبه بهذا المعنى على أن المسلمين إنما يقبلون الحجر لا لذات الحجر ولا لمعنى فيه، ولكن امتثالاً وطاعة واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك الطواف حول الكعبة ليس لأنها زمردة أو ياقوتة، ولو كانت زمردة أو ياقوته، أو أغلى جوهر في العالم فليس الطواف حولها لذاتها، فكيف وهي بنيَّة من حجارة وهذه الحجارة موجودة في مكة، ولكن نطوف حولها لقداستها، ولتعظيمها، فقد عني به المولى سبحانه فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] . وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ونحن نطوف أيضاً امتثالاً لأمر الله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .

مشروعية استلام الركن بمحجن ونحوه

مشروعية استلام الركن بمحجن ونحوه قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي الطفيل قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه سلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن) رواه مسلم] . هذا فيه تتمة لاستلام الحجر، فإن استطعت أن تأتي إلى الحجر وتضع كفيك على جانبيه، وتضع شفتيك عليه وتقبل، بل وتضع جبهتك عليه وتسجد، فهذه هي أكمل الصور، وإذا لم يمكنك واستلمته من بعيد بيدك أو بأنامل أصابعك فقبل يدك أو أناملك وامض، وإذا لم تستطع فبمحجن، يعني: عصا معوجة، فإذا مددته ولمست الحجر به فقبل طرفه ولكن احرص على أن لا تؤذي أحداً، وقلنا: لو أنك مددت رداءك إلى إنسان عند الحجر وقلت له: ألمسه لي، فمسحه بالحجر ورده إليك فقبله وهكذا، فقبل الحجر بذاته أو ما لامسه، أما إذا لم يحصل هذا ولا ذاك، فأشر من بعيد وارفع يدك وقل: باسم الله، الله أكبر، ولا تقبل يدك؛ لأنها في الهواء، لم تلمس الحجر فلا تقبل. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [9]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [9] اشتهر عند كثير من العامة عند رمي الجمرات أنهم يرمون الشيطان، وأن الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، حتى صاروا يرمون الجمرات بحصى كبيرة، بل قد يرمي بعضهم بالأحذية، هذا بالإضافة إلى تسمية الكثيرين للجمرات باسم الشيطان فيقولون: الشيطان الكبير والشيطان الصغير، وكل ذلك إما من الجهل وإما من الغلو الذي حرمه الشرع، وإنما يكون الرمي بحصى كحصى الخذف مع التكبير والدعاء، فيلزم التقيد بما أمر به الشرع فلا إفراط ولا تفريط.

وقت رمي الجمرات

وقت رمي الجمرات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم] .

بداية وقت رمي الجمرات ونهايته

بداية وقت رمي الجمرات ونهايته يبين لنا جابر في هذا الحديث متى ترمى الجمرات، وذكر بأن جمرة العقبة رماها صلى الله عليه وسلم ضحىً؛ لأنه حينما أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والمسافة من المزدلفة إلى منى حوالي ستة أو سبعة كيلو مترات، فلما جاء من المزدلفة على الراحلة، كان في الطريق زحام بين الرواحل فكان ينادي: (السكينة السكينة ... ) ولما وصل إلى منى أخذ في طريقه إلى العقبة، ومعلوم أن أول عمل للحاج في منى هو رمي جمرة العقبة، وكما يقولون: تحية منى يوم العيد هي رمي جمرة العقبة، فوصلها ضحىً فرماها، إذاً: رمي جمرة العقبة ضحىً، والضحى هو: قبل الزوال، وأما بقية الجمرات في أيام التشريق: الأول والثاني والثالث فترمى بعد الزوال، ووقت جمرة العقبة فيه خلاف كما تقدم، فمنهم من يقول: يبدأ بعد منتصف الليل، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الفجر، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الشمس على الخلاف المذكور في وقت الإفاضة من مزدلفة لأهل الأعذار وغيرهم. لكن متى ينتهي وقت الرمي؟ الجواب: لا حد لانتهائه، والوقت الأفضل الذي رمى فيه رسول الله هو الضحى، فلو أن إنساناً تأخر في عرفات وفي مزدلفة، ولم يصل إلى منى إلا بعد العصر، فأول ما يصل إلى منى عليه أن يرمي جمرة العقبة، ولا نقول: إن وقت الرمي هو في الضحى، وإنما وقت الضحى هو الأفضل، فإذا تأخر إلى الزوال أو إلى العصر، أو إلى ما بعد العصر فلا مانع من أن يرمي، وإنما الخلاف في جواز رمي الجمرات ليلاً، فلو تأخر إنسان ووصل إلى منى ليلاً فهل يرمي الجمرات أو لا يرميها؟ الجواب: الأئمة الثلاثة يقولون: يجوز أن يرمي في الليل عن اليوم الماضي. والإمام أحمد يقول: إن غربت الشمس فلا رمي، وعليه أن يؤخرها إلى غد؛ لأن الأيام الثلاثة كلها أيام رمي، والرمي فيها أداء لا قضاء، ولا فدية على من تأخر في رمي يوم إلى اليوم الثاني، ولكن عليه الترتيب، كما جاء في حديث الرعاة الذين رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا ليرعوا الإبل، ثم بين أن عليهم أن يأتوا ليرموا عن اليوم الثاني أولاً، ثم عن اليوم الثالث. وعلى هذا فالسنة في رمي جمرة العقبة أنه يبدأ من الضحى، ويبدأ قبل ذلك لأهل الأعذار، وأما بقية الجمرات الثلاث في غير يوم العيد فإن جمرة العقبة قد خرجت عن كونها عقبة، وصارت من الجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة، ووقتها هو وقت بقية الجمرات حيث يبدأ من الزوال، ولا نقول: قد رميناها بالأمس ضحىً ولابد أن نرميها اليوم ضحىً؛ لأنه إذا خرج يوم العيد لم يعد هناك وقت للرمي إلا من الزوال، إلا قول يذكر عن عطاء وعن غيره في جواز الرمي قبل الزوال، وهذا يذكره بعض العلماء من باب التخفيف، ولكن يقولون: إنما رمى صلى الله عليه وسلم من بعد الزوال. ويستمر الرمي من بعد الزوال إلى قبيل غروب الشمس وهذا باتفاق، فإذا دخل الليل ولم يكن قد رمى فيرمي في تلك الليلة عن اليوم الماضي، والإجماع على أنه لا يرمي ليلاً عن اليوم الآتي، ولكن يرمي ليلاً عما سبق أن فاته في نهار تلك الليلة، إلا ما جاء عن أحمد رحمه الله فإنه قال: إذا دخل الليل فلا رمي في الليل. والجمهور يقولون: الليل يستدرك فيه ما فات في النهار، وعلى هذا يبدأ الرمي في أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال، الأولى فالوسطى فالكبرى، والآن نقول: الكبرى، ولا نقول: العقبة؛ لأن العقبة تكون في يوم العيد. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها

الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم، ثم يسهل، فيقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه البخاري] . يبين لنا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرات، فيذكر لنا أنه كان يرميها على الترتيب، فيبدأ برمي الجمرة الدنيا، والدنيا تقابل القصوى، والدنيا والقصوى أمر نسبي، فالمتوجه من منى تكون الجمرة الدنيا بالنسبة إليه هي الأولى التي يقال لها: الصغرى، فيرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات.

حكم رمي الجمرات بغير الحصى

حكم رمي الجمرات بغير الحصى وهنا نص على الحصى، ولذا يتفق العلماء على أن الجمار لا ترمى إلا بالحصى، ولا يجوز الرمي بأي نوع آخر من أنواع الجمادات، فلو رمى الحاج بسبعة دنانير ذهب بدل السبع الحصيات ما أجزأ ذلك عنه، وكذلك لو رمى بسبع حبات فاكهة: تفاح أو رمان أو برتقال ما أجزأ ذلك عنه، ولو رمى بحجر مطبوخ الذي هو الفخار ما أجزأ، أو بقطع من الصبة (الخرسانة) ما أجزأ، أو بطوب من الطين وهو قاس يابس جامد ما أجزأ، ولا يجزئ الرمي إلا بالحصى. ثم يزيد بعض الفقهاء على ذلك ويقول: بشرط أن تكون على طبيعتها، فلا يأتي بحجر كبير ويكسره ليأخذ منه أجزاء بمثابة الحصى، والحصى معروف وهو: حبات من الرمل كبيرة مستقلة بذاتها مستديرة أو مستطيلة أو مضلعة كل ذلك حكمه سواء.

كيفية رمي الجمرات

كيفية رمي الجمرات إذاً: رمى بسبع حصيات، والرمي لابد فيه من رفع اليد، ومن حركة الرمي والدفع، ولذا يقولون: لو أخذ الحاج الحصاة وهو عند الحوض ووضعها فيه كما يضع الكأس على الطاولة فإنه لا يجزئ، بل لابد من حركة الرمي، وأن تطير الحصاة في الهواء من يد الرامي إلى أن تسقط في الحوض. والعبرة بالرمي إنما هو إلى دائرة الحوض (المرمى) وليس المقصود أن تصيب البنيان الذي في وسط الحوض الذي يسمى (الشاخص) ؛ لأن هذا الشاخص ما بني إلا مؤخراً، وكذلك الحوض ما بني إلا بعد ثمانمائة سنة من الهجرة، بناه أهل مكة باجتهادهم، وإنما كانوا يقيسون موضع الرمي بثلاثة أذرع، أو بخمسة أذرع على حسب كثرة الرمي، ثم بني هذا الحوض ليحفظ الحصى، وليحدد موضع الرمي، ولذا تجدون في كتب الفقه في أحكام المناسك أنهم يقولون: من رمى وتدحرجت الحصاة إلى أقصى الكوم فإنها لا تجزئ، ولكن إن استقرت في وسط المرمى الذي هو خمسة أذرع من كل جهة أجزأت، يعني: أن دائرة قطر الحوض عشرة أذرع؛ لأن مسافة الوتر من الدائرة أو من المحيط إلى المركز خمسة أذرع، ثم بني هذا الشاخص في الوسط ليكون علامة على موضع الرمي، وليتلقى الحصى من الجهات الأربع حتى لا تتعدى إلى المقابل فتؤذي، فإذا رميت أيها الحاج! وصادفت الشاخص المبني القائم وسط الحوض وارتدت الحصاة من الشاخص إلى الحوض أجزأت، أما إذا كانت الرمية التي رميت بها الشاخص قوية فارتدت بقوة وسقطت خارج الحوض فلا تجزئ ولا يعتد بها؛ لأن الغرض ليس هو الشاخص المبني القائم، ولكن الغرض أن تستقر الحصاة في داخل المرمى. وقالو: لو أنك رميت الحصاة فصادفت عنق بعير مقابل فتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، ولو رميتها على هودج مقابل وتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، وعلى هذا فإنك إذا كنت في الدور الثاني وأردت أن ترمي فإنك ترمي في حوض صغير أسطواني، وتتدحرج الحصاة من المرمى حتى تنزل من الفتحة إلى المرمى الأصلي في الأسفل وهكذا. وقالوا: في حكم الصغير الذي يحج به وليه ويريد أن يرمي عنه، إن كان يحسن أن يلعب ويأخذ الحصى ويرمي فعل الرمي بنفسه، وإن لم يكن يحسن فإنه يضع الحصاة في كفه، ثم يأخذها هو -أي: الولي- من كف الصبي ويرمي بها نيابة عنه. إذاً: في قوله: (يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة) فيه الترتيب، وطريقة الرمي، والتكبير عقب كل حصاة، وأن يكون الرمي بالحصى لا بغيره.

الذكر الذي يقال عند رمي الجمرات

الذكر الذي يقال عند رمي الجمرات قوله: (يكبر عقب كل حصاة) ، قد تقدمت الإشارة إلى هذا، فمن العلماء من يرى أنه يقول: (باسم الله، الله أكبر؛ إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ، (إرغاماً للشيطان) لأنه كان بالأمس بعرفات، وما رؤي الشيطان أحقر ولا أذل ولا أصغر منه من يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من تنزل الرحمات، وكما يقال: يحثوا على رأسه التراب ويقول: يا ويلتا! لأنه قد اجتهد في إضلال الناس، فمنهم من بلغ عمره عشرين ثلاثين خمسين ستين سبعين ثمانين سنةً، وهو يجلب عليه بخيله ورجله، ويحتنكه ويقوده، ويفعل ما شاء فيه، فإذا كان يوم عرفات تنزل الله سبحانه وتعالى وتجلى لأهل الموقف وقال لهم: (أفيضوا مغفوراً لكم) ، إذاً: كل تعبه مع هذا الإنسان الذي بلغ عمره ثمانين أو تسعين سنةً ذهب وانتهى في عصرية، أو في عشية، إذاً: سيكون في تلك الحالة أشد ما يكون أسفاً على ما كان من عمله سابقاً، وحينما يأتي الحاج إلى رمي الجمار يقول: (إرغاماً للشيطان) ، أي: على ما أصابه في يوم عرفة يكون الرمي، زيادة في إذلاله واحتقاره وإصغاره. (وإرضاءً للرحمان) لأن الإنسان ما خرج من بلده وترك أهله وولده وماله وتحمل مشاق الحل والترحال إلا ابتغاء وجه الله، كما جاء في حديث المباهاة: (إذا كانت عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: يا ملائكتي! هؤلاء عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك) ، إذاً: يقول: (إرضاءً للرحمان) ؛ لأنه جاء يرجو رحمة الله، فمن هنا حينما يتخلص الحاج من تلك الأثقال التي حملها عليه الشيطان، فإنه يطلق من قيوده، ويفك من احتناكه، ويصبح طليقاً قوياً سوياً، فيأتي إلى الشيطان وكأنه يقول له: هاه! قد جلبت علي تلك السنوات كلها وأنا عاجز أمامك، وأما الآن فقد تقويت؛ لأن ما أثقلتني به قد ذهب عني، وما كبلتني به من القيود قد انطلقت منها، وهأنذا أبدؤك بالحرب، (باسم الله، الله أكبر، إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) . إذاً: رمي الجمار ليس الغرض منه ضرب الشيطان، كما يظن بعض الجهال أنه يضرب الشيطان أمامه، فالشيطان لن يقعد له حتى يرميه! ولا حتى يضربه! ولذا ترى أحدهم يأتي بحجارة أو يأتي بنعل أو يأتي بمظلة ويرمي بها، ولا يدري أن الشيطان يضحك عليه بهذا العمل، إنما الرمي هو كما قال صلى الله عليه وسلم: (بحصاة كحصى الخذف) فيرمي على هذه الوجهة، وبهذا المقصد، وهو يستشعر رحمة الله وفضله عليه، ونعمته عليه بهذا الموقف.

مشروعية الإكثار من الدعاء عقب رمي الجمرات

مشروعية الإكثار من الدعاء عقب رمي الجمرات قوله: (ثم يسهل) لأن المكان هناك في حافة الوادي إلى جهة الميمنة عال، وإلى جهة الميسرة مجرى الوادي، فيسهل ثم يتقدم، أي: بعيداً عن الزحام وعن حلقة الرمي (ويستقبل القبلة، ويدعو طويلاً) يقول بعض العلماء ومنهم شارح الكتاب: جاء عن ابن عمر أنه حدد المدة بين رمي الجمرتين بمقدار ما تُقرأ سورة البقرة؛ لأنه يكثر من الدعاء في هذا المقام.

مشروعية رفع اليدين في الدعاء بعد رمي الجمرات

مشروعية رفع اليدين في الدعاء بعد رمي الجمرات قوله: (ويرفع يديه) وقضية رفع اليدين في الدعاء في الآونة الأخيرة أثارت المشاكل بين العامة وطلاب العلم، ونرى بعض الناس يعيبون على من يرفع يديه في الدعاء، ويقولون: رفع اليدين في الدعاء ما جاء إلا في مواضع مستقلة، كالاستسقاء وعند رؤية البيت، وفي عرفات وما عدا ذلك لا ترفع فيه اليدان، وبهذه المناسبة فإن النووي رحمه الله ذكر بعض مواطن رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: (ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في أكثر من ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) . إذاً: القاعدة العامة هي رفع اليدين في الدعاء، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يستحي الله من العبد أن يمد يديه إليه يسأله حاجته أن يردهما صفراً أي: بدون شيء، وإنما يضع له شيئاً فيها، وهذا عام في كل دعاء، وجاء في الحديث الآخر: (وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام، فأنى يستجاب له) فما ذكر صلى الله عليه وسلم نوعاً من الدعاء، وإنما قال: (الرجل يطيل السفر) أي: أن الدعاء يكون على أي حالة من الحالات. إذاً: القاعدة والأصل في الدعاء أن يرفع الإنسان يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وهنا في هذا الموضع نص على أنه يرفع يديه في الدعاء عقب رمي الجمرة الأولى والوسطى، وأما جمرة ذات العقبة فليس فيها دعاء ولا وقوف، وعلى هذا لا يكون فيها رفع، إذاً: نستصحب الأصل في التشريع وهو أن كل دعاء يجوز رفع اليدين فيه، وأما الذين يحددون الرفع بشيء معين فإنهم يحتاجون إلى نص على إثبات ذلك، وإلى نص بالنفي لما سواها، والنووي يقول: (رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) . إذاً: ننصح أنفسنا أولاً، والإخوة الذين يقولون: نتحرى الوارد في السنة أن لا يشددوا على أنفسهم، ولا يشددوا على الناس، ولا يمنعوا الجائز؛ لأن رفع اليدين في الدعاء هو الأصل. قوله: (ثم يأتي إلى الوسطى كذلك فيرميها بسبع حصيات يكبر عقب كل حصاة، ثم يسهل، ثم يستقبل القبلة، ثم يدعو طويلاً ويرفع يديه، ثم يأتي إلى ذات العقبة) ذات بمعنى صاحبة، وجمرة العقبة مضاف ومضاف إليه، والإضافة تقتضي التمليك أو التخصيص، والتمليك يكون فيمن يصح تمليكه، كما تقول: كتاب زيد، والتخصيص يكون فيما لا يصح تمليكه، كما تقول: باب الدار، فالباب مختص بالدار، وجمرة العقبة أي: ذات العقبة، فإن الحاج يرميها من بطن الوادي ويذهب ولا يقف عندها. ولماذا لا يقف ولا يدعو؟ الجواب: أشرنا فيما تقدم إلى أن المكان عندها كان ضيقاً، وأنها كانت ترمى من جهة واحدة، وأن العقبة كانت تمنع الرمي من بقية الجهات. ثم قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) ومع كونه يقول: رأيته يفعل، نضيف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وبالله تعالى التوفيق.

مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق

مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق ورفع اليدين كثر الكلام فيه، وحصل فيه النقاش والإساءة في المفاهمة بين الإخوان، وقد سمعت أن بعض الإخوان المنتسبين إلى طلبة العلم يقول: بعض الناس عند الدعاء يخشع ويبكي، وإذا سمع القرآن لا يتأثر، فنقول: هذا ليس بصحيح، بل القرآن أشد تأثيراً، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، لكن يا إخوان! لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في العريش، هل قام يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ. } [البقرة:1-2] ، وهل قام يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] هل قام يقرأ كتاب الله أو قام يلتجئ ويتضرع إلى الله بالدعاء ويقول: (اللهم! أنجز لي ما وعدت، اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد) ؟ الجواب: كان اجتهاده في الدعاء، وكان رافعاً يديه مبالغاً في رفعهما، حتى إن رداءه كان يسقط من على كتفيه، فيقوم أبو بكر ويرد عليه الرداء ويقول: حنانيك يا رسول الله! بعض ذلك يكفي، إن الله منجز لك ما وعد، فاستكثر أبو بكر هذا، وأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: كل موطن له حالته، ولكل مقام مقال، ونحن حينما نقرأ القرآن الكريم إذا جئنا إلى قصة موسى عليه السلام مع فرعون ووو فما هو الذي سيخشِّع ويبكِّي؟! فهو سرد تاريخي لقصة رسول مع عدوه، وأمثال هذا، لكن حينما تأتي الآيات التي فيها رقائق، والتي فيها وعد ووعيد، فهذا هو الذي يحرك الشعور ويحرك العاطفة، وربما تذرف منه العين، فقد جاء أن ابن مسعود قرأ على النبي من سورة النساء حتى بلغ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] ، فقال له: أمسك، وذرفت عيناه؛ لأنه تذكر ذلك الموقف، وتذكر تلك الحالة، التي قال الله عنها: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] وقال سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ، إذاً: البكاء يكون في مواطن، وليس في كل حالة. والدعاء عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة) وقال: (الدعاء هو العبادة) قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فقال: (عن عبادتي) ولم يقل: عن دعائي، مع أن المذكور في أول الآية هو الدعاء، ولكن الله سبحانه وتعالى في هذا الأسلوب وضع العبادة موضع الدعاء ليبين أن العبادة والدعاء متساويان. ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] ولم يقل: (ومن لم يحج) وإنما قال: (ومن كفر) إذاً: من لم يحج وهو مستطيع تساوي: من كفر. وعلى هذا يا إخوان! فإن الواجب على الإنسان أن يكون في حالة دعائه إلى ربه حاضر القلب، خاشعاً، متذللاً، ضارعاً إلى الله كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الملتزم، فنظر إليه عمر فإذا به يبكي، فقال: (أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! هاهنا تسكب العبرات) وهل كل مكان مثل الملتزم الذي عند باب الكعبة؟ الجواب: لا، ليس كل مكان مثله. إذاً: الدعاء له أوقاته، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) ولهذا يحرم عليك أن تقرأ القرآن وأنت ساجد، وإنما تدعو وتجتهد في الدعاء. والله تعالى أعلم.

الحلق في النسك أفضل من التقصير

الحلق في النسك أفضل من التقصير قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال في الثالثة: والمقصرين) متفق عليه] . فهذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين، والمحلقون هم: الذين حلقوا شعور رءوسهم عند التحلل، والمقصرون هم: الذين قصروا بالمقص أو بالمكينة التي حدثت الآن، ولم يحلقوا بالموسى، والله سبحانه وتعالى ذكر الأمرين فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فنص على الأمرين، إذاً: كلا الأمرين مجزئ، ولكن تقديم الحلق في قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) يدل على أن الأفضل هو الحلق، وهنا كون المسألة فيها أفضلية يدل على أنها متقاربة، ودل على الأفضلية أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين مرتين، وهم يسألونه: يا رسول الله! والمقصرين، يعني: وادع للمقصرين، وهو يعرض عنهم ويقول: اللهم! ارحم المحلقين، وفي الثالثة قال: والمقصرين. ومتى كان هذا الدعاء؟ الجواب: يختلف العلماء في وقته، فمنهم من يقول: كان في صلح الحديبية، ومنهم من يقول: كان في حجة الوداع، والنووي وغيره يرجح أنه كان في حجة الوداع، ولكن الذي يظهر أنه كان في عمرة الحديبية، وذلك أنهم سألوا: ما بال المحلقين يا رسول الله؟! -يعني: دعوت لهم ثلاث مرات أو مرتين- قال: (لم يشكوا في أي شيء) أي: عند أن أمرهم بالتحلل في عمرة الحديبية، فإنه لما منع المشركون المسلمين من أن يأتوا إلى البيت، وأن يطوفوا ويسعوا ويكملوا العمرة على وجهها، تم الصلح معهم وكتبت الصحيفة، وكان في الصلح خير كثير جداً، وقد سمى الله عمرة الحديبية فتحاً، وأنزل فيها سورة الفتح، فقال عمر: (أفتح هي يا رسول الله؟! قال: نعم، هي فتح) وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (والله! ما يطلبون مني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) أي: مطلقاً، فانتزع الله -بفضله- من المشركين اعترافاً بالكيان الإسلامي، بينما الرسول سبق له وأن خرج من مكة مختفياً في الغار ليلاً، لكن وبعد ست سنوات يأتي إلى مكة بجيش، ويأتي معتمراً ويدخل عليهم عنوة، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على مائدة المفاوضات، وهذه الجلسة على المفاوضة، وتوقيع المسلمين وتوقيع سهيل بن عمرو على الصحيفة يساوي اعترافاً من المشركين بالكيان الإسلامي الذي فاوضوه، يعني: أنهم اعترفوا بالأمة الإسلامية، وهذا يعد فتحاً عظيماً. لما تم ذلك الصلح قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تحللوا، وانحروا الهدي، واحلقوا شعوركم: أي: أن العمرة قد انتهت، ولكن بعضهم قال: كيف انتهت ونحن لم نر الكعبة؟!! وكيف انتهت ونحن ما طفنا ولا سعينا؟!! لأن لهم مقاييس وللرسول صلى الله عليه وسلم مقاييس أخرى، فتوانوا عن التحلل، فغضب صلى الله عليه وسلم، ودخل على زوجه أم سلمة، فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت -انظر الحكمة والروية والعقل-: أتحب أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ثم الزم خيمتك، فإذا به صلى الله عليه وسلم قد وجد حلاً عملياً يقطع على أولئك المتوانين مطامع الرجاء في حل آخر؛ لأنه إذا كان الرسول قد نحر وحلق، فما هو الذي بأيديهم بعد هذا، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بادروا إلى نحر هديهم، ودعوا الحلاق وكادوا يقتتلون على الحلاقة، وانتهت القضية، وفي هذا الظرف منهم من حلق، ومنهم من قصر، والذي حلق والذي قصر كلاهما امتثل، وكلاهما تحلل، ولكن الذي حلق شعره كان حلقه على يقين بالأمر (مائة في المائة) ، وأما الذي قصر فكأنه تحلل وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وليس هو على الثقة وعلى اليقين الذي عليه الذي حلق شعره؛ لأن الذي حلق شعره متيقن وليس عنده شك. إذاً: الأولى ترجيح أن ذلك الدعاء كان في عمرة الحديبية.

حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك

حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر بعض الهدي وأناب علياً في نحر الباقي، ودعا الحلاق ناوله أولاً الشق الأيمن فحلقه، ثم قال: خذ هذا الشعر وقسمه على الناس -على الحاضرين- ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، فقال: خذه أنت، وهنا بعض الناس قد يفكر ويسأل: لماذا يقسم الشعر عليهم؟ الجواب: لأن هناك مصلحتين: المصلحة الأولى: إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى على الأرض؛ لأنه إذا ما حصل إنسان على شعرات منه فإنه سيطويها ويحتفظ بها في أعز مكان عنده، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من حصل على شيء من شعرات رسول الله يحتفظ بها، فـ خالد بن الوليد كان في قلنسوته التي يضعها على رأسه شعرات من شعر رسول الله، وأم سلمة كان عندها شعرات وضعتها في جلجل فضة، وكانت إذا جاء المحموم إليها ماصتها في الماء وسقته إياه فيعافيه الله، هذه مصلحة أولى وهي إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهان ويلقى على الأرض. المصلحة الثانية: التبرك، فقد كانوا يتبركون ببصاقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم كما جاء في صلح الحديبية حينما قال عروة بن مسعود الثقفي: (والله! لقد دخلت على كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، فما رأيت قوماً يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، والله! ما تفل تفالة ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم يدلك بها وجهه، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على مائه ليتمسحوا به) وأم أيمن لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم، قال لها: (لا توجعك بطنك أبداً) ، وابن الزبير لما قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ هذا -أي: دم الحجامة- وغيبه عن الناس في مكان لا يراه أحد، فذهب بعيداً وشربه، ولما رجع قال له: ماذا فعلت؟ قال: شربته، قال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس) أي: لأثر دم رسول الله الذي في جوفه. وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور. وبهذا يتبين أن قوله: (اللهم ارحم المحلقين) أي: الدعاء للمحلقين كان في صلح الحديبية.

القدر الذي يقصر من الشعر في النسك

القدر الذي يقصر من الشعر في النسك وهنا يأتي بحث فقهي: الرسول صلى الله عليه وسلم حلق شعره كله، وبدأ بالشق الأيمن ثم الشق الأيسر، وبإجماع المسلمين أن هذه الصفة هي أكمل الصفات، لكن لو أن إنساناً لم يحلق شعره كله، وأراد أن يقصر فكم يحلق من حجم رأسه، وكم يقصر من طول شعره؟ الجواب: أحمد ومالك يقولان: الواجب تقصير كامل الشعر، فإن حلق فليحلق الجميع، وإن قصر فليقصر الجميع، وأما أبو حنيفة رحمه الله فيقول: يجزئ ربع الرأس حلقاً أو تقصيراً، وهذه المسألة هي مثل المسألة التي تبحث في مسح الرأس عند قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] فكم يمسح من الرأس في الوضوء؟ فيها خلاف، وهذه المسألة مثلها، والشافعية يقولون: كل ما صدق عليه حلق أو تقصير ولو ثلاث شعرات فإنه يجزئ، والنووي رحمه الله يقول: وقد أفرط بعض منا -أي: من الشافعية- فقال: ولو قصر بعض شعرة لأجزأه، ثم قال: وكيف يأخذ بعض الشعرة، فإنه إذا أخذ من شعره بالمقص فسيأخذ كثيراً، فكيف يتمكن من قص شعرة دون غيرها؟ قالوا: إذا غطى الإنسان رأسه بالحناء، فطلعت شعرة من تحت الحناء وبرزت من فوق فجاء بالمقص وأخذ هذا الجزء البارز من الشعرة من فوق الحناء، فإنه يكون قد أخذ بعضها، قال: وهذا إفراط، أي: أنه لا ينبغي مثل هذا في النسك. وعلى هذا نجد في المسألة عدة أقوال: فمنهم من قال: يحلق أو يقصر كل الرأس، ومنهم من قال: ربع الرأس، ومنهم من قال: ولو ثلاث شعرات، هذه أقوال الأئمة رحمهم الله، ولا نملك أن نقول شيئاً في ذلك إلا أن السنة هي حلق أو تقصير جميع الرأس. ثم إذا جئنا إلى حديث بيان فضل الحج: (جئنا نسألك، قال: إن شئتما أخبرتكما. إلخ، وعن حلقك شعر رأسك فلك بكل شعرة حسنة ووضع سيئة ورفع درجة) إذاً: كتابة حسنة وإسقاط سيئة ورفع درجة كل هذا بشعرة واحدة، ثم بعد هذا نذهب ونأخذ شعرة، أو نأخذ ثلاث شعرات، أو نأخذ ربع الرأس! هذا فيه تفريط، بل لو استطعنا أن نأتي برأس آخر جنب الرأس الأصلي حتى نحلق شعراً أكثر لفعلنا، حتى يزداد الأجر.

كيفية حلق رأس الأصلع في النسك

كيفية حلق رأس الأصلع في النسك وأما الأصلع فيقولون: الأصلع يمر الموسى على رأسه، وإذا وجد شعر أزاله. وهنا مسألة عند العلماء: إذا كان المحرم متمتعاً وعنده تحللان: تحلل للعمرة، وتحلل للحج، فهل الأفضل في حقه في تحلل العمرة أن يحلق أو أن يقصر؟ الجواب: بعض الناس إذا كان متمتعاً يحلق البعض ويترك الباقي إلى الحج، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا يسمى قزعة الشيطان؛ لأن الإنسان حتى في الأيام العادية إما أن يحلق شعر رأسه كله أو يتركه كله، وأما أن يحلق بعضاً ويترك البعض فهذا يسمى (قزعة الشيطان) . ويقول بعض العلماء في هذه المسألة: إن كان هناك وقت بين تحلل العمرة وتحلل الحج ينبت فيه الشعر بحيث يستطيع أن يحلقه في الحج فله أن يحلق في العمرة؛ لأنه يمكن أن يوجد الحلق في النسكين، وإذا كان الوقت قريباً، فإذا حلق في العمرة لا يجد ما يحلقه في الحج فيكتفي في العمرة بالتقصير، وإذا كان سيقصر من الشعر فكم يقصر؟ الجواب: يقولون: لا يقل عن قدر أنملة، فإذا كان إنسان عنده شعر طويل -خمسة سم مثلاً- فعليه أن يأخذ منه اثنين سم، ويشمل جميع جوانب الرأس بالقص، كما تقدم. وأما المرأة فقد جاءت النصوص بأنه لا حلق عليها، وإنما عليها التقصير، وكيف تقصر؟ قالوا: تجمع شعر رأسها في كفها إلى أن يبقى قدر أنملتين أو أنملة وتقص من أطرافه، وعليها أن تعمم بالتقصير جميع الشعر، وبعضهم يتندر ويقول: إذا حلقت المرأة فهل يجزئها ذلك؟ الجواب: نقول: هذه مثلة، والمرأة لا تحلق شعرها، وما كن يحلقن إلا في المصائب، عياذاً بالله! إذاً: المرأة تقصر ولا تحلق.

الترتيب في أعمال يوم النحر

الترتيب في أعمال يوم النحر قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج) متفق عليه] . هذا الحديث من أجمع أحاديث الحج، وأيسرها على الحجاج، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم العيد فأخذوا يسألونه، هذا يقول: يا رسول الله! ما شعرت، يعني: نسياناً وسهواً لا عمداً، حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، والترتيب الطبيعي لأعمال هذا اليوم هي كالآتي: أولها: رمي جمرة العقبة، وثانيها: نحر الهدي، وثالثها: حلق الرأس، ورابعها: طواف الإفاضة. أما رمي جمرة العقبة فإنها تحية منى، وهذا باتفاق، وأما النحر قبل الحلق فلقوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ثم بعد الحلق النزول لطواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، فإذا سها إنسان أو جهل وغيّر في هذا الترتيب فلا شيء عليه؛ لأن هذا السائل قال: ما شعرت حلقت قبل أن أنحر -مع أن النحر كان أول- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، أي: ما دام أن هذا الشيء قد وقع، ونلاحظ أن الأسئلة هنا هي عن أمور قد وقعت بالفعل، وفرق بين كون الشيء وقع فعلاً وبين كونه سيقع، ولم يوجد أحد قال: أنا أريد أن أحلق قبل أن أنحر، وإنما كل من سأل كان يسأل أسئلة عملية واقعية، وما دام أن الأمر قد وقع فهل نرفع الواقع؟ الجواب: لا نرفعه، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أجاز هذا العمل؛ التماساً لقوله: لم أشعر أي: أنا ناسٍ أو جاهل، فماذا أفعل؟ قال: (افعل ولا حرج) ، إذاً: أجاز المغايرة بين الرمي والحلق فقال: (افعل ولا حرج) ، وكذلك قال آخر: نحرت قبل أن أرمي، فقال له: (ارم ولا حرج) ، ثم يأتي الراوي بقضية وقاعدة عامة فقال: فما سئل عن شيء ذلك اليوم قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، وما هو الذي سيقدم أو يؤخر في ذلك اليوم؟ هو ما ذكرنا: الرمي والنحر والحلق والإفاضة، أيها قدم سهواً أو جهلاً أو نسياناً، فلا حرج في ذلك ولا شيء على من قدم أو أخر. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [10]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [10] النساء شقائق الرجال، وكل ما شرع للرجل فهو مشروع للمرأة إلا ما جاء تخصيص المرأة به، ومن الأحكام التي تشمل الرجل والمرأة على حد سواء أحكام الحج، فالحج هو نصيب المرأة من الجهاد، وكل ما شرع للرجل في الحج فهو للمرأة كذلك إلا ما جاء استثناؤها فيه كاللباس والاضطباع والرمل والإسراع بين الصفا والمروة والحلق ونحو ذلك مما ينافي حشمة المرأة ووقارها وخلقتها التي خلقها الله عليها.

النحر في النسك قبل الحلق

النحر في النسك قبل الحلق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) رواه البخاري] . يسوق المؤلف رحمه الله حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) وكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق هل هذا الفعل المخبر عنه والذي أمر به الصحابة كان في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ فيه خلاف، وأكثر العلماء على أن ذلك كان في صلح الحديبية. وقد تقدم التنبيه على أن ترتيب أعمال يوم العيد تكون كالآتي: الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة، وما سئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا وقال: (افعل ولا حرج) فإذا كان الأمر كذلك وأنه ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، فلماذا يأتي المؤلف بعد ذلك بهذا الحديث الذي فيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) ؟ فإن كونه فعل هذا الفعل المرتب وأمر أصحابه به يغاير قوله: (افعل ولا حرج) ؛ لأنه هناك قدم هذا وأخر ذاك، وأخر هذا وقدم ذاك فقال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) ، وظاهر هذا وجوب الترتيب، وهنا: فعل وأمر فكيف يكون الجمع بين الحديثين؟ الجواب: يقول العلماء: إن هذا الترتيب وهو تقديم النحر على الحلق كان في صلح الحديبية، وهذا شأن المحصر عن الحج، وسيأتي للمؤلف: (باب الإحصار) ، والإحصار هو: المنع، وسواء كان الإحصار بعدو أو كان بمرض، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فيقول العلماء: إن قوله: (افعل ولا حرج) هذا في الحج، حينما يقع النسيان أو السهو أو الجهالة، أما في الإحصار فيتعين أن ينحر أولاً ثم يحلق ثانياً، وليس فيه: (افعل ولا حرج) . إذاً: سوق المؤلف لهذا الحديث الذي فيه الترتيب في تقديم النحر وتأخير الحلق مغاير لما تقدم من قوله: (افعل ولا حرج) فقال العلماء: الجمع بين هذا وذاك: أن (افعل ولا حرج) مع العذر بالنسيان أو الجهالة هذا في الحج، وأما الترتيب فيكون في حالة الإحصار، والله تعالى أعلم. وقد قدمنا قضية الدعاء للمحلقين عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! ارحم المحلقين -ثلاثاً-) وبينا أن ذلك اختلف فيه أيضاً: هل كان ذلك الدعاء في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ وبينا أنه في صلح الحديبية، وأن السبب في ذلك والمرجح لكونه في صلح الحديبية أنه أمرهم فتوانوا في العمل، فدخل خيمته وهو مغضب، فقالت له أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (لا عليك، خذ المدية واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق فاحلق) يعني: أنه نحر أولاً، ثم حلق ثانياً، ثم أمر أصحابه بذلك. إذاً: هذا الحديث إنما يتعلق بحالة الإحصار، والإحصار سيأتي له باب مستقل.

التحلل من الإحرام

التحلل من الإحرام قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده ضعف] .

متى يكون التحلل كاملا ومتى يكون ناقصا؟

متى يكون التحلل كاملاً ومتى يكون ناقصاً؟ هذا الحديث يبين لنا متى يتحلل المحرم من إحرامه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) يقول الفقهاء: التحلل الكامل يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الناقص -أي: التحلل الأصغر كما يسمونه- يكون بفعل اثنين من ثلاثة، وهذه الثلاثة هي: الرمي والحلق والطواف، فهذه الأمور الثلاثة إذا فعلها الإنسان في يوم النحر ولو أخر النحر؛ لأن أيام التشريق كلها أيام نحر، فإذا رمى الجمرة، وحلق شعره، وطاف بالبيت فقد تحلل التحلل كله، وحلّ له ما كان ممنوعاً عليه بالإحرام وجميع ما كان محظوراً عليه، وهذا التحلل لا يشمل الصيد بمكة؛ لأن تحريم صيد مكة هو لحرمة مكة سواءً كان حاجاً أو غير حاج، وأما الصيد في الخلاء فتحريمه خاص بالمحرم، فلو خرج الإنسان إلى خارج حدود مكة ولم يكن محرماً وصاد فلا شيء عليه. إذاً: التحلل الأكبر من كل شيء يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الأصغر بفعل اثنين من هذه الثلاثة. وهنا ذكر الرمي والحلق، فلو أنه رمى ولم يحلق ونزل إلى مكة وطاف طواف الإفاضة فكذلك حلّ له ما جاء في هذا الحديث: (كل شيء إلا النساء) وهنا في هذا الحديث ذكر الطيب، وهذا يؤيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولإحلاله حينما يحل) ، قالوا: كيف تطيبه وهو لم يكتمل له التحلل الأكبر؟! لأن كثيراً من الفقهاء يلحق الطيب بالنساء؛ لأن الطيب من شأنه أن يثير الغريزة إلى النساء؟ فقالوا: منع المحرم من الطيب حتى لا تكون هناك عوامل إثارة، وإلا فإن الطيب شيء طيب، ومقبول للنفس، لكن لما كان له هذا الأثر، والمحرم محرم عليه النساء فكان تحريمه سداً للذريعة ومنعاً للإثارة، ولكن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (فقد حلّ له الطيب وكل شيء إلا النساء) . إذاً: لا يحق للمحرم أن يمس النساء إلا إذا تحلل التحلل الأكبر وفعل الأمور الثلاثة، وعلى هذا إن فعل اثنين من ثلاثة فقد تحلل التحلل الأصغر، وإن فعل الثلاثة كاملة فهو التحلل الأكبر، وأما الحديث الذي عند أبي داود وفيه: (من لم يطف ذلك اليوم رجع كما كان) فهذا الحديث يرد عليه؛ لأنه إذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء، ولم يحدد هذا التحلل بزمن من الأزمنة سواءً طاف في ذلك اليوم أو لم يطف، فإذا رمى وحلق وأخر الطواف إلى أن ينتهي من أيام منى فلا مانع في ذلك، فإن له أن يرمي ويحلق ويجلس أيام التشريق كلها في منى ولا ينزل إلى مكة، إذا كان يريد أن ينزل ويطوف طواف الإفاضة ويسافر، فهذا يجزئه حتى عن طواف الوداع، وعلى هذا فتأخير طواف الإفاضة لا يمنعه من أن يتحلل التحلل الأصغر، والتحلل الأصغر هنا سيتحقق في لبس الثياب، ومس الطيب، وتقليم الأظافر، وأما ما عدا ذلك كأمر النساء فهو ممنوع منه، وكذلك الصيد ممنوع منه في مكة. والله تعالى أعلم.

حكم الحلق والتقصير بالنسبة للمرأة

حكم الحلق والتقصير بالنسبة للمرأة قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن) رواه أبو داود بإسناد حسن] . تقدمت مباحث الحلق والتقصير، والمفاضلة بينهما، والقدر المجزئ في الحلق أو في التقصير، وهذا بصفة عامة، والمرأة هي شريكة الرجل في الحج، من أول كل شيء فيه إلى آخره، ما عدا ما استثنيت منه كنوعية اللباس والرمل والسعي -أي: الإسراع- فهي لا ترمل ولا تسرع بين الصفا والمروة؛ لأن هذا يخرجها عن وقارها وما يجب الحفاظ عليه من عفتها وسترها، وما عدا ذلك فهي مثل الرجل، إن تمتعت وإن أفردت وإن قرنت بين الحج والعمرة، فعدد طوافها، وعدد سعيها، وعدد حصيات رميها ومقدار الفدية، كل ذلك تستوي فيه مع الرجل، وكذلك في التحلل فإن رمت وقصرت من شعرها فقد تحللت التحلل الأصغر، وإن طافت فقد تحللت التحلل الأكبر، وإذا كان زوجها معها فقد أصبحا معاً حلالاً. وهنا جاء بهذا الحديث وفيه: أنه ليس على النساء حلق؛ لأن الحلق في حق النساء مثلة، عياذاً بالله! وإنما عليهن التقصير. إذاً قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] تنطبق على الرجال (محلقين) وعلى الرجال والنساء (مقصرين) لأن الرجال كذلك يحلقون ويقصرون.

مقدار الشعر الذي تأخذه المرأة من رأسها في النسك

مقدار الشعر الذي تأخذه المرأة من رأسها في النسك قال العلماء: إنها تأخذ من طرف شعرها قدر الأنملة، فلا تذهب تقص نصف الشعر أو أكثر، وإنما مطلق التقصير، قالوا: بقدر الأنملة من أطراف شعر رأسها، فإذا كانت ذات ظفيرة تأخذ طرف الظفيرة وتقص من طرفها قدر الأنملة، وإذا كانت بغير ظفيرة فتجمع شعرها في كفها وتأخذ قدر الأنملة من أطرافه، وأما الحلق فلا يجوز لها. وقد أشرنا إلى أن بعض العلماء يورد نقاشاً في هذا ويقول: لو حلقت المرأة مثل الرجل فهل هذا يجزئها؟ الجواب: لا يجوز لها الحلق، فإذا تجاوزت وفعلت فأنا أقول: إنها تكون آثمة؛ لأن هذا بالنسبة للمرأة مثلة ولا يجوز ذلك.

الإذن بالمبيت في مكة ليالي منى لأهل السقاية

الإذن بالمبيت في مكة ليالي منى لأهل السقاية قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت في مكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) متفق عليه] . السقاية كانت من خصائص العباس، والرفادة كانت خصائص تختص بها بعض قبائل قريش، فكان العباس رضي الله تعالى عنه من أصحاب السقاية، والسقاية هي: أنهم كانوا يجمعون الماء -ماء زمزم- في أحواض كبيرة من الحجر المنحوت، وكانوا يجمعون طوال السنة من الزبيب ومن التمر ما يضعونه في هذا الماء الذي يجعلونه في تلك الأحواض قبل الشرب بزمن -بست ساعات أو بعشر ساعات، أو باثنتي عشرة ساعة، أو بأربع وعشرين ساعة، ما لم يتغير ويصير نبيذاً- وكان هذا يعطي ماء زمزم نوعاً من الحلاوة؛ لأن بعض الناس ربما كان ماء زمزم فيه ملوحة عنده أو فيه ثقل عليه، أو أن هذا نوع من إكرام الحجيج عندهم، فكانوا يتكلفون ذلك، واستمرت سقاية العباس على الماء والتمر والزبيب، وكان بعض المتبرعين الآخرين لهم سقايات تبرعوا بها، وربما وضعوا العسل في الماء، وربما جاءوا باللبن، فسأل رجل الفضل بن العباس وقال: ما بال الناس يضعون في الماء العسل واللبن، وأنتم تضعون التمر والزبيب أمن قلة عندكم أم من بخل؟ فقال: والله! يا ابن أخي! ليس هذا من قلة عندنا ولا من بخل، ولكن أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أسامة بن زيد وقال: (اسقوني، فقال العباس للفضل: اذهب وائت لرسول الله بماء من عند أمك، فقال: اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، فقال: يا رسول الله! إن هذا يضعون أيديهم فيه وهم كذا -أي: نأتي لك بماء نظيف من عند أم الفضل - فقال: اسقوني مما يشرب منه الناس، فسقاه مما يشرب منه الناس) وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه أتى إلى بئر زمزم وقال: (امتحوا، لولا أن يغلبكم الناس لوضعت هذا على عاتقي -يعني: حبل الدلو- ومتحت معكم) ولو فعل هذا لكان كل إنسان يريد أن يفعل مثلما فعل الرسول، وكم هي الدلاء التي ستكفي الناس على هذا؟! فسحبوا له بالدلو وأعطوه الدلو فشرب منه، وهناك جاء أن العباس سقاه مما يشرب الناس من تلك الأحواض. إذاً: السقاية كانت من زمزم، وكان الأصل فيها للعباس، وكان يحلي ماء زمزم بالزبيب وبالتمر الذي كان يجمعه طوال العام، وكان آخرون ربما وضعوا مع زمزم العسل أو اللبن، أو يسقون اللبن خالصاً في ذلك اليوم، وكل ذلك كانوا يفعلونه إكراماً وتوسعة على الحجيج. وحينما ينزل الناس لطواف الإفاضة كان بعضهم ربما ينزل في الليل، فكانت السقاية تحتاج إلى عمل مستمر، فإذا بات العباس في منى ربما تعطل عمل السقاية، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل عمل السقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم. وهنا بحث للعلماء: هل من عمل سقايةً في مكة، مثل أن يأتي بالشراب، كشراب التوت أو شراب المانجو، أو جعل سقايةً كبيرةً ليسقي الناس منها، فهل له ذلك؟ الجواب: قالوا: إنه لا مانع من ذلك، فإذا وسع الله على إنسان وأخذ برميلاً كبيراً ووضعه في مكة حول زمزم، وكلما ينتهي برميل يأتي ببرميل آخر فيجوز له ذلك. ونحن نرى الآن أنهم يوزعون الخبز ويوزعون الماء ويوزعون أشياء كثيرة، فلو أن إنساناً فعل ذلك خدمة للحجاج، أيحق له أن يستأذن في المبيت بمكة ليالي منى؟ وهل يؤذن له؟ وإذا بات بمكة تلك الليالي فهل يسقط عنه وجوب المبيت؟ الجواب: هناك من يقول: لا مانع قياساً على العباس، وهناك من يقول: لا يجوز؛ لأن هذه كانت وراثةً اختص بها العباس، وليس لأحد أن يستأذن بعد ذلك، ولكن أعتقد أن في هذا تحجيراً، وقد أشرنا إلى أنه يجوز لكل من كان له عمل في خدمة الحجاج بصفة عامة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى في مكة، أو الفران الذي يخبز الخبز في مكة ويهيئه ويرسله إلى أهل منى، أو من نزل بمكة كأصحاب الكهرباء، وأصحاب المياه، والطوارئ، والأعمال العامة التي يحتاجها الحجاج في مكة، فلو أن صاحب هذا العمل ترخص وبات بمكة من أجل العمل الذي يخص الحجاج فنقول له: لا بأس؛ لأنها خدمة عامة، ولم ينزل لخدمته الخاصة. ويقولون: إن ابن عمر استأذنه رجل من أجل مال له بمكة؛ لأنهم كانوا يأتون للحج وللتجارة أيضاً، وكانت المزدلفة سوقاً، وكان هناك سوق عكاظ ومجنة، وكانوا يأتون من الشحر وعمان ومن غيرهما ليتاجروا، وكل هذه كانت أسواقاً للعرب، وإلى عهد قريب كان في منى شارع اسمه (سوق العرب) وهذه الأسواق كانت في الجاهلية، وكانوا يأتون بتجارات إلى الحج، فرجل قال لـ ابن عمر: أنا عندي مال بمكة، قال له: السنة المبيت بمنى، ولم يأذن له، فهنا نقول: لم يأذن له لإنها مصلحة خاصة به في تجارته، وأما إذا كانت في خدمة الحجاج فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.

الإذن بالمبيت خارج منى ليالي منى لرعاة الإبل

الإذن بالمبيت خارج منى ليالي منى لرعاة الإبل قال المؤلف رحمه الله: [وعن عاصم بن عدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] . نحن نعلم جميعاً أن الوسيلة الخاصة التي كانت للنقل هي الإبل، حتى الخيل لم تكن تصلح للأسفار؛ لأن الخيل نفسها ومداها قريب، وأما الإبل فمعها سقاؤها وخزانها في جوفها، ويمكن أن تصبر عن الماء أربعة أيام؛ لأنها تحمل ماءها في جوفها، وخالد بن الوليد لما قطع المفازة من العراق إلى الشام، أخذ بعض الإبل العجاف وعطشها ثلاثة أيام، ورواها بالماء، ثم ربط على أفواهها حتى لا تجتر، وكانوا في المفازة إذا احتاجوا الماء نحروا تلك الإبل العجاف، وأخذوا الماء الذي في جوفها وسقوا به الإبل والخيل الأخرى، يفعلون هذا لعدم وجود ماء في المفازة، ثم يأكلون لحمها، فالإبل كما يقولون: (سفينة الصحراء) فهؤلاء الحجاج كم من الإبل التي يأتون بها إلى الحج؟ كل واحد على بعير، أو كل اثنين على بعير، فضلاً عن أن تحمل بعضها الضعائن في هوادجها، فإذا حصل هذا العدد الكثير من الإبل، وكل إبل عليه هودج، فأين المساحة التي تأخذ هذا العدد كله؟ فهي تحتاج إلى حيز، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن لا تزدحم منى بالإبل وهوادجها، قال للرعاة: خذوها واذهبوا بها بعيداً عن منازل الناس؛ وهذا لمصلحتين: الأولى: أن الإبل تجد في الخلاء مرعىً ترعاه، الثانية: أن منى يخف الزحام فيها من الإبل ومن حمولاتها، كما يعملون الآن من حجز السيارات الصغيرة لئلا تزحم الناس في منى، وحتى يخففوا كثيراً من الأزمة، إذاً: هذا تنظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- لحركة المرور، من أجل كثافة السكان، ولكن الذي يهمنا: أن هؤلاء الرعاة كانوا رعاة وكانوا محرمين، لأنهم يرمون، والذي يرمي معنى ذلك أنه حاج، إذاً: لا مانع من كون الحاج يزاول عملاً، سواءً كان رعاية الإبل، وسواءً كانت قيادة السيارة، وسواءً كانت قيادة الطائرة، أو أي عمل يزاوله فلا مانع من ذلك، وكذلك له أن يبيع ويشتري ويصنع، وإذا كان الحجاج يأتون بهذه الأعداد الهائلة من الإبل فهم أصناف شتى، فمنهم من يصنع طعامه، ومنهم من هو كسلان أو تعبان لا يقدر أن يعمل طعاماً فإذا وجد من يبيع الطعام في القافلة فسيشتري؛ لأنه لا مانع من أن يحرم للحج وأن يعمل في سفره وفي طريقه إلى الحج، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] . وإنما الخلاف فيما إذا كان إنما حج ليتجر، أو اتجر ليحج، فإذا كان اتجر ليحج أي: ليربح ويستعين بربح تجارته على مصاريف الحج فلا مانع في ذلك، وأما إذا حج من أجل أن يحصل على الربح فقط فهذه ناحية ثانية، إذاً: الرعاة هم عمال يرعون الإبل، ويقودونها وقت السفر، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا بإبلهم إلى خارج منى؛ لترعى من عشب الأرض ونباتها، ولتتسع أرض منى للحجاج.

كيفية الرمي عن الأيام الثلاثة لأهل الأعذار الذين يبيتون خارج منى

كيفية الرمي عن الأيام الثلاثة لأهل الأعذار الذين يبيتون خارج منى وأما الترتيب في الرمي فإنهم يرمون جمرة العقبة أول ما يصلوا إلى منى؛ لأنهم سينزلون مع الحجاج من عرفة إلى المزدلفة ومنها إلى منى، ثم يفترقون عن الحجاج بعد رمي جمرة العقبة، فإذا رموا جمرة العقبة مع الناس فحينئذٍ يذهبون، وسيكون أمامهم أول يوم من أيام التشريق الذي هو ثاني أيام العيد، وثاني أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد، وثالث أيام التشريق الذي هو رابع أيام العيد، فهم يرمون جمرة العقبة في يوم العيد، ثم يذهبون، وفي أول أيام التشريق لا يأتون، ثم يأتون ثالث أيام العيد بأشخاصهم، فيرمون عن اليومين: عن ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، يرمون الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون فيرمون عن اليوم الثاني من أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون إلى إبلهم ويأتون بها في ثالث أيام التشريق من أجل أن يرحل الحجاج عليها، ويرمون في ثالث أيام التشريق عن اليوم نفسه، يعني: أنهم يغيبون يوم التشريق الأول، ويأتون في يوم التشريق الثاني ليرموا عن أمسهم وعن يومهم الحاضر، ثم يذهبون إلى إبلهم فيبيتون عندها، ومن الغد يأتون بالإبل من أجل رحيل الحجاج ويرمون عن هذا اليوم الأخير، وهذا لمن تأخر في النفر، وأما من كان يريد أن يتعجل فإنه ينزل بإبله في اليوم الثاني ويرمي عن اليوم الأول والثاني، ويتوكل على الله ويذهب. وهكذا كل من ترخص وكان في الخدمة العامة فإنه يأتي للرمي ويسمح له في عدم المبيت بمنى، وليس عليه فداء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر العباس ولم يأمر الرعاة بأن يكفِّروا أو أن يفدوا أو أن يجبروا عدم مبيتهم بمنى حينما أذن لهم، والله تعالى أعلم.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) الحديث. متفق عليه] . أبو بَكْرَة أو أبو بَكَرَةَ، هذا الصحابي من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف تدلى إليه هذا الصحابي رضي الله عنه، فقيل: جاء بحبل وبَكَرَة ونصبهما على السور ونزل بالحبل مع البَكَرَة، ولهذا يقال له: أبو بَكَرَة، وقيل: كانت بَكْرَة -وهي: أنثى الإبل- واقفةً بجوار السور، فتدلى من على السور على ظهر البكرة ثم نزل إلى الأرض، ومن هنا قيل له: أبو بَكْرَة، وأصبحت هذه كنيته. قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا يوم النحر) ، يريد المؤلف أن يبين بإيراده هذا الحديث أن الرسول خطب في يوم النحر؛ لأن هناك من الأئمة من يختلفون في عدد خطب الحج التي خطبها صلى الله عليه وسلم، فالمتفق عليها خطبتان: الأولى: أنه خطب في يوم سابع ذي الحجة وبين للحجاج ما يلزمهم عمله في غدهم أي: في يوم التروية، فبين لهم أنهم سيخرجون من الغد (يوم التروية) قبل الزوال إلى منى، وكان يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يأتون بالقرب فيملئونها، وقد كانوا قبل هذا اليوم يشربون من الماء الحاضر والقرب فارغة، فإذا جاء هذا اليوم فإنهم من الصباح يضعون القرب في الماء، حتى تلين ثم يملئونها بالماء ويصحبونها معهم في صعودهم إلى منى، فسمي لذلك هذا اليوم يوم التروية، فبين لهم أنهم سيذهبون إلى منى قبل الزوال، ويصلون الفروض الخمسة بمنى، ثم يخرجون من منى صبيحة يوم عرفة بعد طلوع الشمس إلى آخره، هذه أول خطبة. الخطبة الثانية: خطبة يوم عرفة، وهاتان الخطبتان وقع عليهما الإجماع. وبعد هذا يأتي الخلاف في خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، فهاتان حصل فيهما الخلاف، والجمهور على أن الخطبة التي ذكرها أبو بكرة هنا كانت في يوم العيد، وإلى هذا أشار المؤلف، ومنهم من يقول: إنها كانت في ثاني أيام العيد، وهناك من يقول: إنه خطب في اليومين، وهو مذهب الشافعي، وعلى هذا تكون الخطب أربع، أي: أنه خطب في يوم السابع، وفي يوم عرفة، وفي يوم العيد، وفي أول أيام التشريق، وهناك من يقول: الخطب ثلاث، ثم يختلفون في الثالثة هل كانت في يوم العيد، أو في أول أيام التشريق؟ إذاً: الخطب المتفق عليها في الحج هي: خطبة يوم سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة أحد اليومين: يوم العيد أو ثاني أيام العيد، فهذه ثلاث متفق على أنه خطبها، وإنما اختلف في موقع الثالثة، ولذا يقول الشافعي: خطب في اليومين يوم العيد وأول أيام التشريق، وعلى هذا فالخطب عند الشافعي أربع، وعند الجمهور ثلاث. والله تعالى أعلم.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الرءوس (أول أيام التشريق)

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الرءوس (أول أيام التشريق) ِقال المؤلف رحمه الله: [وعن سراء بنت نبهان رضي الله عنها قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق؟ . الحديث) رواه أبو داود بإسناد جيد] . تقدم حديث أبي بكرة: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) ويوم النحر هو يوم العيد، وهنا تقول سراء: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس) ومعنى الرءوس: أنهم كانوا في يوم النحر ينحرون الهدي والأضحية، فيأكلون منها لحماً طرياً، وفي الغد يرجعون على الرءوس، فالرءوس كانوا يتركونها في يوم العيد؛ لأنهم ليس لهم بها حاجة، ولما ينتهي لحم الضحايا والهدي يرجعون إلى رءوس ذبائحهم فيأكلونها، فسمي اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق يوم الرءوس. إذاً: أبو بكرة أثبت خطبة في يوم النحر، وهذه الصحابية أثبتت خطبة في ثاني أيام النحر وهو أول أيام التشريق، إذاً: ثبت عندنا الآن خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس، وأما خطبة سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة فهما مجمع عليهما عند الجميع، وإنما الخلاف في الخطبة الثالثة هل كانت في يوم العيد أو في أول أيام التشريق؟ وهنا ساق الأمرين، وعلى هذا تكون الخطب أربع. قوله: (أليس هذا أوسط أيام التشريق؟!) يقولون: الأوسط بمعنى الأفضل؛ لأن هذا هو أول أيام التشريق، أو أن هذا على اعتبار أن يوم العيد من أيام التشريق وأنهم كانوا يشرقون اللحم وينشرونه على الحبال أو على الصخور حتى يجف ثم يأخذونه وهو المسمى بالقديد، إذاً: عينت لنا خطبة في يوم الرءوس، وهو أوسط أيام التشريق، وعلى هذا فهما خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس الذي هو أوسط أيام التشريق.

ما يلزم القارن من الطواف والسعي

ما يلزم القارن من الطواف والسعي قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) رواه مسلم] . هذه المسألة تتعلق بأعمال القارن، ففي أول مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى الحج بعد أن سعى بين الصفا والمروة أمر من لم يسق الهدي بالتحلل، فسئل عن ذلك فقال: (دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) فقالوا: دخول العمرة في الحج أي: أعمالها؛ كإحرامها وطوافها وسعيها وتحللها، فتدخل ضمن أعمال الحج، وقيل: دخلت العمرة في الحج أي: في أشهر الحج التي كانوا يمتنعون أن يعتمروا فيها. وهنا يتفق العلماء على أن المفرد بالحج والمتمتع بالعمرة إلى الحج أن لعمرتهما أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع الحج في شيء، وأن للحج أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع العمرة في شيء، فالمتمتع يبدأ بالطواف بالبيت طواف العمرة؛ لأنه ركن فيها، ثم يسعى بين الصفا والمروة وهذا السعي ركن في العمرة، ثم يحلق أو يقصر وبهذا تنتهي عمرته، ويصير حلالاً، فإذا جاء يوم الثامن (يوم التروية) أحرم للحج، وصعد إلى منى، فعرفات فمزدلفة فمنى فالعقبة، ثم نزل وطاف بالبيت، وهو قد طاف بالبيت قبل ولكن للعمرة، وسعى بين الصفا والمروة ولكن للعمرة، وأما هنا فهو يطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، ثم يحلق أو يقصر للحج. إذاً: المتمتع والمفرد كل منهما له عمل مستقل لا يشترك مع الثاني في شيء، وأما القارن فقالوا: إن عمل القارن هو بعينه عمل المفرد، والعمرة تدخل ضمن أعمال الحج، فيأتي المفرد أول ما يأتي بالطواف بالبيت طواف القدوم، وكذلك القارن إن شاء سعى بعد طواف القدوم سعي الحج والعمرة مقدماً، ثم يبقى على إحرامه إلى أن يذهب إلى منى ثم عرفات ثم مزدلفة ثم منى ثم يرمي الجمرة، ثم ينزل إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة للحج وللعمرة؛ لأنه ركن، ولا يعيد السعي؛ لأنه قد سعى أولاً بعد طواف القدوم، وسعي العمرة قد دخل مع سعي الحج، ثم يحلق عنهما معاً. وهنا الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي وأهل الحديث يقولون: عمل العمرة في القران يدخل في أعمال الحج، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً سواءً بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة، يعني: الطواف الذي هو الركن والسعي الذي هو الركن للقارن واحد لا يتكرر. وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض الطوائف الأخرى فيقولون: للحج طواف وسعي، وللعمرة طواف وسعي، فإذا كان المحرم قارناً ونزل ليطوف طواف الإفاضة قالوا: يطوف طوافين: واحداً للحج وواحداً للعمرة، ويسعى سعيين: سعياً للحج وسعياً للعمرة، هذا عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وإتمام كل منهما يكون بالإتيان بأركانه مكتملة، فإذا اكتفيت بطواف واحد، وبسعي واحد فهذا الواحد لأيهما يكون؟ إن كان للحج فستكون العمرة ناقصة، وإن كان للعمرة فسيكون الحج ناقصاً؟ نقول في الجواب على هذا: إذا كان هذا هو ظاهر نص القرآن الكريم فقد جاء بيانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً صحيحاً، والسنة تفسر القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وهو صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجه، فلم يكرر الطواف، ولا السعي، وإنما اقتصر على طواف واحد، وعلى سعي واحد، وأجزأه ذلك عن حجه وعمرته معاً. وعائشة لما طلبت منه أن تعتمر عمرة مستقلة، قال لها: تكفيك عمرتك في حجك، ويكفيك طوافك وسعيك عن الحج والعمرة، يعني: أن العمرة قد انتهت بانتهاء الحج، وقد دخلت معه، وقد انتهيت من الاثنين، فقالت: لا، أريد عمرة. الحديث، والذي يهمنا أنه قال لها: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهل نقول بعد هذا: لابد من طواف خاص وسعي خاص للعمرة؟! أعتقد أن هذا نص صريح في محل النزاع رافع للإشكال.

عدم مشروعية الرمل في طواف يعقب سعيا

عدم مشروعية الرمل في طواف يعقب سعياً قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم. ] . يذكر لنا المؤلف في هذا الحديث حكم طواف الإفاضة، وقد ذكر لنا أنه رمل في طواف القدوم، وهنا في طواف الإفاضة الذي هو ركن هل يرمل أو لا يرمل؟ ذكر لنا حديث ابن عباس وفيه: (أنه لم يرمل صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة) ، ولماذا لم يرمل؟ لأن الرمل كما يقول الفقهاء: إنما يكون في طوافٍ يعقبه سعي، وهذه قاعدة عامة، والرسول قد سعى قبل عرفات، إذاً: من طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج بعد القدوم، وبقي عليه طواف الإفاضة فقط فليس عليه أن يرمل في طواف الإفاضة، وهذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك طوف الوداع لا رمل فيه، حتى قال بعض الناس: طواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو من حق البيت؛ لأن الحج قد انتهى عند رمي الجمار، وعند النزول من منى بدليل أن من حج وجلس في مكة ولم يغادرها، وسكن فيها، فإنه لا وداع عليه؛ لأنه جالس عند البيت. إذاً: طواف الإفاضة لا رمل فيه لمن سعى قبله، وطواف الوداع لا رمل فيه؛ لأنه خارج عن أعمال الحج، وإنما هو من تتمة تكريم البيت أن يوادعه الإنسان قبل أن يخرج منه.

النزول بالأبطح والمبيت فيه ليس من أعمال الحج

النزول بالأبطح والمبيت فيه ليس من أعمال الحج قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به) رواه البخاري] . لما انتهى صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة، ورجع إلى منى أين صلى الظهر؟ اختلف في ذلك، فمن قائل: صلى الظهر بمكة؛ لأنه دخل وقتها وهو فيها، ومن قائل: رجع إلى منى وصلى الظهر فيها، ومن قائل: صلى بمكة حينما دخل الوقت، ثم لما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم، وعلى كل فقد بقي أيام التشريق كلها في منى ولم يتعجل، وانتهى من منى برمي الجمار، ولما نزل من منى لينصرف إلى المدينة نزل بالأبطح، يقولون: فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح، وكيف صلى الظهر مع أن وقت الرمي بعد الزوال؟ قالوا: أخر الظهر حتى أتى الأبطح فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام، والأبطح كما نعلم هو: في جهة المعلاة، وكان يقال له: خيف بني كنانة. وهنا سؤال عند العلماء في نزوله بهذا المكان (المحصب) أو (خيف بني كنانة) : هل هذا النزول من مناسك الحج ومن أعماله، أو أن هذا كان أسهل وأيسر للسفر؟ سيأتي عن عائشة أنها لم تكن تنزل فيه، وكانت تقول: إنما نزل بالمحصب ليكون أيسر لدفعه، أي: للسفر؛ لأنه يقع خارج مكة والنزول فيه أيسر من أن ينزل في الزحام داخل مكة، وهناك من يقول: إنما قصد النزول في هذا المكان ليشهد هذا المكان ذكر الله والعبادة والنسك، كما شهد كتابة الصحيفة الظالمة، تلك الصحيفة التي كتبت في مقاطعة بني هاشم، وعلقت بالكعبة؛ فهي إنما كتبت في هذا المكان، فكما شهد هذا الموضع في أوائل البعثة مشهد ظلم وجور بكتابة صحيفة المقاطعة فيه، فليشهد عوضاً عنه مشهد ذكر لله وعبادة إلخ. إذاً: بات صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالأبطح كما بات عند الدخول بذي طوى، فهو عند دخوله مكة بات في أولها، ولما أصبح دخل مكة في النهار، وعند الخروج بات في أول مكة في الأبطح، وذو طوى في أولها من جهة المدينة، والأبطح في أولها من جهة منى، وكان هذا المبيت من باب التيسير، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تفعله بعد ذلك، وعلى ما قدمنا فهل هو جبلي ومصلحة للنفر، أو هو تتمة للنسك؟ القول الأولى أنه كان لمصلحة خاصة بعيدة عن النسك، ولا حرج على الإنسان إذا لم يبت فيه، فإن شاء استراح فيه وبيت، وإن شاء مضى إلى سبيله. قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك -أي: النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه. رواه مسلم] . أي: كان مكاناً أسمح وأريح لخروجه من مكة، بدل أن يدخل ويخرج من وسط البيوت. والله تعالى أعلم.

طواف الوداع والتخفيف فيه عن الحائض والنفساء

طواف الوداع والتخفيف فيه عن الحائض والنفساء قال المؤلف رحمه الله: [حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض) متفق عليه] . قول ابن عباس: (أمر) الآمر هنا والذي يملك الأمر في هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فالأمر للوجوب، (ولكنه خفف) والتخفيف لا يكون إلا من تكليف (عن الحائض والنفساء) لأن الحائض لا تطوف بالبيت، والنفساء لا تطوف بالبيت، فلا نحبسهما على شيء ليس بأيديهما. إذاً: طواف الوداع واجب إلا من عذر الحيض أو النفاس، ومن ترك طواف الوداع فماذا عليه؟ جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يرد من لم يوادع إذا كان قريباً من مكة، ويأمره أن يرجع فيوادع ثم يواصل سفره، وإذا كان قد ابتعد عن مكة تركه، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فـ مالك يقول: ليس عليه شيء، والأئمة الثلاثة يقولون: إن تركه قاصداً فعليه دم؛ لقول ابن عباس: (من ترك نسكاً فليرق دماً) . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [11]

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [11] المساجد هي بيوت الله عز وجل، ولكنها ليست في المرتبة والفضيلة سواء، فهي تتفاوت من حيث مكانها، ونوعها، ومن قام ببنائها، ولهذا فضل الله عز وجل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى؛ لأنها في أماكن مقدسة، ولأن من بناها هم أنبياء، ولهذا أجاز الشرع شد الرحال إليها، لفضيلتها ومضاعفة الأجر فيها.

فضل الصلاة في المساجد الثلاثة

فضل الصلاة في المساجد الثلاثة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) رواه أحمد وصححه ابن حبان] .

مناسبة ذكر حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب صفة الحج ودخول مكة

مناسبة ذكر حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب صفة الحج ودخول مكة قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم من أول خروجه من المدينة إلى أن أنهى الحج، ونزل إلى المحصب، وقد ذكرنا أقوال العلماء فيما يتعلق بذلك، وهل كان من المناسك أو كان إرفاقاً بالمسلمين عند الخروج من مكة. والباب هنا: باب صفة الحج ودخول مكة. هذا الحديث الذي يسوقه في نهاية هذا الباب، وقبل أن يأتي بباب أحكام الإحصار بالحج، وماذا يعمل المحصر وماذا عليه؟ والإحصار هو صورة نادرة من صور الحج والعمرة، يأتي المؤلف بهذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ونحن الآن في صفة الحج، وفي صفة دخول مكة، وهذا الحديث موضوعه المسجد النبوي، فما علاقة إيراد هذا الحديث في بيان فضل الصلاة في المسجد النبوي بأعمال الحج المتعلقة بمكة؟ قد يتساءل الكثير في هذا، ولابد للمؤلف من غرض وراء إتيانه بهذا الحديث الذي يتعلق بالمسجد النبوي في نهاية بيان صفة الحج ودخول مكة، فبعض الناس يقول: إن الإتيان بهذا الحديث هنا يتعلق بموضوع المقارنة بين مكة والمدينة -ولكن ليس في هذا إشارة إلى مكة- وأن فيه تفضيل مكة على المدينة؛ لأن صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وبعضهم يذكر مع هذا الحديث حديث الروضة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ويستدلون بهذا على أن المدينة أفضل من مكة؛ للحديث الآخر: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، والشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار على منتقى الأخبار) أتى بأحكام الزيارة للمدينة النبوية عقب مباحث الحج، وقال: لم يذكرها المؤلف هنا، ولكن هذا محلها؛ لأنه جرت عادة الناس أنهم إذا أتوا إلى الحج فإنهم يعرجون على المدينة للزيارة. فذكر الشوكاني رحمه الله ما يتعلق بفضل الزيارة: من شد الرحل إلى المدينة وإلى المساجد الثلاثة، وفضل الصلاة في مسجد المدينة، وما يتعلق بالروضة وفضل الصلاة فيها إلى غير ذلك. والأولى أن مظنة إيراد المؤلف هذا الحديث هنا هو كما أشار إليه الشوكاني، وهو أن الناس في الآونة الأخيرة يجمعون بين الحج والزيارة في رحلة واحدة، وهذا هو الذي نشاهده الآن، فقل من يأتي برحلة خاصة للمدينة، ثم يأتي برحلة خاصة للحج أو للعمرة، حتى الذين يأتون برحلة خاصة للمدينة يأتون بها مع العمرة، فيأتون للعمرة في رجب أو في ربيع الأول أو في رمضان ويعتمرون ثم يذهبون إلى المدينة، إذاً: لما كثر من الناس الجمع بين زيارة المدينة وبين الحج أو العمرة ساق المؤلف هذا الحديث هنا ليرغب في الإتيان إلى المسجد النبوي الشريف؛ لما فيه من هذا الفضل في الصلاة. هذا ما ظهر بالنسبة لإيراد المؤلف لهذا الحديث الشريف هنا والله تعالى أعلم.

هل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة تشمل النافلة أم أنها خاصة بالفريضة؟

هل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة تشمل النافلة أم أنها خاصة بالفريضة؟ أما موضوع الحديث فيقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة) وصلاة هنا نكرة، والنكرة تعم الجنس، أي: جنس الصلاة، فريضةً كانت أو نافلةً، وهذا هو الذي أخذ به الجمهور. ولكن نقل عن الطحاوي من الأحناف أنه قال: (صلاة) هنا في هذا الموضع تنصرف إلى النوع الأهم، وهو الفريضة، أما النافلة فهو يرى أن إيقاعها في البيت خير من إيقاعها في المسجد النبوي، ولكن لا ينفي أنه إذا أوقعها في المسجد النبوي أن تكون بألف، لكنه يقول: (صلاة) تعم فرضاً ونفلاً في المسجد النبوي بألف، ولكن تخصيص النافلة بالبيت خير منها بألف في المسجد النبوي؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويستدل على هذا القول بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من استمرار صلاته النافلة في بيته، مع قرب البيت من المسجد، والمتوقع أنه لن يترك الأفضل ويأتي بالمفضول، فلو لم تكن النافلة في البيت أفضل منها في المسجد لصلاها في المسجد فليس هناك كلفة؛ لأن بيته صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولكن الجمهور حملوا اللفظ على عمومه فقالوا: (صلاة) أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها: فريضة رباعية ثنائية ثلاثية نافلة في ليل أو في نهار، فإن صلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة أو تفضل ألف صلاة فيما سواه، أي: من عامة المساجد.

المفاضلة بين المسجد الحرام والمسجد النبوي

المفاضلة بين المسجد الحرام والمسجد النبوي ثم استثنى من عموم المساجد المسجد الحرام، فكأنه يقول: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في عموم المساجد إلا المسجد الحرام وقوله: (إلا المسجد الحرام) قال بعضهم: الصلاة في المسجد النبوي تفضل ألف صلاة في عموم المساجد وتفضل أقل من الألف في المسجد الحرام، وقال غيرهم: بل تفضل ألف صلاة في عموم المساجد، وتقصر عن فضل الصلاة في المسجد الحرام، يعني: هي أفضل من المساجد كلها، وأقل من الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور.

هل تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة تفضيل وصف أم تفضيل عدد؟

هل تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة تفضيل وصف أم تفضيل عدد؟ وقوله: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة) هل هذه الفضيلة عددية أو وصفية؟ بمعنى هل الألف صلاة المعادلة بصلاة واحدة في المسجد النبوي ممكن أن نوزعها: واحد اثنين إلى ألف، أو هي واحدة، لكنها في النوعية والثواب وفي المعادلة وفي الفضل وفي الخير تساوي ألف صلاة، كما لو اشتريت قلماً بريال واشتريت قلماً بألف ريال، فهو واحد ولكنه يفضل القلم الأول في قيمته وفي نوعيته، فهذا أبو ألف وهذا أبو ريال، إذاً: لن يكتب به ألف كلمة في آن واحد، ولن يستعمل ألف استعمال في وقت واحد؟ الجواب: إنما هو في الفضيلة والنوعية، وعلى هذا لو أن إنساناً عليه خمس فوائت، وصلى في المسجد النبوي صلاة من نوع تلك الفائتة فهي في ذاتها تعدل ألفاً، ولكن لا تسقط عنه شيئاً مما عليه من الفوائت، ولو صلى واحدة من الخمس الفوائت عليه في المسجد النبوي فإن صلاة تلك الفائتة تعدل ألفاً، ولكن لا تجزئ إلا عن واحدة من الخمس، وتبقى الأربع في ذمته.

شمول الفضل المذكور في الحديث للتوسعة التي بنيت في المسجد النبوي

شمول الفضل المذكور في الحديث للتوسعة التي بنيت في المسجد النبوي وقوله: (صلاة في مسجدي هذا) اختلف كلام العلماء في تحديد (مسجدي هذا) فيرى بعض العلماء أن كلمة (هذا) للتخصيص والتعيين؛ لأنه كما يقولون: (هذا) اسم إشارة يعين المسمى ويحدده، كما تقول: هذا الرجل فلا يتعدى إلى غيره، وكما تقول: هذا الكتاب فلا يتعدى إلى كتاب آخر، فهذا اسم يعين المسمى بالإشارة الحسية، فقالوا: الذي أشير إليه عند التحدث بهذا الحديث هو المسجد الذي كان موجوداً بالفعل عند التحدث بهذا الحديث، يعني: أن كلمة (هذا) أشارت إلى الحاضر، فما تجدد بعد ذلك فهل تشمله كلمة (هذا) التي وقعت في السابق أو لا تشمله؟ البعض كما تقدم يقول: لا تشمله، قال بذلك النووي وغيره، وأخذ بذلك المالكية، وبعض من وافقهم وقالوا: إن قوله: صلاة في مسجدي هذا) يراد به المسجد الذي كان موجوداً وأشير إليه بالإشارة الحسية (هذا) ، إذاً: ما طرأ من زيادات بعد كلمة (هذا) لا يدخل فيما أشير إليه من قبل؛ لأنه لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، والجمهور على أن (مسجدي هذا) هو للتخصيص، ولا يمنع من دخول الزيادات؛ لأن الزيادات مهما طرأت لن تخرجها زيادتها عن كونها من مسجد رسول الله، ولكنه أراد بكلمة (هذا) تخصيص المسجد النبوي بالفضل دون بقية المساجد التي كانت موجودة في المدينة آنذاك، فكان هناك مسجد موضع المصلى، وإن كان لم يبن مسجداً، وكانت هناك مساجد في أطراف المدينة، فكان هناك مسجد بني سلمة الذي تحولت فيه القبلة، وكان هناك مسجد قباء، وكانت هناك مساجد يميناً ويساراً، فأراد بكلمة (هذا) يعني: دون بقية المساجد التي توجد في المدينة، وكلها مساجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: قوله (صلاة في مسجدي هذا) هذه الفضيلة الجمهور على أنها عامة تشمل ما كان موجوداً عند الإشارة إليه، وتشمل كل ما زيد فيه وضم إليه، ويستدل الجمهور على هذا التعميم والاتساع ببعض الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال ومنها: (إنه لمسجدي ولو امتد إلى صنعاء) وقد جاء في الأثر الصحيح الموقوف على عمر رضي الله عنه أنه بعد ما وسع المسجد النبوي من الشمال ومن الغرب، رأى أن بعض الناس ربما تساءل أو توقف أو تردد في إيقاع الصلاة في تلك الزيادة العمرية، ويحرص على أن يدخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في حال حياته، فلما لاحظ هذا منهم قال: (والله! إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: كل ما تأتي من زيادة فهي من المسجد النبوي، وأكبر زيادة شهدها المسجد النبوي هي في هذه الآونة، ويمكن أنه بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل تحصل زيادة على هذه الزيادة، ولكن مهما بلغت الزيادة فيه فهي لن تبلغ إلى ذي الحليفة، فقول عمر رضي الله عنه: (ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: إبعاداً للمدى وأنه مهما قدر اتساعه نظرياً فإنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى كل فالمؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث هنا ليبين فضيلة الصلاة في المسجد النبوي للقادمين الذين يجمعون بين الحج أو العمرة وبين الزيارة إلى المدينة، وهناك مباحث عديدة في هذا الموضوع منها:

تفاوت أجزاء المسجد النبوي في الفضل

تفاوت أجزاء المسجد النبوي في الفضل هل الصلاة في المسجد النبوي في جميع أجزائه سواء أو تتفاوت؟ كثير من المؤلفين يأتي بحديث الروضة بجانب هذا الحديث، وفعل هذا البخاري ففي باب التهجد والنوافل ذكر فضل المدينة وفضل الصلاة في المسجد النبوي وذكر حديث الروضة، قال ابن حجر عند هذا: (لقد ساق البخاري هذا الحديث: (بألف صلاة) في كتاب التهجد والنوافل ليبين على أن (صلاة) تشمل النافلة والفريضة، وساق أيضاً في فضل الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حديث الروضة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه هي الرواية المشهورة، وقال ابن حجر: جاء عند ابن عساكر وحده) ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وهو باطل، ثم ذكر أنه عند البزار برجال ثقات ولفظه أيضاً: (ما بين قبري ومنبري) قال: وجاء عند الطبراني أيضاً ولفظه: (ما بين قبري ومنبري) قال: وهذا على سبيل التأويل، وعلى سبيل المقاربة؛ لأن بيته قد أصبح قبره، ويقول ابن حجر عند قول المؤلف: فضل الصلاة بين القبر والمنبر، وجاء بالحديث: (ما بين بيتي ومنبري) فقال ابن حجر بوب باسم القبر وساق حديث البيت ليبين أن رواية القبر صحيحة، ولأن القبر والبيت سواء، وسبق أن جرت مناقشة في هذا الموضوع وكانت النتيجة أن هذا من باب الإشعار والإيماء والتنبيه لذوي الألباب والنهى، قال ذلك في حياته؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يقول: قبري وهو على قيد الحياة فإن هذا لا يمكن أبداً، وهنا الكلام على صحة الرواية، وإذا صحت الرواية في هذا الحديث فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين قبري) وهو على قيد الحياة وقوله: (ما بين بيتي) يدل على أن البيت والقبر سواء. إذاً: ينتبه بهذا من ينتبه إلى أن بيته سيصبح قبره، وأنه سيدفن في بيته ويقبر فيه، ولهذا لما التبس على الصحابة: أين يدفنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل منهم: نرده إلى مكة، ومن قائل: ندفنه في مقابر المسلمين، ومن قائل: يدفن في بيته، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقل نبي عن المكان الذي مات فيه، وما مات نبي إلا في المكان الذي يقبر فيه) ، فأزاحوا الفراش، وحفروا في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها. وقد جاءت أخبار عديدة حول هذا، وفي جعله في بيت عائشة حماية له لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ولولا ذلك لأخرج قبره أي: خارج الحجرة، ولو أخرج لكان هناك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله له، وعصم قبره من أن يكون وثناً يعبد، وأصبح في بيت بعيد عن اللمس، بعيد عن أعمال غير مشروعة، وقد جاء أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما تمت القبور الثلاثة كان الناس يأتون إليها في بيتها زيارة، ويأتون ويسلمون على الثلاثة، ويأخذون من تربة المكان. فبنت جداراً على القبور الثلاثة، واقتصرت على الباقي من الحجرة سكناً لها، والموضوع ذو شعب، ويبقى قول: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ... ) على العموم، ويأتي النظر في الصلاة في الروضة على ما جاء في فضلها في الرواية المشهورة: (ما بين بيتي ومنبري) أو: على الرواية الضعيفة: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وإذا كانت روضة من رياض الجنة فهل تتميز فيها الصلاة عن غيرها من المسجد أو لا تتميز؟ صنيع البخاري يدل على أنها تتميز؛ لأنه ذكرها في عرض سياق فضل المسجد النبوي والصلاة فيه، إذاً: الروضة يكون لها مزية على بقية أجزاء المسجد، يضاف إلى ذلك كثرة صلاة وجلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكثرة اجتماع وجلوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم حوله فيها، وكثرة ما يكون من الأحاديث ومن الحكمة ومن الوحي الذي كان يتنزل فيها. إلخ.

هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟

هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟ وهنا بحث آخر: حينما كان في العهد الأول كانت الروضة مع الصف الأول على خط مستقيم، ولما حصلت الزيادة من جهة القبلة انتقل المحراب إلى القبلة، وأصبح هناك أربعة أو خمسة صفوف خارجة عن الروضة إلى الجنوب، فهل نقدم الأحاديث الواردة في فضل الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه) (لتجالدوا عليه) (لأتوه ولو حبواً) وقوله: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول) وقوله: (خير صفوف الرجال أولها) فهذه كلها آثار في فضل الصف الأول. وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟ ونجد أيضاً: أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟ قلنا: بأنه يمكن أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد عند ابن ماجة: أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر) إذاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول، وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟ الصحابة قدموا الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة. ثم جاء بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله: ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو الفضيلة النسبية؟ والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل، والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة، فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين درجة من أجل الصلاة؟ ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة، إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة لكونها جماعة. وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات فيه إضافية لكثرة الخطى. إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) فيكون التحري للصف الأول أولى من التحري للروضة. وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة. والبناء الثاني كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع. فيأتي بعض الناس من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت) آنيت: من الأين وهو الوقت أي: تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.

وجه تخصيص المساجد الثلاثة بهذه الفضائل

وجه تخصيص المساجد الثلاثة بهذه الفضائل إذاً: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) وقد جاءت نصوص تؤكد صحة الاستثناء وتبين أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي بمائة مرة، إذاً: صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجده بمائة، إذاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وجاء في الحديث الذي جمع المساجد الثلاثة: (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة) . وهنا مبحث يرتبط بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) خصت المساجد الثلاثة بجواز شد الرحل إليها، وخصت المساجد الثلاثة بمضاعفة الأجر فيها، فلماذا؟ الأرض هي أرض الله، والمساجد كلها بيوت الله، كما قال تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وأي مسجد في أقصى الدنيا فهو بيت الله، ولكن كما أن الله سبحانه وتعالى اختص جزءاً من المسجد النبوي بأن كان روضةً، وهذا جزء من الأرض بصرف النظر عن المعاني التي قيلت فيه، واختص الله سبحانه وتعالى بقع المساجد الثلاثة دون غيرها، واختص الله مكة والمدينة وفضلهما على بقية البلدان، وحتى في الزمان فإن الله قد اختص شهر رمضان وجعل ليلة فيه خيراً من ألف شهر، واختص يوم الجمعة واختص فيه ساعة، واختص يوم عرفة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، إذاً: هناك اختيار من الله وتفضيل لبعض أجزاء الكل على بعضه، فاختار ساعةً من أربع وعشرين ساعة، وليلةً من ليالي السنة، ويوماً من أيام السنة، وشهراً من شهور السنة، وهكذا يختارها الله ويفضلها، كما اختار من بعض البشر رسلاً وفضلهم على كثير من العالمين. فقالوا: إن سبب مضاعفة الصلاة في هذه المساجد الثلاثة وجواز شد الرحل إليها لأنها هي المساجد المقطوع بعينها، ولو جئت إلى أي مسجد في العالم؛ كمسجد موسى أو مسجد هارون أو مسجد نوح فكلها خاضعة للنظر من حيث سبب تسميتها ومن قام على بنائها، وأما الثلاثة فهي مقطوع بها؛ ولأن هذه الثلاثة اشتركت في عناصر أساسية: اشتركت في كون اختيار مكانها من الله، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة) وفي الأثر أن الله قال لداود عليه السلام: (ابن لي بيتاً في بيت المقدس حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه) فالله تعالى هو الذي عين أماكن المساجد الثلاثة، ثم قام على بنائها أنبياء ثلاثة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] ومعه إسماعيل، والمسجد النبوي بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وكانوا يقولون عند البناء: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فكانوا يحملون الحجارة ويحمل معهم. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطط وبنى المسجد النبوي، وكذلك مسجد بيت المقدس بناه نبي الله داود، فكون اختيار المكان، وإقامة البناء والإشراف عليه من رسل الله بتوجيه من الله جعل لهذه المساجد فضيلةً على غيرها. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الحج - باب الفوات والإحصار

كتاب الحج - باب الفوات والإحصار الإحصار هو مانع يمنع الناسك من الوصول إلى البيت العتيق لأداء نسكه، وسواء كان الإحصار بمنع عدو، أو كان لمرض أو أي مانع يمنع بينه وبين أداء النسك. وقد أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فتحلل التحلل الكامل: فحلق رأسه، ونحر هديه، وأتى نساءه. والاشتراط في النسك من السنة لاسيما في هذه الأيام مع كثرة حوادث السيارات، وفائدة الاشتراط أنه يجوز للمشترط التحلل في مكانه الذي أحصر فيه، ويسقط عنه الهدي، ولا ينتظر حتى يذهب السبب ثم يمضي في نسكه.

حديث: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه.

حديث: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي عنهما قال: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً) رواه البخاري] .

إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية

إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يخبرنا عن إحصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحلله حينما أحصر، وأن هذا كان في صلح الحديبية عندما منعه المشركون من أن يصل إلى البيت، وكتبوا الاتفاقية معه أن يرجع من عامه هذا، ويأتي العام القابل، وله أن يمكث في مكة ثلاثة أيام، ولما تم الصلح وكتبت الصحيفة، وهم في منزلهم يقولون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوح بين الحل والحرم، لأن الحديبية على حدود حرم مكة، حتى قال بعضهم: كانت خيامهم ومساكنهم في الحل، وإذا أرادوا الصلاة تقدموا وأوقعوا الصلاة في الحرم؛ لفضيلة مضاعفة الصلاة في الحرم.

التحلل من الإحصار: كيفيته ونوعه

التحلل من الإحصار: كيفيته ونوعه لما أحصر صلى الله عليه وسلم وتم الاتفاق -يقول ابن عباس:- (نحر هديه، وحلق شعره، وأتى النساء) . حلق الشعر يدل على التحلل الأصغر، ولكن بقي التحلل الأكبر ولم يحصل طواف، فـ ابن عباس يؤكد أن تحلل النبي صلى الله عليه وسلم في إحصاره يعتبر التحلل كله: الأصغر والأكبر؛ لأنه لو لم يكن التحلل كله ما أتى نساءه، لأننا في الحج والعمرة وجدنا أنه لا يحل للإنسان الجماع إلا بعد أن يكمل النسك، وفي الحج بعد أن يطوف طواف الزيارة -الذي هو الركن الأخير في الحج- فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالعدو، وكان عنده موعد العام القادم، لم يمكث على إحرامه إلى العام القادم، وإنما تحلل. وأي أنواع التحلل تحلله صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح؟ التحلل كله، ونحر هديه، في الحل حيث نزلوا، أو قدموه إلى الحرم، والصحيح أنه في مكانه في الحل كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حينما دخل عليها صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقالت: من أغضبك، أغضبه الله؟ قال: وما لي. إلخ. قالت: أتحب أن يفعلوا ذلك؟! قال: بلى. قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، فخرج ونحر هديه. إذاً: فهي رضي الله عنها ما قالت: اذهب به إلى الحرم، ولا ذهب به هو إلى الحرم، فذهب ونحر هديه حيث كان الهدي، وتسابق الناس بالنحر. إذاً: المحصر ينحر هديه حيثما أحصر. وسيأتي في النصوص: أنه نحر، ثم حلق، وأمر أصحابه بذلك، وهذا الترتيب -كما يقول بعض العلماء- واجب في حالة الإحصار، بخلاف الحج، فقد جاء: أنهم كانوا يخلون في الترتيب فكان الواحد منهم يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. ما شعرت حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انحر ولا حرج. وما سئل عن شيء قدم أو أخر في ذلك اليوم إلا قال: (افعل ولا حرج) لكن هنا لابد من ترتيب. إذاً: المحصر بالعدو أياً كان نوعه -كما يقول العلماء- سواء كان مشركاً أو معتدياً أو باغياً ظالماً، فإن المحرم يتحلل. وهل عليه هدي أو ليس عليه هدي؟ هناك من يقول: عليه هدي لتحلله، وهناك من يقول: ليس عليه هدي، وفي كلا الأمرين جاءت النصوص، ويجمع بعض العلماء قائلاً: إن كان قد اشترط عند إهلاله وقال: محلي حيث حبستني، تحلل ولا هدي عليه، وإن لم يكن قد اشترط تحلل وعليه الهدي.

قضاء المحصر للحج والعمرة

قضاء المحصر للحج والعمرة ثم يأتون إلى القضاء: إن كان محصراً عن عمرة فهل يتعين عليه أن يقضي تلك العمرة، أو أن هذه العمرة قد مضت إلى سبيلها؟ وإذا كان قد أحصر عن حج فهل يقضي هذا الحج، أو أن هذه الحجة قد مضت إلى سبيلها؟ ما يمكن أن يقال: الحجة مضت في سبيلها؛ لأن الحج فيه وقوف وسعي، وفيه أشياء كثيرة، فالذي عليه الجمهور: لا قضاء على من أحصر في نسك. وعمرة القضية -عمرة القضاء- وقد وقعت في السنة التي تليها بعدما أحصر، على حسب الشرط: يأتون بعدها في السنة القادمة، وفي نفس الشهر، ويؤدون عمرتهم؟ قالوا: هذه العمرة ليست قضاءً عن الماضية، وإنما سميت: عمرت القضية، وعمرة القضاء؛ للمقاضاة -بين الفريقين- المكتوبة في الصحيفة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في السنة القادمة لم يؤكد على جميع من حضر في السنة الماضية أن يذهب ويقضي عمرته، ولم يطلب منهم ذلك وكما يذكرون عن الشافعي أنه يجزم بأن أشخاصاً حضروا العمرة الأولى في الحديبية ولم يحضروا في العمرة الثانية عمرة القضية. أما إذا كان أحصر في الحج فقالوا: الحج فرض في العمر مرة، وهذا الذي أحصر لم يؤد الغرض، إذاً: عزم على الحج وحيل دونه، فلا يسقط الفرض عن نفسه بل بقي عليه ويحج من قابل كما قال عمر لـ أبي الدرداء وغيره. يعني: الحج مطلوب منك أولاً؛ لأنك لم تسقطه عنك بما أحصرت فيه، وهذا غاية ما يبحث في موضوع الفوات والإحصار.

حديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة.

حديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة ... ) يقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه] .

الاشتراط في النسك وأهميته

الاشتراط في النسك وأهميته هذا الحديث ينازع فيه كثير من العلماء، فهي قالت: يا رسول الله! أنا أريد الحج ولكني شاكية مريضة، لا أدري ماذا أصنع وما يطرأ علي في الطريق هل أبلغ المناسك أم لا؟ فقال لها: حجي -يعني: وأنت على حالتك- واشترطي على ربك. لبيك اللهم حجاً! اللهم إن محَلي -أو محِلي: أي: موضع إحلالي- حيث حبستني، فأسندت الأمر إلى الله، إذا حبسها بالمرض الذي هي شاكية منه، أو حبسها بأي حابس آخر؛ لأن كل شيء مرده إلى الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] . قوله صلى الله عليه وسلم: (واشترطي) . وهنا يقول بعض العلماء هذا الاشتراط كان خاصاً بهذه المرأة، والاشتراط لا يسقط شيئاً، وإذا ما أحصر هذا المشترط وتحلل فعليه هدي كغيره، وإذا لم يجد هدياً فصيام ثلاثة أيام في مكانه، وسبعة إذا رجع إلى أهله. قال الجمهور: إذن: ما فائدة الاشتراط إذا كان لا يعفيه من الهدي؟ وما فائدة الاشتراط إذا كان لا يستفيد منه في أن يتحلل مكانه؟ وهنا جاء التعميم سواء كان الإحصار بمرض أو بعدو: (محلي حيث حبستني) . وفي عموم الحبس والإحصار رد على من يقول: لا إحصار إلا في العدو، ومن الإحصار -كما ينص مالك -: من كُسِر أو عُرج. إلخ. إذاً: الاشتراط في النسك عمرة كان أو حجاً يساعد المحرم أو الناسك في إعفائه من الهدي إن تحلل، وفي جواز وإمكان تحلله في مكانه، وليس بلازم أن يبقى محرماً حتى يتعافى ويأتي إلى مكة ويتحلل بطواف وسعي بعمرة. وهنا أعتقد أنه يلزم كل إنسان أراد الحج أو العمرة -وخاصة مع حوادث السيارات عافانا الله وإياكم جميعاً أو الإخوان الذين يحاولون التحايل على المرور في التصاريح وعدم التصاريح- أن يشترط بقوله: (محلي حيث حبستني) ، إن فسح له الطريق ومضى فالحمد لله، إن سلم بسيارته ونفسه ومضى فالحمد لله كثيراً، وإن قدر عليه شيء، وردته السلطة من الطريق (فمحلي حيث حبستني) وإن حصل هناك -لا قدر الله- من حوادث السيارات، أو تعطلت السيارة حتى فاته الحج: فمحلي حيث حبستني. فيستفيد الإنسان من هذا الاشتراط -على قول الجمهور- أنه يسقط عنه الهدي، ويبيح له التحلل في مكانه، ولا ينتظر حتى يذهب السبب ويمضي إلى مكة فيتحلل من إحرامه بالحج بعمل العمرة، وينتقل من نسك إلى نسك، ويبقى الحج إن كان فرضاً فيكون باقٍ عليه، وإن كان نافلة فعلى الخلاف المتقدم: هل يلزمه القضاء أو لا يلزمه?! هذا ما يتعلق بموضوع الشرط.

حديث: (من كسر أو عرج فقد حل.

حديث: (من كُسر أو عرج فقد حلّ ... ) يقول المصنف رحمه الله: [وعن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كُسر، أو عَرِج، فقد حل، وعليه الحج من قابل. قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق) رواه الخمسة وحسنه الترمذي] . هذا الحديث يأتي به المؤلف رحمه الله ليبين أن الإحصار عام: (كسر أو عرج) العرج: يكون في الرجل، والكسر: يكون في محلات عديدة، وبعضهم يقول: إن الإحصار عام في أي مانع يمنع عن إكمال النسك، فلو أن رجلاً لدغته عقرب فهو محصر، وسواء لدغ بعقرب أو بعقربين فليس بمحصر ما دام حياً ولا يمنعه هذا من المضي في طريقه، فيرقي برقية العقرب ويمضي في طريقه، لكن يهمنا التنبيه على التوسع، وكما كان يفعل بعض السلف، وربما أفرط فيستدل بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] على الإفطار في نهار رمضان، فإذا قال: أصابعي تؤلمني! تقول: إن كانت أصابعك تؤلمك هل يبيح لك الفطر؟! لا، الفطر في البطن وليس في الأصابع. إذاً: التطرف في مثل هذه المسائل، والتوسع فيها على غير أساس ليس له موجب مذموم. فالمؤلف رحمه الله يرد بهذا الحديث على من يقول: لا إحصار إلا بعدو، والذي أحصر بالعدو يتحلل، والذي أحصر بغير العدو لا يتحلل حتى يذهب المانع، ويمضي إلى مكة، إن كان أحصر في عمرة أتم عمرته، إن كان أحصر في حج: ذهب وتحلل من حجه بعمرة، وعليه حج من عام قابل، وقوله: (عليه حج) هذه مطلقة سواء كان الحج الذي أحصر فيه نافلة أو فريضة، فالجمهور تمسكوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: عليه حج من عام قابل، وجاء عن ابن عباس ما فيه رد على هذا، قال: من تحلل للذة فعليه الحج من قابل، وعليه الهدي، ويقصد بهذا إذا كان حاجاً، لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذا وقع بينه وبين زوجه في الحج قبل الوقوف بعرفات فسد حجه لتلذذه، وعليه المضي في حجه هذا الفاسد، وعليه حج من عام قابل، سواء كان الذي أفسده فرضاً أو نفلاً؛ لأنه باختياره. وهنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا ما أحصر بغير لذة، وفاته الحج بغير قصد منه، فحينئذ لا يجب عليه إعادة الفريضة، إلا إذا كان الذي أحصر فيه هو حج الفرض؛ لأن بإحصاره لم يوقع الفرض المطلوب منه، فتكون الذمة لا زالت مشغولة بفريضة حجة الإسلام، فليأت بها. والله تعالى أعلم.

البيوع

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [1] خلق الله الناس وقسم أرزاقهم، ومعاشاتهم، وجعلها في أصول المكاسب الثلاثة: التجارة، والزراعة، والصناعة، وللبيوع أحكام كثيرة، بينها أهل العلم على ضوء الكتاب والسنة.

شرح حديث: (أي الكسب أطيب)

شرح حديث: (أيُّ الكسب أطيب) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه البزار وصححه الحاكم] . بدأ المؤلف رحمه الله كتاب البيوع بهذا الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب الكسب، ما هو؟ وبعض العلماء يقول: إن جميع المكاسب راجعة إلى الزراعة والتجارة والصناعة، يعني: هذه الثلاثة، التي فيها التنمية، وفيها نمو المال، أو نمو المادة الخام وتطورها، فالزارع: حبة بذر يجعلها المزارع في الأرض، فتنمو إلى سبع سنابل {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، الحبة نمت إلى سبعمائة، فهذا نمو، كذلك التجارة: يأخذ السلعة بعشرة ويبيعها باثني عشرة، هذا أيضاً نمو، ويجتمع له هذا النماء، كذلك الصنعة يأخذ القطن فيغزله، ويأخذ الغزل فينسجه، ويأخذ النسيج فيفصله وهكذا تتطور المادة الخام على أيدي الصناع كل بحسبه، وفي كل مرحلة من هذا التصنيع تنتفع الأمة. إذاً: أصول المكاسب هذه الثلاثة، ثم يختلفون أيها أفضل، أهي الزراعة، أم التجارة؟ فبعضهم يقول: الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، أنزل منها جزءاً إلى الأرض، وادخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة، والجزء الذي نزل إلى الأرض منه تسعة وتسعون في التجارة، والباقي في الصناعة، وفي الزراعة، وفي الأمور الأخرى. والذي يرجحه العلماء: أن أفضل الكسب الزراعة؛ لأن الزراعة يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والطير، فكل هؤلاء يستفيدون من عمل الفلاح. وبعضهم يقول: هناك كسب آخر، لكنه راجع إلى عمل اليد، وهو الكسب من الغنائم في الجهاد في سبيل الله، ويقول آخرون: الجهاد من عمل اليد، فلم يخرج عن هذه الثلاث.

الحرص على أطيب الكسب وفائدته

الحرص على أطيب الكسب وفائدته قوله: (أطيب الكسب) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة -ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام، أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك) ، وفي الحديث الآخر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام) إذاً: حرمة المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب إلا ليتحروه ويعملوا به فماذا كان الجواب؟ قال: (عمل الرجل بيده) . يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها. وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني. من هنا فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع وإنما يتابع الدراهم أين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] ، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده. فالموظف في آخر الشهر، يذهب ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية، هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل: لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة: نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس. لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس! إذاً: أطيب الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة وكذا وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس. وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛ لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن، وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع الصناعة أو. إلخ فهو كسب باليد. إذاً: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده) .

البيع المبرور

البيع المبرور قوله: (وكل عمل مبرور) . وهذا ما أشرنا إليه: أي نوع من أنواع الكسب، البيع هل هو في عمل الرجل بيده أم لا؟ فالبائع يأتي بالسلعة ويذهب إلى الدكان ويوزن ويعطي هذا وهذا. إلخ، إذا انتهت البضاعة ذهب إلى تاجر الجملة وأتى بها، فهو يعمل بيده ورجله، ولكن لكون البيع المبرور من أميزها، والمبرور هنا: المفعول بالبر فهو: سالم من الغش، سالم من التدليس، سالم من غبن الجهال، سالم من انتهاز الفرص مع الحمقى، ومع الذين لا يعرفون الأسواق، فبعضهم إذا رأى إنساناً جاهلاً لا يدري عن شيء انتهز الفرصة ورفع الأسعار، وإذا رأى إنساناً حاذقاً ويعرف كل شيء تأدب معه فهذا ليس بيعاً مبروراً، بل يجب عليه أن يبر بيعه، وينصح إذا سئل عن سلعة معينة والآن في الوقت الحاضر مثلاً: هناك ماركة معينة راجت عند الناس، فيطلبها إنسان بالسماع، وهو لا يدري عنها، فجاء هذا البائع مستغلاً الفرصة وقال: هذا جاهل لا يدري كوعه من بوعه، فأعطاه سلعة غير الماركة المطلوبة، وقال له: هذه هي. وذاك لا يدري، فهذا البيع ليس مبروراً، بل هو غش. فالبيع المبرور: أولاً يتحرى فيه نوع السلعة وأنها حلال، ونوع السعر، فلا يستغل الضعاف في الزيادة والنقص، وإنما يعامل الناس معاملة واحدة، وقد يتفاوت البيع بعض الشيء فيتساهل مع هذا بواحد في المائة، ويزيد على هذا واحداً في المائة، فهذا يعوض هذا، المهم إلاّ يكون الغبن فاحشاً. وأحياناً تكون السلعة موجودة عند البائع، ولكنه يقول: ما عندي، ولكن أنا أقدر أن آتي لك بها ولكن بزيادة قليلة!، وجد المشتري في حاجة إلى السلعة، ومضطراً إليها، فلو قال له: هي عندي، خذ، فإن المشتري سيساومه على الثمن، ولكنه يقول له: هذه السلعة معدومة، ولكن يمكن أن أوفرها لك من عند بعض التجار، ولكن بسعر فيه زيادة قليلة، ولماذا هذه اللفة الطويلة؟! من أجل الاحتيال على المشتري والزيادة في السعر! وكذلك من عدم البر في البيع: ترويج السلع بالأيمان فيحلف أيماناً بأنها الممتازة، والجيدة، والجديدة. إلخ، وأن سعرها كذا وأنا تساهلت معك لماذا هذا كله؟! وأنت ترى إذا عرف تاجر في بلد بصدق الكلمة، وتوحيد السعر، كان موضع ثقة عند الجميع، وإذا عرف إنسان بعكس ذلك تجد الناس يتواصون بالحذر منه: فلان احذر منه! إذا جئته فانتبه منه! لماذا هذا؟! والتاجر الأمين مع النبيين والصديقين. الأجير في عمله إذا عمل بيده فعليه أن يعمل عملاً مبروراً، فإن كان أجيراً باليوم فلا يضيع اليوم والزمن في الذهاب والإياب والمراوغة، فإذا أراد أن يصلي العصر تراه يذهب يتمشى، وبدلاً من أن يتوضأ يذهب يستحم، لماذا هذا كله؟ والبر في البيع بجميع أنواعه: هو الإخلاص، وعدم الغش، والنصح لله، ولعامة المسلمين، في تلك السلعة وفي غيرها، كذلك المشتري يجب عليه أن ينصح في الثمن، فلا يأتي بنقد مغشوش، ويقول: هذا البائع بدوي لا يدري المغشوش من الصحيح، ويقدمه له على أنه نقد صحيح فلو كانت معه ورقة خمسمائة ريال مزورة، وأعطاها لواحد بدوي لا يعرف الورق، ولا يعرف النقد، فهذا سينظر إلى الأصفار وسيرى الخمسة فيأخذها، ولكنه لا يعرف المزيف من غير المزيف. إذاً: البر مطلوب من الجانبين: جانب البائع، وجانب المشتري.

شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر)

شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر) قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه} متفق عليه] . لاحظوا هذا الترتيب! بدأ المؤلف بالترغيب في أطيب الكسب: عمل اليد، البيع المبرور، عمل اليد دخلت فيه الزراعة، ودخلت فيه الصناعة، ودخلت فيه التجارة، لكن لاختصاصها جاء بهذا الوصف: البيع المبرور، ورغب الناس في الكسب الحلال، ثم بدأ بما يتمشى مع العنوان: قال: كتاب البيوع، ثم قال: شروطه -أي: شروط البيع- وما نهي عنه، وأين: ما أمر به؟ لا يوجد لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما أنبتت الأرض، وأخرجت البحار، وأمطرت السماء، وجاءت به الأشجار. كل ذلك الأصل فيه الإباحة ما لم يرد الحظر، كما أن الأصل في العبادة الحظر ما لم يأت إذن، فهل تصلي العشاء الآن؟ ممنوع، متى نصلي؟ حينما يأتي الإذن، العشاء نصليها خمس ركعات؟ لا، ممنوع. كم نصليها؟ على ما جاء به الإذن: أربع، جاء الإذن في الصبح باثنتين، وفي المغرب بثلاث، إذاً: الزيادة محظورة وهكذا فالأصل في الأعيان الإباحة، والأصل في العبادات الحظر. فلما كان الأصل في الأعيان الإباحة؛ فكل شيء يجوز بيعه، إلا ما جاء النص في تحريمه، إذاً: نحن الآن نحتاج إلى بيان ما يباح بيعه، أو نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه؟ نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه، ولهذا قال المؤلف: شروطه، وما نهي عنه. فبدأ بأشد الممنوعات، وذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه تاريخ الرواية: في فتح مكة: حرّم الله بيع الخمر.

تحريم الخمر شربا وبيعا واستعمالا

تحريم الخمر شرباً وبيعاً واستعمالاً الخمر من حيث هي اسم جنس يصدق على كل ما خامر العقل، والتخمير: من الخمار وهو الغطاء على الوجه، (خمروا الإناء فإن البلاء ينزل في ليلة من السنة) ، (خمر -أي: ضع عليه الغطاء- فإن لم تجد فضع عليه عوداً وقل: باسم الله) فالخمر: اسم جنس لكل ما خامر العقل، سواء كان سائلاً، أوجافاً، بأي نوع من الأنواع، فهو خمر في مسماه اللغوي، والشرع جعل كل ما أسكر خمراً، ولو كان لا يسكر منه إلا الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر منه ملء الفرق فملء الكف منه حرام) ، وليس المراد من هذا التحديد بملء الكف، وأن خمسة كفوف، وعشرة كفوف، ليس بمسكر وليست حراماً، لا، ولكن المراد: المقابلة بين الكثير والقليل، وأن الجميع محرم، فالقطرة الواحدة حرام شرباً وبيعاً. كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم، ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم يختمر- تركه لغيره ولم يشربه. فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه) . وتحريم البيع يدل على المنع، وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال. يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم) لو قال: إن الله حرم، فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله أيضاً. (إن الله حرّم بيع الخمر) ، يعني: إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرما بيع الخمر. وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً، شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر، يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: يا خالد! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا وكذا، وقد علمت أن الله حرمها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-. فكتب إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا تموتوا على ذلك. فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لمن أراد أن يرجع إليه. فهنا قول عمر: قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء مطهر. (إن الله حرم بيع الخمر) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.

حكم بيع الميتة والانتفاع بها

حكم بيع الميتة والانتفاع بها قوله: (والميتة) . حرم بيع الميتة، الميتة جاء النص في تحريمها، ويرى بعض العلماء أن النص مجمل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، فقال: حرمت في ماذا؟ هل أكلها، بيعها، شراؤها؟ قالوا: هذا مجمل. والآخرون قالوا: لا، ليس مجملاً؛ لأن الفائدة من الميتة كانت قبل الموت إذا ذكيت بالأكل، وليس هناك أي جانب انتفاع إلا الأكل، فلما حرم بيع الميتة حرم أكلها، كما حرمت الخمر وحرم شربها. والنقاش في نجاسة الميتة، ونجاسة الخمر، وبالتالي نجاسة الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم النجاسة في الميتة من حكم تحريمها، وذلك حينما مر صلى الله عليه وسلم بشاة -لـ ميمونة - ميتة يجرونها، فقال: (هلا انتفعتم بإهابها) -الإهاب لغة: الجلد قبل الدبغ- (فقالوا: إنها ميتة يا رسول الله!) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنها ميتة، فهو يراهم يجرونها، وهل خفي عليه أنها ميتة، أم أنه يراها؟! هو يراهم يسحبونها، ويرى أنها ميتة، لكن قولهم: إنها ميتة، لا لإخباره بموتها؛ لأنه مشاهد، ولكن للازم موتها وهو النجاسة، (إنها ميتة) ، بمعنى: إنها نجسة بالموت، وكان جوابه إياهم بمقتضى هذا، فقال: (يطهره -أي: الإهاب- الماء والقرظ) إذاً (إنها ميتة) لا يعنون بذلك الإخبار، وإنما يعنون النجاسة، وهو يكلمهم عن الإهاب، وخاطبهم في الطهارة والنجاسة، لا في الأكل والشرب، قال: يطهره. إذاً: يطهره، رداً على استشكالهم النجاسة اللازمة للميتة، فقوله: (يطهره) أي: نعم هي ميتة، ونعم هي نجسة كما قلتم وفهمتم، ولكن ليست النجاسة لازمة لها، فإن جلدها يمكن تطهيره بالماء والقرظ. إذاً: نهى عن بيع الخمر، ونهى عن بيع الميتة، والنهي يقتضي التحريم، وهناك قاعدة: كل محرم لذاته فهو نجس العين.

العلة في النهي عن بيع وأكل لحم الخنزير

العلة في النهي عن بيع وأكل لحم الخنزير قوله: (والخنزير) . وكذلك نهى عن بيع الخنزير ولو كان حياً، ولماذا لا يباع ولحمه يؤكل، وشهي عند أصحابه وأربابه؟ فلماذا نهى عنه؟ لابد من علة، ما هي هذه العلة؟ هل لأنه ميتة؟ لا، لأنه نهى عن بيع الخنزير وهو حي يمشي على أربع، والعلة في النهي عن بيع الخمر هي النجاسة، والعلة في النهي عن بيع الميتة النجاسة، إذاً: الخنزير يشترك مع الخمر والميتة في النجاسة، ولذا ورد في النص الكريم: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرجس: النجس. إذاً: هذه الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعها لنجاستها. الشيء الثاني: هناك جوانب تدل على حكمة التشريع، فالخمر ولو لم تكن نجسة فهي ضارة، والمضر لا يجوز استعماله؛ لأنه يضر بالجسم، ويكفي في ضررها أنها تزيل العقل، وتسلب الإنسان أعز ما به كان إنساناً، والميتة ضارة بعينها على جسم الإنسان، والإنسان ممنوع من تعاطي ما فيه ضرر عليه، والخنزير كذلك، ويذكر أبو حيان رحمه الله في تفسيره عند الكلام على لحم الخنزير، قال: إن الخنزير مفقود الغيرة، لا يغار الذكر على أنثاه -يقول-: وقد شاهدنا من أكثر من أكل لحم الخنزير أنه سلب الغيرة، فيرى زوجه تلاعب غيره على مرأى منه ولا يتأثر، وأي مضرة ومصيبة في افتقاد الرجل الغيرة؟! وسبق أن قلت: الغيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: غيرة جنونية، ويسميها علماء الاجتماع: الغيرة السوداء وهي: التي تحجب عن صاحبها الرؤية؛ فيبطش، ويفعل كل ما بدا له غيرة، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وغيرة حمراء، وهي: الغيرة التي تدفع صاحبها للذب عن محارمه، ويغار على محارم الله، وهذه هي الغيرة المشكورة فإن زادت أفسدت، وإن ضعفت أفسدت؛ لأنه لا يغار على محارمه، ولا يغار على محارم الله، وأصبح لا غيرة له كما قال أبو حيان رحمه الله. ومن المضار الصحية في لحم الخنزير: ما قرره الأطباء من أنه ينتج عنه دود العضل، والدود معروف وغالباً يكون في المعدة، ويُعالج بالدواء وينتهى، حتى الدودة الشريطية التي طولها اثنا عشر متراً، وتعيش في المعدة، ولكنها تُعالج وتخرج بدواء خاص، أما الدود الذي في العضل، في الفخذ أو في اليد أو في الزند فلابد من شق العضلة، ولقطه بالملقاط: واحدة واحدة، وهذه أكبر مصيبة. إذاً: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الخنزير؛ للعلة التي اشترك فيها مع الميتة والخمر، والمنصوص عليها في كتاب الله بأنه رجس.

حكم بيع الأصنام والانتفاع بها

حكم بيع الأصنام والانتفاع بها قوله: (والأصنام) . الأصنام: كل ما كان مجسماً على صورة معبود -أياً كان- نجم، قمر، حيوان، شجرة، فكل ما يعبد، وله جسم مجسم، له ظل، فهو صنم، وهنا يقولون: هل تحريم بيع الأصنام لذاتها -لنجاستها- أو للازمها؟ فاتفقوا على أن النهي عن بيع الأصنام إنما هو للازمها، وهو: كونها تعبد من دون الله، أما إذا كسرتها وجعلتها وقوداً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، أو كسرتها وصنعت منها كرسياً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، وعلي رضي الله تعالى عنه لما وصل مهاجراً ونزل في قباء، كان يرى رجلاً يطرق الباب ليلاً على امرأة مغيبة، ويعطيها شيئاً، فجاءها علي في النهار وقال: يا أمة الله! من هذا الرجل الذي أرى منه كذا وكذا! لقد رابني أمرك! قالت: إنه سهل بن حنيف، علم أني امرأة، وليس عندي أحد، فيغدو على أصنام القوم فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذا. إذاً: الأصنام تسمى بهذا الاسم إذا كانت على هيئتها الصنمية، فإذا ما كسرت لم تعد أصناماً، وأصبحت خشباً مكسراً، أو حديداً أو نحاساً، أو أي مادة صنعت منها. إذاً النهي عن بيع الأصنام لا لعينها ولكن للازمها. والأصنام: كل ما عبد من دون الله وكان ذا جسم -أي: شاخص- له ظل، مصنوع من خشب، أو حجر، أو معدن، ذهب أو فضة، أو نحاس، أو من الأحجار الكريمة، ويوجد في بعض البلاد -في معابد غير اليهود والنصارى والمسلمين- صور لأصنام من أحجار كريمة، ربما تعادل الملايين من الدولارات، وبيع الأصنام محرم، لا لنجاستها كما هو الحال في الخمر والميتة والخنزير، ولكن لعدم منفعتها، ولما يترتب عليها من الضلال فإنها تعبد من دون الله. ويتفق العلماء على أن الصنم إذا كسر وتغيرت حالته عن كونه صنماً مجسماً ذا صورة وهيئة، وأصبح فُتاتاً وكسراً، ويمكن الانتفاع بتلك الأجزاء؛ فلا مانع من بيعها، فإذا كان الصنم من أحجار كريمة: كالفيروز، والياقوت، والعقيق، أو نحو ذلك، وفتت وأخذ فتاته، وانتفع به حلية: كفصوص للخواتم، وزينة لبعض المقتنيات فلا مانع، أو كان حجراً يمكن الاستفادة منه في بناء شيء أو ارتكاز شيء، أو كان خشباً يمكن الاستفادة منه باتخاذه حطباً، أو اتخاذه إناء، أو شيئاً مما ينتفع به في غير العبادات أو الضلال، فلا مانع. وأشرنا إلى ما كان من علي رضي الله تعالى عنه حينما قدم مهاجراً، ونزل بقباء، وكانت هناك امرأة مغيبة -أي: ليس لها زوج حاضر- فكان يأتي شخص بالليل ويطرق عليها الباب، فتخرج فيناولها شيئاً ويذهب، فارتاب علي رضي الله تعالى عنه في ذلك فسألها: من هذا الذي يطرق عليكِ الباب ليلاً ويناولك شيئاً؟! وأنت امرأة وحيدة مغيبة! قالت: هذا فلان -وسمته: سهل بن حنيف - علم أني وحيدة، فيعدو على أصنام القوم، فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذه. أي: تتخذها حطباً توقدها وتستفيد من وقودها، سواء كان في خبز عجينها، أو في طهي طعامها، أو تسخين مائها، أو تدفئتها، أو أي منفعة من المنافع التي يحتاجها الناس في البيوت.

يحرم بيع ما لا فائدة منه

يحرم بيع ما لا فائدة منه ويلحق بهذا كل ما لا فائدة فيها شرعاً، ولا عرفاً، فإنه يحرم بيعه، ومن ذلك آلات الملاهي، وتلك الأوراق التي يلعب بها كثير من الناس، فإنها ليس فيها فائدة، وقد يذكر أهل هذه اللعب فوائد لبعضها كتعليم الحساب، أو تعليم السياسة العسكرية، كما جعلوا ذلك في بعض أنواع النرد، ويسمونها (لعبة الملوك) وفيها تسيير الجيوش وتدبيرها، فالشطرنج مثلاً: بعضهم أجازها؛ لأن فيها التدريب على حسن قيادة الجيوش، وبعضهم قال: هي من الملاهي، فإذا كانت اللعبة، أو الآلة والأداة لا فائدة من ورائها -كأدوات الطرب جميعها بدون استثناء- ديناً ولا دنيا، فلا يجوز بيعها؛ لعدم صحة الانتفاع بها، وعدم إذن الشرع فيها، فكل ما نهى الشرع عنه من تلك النواحي أو كان لا فائدة فيه فهو داخل في عموم النهي عن بيع الأصنام، لا لأنه صنم، ولكن لأنه لا نفع فيه. وأجمع العلماء على أن من شروط صحة المبيع أن يكون مما ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، فلو أن إنساناً يتاجر بالحيات والثعابين! فهذه لا ينتفع بها، اللهم إلا في المزارع الخاصة بها، فينتفع منها باستخراج سمها؛ لإدخاله في بعض الأدوية، وبعض المصالح، لأن سم الثعبان قد يعالج به، كما قال القائل: وداوني بالتي كانت هي الداء، فإذا اقتني لاستخلاص السم منه وتصنيعه، فلا بأس في ذلك، أما إذا كان للإيذاء، إذا كان للعب، أو كان لترويع الناس، فهذا حرام ولا يجوز بيعه. وهكذا الحشرات التي لا تنفع، فكل ما لا نفع فيه شرعاً، ولا نفع فيه عرفاً، لا يجوز بيعه، وهو داخل تحت عنوان: النهي عن بيع الأصنام.

حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها

حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه المسميات، ثم إن السامع لما سمع النهي عن بيع الميتة، والميتة فيها ما ينتفع به عرفاً، وهو شحوم الميتة، يؤخذ فيجمل فيذاب -كما ذكر- وتطلى به السفن، أي: من الجانب الذي يلي الماء؛ لئلا يتخلل الماء في مسام الخشب؛ فيعدمه ويفسده، أو فيما بين تركيب اللوح على اللوح، فقد تكون هناك فجوات، أو مسام، فيحشونها بخيوط الصوف، أو الكتان، ويملئون فراغها، ثم يأتون بالشحم، أو يأتون بالقار، أو يأتون بأي أنواع الشحوم التي لا تذوب في الماء؛ لتسد المسام التي بين الألواح حتى لا يتسرب الماء إلى داخلها، أو إلى داخل الخشب فيفسده. فاستثنوا (قالوا: يا رسول الله! أرأيت - (أرأيت) تستعمل بمعنى: أخبرني، أي: أخبرنا يا رسول الله! - شحوم الميتة، فإنه يستصبح بها، وتطلى بها السفن) . قوله: (يستصبح بها) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] ، كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل، كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ، ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها، سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد. فهذه مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة، ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال: (لا، هو حرام) . كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو) يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود: إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله: (لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة. فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو حرام) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع. وإن كان الضمير راجعاً إلى الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء، واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل، وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته) ، وسن الفيل عاج يؤخذ منه وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار والأصواف؟ يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي. وقد جاء تحريم الميتة عاماً، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] (ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك الشعر، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية، والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن. وجاء أبعد من هذا: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء) وهو عام في كل شيء، لكن جاء الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ولو كان إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد. -أنا لا أدري حقيقة الأمر، ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] ، فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده، لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر. فهنا استثني من الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب، بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات. إلخ. فهنا لما طلبوا استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو ... ) هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها فأكلوا ثمنها) ، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم، وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه. فقوله: (هو حرام) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.

الانتفاع بالزيت المتنجس

الانتفاع بالزيت المتنجس والذين قالوا: إن الضمير راجع إلى البيع، الذي هو أصل الحديث: (نهى عن بيع) قالوا: بما أن الضمير عائد على البيع، فإن المحرم: بيعها، ويجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيوت المتنجسة انتفاعاً شخصياً، لا أن تباع ويؤخذ ثمنها ويؤكل، ولكن يستنفع بعينه، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، ونحن نعلم أن كل ذي نفس سائلة -يعني: دم- إذا سقط في سائل ولا نقول: قلة ولا قلتين- في إناء فمات فيه؛ فقد تنجس هذا السائل الذي فاضت نفسه فيه، وأما ما ليس له نفس سائلة إذا مات في السائل فإنه لا ينجسه، واستدلوا بحديث الذباب: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) قال العلماء: غمس الذباب في الماء يضمن موتها فيه، وموتها فيه لا ينجسه؛ لأنها ليس لها نفس سائلة، وقاسوا على الذباب البعوضة وغيرها مما ليس له دم. ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، قال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها) ألقوا الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً فجاء في الحديث: (فاتركوه) ، وجاء: (فانتفعوا به) بم ننتفع؟ بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه، ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات: (فاستصبحوا به) إذاً: أباح لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد لماذا؟ وما الفرق بين المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد، أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت. فمن هنا قال بعض العلماء: يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه، وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال: (هو حرام) . يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال: (انتفعوا به) إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها فلا مانع. وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا. فهل يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع. وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر. إذاً: فماذا يصنع؟ قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه شيء. إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز الانتفاع بها دون البيع، لحديث: (الفأرة تقع في السمن المائع فينتفع به) . والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [2]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [2] هناك عدة أنواع من المكاسب محرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وإنما نهي عن هذه المكاسب لما تتضمنه من شر وفساد. وبعض أنواع البيوع مختلف فيها، مثل الشرط في البيع، والراجح: أن الشرط إذا كان يتمشى مع العقد، ولا يعود عليه بالبطلان، وليست فيه مخالفة شرعية فجائز، وإن كانت فيه مخالفة شرعية، أو يعود على العقد بالبطلان، أو لا يتمشى معه فهو باطل، ولو كان مائة شرط.

شرح حديث: (إذا اختلف المتبايعان)

شرح حديث: (إذا اختلف المتبايعان) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان) رواه الخمسة وصححه الحاكم] . قوله: (إذا اختلف المتبايعان) يختلفان في ماذا؟ قد يختلفان في الثمن، وقد يختلفان في نوعية السلعة، وقد يختلفان في حجم السلعة، وفي تعجيل الثمن وتأجيله. إلخ. فمثلاً: اشترى رجل سلعة، وعند الدفع أراد أن يدفع عشرة ريالات، فلم يقبل البائع ذلك، وطلب اثني عشر ريالاً فاختلفا، أو اختلفا في نوعية السلعة إلخ. فأي خلاف بين المتبايعين قبل أن يفترقا، والسلعة لا زالت موجودة، فنأخذ كلام البائع، لكن ما الفرق بينهما، وهما طرفان متعادلان، هذا يدفع وهذا يدفع؟ ما الذي قدم البائع على المشتري في موقف الخلاف؟ فالمشتري يقول: أنا اشتريت كما أردتَ، وقبلت بما قلتَ، ولكنك تأسفت وندمت، وقلت: العشرة قليل، وطلبت الزيادة، فطلبك للاثني عشر زائد عما تعاقدنا عليه، إنما دفعك إليه الطمع! وإذا كلفنا البائع بالبيع بعشرة فسيكون متضرراً، وأيضاً المشتري لو كلفناه الشراء باثني عشر فسيكون متضرراً، فما القول؟! ما زالت السلعة في ملك البائع، ولا يتم البيع إلا عن تراضٍ، والبائع لم يرض بهذا الذي قاله المشتري، إذاً: كلام المشتري غير مقبول؛ لأنه لم يملك السلعة بعد، وكلام البائع هو المقدم؛ لأنه المالك للسلعة، والسلعة ما زالت في يده، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع، فسيكون البائع راضياً بالبيع، وأنت راض بالشراء، وإذا لم ترض فلا تقدم رأيك على رأي البائع وهو صاحب السلعة. إذاً: (إذا اختلف المتبايعان) سواء في: عين السلعة في القيمة في شرط في أجل في أي نوع من أنواع الخلاف الذي يقع بين المتبايعين، فالقاعدة عندنا: القول قول البائع؛ لأنه صاحب السلعة وصاحب الحق، ولا نأخذها منه إلا عن تراضٍ.

شرح حديث: (نهى عن ثمن الكلب)

شرح حديث: (نهى عن ثمن الكلب) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) متفق عليه] . ذكر المؤلف في الحديث السابق بعض الأعيان المنهي عن بيعها كالخمر، والميتة. إلخ، ثم ذكر اختلاف المتبايعين، ثم ذكر بعض أنواع الكسب المحرمة، ولو قدم هذا على اختلاف المتبايعين لكان أنسب.

النهي عن ثمن الكلب

النهي عن ثمن الكلب قال: (نهى عن ثمن الكلب) هنا لا يوجد بيع ولا شراء، ولكن في بعض صوره، فلم يقل: نهى عن بيع الكلب، نهى عن ثمنه، ولماذا نهى عن ثمن الكلب؟ وهل هو عام في الجنس أو يستثنى منه بعض الأوصاف؟ بعض الناس يقول: استثني من ذلك كلب الصيد؛ لأنه معلم ينتفع به، وما عداه لا منفعة فيه، وهو تابع للقاعدة العامة: ما لا فائدة فيه فليس محلاً للبيع. وقالوا: العلة في النهي عن ثمن الكلب هو منع بيعه، ولماذا لا يباع؟ لأنه لا فائدة فيه. فإذا كانت فيه فائدة؟ قالوا: لا اعتبار لهذه الفائدة مع وجود النجاسة؛ لأنه نجس؛ ولكن النجاسة لم يتفقوا عليها؛ فقد قال مالك بطهارة الكلب! فقالوا: الفائدة منه غير مضمونة، لكن أرباب الخبرات سيضمنون الفائدة: ككلب الصيد، وكلب الحراسة، وكلب الماشية، وبعضهم يقول: النهي منصب على ما عدا الثلاثة، فقد ورد في الحديث: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط، إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع) استُثني هذا: بأن صاحبه لا ينقص من أجره شيء؛ للحاجة إليه. فالنهي عن ثمن الكلب قيل: عام في الجنس، وقيل: ما عدا ما فيه منفعة، والنهي، لعدم الانتفاع بالكلب في غير الأصناف الثلاثة التي رخص في اقتنائها.

حكم مهر البغي

حكم مهر البغي قوله: (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي) البغاء محرم، والبغاء ممنوع، حتى في الجاهلية، وإنما كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، وقد عذر الله سبحانه هؤلاء الفتيات المكرهات فقال: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]-وهو -كما يقولون- أخبث أنواع الكسب؛ لأنه يأتي عن أسوأ وأخس طريق؛ فنهى عن مهر البغي، سواء كانت مع شريكها أو كانت لسيدها، وقد كانوا في السابق يكرهون الفتيات على البغاء؛ لتأتيهم بالمال الذي تأخذه أجرة ممن زنى بها، أو كان في حال المقابلة هي وشريكها في العمل، وأخذت مهراً على فعله معها، فهذا منهي عنه، ولا يحق لها أن تأخذ هذا المهر، ولا يحق لسيدها أن يرسلها في طريق البغاء لتأتيه بمهر، وسمي الأجر الذي يدفع مهراً؛ لأنه في مقابل مهور الحرائر، أو الزواج المشروع.

حكم الكهانة وأجرتها

حكم الكهانة وأجرتها قوله: (وحلوان الكاهن) . حلوان: على وزن فعلان، من الحلاوة، وهو الأجر الذي يأخذه الكاهن على كهانته، والكاهن -كما يقولون- هو: كل من ادعى علم غيب ماض أو حاضر أو مستقبل، وقيل: العراف: هو الذي يدعي معرفة الغيب المستقبل، والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب الماضي، فإذا خفي على الناس شيء مسروق، يأتي الكاهن ويقول: سرقه فلان، وهو مدفون في المكان الفلاني. ينبئ عنه وقد وقع فيما مضى، أما العراف: فإنما يقول: سيأتي كذا، سيحدث كذا، ويخبر بما يمكن أن يكون في المستقبل، وكلهم سواء، وأجرتهم حرام. والصديق رضي الله تعالى عنه أرسل خادماً له يأتي بطعام، فجاء فقدمه لـ أبي بكر، فلما طعمه سأله: من أين هذا؟ قال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية، فلقيني فأعطاني حلواني، فهذا هو. فوضع الصديق إصبعه في حلقه واستقاء ما أكل من حلوان الكاهن. والذي يهمنا هنا تحريم دفع الأجرة لهؤلاء؛ لأن فعلهم باطل، ومحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، وإن صادف أن واحداً من هؤلاء صدق فيما أخبر، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك: وهو أن الشياطين يسترقون السمع، حتى إذا دنوا من السماء، سمعوا صريف الأقلام، ولربما سمع الأخير منهم -قبل أن يأتيهم الشهاب- كلمة من الملائكة في القضاء والقدر، فينزل بها أو يلقيها إلى من تحته، قبل أن يدركه الشهاب، ومن تحته يلقيها إلى من تحته حتى تصل إلى الأخير، فيذهب بها إلى صاحبه، ويخبره: سيقع كذا وكذا. وهو صحيح، فيتكلم الكاهن بذلك، فيقع ما يقول، ويزيد معها مائة كذبة، ويصدق؛ لأنه في الوقت الفلاني أخبر بكذا، ووقع ما أخبر به! إذاً: فالكاهن يسترق السمع، وتكون حقاً، ويُصدق بها عند الناس، فيروج معها مائة كذبة. فحلوان الكاهن هذا نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، سواء كان الكاهن الذي يأخذه، أو الذي يذهب إليه ويدفعه له. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الإتيان إلى هؤلاء، وقالوا: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، وإذا ردت عليه صلاة أربعين يوماً فما الذي بقي له؟! إذاً: هذا مما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً مهر المرأة الباغية، وهكذا كل ما لم تكن فيه فائدة أو كان محرماً شرعاً، كالرهان، أو الميسر، وما لا فائدة فيه، أو فيه مضرة، أو فيه أكل أموال الناس بالباطل.

الإخبار بحالة الطقس المتوقع ليس من الكهانة

الإخبار بحالة الطقس المتوقع ليس من الكهانة هناك شيء أكثر الناس يعرفه، لكن ربما خفي على بعض الناس، وهو ما نسمعه في نشرة الأخبار الجوية: يكون الطقس في يوم غد -بإذن الله- غائماً جزئياً، ويطرأ كذا، ورياح كذا، وسحب كذا، ويمكن -بإذن الله- أن ينزل المطر. إلخ، فبعض العوام يظن أن ذلك من الكاهنة، والواقع أنه ليس غيباً وليس كهانة، ولكنه إخبار بالواقع، فكل دولة لها مراصد جوية، فإذا كانت في الهند مراصد، ورصدت توجه الرياح بسرعة كذا كيلو في الساعة، فستخبر دول الخليج: بأنه هبت ريح بسرعة كذا، يعني: ستصلكم في وقت كذا، فحينما تصل إلى دول الخليج، فدول الخليج ستخبر السعودية، والسعودية بعد أن تصلها ستخبر مصر، ومصر ستخبر ليبيا، وليبيا ستخبر المغرب، وهكذا يتناقل الخبر، ويكون صحيحاً، والريح ماشية في طريقها، وربما تكون ممطرة؛ لتحملها الماء، أو سحب ثقيلة، أو نحو ذلك. إذاً: ليس هذا من باب الغيب، وإنما هو تلقي الخبر الواقعي من بلد قبل البلد المخبرة، وهي تخبر بناءً على الأخبار التي جاءتها (لا سلكياً) ، وهذا ليس من باب الكهانة ولا من باب علم الغيب.

شرح حديث: (كان على جمل له قد أعيى)

شرح حديث: (كان على جمل له قد أعيى) قال رحمه الله: [ (وعن جابر بن عبد الله أنه كان على جمل له قد أعيى فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه؛ فسار سيراً لم يسر مثله، فقال: بعنيه بأوقية. قلت: لا. ثم قال: بعنيه. فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك) متفق عليه، وهذا السياق لـ مسلم] . قوله: (كان على جمل له قد أعيى) أي: أعيى من المسير، وكان هذا في عودتهم من غزوة تبوك، وكانت المسافة طويلة، والجمل أعيى من السير وتعب، حتى كاد جابر أن يزهد فيه ويسيبه، ويمشي على قدمه، ماذا يفعل به وهو لا يقدر على المشي؟ قوله: (فأراد أن يسيبه قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم) . إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان في مؤخرة الجيش، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كانوا في الذهاب إلى الغزوة يكون في المقدمة، وإذا كانوا قافلين -في العودة- يكون في المؤخرة. لماذا؟ يكون في المؤخرة؛ ليتفقد مثل هذا الذي أعيى جمله، وفي المقدمة لماذا؟ ليشجع ويتأسى به الآخرون؛ لأن المقدمة تدل على الشجاعة، وعلى قوة العزيمة، لكن العودة لا يحتاج فيها إلى ما كان في الذهاب، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في المؤخرة؛ ليتفقد حال من يعتريه ما يوجب مساعدته. وقوله: (فدعا لي، وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله) . كأنه قال: ما بالك يا جابر؟! ما بالك متأخراً؟! قال: أعيى جملي، قال: ناولني عصاً، أو قضيباً، فأعطاه القضيب فضربه، فإذا بالجمل الذي أعيى يسبق الركب، وصار يتسابق ويتزاحم مع ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق.

مداعبته صلى الله عليه وسلم لجابر

مداعبته صلى الله عليه وسلم لجابر تأتي المداعبة اللطيفة: يا جابر! أنت كنت زهدت في جملك وتريد أن تسيبه، فهل تبيعه الآن؟! انظروا اللطافة إلى أي حد! معناه: أنك كنت زاهداً فيه، ولا تريد من ورائه شيئاً، فهل تبيع؟! كأنه يقول: هاه! هل ناسبك الآن؟ أيصلح لك؟! أتبيعني جملك؟! قال: لا. أنت بالأمس كنت تريد أن تسيبه، والآن نريد أن نشتريه منك نقداً، فتقول: لا! كنت أريد أن أسيبه لما كان أعيى، ولكنه الآن صار ممتازاً، لماذا أبيعه؟ قال: بعني. إذاً: ما دام أتت الثانية، أو أتت المساومة، فلابد من الطاعة، فهل استحى جابر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعاد إليه: بعني، أو استجاب له؛ لأنه فعل أمر: (بعني) ؟ قال: بعتك. قوله: (فقال: بعنيه بأوقية. قلت: لا) . الأوقية: أربعون درهماً. (بعنيه بأوقية) هل أوقية ذهب أو فضة؟ كان أكثر تعامل أهل الحجاز بالفضة، (بعنيه بأوقية. قال: لا) ثم أعاد عليه الأمر، فقال: (بعتك) ولكن نحن في منتصف الطريق، فكيف أبيعك الجمل! وأنا أين أذهب؟! وقوله: (ثم قال: بعنيه. فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي) . بعد أن انتهوا، وتم البيع بإيجاب وقبول، ولم يدفع الثمن بعد، قال: (واشترطت حملانه إلى أهلي) أنا صحيح بعتك، ولكننا في الخلاء فأشترط عليك -وقد اشتريته، وأصبح في ملكك- أن يحملني إلى المدينة، إذاً: حملانه من محل العقد إلى المدينة خارج عن العقد، العقد تم بالإيجاب والقبول، ولكن جابراً اشترط منفعة له في المبيع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافقه بدليل: أن جابراً لما وصل المدينة جاء بالجمل، وقال: خذ حقك، وأعطني حقي. فقال صلى الله عليه وسلم: يا فلان! أعطني الثمن. وانظر إلى المضي في المداعبة إلى أي حد! قال: (فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري) . أخذت الثمن ورجعت، وكل واحد ذهب في سبيله، أرسل في أثري، قال: تعال. قوله: (قال: أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟) . تعال يا جابر! أنت بعتني هناك، وأخذت الثمن الآن وانتهينا، لم تعد بيننا مساومة، أتراني -بمعنى: أتظنني- ماكستك هناك عند العقد؟ (حينما قلت: بعني بأوقية. فقلت: لا. قال: بعني) هذه هي المماكسة، والبيع إما أن يكون على المماكسة -وهي المساومة- أو على الوضيعة، أو على المرابحة، أو على المساواة. أتراني ماكستك هناك -ونحن في الخلاء- لكي آخذ جملك منك؟ لا، أنا ما فعلت هذا يا جابر! خذ جملك، هو لك والثمن. ولماذا لم يقل له من البداية: يا جابر! خذ هذه الأوقية؟ لكن كيف يأخذها جابر بدون بيع وشراء، فلو جاء وقال: خذ يا جابر! سيقول: لماذا هذه يا رسول الله؟! ما موجبها؟! فإذا أراد الصديق أن يصانع صديقه، وكان ذا حياء، فيجب أن يحتال في صورة ترفع الحياء والخجل عن صاحبه: أنا أريد أن أشتري منك هذا. قال: والله أنا في حاجته، ولكن ما دمت تريد أن تشتريه فأنا لا أقول لك: لا، فإذا كانت قيمته عشرة تعطيه عشرين، أما لو جئت وقلت له: يا فلان! هذه العشرة هدية لك! سيتساءل: ما موجبها؟ لعله رآني محتاجاً، وماله كثير، أنا. أنا. وسيحصل في نفسه مثل هذا الحرج، ولكن لو قال: بعني هذا، هذا أعجبني، ما له نظير في السوق، فسيقبل ذلك بسرور، أنت وهو والناس كلهم يعرفون أنه يساوي عشرة، لكن دفعت له عشرين، وظاهر الأمر أنك دفعت العشرة الزائدة لكونك رغبت في هذه السلعة، وليس هناك غضاضة على البائع بالمكارمة في الثمن، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتراني ماكستك لآخذ جملك بالأوقية؟ خذ الجمل والأوقية فهما لك.

حكم الشرط في البيع

حكم الشرط في البيع وهنا مبحث طويل، وهو: الشرط في البيع. وخلاصة مبحث الشرط في البيع: أن يشترط البائع فيما باع، أو يشترط المشتري فيما اشترى، أو اشترط في عين السلعة، مثال اشتراط البائع على المشتري: حديث جابر، ومثال اشتراط المشتري على البائع لا في عين السلعة: أن يقول له: أشتري منك هذا الحمل -ونحن هنا- بشرط أن توصله لي إلى البيت، إذاً: اشترط المشتري على البائع شيئاً لمصلحته، وجابر اشترط شيئاً لمصلحته، وهو البائع، ومثال الشرط في عين السلعة: أشتري منك هذه السيارة بشرط أن تكون ماركة كذا، فنحن لا نعرف الماركات ولكن سنسأل، أشتري منك كذا، على أن يكون موديل سنة كذا، أشتري منك كذا، على أنه من نوع كذا، فالشرط هنا في السلعة، أو قال: تزوجني كذا على أنها بكر، فهذا شرط في عين المرأة. إذاً: الشرط إما أن يكون لمنفعة البائع، ويشترطه في المبيع، أو لمصلحة المشتري، ويشترطه في المبيع، أو بينهما في عين السلعة، وكل هذه الشروط في مضمونها: إما أنها تتمشى مع مقتضى العقد، والعقد يتطلبها أو يجيزها، فهذه لا شك في جوازها، وإما أنها تتعارض مع مقتضى العقد، فهي ممنوعة، مثلاً: بعت السلعة، قال والثمن قال له: حتى نصل إلى المدينة، قال: أريد رهناً، فهذا شرط لمصلحة توثيق العقد، أو أن البائع قال: بعتك ولكن بشرط ألا تبيعه لغيرك، وألا تهبه لأحد، وإنما تبقيه في ملكك! ومقتضى العقد أنك إذا اشتريت شيئاً فإنك تملكته، وإذا ملكته فأنت حر في التصرف فيه، فاشتراطه عليك ألا تبيعه، نقص في التمليك، وهذا يتنافى مع العقد؛ ولذلك فهذا الشرط باطل.

نموذج في اختلاف وجهات النظر

نموذج في اختلاف وجهات النظر وهنا مسألة من لطائف العلم في شروط البيع، يقول عبد الوارث: جئت إلى مكة فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فقلت: هؤلاء -والله- هم علماء العراق، لأنتهزن فرصة وجودهم، فجئت إلى أبي حنيفة وقلت له: ما تقول في شرط وبيع؟ قال: الشرط والعقد كلاهما باطل. وذهبت إلى ابن أبي ليلى فقال: البيع صحيح، والشرط باطل، فذهبت إلى ابن شبرمة، فقال: العقد صحيح، والشرط صحيح. قلت: ويا عجب! ثلاثة أئمة من بلد واحد يختلفون في مسألة واحدة! فرجعت إلى أبي حنيفة وقلت: إن ابن أبي ليلى يقول كذا، وابن شبرمة يقول كذا. فقال: ما علي مما قيل لك، (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط) ، إذاً: أتى بالحكم بأن العقد والشرط باطل من هذا الحديث. فذهبت إلى ابن أبي ليلى، فقلت: إن صاحبك يقول كذا، وابن شبرمة يقول: كذا، ولما رجعت إلى أبي حنيفة أخبرته بما قلت أنت، وبما قال ابن شبرمة. فقال: كذا، فقال ابن أبي ليلى: ما علي مما قيل لك، (جاءت بريرة إلى أم المؤمنين عائشة تستعديها -أو تستسعيها- في مساعدتها في المكاتبة، قالت: إني كاتبت أهلي على كذا أوقية، إلى زمن كذا. فقالت: اذهبي إليهم وأخبريهم: إن شاءوا نقدتها لهم كلها -أي: الثمن- ولي الولاء، فذهبت وأخبرت أهلها. فقالوا: لا، تشتريها والولاء لنا. فرجعت بريرة إلى أم المؤمنين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، قال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته. قال: ما عليك، اشتريها واشترطي لهم. فلما اشترتها واشترطت لهم خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، ودعا الناس، وقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو مائة شرط) فأجاز البيع وأبطل الشرط. قال: ثم ذهبت إلى ابن شبرمة، وأخبرته بما حصل، وبما قال صاحباه، فقال: ما علي مما قيل لك، لقد باع جابر جمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشترط عليه حملانه إلى المدينة، فصح العقد وصح الشرط. ما تقولون في هذا؟ هل نعيب في مسألة وقع الخلاف فيها بين الأئمة؟! يتعين ويجب على كل طالب علم أو طويلب علم إذا بلغه خبر اختلاف الأئمة في مسألة واحدة؛ أن يتأدب وأن يتريث وأن يستطلع، انظر إلى هذا السائل، وهو عبد الوارث سأل، وأخذ الجواب من الثلاثة، وكانت أجوبة مختلفة، ورجع إليهم واحداً واحداً، وسمع الدليل من كل واحد، مع أن كل واحد لما سمع مقالة الثاني ودليله، لم يرجع عما عنده من دليل أيضاً؛ لأنه عنده أرجح مما سمعه من الغير. إذاً: من انقدح عنده ترجيح نص على نص آخر، فله الحق أن يقول بما انقدح عنده رجحانه، ولا يعاب عليه. وهذه -كما أشرنا- مسألة واحدة: بيع وشرط، يختلف فيها هؤلاء الأئمة الأعلام، ولم يعب واحد على الآخر، ولم يترك واحد ما عنده من النص تقليداً للآخر، ومن أراد الزيادة في هذا فليرجع إلى كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فقد ساق نماذج عديدة في أسباب الخلاف: في اختلاف وجهات النظر في النص، في تعدد الأدلة، في تعارضها، في عدم ثبوتها. إلى آخره، فقد ذكر عشرة أسباب توجب الخلاف بين العلماء.

قاعدة في الاشتراط في البيع

قاعدة في الاشتراط في البيع حديث جابر ركن في هذا الباب، والقاعدة بعد ذلك: كل شرط يتمشى مع مقتضى العقد فهو صحيح؛ لأنه لا يتعارض مع قوة العقد، وكل شرط يتنافى مع مقتضى العقد فهو فاسد؛ لأن الشرط فرع عن العقد، والفرع لا يبطل الأصل، إذاً: نبطل الفرع ويبقى الأصل سليماً، كما في قضية بريرة. وللعلماء بحث في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) ، بعض الناس ينتظر أن يجد في كتاب الله نص الشرط، ويبحث عن نص شرط بريرة، وشرط عائشة على بريرة أن يكون الولاء لها، ومتى يكون هذا التفصيل في كتاب الله؟! وهل كتاب الله جاء لتفصيل الجزئيات؟! إنما جاء كتاب الله بقواعد عامة تشريعية تصلح لكل زمان ومكان، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) أي: كل شرط لا يتمشى مع مقتضى كتاب الله -فيما يجوز وما لا يجوز- فهو باطل، ولو مائة شرط، ما هو الشرط الذي لا يوجد في كتاب الله؟ هو الشرط الذي يتنافى مع مقتضى العقد. ولذا فالفقهاء قعدوا هذه القاعدة: لكل من البائع والمشتري أن يشترط، ولكلٍ الحق في ما اشترطه، وعلى الثاني أن يوفي بشرطه (المؤمنون عند شروطهم) لأن الشرط جزء من المعقود عليه، فقد يكون تنازل في الثمن من أجل الشرط، وقد يكون زاد في الثمن من أجل الشرط الذي اشترطه لنفسه، إذاً: ما كان من شرط يتناسب مع مقتضى العقد فالشرط صحيح، وما كان من شرط يتناقض، ويتعارض مع مقتضى العقد فالشرط باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

المعجزة النبوية

المعجزة النبوية نرجع مرة أخرى: هذا جمل أعيى عن المسير، قال: أعطني عصا. فضربه فإذا بالجمل يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ماذا كان في هذه العصا؟ لا شيء، فلم تكن عصا سحرية! ولم تكن عصا موسى! ولم يسقه شراباً، ولا لبناً، ولا سمناً، ولا أعطاه علفاً، مع أن هذه الأصناف هي موجبات القوة، إنما ضربه -والضرب منهك- فإذا به يأتي بنتيجة عكسية. إذاً: هذه معجزة، ويقول السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم نظيرها: عصا موسى تفلق البحر، وعصا موسى تنقلب حية، وعصا موسى تفعل الأعاجيب، وهذه عصا تعطي البعير قوة، من أين جاءته هذه القوة؟ العصا ما فيها قوة، ولكن اليد التي ضربت جعل الله فيها البركة. الزبير في غزوة الخندق ضرب شخصاً على رأسه فشقت غطاء الرأس، وشقت الرجل نصفين، ونزلت إلى الفرس فقسمته نصفين، فقال قائل: والله ما أجود سيفك يا زبير! قال: لا، الكلام ليس للسيف، الكلام على اليد التي ضربت بالسيف. وكذلك هنا، ليست العبرة في عصا يقود بها جابر بعيره، ولكن العبرة باليد التي ضربت البعير، ونظير هذا: حينما دخل صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وأتى إلى الكعبة وكانت الأصنام التي حولها (360%) صنماً، حوالي ثلاثمائة صنم، ومثبتة بالرصاص، وماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: ائتوا بسلم، ائتوا بمعول، ائتوا (بكمبريشن) ؟! لا، القضيب الذي في يده كان يشير به إلى الصنم، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا خر لوجه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر لقفاه، وهكذا قوضت تلك الأصنام بكاملها بإشارة من العصا! هل كان فيها أشعة (ليزر) تذيب الرصاص وتسقطه؟ وأليس هذا القضيب كان في يده صلى الله عليه وسلم حينما كان يصلي عند الكعبة وجاءوا بسلى الجزور ووضعوه على ظهره؟ بلى كان موجوداً، فهل فعل شيئاً من هذا؟! ألم يكن في يده حينما منعوه من دخول مكة عند عودته من الطائف، ولم يدخل إلا في جوار رجل مشرك؟ لماذا لم يكسر الأصنام أو بعضها بالعصا، ويبين لهم القوة؟! لماذا لم يفعل ذلك؟ لكل شيء أوانه، لو فعل في ذاك الوقت لقامت حرب أهلية، ولكن ماذا لو بقيت الأصنام على الكعبة سنة أو سنتين أو ثلاث أو عشر، وقد كانت معلقة على جدران الكعبة من عشرات السنين؟ وحينما يأتي الحق ويزهق الباطل ينتهي الأمر. إذاً: هذه من المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وكما قال السيوطي: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها، فالحجر التي ضربها موسى فانفجر منها الماء {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} [البقرة:60] قد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة من جنسها، بل أبلغ منها، وذلك لما أتوا ليتوضئوا ولم يكن هناك ماء، فجاءوا بركوة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها، فنبع الماء من بين الأصابع، الماء يخرج من خلال الحجر أمر طبيعي {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74] هذه طبيعة الحجارة، لكن أن يخرج من بين اللحم والدم فيتوضئون عن آخرهم! هذا أبلغ. إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يضرب الجمل الذي قد أعيى، فإذا به يعطى قوة! حتى يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم؛ تصديقاً لما جاء به من عند الله سبحانه وتعالى.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [3]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [3] من الفواسق الفأرة، ولها أحكام في الفقه، مثل حكمها لو وقعت في سمن جامد أو مائع، ويذكر هذا في باب البيوع للاختلاف في جواز بيع هذا السمن الذي سقطت فيه. وكذا يذكرون في باب البيوع حكم بيع السنور والكلب، ومثل هذه المسائل إنما يدل على سعة هذا الدين وشموله، وتميزه في حل المشكلات من المسائل العارضة.

شرح حديث: (أعتق رجل منا عبدا)

شرح حديث: (أعتق رجل منا عبداً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فقال المصنف رحمه الله: [وعنه (أي: عن جابر) قال: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه) . متفق عليه] . شخص أعتق عبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أحضره وباعه، وانتهى الأمر، ما علاقة هذا بهذا الباب؟! المؤلف عنوَن لهذا الباب بقوله: باب شروطه وما نهي عنه، وهنا يسوق لنا حديث: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر) ، (أعتق عبداً) هذه مفهومة، لكن (عن دبر) يعني: بعد موته، قال للعبد: أنت حر بعد موتي، فمات، فإنه يُعتَق، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بالعبد وباعه، ولماذا باعه وأبطل إعتاقه؟ أممنوع أن الإنسان يعتق عن دبر؟! ليس بممنوع، إذاً: فما العلة والموجب لإبطال إعتاقه؟! المؤلف هنا اختصر الحديث، وهذا رجل أوصى بعتق عبده، جاء في هذه الرواية: (ولم يكن له مال غيره) ، وهناك رواية أخرى: (وهو مدين) ، فكيف تكون مديناً للناس، وتتبرع للعبد بالحرية! أولاً: اعتق نفسك أنت؛ لأن الإنسان الذي يموت مديناً يكون مرتهناً بدينه في قبره، فالأولى: أن تعتق نفسك بسداد الدين قبل أن تعتق العبد.

ثلاث جدهن جد وهزلهن جد

ثلاث جدهن جد وهزلهن جد يقولون: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق، وهذا أعتق، ولو أعتق وهو يمزح؛ قلنا: هذا جد، وكذا لو طلق وهو يضحك أو يلعب، قلنا: انتهى الأمر، ليس فيها لعب، ولو قال: زوجتك وهو يلعب؛ انتهى الأمر زوّج. يذكر أن اثنين تواعدا للخروج للغزو، فتأخر أحدهما عن الآخر، قال: ما أخرك يا أخي؟! قال: جئت أخرج فإذا المرأة تنفس فانتظرت حتى وضعت، قال: فماذا رزقت؟ قال: رزقت بنتاً، قال: زوجنيها، فقال: زوجتك. الآن لم تُربط سرة البنت بعد! وهذا يقول: زوجنيها! والأب يقول له: زوجتك، لكنه يقولها مزاحاً. فالثاني تربص حتى عرف أنه قد حان قطافها، قال: يا أخي! زف لي عروستي، قال: ما بيني وبينك شيء. قال: في يوم كذا، في ظرف كذا، في غزوة كذا، أما زوجتني البنت ليلة ولادتها؟! قال: اذهب يا رجل! إنما كان مزحاً ولعباً، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا امتنع أن يعطيني زوجتي، وأخبره القصة، فقال له: (دعها لا خير لك فيها) ، أقر الحق في نصابه، ثم وجّه النصح، هذا الذي يجاهد ويذهب ليغزو في سبيل الله، يتزوج بنتاً لم تربط سرتها! كم يكون الفرق بينهم من السنين؟ وأيضاً فهو سيأخذها غصباً عن أهلها؛ لأنهم قبلوا بتزويجها له في حالة مزح، والآن أصبح الأمر لا مزح فيه، فكيف ستكون العلاقة بينهما؟ يعني: هذا الوضع ليس وضع زواج وفرح، (لا خير لك فيها) . فهنا أعتق العبد، أو أوصى بعتقه، ومات فاستحق العتق، فعُتِق العبد، ثم استدعاه صلى الله عليه وسلم وباعه. لماذا باعه؟ وأين ذهب بثمنه؟! هل أعطاه للورثة؟ لا، بل دفع لأصحاب الديون ديونهم. وإنما استرجعه من العتق وباعه من أجل تسديد الدين الذي على سيد ذلك العبد. فهل يجوز للإنسان أن يعتق أو أن يتصدق وهو مدين؟ هو مدين بمائة ألف، وعنده عشرة آلاف، وذهب يتصدق بها، ويقول: هذا لوجه الله، وماذا عن حق الناس! العشرة آلاف التي وزعتها على عشرة أشخاص، كل واحد أعطيته ألفاً، ستعيشه يوماً أو يومين، لكن كيف تتصدق وأنت مدين؟! ما يجوز هذا. ومن هنا قال العلماء: لا يجوز لإنسان أن يعتق -سواءً كان العتق في حال حياته أو عن دبر منه- وهو مدين بقيمة العبد، أو بعضه، وعلى ولي الأمر أن يرد العتق، ويبيع العبد، ويسدد الديون، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن)

شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن) قال رحمه الله: [وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: القوها وما حولها وكلوه) . رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي (في سمن جامد) . يذكر المؤلف رحمه الله تعالى حكم المتنجسات، وحكم بيعها، أي: الأشياء التي أصلها طاهر ولكن طرأت عليها نجاسة. وذلك بعد أن قدّم حكم نجس العين، في عين الخمر، والميتة، والخنزير، فهذه الثلاث نجسة بذاتها، أما السمن فمن حيث هو فطاهر، وإدام، ونعمة، لكن قد يطرأ عليه ما ينجسه، فما حكم ذلك؟

الحكم فيما إذا ماتت الفأرة في السمن الجامد

الحكم فيما إذا ماتت الفأرة في السمن الجامد أخبرتنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأرة وقعت في سمن، وسئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: (ألقوها -أي: الفأرة- وما حولها) ، ومفهوم كلمة (ما حولها) يشعر بأن السمن جامد؛ لأن السائل لا يتحدد حولها بحد، أما الجامد فما قرب منها فهو حولها، ثم جاء التصريح (في سمن جامد) . وما عدا منطقة سقوط الفأرة وموتها، فكلوه على الأصل، وسيأتي البيان في الحديث الذي بعده حديث أبي هريرة، وقد جمعهما المؤلف ليبين حكم السمن الجامد والسمن المائع، وما يُلحق بذلك.

تاريخ الفأرة، وفسقها

تاريخ الفأرة، وفسقها الفأرة لها تاريخ! يقول بعض العلماء إنها من الأمم التي مسخت من قبل، ويذكر الشوكاني دلالة على مسخها، وليس معنى مسخها: أن كل فأرة في العالم من ذاك الممسوخ، فهناك مخلوق أصلي، وهناك مخلوق ممسوخ. يقول بعض العلماء: لو قرّبت إليها حليب الإبل، أو لحم الإبل، ما أكلته وما شربته؛ لأن بني إسرائيل لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها؛ لأن خفها ذو ظفر، وإن كانت من الفئران الأصلية -قبل المسخ- فإنها تشرب وتأكل! وبعض العلماء يرد ذلك ويقول: إن كل ما مُسخ من الأمم التي نص القرآن أن الله جعل منهم قردة وخنازير لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، أي: بعد أن ثبتت الآية في حقهم، والآخرون يقولون: إنهم لا زالوا يتناسلون، وموجودون حتى الآن. والفأرة إن من طبيعتها الإفساد، فلا تعرف إصلاحاً أبداً، وسميت الفويسقة، وهي: تصغير فاسقة، لأن الفسق في اللغة: الخروج، تقول العرب: فسقت النواة عن الرطب، يعني: خرجت منها، وفسقت الحبة عن الرحى: أي طارت من تحتها ولم تُطحن، ومنه الفاسق من البشر: الذي يخرج إلى طريق الإفساد. قالوا: إنها لا تخرج إلا للإفساد، ويقولون: إن الفأر خبير بمواطن دفن الذهب، وينقب عنه ويخرجه، ولهم في ذلك قصص. وجاء في الحديث: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفؤا السراج) ، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) ، كما نبهنا بأنهم في السابق كانوا يستصبحون بالزيت، ويضعون الفتيل داخل السراج، وهو: عبارة عن كأس فيه زيت، ويضعون طرف الفتيل على حافة السراج، ويشعلون فيه النار، فيضيء مثل الشمعة، فإذا جاءت الفأرة، وأرادت أن تلعق الزيت، تخاف من النار، فتنثني بذنبها، وتسحب الخيط الذي في السراج، وتخرجه وتلقيه خارج السراج، وقد يكون مشتعلاً، فإذا سقط على فراش أو على ثياب أو شيء قابل للاحتراق أشعله، (فإن الفويسقة تضرم) أي: تحرق (على أهل البيت بيتهم) . وأما تخمير الإناء فهو: تغطيته، فإذا كان الإناء فيه ولو ماء، فعليك أن تغطيه، وجاء في الأثر: (فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً، ويذكر اسم الله فليفعل) ، ضع عليه عوداً معترضاً، وسم الله فإنه يكفيه، وذكر صلى الله عليه وسلم أن البلاء ينزل ليلة في السنة، فما وجد إناءً مكشوفاً إلا نزل فيه، حتى قال بعض العلماء: لو كان الإناء فارغاً فإما أن تكفيه، وإما أن تغطيه. وإيكاء السقاء، السقاء: القربة، ومعلوم أنها كانت آلة الشرب، وتبريد الماء، وحمله، فإذا تركت فم القربة مفتوحاً -وخاصة في المناطق الحارة- فإن الهوام تبحث عن الأشياء الباردة، وتأتي وتلبد فيها طلباً للبرودة، فلربما هوام الأرض جاءت إلى فم القربة فوجدته مفتوحاً فدخلت، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم السقاء، ولو كان مربوطاً، فلا تذهب وتفكه وتضعه على فمك وتشرب، ولكن يجب أن تصب الماء في إناء لترى ماذا فيه؟ أهو صاف أم فيه شيء، فلو كان في السقاء شيء؟ وشربت بفيك فلن تستطع تداركه، لكن إذا صببت الماء في الإناء رأيت الإناء بما فيه. وقد سمعنا في هذا حكايات كثيرة: فهذا يرى العقرب الصغيرة على فم القربة، وهذا رأى كذا وكذا، أشياء كثيرة، وهذا أمر طبيعي وخاصة في المناطق الحارة. وهنا تذكر لنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأراً وقع في السمن، وأظن أنه لا يوجد بيت من البيوت يسلم من الفئران، إلا ما كان في الآونة الأخيرة من البيوت المسلحة التي ما فيها بيوت للفئران، ولا تستطيع أن تتخذ لها فيها بيوتاً، ولكن يمكن أن تدخل بين الأثاث، وخاصة في المخازن والمستودعات، فهناك تتكاثر وتتوالد وهي -سبحان الله- أعطاها الله كثرة الإنتاج.

غمس الذباب في الإناء إن وقع فيه

غمس الذباب في الإناء إن وقع فيه الفأرة مخالطة للناس، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معها، كما بين لنا كيف نتعامل مع الذباب، (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم) ، ولا أظن أحداً في الدنيا لم يسقط الذباب في كأس في يده؛ لأنه مخالط للناس، وسبحان الله جربها في حياتك، خذ طعاماً وشراباً واذهب إلى الربع الخالي -يمكن خالي حتى من الجن- وضع الطعام واجلس خمس دقائق، تجد الذباب عندك، من أين جاء؟ أمسافر معك أم خرج من الأرض أم نزل من السماء؟! لا ندري! قل أن تضع الطعام في مكان إلا وجدت الذباب، ويقولون -والله أعلم-: إلا منى أيام التشريق فقط، وبعد أيام التشريق لا تستطيع أن تجلس فيها من كثرة الذباب، والبعوض، والحيوانات الأخرى. إذاً: علمنا صلى الله عليه وسلم إذا سقط الذباب في الإناء ماذا نفعل؛ لأن هذا أمر وارد وبكثرة: (فليغمسه ثم لينزعه) ، وبعد هذا تشرب، ومن الخطأ عند بعض الناس إذا وقع الذباب في الكأس رماه حالاً، وأفرغ ما فيه، وهذا غلط؛ لأن الحديث فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخر شفاء) ، وهذا قامت عليه أبحاث في أوروبا عجيبة جداً، كيف يكون في حشرة صغيرة: أحد الجناحين داء، والثاني دواء؟! وما الذي ميّز بين هذا وذاك؟ وكتبت كتابات طويلة ما نحب أن نضيع الوقت في إيرادها، لكن يتفقون طبياً: أنهم وجدوا مبيد البكتريا في الأنبوب في مؤخرها، وهو أقوى من أي مبيد على وجه الأرض، أي: واحد على مائة ألف، وقالوا: أنها إذا غمست في الماء؛ ضغط الماء على الأنبوب فينفجر عما فيه فيطهر السائل. فالذي رأى الذباب سقطت بالكأس فإنه يراه يدلي بالجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الثاني الذي فيه الدواء، فحينما تغمسها بكاملها تكون قد جمعت الجناحين، وكان الجناح الذي فيه الدواء يقابل الجناح الذي فيه الداء، ويطهُر السائل من دائه، أما إذا صببته فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، وقد فعل، وأصبح السائل ملوثاً؛ لأن الجناح الثاني مرفوع فوق، فإذا أرقت هذا الماء فإن جدران الكأس تحمل من داء جناحه ما يكفي للتلويث، ولو غسّلته بالصابون وبالتراب فلا ينقي كما لو غمست الجناح الثاني، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأعلم بمداها وكيف أوجدها. كنت مع طبيب مَعامِل تحليل، وذهبنا العمرة معاً، ونزلنا في رابغ أيام ما كان الذباب فيها منتشراً بكثرة، فجلسنا في القهوة، وتغدينا، وأتينا بالشاي، فانتظرت قليلاً فإذا بذبابتين بقدر النحل يتضاربان، فسقطتا في الكأس أمامي. فقلت هذه فرصة، ولاحظت نظرات الدكتور، وتغافلت عن الذباب، فقال: عطية! عطية! إلحق! إلحق! فغمزتهما إلى الداخل، ورميتهما، وأخذت أشرب، أنا أريد أن أثير الدكتور؛ لأني أعرف أن هذا عند الدكاترة شيئاً كبيراً، قال: هاه! ما هذا؟! ما هذا؟! قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أيضاً فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكان كثيراً ما تأتي مناسبات وأقول له: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مستغرباً: أهذه أيضاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم، قال: ماذا قال؟ قلت له: كذا وكذا، قال: عجباً! إن هذا الحديث صحيح، قلت: ما أدراك بالصحيح والضعيف، وأنت في الطب وما إليه؟ ما أدراك بهذا؟ قال: كنت في ألمانيا أدرس، فانقطعت علينا المصاريف بسبب الحرب العالمية الأخيرة، وذهبت للعمل في مطعم أنا وثلاثة زملاء، فكنا ندرس الطب في الصباح، وفي الليل نغسل الأواني؛ حتى نعيش ونواصل دراستنا، وهذه والله الرجولة الصحيحة. يقول: وفي وقت من الأوقات إذا بلوحة في الكلية في الفانوس الخاص بالإعلانات، فيها إعلان: اكتشاف بكتريوج -أي: مبيد البكتريا- من الذباب، وتعجبت وتتبعنا هذا. أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتعامل مع ما يخالطنا في بيوتنا وحياتنا، أما الذباب فعلمنا كيف نتعامل معه، ويقول الأطباء القدامى: أعظم كحل للعين هو الذباب، إذا جمعته في (ماصورة) صلب، وأحرقته على النار، ثم سحقته واكتحلت به، لكن لا تذهبوا وتفعلوا ذلك وتقولوا: فلان قال لنا.

شرب الفأرة من السائل

شرب الفأرة من السائل هذه الفأرة كيف نتعامل معها خاصة في السائل، لو رأيناها تأكل من الدقيق، أو من الحب، وذهبت فلا شيء في هذا، وإذا شربت من السمن وذهبت فلا شيء في هذا، إنما يهمنا إذا ماتت؛ لأنها بموتها تتنجس، وتنجس ما حولها، فبيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألقوها وما حولها) ، الحولية هذه كم مسافتها وكم قدرها؟ قد يختلف بعض الناس من مسافة سانتيمتر أو نصف سانتيمتر أو عشرة سنتيمتر، وبعضهم يبالغ ويقول عرض الكف، وهذا أظنه كثيراً. وبعضهم يقول: يرجع الأمر في الحولية إلى نوع جمود السمن، فقد يكون جامداً جداً، وأصبعك لا تدخل فيه، فهذا لا تتعدى النجاسة سانتيمتراً واحداً، وقد يكون جامداً جموداً لم يتم، ولو حرّكته بقوة ربما تحرّك، فهذا يحتاج إلى توسيع ما حولها نوعاً ما. وفي الحديث الأول: حديث ميمونة: (ألقوها وما حولها وكلوه) ، فهذا حكم وقوع الفأرة في السمن الجامد. وهل الموضوع يقتصر على السمن؟ وإذا وقعت في العسل؟ وإذا وقعت في الدبس؟ إذا وقعت في شيءٍ آخر، يعادل ذلك كالمربى وسقطت فيه وماتت؛ يكون الحكم واحداً، إن كان العسل جامداً -وأحياناً العسل يجمد- فكما هنا، وإن كان سائلاً مائعاً فالحكم كذلك، وعلى هذا يكون الأصل في هذا الحكم هو: السمن.

شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن)

شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) ، رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم] . الحديث الأول ليس فيه إشكال، لا في السند ولا في المعنى، والحديث الثاني جاء به المؤلف رحمه الله لما فيه من الخلاف، والإشكال. والتفصيل: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد فإنه يُلقى وما حولها، ويؤكل الباقي، ولكن هنا تفصيل لواقع الحال، فإن وقعت في جامد فالحكم قد تقدم، وإن وقعت في مائع فإنه يقول هنا: (فلا تقربوه) ، فلا تقربوه بماذا؟ أبأكل أم بادِّهان أم باستصباح أم بانتفاع؟! تقدم في النهي عن بيع الميتة أنهم أرادوا استثناء شحومها، فقال: (لا، هو حرام) ، وهل الضمير عائد إلى البيع أو الانتفاع؟ تقدمت الإشارة إلى الجمع، فقوله صلى الله عليه وسلم (فلا تقربوه) ، الجمهور على أن: (فلا تقربوه) ، أي: بالأكل إجماعاً؛ لأنه تنجس بموتها فيه وهو مائع، ولا نجد حداً محدوداً لوصول النجاسة إلى جزءٍ منه، بل لكونه سائلاً فإنها تسري في الجميع. فقوله: (فلا تقربوه) ، الجمهور قالوا: لا تقربوه بالأكل، وبعض أهل الحديث، وأهل الظاهر قالوا: لا تقربوه أبداً، لا بالأكل ولا بالبيع ولا بالانتفاع، (مطلق أريقوه) . والجمهور يقولون: هذا مال، وقبل أن يتنجس كانت له قيمة، ونهينا عن إضاعة المال، وهناك منفعة يمكن تحصيلها من هذا الدهن، وهذا السمن، فيمكن أن نجعله طلاءً للسفن، أو نستفيد منه بالاستصباح، أو نحو ذلك، فلا مانع، وذكر الجمهور حديث: (وإن كان مائعاً فاستصبحوا به) ، إذاً: أباح الانتفاع به، وحملوا على هذا كل متنجس بغيره لا بذاته، فقالوا: يجوز الانتفاع به دون البيع، والبعض زاد: النجس الأصلي (بذاته) ، وقال: شحوم الميتة لا نبيعها، وإذا انصب التحريم على البيع انصرف عن بقية الانتفاع كالاستصباح، ودهن السفن وغير ذلك. الذي يهمنا في فقه الحديث الرواية التي ساقها الطحاوي: (استصبحوا به) ، والذي عليه الجمهور: أنه مال يجوز الانتفاع به، ويبقى النهي والتحريم خاصاً بالأكل؛ لأنه تنجّس، والإنسان لا يأكل النجس. إذاً: المؤلف رحمه الله جمع الحديثين معاً؛ ليبين حكم ما إذا وقعت الفأرة في جامد أو مائع، ثم هل الأمر يقتصر على الفأرة والسمن أو يقاس على الفأرة كل ما شاكلها، وعلى السمن كل ما شاكله؟ هناك حيوانات تقارب الفأرة مثل ابن آوى وابن عرس واليربوع أو الجربوع، هذه كلها حيوانات يعرفها أهل البر، منها ما يأكلونه ومنه ما لا يأكلونه، فهذه كلها من فصيلة الجرذان -الفئران-، فهل يقتصر الحكم على الفأرة أو يعم الجميع؟ قالوا: يعم كل ذي نفس سائلة، لو أن قطة صغيرة سقطت في السمن، وبعض الفئران الكبيرة التي في البساتين أكبر من القطة الصغيرة! فنقول: حكمها حكم الفأرة تماماً، وكذلك أنواع الجرذان مثل: اليربوع أو الجربوع، وبنت عرس، وابن آوى، كلها حيوانات صغيرة تعيش في البيوت وتعيش في البساتين، فإذا سقطت في مائع فهذا حكمها. وتلك الحيوانات بما فيها الفأرة والهرة الصغيرة إذا وقعت في ماء مستبحر - (بركة كبيرة) أو كما يقول الفقهاء: فوق القلتين، على اختلاف في تقدير القلتين- وماتت فيه واحدة من تلك الحيوانات، وكان الماء فوق القلتين، يأتي الحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: لا يتنجس، وقيل: لا يحمل، يعني: يضعف وينجس، والجمهور على أنه (لا يحمل الخبث) يعني: الخبث لا يؤثر فيه، بل يتلاشى. إذاً: القضية أعم من مجرد فأرة وسمن.

شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب)

شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب) قال رحمه الله: [وعن أبي الزبير قال: (سألت جابراً رضي الله عنه عن ثمن السنور والكلب فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) . رواه مسلم والنسائي، وزاد (إلا كلب صيد) ] . انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر حكم النجس والمتنجس -من المطعومات- إلى هذين الصنفين، فـ جابر رضي الله تعالى عنه يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر، والزجر: النهي بشدة. قوله: (عن ثمن الكلب والسنور) السنور: هو الهرة أو البسة، أو القطة، ويطلق على الذكر والأنثى، والكلب والسنور مخالطان للبيوت.

طهارة السنور

طهارة السنور سُئل صلى الله عليه وسلم عن الهرة فقال: (إنها ليست بنجس) ، أي: في حياتها؛ لأن الموت ينجس كل حي طاهر، وكل ميت نجس، إلا الإنسان، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] . كانت بنت أبي كبش تصب الماء لزوجها وهو يتوضأ، فجاءت هرة، فأصغى إليها الإناء حتى شربت، فنظرت تتعجب! قال: أتعجبين! -يا ابنة عمي- من ذلك؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ليست بنجس -يعني: ليست نجسة في حياتها- إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) . وقالوا: إذا رأيتها تشرب من إناء فإن شربها لا ينجسه، وهناك قول شاذ عن بعض التابعين أنه ألحقها بالكلب، يسبّع سؤرها بالغسل ويترّب، ولكن هذا شاذ مردود. فكونها من الطوافين ومن الطوافات فقد تشرب من هذا الإناء، وتلعق من هذا، وتذهب وتدخل، وتمشي على الفراش، فهي ليست بنجس. قوله: (من الطوافين) : مَنْ الذي يطوف علينا؟! هل هناك من يطوف علينا في الليل؟! أليس للبيوت عماراً؟! أليس يطوفون بالبيوت، فمنهم من يظهر ونراه، ومنهم من يختفي، وخاصة في المدينة؟ وقد بيّن صلى الله عليه وسلم: أن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم. والحكايات والوقائع الفعلية أكثر من أن تحصى. إذاً: هناك طوافون: من ملائكة، أو جن، أو مما يكون، وهي من ضمن أولئك الطوافين، وبتطوافها عرفنا أنها طاهرة، ويقول العلماء: إذا رأيتها تشرب، أو تلعق إناء فسؤرها طاهر، إلا إذا رأيت على فمها أثر نجاسة، فيمكن أن تكون لتوها أكلت فأراً، -لأن العداوة بين الفأر والقطة عجيبة جداً! - فإذا رأيت على فمها أثر النجاسة، فهذا شيء طارئ، ولكن سبحان الله! القطة عندها خصلتان، تعتبر في القمة في النظافة، حتى أكثر من بعض الناس! فإذا أكلت فريسة، حالاً بلسانها تنظف فمها، ولا يبقى على فمها أثر النجاسة أبداً، وبعض الناس تبقى الدسومة على فمه ولا يغسلها! وإذا أرادت أن تقضي حاجتها حفرت ودفنت، فهي مكافحة الأوبئة. لقد شاهدت هرة تذهب إلى الكرسي في الحمام وتقضي حاجتها، وبعضها تقضي حاجتها على الفراش. إذاً: الهرة من حيث هي في ذاتها ليست نجسة والحمار اختلفوا في ذلك؛ قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يركبه عرياً -أي بدون رحل- ومعلوم أن الحمار يعرق، ولو كان نجساً لتنجس بعرقه، ولكن الحياة أصل الطهارة كما قال مالك رحمه الله تعالى؛ ولذا الحمار يشرب من السطل، ويشرب من القدر، وسؤره ليس نجساً.

الكلاب وبعض أحكامها

الكلاب وبعض أحكامها موضوع الكلاب جاءت فيه أمور عجيبة. منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ومنها: نهى عن قتل الكلاب، كانت في مرة من المرات كثيرة ومؤذية، والمرة الأخرى نهى عن قتلها؛ لأنها أمة من الأمم، اتركها تأكل من الخشاش. ومن الغريب! أنها في مرة من المرات كثرت جداً في الرياض، فقاموا وجمعوها في مركبات، وأخذوها على الدهناء، وتركوها هناك، والكثير منها مات من الجوع، فبعض المشايخ قال: ما لكم حق في قتلها، اتركوها في البلد، ولو عندكم شيء أعطوها إياه، فقالوا: تتكاثر إذاً! قال: اعزلوا الذكور عن الإناث. نهى عن قتل الكلاب، وأمر بقتل الكلاب! أي: الكلاب حينما تؤذي، لا مانع من ذلك، أما إذا لم تكن تؤذي فلا حاجة إلى قتلها. ثم صنف النبي صلى الله عليه وسلم الكلاب إلى صنفين: كلب يجوز اقتناؤه، وكلب لا يجوز اقتناؤه، كما سيأتي وأشار هنا: (إلا كلب صيد) ، وأيضاً كلب الحراسة، والماشية، فكلب الماشية، وكلب الحراسة، وكلب الصيد ينتفع به؛ فأبيح اقتناؤه، وسلم صاحبه من الزجر، وقد جاء: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية، أو ضارياً، نقص من عمله كل يوم قيراطان) ، ثم استثني هذه الثلاث، إذاً: من اقتنى كلباً للّعب، أو كلباً للمضاربة بين الكلاب، والمسابقة بينها والمصارعة إلى غير ذلك فهذا منهي عنه وينقص بسببه كل يوم قيراطان. وتقدير القيراطين مشكل، والأصل: أن القيراط جزءٌ من واحد صحيح متعدد الأجزاء، فما هو العرف عند الناس؟ الفرضيون يعتبرون المسألة: أربعة وعشرين قيراطاً، والصاغة يعتبرون الذهب الخالص أربعة وعشرين قيراطاً، فما مقدار القراريط التي جاءت: (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان) ، بعضهم يقول: القيراط كجبل أحد، وبعضهم ككذا. ولكن هنا في موضوع الكلب ممكن للإنسان أن يجتهد ويقول: نقص من أجره كل يوم قيراط، لو قلنا كمثل جبل أحد هل كل إنسان عنده في كل يوم مثل جبل أحد حسنات؟ ليس بشرط. فإذا لم يكن عنده قدر القيراط! فأقول -والله تعالى أعلم-: النقص الذي يطرأ على مقتني الكلب الممنوع اقتناؤه: يقسَّم عمله في يومه إلى أربعة وعشرين جزءاً، فمن الناس من يكون الجزء الواحد في قراريطه يعادل أربعة وعشرين قيراطاً من قراريط؛ لأنه إنسان مجتهد في العبادة، ويفعل الخير بكثرة، فقيراطه من أربعة وعشرين ليس كقيراط إنسان نائم طول الليل، وفي النهار تجده في الملاهي. إذاً: نقص القيراط هو: نقص جزء من أربعة وعشرين جزءاً من عمله اليومي، وقال بعض العلماء: قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل الليل، حتى تكون هناك مساواة، لأن بعض الناس قد يكتسب في الليل من الأجر أكثر مما يكتسب في النهار، والبعض بالعكس، فالذي يكون نهاره صيام وليله قيام، ليس كالشخص الذي لا يصوم ولا يقوم. إذاً: جاء أولاً الأمر بقتلها، وجاء ثانياً النهي عن قتلها، ثم أيضاً جاء الزجر عن اقتنائها، وجعل في اقتنائها نقص القراريط، واستثنى منها ما ينتفع به: من صيد، ومن حراثة، ومن ماشية. جاء الآن الكلام في بيعه، فإذا جمع إنسان عدة كلاب، وعلمها الصيد، أو توالدت عنده، وعلمها الحراسة، وعلمها حراسة الماشية، ونعرف أن كثيراً من الرعاة يكون معه كلبان أو ثلاثة رعاة، فلو شذت شاة يلحقها الكلب ويردها، هذا كلب ماشية، وشاهدنا بأعيننا الكلب يلحق البقرة الشاردة ويمسك حبلها ويردها. إذاً: هذا فيه فائدة، وكذلك كلب الحراسة في الليل، فصاحب المزرعة، أو البيت لا يحرس طوال الليل، وإنما يكفيه وجود الكلب، وكذلك كلب الصيد، يغنم من ورائه من الصيد ما يصطاده عن طريقه. إذاً: وجود المنفعة في هذا النوع أباح اقتناءه.

حكم بيع الكلب وأكل لحمه

حكم بيع الكلب وأكل لحمه جئنا إلى البيع، فالبعض يقول: زجر عن ثمن الكلب مطلقاً، سواءً كان مأذوناً في اقتنائه -للصيد، والحراسة، والماشية- أو كان غير مأذون، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا كان من النوع المستفاد منه جاز بيعه وأخذ ثمنه؛ لأنك تبيع المنفعة التي يحصلها المشتري من ورائه، ونجد مالكاً رحمه الله يقول: يجوز شراؤه ولا يجوز بيعه. كيف وإذا أردت أن أشتريه فلا أشتريه إلا من بائع، والبائع لن يبيعه إلا على مشتر؟! قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن لينتفع، ولا يجوز للبائع أن يقبض الثمن! فأين يذهب به؟ لن يكون هناك بيع بل هبة، قال: ومن أتلفه فعليه القيمة، فمن أباح بيعه أوجب قيمته على متلفه. أما موضوع السنور فإن الشوكاني يحكي عن ابن عبد البر أنه قال: لم يثبت في ثمن السنور حديث، وتكلموا في رواية مسلم، التي جاء فيها، وقالوا: إن فيها راوٍ متكلّم فيه، ويتفق الجمهور على أن النهي عن بيع السنور للكراهية والنزاهة، أما النهي عن ثمن الكلب فهذا للتحريم إلا ما استثني، وهي الأصناف الثلاثة، وهذا الذي يقتضيه المقام، ويتعادل مع الوصف المناسب؛ لأن فيه منفعة، فإذا اشتراه الإنسان فلمنفعته. وهناك من يمنع بيع الكلب مطلقاً، وهناك أثر: (إذا أتاكم من يطلب ثمن الكلب فضعوا في كفه التراب) ، والتراب ليس ثمناً، وقد جاء في حق المداحين (فاحثوا في وجوههم التراب) ، وهذا تصوير وتقبيح، فكأنه يقول: ليس لك إلا التراب ثمنا على كلبك، وهل التراب ثمن؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] ، وهل بيت العنكبوت يستر شيئاً أو يقي من شيء؟ لا. والعلماء على ما تقدم من تفصيل فيما يتعلق بثمن الكلب والسنور، والله تعالى أعلم. فإن قيل: أيجوز أكل لحم الكلب أم لا؟ الجواب: الشوكاني له أبيات جميلة في ذم التعصب المذهبي، يحسن مراجعتها، وقد اشتهر عند الناس: أن مالكاً رحمه الله يقول بحلية أكل لحم الكلب، وهذا غير صحيح، الصحيح عند مالك أن الكلب طاهر، وأن التتريب والتسبيع في الغسل لا للنجاسة ولكن لأمر طبي، والآن ظهر مغزى الأمر الطبي في الكلب، خشية داء الكلَب الموجود في الكلب حينما يصاب، ويتفق الأطباء على أن داء الكلب لا يزيله إلا التراب، والتراب ليس لذاته؛ بل لأن فيه مادة تسمى (فيلورين) أخت (الكلورين) ، والكلورين مادة تطهر الماء الذي في الغدران، فحينما تذهب بعثة وليس عندها ماء، وتجد غدير ماء له زمن، وتخشى من مضرته لطول مكثه، تأخذ الماء وتضع فيه مادة الكلورين، وكنا قديماً نشم هذه الريحة في المياه في البيوت، كانوا يضعونها في خزانات المياه تطهيراً للماء. فمن فصيلتها (فيلورين) ، وهذه المادة هي التي تقضي على جرثومة الكلَب، وهي بكثرة في التراب، وأكثر ما تكون في أرض عرفات، تربة أرض عرفات غنية بالفلورين أكثر من جميع الأراضي. ومالك له في هذا بحث طويل، والمتأمل والمتحرر من التعصب يرى: أن مذهب مالك صحيح. فلما قالوا بطهارة الكلب، قالوا: إذاً: هو يجوز أكله، وألزموهم بمقتضى قوله، ولكن الأصوليين يقولون: لازم القول ليس بقول. أتلزمني بما لم أقله؟ فإذا كان هذا لازماً، لكن أنا لا أقول به. إذاً: مالك -صحيح- يقول بطهارة الكلب ولا يقول بجواز أكله.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [4]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [4] حرص الإسلام كل الحرص على حرية الإنسان، وحارب الاسترقاق، وحث على تحرير وعتق الرقاب، وأوجبه في مواطن كثيرة، ومنع طرق الاسترقاق إلا طريقاً واحداً، وهو طريق الجهاد، بينما فتح أبواب العتق، وعددها، ونوعها، وجعل لها أحكاماً، ومن أسباب العتق التي شرعها الإسلام المكاتبة.

حديث: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق.

حديث: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق ... ) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة، فقالت: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة رضي الله عنها، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) ] . هذا الحديث يعتبر من أمهات الأحاديث: صيغة، وأحكاماً، وتشريعاً، وكما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان في بريرة ثلاث سنن، وبريرة كانت مزوجة برجل اسمه مغيث وكان يحبها، وكان مملوكاً، وهي مملوكة فعتقت بعد أن اشترتها عائشة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مملوكة تحت مملوك: متعادلان، والآن أصبحت حرة، وهو مملوك، فهنا اختل التوازن واختل التعادل، والكفء يجب أن يكون مكافئاً لزميله، والعبد لا يكافئ الحرة، لكن نظراً للعقد المتقدم، قال لها: (أنت لك خيار، إن شئت بقيت على عقدك مع المملوك، وإن شئت فسخت نكاحك بالحرية) فاختارت نفسها، فكان مغيث يتبعها في الطرقات ويبكي، يدريها أن ترد نفسها إليه، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا بريرة! انظري لحال مغيث -فعلمتنا الأدب- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) انظر الأدب: تشفع لـ مغيث عندي، وتكون شفيعاً، والشفيع قد تقبل شفاعته وقد ترد، أو آمر لي بالعودة إليه، والأمر يقتضي الوجوب، (أشافع أنت أم آمر؟ -ماذا قال لها؟ - قال: لا، أنا شافع) ، فقالت: (لا حاجة لي فيه) وقولها هذا يساوي: أرد شفاعتك، لكن بأدب.

أهمية حديث بريرة

أهمية حديث بريرة هذا الحديث النبوي الشريف، من الأحاديث العظيمة، وقد اشتمل على العديد من الأحكام، وخاصة: الشروط في البيع، وما يتعلق بالمكاتبة، وبيع المكاتب، وحكم الولاء، والاشتراط فيما لا يوافق كتاب الله إلى آخره، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله -مؤلف كتاب فتح الباري-: أن بعض العلماء عني بهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه، فذكر عن ابن خزيمة أنه ذكر فيه مائة مسألة، وابن خزيمة: ذكر عن غيره أنه قال: اشتمل على أربعمائة مسألة فقهية، وهل بعضها يتداخل مع بعض أو لا يتداخل؟! الذي يهمنا شدة عناية العلماء بهذا الحديث. والواقع أنه جدير بذلك، ونمضي مع هذا السياق كلمة كلمة، فهنا يقول المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءتني بريرة) مجيء بريرة من بيت أهلها إلى بيت عائشة فيه كلام؛ فـ بريرة أمة وجارية وكانت تخرج لخدمة عائشة قبل مكاتبتها لأهلها، فهي تعرف عائشة من قبل، وهي التي قالت -حينما خاض الناس في حديث الإفك وسأل النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: سل الجارية تخبرك- قالت: والله! إنها لجارية، ولا أعيب عليها إلا أنها تعجن العجين وتنام عليه، حتى تأكله الدواجن، يعني صغيرة لا تدري عن شيء، فلما كاتبت أهلها قامت تسعى.

حكم المكاتبة ومعناها

حكم المكاتبة ومعناها قال الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] ويقول العلماء: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} خيراً هنا عام: خيراً في السلوك، وخيراً من نظير قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] ، يعني: إن علمتم أنهم يستطيعون أن يدفعوا المكاتبة. وأصل المكاتبة: أن يريد السيد مالاً، ويريد أن يبيع العبد، أو المملوك، والمملوك لا يريد أن يخرج من رق إلى رق، ويريد أن يشتري نفسه، أي: يعوض سيده عما يقبضه من ثمن من سيد آخر، وينتقل من سيد إلى سيد، فيكاتبه ويتفق معه على مقدار معين، ويشترط في الكتابة أن يكون الثمن منجماً، وأصل النجم لغة: الكوكب في السماء، وهي النجوم المنتشرة في السماء، والعرب تسمي الأجل نجماً، حتى حمل بعض العلماء قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] قالوا: نزول القرآن منجماً، يعني: على فترات، وكانت العرب إذا استدانت كتبت الوفاء عند ظهور النجم الفلاني، وهم يعرفون مسيرة النجوم ومواقعها، وهذا من بعض علومهم العامة. ويستحب أن يسامح سيد العبد المكاتب في القسط الأخير أو بعضه، فـ بريرة كاتبت أهلها على ما ذكرت لنا تسع أواق، كل سنة أوقية، يعني منجمة على تسعة أنجم، والمكاتب من حقه أن يسعى ويطلب، ويحق له الطلب والسؤال، وله من الزكاة حصة قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ، فيأخذ من الزكاة جزءاً ليكمل به ما نقص عليه من الدين في مكاتبته. وهنا جاءت بريرة إلى عائشة فقالت: أعينيني في النجم الذي سيأتي، وليس في التسعة الأنجم، وبعضهم يقول: إن بريرة جاءت عند العقد، ولم تكن قد دفعت لا قسطاً ولا نجماً، وبعضهم يقول: لقد دفعت أربعة أنجم، وبقي عليها خمسة أنجم، فجاءت تستعين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل ذلك يؤخذ من حديث بريرة في شأن المكاتبة.

لا يشترط استئذان الزوج في المكاتبة

لا يشترط استئذان الزوج في المكاتبة بريرة لها زوج، والمكاتبة إذا أوفت ما عليها من دين الكتابة تحررت، وإذا تحررت خُيرت في نكاحها، فهل يُستأذن زوجها صاحب العصمة في مكاتبتها -لأن المكتابة ستخرجها من عصمته- أو لا يُستأذن؟ بريرة ما ذكرت أنها استأذنت من مغيث، إذاً: المكاتبة حق لها، وبه تستكمل حريتها، والشرع يحث على تحرير الرقاب، فلم يدع الأمر لرأي الزوج، فإن وجدت المكاتبة بنفسها فلا تستشير زوجها، ولا يؤخذ رأيه.

المكاتبة في عصمة الزوج ما بقي عليها درهم

المكاتبة في عصمة الزوج ما بقي عليها درهم وكذلك مجرد الكتابة لا يُخرجها من ذمة وعصمة الزوج، ولكن تبقى على عصمة زوجها حتى توفي جميع المكاتبة، والمكاتب: عبد ما بقي عليه درهم، وللسيد أن يعجز مكاتبه، فمثلاً تكاتبا على تسعة أقساط، فدفع ثمانية أقساط، فليس له الحق أن يقول: أنا تراجعت، أنا لا أريد مكاتبة، ويرجع المكاتب في رقه من جديد، وقد أخذ الثمانية الأقساط، ويقول: العبد وما ملكت يمينه لسيده! وقد كنت قبل المكاتبة تسعى وتعمل وتعطيه للسيد! وقد جاء النهي عن كسب الأمة وهو عام، حتى في الخدمة مخافة إذا فرض عليها شيء يومي: من غزل من غسل من من، ولم تجد المقرر عليها يومياً، فربما لجأت إلى طريق غير سليم، وبعضهم يقول: إذا كان عندها صنعة، أو استطاعت أن تعمل، وقد فرض عليها السيد مقداراً معيناً في كل يوم، واستطاعت أن تأتي به يومياً أو أكثر فالأكثر لها، والذي شارطها عليه له، فهذه كاتبت ولم يؤخذ رأي الزوج في ذلك، وعقد المكاتبة لم يخرجها من عصمة الزوج، فجاءت في طريقها لتكمل عملية المكاتبة.

جواز المسألة للمكاتب

جواز المسألة للمكاتب جاءت إلى عائشة -لأنها تعرفها من قبل- فطلبت منها المساعدة، وهكذا كل مكاتب له الحق بأن يسأل ويسعى، ويأخذ من الصدقات والزكاة، فـ عائشة قالت: إن كان أهلك كاتبوك على تسع أواق في تسع سنوات، فأنا مستعدة أن أعدها، يقف العلماء عند كلمة (أعدها) قالوا: لأن عُرف الحجاز حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان عد الدراهم، وبعد مجيئه كان الوزن، والآخرون يقولون: بل العكس؛ لأنه جاء في الحديث: (المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة) ، ووحدوا المكيال والميزان حتى إذا اختلفوا في الوزن رجعوا إلى عرف مكة، وإذا اختلفوا في الكيل رجعوا إلى عرف المدينة؛ لأن أهل المدينة أهل تمور وحبوب، تحتاج إلى الكيل، وأهل مكة أهل تجارات فالوزن إليهم أقرب، فهنا قالت: أعدها، وفي بعض الروايات: أصبها لهم صباً، يعني: إذا كانوا كاتبوك مكاتبة منجمة على تسع سنوات فأنا الآن أعطيك، وفرق كبير عند البائع أن يبيع شيئاً مقسطاً إلى تسع سنوات وأن يأخذ الثمن حالاً، فالمال لا نقص فيه، بل إن البائع بالتقسيط، لو وجد المبلغ كاملاً (حالاً) ولو بناقص كان أربح له، فهي تقول لهم: المنجم بعيد، وأنا أعطيكم إياها الآن كاملة، ويكون الولاء لي.

الولاء

الولاء الولاء مبحث مستقل، وأوسع ما يكون في الفرائض، وهو كما يقولون: وصف اعتباري سببه نعمة العتق، والولاء بين المعتق والمعتق لحمة كلحمة النسب، ينسب إليه ولا يُباع ولا يوهب ولا يورث، إنما ينتقل بالعصوبة، فلو أن إنساناً أعتق عبداً صار له الولاء، ثم مات عن زوجة وولد، فالزوجة ليس لها شيء في هذا الولاء؛ لأنها إذا دخلت الزوجة دخلت بالميراث، ولكن ينتقل الولاء للولد؛ لأن الولد حل محل أبيه، فالولاء لا يوهب ولا يباع ولا يورث، مع أن الميراث كسب إجباري على الوارث، والولاء كما يقولون: الدرجة الثالثة في مراتب الميراث؛ لأنه يُقدم أولاً: صاحب الفرض، وثانياً: العاصب، وثالثاً: الولاء؛ (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى ذكر) أي: عاصب، فإذا مات الميت، وعنده من يرث بالفرض، وأخذوا فروضهم، فالباقي للعاصب، فإذا لم يوجد عاصب ووجد صاحب الولاء، فأصحاب الفروض أخذوا نصيبهم بفروضهم، ولما لم يوجد عاصب بالنسب جاء العاصب بالولاء، ولهذه القوة قالت عائشة: (ويكون ولاؤك لي) ، وهو وصف اعتباري يلزم المعتَق طيلة حياته، وحتى موالي مواليه، يكونون موالي للمعتِق الأول، فقالت: أذهب وأخبرهم، فذهبت بريرة لتخبرهم أن عائشة مستعدة أن تدفع لكم كل الباقي، وأن يكون الولاء لها، قالوا: لا، وحقيقة المكاتب لو استمر في المكاتبة، وأوفى الكتابة لسيده؛ صار حراً، وولاؤه للمكاتب؛ لأنه هو الذي تسبب في عتقه، فهم كاتبوها ليكون الولاء لهم، وهنا قالت عائشة: (أدفع لهم، لا أن تدفع لـ بريرة، فلو دفعت لـ بريرة لكانت مساعدة لـ بريرة على المكاتبة، ولا دخل لها في الولاء، ولكن تدفع لأسيادها الذين كاتبوها، إذاً: دخول عائشة سينسخ المكاتبة، ويُغير العقد إلى بيع، كما جاء في الرواية (اشتريها وأعتقيها) ؛ لأنه لا يتم لها عتقها إلا بعد أن تمتلكها، فلو دفعت لـ بريرة لم تمتلكها بهذا الدفع، أما إذا دفعت لأسيادها فقد اشترتها منهم، وإذا اشترتها وأعتقتها فالولاء لمن أعتق، فأبوا، وقالوا: لا، إن كانت تريد أن تدفع محسنة فالمحسن لوجه الله، أي: تحسن إليك، ويكون الولاء لنا، فلما أبوا رجعت ثانية إلى عائشة تخبرها، وصاحب الحاجة ملحاح فهي تريد أن تنجز أمرها، في مجيئها الأول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، ولما ذهبت وسألت أهلها ورجعت كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً، وفي بعض الروايات: (فسارتها في أذنها،) بريرة لا تحب أن تُسمع الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى هذه الحركة والوشوشة قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وعائشة رضي الله تعالى عنها -كما في بعض الروايات- لما أخبرتها برفضهم، وقولهم: فلتحسن، قالت: لا، ورفعت صوتها؛ لتسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وسواءً الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابتداءً، أو نتيجة لرفع عائشة صوتها. وهنا أيضاً: وقفة رب البيت، يرى امرأة تدخل بيته وتُسار زوجه! فمن حقه أن يسأل: ما شأنها؟ ولاسيما في هذه الآونة، فحينما تدخل امرأة أجنبية أو غريبة وتُسار الزوجة أمام زوجها أو علم بعد ذلك، فله أن يسأل: ماذا تكون هذه المرأة؟ هل هي صالحة أم طالحة؟ فمن حق رب البيت أن يسأل عن مجيء تلك المرأة، وعن غرضها، حفاظاً على بيته، فقال: (ما بال هذه المرأة؟) فأجابته عائشة: جاءتني وطلبت مني كذا، وأرسلتها ورجعت. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الخبر، ثم أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عليك: (اشتريها) لم يقل: أعينيها في المكاتبة، ولكن قال: (اشتريها) وفي بعض الروايات: (خذيها) ، تأخذها بماذا؟ تأخذها بالشراء: (اشتريها وأعتقيها) .

الشروط الباطلة غير معتبرة ولو كانت مائة شرط

الشروط الباطلة غير معتبرة ولو كانت مائة شرط بالشراء يصح أن تعتق؛ لأن العتق فرع عن الملك، وهنا وقفة خطيرة في قوله: (اشترطي لهم الولاء) ، كيف تشترط لهم الولاء عندما تشتريها وحقيقة الأمر أنه: ليس لهم ولاء؟! هل نعبر عن هذا بمغايرة الواقع؟! في غير بيت النبوة نقول: هل هذا خداع للبائع؟ لأنه تساهل معك، وباعك على أن الولاء لهم، والولاء جزء من الثمن، فحينئذ تقول: نعم لك الولاء، ثم ترجع وتقول: ليس لك ولاء! فضيعت عليه الولاء! قالوا: هذا بعيد عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف يقول هذا الكلام؟! قالوا: لأنه سبق أن أعتقت رقاب عديدة، وأخبرهم سابقاً: بأن الولاء لمن أعتق، فكيف -مع علمهم المسبق- يريدون من عائشة أن تشتريها، وتعتقها، ولهم الولاء، على خلاف ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل؟ إذاً: بما أنهم اشترطوا شرطاً باطلاً، ويعلمون بطلانه، فهو تجاوز منهم للحد، والشرط الباطل لا اعتبار له، ولو كان مشروطاً في مجلس العقد، فاشترتها وأعتقتها، وهنا يجري التشريع العام، ولا تأثير لما أحدثوه من شرط باطل. إذاً: القضية بين أربعة أشخاص: سيد بريرة وبريرة وعائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طرفا البيع والشراء، والسلعة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي سمع الخبر، وهذا لا يكفي لإعلان الموضوع، وتأكيده؛ ولذا لما تم شراؤها وعتقها، وثبت الولاء لـ عائشة -بمقتضى هذا الشراء- العتق صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر. وهنا تأتي رسالة منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت حاولت أن أجمع رسالة في القضايا الخطيرة التي عولجت على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عظيمة وعديدة وكثيرة، هذا المنبر الذي أدى رسالة أعظم من أي منصة في أكبر جامعة، صعد النبي المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُبلغ أمراً، أو يشرح أمراً، أو يعلم الناس شيئاً، قال: احضروا المنبر؛ فيعلم الناس بعضهم بعضاً، فيحضرون حول المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وهذا من شروط الخطبة وآدابها، ثم هل قال: -لماذا يا أهل بريرة! فعلتم؟! لا، - ولكن قال: (ما بال أقوام) ، هم قوم فقط، وهم أهل بريرة، ولكن عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي التشهير؛ لأن تسمية أشخاص بأعيانهم في صلب التشريع ليس مهماً، فأصحاب الكهف: ثلاثة ورابعهم، خمسة وسادسهم، سبعة وثامنهم، من هم؟ وما أسماؤهم؟! وما الذي يفيدنا من معرفة أسمائهم؟! بل الذي يفيدنا صلب القضية، وماذا كان منهم وعليهم، وهذا موسى يخاطب فتاه كما قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:62] ، وهو الذي سافر معه، وحمل الغداء؛ ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: الشخصيات، والعينيات التي لا تعلق لها بالتشريع، لم تسم؛ لأن أسماءها لا تزيد في التشريع شيئاً {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17-18] من أي شجرة؟ لا نتدخل، وما طولها وما عرضها؟ لا نتدخل، عصا يتوكأ عليها. وهكذا (ما بال أقوام) الغرض بيان الحكم، وشرح القضية للناس، أما ما يتعلق بنوعية الأقوام والأشخاص والأفراد فهذا لا يغير في الموضوع شيئاً (ما بال أقوام) ، وأقوام جمع قوم، والقوم في اللغة يطلق على الرجال، ولا يدخل فيه النساء، كما قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء وكما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، فلفظ قوم يختص بالرجال، (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) يعني: ليست في كتاب الله بنصها وفرعها وكل موضوعها! يعني: ما بال أقوام يشترطون ولاءهم في عتق بريرة، وليس هذا النص في كتاب الله؟! كتاب الله لم يأت من أجل بريرة، ولا من أجل سعدة! إنما هو تشريع عام، ولكن كما يقول ابن حجر: يشترطون شروطاً ليست على نهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويزيد البعض: وإجماع المسلمين، أبيعك هذا العبد بشرط ألا تعتقه أبداً، دعه عندك حتى يموت! لماذا؟ هذا يتنافى مع مقتضى العقد؛ لأنني بشرائي العبد امتلكته كامل الملك، وكمال الملك يعطيني الحق بأن أتصرف فيه تصرفاً كاملاً، ومن التصرف الكامل: أن أبيع، أن أهب، أن أعتق إلخ، لكن أبيعك عبداً بشرط أن تعتقه، هل عتق العبد في كتاب الله أم لا؟ في كتاب الله؛ لأن الشرع حث على تحرير العبيد. إذاً: القرآن جاء بعتق العبيد، لا بمنع العتق، فإذا اشترط عليك: أن تعتقه، كان شرطاً في كتاب الله، وإن اشترط ألا تعتقه كان شرطاً ليس في كتاب الله، وهكذا، يعني: ما بال أقوام يخترعون من عند أنفسهم شروطاً لم يأت بها دين الإسلام، كل شرط ليس في دين الله -ضعها محل كتاب الله، يتبين لك المعنى- كما جاء في الحديث الآخر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود، كل شرط ليس في كتاب الله، أي: على مقتضى تشريع الله في كتابه، ولا على تشريع الله في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا على تشريع الله في إجماع علماء الأمة؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط. ويقولون: ذكر المائة هنا للمبالغة، فإذا كانت مائة شرط وهي مغايرة لكتاب الله فهي باطلة، أما لو كان شرطاً وشرطين فهل يقبل؟ لا، لا يقبل الباطل، كثيراً كان أو قليلاً، وقال: (قضاء الله أحق) أي: حكمه، وقضى ربك كذا، (قضاء الله أحق) أحق أفعل تفضيل من الحق ضد الباطل. وقوله: (وشرط الله أوثق) ، شرط الله: ما أباحه الله وأجازه، فهو أوثق من الشروط الأخرى؛ لأن الشرط الصحيح ملزم وموثق {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فالمؤمنون على شروطهم.

الولاء لمن أعتق

الولاء لمن أعتق وقوله: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، كل ما تقدم مقدمة، ثم قال: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، وهذه جملة مبنية على يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، وهو اشتراطهم الولاء لهم، وإن لم يكونوا هم الذين أعتقوا، أي: اشتراطكم ذلك باطل، والصحيح أن الولاء لمن أعتق، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، أو كان عبداً مملوكاً، فلو كان عبداً مملوكاً وسمح سيده له بالاتجار، وامتلك العبيد، وأعتق، صار ولاء عبيده -الذين أعتقهم- له، فإن ماتوا، ولم يتركوا عاصباً، ورثهم بالولاء، مع أنه إذا مات أبوه، أو مات أخوه لا يرثه؛ لأنه مملوك، لكنه ورثهم بالولاء. وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) . (اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها) ، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـ عائشة رضي الله تعالى عنها. تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما. إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها. وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياها، وبعضهم يقول: هو أعطاها واحدة، وهي طلقت ثلاثاً، والثلاث مشتملة على الواحدة ضمناً، فتكون الواحدة قد وقعت. وهكذا التخيير والتمليك حكم موجود بين الزوجين الأحرار حينما يكون هناك حسن العشرة، ويقولون: إن الزبير بن العوام كان مع زوجته في عشرة وفي مؤانسة طيبة، فاستحت أن تطلب منه الطلاق، وهو لم تطب نفسه أن يطلقها، وسكتت إلى قبل الوضع، وفي يوم جمعة، قالت: يا فلان! لم أطلب منك شيئاً إلا وأعطيتني، أريد أن تقر عيني بطلب واحد، قال: ما هو؟ قالت: تملكني نفسي إلى أن ترجع من الصلاة، فأحس أني طليقة، وأني حرة، وأني أملك أمر نفسي، قال: مرحباً، ملكتك أمرك إلى بعد الصلاة، فذهب وجاء فوجدها متغطية، فقال: ما بك؟! قالت: ملكتني نفسي، واخترت نفسي، وقد وضعت وخرجت من عدتك -امتلكت نفسها فاختارت نفسها فعليها العدة، ووضعت حملها، فخرجت من العدة- قال: خدعتيني. إذاً: التخيير والتمليك حكم موجود في باب الطلاق، فهنا أخبرها بأن أمرها في يدها، ماذا كان الأمر؟ اخترت نفسي، فعلم زوجها بهذا التخيير، وامتنعت عليه، قالوا: وكان يحبها أشد ما يُحب الرجل زوجه، فكان إذا رآها في الشارع، تبعها ويبكي ويستعطفها؛ لترجع إليه، وهي لا تلتفت إليه، ولا ترد عليه جواباً؛ وعلم بذلك الناس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم- فأشفق على زوجها، واسمه: مغيث، وفي يوم أصبحت عند عائشة؛ لأن عائشة مولاتها، وأصبحت واحدة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بريرة! انظري زوجك، انظري في أمره، فإن أمره صار شديداً، فقالت -كما ذكرنا سابقاً-: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) أقول: إن هذه الكلمة لا تفي بها قواميس الأدب، ومهما تطاول أديب بأن يُبين مدى أدبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يبلغ هذه الكلمة. أشافع -والشفاعة ليست لازمة- أم آمر؟ والأمر لازم، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، فقبل أن تجيب تأكدت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو شفاعة وشفقة بـ مغيث أو هو أمر وإلزام لها؟ فلما قال لها: (شافع) ، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج عائشة، وهي عتيقة زوجه، وأدبياً واجتماعياً له الحق أن يأمرها، ولن ترد عائشة أمره فيها، ولكنه يعطيها الحق المشروع لها.

حرية الكلمة في الإسلام

حرية الكلمة في الإسلام لنعلم مدى حرية القول والكلمة في الإسلام -ولكن في محلها- فهذه امرأة مملوكة معتوقة لزوجه صلى الله عليه وسلم يعرض عليها أمراً رفيقاً، فتستفسر فيجيبها بالرفق أيضاً، ولا يفرض سلطته عليها، مع أنه له الحق في ذلك ولو لم تكن معتوقة لزوجه؛ قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] سبحان الله! إذاً: من حقه أن يأمرها وينهاها، فالمرأة التي جاءت تعرض نفسها وتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له حاجة فيها، فقال رجل: زوجنيها يا رسول الله! فزوجه، بأي حق زوجه امرأة أجنبية؟! لأنه أولى بها من أبيها وأخيها، وكل عصبتها، فبولائه عليها امتلك حق التزويج، وهنا لم يفرض هذا الحق على هذه الجارية، وإنما قال: (أنا شافع) ، ما أعظمها من كلمات! وما أشرفه من موقف! فإذا بالجارية التي عُتقت بالأمس تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة الحق الناصع: (لا حاجة لي فيه) . فكأنها تقول: نعم، شفاعة طيبة وحسنة، ولكن أنا لا أستطيع أن أنفذ هذه الشفاعة، أي إنسان مهما عظمت منزلته، في أي دولة هل يمكن أن يرفض شفاعة رئيس الدولة في أمر أكبر من هذا، والله لا يقدر، لو قال: يا فلان أطلب منك كذا، فسيقول: سمعاً وطاعة على الرأس والعين، ولو رغماً عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يجابه رئيسه الأعلى، رئيس الدولة بطلب يطلبه، ويرفض ذلك! وهذه جارية تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (لا حاجة لي فيه) . علموا الناس الحرية الحقيقة في الإسلام، احترام الكلمة، واحترام الشخصية، وإعطاء الحقوق لأهلها، فهذه جارية وأعطاها حقها إلى هذا الحد، ولم يعنفها، فإذا لم يكن لك فيه حاجة فأنت وشأنك، وأنا أديت الذي عليّ، وشفعت فيه، وبعد هذا فالأمر إليك. من يستطيع أن يصور المعنى، ويبين هذا للعالم؟! وأصبحت بريرة حرة، ومغيث ذهب في سبيله.

سنة ثالثة وردت بسبب بريرة

سنة ثالثة وردت بسبب بريرة وجاءت في بريرة سنة ثالثة: حينما دخل صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فأتوه بخل وزيت وملح، فقال: (ألم أرى البرمة على النار؟) ومن حق الرجل أن يستطلع ما في بيته، لماذا خصصتم أنفسكم بهذا!؟ ولا يجوز للمرأة أن تختص نفسها بطعام دون زوجها أو عيالها، لماذا احتفظتم بالبرمة لكم وناولتموني الخل والملح؟! اعتذروا، وقالوا: لا، يا رسول الله! إن البرمة لا تحل لك! لماذا؟ ما هو السبب؟ لأنها صدقة، (لحم تصدق به على بريرة، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) انظروا التحوير، التحوير المعنوي غيرّ الحكم، إننا بالأمس نقول: التحوير المادي، وهنا تحوير معنوي: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) ، ما رأيك -يا بريرة - أتهدينا أو لا؟! فهل ستقول: لا؟! حكم عليها بأنه هدية، فستفرح بذلك بريرة لتهدي الرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً. هنا قضية صغيرة كنت قد سمعتها من الشيخ الأمين، والشيء بالشيء يذكر، كان هو وبعض القضاة في سفر، ونزلوا على قوم، وقام الناس وذبحوا لهم، والوقت وقت الظهر، وكانوا جائعين، فالشيخ الأمين انتظر الطعام والشراب وما حضر، وكانت هناك جارية ومعها عصيدة، وضعت عليها السمن، وبجوارها اللبن، وتأكل، فقال لها: يا جارية! أليس عيب عليك أن تأكلي والضيوف ينظرون جائعين؟! قالت: ما بك يا شيخ؟! أما علمت أن الناس قد ذبحوا لك ذبيحة؟! فتركت الذبيحة، وتتطلع إلى ما في يد الجارية! قال: نعم، هذا حاضر ناجز، وذاك غائب، قالت: أتحب أن تأكل منه؟ قال: نعم، قال: فقامت -فرحانة تجري- وحمّت العصيدة، وزادت السمن، وأتت باللبن من أجل أني قلت لها: أريد أن آكل من طعامك، وفرحت جداً وأتت به، يقول: فأكلت حتى شبعت، فقالت: تريد شاي (أتاي) ، قلت لها: نعم، فذهبت وفعلت الأتاي، وشربت ونمت مبسوطاً، صاحبه يقول له: يا شيخ! أنت لم تسمع ما قالت لك الجارية؟! الناس ذبحوا لنا الذبيحة، وتركت الذبيحة! قال: انتظر إلى أن تأتي الذبيحة! وبعد العصر جاءت الذبيحة، فالشيخ أخذ يأكل من الذبيحة بهدوء. يهمنا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وهو لنا هدية من بريرة) ، ثقة برضاها وفرحها بأنها ستهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هناك فرقاً بين القصتين، ولكن ذكرناها إيضاحاً للمعنى، وبالله تعالى التوفيق. أقول: الواجب على طالب العلم المتفرغ -ولا يوجد شبه المتفرغ- أن يأخذ مثل هذا الحديث الذي يعتبر كنزاً وموسوعة ومجالاً فسيحاً جداً لإعمال الملكة الفقهية، وإعمال الذهن، في استخراج الأحكام، كما سمعنا عن ابن خزيمة أن هناك من استنبط منه أربعمائة مسألة، وكما سمعنا عن الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، جملتان صغيرتان يستخرج منهما أربعين مسألة فقهية. إذاً: طالب العلم لا يمر على الحديث مرور الكرام، فيقرأه كقراءة الصحف أو المجلات أو المواضيع العادية، ولكن يقف عند كل لفظة، وعند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل تركيب؛ ليرى فيها أصول التشريع، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [5]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [5] هناك بيوع حرمتها الشريعة الحكيمة لمفاسدها الكثيرة، ومن ذلك تحريم بيع أمهات الأولاد وبيع فضل الماء وبيع ماء الفحل وبيع حبل الحبلة، وقد بين أهل العلم أحكام هذه البيوع، وحكمة الشريعة من تحريمها.

شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد

شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد. قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد فقال: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة) رواه مالك والبيهقي، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم] . يذكر المؤلف رحمه الله عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، أمهات الأولاد الأصل أنهن إماء وجواري مملوكات، وللسيد أن يستمتع بمملوكاته بملك اليمين، والاستمتاع بملك اليمين جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] . وعبر عن الإماء بـ ((ما ملكت أيمانهم)) ؛ لأن الغلبة في مواطن القوة تسند إلى اليد اليمنى؛ لأنها الأقوى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] وقال بعضهم: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاه عراضة باليمين ولما كان الجهاد بذلاً للقوة، وبذلاً الطاقة؛ عبر عن الأسارى الذين يؤخذون في الجهاد بملك اليمين التي هي شعار القوة، وتقدمت الإشارة إلى أن الإسلام لم يبح استرقاق البشر إلا في ميدان القتال، وفي غير ميدان القتال لا رق، وموجبه أن الكفار عارضوا مسيرة الإسلام، وأرادوا أن يوقفوها، وأن يستبدلوا بالإسلام غيره، فلما قدر عليهم بالأسر استرقوا وسلبوا الحرية.

سر جواز الاستمتاع بملك اليمين من غير حد بعدد

سرُّ جواز الاستمتاع بملك اليمين من غير حد بعدد وهنا يقول عمر: لا تباع ولا توهب، ولكن يستمتع منها ما شاء، فإذا مات عتقت. ومن هنا نعلم السر في أن الله سبحانه أباح للحر أن يستمتع من الحرائر بعقد النكاح بأربع، ولكن الاستمتاع بملك اليمين بلا عدد ولا حد، فلو امتلك أربعين أمة، أو مائة أمة فله أن يستمتع بجميعهن. وهذا موضع تكلم المستشرقون من خلاله على الإسلام، وقالوا: إنه أعطى الرجل المجال لإشباع غريزته ورغباته فيمن شاء من النساء، وغاب عنهم قول عمر: فإذا مات عتقت، وهو أن السيد إذا ما استولد الأمة، أو مجرد أن حملت منه، ولو سقط الجنين وتبينت فيه خلقة الإنسان، فإنها تصبح في عرف الشرع أم ولد، يعني: أم ولد للسيد، فإذا مات عتقت من رأس ماله، لا من الثلث، فإذا لم يترك إلا أم ولد فقط فإنها تعتق، وليس هذا كالذي تقدم: أن رجلاً أعتق عبداً له عن دبر، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل كان مديناً، فاسترجع العتق وباعه، وسدد الدين، أما أم الولد فلا تباع في الدين؛ لأنها بمجرد موت سيدها اكتسبت الحرية، فنقطة الصفر التي فاضت فيها روح سيدها هي نقطة الصفر التي تحررت فيها؛ ولهذا لا ترث؛ لأنها لم تكتسب الحرية في حياته، ولكن بعد أن انتهت حياته بدأت حريتها، فلم يلتقيا. وعلى هذا فمن حكمة الشرع أن أباح للرجل الحر أن يستمتع من الإماء بقدر ما شاء؛ لأن استمتاعه من الإماء بمثابة الطعم له في السنارة؛ لأنه بمجرد أن تحمل منه الأمة تصير أم ولد، وبذلك تكون قد اقتربت من التحرر، والشرع يحث على تحرير الرقيق. والمرأة التي تملك العبيد لا يحق لها أن تمكن نفسها من واحد منهم؛ لماذا؟ لأن ولدها سواءً كان من حر، أو من عبد، أو من ملك يمين؛ يكون حراً، إذاً: تمكينها العبد لا يأتي بجديد، بخلاف الأمة فإنها بذلك تكتسب الحرية، وولدها يصير حراً، ونسلها كذلك يكونون أحراراً، فاستمتاع السيد بالأمة لمصلحتها هي، وليس لمصلحته هو؛ لأنها تخرج من ملكه إجبارياً دون اختياره.

النهي عن بيع أمهات الأولاد

النهي عن بيع أمهات الأولاد الذي حصل في قصة عمر أنه كان جالساً فسمع صياحاً، فقال: يا يرفأ! -غلام له- انظر ما هذا الصياح! فذهب فوجد امرأة بيعت دون ولدها، باعها سيدها ولم يبع ولدها؛ لأن ولدها حر، إذ أنه من رجل حر، ولو حملت من غير سيدها فإن الولد يكون مملوكاً، أما إذا حملت منه فولده يصير حراً، وأمه تتحرر بموت السيد، فقال: إن أم ولد تباع، والصياح بين ولدها وبينها! فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ادع لي من كان هنا من قريش. فجمعهم وقال: هل ترون الإسلام جاء بقطعية الرحم أم أنه جاء بوصلها؟! قالوا: جاء بوصلها، قال: أرأيتم لو أن أحدكم من أم ولد وبيعت أمه وفُرّق بينهما أيقبل ذلك؟! قالوا: لا، قال: إذاً: لا تباع أم ولد بعد اليوم، ونهى عن بيع أمهات الأولاد. وإذا نظرنا إلى أمهات الأولاد فإننا نجد أن النهي عن بيعهن؛ لأنهن اقتربن من الحرية، فمتى مات سيدها تحررت وصارت حرة، لكن هناك شيء آخر: إذا اشترى الإنسان الأمة ومعها أولادها -من غيره- أو أنه زوجها لعبد، أو لحر، وأنجبت، فأولادها في الرق يتبعونها في ذلك، فأراد أن يبيعها، فقد جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المرأة وولدها -أي: الأمة وولدها- أو بين الأخ وأخيه، قال: إما أن يباعا معاً -الأمة والولد- وإما أن يبقيا معاً؛ تجنباً لقطيعة الرحم، وقاس العلماء زيادة على ذلك: كل ذي رحم لا يجوز أن يفرق بينهما. وقال الآخرون: النص موجود في الأمة وولدها، والأخ مع أخيه فقط. وهل هذا النهي عام يتناول جميع مراحل العمر أم أنه خاص بما دون البلوغ؟ قال البعض: إذا ما بلغ الولد وأصبح مستقلاً، فلو بيعت أمه وحدها فلا مانع؛ أما دون البلوغ فلا يجوز؛ لأنه ما زال صبياً، وهو في حاجة إلى أمه، وعطفها عليه.

من هي أم الولد؟

من هي أم الولد؟ عمر رضي الله تعالى عنه أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وسواء كان لها ولد حاضر، أو مات ولدها، المهم أنها جاءت بولد من السيد، فثبت أنها أم ولد بهذا الولد، فإذا عاش الولد سنة، أو سنتين فمات، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها أم ولد، وتصير حرة بموت سيدها، وهل تباع؟ لا؛ لماذا؟ لأنها أمسكت بأول خيط للحرية؛ فلا تباع، ولا توهب، ولا ترهن، فكل عقد يئول إلى نقل ملكيتها، لا يجوز، فلا تورث، ولا توهب، ولا تباع، ولا ترهن؛ لأن كل ذلك ينقل الملكية، والسبب في ذلك ما هو؟ أنها في طريق الحرية. هذا ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه. وبعضهم -كما قال المؤلف- يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً فسمع، فسأل، فمنعه، فإذا كان الأمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أصل في التشريع، وإذا كان موقوفاً على عمر، فـ عمر حينما قال ذلك قاله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقوه، وإن كان قد حدث أن علياً رضي الله تعالى عنه كان موافقاً على هذا، وبعد عمر رأى علي أن تباع، فقيل له: كنت مع عمر موافقاً! قال: والآن بدا لي ألا أوافق. قالوا: رأيك مع غيرك أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال علي وأنا لا أحب المخالفة، امضوا على ما كنتم عليه. إذاً: المخالفة للجمهور ليست جيدة، وكما قال ابن مسعود للذي اشتكى عثمان بأنه أتم في منى، وقد قصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصرنا مع أبي بكر، وقصرنا مع عمر، انظر ما فعل الرجل! قال: يا ابن أخي! الخلاف شر، فإن صليت في رحالك فاقصر، وإن صليت معه فوافقه. ومحل الشاهد عندنا قوله: (الخلاف كله شر) ، وهنا علي رضي الله تعالى عنه يقول: لا أحب الخلاف، امضوا على ما كنتم عليه، ولو كان على غير رأيه الذي استجد له.

شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا)

شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا) قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم حي، لا يرى بذلك بأساً) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني، وصححه ابن حبان] . المؤلف يأتي بالحديث هذا -حديث جابر - (كنا نبيع سرارينا -جمع سرية-: أمهات الأولاد) يعني: الذي نهى عمر عن بيعهن كنا نبيعهن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولا يرى بذلك بأساً) فكيف عمر رأى به بأساً؟! إذاً: المسألة متعارضة! قالوا: ليس عندنا من اليقين الذي يجعلنا نجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ببيعهم سراريهم، ولم يثبت أن رجلاً جاء وقال: يا رسول الله! بعت سريتي -أم ولد-، وكونه موجوداً وفي عهده؛ مظنة لعلمه به، والمظنة غير اليقين، وكما قالوا: (كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهينا عنه) . مع أن النهي قد جاء في صحيح مسلم والترمذي وغيره، وأنها الموءودة الصغرى: (أو تفعلون؟! ما من نفس منفوسة إلا وهي آتية، شاء أحدكم أم أبى) ، (ولو أن أحدكم ألقى الماء على حجر، وأراد الله أن يأتي بالولد لجاء) والرجل الذي جاء واستفسر الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لي جارية، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة، وأخشى أن تحمل، أفأعزل؟ قال: اعزل أو لا تعزل ما قدر لها سيأتيها، وبعد سنة جاءه وقال: يا رسول الله! الجارية حملت، قال: الله أكبر! أنا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لو أن أحدكم ألقى الماء على حجر وأراد الله منه الولد لجاء) ، والآن الطب يثبت هذا، فلو أراق الرجل الماء على حجر، وتجمرت به امرأة لنفذ الماء إلى الداخل وحملت، وهو شبيه بالتلقيح الصناعي، -الذي ملئوا به الدنيا صياحاً- فيؤخذ الماء من الرجل، ويوضع في رحم المرأة، وتتلقح بدون علاج، وبدون جماع، قالوا: كنا نعزل والوحي ينزل، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا: فهذه أمور فرضية، وقد جاء النهي عن ذلك، وهنا كذلك، يقول: والرسول حي. فالذين وافقوا عمر رضي الله تعالى عنه يقولون: ليس عندنا دليل قاطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم، وأقر، وسكت، وإنما لوجوده بين أظهرهم فمظنة ذلك أن يعلم بمثل هذه الصور. وبعضهم يقول: الحديث الأول مرفوع، فيكون ناسخاً لهذا؛ لأن المنع مقدم، والمنع إنما يكون بعد الإباحة؛ لأن الإباحة على الأصل والبراءة الأصلية، فجاء المنع فنسخ البراءة الأصلية، فيكون المنع هو المقدم.

شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء)

شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء) قال رحمه الله تعالى: [وعن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء) رواه مسلم] . من المنهي عن بيعه: بيع أم الولد، وكذلك التفريق بين ذوي الرحم، وجاء في الحديث: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ولا يدخل في هذا ما إذا كان يملك أمة، وزوجها وأنجبت، فأصبح يملكها ويملك ما أنجبته، فإذا باع باع الجميع، وإذا أبقى أبقى الجميع.

المراد بفضل الماء

المراد بفضل الماء وبعد ذلك جاء بالنهي عن بيع فضل الماء، والفضل هو: الزائد عن الحاجة سواء كان الماء للشرب واستعمال الآدمي، أو كان للزرع وسقي الحيوان؛ لأن هذه هي أنواع استعمال الماء، فهناك ماء لاستهلاك الشخص، وماء للزرع، وماء لسقي الحيوان، فهنا نهى عن بيع فضل الماء، و (ال) هنا للجنس، وقد حملها كثير من العلماء على جنس الماء، وفضل الماء: ما زاد عن حاجة صاحبه، فإذا حفر بئراً، وجاء الماء، فله أن يستعملها استعماله الشخصي، وما زاد عن حاجته فهو فضل، وإذا سقى زرعه، فما زاد عن حاجة زرعه فهو فضل، وإذا كانت عنده ماشية، فسقى الماشية، وبقي فضل من الماء عن ماشيته، فكل ذلك داخل في فضل الماء.

حكم بيع فضل الماء

حكم بيع فضل الماء اختلف العلماء: هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة والتنزيه؟ ونفرق بين الماء وموقع الماء، فسواء كان الماء في بئر أو في عين، أو في غدير، أو حفرة امتلأت ماءً وزادت عن حاجة صاحبها، كذلك إذا كان في الخلاء، ومعه ماء فائض عن حاجته، ووجد من يضطر إليه، فهذه مسألة أخرى: ويتعين عليه أن يبذل الفائض من مائه للمضطر إليه، ولو منعه الماء حتى مات فإن كان تعمد المنع لإماتته؛ اقتص منه، وإن لم يكن تعمد فعليه ديته؛ لأنه تسبب في وفاته بشيء هو في غنى عنه. ويقول بعض العلماء: إن النهي عن بيع فضل الماء قد نسخ، وبعضهم يقول: هذا للكراهية والتنزيه؛ للإرفاق بين المسلمين، ويجوز بيعه، هذا كله إذا كان الماء في موطنه: في بئره، في عينه، في مجرى السيل، في حفرته في الخلاء، أما إذا حازه لنفسه: في وايت، في قربة، في إبريق، فلا يحق لأحد أن يزاحمه عليه. ولا يدخل في فضل الماء ما إذا كان الشخص لديه ماء في خزان البيت، ويكفيه لعدة أيام أو أسابيع، فهذا ليس فائضاً عن حاجته، فإن كان فائضاً الآن فهو في حاجته غداً.

بيع الماء في زمن النبوة

بيع الماء في زمن النبوة بعضهم يقول: كان بيع الماء موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة بئر رومان -بئر عثمان - كان رومان -وهو رجل يهودي- يبيع الماء على أهل المدينة، فيأتون ويستسقون منه القربة بكذا أو الإناء بكذا، فضيق على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومان، يوسع به على المسلمين، وله الجنة) فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى رومان وساومه على البئر، فامتنع؛ لأنها مورد كسبه، فقال: لا أبيعها أبداً. فأعطاه وساومه إلى أقصى حد، قال: هلاّ بعتني نصفه، وساومه على النصف بقريب من ثمن الجميع، فرضي وفرح رومان، وباعه نصف البئر، فلما امتلك عثمان نصف البئر، اتفقا على تناصف البئر، على أن يكون يوم لـ عثمان، ويوم لـ رومان، ولما اتفقا على ذلك، أعلن عثمان لأهل المدينة: اليوم الفلاني لـ عثمان، واليوم الفلاني لـ رومان ففي يوم عثمان من أراد الماء مجاناً فليأخذه، فكان الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، وكان رومان ينتظر في يومه فلا يأتي إليه أحد؛ لأنهم اكتفوا بماء الأمس -ماء عثمان - فأتى رومان وقال لـ عثمان: اشتر الباقي. قال: لست في حاجة إليه، وهذه بصيرة المسلم! (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) . فكان رومان يبيع الماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يجوز ما دام في حوزته، وفي بئره، أو في ملكه، أو في عينه التي تجري في أرضه، أما الأماكن والمواطن العامة، فلا يجوز بيعه فيها، كالسيل الذي يجري تأتي وتبيعه! أنت لا تملكه، فكيف تبيعه. فأجاب المانعون وقالوا: هذا ليس بدليل، رومان يهودي، واليهود كانت لهم سلطة في المدينة، وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم نفوذ في المدينة، إلى أن كتبت الصحيفة بينهم، فما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعارض أعمالهم وتصرفاتهم. ولكن هذه الحجة ليست قائمة؛ لأن الصحيفة جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعاً لكل ما اختلفوا فيه، فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم في المدينة على كل الطبقات: اليهود، والمسلمين، والمشركين، والمنافقين، الكل تحت إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه.

حديث: (الناس شركاء في ثلاثة) وعلاقته بهذا الباب

حديث: (الناس شركاء في ثلاثة) وعلاقته بهذا الباب هذا الموضوع فتح على الناس أبواباً أخرى، فقالوا: لا يجوز أن يبيع الحطب الزائد، ولا الكلأ الموجود في أرضه، فلا يمنع غيره من أن يرعاه، إذا كان زائداً عن حاجته، واستدلوا بحديث: (الناس شركاء في ثلاث) ، وقامت فتنة الاقتصاد على هذا الحديث ممن جهله. والتحقيق: أن الناس شركاء -صحيح- في الماء، والنار، والكلأ، والنار يتبعها الحطب، لكن شركاء في ما هو عام، الآن في الوقت الحاضر، في الشعاب، والوديان، لكل واحد منا أن يقول: الناس شركاء، من شاء فليذهب فليحتطب، وما احتطبه فهو له، ولا يمنع أحد أحداً؛ لأنهم شركاء فيه، ومن سبق إلى شيء أخذه، ولكن بعد أن يحتطب ويحوزه هل تأتي وتقول: أحضر نصف الذي عندك، أنا شريكك؟! أنا قائم من الليل، أجمع الحطب، وأكسر، وأحزم، وأحمل، وأمشي، وأنت قاعد في بيتك، فتأتي وتقول: أنا شريك معك! لا يمكن هذا أبداً. والشاب الذي جاء يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، فوجده جلداً قوياً، فقال: يا هذا! الصدقة لا تحل لك، قال: ما عندي شيء، أنا وعجوز في البيت لا نمتلك إلا حلساً نفترش نصفه، ونلتحف بالنصف الثاني، وقعباً نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما. فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين -في المسجد- وقال: خذ هذا الدرهم واشتر طعاماً واجعله عند أمك، وهذا الدرهم اشتربه فأساً وحبلاً وائت، ثم جعل عوداً في الفأس وقال: اذهب فاحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، احتطب وبع، هذا الذي يحتطب ويأتي ويبيع، يبيع ما يملكه أو ما لا يملكه؟ هل لأحد أن يقول: أنا لي نصف ما احتطبتَ؟ لا، أنت وهو شركاء في الحطب ما دام في موقعه، لكن إذا حازه وجمعه وحزمه، فليس لك فيه حق، وهؤلاء الذين كانوا ينادون بالإشتراكية، هل أحد منهم يسمح لإنسان أن يدخل بيته ويأخذ كأساً من الماء؟! فقد كانوا يبيعون الماء والنار، فمصلحة المياه، تضع العداد باللتر، والكهرباء -وهي نار- العداد يعد عليه بالفولت، والفحم كانوا يبيعونه، ولم يشركوا الناس ولا في واحد من ذلك؛ لماذا؟ لأنه في حيازتهم. إذاً: قوله: (شركاء) إنما هو في ما كان في موطنه وموقعه، أما بعد أن حازه، وأصبح في يده وملكه، فليس لأحد فيه شراكة. فهنا النهي عن بيع فضل الماء، وأدخلوا معه: (الناس شركاء في ثلاثة) ولكن هذا ليس بصحيح، فإنما يراد بذلك الإرفاق، مع اتفاق الجميع: بأن من باع البئر فإن البيع صحيح، والماء تبع للبئر، فـ رومان لما باع نصف البئر كان له نصف الماء تبعاً، إذاً: بيع مكان الماء، ومجرى الماء، ومحتوى الماء، جائز. إذاً: جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب، فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك، فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى من وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض: حفرة بها ماء، وليست ملكاً لك، فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك. ولـ ابن القيم رحمه الله زيادة بحث في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل)

شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل) قال رحمه الله تعالى: [وزاد في رواية: (وعن بيع ضراب الجمل) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) رواه البخاري] .

علة النهي عن بيع ضراب الجمل

علة النهي عن بيع ضراب الجمل ضراب الجمل: هو ماؤه الملقِح، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الماء -مني الجمل- ولماذا؟ قالوا: يرد عليه عدة محظورات، فهل تملك أن تستخرج ماء الفحل منه؟ لا، وإذا بعت فكم الكمية؟! ومن يقدرها؟ وإذا تجاوزنا الكمية، فهل تضمن بأن هذا الضراب من هذه المرة سيلقح وينتج أو أنه يمكن أن ينتج ويمكن ألا ينتج؟! إذاً: شروط استيفاء البيع بالملك: القدرة على التسليم، معرفة السلعة، كل ذلك مجهول في ضراب الفحل.

جواز المكارمة في ضراب الفحل دون المشارطة

جواز المكارمة في ضراب الفحل دون المشارطة وجاء أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نكارم -أو نكرِم أو نُكرَم- على ضراب الفحل. قال: لا بأس) إنسان عنده فحل، فيأتيه صاحب الناقة فيطلق فحله عليها، ثم يكارمه بكيس شعير، بشيء من العلف للجمل دون مشارطة بيع، فلا بأس بذلك، وهذا عام في جميع الحيوانات ذات الذكور والإناث، فعسب الفحل هو ضراب الفحل، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه مشارطة، أو مساومة، أو مكاسرة، لكن أن يكارم عليه فلا مانع من باب المجاملة، ومقابلة المعروف بالمعروف.

حكم استئجار الفحل للضراب

حكم استئجار الفحل للضراب مالك رحمه الله يرى جواز استئجار الفحل ليوم أو يومين أو ثلاثة، ليكون في إبله للضراب، يستأجر الجمل، لا أن يشتري الضراب، وأيضاً نقول: المدة التي استأجره فيها، هل ندري كم سيكون منه ضراب؟ وما هو الذي سينتج وما الذي لا ينتج؟ قالوا: يتساهل في ذلك؛ لأن الأجرة وقعت على وجود الجمل عند صاحب النوق مدة معينة، أما كونه يحصل على ضراب كثير أو قليل، فهذا متروك، وغير منظور فيه، ومسامح فيه، وكما يقولون: الآن خمسة أشخاص دخلوا الحمام، والحمام يستعمل فيه الماء الحار، والمكث في الحمام له أجرة، واستهلاك الماء له أجرة، والأجرة متساوية، على كل واحد خمسة ريالات، فهل كلهم يدخلون في دقيقة واحدة، ويخرجون في دقيقة واحدة، أم يتفاوتون؟! فهناك شخص يمكث أكثر من الثاني، فاستفاد من الحمام أكثر من غيره فتساهلنا، وهل الخمسة يتفقون في مقدار الماء الذي يستنفدونه في الحمام؟! لا، مع أن كل واحد دفع خمسة ريالات، وبعضهم قد يستهلك عشرين لتراً، وبعضهم ثلاثة لترات. والآن إذا ذهبت إلى مكتب الطيران، فستجد التذكرة من المدينة إلى جدة بمائة ريال، ثم راقب الناس في المطار، تجد واحداً وزنه خمسين كيلو جرام، والآخر وزنه مائة وخمسين، وكل منهما له نفس التذكرة، هل الخطوط تحاسب على الوزن وعلى الثقل؟ لا، ومثل هذه الفوارق متسامح فيها. فـ مالك أباح استئجار الفحل، فيبقى عند المستأجر وقتاً معيناً ومدة معلومة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة)

شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة) قال رحمه الله: [وعنه (أي: ابن عمر) (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحبلة، وكان بيعاً يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها) متفق عليه، واللفظ للبخاري] . مما نهي عن بيعه ما فيه غرر؛ لأنه غير معروف، وغير مضمون، مثل ما جاء في هذا الحديث، وهو مثال عام لكل ما فيه غرر، أبيعك ما في جيبي! أبيعك ما في الصندوق! وما الذي في الصندوق؟! لا أدري، إذاً: هذا غرر، أبيعك هذا الثوب على طيه ولا تفكه؟! وهل أنا أدري ما بداخله؟! أبيعك ما يأتيني به فلان! وهل أنا أدري ما الذي سيأتيك به؟! فكل ما فيه غرر داخل في هذا الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) حَبَلها: الذي في جوفها، وهل النهي عن بيع الطبقة الأولى وهي: الحمل الموجود أم أن النهي عن بيع الطبقة الثالثة، وهي: أن تنتج الناقة أنثى، فيكبر هذا النتاج، ثم ينتج، فيكون جيلاً ثالثاً أو أن النهي ليس منصباً على عين الحمل، وحمل الحمل، بل جعل الحمل موعداً لوفاء الدين؟! (نهى عن بيع حبل الحبلة) ، قالوا: يحمل على أمرين: أن ينتظر وضع الحمل ثم يكبر هذا الحمل إلى أن يبلغ وينتج، فحينئذ حل الدين، هذا واحد: أن يجعل حبل الحبلة موعداً لوفاء الدين، وإذا وقفنا عند هذه: فلو اشتريت عبداً وقال: حلول ثمنه عند حبل الحبلى التي عندك، أو حبل الحبلى التي عندي والتي تعرفها، ما المانع في هذا؟ قالوا: لا ندري متى يأتي حبلها هذا الموجود، والمعروف عند الناس: تسعة أشهر، أو سنة، طيب هذه التي جاءت، متى تكبر؟ ومتى تحمل؟ ومتى تنتج؟ لا تجد شيئاً مضموناً يمنع النزاع، فنهي أن يجعل هذا الوصف موعداً لوفاء الدين، وهذا أحد المعاني التي فُسر بها الحديث، مع أنه بعيد. والمعنى الثاني -القريب-: أن يقول قائل لآخر: بعني الناقة. فيقول: لا؛ هذه عزيزة عندي. طيب: بعني الذي في بطنها -نتاجها-، وبعض الناس يحرص على النوعية خاصة في الخيل، فيحجز الحمل الموجود في هذه الفرس، ويشتريه -تكون معروفة بأصالتها، فيحرص الناس على سلالتها، فيتسابقون في شراء نتاجها- وكذلك الإبل، ففي زمن عمر باع رجل ناقة بثمانين جملاً -أنا ما كنت أظن أن يصل السعر إلى هذا الحد- فالنوعية والسلالة تجعل الناس يرغبون في نتاجها، فصاحب هذه الناقة الأصيلة لن يبيعها، ولكن سيبيع نتاجها، فيأتي إنسان ويشتري حبلها، وهو لم يأت بعد، فنهي عن ذلك، لماذا؟ لا ندري هل ستأتي بناقة أو جمل؟ وهل ستأتي بكبيرة أو صغيرة؟ وكما يقولون: سمحة الخلقة أو لا! بيضاء أو حمراء! وهناك صفات يرغب فيها المشتري قد تختلف، وهل ستأتي بمولود حي، أو أنها تموت ولا تنتج؟! أما بيع حبل الحبلة: فالمراد أن تنتظر الحبلى حتى تضع، ثم ينتظر المولود حتى يكبر وينتج، ونتاجه هو المبيع، فالجهالة تكون في هذا أكثر وأكثر، فإذا منع في الحمل الموجود بالفعل؛ فيمنع في نتاجه فيما بعد من باب أولى، والسبب في ذلك وجود الغرر، وكل بيع فيه غرر في السلعة، أو في الثمن؛ فهو منهي عنه، فمثلاً: لو قال قائل: اشتريت منك الناقة بما في يدي! بما أحمل من النقد، بما في هذا الصندوق! بما في هذه الخرقة! ولا تعرف هل هو نحاس، أو ذهب، أو فضة، أو حصاة؟! ولا تعرف كم عدده، ولا مقداره، ولا وزنه! فهذا غرر. إذاً: النهي عن بيع حبل الحبلة يحمل على أحد الأمرين: أن يجعل موعداً لسداد الديون، وهذا ضعيف، أو أن يقع البيع على نفس الحمل حينما يأتي، أو على نتاج الحمل بعد أن يوضع، وهذا فيه غرر كبير؛ ولهذا نهي عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (النهي عن بيع الولاء وهبته)

شرح حديث: (النهي عن بيع الولاء وهبته) قال رحمه الله تعالى: [وعنه (أي: ابن عمر) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته) متفق عليه] . تقدم لنا أن الولاء نعمة بموجب الحرية، أو وصف اعتباري يلحق المعتق، ويتبع المعتِق، وهي صلة بين المعتِق وعتيقه، صفة معنوية يربط المعتَق بمن أعتقه، ونبه فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ، ولحمة النسب لا تباع، ولا توهب، فهل تبيع أخاك أو تبيع ولدك؟ لا، النسب لا يباع، فكذلك الولاء حل محل النسب، فلا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، فكيف لا يورث، وصاحب الولاء قد مات، وترك ورثة؟! قالوا: نعم، لا ينتقل بالفرض، ولكن ينتقل بالعصبة، للأولى الذي يحل محل المعتِق، وأشرنا في قصة بريرة بأنه لو مات إنسان وله ولاء على عبد، وخلّف ورثة: ولد، وبنت، وزوجة، وأم، فالولاء خاص بالولد، وليس للبنت، ولا للزوجة، ولا للأم نصيب ميراث فيه؛ ولهذا لا يبيعه، ولا يهبه -أي: الولاء- إنما يبقى ارتباط وثيق بين المعتِق والمعتَق، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [6]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [6] حرمت الشريعة كل ما يدعو إلى العداوة والبغضاء، ومن ذلك بيع الغرر، وله صور كثيرة مثل: بيع الحصاة، وبيعتين في بيعة، وسلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن، وغير ذلك.

شرح حديث: (نهى عن بيع الحصاة)

شرح حديث: (نهى عن بيع الحصاة) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) رواه مسلم] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) . الحصاة قطعة من الحجر معروفة عند الجميع، وهي: نوع متميز من الأحجام الحجرية الملساء، وكان يستعمل في العدد، وربما في عصر من العصور كان يستعمل نقداً، وكان بيع الحصاة في زمن الجاهلية أمراً جارياً، وعرفاً جارياً، ولكن كيف كانت الصورة؟ يقول بعضهم: -وهو أقرب للمعنى- هو: أن يأتي المشتري فيجد أمامه عدة سلع متنوعة، مختلفة الأجناس، والأنواع، فمثلاً: علبة كبريت، علبة حلاوة، خيط، مقص. إلخ، أو ملابس: فنايل، سراويل، قمصان، غتر، وتكون مرصوصة بجوار بعضها، فيقول البائع للمشتري: خذ حصاة، وارم بها، فما وقعت عليه فهو لك بكذا، وهذه الصورة واضحة، وهي داخلة في عموم الغرر؛ لأن الغرر أن تغر الإنسان، ويدخل على أمر مجهول، لا يدري نتيجته، ولا يؤمن فيه الغبن، فهنا: على أي شيء ستقع الحصاة؟ فقد يكون المشتري صاحب حذق وخبرة في الرماية، فيحدد ما يريد، والبائع لا يدري على أي شيء ستقع الحصاة! فقد تقع على منديل يد يساوي ريالاً، وقد تقع على فنيلة تساوي عشرة ريال، وقد تقع على قميص يساوي ثلاثين ريالاً. إذاً: الغرر من جانب البائع أكثر منه من جانب المشتري، وقد يكون المشتري شخصاً لا يحسن الرمي بالحصاة، فإذا كان كذلك فسيأخذ حصاة ويرمي، ولكنه لا يدري أين تقع؟! فإذا كانت الصفقة على خمسة ريالات، وسقطت الحصاة على ما يساوي ريالاً، كان في ذلك غرر على المشتري، وإذا كانت الصفقة بخمسة ريالات، وسقطت الحصاة على سلعة بعشرة، أو بعشرين ريال، كان الغبن على البائع. إذاً: هذه الصورة من البيع نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيها من الغرر، وهي أحسن ما فُسر به بيع الحصاة. وهناك من يقول: بيع الحصاة هو: أن تأخذ حصاة في يدك، أو يأخذها البائع، فتساوم -مثلاً- على قميص معين -معروف لك وله- بعشرة ريال، قال: طيب، أتركني أفكر، فمتى أسقطت الحصاة من يدي؛ مضى البيع، طيب، وإذا ما أسقطتها إلى متى ننتظر؟ هكذا يقول بعض شراح الحديث: إن بيع الحصاة هو: أن تربط انعقاد البيع على سقوط الحصاة، أو أن تربط عقد البيع على السلعة التي تقع عليها الحصاة، وفي خارج هذه البلاد يوجد هذا البيع بكثرة لاسيما في الأعياد والمناسبات، خاصة عند الشباب والأطفال، يؤتى بدائرة فيها سهم، وعلى حافة المقعد التي هي عليه، ترص السلع: علبة حلوى، منديل، علبة بسكوت، أشياء متعددة متجاورة، ولها سهم مثل عقارب الساعة، يدار بطريقة معينة، وحيث ما وقف السهم فالسلعة التي أمامه لمن أدار السهم، علماً بأنه لا أحد يدري على أي شيء سيقع السهم -لا اللاعب ولا صاحب اللعبة- وربما وقف على سلعة تساوي هللة، وربما وقف على سلعة تساوي ريالاً، وأنت وصاحب اللعبة، لا تدرون أين سيقع! فهو داخل في هذه العملية، وداخل في هذا النهي، لماذا؟ لأن فيه جهالة، وفيه غرراً، ومقامرة، فلا يجوز هذا اللعب، ولا يجوز هذا البيع، هذا ما يقال في بيع الحصاة.

بيع الغرر: صوره وحكمه

بيع الغرر: صوره وحكمه أما بيع الغرر، فتقدم التنبيه عليه في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، مثلاً تكون الناقة حاملاً، فيقول: أبيعك الذي في بطنها، هذا نوع. أو تكون حاملاً، فيقول: أسلفني ألف ريال أسددك بعدما تنتج الناقة ما في بطنها، ويكبر هذا النتاج، وينتج، يعني: في البطن الثالث، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، سواء وقع البيع على الحمل الموجود، أو الذي سيوجد فيما بعد، أو جعل ذلك موعداً لسداد الديون المؤجلة؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يُدرى ما الذي في بطنها؟! أذكر هو أم أنثى؟! مكتمل أم خلوج؟ . إلخ فكل ذلك مجهول، إذاً: هناك غرر. وأشرنا بأن كل بيع فيه غرر مندرج تحت هذا الحديث، وجاء التصريح هنا بالنهي عن بيع الغرر: (وعن بيع الغرر) . ومن أمثلة بيوع الغرر: أن تأتي إلى الدكان، فتجد فيه علباً مغلقة، سواء كانت للملابس الجاهزة، أو للأحذية، أو لأدوات منزلية، أو كذا، فتقول: ماذا في هذه العلبة؟ قال: فيها حذاء، طيب أريد أن أفك، قال: لا، لا تفك! هو على ما هو عليه! أنا اشتريته مقفولاً وأبيعه مقفولاً، طيب أريد أن أعرف اللون، والمقاس، قال: لا، فأنت ما تدري ماذا تجد، هل هو خاص بالرجال، أو بالنساء، أو هو كبير، أو صغير، نوع جيد، أو نوع رديء؟ فهذا غرر في المبيع، فلابد أن تفك، وأن تنظر، وأن تتأمل؛ فإن طاب لك أخذت، وإن لم يطب لك تركته في محله. وكذلك ما يوجد في بعض الجهات، تأتي بنوع من اللباس، مطبق ومشبك بدبابيس، ومغلف في كيس من النيلون، أو نحوه، فإذا أردت أن تفك، يقول: لا تفك، إذا فكيته وطبقناه، وإذا أتى زبون آخر فلن يأخذه؛ لأنه مفكوك، لكن ما ندري فربما يكون فيه شق! أو عيب، فكيف نفعل؟ لكن يقولون: يغتفر في مثل هذا؛ لما علم من تكرار المبيعات في مثل هذه الصورة على السلامة. فمثلاً: الفنايل تكون في كيس نايلون أو في بعض الأشياء، أو بعض المعلبات، وجرت العادة عند الناس أن تقرأ الرقم فيبين المقاس، ويبين نوعية القماش، فتأخذه على النعت الموجود فيه، وهنا: يصح البيع؛ لما عرف من نظائره السابقة، فإذا حدث وظهر فيه عيب -لم يتعود الناس أن يروه- فله حق رد المبيع بالعيب، أو يأخذ أرش العيب، فهذا العيب كم أنقصها من قيمتها؟ مثلاً: (2%) ، (5 %) فأنت بالخيار ترد وتأخذ القيمة، أو تسترجع من البائع أرش النقص (2%) أو (5 %) ، وهكذا كل ما فيه غرر. ومن صور بيع الغرر: بيع ما لا تقدر على تسليمه، ويمثل الفقهاء لهذا: ببيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والفرس الشارد، وكل هذا من بيع الغرر، فإذا قال لك: أبيعك الطير (وهو في الهواء) ، طيب: ومن يحضر لي الطير؟! قال لك: أبيعك السمك في هذا الماء، طيب ومن يضمن لي السمك؟! ولكن: الفقهاء لهم مخارج، فإذا كان الطير في الهواء كما يفعل بعض الشباب الذي يضيع دراسته في هذا، هواية الحمام! حمام جلابي، حمام هزازي، حمام كذا. إلخ، تعال انظر إليه في الجو، وهو يتقلب بحركات جميلة، يرغبه فيه، قال المشتري: طيب اشتريت، أعطني المبيع، قال البائع: لا، ليس الآن، لما يرجع في الليل، ويبيت فسأذهب وأمسكه. أو قال: أبيعك هذا السمك، الذي في هذا الحوض، لكن الحوض كبير! مائة في مائة متر! من يعين ويحدده بالذات ويحضره، هذا سمك في ماء، طيب أنا أملكه، الحوض حقي وأنا مربيه، فإذا كان باستطاعته بآلة، أو بأخرى، أن يصطاد هذا السمك، الذي وقع عليه البيع، ولا يختلط بغيره، فهذا مقدور على تسليمه. وكذلك الطير في الهواء إذا كان قادراً على تسليمه ويستمهل إلى مجيء الليل، والمبيت؛ فلا مانع، وتكون رؤيته في الهواء من باب رؤية حركاته التي يرغب فيها، وهو قادر على التسليم فيما بعد، فقالوا: مثل هذا لا بأس. أما إذا جاءت يمامة، أو جاء طاووس، ووقع على الشجرة، فقال شخص: أبيعك هذا! -هو ليس عنده، وليس في بستانه- فيقال له: وإذا بعته فمن يسلمه؟! إذاً: هذا غرر؛ لأنه غير مقدور على تسليمه. كذلك إذا كان لك عبد، فأبق عليك: هرب، فقال: أبيعك العبد الهارب، قلت: أين هو؟ قال البائع: والله ما أدري أين محله! لكن إذا علم مكانه، والمشتري يرى أنه قادر على الذهاب إليه، والقبض عليه، وأخذه، يقول الحنابلة يجوز هذا ما دام المشتري قادراً على أخذه، طيب، كان يظن القدرة فعجز، ماذا يفعل؟! يرجع على البائع! ولو اغتصب شخص سلعة: طيراً، عبداً. إلخ، والمالك لا يستطيع أن يخلص السلعة من يد الغاصب، فلا يجوز له أن يبيعه؛ لأن المشتري يريد السلعة، والسلعة في يد غاصبها، والبائع لا يستطيع أن يخلصها منه، إلا إذا جاء إنسان وقال: أنا قادر على تخليص المغصوب من يد غاصبه، بعنيه، فقال البائع: والله ما دام أنك قادر، نعم أبيعك، وباعه على من يقدر على تخليصه من يد غاصبه، حينئذ يصح البيع، طيب، وإذا عجز المشتري عن تخليص السلعة من يد الغاصب! يذهب يشتكي، فإن استطاع بشكواه لولي الأمر الحصول على السلعة، فالبيع ماض على ما كان عليه، وإن عجز، وولي الأمر لم يستطع أن يلزمه بإحضاره؛ حينئذ يرجع المشتري على البائع، وكل ما أوجب، أو أدى إلى عدم القدرة على التسليم فهو غرر، فلا يجوز البيع. من الدواهي الموجودة الآن، وأطبق عليه الجميع، واستحلوا بذلك الحرام، ما تجده في معارض السيارات التي سببت ملء السجون بالمدينين ببيع التقسيط، فيأتي عند البيع ويقول: (بعتك سكراً في ماء) ، (ملحاً في ماء) ، (كومة حديد) ، وهو يعلم بأن فيها بعض العيوب، ولكن يخفيها، ويأتي بتلك العبارات، والمشتري يقول: قبلت، قبلت، قبلت، ويظن أن هذه عبارات وهمية، لكن الحقيقة قد يكون فيها عيب؛ ولذا قال مالك: من باع على البراءة الأصلية لا يصح بيعه، لو قال: أبيعك على أنها بريئة من كل عيب، فإن كان يعلم فيها عيباً، وكتمه فهو آثم، فإن اطلع عليه المشتري، فله ردها عليه؛ لأنه دلس عليه وغره بكتمان العيب. إذاً: هذه المبيعات يعلم أن فيها عيوباً ما، وأهل السيارات يعرفون العيوب الخفية والدقيقة: من تسرب الزيت. إلخ، والمسكين الذي يشتري لا يعرف هذه الأشياء، وما يدري عنها، تقول له: اذهب وانظر، فيذهب إلى مهندس واحد، وقد يخفى عليه شيء، ويعلم أشياء، فكل من دس وأخفى عيباً، -وسواء كان يعلم وجوده أو لا يعلم- فتبين المشتري ذاك العيب، فإن له أن يرد السلعة؛ لأنه قد غره، وغشه، ودلس عليه، فالبيع باطل، وتحت هذا صور عديدة. وكذلك قد يقع الغش والتدليس في أعمال المقاولات والبناء، فمثلاً: يتفق صاحب العمل مع أحد المقاولين على مواصفات معينة، ويحدد له النسب والمعايير المطلوب تنفيذها، والسير عليها، وهنا قد يستغل المقاول جهل صاحب العمل بكيفية تطبيق تلك المواصفات؛ فيغش ولا ينفذ المتفق عليه، ومن هنا قد يلجأ أرباب الأعمال إلى الاستعانة بمشرف فني يعرف أعمال البناء ليشرف على المقاول في تطبيق الاتفاقية، والمشكل إذا اتفق المشرف مع المقاول على صاحب العمل! فهذه مصيبة أخرى!

قاعدة عامة في المعاملات

قاعدة عامة في المعاملات هنا قاعدة أساسية وعامة تدخل في جميع المعاملات: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، وكذلك: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) ، وهكذا كل ما تقرأه عن أنواع الغرر يرجع إلى التحايل على أخذ أموال الناس وأكلها بالباطل، والتحايل على أخذ الزيادة في الثمن، ويغره، في وصف السلعة، أو بأي حالة من الحالات، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من اشترى طعاما.

شرح حديث: (من اشترى طعاماً ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي أبي هريرة - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله) رواه مسلم] . هذه قضية مهمة لاسيما في حق التجار، وخاصة تجار (القطاعي) أو (التصريف) ؛ لأن التاجر على قسمين: تاجر جملة، وتاجر قطاعي (تجزئةً) . فتاجر الجملة يأتي ويشتري كمية كبيرة، كما نشاهد في أيام جذاذ التمر، فيكيل عشرة قناطير! وعشرين قنطاراً! ويتركها في المستودعات عنده، فإذا قدر أنه اشترى مائة كيس، وكالها، وكل كيس فيه عشرون صاعاً، وعدها مائة كيس، فجاء إنسان يريد أن يشتري كيساً، فقال: أنا حينما اشتريتها كلتها، وفي كل كيس عشرون صاعاً، فاختر أي كيس منها، فهذا لا يجوز، فلابد أن نأتي بالصاع، ونكيل الكيس مرة أخرى، حتى قال بعض العلماء: لو كنت حاضراً في السوق، والتاجر اشترى صبرة قمح، أو تمر، وكالها الكيال وأنت موجود، كالها بين البائع والمشتري وأنت واقف، فكانت عشرين صاعاً، فوضعها في الكيس، وتركها على جنب، ثم جئت بنفسك، ووجدت الكيس بعينه، وأردت أن تشتريه على ما شاهدت من كيل سابق، فلا يجوز للبائع أن يبيعها عليك، حتى يعيد الكيل -من أجلك- مرة أخرى، فيجري فيها الصاع مرتين. فإن قلت: لما نكيل الكيل الثانية تحصيل حاصل؛ لأني رأيته بنفسي كاله أمامي فلماذا؟ قيل: دفعاً للتهمة، ومنعاً للشك، وما يدرينا، فلعل الكيال حينما كال أمامك غلط في العدد، فربما أنقص صاعاً، أو زاد صاعاً، سهواً، فأنت أخذت الكيس على الكيل الأول، وذهبت إلى البيت، وقسمته بين عائلتيك، فإحدى العائلتين أخذت عشرة صيعان مستوفاة، والعائلة الأخرى صار لها تسعة صيعان، فالناقص هذا على من يكون؟! سترجع إلى من باعك، والبائع يقول: البائع أنا كلت أمامك، فتكون العهدة على الذي باعك، أو على المالك الأول؟ الذي باعك، لكن الذي باعك تم الكيل أمامه، فهل يستطيع أن يرجع على الأول، ويقول: أنت الذي أحضرت الكيال وأنت الذي كلت، وأنت الذي عديت؟ لا، سيقول البائع: بل أنت الذي أنقصت، أنت الذي أخذت! ثم يرجع المشتري الأول على المشتري الثاني! ويقول: يا عم! أنا أعطيتك كيساً فيه عشرون صاعاً، فذهبت به إلى البيت، ثم أنقصت صاعاً! وستقع المشاجرة، وسيقع النزاع، فحسماً للنزاع؛ كل يكيل لنفسه. وهذا أيضاً قد يقع حالياً في بعض المؤسسات مع الموظفين، فحينما يصرفون الرواتب وتستلم من البنك، وهي معدودة بعد البنك، فيستلمها الموظف على عدّ البنك ولا يعدها، ثم يذهب إلى بيته ويوزعها فإذا هي ناقصة، فهل يستطيع أن يرجع بهذا النقص على الصراف، أو أمين الصندوق، ويقول: أنت أعطيتني مرتبي ناقصاً؟! ولذا توجد لوحة عند كل أمين صندوق، (لا تقبل النقود بعد الخروج من الغرفة) ؛ لأنه ممكن يسحب منها ويضعها في جيبه، ويرجع ويقول: هذه ناقصة، ولكن عدّها أمامه. إذاً: هذه الأمور التي يحتمل فيها الخطأ، ويحتمل فيها الغلط والنسيان، ينبغي أن يعاد المكيال، ويعاد المعيار، والميزان، والعدد، لكل إنسان على حده، حتى نسلم من الاتهام، ومن الشك، فممن كان هذا النقص؟! لا ندري، إذاً: سيقع هناك النزاع، فمن اشترى طعاماً واكتاله، لا يجوز له أن يبيعه حتى يكيله مرة أخرى للمشتري، ولابد من أن يحوزه وينقله، ولا بد من إعادة الكيل، أو الوزن، أو العد، منعاً للغرر، وحسماً للنزاع.

شرح حديث: (النهي عن بيعتين في بيعة)

شرح حديث: (النهي عن بيعتين في بيعة) قال المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعه) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولـ أبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا) ] . أقول: ما تعب طلبة العلم في صورة نهي كهذه الصورة، (نهى عن بيعتين في بيعة) ، (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) كثر ما قيل في هذه الصور، وقد اختلف العلماء في تحديد الصورة التي يتحقق بها المراد من هذين الحديثين، ولكن الشافعي رحمه الله فسر البيعتين في بيعة بتفسير سهل جداً، ومريح، ولو أخذ به الناس لاستراحوا، واستراح طلبة العلم من عناء التفكير والتعب، واستراح الناس في معاملاتهم. ولكن يرد عليه ما يرد من حيث السند ومن حيث المعنى، فـ الشافعي رحمه الله يقول: هو أن تبيع السلعة بثمن مؤجل، أكثر من سعرها في الحاضر بسبب التأخير، مثل بيع التقسيط: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، فهذه بيعتان، يعني: عقدان في بيعة، أي: سلعة واحدة، مثل ما يوجد في بيع السيارات الآن -وهي التي أساءت إلى الناس- نقداً بعشرين ألفاً، ومؤجلاً: بخمسة وعشرين ألفاً. فـ الشافعي فسرها بهذا، (بيعتين) أي: عقدين: عقد حال، وعقد مؤجل، في بيعة، وهي السيارة، وقال: فمن باع بيعتين في بيعة -كما تقدم- طبق عليه الحديث الآخر: (فله أوكسهما) يعني: أقلهما، (أو الربا) ، وهذا ينطبق تماماً على هذه الصورة، بعت السيارة بيعتين: بيعة بمائة، وبيعة بمائة وثلاثين، (فلك أوكسهما) يعني: أنقصهما، إذاً: نحسبها بمائة، وإن أصر على مائة وثلاثين، كانت الثلاثون ربا. لكن العلماء يقولون -وجعلوا لها تخريجاً أيضاً-: هذا ينطبق عليه فعلاً إن انصرف الطرفان دون تحديد نوع المبيع، فلم يقل المشتري: اشتريت حالاً بمائة، ولم يقل البائع: بعت مؤجلاً بمائة وثلاثين، البائع قال: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، وقال المشتري: نعم، وأخذ السيارة (شغل ومشى) ، على أي السعرين تم البيع؟! لم يحدد! ويقولون: لم يتعين نوع العقد من العقدين، فالمشتري لم يحدد: قبلت بالنقد، أو قبلت بالنسيئة، والبائع كذلك، لم يحدد: باع بالنقد، أو باع بالتأجيل، وافترقا على ذلك، فهل يطالب البائع المشتري بالمائة؟ أم ينتظر حتى يأخذ المائة والثلاثين بعد سنة؟ ما عندنا تحديد، فقالوا: من هنا وقع الغرر؛ لأن البائع لا يدري ما الذي استقر له في ذمة المشتري، أهي المائة حالاً الآن أم هي المائة والثلاثون بعد سنة؟! ومالك يزيد في هذه الصورة شكلا ًآخر، ويقول: إن هذا العقد الذي لم يحدد فيه نوع الثمن، فيه ربا، كيف هذا؟! على تحقيق: (أوكسها أو الربا) يقول: لعل المشتري أرادها نقداً، وانصرف على أنها نقد، ثم بدا له أن يجعلها نسيئة، فيكون استقدم المائة نقداً بمائة وثلاثين بعد سنة، وهذا هو عين الربا، أو أن يكون البائع قد انصرف عن المشتري على أنها نسيئة بمائة وثلاثين، ثم جاء المشتري ودفع المائة، فيكون البائع قد باع بمائة وثلاثين، ثم وضع وتعجل، وقولهم: زد وتأجل، أو ضع وتعجل، هما صورتان للربا، فـ مالك يحقق معنى الربا في هذين العقدين، إذا لم يعينا أحد العقدين ويتفقا عليه.

صور أخرى للبيعتين في بيعة

صور أخرى للبيعتين في بيعة وهناك صور أخرى للبيعتين في بيعة، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة (التكسي) على أن تبيعني هذه (الأنيسة) ، أو تبيعني هذه الحمالة (دينة) ، فهذا باع، وهذا باع، بيعتان في عقد واحد، على الشرط: أبيعك التكسي شرط أن تبيعني الدينة، يقولون: هذا أيضاً يصدق عليه أنه بيعتان في بيعة؛ لأنه بيع وشرط، وتوقفت صحة العقد الثاني على صحة العقد الأول، قالوا: هذا أيضاً داخل في معنى: بيعتين في بيعة. لكن لا ينطبق عليها أوكسهما؛ لأن كل واحدة منهما إما بسعر الأخرى، وهذه في قيمة هذه، فتكون متساوية، وإما كل واحدة بثمن محدد، فهما عقدان متفاوتان، وليس هناك أوكس ولا أكثر؛ لأن كل سلعة لها سعرها. وهناك من يقول: أسلم في قفيز من الحب، وبيع السلم هو أن تأخذ الثمن، ويكون المبيع في ذمتك، تقدمه للمشتري عند الأجل، كالذي يبيع خمسة أوسق من التمر، والناس ما زالوا يؤبرون، وهذا جائز، فيأخذ الثمن، وحينما يأتي وقت الجذاذ، عليه أن يقدم الخمسة الأوسق للمشتري، فلما جاء الأجل، وقال: أعطني الأوسق التي لي، والتي اشتريتها من قبل -أنت ما عندك- فيقول: أنا ما عندي، ولكن بعني تلك الأقفزة الخمسة التي لك عليّ بألف مؤجلة إلى شهرين، فالخمسة الأوسق وقع عليها بيعان: بيع في عقد السلم، وبيع عند الوفاء؛ لانعدامها عند الأجل، إذاً: أنت بعتها، ثم اشتريتها، بعتها وهي معدومة، واشتريتها حينما حل الأجل عليك لتدفعها، فهذا أيضاً من صور البيعتين في بيعة. ولكن: إذا أردنا أن نطبق الحديثين فإن أقرب الصور في تطبيقها هو ما قاله الشافعي رحمه الله: أن تبيع السلعة بأكثر من ثمنها في يومها بزيادة مقابل التأجيل، الآن في السوق بمائة، تقول: بمائة وثلاثين بعد ستة أشهر، الثلاثون هذه مقابل ماذا؟ التأخير إلى ستة أشهر. فينطبق عليها أوكسها، وهي المائة، وهو سعرها اليوم، (أو الربا) أي: في هذه الثلاثين الزائدة. ولكننا نجد الشوكاني يرحمه الله بحث هذه المسألة, وقال: لقد كتبت رسالة في ذلك أسميتها: إرواء الغليل في زيادة الثمن من أجل التأجيل، ولكن لم نطلع عليها، ولم نجدها. فكل صورة من تلك الصور الثلاث التي أوردناها وردت عليها اعتراضات، إلا الصورة التي ذكرها الشافعي، فلا يوردون عليها، إلا أن العمل جار عليها، وكون العمل جار على شيء، وهو يتعارض مع النص الصريح، لا يكون ذلك حجة مسقطة للنص، وقالوا: الحديث متكلم فيه، وإذا أردنا أن نأخذ كل كلام في كل حديث، ما يبقي لنا شيء، هذا الذي نستطيع أن نورده في هذه المسألة على كثرة ما قيل فيها، سواء كان في الموسوعات أو كان في المجاميع، أو كان عند الفقهاء، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (لا يحل سلف وبيع)

شرح حديث: (لا يحل سلف وبيع) قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: (نهى عن بيع وشرط) ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو غريب] . (لا يحل سلف وبيع) مثلاً: تقول: سلفني وأبيعك! بعني السيارة وسلفني ألف ريال، هذا الشرط هو: ارتباط السلف بالبيع، فحينما تأتي وتقول لصاحب السيارة: سلفني عشرة آلاف ريال، قال صاحب السيارة: عشرة آلاف كثير، ومتى تردها لي؟ قلت: بعد سنة، قال صاحب السيارة: أنا أريد أن أبيع وأشتري، وأريد أن أربح، قلت: طيب بعني هذه السيارة باثني عشر ألفاً، وحينما علمت أنه سيعطيك عشرة آلاف ديناً، أردت أن تنفعه، ويريد أن ينتفع منك بسبب هذا الدين، فباعك السيارة التي تساوي ثمانية آلاف باثني عشر، وهذه الأربعة زيادة لأجل ماذا؟ من أجل أنه سلفك، فأنت تحملت زيادة في سعر السيارة، ولم تماكس، بل قلت: مرحباً على العين الرأس، من أجل أن يمضي عقد السلفة، فيكون المبيع مع السلفة وسيلة للزيادة في سعر المبيع هروباً من أن تقول: سلفني عشرة وأعطيك بها اثنى عشر، فلو قلت: سلفني عشرة، وأعطيك بها اثنى عشر، فسيقول: هذا ربا، وهذا حرام، طيب، بعني هذه السيارة، كم تساوي؟ تساوي عشرة، سأشتريها منك باثني عشر، إذاً: أبيعك إياها باثنى عشر، فتقبل أنت باثنى عشر، مع أن قيمتها عشرة، فزدت ألفين، وهما اللذان كنا سنضعها مع السلف، وهربنا منها وقلنا: ربا! ربا! ثم أتينا ووضعناها في قيمة السيارة! وكذلك العكس، سلفني عشرة آلاف، وأبيعك سيارتي، قلت: هي تساوي عشرة، قال: والله أشتريها بثمانية، فأنت من أجل أن تمضي عقد السلف وتأخذ العشرة؛ تساهلت في ثمن السيارة بألفين، وأخذها بثمانية، فلأجل السلفة نزلت من قيمة السيارة، إذاً: المسألة رجعت إلى الربا مرة أخرى، فاجتماع البيع والسلف، سواء كان البيع من المسلِّف أو كان البيع من المتسلف، والمراعاة والتنازل في ثمن المبيع -باسم المبيع-؛ ليغطي مصلحة القرض. إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع. هذا الحديث جمع فيه الراوي من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم مسائل متعددة من مسائل البيع. فالأولى منها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وتقدم الكلام على هذا النوع، وبيان العلة في النهي عن جمع البيع مع السلف، وأنه يدور حول مظنة الربا، سواء كان البيع من المسلف أو كان البيع من المتسلف.

الشرطان في بيع: صوره وحكمه

الشرطان في بيع: صوره وحكمه النوع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في البيع. تمهيداً لهذه المسألة -كما يذكر الحنابلة- في الصورة: حمل الحطب وتكسيره، فمثلاً: اشتريت حطباً من حطاب، واشترطت عليه أن يحمله إلى بيتك، ثم اشترطت مع حمله أن يكسره إذا وصل، ونحن نقول في المقدمة: إذا اشتريت الحطب من الحطاب، وانتهيت بالثمن، ثم سألت الحطاب: أريد من يحمله لي إلى البيت، هذا الحامل الذي سيحمله لك، ماذا يسمى بالنسبة إليك، بائع أم أجير؟ أجير، فقال لك الحطاب: أنا أحمله إلى بيتك، كم تدفع؟ اتفقت معه على أجرة الحمل، وأوصل الحطب إلى البيت، وأعطيته أجرة حمله، فأنت عندما كنت في السوق كنت مشترياً، وهو بائع، وهو هنا أجير وأنت مستأجر، ثم قلت: أريد إنساناً يكسره لي، قال: أنا أكسره لك، كم تدفع؟ فاتفقت معه على تكسيره بأجرة جديدة، ودفعت له الأجرة وكسر الحطب، الآن حصل مع شخص واحد، في سلعة واحدة، ثلاثة عقود: عقد على البيع والشراء، وعقد على حملانه، وعقد على تكسيره، هل في هذا شيء ممنوع أم كله سليم؟ كله سليم، لو قدر أنه قال لك: أنا أحمله لك، وحمله في السيارة، ثم جاء ليشغل السيارة فما اشتغلت! قال: والله أنا عجزت، هل يستحق عليك شيء؟ ستأتي بحامل آخر ويحمله، إذاً: الحمل عقد مستقل بذاته، وليس مربوطاً بالبيع والشراء. حمله ووصّله، ثم قال: أنا أكسر لك الحطب، أعطني الفأس، ذهبت وأتيت بالفأس، قال: هذه لا تصلح للتكسير، هذه تتعب، وما فيها فائدة، وفسخ عقد الإجارة على التكسير، فلا يتعلق فسخ عقد التكسير بعقد الحمل، فالحمل انتهى في طريقه، والبيع انتهى في طريقه، وإنما ارتبط الفسخ بالتكسير فقط! إذاً: لو جئنا وقلنا: يا صاحب الحطب! حطبك هذا بكم، وبشرط: أن تنقله إلى بيتي، وأن تكسره هناك، كم الثمن؟ قال: مائة، وهذا العقد على الحطب بمائة دخل فيه مقابل الحمل والتكسير، وليس الحمل والتكسير من أجلك. إذاً: الحطاب سيحسب قيمة الحطب مثلاً: واحداً وثمانين، وعشرة للحمل، وتسعة للتكسير، هذا بحسابه هو، لكن في العقد المائة مجملة، فحينما يتم حمل الحطب، ووصله، وكسره يستحق المائة، وانتهى الأمر، لكن الفقه يقدر لما لم يقع لو وقع ماذا يكون، فمثلاً: اتفقت معه على كوم من الحطب بمائة، لكن بشرطين: الحمل، والتكسير، جاء عند الحمل، قال: أنا ملزوم بالشرط، فتركه في السيارة، فشغل السيارة فما اشتغلت، قال: إنا لله، يا عم! لست قادراً على توصيله، فعجز عن تنفيذ الحمل، أو جئنا عند التكسير، قال: لا والله، الخشب هذا يابس، وناشف وكذا، أنا لا أقدر على تكسيره؛ فهنا يحصل اختلال في الشرط، فقلت له: يا عم! والله أنا اشترطت عليك النقل فالحطب مع نقله بمائة، وأنت الآن عجزت عن نقله، فستطالبه بقيمة الحمل المشروط عليه؟ ستطالب بكم؟! غير معلوم. إذاً: المبيع فيه قيمة الحمل غير معلومة. ولو قدر أن السلعة غير الحطب، كأن تكون مأكولاً أو مشروباً أو كذا، ونقله، فنظرت في المبيع، فإذا هو معيب، والعيب هذا ينقص القيمة، وأصبح لك الخيار في أن ترد البيع وتأخذ الثمن، أو أن تمضي البيع وتسترد قيمة العيب، طيب، أمضينا البيع، قلت له: هات حق النقص الذي حدث بسبب العيب الذي ظهر في المبيع، قال: قدروه، وانظروا كم يستحق؟ فقلت: تعالوا يا جماعة! قدروا، نظرنا السلعة -ونحن تشارطنا وتبايعنا على مائة قيمة السلعة، وحملها- قالوا: والله المبيع هذا معيب بعيب يقدر له (10%) ، هنا (10 %) ستقدر من قيمة المبيع مع عزل تقدير أجرة الحمل، فإذا قدرنا الحمل عشرة، (10%) ، فسيكون نقص العيب في التسعين أم في المائة؟! وهل سيتفق معك على أن قيمة الحمل عشرة أم تختلف معه؟! إذاً: دخل عنصر الجهالة في الصفقة، ويقابله عنصر الجهالة في الثمن، إذاً: سيقع نزاع أم لا؟ فإذا كان هذا في شرط واحد، فكيف إذا كان في شرطين؟! اشترطت: حمل الحطب، وتكسيره، أو كما يقولون: خياطة الثوب وتفصيله، قلت: يا عم! سأشتري منك ثوباً من هذه الطاقة، بشرط: أن تفصله، وتخيطه، وآخذه جاهزاً، قال: طيب، قلت: بكم؟ قال: بمائة، أتاك بالثوب مفصلاً، مخيطاً، مكوياً جاهزاً، ففتحت الثوب، فإذا في جانب من الثوب عيب: شط، تمزق. إلخ، عيب يقتضي أرشاً أو رداً، ماذا ستفعل في اشتراط التفصيل والخياطة؟ تخصم مقابل العيب من مجموع المائة أم مما يخص القماش فقط ولا يدخل في ذلك أجرة التفصيل، وأجرة الخياطة؟! ومن الذي سيحدد، ويرضي الطرفين على قيمة الخياطة والتفصيل؟! إذاً: يوجد عنصر يؤدي إلى الخلاف والنزاع لجهالة ما يقدر به العيب في المبيع الأساسي، أو في الصنعة، مثلاً: إذا كان التفصيل غير مناسب، من تحت الإبط ضيق، والكم واسع أكثر من اللزوم، ومن أسفل من ناحية مرتفع، وناحية مرتخي، والخيط غير سليم، ففي هذه الحالة وجد عيب في التفصيل، فكيف نسترد قيمة العيب في أحد الشرطين؟ نحن لم نقدر لها شيئاً عند العقد الأول، وكانت مجملة، إذاً: وجد عنصر الجهالة، وهو موجب للنزاع؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، أو بيع وشرطين.

اشتراط جابر في بيعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم

اشتراط جابر في بيعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم في حديث جابر: أن جمله أعيى وكاد أن يسيبه، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده، فنشط ونهض وصار يسبق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أتبيعني جملك؟ قال جابر: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: بعنيه بكذا، قال جابر: ما في مانع، لكن نحن في وسط الطريق، فأشترط حملانه إلى المدينة، جابر اشترط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وقع شرط مع البيع أم لا؟ البيع صحيح أم لا؟ الشرط صحيح أم لا؟ نعم، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عملية أجراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أحد يسأل أصحيح أم باطل؟ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع، لكن كيف صح بيع وشرط، وهنا نهى عن بيع وشرط؟ يقولون في الجمع بين الصورتين: حملان البعير من مكان العقد إلى المدينة في عين السلعة، ليس على جابر، الاشتراط هنا في عين السلعة، أن يستبقي حمل البعير وركوبه إلى المدينة، ومثله: لو أردت أن تشتري بيتاً، فقال لك البائع: والله يا فلان! نحن في نصف السنة، وما عندي بيت ثاني أسكن فيه، وأحتاج أن أستأجر -والعادة في المدينة أن الاستئجار يكون من أول السنة- ولكن أبيعك البيت وأستثني وأشترط لنفسي سكنى البيت إلى نهاية السنة، فهنا وقع شرط وبيع، فهل صح البيع أم لم يصح؟ صح؛ لأن الشرط في عين المبيع، والشرط في عين المبيع، لا يلحقه ضرر ولا غرر. لكن هنا الشرط ليس في السلعة ولكن على صاحبها، والأولى أن يكون بعقد آخر، لما قال: استثني حملانه إلى المدينة، هل فيه عقد استئجار؟ لا، وإنما يراعى فيه التسامح، فما دام أني سأعطيك لتركبه إياه إلى المدينة فخفض من السعر، ويكون هناك رضى، فإذا كان الشرط معلوماً، ولا يؤدي إلى نزاع فلا مانع. أما إذا كان الشرط غير معلوم القيمة، وفي النهاية إذا أرادا أن يتفاصلا، أدى ذلك الشرط إلى نزاع بسبب الجهالة؛ فهذا ممنوع.

اختلاف الأفهام فيه توسعة على الأمة

اختلاف الأفهام فيه توسعة على الأمة لعلكم تذكرون قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، حينما قال عبد الوارث: والله لأنتهزها فرصة، ثلاثة علماء من قطر واحد، وسأل أبا حنيفة عن بيع وشرط، فقال: البيع والشرط فاسدان، ثم سأل ابن أبي ليلى قال: البيع صحيح والشرط صحيح، ثم سأل ابن شبرمة قال: البيع صحيح والشرط باطل، فتعجب! فرجع إلى أبي حنيفة، وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا، قال: ما عليَّ مما قالا لك، ولكن الشرط والبيع فاسدان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وحملها على عمومها، فذهب إلى ابن أبي ليلى فقال: ذكرت كذا، وذكر أبو حنيفة كذا، وابن شبرمة كذا، فقال: ما علي مما قالا لك، البيع صحيح والشرط باطل، وذكر له قضية بريرة؛ لأن أهلها اشترطوا عليها الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط، فذهب إلى ابن أبي ليلى وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا وكذا، قال: ما علي، العقد صحيح والشرط صحيح، وذكر حديث جابر، وهذا هو أدب العلماء، واحترام الرأي، وكل يستدل بما وصل إليه، ولم يأت أحد منهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- بشيء من عنده، ولكن تعددت النصوص، واختلفت الأفهام. ويقول عمر بن عبد العزيز: والله ما أحب أن لي حمر النعم ولم يختلفوا؛ لأنهم لو كانوا كلهم على رأي واحد، لشق على الناس، ولكن رحمة من الله سبحانه، فإذا كان الخلاف له أصل، والرأي له دليل؛ فلا يحق لإنسان أن يعترض على ذلك، ولا أن يتناول صاحب الرأي بالكلام، ويجب أن نفرق بين القول والقائل، فإذا وجهنا نقداً أو اعتراضاً فإنما يكون للقول، لا للقائل، والقائل مصون في مكانه. وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ووجدناه يعقد بيعاً وشرطاً مع جابر، ووجدناه يعقد عقداً ويبطل شرطاً مع عائشة في بريرة. وهكذا يجب ويتعين على طالب العلم أن يتأنى، ويتريث، في ما يصله عن سلف الأمة، ولا يحق له أن يتكلم في مسألة حتى يجمع أطرافها، ولا يحل له أن يفتي في بيع وشرط، حتى يلم بهذه الأحاديث كلها، وإذا وجد غيرها يضمها إليها؛ ليقف على مجموع الروايات، ومجموع الأحاديث، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: لا يحق للإنسان أن يتكلم في مسألة إلا إذا جمع نصوصها، وجمع أطرافها، وعلم العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والمتقدم من المتأخر، إذا علم ذلك كله في المسألة كان لفتواه ولقوله أصل. وقد ذكرنا مراراً أن أحمد رحمه الله سئل: من حفظ ألف حديث له أن يفتي؟ قال: لا، فقيل: ألفين؟ قال: لا، فقيل: ثلاثة آلاف إلى خمسة؟ قال: لعله! نقول هذا لأنفسنا، ولبعض الإخوة الذين يبادرون في الفتوى، ولو سألت واحداً منهم: أن يذكر عشرة أحاديث بأسانيدها -أنا شخصياً لا أستطيع أن أذكرها بأسانيدها- لا يستطيع، أما المتن فلعله يعلق في الذهن، ولو قلنا: من يحفظ متن ألف حديث، أظن أنه رصيد كبير جداً، لكنه عند أحمد يُعد مفلساً، الذي يحفظ ألف حديث بالنسبة لميزانية أحمد في الأحاديث: يعتبر مفلساً، ونحن نعتبر من حفظ خمسمائة حديث الآن حافظاً كبيراً. إذاً: هذا الموضوع يجدد لنا: النظر، والتأني، والتأمل، وحفظ كرامة سلف الأمة وأقوالها، والله تعالى أعلم.

ربح ما لم يضمن: صورته وحكمه

ربح ما لم يضمن: صورته وحكمه قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ربح ما لم يضمن) . نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، وهذه من أخطر قضايا الربا، وهي من أخطر المعاملات في الأسواق، وسيأتي عن جابر أو غيره توضيحها أكثر. ربح ما لم تضمن، ما هو الذي لم تضمن، ملكك أم ملك جارك؟ ملك الجار، أما ملكك فإنك تضمنه، يعني: إن خسر سيخسر إليك، وإن ربح سيربح لك، أما بضاعة جارك فإن خسرت فهل تضمن منها شيئاً؟! الأجنبي لو خسر في سلعته، فهل تضمن -أنت- منها شيئاً؟! فإذا كنت لا تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها! مثلاً: هناك تاجران متجاوران، فجاء رجل إلى أحد التاجرين يريد أن يشتري منه سلعة، ولتكن -على سبيل المثال- الشاي الأخضر، فقال التاجر، معذرة، نفدت البضاعة من عندي، ولكن سأحضرها لك بعد قليل، فاتفقا على السعر، ثم اتصل التاجر بجاره وطلب منه البضاعة المطلوبة، وكان قد تعاقد التاجر الأول مع المشتري على أن سعر البضاعة ثلاثمائة، ولما ذهب لإحضارها، اشتراها من جاره بمائتين وثمانين، فيكون قد ربح عشرين، ولكن هذا الربح من أين جاء؟ جاء هذا الربح عن طريق بيع سلعة ليست في ملكه، وليست في ضمانه، فإذا كنت لم تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها؟! دعها لصاحبها يربح منها، كما تركتها له يتحمل خسارتها، وهذا هو حق الأسواق، فلا تبع ما لم تضمن، لماذا؟ لأن الضمان بالخراج، أو الخراج بالضمان، الربح مقابل تحمل الخسارة، الغرم بالغنم، أو الغنم بالغرم، السلعة التي تريد أن تأخذ غنيمتها وهو ربحها هي التي أنت تتحمل ضمانها. ويوجد هنا ما يسمى بالمخاطرة، فصاحب السلعة الموجودة عنده مخاطر بها؛ لأنها معرضة للتلف، ومعرضة لانخفاض السوق فجأة، فهو دائر بين: الربح، والمساواة، والخسارة، وأنت بعيد! فكيف يصح لك أن تقطع عليه رزقه، وتكسب ما لم تضمنه؟ إذاً: فإنما الكسب لصاحب الضمان.

بيع ما لم تملك: صورته وحكمه

بيع ما لم تملك: صورته وحكمه قوله صلى الله عليه وسلم: ولا بيع ما ليس عندك، بيع ما ليس عندك أعم، سواء كان فيه ربح، أو فيه خسارة، فالشيء الذي ليس عندك، لا تبيعه، وكما تقدم في مثال الشاي، جاء الزبون وطلب منك الشاي، وأنت ما عندك، فتبايعت معه، بناء على أن جارك عنده شاي، فاتفقت مع الزبون على السعر والكمية، وتم العقد، فقلت: هات ستمائة ريال -وهي قيمة الشاي- فذهبت إلى جارك، وأعطيته خمسمائة وستين، وقلت له: خذ يا عم! أعطني الشاي، قال: ما عندي، معذرة، فقبل أن تأتي بخمس دقائق أخذها الزبون، فأنت ارتبطت بشخص في عقد في سلعة ليست عندك، بناء على أنها عند الجار، فذهبت إلى الجار فلم تجدها عنده، ماذا ستفعل مع الذي أخذت فلوسه ووضعتها في جيبك؟! قلت له: يا عم! والله أنا آسف! ما عندي! قال لك: كيف ما عندك، وأنت بعت وأخذت الفلوس؟! أريد منك السلعة، العقد في البيع عقد ملزم، وأنا لا أقيلك من البيع، لابد أن تعطيني الشاي! ماذا تفعل؟! ستسافر لإحضارها؟! ولو جئت إلى القضاء فأنت ملزم بتسلم السلعة. ولهذا الإحراج منع صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يبيع ما ليس عنده؛ لكون الغرر فيه: ربح ما لم تضمن؛ لأنه ليس في ملكك، والتغرير بالمشتري وبنفسك، على مظنة أنها عند الجار. إذاً: أوقعت نفسك في حرج، وأُحرجت مع المشتري، وأُحرجت أيضاً مع جارك، ومع نفسك، ومن هنا: نهى صلى الله عليه وسلم أن تبيع ما ليس عندك، بصرف النظر عن الربح؛ لأن الربح تابع للبيع. ويذكر أن جابراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! الرجل يأتيني يريد السلعة، وليست عندي، فأذهب فأشتريها، ثم أبيعها عليه) ، وهذه الصورة موجودة الآن بالفعل، قال: (لا تبع ما ليس عندك) . ومثال ذلك -كما تقدم- أن يأتي الزبون فيقول: أريد شاي، وليس عند التاجر شاي، فيقول: انتظر، فيذهب ويشتري البضاعة، فيضمن وجودها، ويشتريها على حسابه، وبعد أن امتلكها ووضعها في دكانه تبايع مع المشتري، لكن لماذا اشتراها من جاره؟ وما هو الدافع لذلك؟ أهي الرغبة في السلعة أم استجابة للطالب؟! استجابة للطالب؛ لأنه قال للزبون: انتظر ثم ذهب واشتراها، وكان يظن أنها بثلاثمائة، فوجدها بثلاثمائة وخمسين، فأخذها إلى دكانه، وقال للمشتري: والله! يا عم السعر ارتفع، وهي عليَّ بثلاثمائة وخمسين، فقال الزبون: هذا سعر مرتفع ولن اشتريها بهذا السعر، فهل المشتري ملزم بأن يأخذها بما اشتريت أنت؟! ليست بملزم، وهل تستطيع أن تقول له: أنا اشتريتها من أجلك! فما دمت لا تملكها فلماذا تبيعها؟! وكما أشرت: إن بعض الأشخاص، أو بعض الجهات، أو بعض المؤسسات، يفعل ذلك، يأتيهم الشخص يريد السلعة، وليست عندهم، فيذهبون إلى جهات تمتلك السلعة، ثم يحول الزبون عليها ليستلمها من هناك، وتكون المعاملة مع المؤسسة في استلام القيمة، وهي قد اتفقت مع المشتري على ما يرضيها. إذاً: (لا تبع ما ليس عندك) ، صورتها: أن يأتي زبون يريد السلعة، فتذهب وتشتريها، حتى ولو اشتريتها على حسابك من أجل أن توفرها لتبيعها على الزبون، لا تفعل ذلك؛ لأنه ما دفعك لشرائها إلا طلب هذا الزبون. إذاً: دخل فيها شيء، ولو تركها ولم يأخذها منك لوقع بينكما ما لا تحمد عقباه، ولو في النفوس.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [7]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [7] هناك بيوع محرمة نهى عنها الشارع الحكيم؛ لما فيها من ضرر وغرر، ومن تلك البيوع التي نهى عنها الشارع: بيع العربون، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، ونهى الشارع أيضاً عن بيع السلعة قبل حيازتها ونقلها إلى الملك؛ وذلك لأن السلعة قبل حيازتها لم تمتلك ملكاً كاملاً. ويجوز بيع السلعة بنقد ثم استيفاء الثمن بنقد آخر، ولكن بشرط: أن يكون الثمن الآخر بسعر يومه، وأن يدفع كاملاً، فينصرف البائع والشاري دون أن يبقى بينهما شيء. ونهى الشارع عن النجش بجميع صوره؛ لما في ذلك من التحايل على أموال الناس وأخذها بغير حق؛ ولما فيه من إفساد للناس وللأسواق.

شرح حديث: (نهى عن بيع العربان)

شرح حديث: (نهى عن بيع العُربان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان) رواه مالك، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به] .

بيع العربون: صورته وحكمه

بيع العربون: صورته وحكمه يقال: بيع العُربان أو بيع العربون، والعربون عند الناس في العرف: أن تأتي إلى صاحب سلعة، وتريد السلعة، وليس عندك من المال ما يكفي لشرائها، فتقول لصاحب السلعة: ليس عندي الثمن كاملاً، ولكن أمهلني إلى الغد -مثلاً- حتى آتيك بالثمن كاملاً، فالبائع يقول: أنا أخشى أن تذهب ولا ترجع، وربما يأتي زبون يريد السلعة ولا أستطيع أن أبيعها؛ لأني ارتبطت معك، ولكن أعطني عربوناً أضمن به رجوعك، فيقول: هذا العربون، السلعة بمائة، وهذه عشرة، فإن جئتك بكامل الثمن أخذت السلعة ودفعت لك الباقي، والباقي هو تسعون؛ لأننا احتسبنا العربون من الثمن، وإن لم تتحصل القيمة عند المشتري، وجاء إلى صاحب الدكان، أو صاحب السلعة، وقال: إن الثمن لم يتحصل عندي، فسامحني، وأعطني العشرة، فيقول: لا، أنت دفعت العشرة على أنها ربط للبيع، وتعويض لي عن تفويت فرص بيع السلعة في مدة انتظارك، فقد جاءني عدة زبائن يريدون شراءها، فبحجزك للسلعة فوَّت عليّ بيعها، فالعربون غير مرجوع. هذا هو بيع العربون الذي كانوا يتبايعون به، يشتري السلعة، ويدفع جزءاً من الثمن، عربوناً على توثيق البيع، على شرط: إن جاء بالثمن أخذ السلعة، ومضى العقد، وإن لم يأت بالثمن فيكون العربون ملكاً لصاحب السلعة، تعويضاً له على ما فوت عليه من عقود مع أشخاص آخرين. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع؛ لأنه إذا تعاقد معه ودفع العربون توثيقاً للبيع، ولم يحصل البيع، فبماذا يستحل هذا العربون من مال أخيه والسلعة عنده؟! قد يقول: إنه فوت عليّ الزبائن، فيقال: الزبائن موجودون، والسوق مفتوح، فإن ذهب هذا يأتي ذاك، وأين الإرفاق بالناس؟ وأين الوفاء بالوعود؟! إذاً: هذا البيع حرام إن كان الشرط فيه امتلاك العربون إذا لم تتم الصفقة، أما إذا كان سيرد له العربون، فأكثر العلماء على النهي عن هذه الصورة، كما ذكرها مالك رحمه الله تعالى. ونحن نقول -من باب الإنسانية، ومن باب الإرفاق، ومن باب التورع-: ليس هناك موجب لأخذك من مال أخيك شيئاً بدون مقابل، وكونك تزعم بأنه فوت عليك فرص البيع، وإذا ما جاءك زبون! ولا سأل عنها أحد! فالأصل أنه ما فات عليك شيء، فلماذا تأخذ العربون؟ إذاً: الغرر موجود، وأكل أموال الناس بالباطل موجود، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبعض المتأخرين يقول: إنه جائز؛ لأنه دفعه عن رضا، خاصة إذا قال: إذا ما أحضرت لك الثمن فهو لك، فكأنه متبرع به سبحان الله! هل جاء وقال: السلام عليكم، أنا والله عندي عشرة زائدة خذها لك، أم أنه دفعها مضطراً حتى تبقى السلعة؟! إنما دفعها لحاجة، فكيف نقدر بأنه متبرع؟ هذا بعيد، ولماذا لم يتبرع صاحب السلعة ويرد العشرة؟! فالواقع أن هذا النوع من المعاملات فيه تعريض لأكل الأموال بالباطل.

شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)

شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ابتعت زيتاً في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم] .

بيع السلعة قبل حيازتها: صورته وحكمه

بيع السلعة قبل حيازتها: صورته وحكمه هذه صورة من صور البيع المنهي عنها أيضاً؛ لتوثيق البيع، وفض النزاع، وهي مبنية على قاعدة، يقول ابن عمر: اشتريت زيتاً، وبينما أنا أمشي في الطريق -الزيت عند البائع، وهو قد دفع الثمن- علم شخص بما اشتريت، فأعطاني ربحاً حسناً، ولكن الزيت انتقل من عند التاجر إلى الطريق فقط، (فأردت أن أضرب بيدي على يده) وضرب اليد على اليد في البيع يسمى الصفقة، والتصفيق: هو الصوت الناتج عن التقاء الكفين، وسمي به عقد البيع، وهو إما صفقة رابحة، أو صفقة خاسرة. قال: فأردت أن أعقد البيع، فإذا برجل من روائي يمسك يدي التي أردت أن أصفق بها على يده، وقال: لا تبعه حتى تنقله من محل البائع، وتحوزه إلى محلك، لماذا يا زيد؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع) يعني: في مكانها الذي بيعت فيه: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) أي: محلاتهم. حتى ولو كان بين السوق وبين محلك شارع واحد، واشتريتها وتركتها عند تاجر الجملة، ورجعت إلى دكانك، وستنقلها غداً، فجاءك إنسان، وطلب سلعة مثل التي اشتريتها، وتركتها عند التاجر، فلا تبعه من تلك السلعة التي عند التاجر حتى تحوزها إلى محلك، ثم بعها من محلك. يقولون: هذا في المنقول مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، أما الأمور الثابتة، كما لو اشتريت بيتاً، وتريد بيعه، فهل تحوزه وتنقله؟! البيت ليس منقولاً، فيقولون: إن المبيع المنقول لا تتم الصفقة فيه إلا بالاستلام، فحتى تستلمها وتستوفيها، وما دامت عند البائع فهي على ضمانه، فلو تلفت عنده فهو ضامن. إذاً: لا تتم الصفقة في المنقولات حتى تستوفى، إذاً: ملكك لها غير تام، والملك غير التام لا تستطيع أن تبيعه، فالمرأة إذا كان صداقها ألفاً، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فلها من الألف خمسمائة، مع أنها كانت تملك ألفاً، لكنها لم تملك الألف ملكاً كاملاً، وإنما كان الملك ناقصاً؛ لأنه متوقف على الدخول، فكذلك هنا: الملك ناقص؛ لأنه متوقف على الحيازة، وذلك في كل مكيل، أو موزون، أو معدود يمكن زحزحته، وقد كنا نشاهد هذا في سوق الحراج، فمثلاً: كوم الحبحب، فإذا اشتراه وزحزحه بيده عن مكان البيع، وبعضهم يأتي بغطاء ويضعه على الحبحب، وبعضهم يأتي بشيء من البرسيم ويضعه على العنب، إشارة إلى أنه قد حازه، ووضع يده عليه؛ لأن السوق للجميع، وقد يشتري بالجملة، فإذا اشترى عشرة صناديق، فعليه أن ينقلها من مكان صناديق التاجر ولو لمسافة متر، فتصبح في حيازته وملكه؛ لأن أرض السوق ملك للجميع. فلا يبيع الإنسان السلعة إذا اشتراها إلا بعد أن يحوزها؛ لأنه بحيازتها تم الملك، وانقطعت علاقتها بالبائع، أما الأعيان التي لا تحاز ولا تنقل، فتكون حيازتها بالتخلية، فمثلاً: اشتريت بيتاً، وفيه أغراض للبائع، فعليه أن يأخذها، ويخلي لك البيت، فإن أخلى البيت وسلم لك المفتاح، فقد حزت البيت، وامتلكته ملكاً تاماً، وكذلك البساتين، يخليها من حاجاته، ويرفع يده عنها، فتكون في حيازتك. فإذاً: رفع يده، ووضعت أنت يدك؛ فقد صارت حيازة، وكذلك السيارة، حتى تحوزها وتنقلها، وتأخذ مفاتيحها، وحينئذ يحق لك أن تبيعها، أما أن تشتريها من المعرض، وتبيعها في المعرض، وفي محلها، فهذا لا يجوز، ويقع في مثل هذا كثير من الناس، والله تعالى أعلم.

أهمية فقه المعاملات

أهمية فقه المعاملات وبالمناسبة: أوصيكم بالعناية بالفقه، والعناية بالمعاملات؛ لأن مدار الإسلام عليها، فأنت تصلي، وتلبس الثياب، وتأكل الطعام، وتصوم، وتفطر، وتسكن في ملك، أو في أجرة، وتسافر إلى الحج، وكل ذلك من الربح، سواء كان من نتاج عندك، أو من بيع وشراء، فإذا كان البيع والشراء سليماً، فكل أعمالك ستكون سليمة، وإذا كان فيه خلل عياذاً بالله، فكل أعمالك فيها خلل؛ لأننا سمعنا سعداً رضي الله تعالى عنه يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال (أطب مطعمك تجب دعوتك) ، وعمر يمر بالأسواق، ويسأل الباعة، ويختبرهم في أحكام الربا، والبيع، والكيل، والوزن، فإذا وجد جاهلاً أقامه، وقال: قم، لا تفسد علينا أسواقنا، قم، لا تمنع المطر عنا؛ لأنه إذا وجد الغش والتدليس والربا منع القطر، والعياذ بالله. فنصيحتي لكل المسلمين أن يعنوا بالفقه؛ لأننا وجدنا دراسة الفقه قليلة، ونجد التركيز والاهتمام والعناية بالحديث دون الفقه، والحديث هو الأصل، ولكن كما يقولون: له نقاد وصيارفه، يحسنون تصريفه واستنتاجه، وهم الفقهاء، فنأخذ ما صنعوا، ونمشي معهم أيضاً في الحديث، ونتبع كل قاعدة بأدلتها، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس

شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأُعطي هذه من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) رواه الخمسة وصححه الحاكم] . يذكر لنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما صورة مبيع واستيفاء الثمن مقاصة، فيقول: إني أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، والدنانير عملة ذهبية، وهو في العدد يسمى ديناراً، وفي الوزن يسمى مثقالاً، والدراهم عملة فضية، وهو في العدد وفي الوزن سواء، إلا أن الفقهاء ربما فرقوا وقالوا: وعشرة دراهم وزناً، عشرة دراهم عداً، وهذا حينما يختلف الضرب، وتحصل هناك زيادة ونقص. وأصل الدنانير: عملة رومية، أو فارسية، وقد تعامل بها العرب على ما هي عليه، ولم يتغير وزن المثقال، لا في جاهلية ولا في إسلام، أما الدارهم فقد تغيرت، فكان هناك الدرهم الكبير، والدرهم الصغير، وفي زمن بني أمية جُمع الدرهم الكبير والدرهم الصغير وسبكا معاً فصارا درهمين، واتحدت الدراهم، وهذا من واجب ولي الأمر، فعليه أن يوحد العملة التي يتعامل بها الناس، حتى لا يقع خطأ أو غرر في المسمى. وموضوعنا الآن في كونه يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير، والعكس. ومنطوق الحديث يبين أن عبد الله بن عمر كان يتعاطى البيع والشراء، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تاجر ومزارع، وهذه كما يقولون: وسائل الإنتاج والكسب، فالزراعة فيها كل البركة، وكان أكثر عمل الأنصار الزراعة، والتجارة كذلك، وهي تسع وتسعون بركة، والتاجر الصدوق مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة. ولا بأس أن الرجل الصالح، أو العالم، أو غيره يعمل في التجارة، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتاجر في البز، أي: القماش، فقد كانوا يتكسبون لأنفسهم، وهذا نبي الله داود كان يصنع بيده الدروع، ويأكل من كسب يده، فـ ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعمل، ويكتسب، ولا مانع من أن يشتغل طالب العلم بذلك، وحبذا طالب العلم التاجر؛ لأنه يستغني بذلك عن أن يتطلع إلى الناس، أو ينظر الناس إليه بعين الرحمة لفقره، ولأن تستغني عن الناس تكن أميراً في نفسك.

بيع السلعة بثمن واستيفاؤه بثمن آخر: صورته وحكمه

بيع السلعة بثمن واستيفاؤه بثمن آخر: صورته وحكمه فيقول: كنت أبيع الإبل، يقولون: إن سوق الإبل كان عند بقيع الغرقد، والبقيع الآن معروف مكانه، وفي أي موضع من مواضع البقيع؟! لا يهمنا هذا، فكان يتاجر، ويبيع ويشتري في الإبل، إذاً: هناك من يتاجر في الإبل، وهناك من يتاجر في الغنم، وهناك من يتاجر في الأطعمة، وفي الألبسة، وكل على حسب اتجاهه ومعرفته، وسؤاله رضي الله تعالى عنه: إني أبيع هذا البعير بألف درهم، ويقول في بعض الروايات: (فأذهب مع المشتري لينقدني الثمن، فلم يجد دراهم، ويجد دنانير، فآخذ الدنانير عوضاً عن الدراهم) إذاً: أنا بعت بشيء، وقبضت شيئاً آخر، فهل يجوز هذا؟ فأفتاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، فإذا بعت البعير بألف درهم، والمشتري يريد أن يقدم لك دنانير، فكم سعر الدينار بالدرهم؟ الدينار أخذ أسعاراً متفاوته، أقل ما وصل إليه في الصرف ثمانية دراهم، وأعلى ما وصل إليه في الصرف اثنا عشر درهماً، واستقر الأمر بعد ذلك في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على عشرة دراهم، ونحن نجد المقارنة في باب الزكاة، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وقد قلنا: المثقال والدينار شيء واحد، ونصاب الفضة مائتان درهم، إذاً: الدينار عادل عشرة دراهم، إذاً: صرف الدينار يساوي عشرة دراهم. فإذا بعت البعير بألف درهم، وجئت معه إلى البيت ليعطيك دنانير بدل الدراهم، فهل تأخذها بسعر يومها، أم بسعر أمس، أم بسعر جديد غير موجود الآن وإنما هو متوقع فيما بعد؟ خذها بسعر يومها؛ لأنك تصارف الدراهم إلى دنانير، والصرف يجب أن يكون بسعر يومه. قال: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، فإذا بعته بألف، والألف الدرهم إذا قسمناها على عشرة -والعشرة الدراهم تساوي ديناراً واحداً- فإن فيها مائة دينار، فقال: أنا عندي تسعة وتسعون ديناراً، وسيبقى لك دينار واحد إلى الغد إن شاء الله، أو إلى بعد ساعة، فإن هذا لا يجوز، ولكن يجب أن تأخذها كاملة، سواء كنت ستأخذ الدنانير عن الدراهم، أو تأخذ الدراهم عن الدنانير، فمثلاً: بعته بعشرة دنانير وجئت إلى البيت، وقال: ما عندي دنانير، عندي دراهم، فليس هناك مانع، ولكن بسعر يومها، الدينار بعشرة دراهم، وهذه عشرة في عشرة يساوي مائة، فإن أعطاه إياها كاملة فبها ونعمت، أما أن يعطيه الدراهم ناقصة، ولو بدرهم واحد، فهذا ممنوع؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض والتسليم في مجلس العقد، ولا يجوز فيه التأجيل؛ لأن أصل الصرف بيع، وإن غلب عليه اسم الصرف، فأنت تبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ولكن غلب عليه اسم الصرف لأن تعامل الصراف إنما يكون بالعملة، ولكثرة تحريكه لها يكون لها صريف، أي: صوت -كأنه دعاية وإعلان- فلما غلبت هذه الحركة سمي صرفاً؛ لصريف الدراهم في حركة الصراف، فإذا أعطيته ديناراً ليصرفه لك دراهم، والدينار بعشرة، وقال لك: خذ هذه التسعة، وبعد ساعة ارجع وأعطيك العاشر، فلا يجوز ذلك؛ لأنه قد يتغير السعر، وهذا خاص بالذهب والفضة وجميع أنواع العملة، وأما بقية السلع فلا تدخل في هذا، فلو اشترى طعاماً أو نحوه، ودفع جزءاً من المال وبقي على جزء إلى أجل، فلا بأس في هذا. ومعلوم موضوع البورصة، فتجد الشخص يعلم عن ارتفاع العملة وعن نزولها في الدقيقة، وبعض الأشخاص تراه جالساً على التلفون مع البنك، كم سعر الآنصة اليوم، الآن بكذا، فيقول: لي احجز بكذا، بع لي، وهو عمل فيه مقامرة، وربا، ولا يجوز؛ لأنه بيع وشراء بدون استلام وبدون قبض، فهو بيع في الهواء، وهذا هو عمل البورصات وبهذه الطريقة فهو ربا محض. فهنا: إذا تصارفتما، أو تبادلتما، وأخذت الدراهم بدلاً عن الدنانير، والدنانير بدلاً عن الدراهم، فجائز بشرطين: الأول: أن تكون بسعر يومها. الثاني: أن لا يبقى لك عنده شيء. إذاً: هذا هو شرط الصرف، وهو خاص بالربويات، والذي يمهمنا في الثمن، فلو أنه استبدل نقداً بنقد، فيشترط أن يكون بسعر يومه، وأن يكون التقابض حالاً، والله تعالى أعلم.

شرح حديث النهي عن النجش

شرح حديث النهي عن النجش قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجْش) متفق عليه] .

النجش: صوره وحكمه

النجش: صوره وحكمه النجْش أو النَجَش صورته الاصطلاحية: أن يزيد الإنسان في السلعة دون رغبة في شرائها. وبعض الناس يعمل هذا فضولاً منه، وبعض الناس يعملها قصداً؛ إما يؤجَّر على ذلك، وإما كيداً في أحد المتبايعين، وصورتها تكون دائماً في بيع المزاد، أو المزايدة، فحينما يعرض الدَّلال السلعة، أو يعرضها صاحبها، فيقول: هذه السيارة بعشرة آلاف، فيأتي واحد ويقول: بعشرة وخمسمائة، فيأتي آخر ويقول: بإحدى عشر، وهي تساوي عشرين، لكنهم فتحوا باب المزاد بعشرة، فيتزايدون فيها، فيأتي إنسان لا ناقة له فيها ولا جمل، ودخّل نفسه مع الناس، واعتبر نفسه تاجراً من التجار، وراغباً من الراغبين، فحينما قيل: هذه بعشرة، قال هو: عشرة ونصف، وآخر قال: إحدى عشر، وقال ثالث: إحدى عشر ونصف، ثم قال هو: باثني عشر، وهكذا، وضع رأسه ضمن رءوسهم، وأخذ يزايد، فهذا الشخص الذي يزيد في السلعة دون رغبة فيها يُعدَّ ناجشاً. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن ذلك، والعلة في ذلك: أنه الراغب الحقيقي يزيد بمقدار رغبته وتقديره للسلعة، أما الناجش فإنه سيزيد من غير تقدير، ثم سيسحب نفسه ويذهب، فليس متحملاً مسئولية الزيادة، ولكن ماذا يفعل إن وقف السعر عليه؟ سيضطر إلى التراجع، فترجع السلعة للذي قبله، فإذا كان الناجش قد أوصلها إلى عشرين، والذي قبله أوقفها على تسعة عشر، فسترجع للذي قبله بالتسعة عشر، وتسقط زيادة الناجش الأخيرة، وفي هذا العمل مضرة، وإفساد للسوق، فإن كان فضولياً فهذا تعدٍ، وإذا كان غير فضولي، ولكنه بقصد، فإما أن يكون القصد هذا من قبل نفسه، وإما أن يكون بدافع من البائع، وبعض البائعين قد يتفق مع بعض الأشخاص ليزيدوا في السعر، فيفتح باب الزيادة بعشرة، فيأتي هذا العميل المساعد فيقول: بإحدى عشر، والراغب في الشراء يظن أن هذا صادق، وأنها تساوي إحدى عشر، فيزيد خمسمائة من أجل أن يأخذها، والعميل يقول: إحدى عشر وخمسمائة، وكل واحد ينجش ويزيد، والراغب في السلعة يزيد حقيقة، ويكون قد لبس عليه بسبب زيادة العميل، وتزيد السلعة عن قيمتها الحقيقة بسبب الناجش، وما مصلحة الناجش في هذا؟ خدمة صاحب السلعة والزيادة في سعرها، فلو لم يدخل العميل ليناجش، ويزيد في السعر؛ لما نفقت السلعة، ولما ارتفع سعرها أكثر مما تستحقه. إذاً: فالناجش غاش، ومدلس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن فيه تعاوناً على الإثم والعدوان، والواجب على المسلم أن يساعد على البر والتقوى، لا أن يساعد على الإثم والعدوان. وهنا شيء آخر، وهو: إذا غرر بالمشتري، وزيد عليه في السعر بسبب المناجشة التي تواطأ عليها البائع والمناجش، فإن ثبت ذلك فالمشتري بالخيار، فإن شاء أمضى البيع برغبته، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن. إذاً: النجش عيب، ويعطي المشتري الحق في فسخ العقد؛ لأنه تدليس وغش، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مضت السلعة فيكون البائع قد أكل من مال أخيه المسلم بالباطل، فليتق الله أصحاب الأسواق. وهنا صورة أخرى، وهي عكس الصورة السابقة، وكما يقول ابن تيمية في كتاب الحسبة: يجب على طالب العلم أن يعرف أوضاع الأسواق، حتى يستطيع أن يحكم على أعمال الناس. فمثلاً: يأتي إنسان بسيارة ويريد بيعها، فيأتي شخص يريد شراءها، فيجد أشخاصاً آخرين يريدون شراءها أيضاً، فيتواطئون جميعاً على ألا يزيدوا في السعر، أو ألا يدخلوا في المزايدة حتى يقف السعر عند حد فيه بخس للسلعة، على أن يتشاركوا فيما بخسوا به صاحب السلعة، فهؤلاء تواطئوا على بخس السلعة، ثم أكلوا فارق البخس فيما بينهم، وهذا حرام، وإنما أكلوا سحتاً. وهناك صورة أخرى: أن يأتي شخص إلى البائع، فيعطي للسلعة سعراً أكثر من قيمتها، ثم لا يشتريها، فمثلاً: قيمة السلعة الحقيقية ثلاثون، فيأتي هذا الرجل ويقول: هذه السلعة تساوي خمسين، وذلك حتى ينطبع في ذهن البائع هذا السعر، فلا يبيعها إلا به، وهذا السعر لن يجده حقيقة، ولن يدفعه له أحد، ويسمى هذا بربط الرأس، وإنما فعل ذلك الرجل هذه الحيلة ليصرف الناس عن هذه السلعة، فيتفرد بالبائع حتى يبخسه، ولا يعطيه قيمتها الحقيقية، فضلاً عن أن يعطيه ما وعده به من قبل، فإذا كان صاحب السلعة مضطراً، فسيبيعه السلعة بأقل من قيمتها الحقيقية، فتؤكل أموال الناس بالباطل عن طريق هذه الحيل. يقول ابن تيمية: حيل الأسواق وعقود البيع كثيرة جداً، خاصة في أنواع المكاييل والموازين، وهذه العقود والبيعات تكون في المزاد، فليتق الله ربه كل إنسان، ويتحرى الصدق والحلال. إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع النجْش أو النجَش، ويلحق به كل ما فيه تحايل على إسقاط شيء من سعر السلعة، أو زيادة في سعرها على من لا يعرف السعر الحقيقي.

جواز رد السلعة إذا غبن فيها المشتري

جواز رد السلعة إذا غبن فيها المشتري وقد كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري، لكنه أحمق، لا يحسن تقدير السلعة، فإن وجد سلعة في يد إنسان وأعجبته سأل: بكم هذه السلعة؟ ثم يأخذها على كلام صاحبها، وإن كانت في يده سلعة ويريد بيعها، فأتى من يريد شراءها، باعها له على ما أراد، فيكون -أي: المشتري- قد زاد في سعر السلعة بحسب كلام البائع (30%) ، وقد يكون أنقص من قيمة ما في يده بحسب كلام المشتري (30%) ، أو (40%) ، فتضرر أهله بذلك، فقالوا: يا رسول الله! امنع حبان بن منقد من البيع والشراء؛ لأنه أتلف علينا أموالنا، يشتري بسعر زائد، ويبيع السلعة بثمن ناقص، ويخسرنا فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم (دع البيع والشراء) ، فقال: يا رسول الله! لا أستطيع أن أدع البيع والشراء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إذا بعت أو اشتريت فقل: لا خلابة) ، والخلابة: النقص، فكان حبان بن منقد -بعد هذا- إذا تبايع مع إنسان أو اشترى منه قال: لا خلابة، فإذا علم أهله بالمبيع أو المشترى ووجدوا الغبن فاحشاً، رجعوا إلى صاحبه وأبطلوا البيع؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر حالته العقلية وجعل حق نقض البيع وإمضائه لأهله؛ لأنهم هم الذين يتحملون الغرم. وهل يجوز لإنسان أن يقول عندما يشتري: لا خلابة؟ إن كانت حالته كحالة ابن منقذ فيجوز ذلك، أما إذا لم يكن كذلك، كأن كان حاذقاً، وإنما زادوا عليه في ذلك، فإن هذا يرجع إلى باب آخر، وهو: هل كان الغبن فاحشاً أم لا؟ إذاً: كل ما يكون من التحايل، على زيادة أو نقص السعر في السلعة في السوق في المزاد العلني فهو باطل، والمشتري أو البائع إذا ظهر له التحايل عليه فله الحق في فسخ البيع، أما سلع المحلات والدكاكين، فإذا جاء الزبون وقال لصاحب الدكان: بكم هذه السلعة؟ فقال: بخمسة، فاشتراها، ثم جاء الثاني وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بأربعة ونصف، فقال: لا بأس خذها، ثم جاء الثالث وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بخمسة إلا ربع، فلا بأس بهذا. وهذا التفاوت لا بد منه؛ لأن طبيعة الناس المساومة، وإن كان السعر محدداً فلا مانع، ويستريح الذكي والبليد، ولكن إذا كانت هناك مساومة، وحدث هناك شيء من الغبن اليسير، فإن عادة الناس التسامح في المماكسة، والزيادة، أو الغبن الخفيف، الذي لا يؤثر على النفس، أو على المال، أما في حالة الغبن الفاحش، كأن تكون السلعة بخمسة، فيبيعها بخمسين، فهذا غبن فاحش، ولمن وقع عليه الغبن الحق في رد السلعة؛ للغبن الفاحش الذي وقع عليه.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [8]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [8] لقد دلت النصوص الشرعية على تحريم بعض أنواع البيوع، ومن تلك البيوع المحرمة: بيع المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والثنيا إذا لم تحدد بعينها، وبيع المخاضرة والمنابذة والملامسة؛ لما في هذه البيوع من الغبن والتحايل لأكل أموال الناس بالباطل، وجاء النهي أيضاً عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد؛ لما في ذلك من الإضرار بالبائع والمستهلك.

شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة

شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثُّنْيَا إلا أن تُعلم) رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي] . انتقلنا من ذكر أحكام البيوع التي تعقد في الأسواق، إلى البيوع التي تعقد في المزارع، فإنها محل بيع وشراء أيضاً.

بيع المحاقلة: صوره وحكمه

بيع المحاقلة: صوره وحكمه قوله: (نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة) المحاقلة والمزابنة: اصطلاح فقهي، مأخوذ من نحت الكلام، محاقلة: مفاعلة، أصل مادتها: حَقَل، والمحاقلة مأخوذة من الحقل، والحقل بمعنى الغيض، بلغة مصر، وسوريا، وغيرها، والحقل موضع الزراعة، والمحاقلة: هي بيع الزرع في حقله بعد خرصه وتقديره بحب مكيل من نوعه، وهذا لا يجوز؛ حتى يشتد الحب في سنبله، وتجب فيه الزكاة، وعلى أي أساس؟ سيأتينا إن شاء الله. فإذا كانت لديك مزرعة قمح، فبعت القمح في سنبله بقمح مكيل من نوعه، فمثلاً: بعت المزرعة بثلاثة أرادب، أو بعشرة أرادب من القمح، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنك قدرت ما هو موجود في الحقل -وهو مجهول الكمية- وبعته بما هو معلوم، وكان الثمن من جنسه، وهما صنفان ربويان، ووجد التفاوت بينهما، فأنت أخذت القمح الآن أرادب، وهو أخذه سنابل في عيدانها، وهذا لا يجوز. ومن المحاقلة أيضاً: الإجارة، وصورتها: أن يأتي صاحب الحقل الكبير ويعطيه لمزارع، ويقول له: هذه الأرض تزرعها قمحاً، على أن لي ما ينبت على القناطر، وفي رءوس الجداول، ولك ما كان في وسط الأحياض، أو أجرتك هذا الحقل، أو الأجرة من هذا الجانب الغربي الشمالي. إلخ، فيعين له محلاً من المزرعة، ويجعله أجرة له مقابل عمله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وجاء عن جابر: (يا أهل قباء! لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى، نهى أن تؤاجر الأرض أو يباع الزرع على ما ينبت على الماذيانات، ورءوس الجداول) ، والماذيانات: القناطر، والقنطرة هي التي يجري فيها الماء ويوزع على الأحواض، فالماء فيها مستمر، وربما يستمر فيها الماء في السقية الواحدة حوالي ثلاث إلى أربع ساعات، فالنبات النابت في القنطرة يشرب ست ساعات، بينما النبات الذي داخل الحوض لا يشرب إلا خمس دقائق أو عشر دقائق، فلا يستوفي من الماء كالذي يستوفيه زرع القناطر، وكذلك ما كان في رءوس الجداول -أي: الأحواض- وهي الفتحة التي عند القنطرة، ويدخل منها الماء إلى الحوض، فإذا كانت مساحة الحوض أربعة في أربعة أمتار، ومدخل الماء إلى الحوض من القنطرة، فالماء يمر على رأس الجدول إلى أن يستوفي الحوض الماء، وآخر الحوض يأتيه الماء متأخراً، ثم ينقطع عنه، فتكون رءوس الجداول التي عند القنطرة قد استوفت ماءً أكثر، بينما آخر الجداول استوفت ماءً أقل، وكلما استوفى الزرع ماءً أكثر كان أكثر إنتاجاً، فجاء جابر وذكر النهي، ثم قال: (فلربما صح هذا وفسد ذاك) ، فلو اتفقت مع الأجير، وحددت له مكاناً معيناً من المزرعة، على أنه أجرة له مقابل عمله، فقد يصاب ذلك الجزء بآفة وتلف. إذاً: الأجرة مجهولة، ولابد أن تكون الأجرة بشيء معلوم، كالدراهم، كأن يقول: أستأجرك لتزرع هذا الحقل براً أو شعيراً -على ما تريد- بمائة درهم، أو بعشرة دنانير، أو بأي شيء معلوم، أو بعشر ما يخرج منها، فهنا صار القدر معلوماً، وكم سيخرج منها؟ لا ندري، فإن كان المحصول كثيراً فسيستفيد منه الطرفان، وإن كان قليلاً فالنقص داخل على الجميع، وكان بعض السلف يكره أن تؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها، ولكن قل: أجرتك إياها بإردبين، ولا تشترط أن يكون من منتوج الأرض التي أجرتها؛ لأن الإردبين تحل محل الدنانير والدراهم، أما بجزء مما يخرج منها فلا. والآخرون يقولون: إن هذا مثل الشراكة، فلو تشارك اثنان على جزء من الربح، وهما لا يعلمان كم الربح، لكن هذا التعامل أقره الإسلام، وهو ما يسمى بالمضاربة، فتدفع المال لشخص يعمل، وله نصف الربح -مثلاً- وهو لا يعلم كم سيربح، ولا يعلم كم سيكون نصفه، وأنت لا تعلم كم ستربح، وكم سيكون نصفك، ولكنها مخاطرة، إلا أنها معاملة جائزة، والعمل جارٍ عليها. فكذلك المحاقلة على جزء مشاع، بنسبة مئوية فيما يخرج من هذه الأرض.

بيع المزابنة

بيع المزابنة والمزابنة: من الناس من يقول: المزابنة: هي عين المحاقلة، والمزابنة: من الزبن، والزبن: الدفع، ومنه الزبانية -عياذاً بالله- فقالوا: سميت المحاقلة مزابنة؛ لأن كلاً من الطرفين: البائع، والمشتري، والمؤجر، والمستأجر، يدفع عن نفسه الغبن.

المخابرة: صورتها وحكمها

المخابرة: صورتها وحكمها قوله: (والمخابرة) . المخابرة: مأخوذة من خيبر، وبعض الناس يقول: هذا كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن المخابرة على ما كان عليه أهل خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه خيبر، أتاه اليهود وقالوا: يا محمد! نحن أعلم بالزراعة، ومتفرغون لها، دعنا نخدمك فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: نقركم ما أقركم الله، وأعطاهم إياها على النصف مما تُخرج، وكان هذا العقد على كل أرض خيبر: نخيلها، وما يأتي به من التمر والرطب، وكرومها، وما يأتي به من العنب، وأرضها البيضاء، وما تأتي به من الحب، فيجمع الجميع ويعطى نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يقول: كانت المخابرة على النخل فقط. وقد جاء أن عبد الله بن رواحة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليخرص عليهم، والخرص: التقدير، وهذه طريقة تقريبية، وتكون في الزكاة، فيأتي العامل، ويقف عند نخلة، وينظر كم فيها من عرجون، وما فيه من الرطب والبسر والزهو لو أثمر وصار تمراً كم يأتي؟! ويقدر كل نخلة بما يترجح عنده، فإن كان للزكاة قدر على صاحب البستان وقيل له: زكاتك كذا؛ لأننا قدرنا أن هذا النخيل سيأتي بكذا وسق، وعليك كذا، وهو نصف العشر، أو العشر. فلما جاء ابن رواحة ولقيه اليهود -عملوا على طريقتهم- جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا: خذ هذا لك، وخفف عنا. أي: أنه إذا كان فيها ألف وسق، سنكون ملزمين بخمسمائة، فأنت قدر الألف بستمائة، فيكون علينا ثلاثمائة بدلاً من خمسمائة، وعوض ذلك أن تأخذ هذا لك. فقال لهم: يا إخوة الخنازير! والله لقد جئت من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي إياكم حاملي على أن أحيف بكم، إني مقدر، فإن شئتم فخذوا والتزموا، وأعطونا نصف ما قدرت، وإن شئتم فارفعوا أيديكم، وألتزم لكم بنصف ما قدرت. فقالوا: بهذا قامت السماوات. أي: بعدم قبول الرشوة، وبالعدالة، فحينما يقدر فيها ألف وسق، فإما أن تلتزموا بخمسمائة، أو أنا ألتزم لكم بخمسمائة، وليس في هذا إجحاف! يلتزم لهم بنصف ما قدر، أو يرضى منهم بنصف ما قدر. فبعضهم يقول: المخابرة كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الآخرين يقولون: بل هذا تشريع عام، وقد بقيت إلى زمن عمر، وبقيت معاملتهم بذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه حديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) . إذاً: المخابرة نوع من المعاملة في الزراعة بجزء مما يخرج من الأرض، فإن كان هذا الجزء معيناً: النصف، أو الربع، أو الثلث؛ فلا بأس بذلك.

بيع الثنيا: صورته وحكمه

بيع الثُنيا: صورته وحكمه قال: (وعن الثنيا إلا أن تعلم) . الثنيا: من الاستثناء، والاستثناء مأخوذ من الخيط الممتد إذا أثنيته، أي: تعيد آخره على أوله، وهنا البستان فيه مائة نخلة، فقلتُ: بعتك المائة نخلة، وأستثني لنفسي خمساً، فالاستثناء عاد على المبيع، فأخرج بعضاً منه، فهذه هي الثنيا. والخمس هذا إن كان معلوماً، كأن يكون النخيل مرقماً، ثم عين الخمس من الواحد إلى الخمسة، أو عين رقم عشرين أو واحد وعشرين. إلخ، أي: أنه عينها، أو عين الخمس الموجود حول البركة، أو الخمس الموجود في الطرف الفلاني، وتكون معلومة للطرفين، فحينئذٍ يصح البيع، لكن إذا لم تكن معلومة، كأن يقول: بعتك المائة، واستثنيت لنفسي عشراً، فأين هذه العشر؟ فحينما يبدأ الرطب فتذهب وتتخير العشر، وهذا فيه إجحاف على المشتري، أو هو يفرض عليك عشراً، فهذا فيه ضرر وغبن، ولكن إذا علمت الثنيا عند العقد، فسواء كانت أجود الموجود، أو كانت أقل الموجود جودة، فإنها معينة، وكذلك قطيع الغنم، كأن يقول: بعتك ألف شاة إلا مائة، فيجب أن تعلِمْها، ويجب أن تعزلها، وهكذا مائة ثوب إلا خمسة فإذا كانت الأجناس متساوية، وفيها بعض التفاوت، أي: من جنس واحد، ولكن فيه بعض التفاوت، فلابد من تحديده، ولابد من تعيينه بعينه؛ لئلا يقع النزاع عند الاستلام. والله تعالى أعلم.

شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمخاضرة

شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمخاضرة قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة) رواه البخاري] . هذه المسميات -المحاقلة والمزابنة والمخابرة- صور من صور البيع التي كانوا يتعاطونها، وفيها ضرر على البائع، وعلى المشتري.

النهي عن بيع المحاقلة وعلة ذلك

النهي عن بيع المحاقلة وعلة ذلك المحاقلة: من الحقل، وهو محل الزرع، أو الأرض الخصبة المنبتة، فإذا إنسان زرع قمحاً، أو شعيراً، أو ذرة، أو نحوه، فيبيع ما فيه من الحبوب بخرصه كيلاً، فكم يمكن أن يكون في هذا الحقل إذا حصد وصُفي؟ يمكن أن يأتي مثلاً بعشرة أرادب، فيقول المشتري: أنا أشتريه منك الآن بتسعة، أو أشتريه منك الآن بعشرة، أو بأي تقدير كان، أي: يبيع المجهول من الحب في الحقل بمعلوم بالكيل من جنسه، وهذا منهي عنه؛ لأن فيه غرراً؛ ولأنه إذا كان المبيعان من جنس واحد وبيعا ببعضهما؛ وجب الحلول، والتقابض، والتماثل، وحتى لو بيع بغير جنسه -بطريقة المحاقلة- كان فيه الغرر، فلو اشترى حقل الحب -وقد رما فيه بعشرة آرادب- بخمسة آرادب من تمر، فإن الحب مع التمر ربويان، ولكن لاختلاف الأجناس يجوز التفاضل، ولكنه هنا -أي: في بيع المحاقلة- لا يجوز؛ لوجود الغرر، فإن التمر معلوم الكيل، والحب في الحقل مجهول الكيل، ولا نعلم كم سيحصد منه.

بيع المخاضرة: صورته وحكمه

بيع المخاضرة: صورته وحكمه وقوله: (والمخاضرة) . المخاضرة: هي بيع الزرع أخضر ولم ينعقد الحب فيه بعد، فيقدر كم سيكون إذا طلع السنبل، وإذا طلع الحب، وانعقد في سنبله، وصُفي، كم سيكون؟ وكذلك أنواع الخضروات بجنسها موزوناً أو مكيلاً، فكل ذلك يلحقه الغرر، فنهي عن بيعه.

بيع الملامسة: صوره وحكمه

بيع الملامسة: صوره وحكمه وقوله: (والملامسة) . الملامسة تقدم الكلام عنها، وهي: أن يقول البائع: أيَّ ثوب لمسته من مجموع هذه الثياب فهو لك. أو تكون مبادلة ثوب بثوب، وكل منهما قد لف ثوبه ولم ينشره، فلا يراه الآخر، فيقول له: هذا الثوب بيدي، أبيعه عليك بالثوب الذي في يدك، وبمجرد ما ألمس ثوبك وتلمس ثوبي ينعقد البيع، وهما لا يعلمان ما بداخل الثوبين، فقد يناسبه في تفصيله، وفي حجمه، وقد لا يناسبه، وقد يكون فيه عيب مستتر لا يراه، وكل ذلك منهي عنه، وقد تقدم التنبيه على ما كان من اللعب المشابه لهذا، وصورته أن يجعل سهماً كعقرب الساعة، ويدار على سلع موزعة، فما وقف السهم عليه فهو له، فهذا أيضاً من الملامسة المنهي عنها؛ لأنه لا يعلم على أي سلعة سيقف السهم، والسلع عادة تكون متفاوتة، فمنها ما يساوي درهماً، ومنها ما يساوي عشرة، وفي هذا إغراء للمتلاعبين، أو المتعاقدين على أن يظفر بشيء قيمته كبيرة بثمن قليل.

بيع المنابذة: صورته وحكمه

بيع المنابذة: صورته وحكمه قوله: (والمنابذة) . المنابذة: قريبة من الملامسة، ولكن المنابذة من النبذ، -والنبذ: الطرح، والرمي، فمثلاً: يقول: أيَّ ثوب نبذته إلي فأنا آخذه بكذا، سواء كانت السلع متساوية، أو كانت السلع غير متساوية، فمثلاً: نجد الآن في الوقت الحاضر لوحات على بعض الدكاكين: كل شيء بخمسة ريال، كل شيء بعشرة ريال، أي أن الثمن متعادل، فيأتي صاحب الدكان ويقول: أي شيء بخمسة ريال، والأثمان متعادلة، وأيَّ شيء نبذته إليك فهو بخمسة، لكن المشتري لا يعلم ماذا سينبذ إليه، فربما نبذ إليه شرّاباً وهو يريد غترة، وربما نبذ إليه ثوباً وهو يريد قميصاً، إذاً هذا معلق على اختيار أحد الطرفين، فلا يجوز ذلك. وكذلك إذا كان العكس، كأن يقول: ما دامت كل السلع عندك بخمسة ريال، فأي سلعة سقطت عليها الخمسة الريال فهي لي، وإن كان الغبن هنا مرتفعاً، إلا أن المانع هو عدم تعيين المبيع عند العقد، وكل هذا منهي عنه؛ سداً للباب فيما لو كانت السلع متفاوتة الأثمان.

حكم بيع المزابنة

حكم بيع المزابنة وقوله: (والمزابنة) . المزابنة: من الزبن، وهو الدفع، قالوا: المزابنة، والمحاقلة، والمخاضرة، كلها تدخل في المزابنة؛ لأن كلا المتعاقدين يدفع عن نفسه الغبن، ويكون ذلك بالمخاطرة، فهي أيضاً ممنوعة لهذا السبب.

شرح حديث النهي عن تلقي الركبان

شرح حديث النهي عن تلقي الركبان قال المصنف رحمه الله: [وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد) قلت لـ ابن عباس: ما قوله: ولا بيع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً. متفق عليه واللفظ للبخاري] .

القاعدة العامة في معرفة البيوع المحرمة

القاعدة العامة في معرفة البيوع المحرمة لو تأملنا في كل ما جاء النهي عن بيعه فإننا نجد عنصر التحفظ عن أكل أموال الناس بالباطل هو السبب البارز في النهي عن جميع البيوع المحرمة؛ لأن من أخذ شيئاً مخاطرة، وكان فيه غبن، كان فيه أكل لأموال الناس بالباطل، فإذا وقع الغبن على البائع فقد خسر شيئاً، وأكله المشتري بالباطل، أو وقع الغبن على المشتري في الثمن، فقد نقص عليه شيء، وأكله البائع بالباطل، وهكذا كل هذه الصور يقع فيها أكل أموال الناس بالباطل، وتدخل تحت قوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، والمال لا يحل إلا بطيب نفس من صاحبه، فمهما كانت صفة العقد وصورته وشروطه -وقد وجدنا في الآونة الأخيرة صور عقود لم تكن في السابق- فإنها لم تفلت من نطاق القواعد العامة التي فيها احترام مال المسلم، وتحريم أكله بالباطل.

النهي عن تلقي الركبان: صوره وما يتعلق به من أحكام

النهي عن تلقي الركبان: صوره وما يتعلق به من أحكام وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، والتلقي: هو الاستقبال، قال الله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ، والركبان: جمع راكب، والمراد: الجالب، سواء جاء على قدميه، أو جاء راكباً بعيراً أو فرساً، وقد صار هذا الاسم علماً على كل من يجلب إلى السوق؛ لأن الغالب أن الجالب يأتي من بعيد، وغالباً يأتي راكباً، أي: يركب ما يحمل عليه السلع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان. والركبان إما أن يكونوا قادمين من البادية، أو قادمين من بلد أخرى حاضرة للبيع في هذه البلدة؛ لاختلاف الأسعار، ولكثرة الحاجة، ولقلة السلعة، وهذه أمور تحكمها حالة الأسواق. ولنفترض المسألة في البادية: فإذا جاء الجالب من البادية، فإنه سيأتي بإنتاج البادية، وإنتاج البادية إما أن يكون بهيمة الأنعام، وإما أن يكون نتاجها من ألبان، أو أصواف، أو جلود، ونحو ذلك، وإما حطباً يحتطب من الجبال، ونتاج بهيمة الأنعام يكون سمناً، ويكون أقطاً، كل هذا من إنتاج البادية، فإذا جاء البدوي بسلعة، ويريد أن يبيعها في المدينة، ويشتري بثمنها سلعاً أخرى من السوق، فهو أتى بسمن أو حطب أو جبن، فباع واشترى سكراً، أو قماشاً، أو قهوة، أو هيلاً. إلخ، وهذه هي العادة، فإذا قدم ركبٌ بسلع بدوية، فلا ينبغي لأحد من أهل السوق أن يخرج من السوق، أو يخرج من البلدة ويتلقاهم قبل أن يصلوا إلى السوق، وقبل أن يعرفوا الأسعار، فيساومهم على ما معهم؛ لأنه بتلقيه للركبان يقطع السلع عن أهل السوق. ومن أين يكون التلقي؟ بعض العلماء يقول: يكون التلقي بمجرد خروجه من السوق، وبعضهم يقول: ميلاً، وبعضهم يقول: ميلين، وبعضهم يقول: أكثر، أو أقل، ولكن الأصل العام في ذلك: أن يتلقاه قبل أن يأتي ويلتقي بالناس، ويعرف الأسعار، وبعضهم يقول: التلقي من السوق إلى الطريق ليس فيه شيء؛ لأنه موجود، ولكن التلقي المنهى عنه فيما إذا كان خارج المدينة، فإذا خرج من المدينة، ولقي الركبان خارج المدينة، وساوم واشترى، فهذا هو المنهي عنه، ولكن إذا نظرنا إلى العلة، وهي قطع الاستفادة من السلعة عن أهل السوق، فيتفرد بالبادي، ويشتري منه وهو يجهل السعر، إذاً: سواء تلقاه خارج السوق، أو تلقاه خارج المدينة، فالعلة موجودة. وهنا تتشعب المباحث: فلو أنه خرج وتلقى الراكب، واشترى منه، ثم جاء صاحب السلعة إلى السوق، ووجد أن الذي تلقاه قد غبنه، وأخفى عليه سعر السوق، فله الفسخ، وهو بالخيار، وإذا كان له الخيار فهنا مبحث للفقهاء، وهو: هل العقد الذي انعقد هناك أثناء التلقي سارٍ أو غير سارٍ؟ الجمهور يقولون: هو عقد سارٍ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه -أي: صاحب السلعة- الخيار، والخيار لا يكون إلا عن عقد ثابت، ولو لم يكن ثابتاً لقال: العقد فاسد. وهل النهي عن تلقي الركبان شامل لكل صغير وكبير، ولكل زمان؟ بعض العلماء -وخاصة علماء الحديث- قالوا: في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل زمن: خصب، أو جدب، وسواء كان الجالب عالماً بأحوال السوق، أو ليس بعالم، وأخذوا الحديث على عمومه، والآخرون نظروا إلى العلة في النهي، والعلة في النهي هي: غبن البدوي فيما جلب من سلعة، فقالوا: إن كان قد جاء بسلعته، يريد أن بيعها في يومه، وهو لا يعلم الأسعار، ففي مثل هذا يكون النهي، وهذا بخلاف المتردد على السوق الذي يعرف الأسعار، والأسعار من يوم إلى يوم لا تختلف كثيراً، فإذا كان خبيراً بأمر السوق، فلا محظور في ذلك، إن كان قد نوى بيعها في يومه. إذاً: الشرط الأول في تحقق النهي: أن يكون الجالب لا يعرف أسعار السوق، الثاني: أن يكون الجالب جلبها ليبيعها في يومها. ويقول بعض العلماء أيضاً: أن تكون بالناس حاجة إلى تلك السلعة. والبعض الآخر يقول: سواء كانت هناك حاجة للسلعة، أو لم تكن، والذي يهمنا هو الجالب، فإذا كان الجالب جلبها ليبيعها في يومه، وكان لا يعلم الأسعار، فتلقاه إنسان واشتراها منه، ثم جاء إلى السوق فوجد أنه قد غبن، فله الحق في فسخ البيع؛ لأن المشتري قد غبنه وخدعه. وكون الناس في حاجة إليها، أو ليسوا في حاجة إليها، هذا يشترطه البعض، وينفيه البعض الآخر، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: أو إذا تلقاه وباع له وهو لا يعلم فلا مانع؛ لأنه نصح، لكن إذا كان سيشتري منه فأين النصح؟ النصح يأتي عند (لا يبع حاضر لباد) ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله. وهناك من يقول: يجب أن نراعي أصحاب السوق؛ لأنه إذا تلقى الركبان، وأخذ السلعة من هناك، والناس في السوق ينتظرون مجيء الجلب، وهذا قد سبقهم إلى الجلب وحاز السلعة، ففيه مضرة على المستهلك، وعلى أهل السوق، وقد جاء في الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) . إذاً: مبدئياً نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان. ونظير هذا أيضاً: لو أن شخصاً ذهب وحمل سيارة كبيرة -كهذه التي يسمونها (سكس) - بالأسمنت والشعير، وبالسلع التي يحتاجها أهل البلد، وهو لا يعلم أسعار المدينة، فذهب إنسان إلى (الفريش) وتلقاه، وتبايع معه على حمولة السيارة وغبنه، فباعه، ثم جاء إلى السوق فوجد نفسه قد غبن، لا سيما -كما يذكر الفقهاء- إذا قام المتلقي بالخداع، كأن يقول له: المدينة مليئة بهذه السلع، والناس غير محتاجين إلى هذا، لكن سآخذ منك هذه السلع وأجعلها عندي، ومن ثم أصرفها على مهل، أما أنت فإن جئت إلى السوق فستجد عشرات السيارات كسيارتك، وستجد المستودعات مليئة، ولكن أنا أستطيع تدبيرها، مع أن المدينة ليس فيها ولا سيارة واحدة، ولا شيء من هذه السلع، فيكون قد غره وغشه، وحمسه إلى البيع مخافة ألا يجد من يشتري؛ لأن السوق يقوم على العرض والطلب، فإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً نزلت السلعة، وإذا كان العكس ارتفعت السلعة. فقالوا: إذا كان قد خدع المتلقي الجالب، وهوّن عليه أمر سلعته، وهوّن عليه أسعار السوق، سواء كان بادياً أو حاضراً، فكل ذلك داخل في هذا النهي؛ لأن الغرض وراء ذلك كله هو أكل أموال الناس بالباطل.

النهي عن بيع الحاضر للباد: صورته وحكمه

النهي عن بيع الحاضر للباد: صورته وحكمه قال: (لا يبع حاضر لباد) . ومن النهي هنا أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم ألا يبيع حاضر لباد، وانظر إلى هذا التناسق بين هذه النواهي! ولنفرض أن الركبان لم يتلقها أحد، ووصلت إلى السوق، فإذا وصلت إلى السوق دون أن تصطدم بمتلق يخدعها، وبدأ البيع، فلا يجوز أن يأتي حاضر ويتولى عملية البيع للبادي. وقد سأل السائل ابن عباس: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ فقال: لا يكون له سمساراً. والسمسرة: معروفة من قديم، فهنا الجالب إذا وصل السوق فليترك بسلعته مع الناس، فإن الجالب سيبيع بما يراه يحفظ حقه، والغالب أن البدوي يجلب سلعاً لم يدفع فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فرأس مالها عليه جهده في الحلب، والتصنيع وما إلى ذلك، أما الذي يشتريها ويأتي بها إلى السوق، أو يشتريها بالجملة ويبيعها بالتجزئة، فإنه يعمل حساب رأس المال الذي دفعه، والغالب أن الجالب من البادية يتساهل في سلعته، فإنه لم يخسر فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فيكون في هذا رخاء وتوسيع على الناس. أما إذا جاء أحد أهل السوق ليبيع السلعة لهذا البدوي، فإنه سيستخدم خبرته ومعرفته بالسوق ليخدم بها الجالب، فهو يعلم أسعار السوق، ويعلم هل السلعة متوفرة أم غير متوفرة، فيغالي في الثمن ويزيد في السعر، فيتضرر أهل البلد، لا سيما المساكين والأرامل والأيتام والفقراء والضعفاء، فتقطع عليهم الطريق، ولا ينتفعون من جلب البادية، ولذا جاء في بعض الروايات: (دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ، فهذا اشترى قربة سمن، فإن كان لبيته -وجاءت رخيصة- فهو رزق من الله، وإن كان سيبيعها ويكسب فهذا رزق من الله. فقوله: (لا يبع حاضر لباد) قالوا: هي على المبدأ الأول في تلقي الركبان، بشرط أن يكون البادي لا يعرف أسعار السوق. وهل النهي عام، أم أنه خاص فيما إذا كان الناس بحاجة إليها؟ الظاهر أن النهي على العموم. وعلى هذا: نجد في الصورتين الإضرار بالمستهلك، فتلقي الركبان يكون فيه قطع الطريق على المستهلك، وبيع الحاضر للباد فيه رفع السلعة على المستهلك، وهذا فيه مضرة. يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا باع الحاضر للبادي من باب النصح فلا مانع، فلو أن الحاضر رأى حاضراً آخر يشتري من بدوي لا يعرف شيئاً عن قيمة سلعته، كأن يكون لديه قربة سمن تساوي ألف ريال، فقال له الحضري: أشتريها بمائتي، وكاد أن يبيع، فتدخل حضري آخر فقال للبدوي: اصبر، لا يخدعك، واذهب وانظر السوق، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: للحاضر أن ينصح إذا رأى غبناً فاحشاً. لكن إذا كانت السلعة بألف، وجاء حاضر وساوم البادي إلى ثمانمائة، أو ثمانمائة وخمسين، والثمانمائة والخمسون ليست غبناً فاحشاً، فإنه يتركه لعموم النهي (ولا يبع حاضر لباد) . ولكن إذا كان البادي يعرف السوق ويتردد عليه، وجاء بسلعته إلى المدينة، ولا يريد أن يبيعها؛ لأنه وجد السلع كثيرة، وقد أتى بالسمن وكان يظن أنه لم يجلب إلا هو، فأتى إلى السوق وإذا به مليء بالسمن، فجاء إلى أحد أهل الحاضرة، وقال: يا فلان! اترك هذه السلعة عندك، وأنت وكيل عني، فبعها إذا تحسن السوق. ماذا يكون في هذا؟ هو عرف السعر، ثم إنه أودعها عند حضري، ثم وكل الحضري ليبيعها عند تحسن السوق، إذاً: الجالب لن يبيع اليوم؛ لأنه رأى السعر منخفضاً، والسلع كثيرة، فوكل الحضري، وعلى هذا فلا شيء في ذلك. وقوله: قلت لـ ابن عباس: ما قوله: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ قال: لا يكون له سمساراً. متفق عليه. السمسار: هو الذي يسعى كالدلال، ولكن السمسار يسعى بين البائع والمشتري في شيء موجود حاضر، ويحاول أن يوفق بين الطرفين إلى أن يصلا إلى عقد البيع، والدلال إنما يدل على السلعة لمن لا يعرفها.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [9]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [9] لقد حرص الإسلام على إرساء المحبة والألفة بين المسلمين، وسد كل باب يفضي إلى النزاع والفرقة، ولذلك نهى عن بيوع ومعاملات تفضي إلى الفرقة والنزاع، وتفسد المحبة والألفة بين المسلمين، ومن تلك المعاملات: بيع الرجل على بيع أخيه، أو أن يخطب على خطبة أخيه، أو أن تسأل المرأة طلاق أختها لتتزوج زوجها، ونهى عن سوم الرجل على سوم أخيه، ونهى عن أن يُفرق بين المرأة وولدها، أو بين الأخوين ببيع أو نحوه، ونهى عن الاحتكار، فلا يحتكر إلا خاطئ. وإذا غلت الأسعار، فيجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله، فإن الله هو المسعر، وما نزل الغلاء إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وبالعودة إلى الله يرتفع الغلاء، ويجوز لولي الأمر أن يُسعر إذا دعت الحاجة، لاسيما في الأشياء التي لا تعرف تكلفتها عادة، وكذلك إذا ظهر المحتكرون.

شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد.

شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أبي هريرة - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضرٌ لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) متفق عليه، ولـ مسلم: (لا يَسمُ المسلم على سوم أخيه) ] . بيع الحاضر للباد تقدم، وبيع النجش تقدم، والنجش: هو الزيادة في السلعة بدون قصد الشراء، ويترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المشتري سيزيد على زيادة السائم الأول، ثقة منه بأنه راغب، وأن السلعة تستحق ذلك. ويضيف العلماء إلى صور النجش: ما يفعله بعض الناس حينما يأتي بالسلعة إلى السوق فيقال له: بكم هذه؟ فيقول: قد أعطوني فيها خمسين، مع أنه لم يعطه أحد شيئاً، ولكنه هو الذي كذب ووضع هذا السعر، فكأنه زاد لنفسه من نفسه تعريراً بالمشتري، فإن صدّقه المشتري واشترى على قوله، ثم تبين له الغبن، فهو بالخيار.

بيع الرجل على بيع أخيه: صوره وحكمه

بيع الرجل على بيع أخيه: صوره وحكمه قوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) . بيع الرجل على بيع أخيه والسوم على سومه كلاهما من هذا القبيل، وصورة بيع الرجل على بيع أخيه: أن يأتي إنسان ويشتري سلعة من شخص، ويشترط لنفسه الخيار لمدة يومين ليستشير، فيأخذ السلعة في يده على ذمة الخيار لمدة يومين، والمشتري والبائع كلاهما له الخيار في الإمضاء والفسخ -إلا إذا اشتُرط الخيار لواحد منهما فقط، فإذا اشترى المشتري واشترط الخيار لنفسه فقط، فليس للبائع حق الفسخ- وفي مدة الخيار علم جار البائع بما حدث، فذهب إلى المشتري وقال له: ما دام أنك في مدة الخيار، فارددها إلى صاحبها وسأبيعك نفس السلعة بسعر أقل، فيكون هنا قد باع على بيع أخيه. وصورة الشراء على شراء أخيه كما لو اشترى المشتري السلعة بألف، وعلم بذلك شخص وهو في حاجة إلى السلعة، فذهب إلى البائع وقال له: بكم بعت يا فلان؟ فقال: بعتها بألف، فقال: يا أخي! لماذا لم تخبرني، لو كان عندي علم لأخذتها بألف ومائتين، فما دام أن لك الخيار، ولك حق الفسخ في يومين، فافسخ البيع، وسأشتريها بألف ومائتين، فيكون قد اشترى على شراء أخيه، وفي كلتا الصورتين إفساد بين الناس، وإفساد للسوق، وفي الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) . إذاً: هاتان الصورتان منهي عنهما؛ لما فيهما من إفساد بين الناس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خاطب الناس في هذا بقوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) ، ولم يقل على بيع الغير، ولكن قال: (على بيع أخيه) ، إذاً: من حق الأخوة ألا تتعدى على أخيك، وهذا من البلاغة النبوية، فقد كان يمكن أن يقول: لا يبيع أحدكم على بيع غيره، ولا يشتري على شراء غيره، ولكنه قال: (أخيه) ، فكأنه يذكره بحق الأخوة بينهما، فما دمت اعتبرته أخاً لك فأحب له ما تحب لنفسك. وهكذا فالتشريع في المعاملات قد يلمس العاطفة، وقد ينبه الضمير، ويوجه الإنسان بإنسانيته، فيشعره بأن هذا أخوه، ولا ينبغي أن يفسد عليه بيعه، وأن هذا أخوه، فلا ينبغي أن يفسد عليه شراءه، فيكون أنانياً يحب لنفسه ما لا يحب لغيره.

النهي عن الخطبة على خطبة الغير

النهي عن الخطبة على خطبة الغير قال: (ولا يخطب على خطبة أخيه) . الخُطبة: هي الخطبة على المنابر، وفي النوادي، وفي الحفلات، والخِطبة: هي خطبة الرجل للمرأة، فإذا خطب إنسان امرأة أو فتاة، فلا يخلو الحال من أحد أمرين: إما أنه مجرد استفهام، وقد يكونون قبلوا خطبته أو لم يقبلوا، وإما أن يكونوا قد قبلوا ولم يبق إلا المفاهمة في الحواشي والتنفيذ، فإن كانت الخطبة مجرد حديث، ولم يستجب أهل المرأة إليهم، وفهم من حالهم أنهم رفضوا، وقد يكون الرفض بلطف، فيعتذروا بقولهم: هي تريد أن تتعلم إلى أن تكمل تعليمها، مع أنها في الحقيقة راسبة، ومهيأة للزواج، ولكنهم ردوه بلطف، وهذا من الآداب الاجتماعية، فعلم أنهم غير راغبين، فهنا لا مانع من أن يتقدم شخص آخر بالخطبة، أما إذا كانوا في مرحلة المفاهمة، ولم يظهر من أهل المرأة رفض ولا قبول، فليبق وليكف، فإذا ظهر من أهل المرأة القبول حرم التقدم، وإذا ظهر منهم النفي فلا مانع من التقدم. وإذا علم بأن أهل المرأة قد قبللوا الخاطب، ولكنهم ما زالوا في بحث موضوع الجهاز، كالفراش وصفته، والتعنتات التي أرهقت الناس، وهذا كثير، وهذا قليل. إلخ، فالمبدأ الأساسي هو القبول بهذا الخاطب، ولكن ما زالوا في بحث الحواشي، والتعليقات، والهوامش، فإذا تقدم إنسان آخر ورأى أهل العروس فرقاً بعيداً بينه وبين الأول، فالأول إنسان مسكين يعمل بأجر يومي، ويسكن في بيت شعبي، وجاء هذا وعنده عمارة، وسيارة، ومال كثير، فقالوا: والله لا نضيع بنتنا عند هذا، ولا نفوّت هذا، فهذا أحسن لنا، وسيرفضون الأول الذي رضوا به ابتداءً لعدم ظهور هذا، فيأتي هذا دون مبال بشعور أخيه، ودون مبال بحاجته، ودون مبال بكرامته، وعلاقته وأخوته، فكأنه أهدر حق أخيه بالكلية، فقبلوه وزوجوه. والجمهور: على أنه إذا رفع ذلك إلى الحاكم فإنه يبطل العقد الثاني، ويمنع زواج الثاني منها؛ لأنه بُني على باطل، وهو خطبته على خطبة أخيه. والجمهور -ما عدا مالك - يقولون: يفسخ العقد ولو دخل بها، ومالك يقول: إذا فات الأمر ودخل بها فلا يُفسخ؛ لأنه بالدخول بها دخلت حقوق أخرى جانبية، فقد تكون حاملاً، وإذا قلنا بالفسخ فستشتت الولد، ويفرق بينه وبين أمه، وبينه وبين أبيه، وتكون هناك أشياء مترتبة على ذلك، كالعدة، والنفقة، وأشياء كثيرة، فلذلك لا يفسخ العقد، بل يستمر، ويلحق ذلك المتعدي الإثم. أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فيقولون: حتى لو دخل بها فإنه يفسخ العقد، وإن حملت فالولد لأبيه، ويلحق به؛ لأن الزواج كان بعقد -وإن كان الواجب عدم إيقاع هذا العقد- استوفى شروط صحة العقد، وبه استباح المرأة. إذاً: لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، وجاء في بعض الروايات: (حتى يدعوا أو يقبلوا) أي: حتى يتركوا، أو يتموا فيما بينهم. يقول بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23-24]-من باب تلطيف الموضوع على أن عنصر المرأة موجود- قالوا: نبي الله داود خطب على خطبة رجل آخر فزوجوه، وقال الآخرون: إن الخطبة على خطبة أخيه لم تكن ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا، والله أعلم بذلك.

سؤال المرأة طلاق أختها: صورته وحكمه

سؤال المرأة طلاق أختها: صورته وحكمه قال: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) . المقصود بأختها أي: أختها المسلمة، وليس أختها من النسب؛ لأن أهلها لو علموا بأنها طلبت طلاق أختها من النسب لتتزوج بزوج أختها؛ لرفضوا أن يزوجوه بها، ولقالوا: كيف نعطيه هذه وقد طلق أختها! إذاً: المراد بأختها أي: المسلمة. وصورة هذه المسألة: أن يأتي رجل متزوج ويخطب امرأة، فتقول: مرحباً، على العين والرأس، وأنعم، لكن طلق التي عندك وأنا أتزوجك، وقوله: (تكفأ) كأنه كناية عما يتحمله الرحم، وتتلقاه المرأة في المعيشة مع الزوج، وكل ذلك في إناء الحياة والعشرة الزوجية، (لتكفأ ما في إنائها) لتأتي هي بإنائها من جديد، فهذه أنانية فوق اللازم، وكذلك عنصر الأخوة، فلا تطلب المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها، من خير المعيشة: من النفقة، ومن حسن العشرة، ومن الإيواء، فتحرم الزوجة الأولى من هذا من أجل أن تأتي هي وتحل محلها، وهذا ينافي الأخوة، ولذلك خاطبها نهاها في هذا الحديث عن هذا الأمر. وهنا وقفة جانبية واستراحة خفيفة: بعض النسوة الآن يتقدم إليها المتزوج فتقول: أنا لا أريد أن تكون معي ضرة، لا تتزوج عليّ ولا تكن متزوجاً قبلي، وهذا الشرط من حيث هو لا بأس به؛ لأنها تريد المصلحة لنفسها، لكن أن تقول: طلق الزوجة الموجودة من قبل، فهذه هي المصيبة، ثم نقول للأخوات والبنات: ما هو الأُولى لك؟ أن تكوني تحت نصف رجل، أو أن تكوني خالية بالكلية؟ نصف رجل أولى؛ لأنه سيقسم بينك وبينها بالعدل، ومئونتك مكفية، وكرامتك حاصلة، ونفقتك مؤداة، وأصبحت في خيمة رجل، تستظلين بها بجانب وأختك في الجانب الآخر، أو خيمتك بجانب خيمتها، وإناؤك بجانب إنائها، وما يأتيها في إنائها يأتيك مثله في إنائك، وبذلك تكونان أخوات. إذاً: الغلط كل الغلط فيما يحصل الآن من بعض النساء، من أن المرأة -وخاصة الفتيات- لا تقبل أن تتزوج من متزوج إلا العاطلات النوادر، وقد سمعت من شخص ثقة حينما خطب فتاة -وهو متزوج وله أولاد بالغين- فبادرت الفتاة بقبوله، فقيل لها: ماذا تريدين من هذا الرجل وله أولاد بالغون، مع أن الشباب يتمنون ويتقدمون لخطبتك وترديهم من قبل؟! فقالت: نعم؛ لأن الشاب طائش، وهو طوال الليل في الخارج، ولا يأتي إلى وهو متعب، فينام، ثم يصبح نائماً وكذا وكذا، وليس فيه خير، أما هذا فرجل عاقل، وله بيت، وهو مجرب، ويعرف حق الزوجة، ويقوم بواجبه، وطيلة ليله يكون عندي، ولا أشتغل عنه، ولا أغير عليه فمثل هذا أولى من ألف واحد من الشباب الذين تتطلعون إليهم، فنحن ننصح الفتيات قبل النسوة العوانس بأن الزواج من متزوج خير، أما إذا كانت تزوجت من شاب لم يتزوج، ولكن على شرط أن يكون لها وحدها، فإن التي لم ترض بضرة، فقد يكون لزوجها عشرات الضرائر صداقة، من خلال السهرات -عياذاً بالله- والذهاب والعودة، وينشغل بهن عن زوجته، فماذا تنال منه؟! إذاً: سؤال المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها هذا خطأ كبير، ولا ينبغي لأي امرأة أن تفكر في هذا، وبالله تعالى التوفيق.

السوم: معناه وحكمه

السوم: معناه وحكمه قال: (ولا يسم على سوم أخيه) . البيع إما مساومة أو مزايدة، فبيع المساومة: أن تكون السلعة في يد صاحبها، فيقول المشتري: بكم هذه؟ فيقول: بعشرة، بخمسة، بثلاثة، باثنين، فالذي تتبايع معه وحدك هذا سوم، فإذا تشاغلتما في السوم، وقال لك: أفكر، ولم يبع، فجاء الثاني وسام بأكثر -في غياب الآخر- فهذا لا يجوز؛ لأن البائع يبتّ في الرفض. والبيع الثاني: المزايدة، كأن يقال: هذه بخمسة، من يزيد؟ بخمسة ونصف، من يزيد؟ وهكذا، فحيثما رسا المزاد بيعت، فالبيع بالمزايدة ليس فيه النهي عن السوم على سوم الغير؛ لأن الباب مفتوح، وكذلك إذا كان المبيع وقفاً، أو غنيمة، أو تركة لميت له ورثة، فيجوز فيه السوم؛ لأن السلعة مملوكة لأشخاص، فينبغي على البائع فيها أن يتحرى السعر الأفضل إلى آخر لحظة، فالتركة فيها قُصّار وفيها نساء، والوقف وقف لحق الله تعالى، والغنيمة لم تقسم، أو إذا سيم على السهم، وبائع الغنائم يريد أن يُقسم القيمة على الغانمين، فلهم حقوق، فينبغي أن يتحرى، ولا يتم التحري إلا بالسماح بالسوم على سوم أخيه، أما إذا كانت في الحراج، فوقعت المزايدة، فلا حرج في ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه باع بالمزايدة في هذا المسجد الشريف، كما في قصة الشاب الذي جاء وطلب الصدقة، فقال له: (أراك قوياً جلداً، قال: ليس عندنا شيء، قال: ما عندك؟ قال: حلس وقعب، قال: عليّ بهما، فلما جاء بهما، قال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم، قال: من يزيد؟ فقال رجل: بدرهمين) فهذا سام على سوم أخيه؛ لأنها مزايدة. وهكذا النهى عن السوم على سوم أخيه مثل النهي عن البيع على بيع أخيه، إلا إذا كان البيع مزايدة فلا مانع أن يسوم وأن يزيد، إلى أن تصل السلعة إلى نهايتها، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها.

شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم، ولكن في إسناده مقال، وله شاهد] .

عظمة هذا الدين ورحمته بالخلق

عظمة هذا الدين ورحمته بالخلق يذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي أيوب هذا في كتاب البيوع، باب شروطه وما نهي عنه، فيقول لنا أبو أيوب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، والحديث فيه النهي عن أن يُفرِّق السيد بين الأمة وبين ولدها في البيع، فما علاقة الأحبة، وعلاقة يوم القيامة؟! وكان يمكن أن يقال: لا تُفرِّقوا بين الأم وولدها، أو لا ينبغي التفريق، ولكن مصداقاً لقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، ولأن دين الإسلام هو دين الرحمة، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فهذه أم معها ولدها، وكم يصعب على الأم أن تفارق ولدها؟! ونعلم ما حصل في قصة أصحاب الأخدود، وفي قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة وهي تحمل طفلتين فأعطتها عائشة تمرة، فشقتها نصفين، وأعطت كل طفلة نصفاً واجتزأت هي بالنواة تمصها، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) ، وتلك المرأة في قصة أصحاب الأخدود، فحينما ظنت المرأة بولدها فأنطقه الله وقال لها: (يا أماه! قعي في النار ولا تتقاعسي) ، وعندما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عطف تلك الأم على ابنتيها قال: (أترون أن هذه الأم تلقي بولديها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) . ثم نأتي إلى عوامل جانبية أخرى، فإن الرحمة في الإسلام لم تقف عند الإنسان، فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته، فالإسلام دين الرحمة، ودين العاطفة، ودين إيقاظ الضمير. ثم ننتقل خطوة بعيدة، وطويلة جداً، ونقرع الطبل في آذان أولئك الآباء والأمهات الذين يقع بينهم النزاع والشقاق لأمور شخصية بينهما، وتقع المصيبة على الأولاد، وينتزع الأولاد من الأم قهراً، لا لشيء إلا لمضارتها، فنقول: (من فرّق بين الأم وولدها) ، وإن كان ذلك في المبيع فكذلك في الحضانة، وللقاضي أن ينظر في مصلحة الطفل أهي عند أمه، أم هي عند أبيه، أم عند شخص ثالث؟ لأن مصلحة الطفل مقدمة، أما الأبوان فقد تفرقا وسار كل في طريقه، وهذا لا يزال ناشئاً، فأي مكان يكون أصلح له فيضعه القاضي فيه. والمجال في هذا الموضوع واسع، ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -مع كثرة مسائل التشريع، ومسئوليات الأمة، والتبليغ في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب- لم يُهمل هذا الجانب الإنساني، بل قال: (من فرّق بين الأم وولدها) مع أن كليهما مملوك، وقد يكون باقياً على شركه وعلى كفره، فالناحية الإنسانية والرحمة ليست قاصرة على كافر ومسلم، بل شملت -كما أشرنا- الحيوان، وهكذا يرطب النبي صلى الله عليه وسلم القلوب ويبللها بالشفقة والرحمة. وهنا يأتي الفقهاء ويفرعون ويقعدون، ويأتون بمسائل، منها: متى يكون ذلك؟ قالوا: إذا كان الطفل دون البلوغ، أما إذا بلغ فأصبح رجلاً فيذهب حيث شاء، فقد يتركها ويذهب عنها، أما دون البلوغ فعاطفة الأمومة أشد إليه منها حينما يكبر، فغداً يكبر ويتزوج امرأة ولا يدري عن أمه شيئاً، أما دون البلوغ فالعاطفة مرتبطة به أكثر، وهنا سواءً كانت الأم مسلمة أو مشركة وهي أمة مملوكة، وكذلك الولد، علماً بأن الولد يُلحق بأفضل دين الأبوين، فلو أن نصرانياً تزوج مشركة، حكم للولد بدين النصارى؛ لأنه خير من الوثنية، ولو أن مسلماً تزوج كتابية، حكم للولد بدين الإسلام؛ لأنه أفضل من دين النصرانية.

ما يلحق بالنهي عن التفريق بين الأم وولدها

ما يلحق بالنهي عن التفريق بين الأم وولدها إذاً: مما نهي عنه في المبيع أن تفرق بين الأم وولدها، وهنا يأتي السؤال: وما حكم التفريق بين الولد وأبيه، والأخ وأخيه، والقرابة ذوي الرحم؟ لما كان حديث أبي أيوب بين الأصل والفرع، ويلحق الأب بالأم، أعقبه بحديث علي (أمرني أن أبيع غلامين أخوين ... ) . إذاً: حديث أبي أيوب مع حديث علي رضي الله تعالى عنهم جميعاً يكملان لنا حلقة كل قرابة في الدرجة الأولى، الولد مع الأبوين، والأخ مع أخيه، والأخت مع أخيها، فهذه الدائرة لا يجوز أن يفرق بينها، إلى متى؟ قالوا: إلى حد البلوغ، وإذا ترك فيما بعد ذلك فهو أولى. يقول أبو أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرّق بين الأم وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ففي الدنيا لو فُرّق بين الإنسان ومن يحب أسبوعاً لقلق عليه، وانزعج وتألم وتضجر، فكيف إذا فارقه سنة أو سنتين؟! لربما طار قلبه عليه، فكيف بما لا نهاية له يوم القيامة؟! ونعلم بأن الله سبحانه يجعل قرة أعين الصالحين من عباده أن يلحق بهم من تقر أعينهم بهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، فقد تكون الذرية ما وصلت إلى درجة الأبوين، ولكن الله -فضلاً منه ورحمة- يرفع درجة الأولاد ليلحقوا بدرجة الآباء إكراماً للأبوين (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وليس على حساب الوالدين، بل فضلاً من الله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] لم نأخذ من حساب الأبوين، ورفعنا به الأولاد حتى يتساووا، بل الأبوان على ما هما عليه من الدرجة، والأولاد والذرية كانوا بعيدين عنهم، فتفضل الله على الذرية البعيدة فألحقها بالأبوين، فضلاً من عنده؛ لتقر أعينهم بهم، فكيف إذا كان يوم القيامة ويُفرق بينه وبين أولاده؟! الله يجمع بينهم لتقر أعينهم، وهذا يعمل على أن يُفرّق بينهم. وإذا قدر أن البيع انعقد فهل يتم البيع أو يفسخ؟ يفسخ، على ما جاء في حديث علي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) ، وسنأتي إليه إن شاء الله.

شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين.

شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما، ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعاً) رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، وابن القطان] .

النهي عن التفريق بين ذوي الأرحام في البيع

النهي عن التفريق بين ذوي الأرحام في البيع قوله: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) يقولون: إن تدرج السن: من رضيع، إلى فطيم، إلى غلام، إلى شاب، فالرضيع معروف، والفطيم: هو من كان على وشك الفطامة، أو قد فُطِم، والشاب: ما بين أوائل التمييز إلى البلوغ، وبعضهم يقول: الغلام لغة: يطلق على الرجل الوافي، كما قيل في الحجاج بن يوسف: إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فهو رجل مقاتل، والعادة أن الغلام والجارية يطلقان على من كان دون البلوغ، وقد يطلق على ما بعده، أما في عُرف اللغة فيطلق على من بلغ إلى سن الثلاثين، وهو الشاب فقوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: صغيرين، لا يوجد لهما أم ولا أب، ولكن الأخوة. وقوله: (فبعتهما وفرقت بينهما) فواحد ذهب إلى الشرق، وواحد ذهب إلى الغرب، وكل واحد مع الزبون الذي اشتراه. وقوله:: (فجئت فأخبرت رسول الله على ما وقع مني) لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع، والبيع مطلق، وليس فيه تفصيل للاجتماع أو الافتراق، فلما وقع ما وقع من علي بالتفريق بينهما، وهو زائد عن ماهية البيع، بل الذي يفهم من قوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: بيعة واحدة، فالمتبادر إلى الذهن أن هذه الصيغة تدل على أن يبيعهما بيعة واحدة، أي: دون تفريق، ولكن اللفظ عام، فـ علي رضي الله تعالى عنه نظر إلى ماهية البيع دون قيد، فباع هذا هنا، وباع هذا هناك، فجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، وكأنه أوجس في نفسه أن الأمر ببيعهما لم يتناول التفريق. فقال صلى الله عليه وسلم: (أدركهما) وكلمة (أدركهما) ، وكأنه خاف الفوت، تقول: فلان أدرك الصلاة، أي: على آخر لحظة فلان أدرك الفائت، فلان أدرك من سبقه، وفلان أدرك السارق، وذلك إذا سرق شيئاً ثم فرَّ به فجريت وراءه، وأمسكت به، فلا تقل: لحقته، وقل: أدركته، لأن الدرك الظفر، و (أدركهما) صيغة تدل على التشديد، والحرص في اللحاق بهما.

إبطال البيع إذا فرق به بين أخوين

إبطال البيع إذا فُرَّق به بين أخوين ثم بيّن له صلى الله عليه وسلم فقال: (ولا تبعهما إلا جميعاً) لماذا؟ لأنهما أخوان، والتفريق بين الأخ وأخيه قطيعة للرحم، والله قد أمر بأن توصل، وكلمة الأخوين تشمل الأصناف الثلاثة: الشقيق، ولأب، ولأم، فمطلق الأخوة موجود، وإذا كان الرابط بينهما أبعد من الأخوة، كالرجل وابن أخيه، والرجل وعمه، أو الغلام وعمه، فهل يدخل في هذا أم لا؟ بعض العلماء وسع وقال: كل ذي رحم لا يفرق بينهما ما دام أنه دون البلوغ، وبعضهم قال: جاء النص في دائرة الدرجة الأولى: ولد مع أبيه، أخ مع أخيه، فهذه الدائرة تُسمى: بالقرابة من الدرجة الأولى، فهذا لا يُفرق بينهما، وإن وقع التفريق بينهما ببيع أو نحوه فإنه يُفسخ البيع ويُرد، ولا يباعان إلا جميعاً.

شرح حديث: (غلا السعر في المدينة)

شرح حديث: (غلا السعر في المدينة) قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: يا رسول الله! غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه، ابن حبان] .

سبب الغلاء وكيفية رفعه

سبب الغلاء وكيفية رفعه غلاء السعر يكون بقلة السلعة، أو كما يُقال: الطلب من العرض، فتكون هناك المزاحمة على السلع، فترتفع الأسعار، وارتفاع الأسعار إما أن يكون بقلة السلعة، أو بحرص بعض المواطنين على الجمع، وسيأتي التنويه إلى هذا المعنى، فيأتي أصحاب الأموال إلى الأسواق، ويجمعون السلع، أعطاهم الله المال، فأخذوه وخزنوه، وقلَّت السلع في السوق، فغلا السعر، سواءً أخذه لنفسه، أو أخذه محتكراً، لبيعه فيما بعد، بصرف النظر عن الحكم، فهذا هو موجب غلاء السعر. فقالوا: (يا رسول الله! غلا سعر فسعر لنا) ضع سعراً لا يتجاوزه التجار، وهذا ما يُقال له: التسعيرة، أو التسعير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو المسعر) وهل المراد أن الله سينزل أسعار السلع؟ ليس هذا هو المراد، ولكن الله تعالى هو الذي يرخص إذا أنزل البركة، وكثر الصنف، وكثرت الأسواق؛ رخصت السلع، وإذا منع المطر، ومنعت السلع وقلَّت؛ غلا السعر، فيكون المسعر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى وقوله: (القابض الباسط) القابض: يقبض الرزق عن عباده، فتقل السلع، فيغلو السعر، والباسط: يبسط الرزق لمن يشاء، فتتوفر السلعة، ولهذا يكون دائماً وأبداً الرجوع إلى الله (القابض، الباسط) . وقوله: (الرازق) . وهذا صريح بأن الله الرازق إذا أوسع الرزق للعباد رخصت الأسعار، وإذا ضيق عليهم غلت الأسعار، ولذلك فعلينا أن نفتش عن أسباب تضييق الرزق وأسباب منع القطر، وأسباب محق البركة؛ ليتجنبها الناس. إذاً: السعر بيد الله؛ لأنه القابض، الباسط، الرازق، فبالقبض يكون الغلاء، وبالبسط والرزق يكون الرخاء. ثم رجع إلى نفسه صلى الله عليه وسلم ليعلمنا بعض الآداب فقال: (إني لأرجو أن ألقى الله) . وكلنا سيلقى الله، ولكن ليس الرجاء على أن يلقى الله، فإن لقاء الله حتمي وبدون رجاء، ولكن على القيد الذي بعده: (أرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني ... ) أي: أرجو أن لا أكون متحملاً لأحد منكم في ذمتي حقاً، في دم، أو مال، وقوله: (أحدٌ) عام شامل، بخلاف الواحد للعدد، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيه مطلق الوحدانية لله سبحانه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد) يشمل كل فرد على وجه الأرض من بني آدم، (منكم) أي: وليس لأحد منكم يا أصحاب الطلب له في ذمتي مظلمة، وكأنه يشير إلى أن التسعير إذا لم يوفق المسعر إلى الصواب، فهو ظلم لصاحب السلعة إن كان التسعير أقل من قيمتها، وظلم للمستهلك إن كان التسعير أكثر مما تستحق، وبهذا لا يسلم المسعر من مظلمة، (وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة) في ذمتي أو عندي، في أي شيء؟ (في دم ولا مال) سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلم في الدم؟! بعوضة لا يظلم فيها، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة! وإذا كان سيد الخلق -وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يخشى أن يلقى الله بمظلمة في دم أو في مال فغيره من باب أولى. والكلام هنا هو في التسعير، والتسعير مال، ولكن لما كان الموقف موقف تحذير من الظلم في المال، جاء بالدم معه؛ لأنه أهم: (وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) أين محل المظلمة في المال؟ في التسعير؛ لأنه إما أن يكون زائداً عن القيمة فيكون ظلماً للمستهلك، أو ناقصاً عن القيمة فيكون ظلماً للمالك.

حكم التسعير للحاجة

حكم التسعير للحاجة ومع وجود هذا الحديث النبوي الكريم، الذي أعلن فيه صلى الله عليه وسلم براءته من الظلم في موضوع التسعير، فهل يجوز التسعير إن دعت الحاجة أم لا؟ ومتى يكون ذلك؟ ومن الذي يملك ذلك؟ هذا من جانب الفقه، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز التسعير، فالمسعر هو الله، وإذا وقع الغلاء فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه، وأصلحوا شأنكم؛ يبسط لكم الرزق، وجاء الناس إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم!) نحن نشتكي غلا السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟! قالوا: وكيف نرخصه وليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم، فكل واحد منهم ذبح عشر أو اثنتي عشرة شاة، وذاك ذبح بعيراً. إلخ، وكلهم ينتظر إتيان الناس ليبيع، فلم يأتهم أحد، فبالأمس كانوا يقولون: الأوقية -مثلاً- بريالين، واليوم يقولون: بريال ونصف، فإذا ذهب نصف النهار قالوا: بريال وربع، فإذا أذن العصر قالوا: بريال، وسيبيعون ولو بنصف ريال، وهو أحسن لهم من أن يعفن اللحم ويرمى، فقال: أرخصوه أنتم، وكيف نرخصه ولا نملكه؟ قال: اتركوه، وماذا لو تركتم اللحم يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً، وكلوا غيره، فإذا علِم الجزارون أنهم إذا رفعوا السعر تركه الناس، فلن يرفعوا السعر، وهكذا بقية السلع، لكن إذا كان هذا في اللحم، وقد يكون من الكماليات في الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل الخل والزيت والملح ويكتفي الإنسان بالذي يكون. لكن إذا كان الغلاء في أمر ضروري، كالدقيق، والملح، والدهن، وهذه الأشياء التي لا غنى عنها، فماذا يكون الحل؟ ينص الفقهاء على أنه إن حصل الغلاء بسبب جلب النوع من السوق إلى المستودع من قبل تاجر الجملة، ويسمى المحتكِر، فجمع السلعة من السوق وقال: الآن السلعة موجودة إبانها التمر وقت الجُذاذ الكل مليء إلى أن تمضي مدة، وكل واحد استهلك الذي عنده، ثم ذهب يبحث في السوق فلم يجد السلعة، وذلك التاجر ما زال يخزن السلعة، ولا يريد بيعها الآن، وينتظر حتى يرتفع السعر قليلاً، فهذا هو المحتكِر على ما سيأتي، ولا يحتكِر إلا مخطئ.

أقسام المحتكر

أقسام المحتكر قالوا: المحتكِر على قسمين: محتكر لا ينتظر ارتفاع السعر، ولكن ينتظر خفة الصنف من السوق، فيمُد الناس، يقول مالك في هذا: قد يكون محسناً؛ لأنه وفر السلعة، وأخرجها عند الحاجة بسعر يومها. ومحتكِر ينتظر ارتفاع السعر ليتحكم، فحينما اشتدت بالناس الحاجة أخذ يتحكم في السعر، فما كان سعره عشرة جعله بخمسين، وليس كل الناس يستطيع أن يضاعف الثمن خمس مرات، قالوا: في هذه الحالة لولي الأمر أن يتدخل بما يحقق (لا ضرر ولا ضرار) ، إذا أبعدنا نظرية التحكم، ومع عدم وجود هذا الصنف في السوق فكم يساوي؟! يساوي كذا، فيُلزم التاجر أن يبيع بذلك السعر، وكما يقول الفقهاء: يُقدر له ربح محتمل، ويأمره أن يبيع بالسعر الفلاني، قالوا: هذا لا بأس به؛ لأن فيه مصلحة المستهلك، وفيه رفع مظلمة المحتكِر. ويقول ابن تيمية -في هذه المسألة- وابن القيم في الطرق الحكمية: ونظير ذلك أرباب المهن الضرورية، التي يحتاج إليها الناس، ومثل بالسقائين، والخبازين، وفي الماضي كان السقَّائون يحملون الماء في آنية بين طرفي عود، ويأتون بالماء من العيون ونحوها إلى البيوت، فإذا أضرب هؤلاء فماذا تعمل العجوز في بيتها؟ وماذا يعمل الشيبة في بيته؟ وماذا تعمل المرأة المخبأة المخدرة في بيتها؟ سيضطرون إلى الخروج لجلب الماء، وهذا مناف لوضعهم الحقيقي، وليس كل إنسان يستطيع أن يحمل قربته، فيذهب ويأتي بالماء، وكذلك الخبازون إذا أضربوا فالبيوت ليست مهيأة للطحن والعجن والخبز، بناءً على أن الأفران تشتغل، والخبز ينزل إلى السوق، ويشتري الناس حاجتهم. يقول ابن تيمية رحمه الله وابن القيم: حينئذٍ يُلزِم ولي الأمر هؤلاء بالعودة إلى العمل إجباراً، ولا يسمح لهم بالإضراب، وتعطيل مصالح الناس؛ لأن الناس ارتبطت حياتهم بذلك، وكذلك نحن الآن نقول: لو أن عمال مصلحة المياه (السقاءون) أضربوا عن العمل وتوقف تسيير المياه إلى البيوت، أو الصيانة، فعلى ولي الأمر إجبارهم على العمل؛ لأنه بتوقفهم تتوقف مصالح الناس، وكذلك الكهرباء لو أن عمال الكهرباء أضربوا، لأن الأجرة قليلة، يُقال لهم: زاولوا عملكم واطلبوا الزيادة، ولا تضربوا فتعطلوا مصالح الناس.

لولي الأمر أن يسعر إذا دعت الحاجة

لولي الأمر أن يسعر إذا دعت الحاجة وهكذا بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يرجو أن يلقى الله وليس في ذمته مظلمة لأحد، فإذا وقعت الحاجة واضطر الناس، فهل يقول ولي الأمر: أرجو ألا ألقى الله وفي ذمتي مظلمة لأحد، أو يتدخل بما يرفع الضرر عن الطرفين (لا ضرر ولا ضرار) فيأتي بأرباب الخبرة لتقدير سعر شراء تلك السلعة، وكم يعطى للتاجر من أرباح عليها، فيقدر أرباب الخبرة الأسعار، ويلزم ولي الأمر التاجر بذلك السعر، فيكون حداً فاصلاً بين المالك والمستهلك. وكان في السابق إذا أردت أن تأخذ شيئاً من الدكان، فتجده -مثلاً- في هذا الدكان بخمسة، وفي الدكان المقابل بعشرة، فلا يوجد ضابط للسعر في السلعة، وهذا أكثر ما يكون في الصيدليات، فتتفاوت الأثمان بكثرة، والناس لا يعرفون قيمة الدواء، ولا بكم تكلفته، والمريض مضطر إلى أن يشتري، أما الأشياء المتداولة يومياً، من سكر، وشاي وصابون، ولوازم، فهذه أسعارها متداولة عند الناس، أما الأدوية فمجهولة، فلما وقع مثل هذا قام المسئولون ووضعوا على كل دواء سعره؛ لئلا يُخدع الجاهل بالأسعار، ولا يغتنم البائع جهل المشتري فيتحكم كيفما شاء. إذاً: هناك أشياء اتفق على تسعيرها للجهالة بحقيقتها عند عامة الناس، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)

شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ) قال المصنف رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم] .

الاحتكار: معناه، وحكمه

الاحتكار: معناه، وحكمه الاحتكار: هو جمع السلعة أياً كانت، سواء كانت من المطعومات، أو الملبوسات، أو أدوات منزلية، أو أي نوع من الأنواع، جمعه واحتكره لنفسه وسكت عليه، والخاطئ: اللغة فيها خاطئ ومخطئ، والمخطئ ضد العامد، وهو الذي يرتكب الشيء خطأً دون ما قصد إليه ولا عمد (رفع لأمتي الخطأ والنسيان) ، أما الخاطئ فهو الذي يتعمد الذنب (لا يحتكر إلا خاطئ) أي: مذنب آثم، بخلاف المخطئ الذي يقع في الفعل دون ما قصد منه. وقد أشرنا إلى أن الاحتكار قسمان: احتكار لنفسه، وهذا لا يسمى محتكراً، بل يسمى خازن خزن لنفسه، ويجوز للإنسان أن يخزن لنفسه ما يكفي بيته سنة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك من سهمه من خيبر ومن غيرها، فإذا جمع الإنسان لنفسه في بيته فلا شيء في ذلك؛ لأنه لا يريد غنيمة على حساب الآخرين، إذا لم يكن لنفسه وكان للسوق، فإما أن يقصد بهذا الاحتكار تواجد الصنف، وارتفاع السعر أمر طبيعي يتحكم فيه السوق، وحينما يقل الصنف قدمه دونما تحكم، فهذا أيضاً ليس بخاطئ، ولكن المحتكر الخاطئ الذي يتعمد جمع الصنف ويرى بالناس حاجة فلا يبرزه، إمعاناً في حاجتهم، وطلباً في زيادة السعر، فهذا هو الخاطئ، وهذا هو الذي من حق الحاكم أن يتدخل في أمره.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [10]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [10] لقد أقام الإسلام العدل بكل صوره، ونهى عن الظلم بكل صوره، ولذلك فقد نهى الشارع الحكيم عن بعض المعاملات والبيوع التي فيها ظلم وغش للمشتري، ومن ذلك: النهي عن تصرية الماشية وبيعها، ومن اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، وذلك حتى تعود الماشية إلى إنتاجها الطبيعي، فإن ردها رد معها صاعاً من طعام، وكذلك نهى الإسلام عن الغش بكل صوره، وأوجب النصح في البيع مع كل الناس مسلمهم وكافرهم، ونهى عن بيع العنب وغيره لمن يتخذه خمراً، فإن في ذلك مشاركة له في الإثم والعدوان المنهي عنه.

شرح حديث: (لا تصروا الإبل والغنم)

شرح حديث: (لا تصروا الإبل والغنم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر) متفق عليه. ولـ مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) . وفي رواية له علقها البخاري: (ورد معها صاعاً من طعام، لا سمراء) . قال البخاري: (والتمر أكثر) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعاً) رواه البخاري، وزاد الإسماعيلي: (من تمر) ] . هذا موضوع جديد، يدخل في النهي عن الغش والتدليس، وكل ما كان فيه غش أو تدليس ونحوه فإن هذا الحديث أصل في النهي عنه، مع ما سيأتي في قصة صاحب الصبرة: (من غش فليس مني) . والتدليس: هو أن تُري السلعة في ظاهرها أحسن منها في باطنها، وسبحان الله! فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم زاول كل عمل من أعمال الناس، فعرف ما فيه من حق وباطل. فقوله: (لا تُصَروا) أو (لا تُصِروا الإبل والغنم) لماذا لم يذكر البقر؟ لأن البقر كانت قليلة في الحجاز، وبما أنه جاء بأعلى شيء وبأدنى شيء فما بينهما يأخذ حكمهما.

معنى التصرية وحكمها

معنى التصرية وحكمها والتصرية: هي أن تضع شيئاً في خرقة كبيرة وتلفها وتربطها عليه، فهذه الخرقة تسمى صرة، وكذلك الكيس الذي تضع فيه شيئاً يسمى صرة، والماشية تصرى بأن يجمع حليبها في صرتها، والصرة عند الناقة والشاة هي الضرع، وجمع حليب الماشية في صرتها هو: التحفيل، ومنه المحفل والحافل، والحافلة، وهي السيارة الكبيرة التي يجتمع فيها العدد الكثير. والتصرية: هي جمع الحليب في الضرع عند إرادة بيع الماشية، والعادة أن الناقة -مثلاً- والشاة تحلبان مساءً وصباحاً، فإذا أراد صاحبها أن يبيعها من الغد تركها في الليل ولم يحلبها، وكذلك في الصباح أيضاً، فيذهب بها إلى السوق وهي صارة؛ لأنه حبس وجبتين في ضرعها، ولأي شيء يفعل ذلك؟ يفعل ذلك إيهاماً للمشتري بأنها تنتج اللبن بكثرة. والضرع إذا صُري يصير مشحطاً، وهذا فيه مضرة على الدابة، والدابة إذا صُريت احمرت عيناها، وانتفخت الأوردة التي تحت البطن المرتبطة بالضرع، وربما ماتت لذلك، فإذا كانت التصرية لوقت قليل فإنها تسلم، وإذا كانت لوقت طويل فإنها تضرها، وقد يتفلت الحليب ويتقاطر ولا تقوى الحلمات على حبسه. وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تصرى الإبل والغنم لئلا يحدث الغش، فقد يأتي إنسان ويرى الحليب كثيراً، فيظن أنها قوية الإنتاج، وليست كذلك، ولكن التصرية هي التي جعلتها كذلك، فيكون قد غر المشتري، ودلس عليه، وأوهمه أن هذه طبيعتها، ولكن الناس قد تعلموا، وعرفوا المصراة من غير المصراة، وأصبحت -كما يقال- لعبة معروفة، وما بقي إلا تعذيب الحيوان، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية بصفة عامة؛ لئلا يعذب الحيوان بذلك، فإذا بيعت بالتصرية فيكون تدليساً.

الخيار في المصراة إلى ثلاثة أيام والعلة من ذلك

الخيار في المصراة إلى ثلاثة أيام والعلة من ذلك وماذا يفعل الإنسان إذا خدع واشترى ماشية مصراة؟ هو بالخيار لمدة ثلاثة أيام، ولماذا ثلاثة أيام؟ لأن الماشية مصراة، فإذا حبلها أول مرة فسيحلب الحليب المتجمع منذ يومين، ولأن العادة أن التي صريت وحلبت وأخذ كل ما فيها، لا تأتي بكمية الحليب المعتاد يومياً من اليوم الثاني مباشرة؛ لأن خزن الحليب في الضرع أثّر على غدد الحليب، فيكون هناك رد فعل، فإذا كانت في الأيام العادية تنتج ثلاثة كيلو من الحليب، ولما صريت أنتجت ثمانية كيلو، فمن الغد لا تنتج إلا اثنين كيلو، ولا ترجع إلى طبيعتها -لأنها واقعة تحت تأثير التصرية- إلا في اليوم الثالث. ومن هنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام، فاليوم الأول: لوجود التصرية، والتدليس، واليوم الثاني: لا نعوّل عليه؛ لأنها متأثرة برد الفعل، واليوم الثالث ترجع فيه إلى طبيعتها وعادتها، وتأتي بالحليب المعتاد إنتاجه يومياً. فإن رضيها في اليوم الثالث فالحمد لله، ويمضي البيع الأول؛ لأنه قد علم أنها مصراة، وعلم إنتاجها الطبيعي وكميته، فقبل ذلك، فلا شيء في ذلك. ولكن إذا حلبها وجربها في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث فلم يعجبه إنتاجها، فهو بالخيار إن شاء أمسكها على ما وجدها عليه، وإن شاء ردها إلى صاحبها، ورد معها صاعاً من تمر، أو صاعاً من طعام.

خلاف الفقهاء في موجب الصاع المردود مع المصراة

خلاف الفقهاء في موجب الصاع المردود مع المصراة واختلف الفقهاء في هذا الصاع، لماذا يُعطى، ومقابل ماذا؟ فقيل: مقابل الحليب الذي أخذه، ولكن كم أخذ من الحليب؟ فإن الصاع معلوم، وكمية الحليب مجهولة، فدخل القياس ودخل التقدير، وخاض الناس في أشياء كثيرة، وقيل: إذا كان الصاع قيمة للحليب، فهذا طعام بطعام، فكيف نبيع معجلاً بمؤجل؟ وكيف نقدره؟ فالصاع معلوم، والحليب غير معلوم. وإذا قيل: هذا من باب المجاملة، وكيف تكون مجاملة وقد أخذ الحليب، ورد الماشية على صاحبها؟ ومن هنا قال بعض العلماء: إما أن يقبلها، وإما أن يردها من غير صاع؛ لأن ردها مع الصاع مخالف لقواعد البيع. ولكن نقول: هذه صورة مستقلة من صور البيوع، ولها حكم مستقل، فإذا رددنا النصوص من أجل مغايرة صورة من الصور -هي بذاتها مستقلة- فسنبطل أشياء كثيرة، ولهذا فإن الذين منعوا الصاع في هذه منعوا القسامة في الدم، وقالوا: أساس القضاء أن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهؤلاء ادّعوا الدم، وحلفوا قبل المدعى عليهم، فكيف يدّعي ويحلف؟! فعليهم البينة، لا أنهم يدّعون ويحلفون. وقد قيل لهم: هذا تشريع مستقل، وقيل أيضاً: إنه يتمشى مع قوانين القضاء السليمة؛ لأن اليمين جعلت في الجانب الأقوى، والبينة فيمن كان موقفه ضعيفاً، فإذا جئنا إلى المدعي والمدّعى عليه -في ألف ريال مثلاً- فادعيت عليه بألف ريال، فما هو الأصل بينكما؟ الأصل هو عدم وجود الألف، إذاً: المدّعى عليه معه البراءة الأصلية، وأنت ادعيت عليه بخلاف ذلك، فموقفه أقوى؛ لأن معه البراءة الأصلية، وموقفك أضعف؛ لأنك تريد أن تنقله من براءته إلى اتهامه، فعليك بالبينة. وإذا جئنا إلى القسامة، فإن مدعي الدم جانبه أقوى؛ لأن القسامة لا تكون إلا مع اللوث والتهم القوية، فوجود التهمة في القتل؛ لوجود القتيل في محلة المدعى عليهم، ووجود العداوة السابقة، ووجود الوعيد، ونحو ذلك، فهناك قرائن اجتمعت بجانب المدعين، فيكون جانبهم أقوى، فيكون اليمين مع الأقوى، والذين ينفون عن أنفسهم القتل جانبهم ضعيف؛ لأن في بطنهم شيئاً، وكذلك هنا، يقال: هذه صورة بيع مستقلة، لا تقاس على غيرها، فإذا قستم كان قياساً فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنص الصحيح. وخلاصة موضوع المصراة: أنه إذا اشتراها الإنسان ومكثت عنده ثلاثة أيام، فإن رضيها على ما استقرت عليه فذاك، وإن ردها، وسخط حليبها، فيرد معها صاعاً من تمر ومن طعام، إلا السمراء، وهي البر الشامي، فالتمر يكون مما تيسر ومما وجد، وسواء كانت المردودة شاة، أو ناقة، أو بقرة، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من غش فليس مني)

شرح حديث: (من غش فليس مني) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحبَ الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غشَّ فليس مني) رواه مسلم] . هذه جولة في الأسواق منه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه إن كان في القتال كان في مقدمة الصفوف، وإن كان في الصدقة كان كالريح المرسلة، وإن كان في العبادات قام حتى تفطرت قدماه، وإن كان في الاجتماعيات فكذلك، فما ترك صغيرة ولا كبيرة صلوات الله وسلامه عليه إلا ودلنا على خيرها، وحذرنا من شرها، وكان أول من يعمل بذلك. فخرج إلى السوق ليرى أحوال الناس؛ لأنه مسئول عن ذلك، وقد اتخذها الخلفاء سنة، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يأتي إلى السوق ويختبر الباعة، فمن وجده جاهلاً بأحكام البيع، والربويات، والمكاييل، والموازين، أقامه من السوق وقال: (لا تفسد علينا سوقنا، ولا تحرمنا نزول القطر من السماء) .

بيع الطعام أكواما

بيع الطعام أكواماً وها هو صلوات الله وسلامه عليه يمر في السوق بصبرة، والصبرة: الكومة من الطعام، والحب تارة يوضع في الأكياس، وتارة يوضع في الجفف، وتارة يُصبّر أكواماً، وخاصة عند أيام الجرين، يكثر في السوق، ويكون أكواماً، فيأتي المشتري ويشتري بالصبرة، أو بالكيل، وأحكام هذا موجودة في البيوع، فيجوز شراء الصبرة على ما يراها بعينه، ما لم تكن الصبرة قد وضعت على أرض ناتئة، أو كانت تحتها صخرة كبيرة، أو كانت الأرض منخفضة. ويجوز بيع الصبرة وشراؤها إذا كانت على أرض مسطحة، وكانت القاعدة مستوية، لا مرتفعة فتأخذ حيزاً من الحب، ولا منخفضة فتأخذ حباً أكثر.

الوعيد الشديد لمن غش في بيعه وشرائه

الوعيد الشديد لمن غش في بيعه وشرائه فأدخل صلى الله عليه وسلم يده في الصبرة، فهي مفتوحة لكن يسوى لها قفة، فلما أدخل يده أصابت بللاً، وكان البلل من نفس الصبرة، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام) بعض الناس قد يرش الحنطة، أو الشعير، أو الذرة، فإذا تشربت الماء ثقلت وكبرت، وزهت، ولمعت، وفي هذا غش، فالرجل اعتذر، وقال: (أصابته السماء يا رسول الله!) أي: ماء السماء، وحذف ما يعلم جائز، فكأنه قال: أنا لم أغش، ولم أعمل شيئاً، ولكن الله أرسل الماء من السماء فنزل عليها، وهل هذا ينفعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانت أصابتها السماء، فكيف أصابت السماء الأدنى دون الأعلى؟! وقد يقال: جاءت الشمس والرياح على الأعلى وجففته، فالناظر يرى حباً يابساً جافاً ليس فيه رطوبة ولا ماء، فما دام أن السماء أصابته، وأنت لا ذنب لك في هذا الماء، فلماذا لم تجعل بلل الداخل ظاهراً حتى يراه الناس؟ ولماذا تركت الجانب الخارجي اليابس ظاهراً، فيراه الناس فيظنونه جيداً من الداخل؟! ولذلك قال له: (من غش فليس مني) (من غشنا فليس منا) . إذاً: التدليس والغش في السلعة فيه هذا الوعيد. والناس يكثرون الكلام في قوله: (ليس منا) ، وهل المراد: أنه خرج عن الإسلام وصار كافراً؟ أو ما معنى: (فليس منا) ؟ منا: تكون لجماعة الأتقياء، الأبرار، المتقين، المحسنين، الأمناء، وليس معنى ذلك: أنه يخرج عن مجموع جماعة المسلمين، ولكنه وعيد شديد، وبعض العلماء فيقول: مثل هذا النص لا يفسر، ولا يشرح، ويترك على إجماله؛ لأنه كالسوط المعلق، فمن رآه أرهبه، وهذا من أشد الوعيد فيما يتعلق بالغش.

وجوب النصح وحرمة الكتمان

وجوب النصح وحرمة الكتمان وهذا يعطينا أيضاً أن الشخص إذا وقع على سلعة فيها شيء وسكت عليه، فحكمه كفاعله. وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل ولماذا تسكت عليه وقد عرفت أن فيه غشاً؟! إذاً: الغش منك هنا أنك أخفيته، وسكت عنه، فلا ينبغي لإنسان أن يخفي عيباً، سواء كان العيب منه أو من غيره، فإذا ما أخفاه واطلع عليه المشتري -وكان له حظ من الثمن- فله الخيار إن شاء رد السلعة وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ أرش النقص بسبب العيب.

الغش في الأشياء الخفية أشد إثما

الغش في الأِشِياء الخفية أشد إثماً إن بلل الطعام مع الطعام واضح كالشمس، لكن هناك أشياء قد لا يدركها الإنسان، وكما يقولون: إن هناك سلعاً كاللؤلؤ الصناعي، فقد أصبح الآن يخفى على صانعه أنه صناعي أم أصلي؛ لدقة ما توصلوا إليه من المحاكاة، فإذا كانت هناك أنواع من الخرز، أو أنواع من الأقمشة، أن أنواع من الزيوت، أو أنواع من الدهون، أو أنواع من الحبوب، ونحوها ويخفى على الشخص العادي أن يفرق بينها، كالدهون فإنه يشاكل بعضها بعضاً، والعسل قد يدخل فيه بعض العناصر الأخرى، وما كل الناس يفرق بينها، والزيوت كذلك. إذاً: هذا الحديث في أمر لا يحتاج إلى دراسة ولا إلى فراسة، ولا إلى معرفة كبيرة حب يابس، وحب مبلل، لا يخفى على أحد، أما الأشياء الخفية فإن الجرم فيها أكثر؛ لأن الشخص لو أخذ هذا على أنه مبلل، وأن السماء أصابته، فإنه يرى ذلك، أما إذا أخذ شيئاً وقد خُلط بغيره على سبيل الغش والتدليس وخفي عليه ذلك، فإن هذا جرم عظيم. فالرسول صلى الله عليه وسلم مضى في الأسواق، ورأى، ونصح، وعمر كذلك كان يأتي إلى الأسواق كما أشرنا، بل كان يعس ليلاً في أزقة المدينة يستطلع أحوال الناس، وكما يذكرون: أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء، فقالت لها ابنتها: أما سمعت نداء عمر بمنع مزج الحليب بالماء؟ قالت: وأين عمر منك الساعة؟! قالت: ما كنت لأطيعه حاضراً وأعصيه غائباً. فقال عمر لمن معه: اعرف هذا البيت، ثم من الغد سأل عمن فيه، وأعجب بديانة وأمانة الفتاة، وخطبها لولده، فكانت جدة عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان السلف في أمانتهم، وفي انضباطهم وطاعتهم لله ولمن ولاه الله عليهم. ونظير ذلك تلك المرأة التي كانت تطوف بالبيت وهي مريضة بالجذام -عافانا الله وإياكم- والجذام ينفر منه الناس ويتقززون منه، ويتباعدون عنه، فجاء عمر بجانبها وهمس إليها: يا أمة الله! لو خرجت من المطاف ولزمت بيتك كان خيراً لك، فلم تكمل الشوط وخرجت مباشرة، ومكثت في بيتها إلى أن توفي عمر، فأتاها آتٍ فقال لها: يا أمة الله! اخرجي، فقالت: لماذا؟ قال: إن الذي كان قد نهاك قد مات، فقالت كلمتها العظيمة: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، فرب العزة حي لا يموت. والذي يهمنا هنا ما يتعلق بالغش الذي لا يظهر لكل الناس، ومن النوادر التي سمعتها من والدنا الشيخ الأمين: أن بعض شيوخه كان في القاهرة، وكان يأتيهم اللبان في كل يوم بلتر من الحليب، وكان الشيخ ينبهه إلى خطورة الغش في اللبن بوضع الماء فيه، وكان اللبان يقول: نعم، الغش حرام، وأنا لا أغش، وكان الشيخ يأخذ الحليب، فيجيء الخادم ويجهزه له، وفي يوم من الأيام جاء اللبان والخادم غير موجود، فقال الشيخ للبان: اترك الحليب هنا وهات الماء من تلك الثلاجة، فذهب وأتى بالماء من الثلاجة، فقال له الشيخ: ضع الماء على الحليب، فقال: كيف أفعل ذلك وأنت كل يوم تقول لي: لا تضع الماء على الحليب وأن هذا غش؟! وكيف تريد مني أن أفعل ذلك عندك؟! فقال الشيخ: هذا حقي أنا، فقال اللبان: وذلك الحليب حقي أيضاً، فكما أنك تضع الماء إلى حليبك، فسأضع الماء في حليبي أيضاً! فقال الشيخ: أنا أشربه ولا أبيعه، أما أنت فإنك تبيع الحليب، فإن وضعت فيه الماء فإن هذا غش؛ لأنك بهذا تكون قد بعت لبناً وماءً، أما أنا فأريد أن أشرب لنفسي ولا أبيع، فقال له: أبداً يا شيخ! من الآن سأضع الماء في الحليب. يهمنا أن هناك بعض السلع لا يكاد الإنسان يدرك أن فيها غشاً، فيكون الذنب على صاحبها أشد؛ لأنه غرر وغش وتدليس، بخلاف ما إذا كان الشيء معروفاً للناس، وقبله المشتري، أو رغب فيه، أو رضي بحاله.

النهي عن الغش عام في كل شيء

النهي عن الغش عام في كل شيء ثم إن هذه القاعدة العامة: (من غش) على عمومها تشمل كل غش، ولو كان في التراب، أو غش في الإسمنت، بأن كانت المادة الحديدية فيه ناقصة، أو كانت نسبة الأسمنت على الرمل ناقصة، وكذلك تمديد الحديد، فلو كان ناقصاً عن المتفق عليه لكان غشاً. فالنهي عن الغش مطلق في أي سلعة، قليلاً كان أو كثيراً، وهي من القواعد العامة، ويدخل فيها الغش في الدراسة؛ فالأستاذ يعتبر غاشاً للطلاب إذا لم يبين لهم كل شيء، ولم يجتهد في إيضاح المشكل عليهم، وكذلك مدير الدائرة ورئيسها إذا لم يؤد الواجب عليه للمواطن فإن هذا من الغش، فإذا أنقص إنساناً حقاً يستحقه -ولو كان بمقدار رسم- فإن هذا غش. إذاً: (من غش) ما تركت مجالاً من مجالات الحياة إلا وامتدت إليه، وهذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم.

النهي عن الغش عام للمسلمين وغيرهم

النهي عن الغش عام للمسلمين وغيرهم وجاء الحديث بلفظ: (من غشنا) وهذا اللفظ قاصر على المسلمين، لكن رواية: (من غش) عامة تشمل المسلم وغير المسلم؛ لأن في قصر هذا الحكم على المسلمين اتهاماً للإسلام، وتقبيحاً للإسلام في أعين غير المسلمين، فإذا وجد اليهودي أو النصراني أن المسلم يغشه فماذا سيقول عن الإسلام؟! ولكن حينما يرى العدل والحق يطبق على المسلم وعلى غير المسلم، يعرف أن الإسلام هو الدين الحقيقي. وقد ذكرنا قصة علي مع اليهودي، في الدرع الذي سقط من علي وأخذه اليهودي، فقال له علي: هذا درعي. فقال: بل هو حقي وهو في يدي، فقال: نحتكم إلى القاضي. فذهب علي باليهودي إلى القاضي شريح،. فقال: ما قضيتكما؟ قال علي: هذا درعي في يد اليهودي، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟ قال: بل هو درعي وفي يدي، فقال القاضي: ألك بينة يا علي؟ قال: نعم، قنبر والحسن بن علي، فقال: أما قنبر فغلامك وعتيق فنعم، وأما الحسن فابنك، فلا نقبل شهادته لك، قال: أما تخشى الله؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وأنت ترد شهادته! قال: والله ما رددت شهادته، وإني لأعلم أنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، ولكن ولدك لا يشهد لك؛ لأن الشرع جعل ذلك موضع اتهام، فهل عندك شاهد آخر؟ فقال: لا، فقال القاضي: اذهب يا يهودي! بالدرع، فخرجا، حتى إذا كانا عند الباب وقف اليهودي مبهوتاً، وقال: يا علي! أهكذا القضاء عندكم؟! قاضيك الذي نصبته أنت يطالبك بالبينة على يهودي! ويرفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؛ لأنها شهادة رجل لأبيه؟! قال: نعم، هذه عدالة الإسلام، فقال: أشهد أنه الدين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدرع لك، فإنه سقط عن راحلتك فأخذته، وقد أنكرتك لأنظر ماذا ستفعل بي وأنت الخليفة، وماذا سيحكم القاضي وهو من وليت، أما والأمر كذلك فإن هذا درعك، فما كان من علي رضي الله تعالى عنه إلا أن قال: هو لك، ومعه مائتا درهم. لأنه أظهر صدق علي، وإلا لكان علي قد ادّعى دعوى غير ثابتة. والذي يهمنا أن قوله: (من غش) على عمومه، فتشمل حتى الكافر، أما إذا كان حربياً، فإن دم الحربي مباح، أما الذمي المعاهد المقيم فله حق الإقامة، فهو معصوم الدم والمال، ولا يجوز الاعتداء عليه؛ لأن ولي الأمر أعطاه أمان الإقامة، فلا ينبغي لإنسان أن يغشه، ولا يجوز أن يتعامل معه تعاملاً ربوياً.

شرح حديث النهي عن تلقي الجلب

شرح حديث النهي عن تلقي الجلب قال المصنف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقي فاشتري منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) رواه مسلم] . هذا تابع لما قبله، وفيه زيادة: بأن من تلقي الجالب واشترى منه، ثم جاء الجالب إلى السوق، ورأى أنه غبن فهو بالخيار، فله الخيار في إمضاء البيع، وله الخيار في فسخه ورد الثمن.

النهي عن حبس العنب وبيعه لمن يتخذه خمرا

النهي عن حبس العنب وبيعه لمن يتخذه خمراً قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن] . النظر في الأسباب والمسببات، والغاية والوسيلة أمر مهم في إيقاع الحكم، والقاعدة تقول: الوسيلة تأخذ حكم الغاية، فإذا كانت الغاية واجبة فوسيلتها واجبة، على القاعدة الأصولية: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) . فمن أخر بيع العنب -العنب نضج والناس تبيعه في السوق- فأمسكه حتى يزيد في النضج، ثم يبيعه لزبائن مخصوصين، يطلبون زيادة النضج ليتخذوا منه خمراً، والخمر من هذا النوع يكون أسرع وأقوى منه في العنب الفج الجديد. وبعض الطيور تخمر العنب على الشجرة، خاصة النّعر، وأهل البساتين يعرفون هذا، فيأتي إلى الحبة الكبيرة التي ليست في مواجهة الشمس فينقرها من أعلاها -من جهة العنقود- نقراً صغيراً، قد يكون سمكه ملي ونص أو اثنين ملي، ويأخذ منها قطرة أو قطرتين، ثم يذهب إلى الطين ويأخذ طيناً ويسد هذه الفتحة، ولما دخل الهواء إلى العنبة أغلقها عن الهواء مرة أخرى، والهواء الذي دخل فيها يتفاعل مع مائها حتى تتخمر، وينتظرها أياماً معروفة عنده، ثم يأتي -يقول بعض الإخوان: إن ذلك يكون غالباً في العصر- فيسحب الطين عنها، ثم يشرب ما فيها وقد تخمرت، ثم ترى هذا الطير يغرد ويغني في محله هناك! فتأخير العنب إلى آخر وقته يساعد على قوة الخمرية. والحديث عام، فمن باع العنب في أول ظهوره، أو البسر في أول ظهوره، أو المشمش، أو الخوخ، أو البصل، أو أي نوع من الأنواع التي تتخذ منها الخمور -وهو يعلم أن المشتري يشتريها لذلك- فهو متقحم باباً من النار على بينة؛ لأنه تعاون معه على الإثم والعدوان.

ولا تعاونوا على الإثم والعدوان

ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ويبني الفقهاء على هذا الحديث: أن كل من تعاون مع صاحب إثم على إثمه فهو مشارك له في الإثم، وهذا واضح فيمن أخّر العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، ومنثله من أجّر بيتاً لمن يتخذه مصنعاً للخمر، أو لمن يجعله محلاً لبيع الخمر، أو لمن يبيع الأقداح والكؤوس التي يصب فيها الخمر، أو يبيع اللوز والجوز لهذا الذي يبيع الخمر؛ لأن الزبائن يستعملونه وقت شرب الخمر، فكل هؤلاء متقحمون باباً من النار.

النهي عن محاكاة أهل المنكر في منكرهم ولو بالحلال

النهي عن محاكاة أهل المنكر في منكرهم ولو بالحلال وينص الحنابلة: على أنه لو أتينا بالحليب أو الشاي -علماً بأن الشاي لم يكن معروفاً في زمانهم- أو بأي شراب حلال، وشربناه في أوانٍ وكؤوس العادة أنه يشرب فيها أرباب الخمر خمراً -على هيئة شراب الخمر ولو كنا قد صفينا هذه الأواني- فإن في ذلك إثماً؛ لما في ذلك من مشابهة ومشاكلة لأصحاب الخمر، ومثل ذلك ما يقع في بعض المناسبات: فتجد الناس يتبادلون كؤوس الشاي ويقولون: (نخب فلان) ، وهذه عبارة لأصحاب الشراب المحرم، فأي هيئة تحكي هيئة شراب محرم أو استعمال محرم فهي حرام. إذاً: كل من تعاون على إثم فهو آثم، وخاصة حينما يعظم الإثم، كهذا الذي يؤخر بيع العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، وقد جاء في الحديث: (لعن الله في الخمر عشرة: شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها إلى شاربها، وبائعها ... ) ، فكل هؤلاء مشاركون في هذا الإثم العظيم، وكذلك لُعن جماعة بسبب التعاون على أكل الربا. إذاً: العنب عبارة عن مثال، وكونه يؤخر فهذه صورة الواقع، وكذلك لو باعه في بادئ الأمر لمن يتخذه خمراً فإنه داخل في هذا الحكم، ويشمله هذا الوعيد الشديد.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [11]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [11] إن من عظمة هذا الدين اشتماله على القواعد العامة التي تدخل فيها جزئيات لا حصر لها، وإن تغير الزمان والمكان ومن ذلك قاعدة: الخراج بالضمان، وهي قاعدة كفيلة بحل كثير من مشاكل البيوع. كما أجاز الشارع للوكيل أن يتصرف في ملك موكله بما أذن له فيه الموكل، فإن تصرف فيما لم يؤذن له فيه -في مصلحة موكله- فإن ذلك متوقف على إجازة المالك ومنعه. ومن حكمة الشارع أنه لم يجعل حداً معيناً للربح، ولكن لا يجوز استغلال الجهلة بالأسعار وغبنهم، ومن غبن غبناً فاحشاً فله حق فسخ العقد أو استعادة الغبن. وكل بيع فيه جهالة وغرر فإنه لا يجوز، ولذلك لا يجوز شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، ولا ما في ضروعها، ولا يجوز شراء العبد الآبق، ولا المغانم حتى تقسم وتستلم، ولا الصدقات حتى تقبض، ولا ضربة الغائص، وكذلك كل ما كانت فيه جهالة أو لا يستطاع تسليمه.

شرح حديث: (الخراج بالضمان)

شرح حديث: (الخراج بالضمان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان] . هذا الحديث قاعدة من القواعد الفقهية، ومن الصعب على طلبة العلم التفريق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية. فمن القواعد الفقهية: (المشقة تجلب التيسير) ، (لا ضرر ولا ضرار) ، (الخراج بالضمان) ، فهذه قواعد فقهية. أما الأصولية فمثل: (الأمر للوجوب) ، (النهي للتحريم) ، (العام يحمل على الخاص) ، (المطلق يحمل على المقيد) ، فهذه أصولية في طريقها، وتلك فقهية في طريقها.

الخراج بالضمان قاعدة عامة في البيع والشراء

الخراج بالضمان قاعدة عامة في البيع والشراء فقوله: (الخراج بالضمان) قاعدة تحل عامة مشاكل البيع والشراء، والخراج: هو الكسب والربح؛ كأن يكون عند إنسان: عبيد وخيول وأرض، فيحصّل من وراء ذلك فوائد، فالعبيد تشتغل وتأتي له بالخراج، والخيل تعمل وتأتي له بخراج، والأرض تزرع وتنبت وتأتي له هذا بخراج. فالخراج: هو الفائدة التي تعود على المالك من ملكه. والضمان: هو ضمان المتلف. فإذا أخذت عارية -والعارية مضمونة- وتلفت عندك فإنك تضمنها، وإذا اعتدى ولدك أو بهيمتك أو أنت على شيء لغيرك فإنك تضمنه. فالضمان: هو تعويض عما أتلفه الإنسان، إذاً: الخراج ضد الضمان، فإنك في الضمان تدفع، وفي الخراج تأخذ. فـ عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) ، وتطبيق ذلك في أكثر صور المبيع عند النزاع. فمثلاً: إنسان اشترى سيارة على أنها خالية من العيوب، وهو لا يدري عن السيارات ودقائقها، ومكثت عنده أسبوعاً أو أسبوعين، ويذهب بها من عمله إلى البيت، فركب معه مهندس، فقال: السيارة فيها خلل، فعرف العيب بعد عشرة أيام، وهذا العيب الذي اطلع عليه مؤخراً لو علم به وقت الشراء لما اشتراها، أو قد يشتريها ولكن ينقص من الثمن بقدر النقص بهذا العيب، فله أن يردها، ويسمى: الرد بالعيب، أو خيار العيب، وإذا اختلف مع البائع بأن قال البائع: هذا العيب حصل عندك أنت وليس عندي أنا، فيقدر ذلك أرباب الخبرة، فينظرون هل هذا العيب جديد أم قديم، فإن حكموا بأن العيب قديم، فعند ذلك يكون البائع قد دلس وغش المشتري، فيحكم برد السيارة، فإن قال البائع: السيارة بعشرة آلاف وهي عنده منذ عشرة أيام، ويذهب بها كل يوم إلى العمل، فأجرة السيارة في اليوم مائة ريال، فأخصم لي أجرة السيارة من قيمتها التي هي عندي، ثم أرد له الباقي، فيقال له: لا، الخراج بالضمان، ما معنى الخراج بالضمان هنا؟ استعماله السيارة المدة التي كانت عنده فائدة عادت عليه، فهي خراج، وقد يكون استعملها للأجرة فحصل على خراج من وارئها مدة وجودها عنده، من يوم العقد إلى اكتشاف العيب، ولو تلفت أو حدث فيها عيب جديد، فإنه على حساب المشتري التي هي في يده. إذاً: ما دام أنه يضمن نقصها فيستحق خراجها، وهكذا الخراج بالضمان، فما استفاده لا يحق للبائع أن يطالب فيه؛ لأنها كانت في ضمانه، فلو تلفت لتحمل ضمانها، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي دينارا ليشتري شاة فاشترى شاتين

شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري شاة فاشترى شاتين قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه) رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أخرجه البخاري في ضمن حديث، ولم يسق لفظه، وأورد الترمذي له شاهداً من حديث حكيم بن حزام] .

أصل عملة الدينار ومقداره

أصل عملة الدينار ومقداره يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى عن البارقي رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، والدينار: عملة ذهبية، والدينار والمثقال شيء واحد، وهو من حيث الوزن يزن مثقالاً، ومن حيث العملة يعتبر ديناراً، والدينار كان في الزمن السابق يتراوح صرفه ما بين ثمانية دراهم إلى اثني عشر درهماً، واستقر أمره زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعشرة دراهم، وهو السعر الذي جاء به تشريع الزكاة، في كل عشرين ديناراً ربع العشر، وفي كل مائتي درهم ربع العشر، وعشرين في عشرة بمائتين. إذاً: أعطاه ديناراً، وهذا يدل على أن المسلمين كانوا يتعاملون بالدنانير، والدنانير عملة غير عربية وإنما هي فارسية أو رومية، والدراهم ساسانية، ثم ضربت إسلامية في زمن بني أمية. فهذه الدنانير في أيدي المسلمين ويتعاملون بها وهي عملة أجنبية عنهم، كما هو الحال الآن، يتعامل المسلمون بالدولار وبالمارك وبالين، وكلها عملات أجنبية، ولكن النقد لا يعرف الجنس، وكما قيل: النقد ملك لمن هو في يده، فمن حل في يده درهم فهو له وينسب إليه.

إقراره صلى الله عليه وسلم لعمل عروة البارقي

إقراره صلى الله عليه وسلم لعمل عروة البارقي فذهب عروة ليشتري شاة أو أضحية، كلاهما سواء؛ لأن الأضحية بالشاة، والشاة للأضحية، وهذا اختلاف في اللفظ، وقد يكون من الراوي الأول أو الثاني، فذهب فاشترى بالدينار شاتين، ثم في عودته بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه شخص وساومه على إحدى الشاتين، فباعها عليه بدينار، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ديناركم وهذه شاة لكم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلت؟ إذا كنت أتيت بالدينار وأتيت بشاة، فمن أين لك هذه الشاة؟ والدينار على حاله لم يصرف، فقال له رضي الله تعالى عنه: اشتريت بالدينار شاتين، وبعت إحدى الشاتين بدينار. وهنا -مع هذا العمل- يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) أي: أقره على هذا العمل واستحسنه ودعا له، فكان ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ما باع صفقة أو اشترى صفقة ولو تراباً إلا وربح فيها، وكان الناس يأتون إليه بأموالهم ليشاركهم فيها، التماساً لبركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تصرف الوكيل في مال موكله

تصرف الوكيل في مال موكله وللعلماء في هذا مباحث، فحينما أعطي الدينار ليشتري الشاة، فهل أعطيه وكالة أو أمانة؟ إن قلنا: وكالة، فقد ذهب الوكيل وتصرف، فاشترى شاتين بدلاً من شاة، وهل للوكيل أن يتصرف في غير ما وكل فيه؟ هو وكل في شراء شاة، لكنه اشترى شاتين، فهل شراؤه الشاتين داخل ضمن الوكالة في شراء الشاة، أو أن الوكالة كانت عامة؟ الوكالة العامة كأنه يقول له: اشتر لنا ما في نظرك من شاة أو نحوها، فبالوكالة العامة يكون له الحق أن ينظر أي الشياه أصلح، ولو وجد شاة كبيرة بدينار، ووجد شاتين متوسطتين بالدينار، فاشترى إحدى الصفقتين، كان ذلك بمقتضى الوكالة صحيحاً، ونحن الآن إذا أتينا إلى سوق الأغنام ربما وجدنا خروفاً بألف ريال، بينما بجواره الخرفان الأخرى من أربعمائة إلى ستمائة، فثمن الخروف الأول ألف ريال، فلو أضفت إليه مائتين فستشتري ثلاثة، إذاً: الأسعار تختلف، والسلع تتفاوت فيها القيمة، هذا في الصورة الأولى، ولنقل: إنه وجد شاة بدينار، ووجد شاتين بدينار، فاستحب أن يأخذ الشاتين بدلاً من الشاة، وهذا التصرف من الوكيل لمصلحة موكله. مضى العقد الأول، ومضى بالشاتين، وفي الطريق يأتي إنسان يساومه، فباعه إحدى الشاتين، فهل له الحق في بيع ملك موكله الذي وكله في شراء شاة فتجاوز، أو تخير، أو عمل المصلحة فاشترى شاتين بدلاً من شاة؟ وهنا بعد أن اشترى ودخل المبيع في ملك موكله، فهل يملك أن يخرجه من ملك موكله بالبيع دون أن يوكله الموكل في البيع؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوكله في بيع، وإنما وكله في الشراء فقط، فبأي صفة يبيع ما اشتراه لموكله؟ قالوا: إن السبب في شرائه الشاتين هو مراعاة مصلحة موكله، فوجد أن من مصلحة موكله الاجتزاء بشاة، والشاة الأخرى زائدة، ومن مصلحة موكله أن يغنمه قيمة الزائدة، فباعها باسم موكله. وهنا يقول الفقهاء: إذا تصرف الوكيل بما يظنه مصلحة لموكله دون أن يأذن له فيه، فإن هذا العقد يسمى: العقد المعلق، فهو معلق على إقرار الموكل، فإن رضي وأقر فلا مانع، وإن رفض فالبيع مرفوض ومردود، فهو باع الشاة تفويضاً من نفسه، طلباً لمصلحة موكله، وبثمن ليس فيه نقص، بل فيه ربح مائة بالمائة، فباع الشاة على هذا الاعتبار، ولما جاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره في نظام العقود موكلاً له- سأله: ماذا فعلت؟ فأخبره بما فعل في الشراء وفي البيع؛ فاستحسن ذلك، وأجاز تصرف الوكيل في هذا البيع، ولو لم يكن مأذوناً له مشافهة فهو مأذون له اعتباراً، ولو لم يكن مأذوناً له اعتباراً فقد أقر العقد، ويقول الفقهاء: إن اعتبار العقد المعلق ابتداء من إجازة الموكل لا من وقوع العقد.

تحديد الربح

تحديد الربح وهنا جاءت مسألة لا زال الناس يخوضون فيها إلى الآن، فهذا اشترى شاتين بدينار، وباع شاة منهما بدينار، فلما كان في الطريق، وهو في نفس اليوم، ولم تتغير الأسعار في الأسواق، ولا قل الوارد وكثر الطلب، فالسوق على ما هو عليه، لم يطرأ عليه ما يقتضي زيادة الثمن، فكم ربح في هذه الصفقة؟ ربح مائة في المائة، ويأتي هنا السؤال المهم: كم يجوز أن يربح؟ وكم يكون الغبن؟ وكم تكون الزيادة؟ ومتى يفسخ البيع؟ ومتى يحق للمشتري ادعاء الغبن؟ وهذه القضية إلى الآن لم يستقر فيها رأي، لا على تحديد السعر، ولا على تحديد صورة الغبن، وأهم ما يكون في ذلك، والمرجع ما لم يكن المشتري جاهلاً فغره البائع، وما لم يكن البائع مستغلاً لظروف المشتري ويتحكم فيه، فإذا كانا على هذه الحال وعلى قارعة الطريق، وليس هناك إلزام ولا إكراه، ولا استغلال لظروف المحتاج، فالبيع سليم ولو كان الربح مائتين في المائة. وبعض السلع ربما كان الربح فيها خمسمائة في المائة، لكن مع اختلاف الزمن ومع اختلاف الأسعار، وعندنا بيع السلم لا بد أن يكون هناك أجل في تسليم السلعة، ويكون بسبب هذا الأجل تغيير في السعر بزيادة أو بنقص، فنقرر وجود الزيادة ووجود النقص وإلا لما كان سلماً. فعلى هذا لا يمكن لإنسان أن يتحكم في سوق، ولا في سلعة، ولا في تاجر، ولا في متجر، ولا في مصنع، بتحديد سعر البيع والربح، إلا إذا كان هناك استغلال للمشتري، وما يوجد الآن من بعض التسعير لبعض السلع، فإنما ذلك مما استجلبه الناس باستغفال الجاهل، وبعدم معرفته قيمة السلعة، وباستغلال البائع جهالة المشترَي، فجعلوا في بعض السلع بياناً للأسعار، كما هو حاصل في الأدوية، فإننا نعرف الفرق بين حبة الأسبرين وحبة الفيتامين، فبعض أنواع الفيتامين قد تساوي الحبة الواحدة ثلاثة ريال، وعلبة الأسبرين كلها تساوي ثلاثة ريال، ولكننا لا نعرف الفرق من الناحية الكيماوية أو الطبية، فلما لم نكن نعلم ذلك ويمكن للصيدلي أن يستغل ظروف كل مريض؛ جعلوا المسألة واضحة، وقربوا الموضوع، وقدروا الربح المناسب لهذه السلعة، ووضعوا الأسعار على كل علبة، وكذلك المحلات الكبيرة التي تسمى: (سوبر ماركت) وفيها من أنواع السلع والبضائع، ولا يريد صاحبها النزاع في المساومة، فوضع أسعار السلع أمامك، فإن أعجبك سعرها أخذتها، وإن لم يعجبك تركتها، والذين يضعون هذه الأسعار يراعون مصلحة المالك ومصلحة المستهلك، على مبدأ فقهي إسلامي: (لا ضرر ولا ضرار) ، لا ضرر على المالك في بخس سلعته، ولا ضرار على المشتري في استنزاف ماله في هذه السلعة.

حد الغبن الذي يحق به فسخ العقد

حد الغبن الذي يحق به فسخ العقد إذاً: ليس هناك حد -كما يقولون- في ادعاء الغبن في السلعة، فهذا في نهاره وقبل غروب الشمس يربح مائة في المائة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقره ويدعو له بالبركة، ولكن الفقهاء أيضاً تدخلوا وقالوا: إذا لم يكن هناك تحديد للأسعار، ووجدت سلعة في عشرين دكاناً في السوق، فخمسة عشر دكاناً يبيعها بعشرة، وجاء صاحب دكان وباعها على إنسان بعشرين، فهل يقر على ذلك؟ يقول العلماء: هذا غبن، فقد غبن المشتري بعشرة، ونسبة العشرة من العشرة مائة في المائة، فيكون من الغبن الفاحش، فيحق للمشتري فسخ العقد وإرجاعها. إذاً: ما هو حد الغبن الذي يجعل المشتري يدعي الغبن ويطلب رد السلعة؟ قال بعضهم: إذا كان ثلاثين في المائة، أو أربعين في المائة، أو خمسين في المائة، أي: من ثلاثين فما فوق، وأقل من ثلاثين في المائة لا يعتبر غبناً، ولا ترد به السلعة، قالوا: إن مثل هذه النسب لابد أن تتفاوت؛ لأنه لا بد من الربح، ولكن المسألة ترجع إلى جشع البائع، وإلى قناعته، وحسن تعامله، ورفقه بالناس. إذاً: هذا الحديث أصل في حلية الربح ما لم يكن هناك تدليس أو غش أو انتهاز لفرصة، أو استجهال مشترٍ. والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام.

شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الإنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) رواه ابن ماجة والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف] . هذا وإن كان بإسناد ضعيف إلا أن معناه صحيح، فإن جميع هذه البيوع راجعة إلى الغرر، وكما أسلفنا في أول كتاب البيوع: أنه يجب الحذر والتحفظ من أكل أموال الناس بالباطل، وتلك الأشياء التي ساقها هنا واضحة الغرر.

النهي عن بيع ما في بطون الأنعام

النهي عن بيع ما في بطون الأنعام فنبدأ أولاً بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطون الأنعام. وبهيمة الأنعام: هي من ذوات الأربع مأكولة اللحم: الإبل، والبقر ومعها الجاموس، والغنم ومعها الماعز، فهذه تحمل، أو كما يقولون: الثدية، أي: ذات ثدي فتلد وترضع. فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطونها، فلو رأيت ناقة لقحاء وحملها ظاهر جداً، وبقى لها شهر أو أكثر أو أقل لتضع حملها، وكان نوع هذه الناقة من حمر النعم من خيار الإبل، وتريد من نسلها، وتحرص أن تسبق إلى شراء ما في بطنها، حتى لا يسبقك الناس بعد ولادتها، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري هل ستأتي بفصيل أو ببكرة كما يقولون؟ بذكر أم أنثى؟ سوي الخلقة أم ناقص؟ إذاً: لا زال في صندوقه مقفلاً عليه لا نعلم عن كيفيته، فهذا فيه جهالة، كما لو جئت إلى إنسان بصندوق وقلت: هذه الصناديق فيها ملابس وأحذية -بدون رقم أو برقم- لكن نوع الصناعة ومقاساتها وألوانها كل ذلك مجهول داخل الصندوق، فلا يجوز بيع ما في داخله حتى تفكه وترى ما فيه وترتضيه، فكذلك ما في بطون الأنعام، سواء كانت في أوائل حملها، أو في أواخره، احتياطاً من كونه قد يأتي حياً وقد يأتي ميتاً، وقد يأتي على الجهة التي أنت تصورتها وتمنيتها وقد يأتي على جهة أخرى، فلو وقع البيع في هذه الحالة فالبيع باطل؛ لأن النهي يقتضي الفساد.

النهي عن بيع ما في ضروع الأنعام

النهي عن بيع ما في ضروع الأنعام قال: (وعن بيع ما في ضروعها) . هنا مشكلة: ترى الناقة محفلة، أو ترى الناقة وضرعها ممتلئ، أو البقرة أو الشاة، فتقول: أشتري ما في هذا الضرع من الحليب بكذا، وقد قدرته مثلاً لتراً، فحلبت فكان نصف لتر، أو البائع قدره لتراً، فحلبت فإذا به لتر ونصف، فيكون فيه غرر، فإن نقص عن تقديرك أنت فغرر عليك، وإن زاد عن تقدير البائع فهو غرر على البائع، إذاً: ماذا نفعل؟ احلب حتى يجتمع عندك، ثم بع. وفي بعض المدن شاهدنا الذين يبيعون الحليب، ولم نرهم يبيعون الحليب في الأواني، ولكن ترى البهيمة معه في السوق، فإذا قلت له: أعطني نصف كيلو، فإنه يحلب أمامك في إناء ويزن لك ويعطيك! لا غشه بالماء، ولا باعه في ضرع مجهول، فيعطيك حليباً طازجاً من الضرع، فإذا كان الأمر كذلك فنعم الحال، وإذا لم يمكن كذلك فلا يجوز أن تبيع الحليب في الضرع كثيراً كان أو قليلاً، ومعروف أن بهيمة الأنعام تختلف في جرم الضرع، فبعض الحيوانات تجدها نحيلة الضرع، ولكنه يأتي بحليب أكثر من الضرع الذي تراه ضخماً، فربما تكون تلك الضخامة في لحم وجرم الضرع، فالضرع المتين إذا كان فيه نصف لتر فسيجعل الضرع كبيراً، والثانية جرم ضرعها رقيق وخفيف، فلو كان فيه لتر فما يظهر فيه. إذاً: التقدير بالرؤية مع اختلاف أحجام الضروع فيه غرر على ما بداخلها.

كل ما كان فيه جهالة لا يجوز بيعه

كل ما كان فيه جهالة لا يجوز بيعه إذاً: النهي عن بيع ما في بطون الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع من الحليب قاعدة أساسية عند الفقهاء، يندرج تحتها كل ما تجدد من أنواع السلع، فتعرض على الجهالة، فهذه صناديق -كما قلنا- لكن لا ندري عن نوع الصناعة، قد يقول: هو جلد أمريكي ممتاز، ولكن لا ندري عن نوع الخياطة والصناعة، وعن الحجم عريض المقدمة أو خفيف المقدمة وهكذا، أو هذه صناديق فنايل، صفتها كذا، صناعة المحلة الكبرى -كما يقولون- أو صناعة إنجليزية، ولكن هل نوع الغزل رفيع أو متين؟ ونحو ذلك، وكذلك في المطعومات، ما لم يكن هناك ما يسمى: الأنموذج. فمثلاً: جاءك إنسان بمائة علبة حلاوة طحينية، وقال: العلبة هذه فيها كيلو، أبيعك المائة علبة بكذا، لكن الحلاوة الطحينية منها الناعم جداً الممتاز، ومنها الخشن، ولا أدري هذا من أي الأنواع، فقال: فك هذه وانظرها وتذوق منها، فنظرت وعرفت واقتنعت بالنوعية الموجودة أمامك، فاشتريت المائة علبة، فهل من المعقول أن تكلفه أن يفتح المائة علبة لتنظر فيها؟! قد تكون ملحومة وملصقة حتى لا يأتيها الهواء فتفسد، فيضحي بواحدة ليريك، فاشتريت المائة وذهبت وأخذت النموذج وذهبت بها إلى متجرك وبعتها على هذا النموذج، فلو تبين أن أحداً أخذ منك عشر علب وفتحها فوجد منها خمساً على غير النموذج، فهذه الخمس مغايرة للمتفق عليه في العقد، والمشتري سيرجع عليك؛ لأنك بعته على هذا النموذج، وأنت ترجع على البائع الذي باعك على هذا النموذج، إذاً: انتفى الغرر، ولكن إذا لم تر لها نموذجاً، ولم تعلم لها نوعية ولا كيفية بالوصف، فإنههم يقولون: ولو بالوصف، فإذا لم يأت بنموذج، ووصفها بصفات شاملة كاملة، كما لو أراد أن يبيع أكواب الشاي، فقال: هي صناعة كذا، طولها كذا، وقطر الدائرة كذا، والزجاج صفته كذا، وذكر الأوصاف التي تشتمل عليها الأكواب بحيث أننا لو فتحنا ونظرنا لا يختلف المنظر عن المخبر، فإذا تم ذلك صح البيع، وإن رأيت خلاف الوصف فأنت بالخيار: فإما أن تأخذ وتسترجع قيمة النقص -وهو الأرش- أو ترد السلعة وتأخذ حقك. إذاً: النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع قاعدة فقهية عامة، ومن هنا نقول: ليس في الفقه طريق مسدود، وليس هناك جديد على الفقه في الإسلام؛ لأنه مهما تجددت أنواع وصور السلع ومبيعاتها ستجد لها أصلاً فيما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قعده علماء المسلمين، وإن واجهت الإنسان مسألة فسيجد لها أصلاً وحلاً في كتب الفقه، وإن لم يجد لها حلاً في كتب الفقه، فإن مردها إلى اجتهاد الفقهاء، ولذلك فإن باب الاجتهاد مفتوح، فيجتهد أهل الخبرة والفقهاء والعلماء في مواصفات هذا الشيء الجديد، وأي الأصناف أقرب إليه في القديم فنلحقه به، فإن سعة الفقه الإسلامي بالقواعد العامة لا بالجزئيات.

النهي عن بيع العبد الآبق

النهي عن بيع العبد الآبق قال: (وعن شراء العبد وهو آبق) . ننتقل إلى نوع آخر من أنواع البيوع، ليس من قبيل الغرر بالجهالة، ولكن من قبيل الغرر بالعجز عن التسليم، وهو النهي عن بيع العبد الآبق. يقال: آبق وشارد، آبق للعبد، وشارد للبعير، تقول: شرد البعير، وأبق العبد، والآبق: هو الهارب، قال تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] ، فالآبق والشارد بمعنى واحد، إلا أنه اصطلح على إطلاق الآبق في الإنسان، والشارد في البعير وغيره. والعبد الآبق عن سيده لا يخلو من أمرين: إما أن يعلم مكانه الذي هو فيه، وإما أن لا يعلم مكانه، فإذا كان لا يعلم مكانه فهو في الجهالة أعمق وأبعد، فإنه لا يعلم أهو حي أو ميت؟ أما إذا اعلم أين هو، كأن يأبق من المدينة إلى جدة، ويعرف عنوانه ومكانه، فجاء إنسان وقال: يا أخي! عبدك هذا الذي أبق عليك وعجزت عنه بعنيه، فباعه له فاشتراه، فعند أن يذهب إليه ليأخذه فقد لا يجد أصلاً، وقد يجده هالكاً، وقد يجده ولا يستطيع أخذه؛ لشدة تمرده وقوته، فإن وجده هالكاً، فإن ذلك يكون على حساب صاحبه، لا على حساب المشتري؛ لأنه ما زال في ملكه، وإن لم يجده، أو وجده ولم يستطع أخذه؛ فإن ذلك ينقض البيع، ولذلك نهي عن بيع العبد الآبق. إذاً: المشتري إما أن يكون جاهلاً بمكان العبد الآبق؛ فشراؤه غرر من أول لحظة، وإما أن يكون عالماً بمكانه، وطمع أن يحصل عليه، فذهب إليه ولقيه وعجز عن أخذه فسيرجع على البائع. ومثله البعير الشارد، فإذا شرد عليك بعير، ولا تعلم أين هو، فهذا لا سبيل إلى بيعه، فجاء إنسان وقال: يا فلان! وجدت بعيراً عليه وسمك -وكانت العرب تسم الإبل، فكل قبيلة تسم إبلها على صفحة العنق، أو على لوح الكتف، أو على المؤخرة، فهذه عادة كانت عند العرب، حتى لو ذهبت في أي مكان ورآها أي إنسان عرف أنها من إبل القبيلة الفلانية فلا يمد يده إليها فقال: وجدت بعيراً من سمة إبلك في المحل الفلاني، فقال: هذا شارد عني من زمان، ثم قال: بعنيه، فباعه له، واشتراه، فذهب ليأخذ البعير فإذا بالبعير هايج، وعجز المشتري أن يخضع البعير وأن يقوده إليه، فماذا سيفعل؟ سيرجع على البائع، وكذلك إذا ذهب ليأخذه فلم يجده، فحينئذ أيضاً يكون معجوزاً عن تسليمه. فالعبد الآبق والبعير الشارد يعجز صاحبه عن تسليمه للمشتري، وهكذا كل سلعة يعجز مالكها عن تسليمها للمشتري لا يجوز بيعها.

حكم بيع المغصوب في حالة وجوده عند الغاصب

حكم بيع المغصوب في حالة وجوده عند الغاصب وهنا صورة أخرى: فإذا جاءت يد عاتية طاغية واغتصبت عبداً وصاحبه يراه صباحاً ومساء؛ لكونه موجوداً في نفس القرية ولكنه لم يستطع أن يأخذه، فلو جاء إنسان وقال: أبيع عليك هذا العبد فإن فلاناً اغتصبه مني وعجزت عنه، فإن كان المشتري يظن من نفسه أنه قادر على استخلاصه من غاصبه واشتراه فلا مانع، فإن تم له استخلاصه فذاك، وإن عجز عن استلام العبد من الغاصب رجع إلى البائع، وفي هذه الحالة يكون بيعه إياه على مظنة القدرة، فإذا لم تتحقق فلا.

حكم بيع المغصوب على الغاصب

حكم بيع المغصوب على الغاصب ولو أن الغاصب بنفسه قال: يا أخي! أنت تعبتني من توسيط الناس، ومن الذهاب والإياب، وأنا لن أعطيك العبد، فإني محتاج له في عمل مهم، وأنت بالخيار: إما أن تسكت، وإما أن تبيعه عليَّ، فإذا كان ثمنه مائة قال: أعطيك خمسين ديناراً، فإن بعته بخمسين فخمسون في اليد خير من مائة عند الغاصب، فبعته على غاصبه، فهل يجوز بيعه على غاصبه أم لا يجوز بيعه عليه؟ يجوز بيعه على الغاصب؛ لأن الغرض أن يسلمه للمشتري، وهو الآن في يد المشتري، ولا يحتاج إلى تسليم جديد، ولا يوجد مانع من صحة البيع. إذاً: لا يجوز بيع المغصوب إلا على غاصبه، أو قادر على أخذه من غاصبه، وهذا غاصبه وفي يده، وقد دفع الثمن، ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأنه عنده، إذاً: يجوز أن يبيعه على غاصبه؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد يعجز عنه. أما إذا كان المشتري شخصاً ثالثاً، والثالث هذا عجز عن استلامه، فيحتاج إلى تسليم، ولما عجز عن استلامه واستخلاصه، والبائع -أيضاً- عاجز عن تخليصه وتسليمه؛ فالبيع باطل، أما إذا باعه على الغاصب نفسه فالبيع صحيح، وكون الغاصب معتدياً، أو استغل السعر، هذا شيء آخر، وهو داخل في استحقاق العقاب، فإنه مستحق للإثم والوعيد، ولكن الفقهاء يبحثون المسألة من حيث صحة العقد وبطلانه، فالعقد صحيح، وعليه إثم الاغتصاب، وعليه إثم النقص في الثمن، فإنه يجب عليه -شرعاً- أن يسلمه لصاحبه وصاحبه يكون حراً فيه.

النهي عن بيع المغانم قبل قسمتها واستلامها

النهي عن بيع المغانم قبل قسمتها واستلامها قال: (وعن شراء المغانم حتى تقسم) . مما يدخل تحت بيع ما لا يملك تسليمه: إذا غزا الغزاة وغنموا وأصبحت الغنيمة في جملتها للغزاة، وكانوا مائة شخص، فأصبح لكل شخص واحد في المائة من الغنيمة، ولو قدر أن الغنيمة مائة بعير، فسيكون لكل غاز بعير، فقد عرف سهم الغازي في الجملة، فهل يصح لشخص من الغزاة أن يقول لأحد الناس: أنا لي في الغنيمة بعير، وأبيعك إياه بمبلغ كذا، فهو حق ثابت في الغنيمة ولكن على سبيل الإجمال، وهل يدري أي الإبل سيكون له؟ وكم سيساوي هذا البعير الذي سيكون من نصيبه؟ وهل ندري ماذا سيقع في هذه الغنيمة؟ إذاً: لا يجوز بيع حصته من الغنيمة حتى تقسم ويستلمها، وقد كان في زمن بني أمية وكان ميناء المدينة في الجارود في جمع، وكان يؤتى بالغنائم -من الحبوب- من مصر وما وراءها، وكانوا يعطون للغزاة سندات فيها نصيب كل شخص: فلان له إردب، فلان له إردبان، فلان له نصف إردب، فلان له كذا، فيأتون بها إلى المدينة فيأخذها أصحابها ليذهبوا إلى الميناء ويستلموا حصصهم، فكان البعض منهم يأخذ السند ويبيع ما فيه على الآخرين، فقام بعض السلف وقال: يا مروان! إنك تبيح الربا، فهؤلاء يبيعون ما لا يملكون، أي: إنهم لم يستلموها ولم تصل إلى أيديهم، فمنعوا من ذلك، فهو وإن كانت حصته في الغنيمة مضمونة شرعاً، وكانت معلومة العين، فالغنيمة مائة ألف، وهم ألف نفر، فلكل واحد مائة؛ فلا يحق له أن يبيع حصته ولو كانت معلومة المقدار؛ لأنها ملك عام في الجملة، حتى تقسم ويقبض نصيبه، وحينئذ يبيع كيف شاء.

النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض

النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض قال: (وعن شراء الصدقات حتى تقبض) . وذلك مثل الصدقات التي توزع على المحتاجين بسندات، فكانوا يبيعون ما في السندات من تلك الصدقات، وأيضاً لو كان من عادة التاجر الفلاني أن يقسم صدقاته على البيوت، وصفتها كذا وكذا، وجاء بصدقة كبيرة -مثلاً- وجعل لكل بيت إردباً أو كيساً أو نحوه، وقد كان يؤتى بالصدقات وتجعل في سرسون في محطة القطار، فمعروف أن لكل إنسان مقداراً معيناً، وعنده سند في ذلك، وينتظر وقت التسليم فيذهب يستلم، فلا يجوز لإنسان أن يبيع حصته من الصدقة المعينة بسند في يده وهي لا زالت في مكانها حتى يستلمها، فإن أراد أن يبيعها فله ذلك، أما قبل أن تقسم وقبل أن يستلمها فلا يجوز بيعها، فهي مثل المغانم.

النهي عن ضربة الغائص وما شابهها

النهي عن ضربة الغائص وما شابهها قال: (وعن ضربة الغائص) . يقولون: ضربة الغائص، وعمل الغوص أمر قديم، وكذلك رمية الصياد، وضربة الغائص: أن يأتي الغائص الذي يغوص في البحر ويبحث عن الصدف فقد يجد فيها لؤلؤاً وقد لا يجد فيها شيئاً، فيأتي الغواص على حافة البحر ويغوص وما يرزقه الله يجمعه ويبيعه، فيأتي إنسان ويقول: يا فلان! أشتري منك ما يحصل لك في ضربتك هذه، أي: في غوصتك إلى البحر، فسيذهب ويغوص، ولكن لا ندري ما الذي سيأتي به، فقد يجد صدفة أو صدفتين فيها لؤلؤ، وقد يجد الصدف فارغاً! فضربة الغواص أي: بيع ما يحصل عليه الغواص في ضربته، وهذا لا يجوز؛ للجهالة. وكذلك رمية الشبكة، كأن يقول: ارم الشبكة وعلى حسابي وبعشرة ريال، فيرمي الشبكة وربما طلع فيها ما لا تحب أن تراه، وربما لم يطلع فيها شيء، وربما طلع فيها ما يغني الصياد طوال السنة، فكيف تأخذه منه بعشرة ريال! إذاً: ما ستأتي به الشبكة نظير ما ستأتي به ضربة الغواص، وكل ذلك مجهول. وكذلك نصب الفخ، فلو قلت لصاحب الفخ: الذي يأتي به الفخ لحسابي وأنا أشتريه منك بكذا، فأنت تنتظر غزالاً، أو تنتظر نعامة، أو تنتظر بقر الوحش، فإذا به يمسك لك ذئباً؛ وكذلك إذا اشترك في شراء حمولة الباخرة، وهو لا يعلم عن كمية البضاعة، ولا عن نوعيتها، ولا كم تساوي، وهل هي مناسبة أم لا. إلخ. فكل ما كان مجهول النتيجة، فمنها تجددت صوره وأنواعه، فإن القاسم المشترك بين ذلك كله هو وجود الجهالة، وبه يحكم على هذه المعاملات بالتحريم. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [12]

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [12] إن من القواعد العامة في البيوع: النهي عن بيع كل ما فيه غرر، ويندرج تحت هذه القاعدة كل ما كان فيه جهالة، وهذه القاعدة كافية وافية، إلا أن من رحمة الله أن زاد البيان بتأكيد النهي في بعض البيوع بأعيانها ومن ذلك: النهي عن بيع السمك في الماء، ويلحق به الطير في الهواء، وما لا يقدر على تسليمه، وجاء النهي عن: بيع الثمرة حتى تطعم ويطلع النجم وتؤمن الآفة، كما جاء النهي عن بيع الصوف على الظهر، وبيع اللبن في الضرع، وألحق به بعضهم: المغيب في الأرض، ونهى عن بيع المضامين والملاقيح؛ لما تتضمنه هذه البيوع من غرر وجهالة.

شرح حديث: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر)

شرح حديث: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: [وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر) رواه أحمد وأشار إلى أن الصواب وقفه] . في نهاية هذا الباب الطويل باب البيوع، وهو الباب الذي تقوم عليه المعاملات، وتنبني عليه -فيما يقال- صحة العبادات، وذلك حينما يتحرى الإنسان في بيعه وشرائه الحلال، ويتغذى بالحلال، فإن الله طيب، ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإذا كان مطعمه بالعكس فكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) ، فالمطعم الحلال من أسباب استجابة الدعوة وقبول العمل، بل جاء في الحديث: (كل لقمة ينبت منها دم ولحم وعظم، فما نبت من الحرام فالنار أولى به) ، ولهذا عظم شأن هذا الباب وهو باب البيوع لمعرفة الحلال والحرام؛ لأنه قل من يستغني عن بيع طعام أو شرائه، وبيع كساء أو شرائه، وبيع شراب أو شرائه، وكل ذلك يتوقف على معرفة أحكام البيوع.

النهي عن بيع السمك في الماء

النهي عن بيع السمك في الماء في نهاية أنواع الغرر يذكر لنا المؤلف رحمه الله: النهي عن بيع السمك في الماء، والفقهاء يتفقون على أن السمك في الماء والطير في الهواء لا يجوز بيعهما وإن كان مشاهداً؛ لأنه في الغالب معجوز عن تسليمه، وقد يكون للجهالة، ولكن الفقهاء يفصلون تفصيلات يمكن تطبيقها، فالسمك في الماء له حالتان: حالة يكون فيها الماء كثيراً غزيراً مستبحراً لا يستطيع صاحبه أن يسلمه، هذا إذا كان مملوكاً له في حوض، أما إذا كان في النهر، أو في البحر، فهو لا يملكه حتى يبيعه، وإنما يملكه إذا اصطاده وكان في يده، ولو قال له وهم يشاهدون الأسماك في الماء: اختر السمكة التي تريد وأنا أبيعها عليك، وأصطادها، وأعطيك إياها، فهذا لا يصح. وجانب آخر وهو ما يقوله الشرّاح: أن الماء يغيّر الحجم؛ فإما أن يزيد في حجم العين إذا كانت في الماء، وإما أن يقلل من حجمها، وهذا مشاهد، وسبب ذلك: زاوية الضوء المسلطة على الماء، فقالوا: بيع السمك في الماء يعتريه الغرر من جهتين: جهة عدم القدرة على تقدير حجمه في رؤية العين، وجهة عدم القدرة على تسليمه. لكن تنص كتب الحنابلة: أن الماء إذا كان قليلاً والحوض صغيراً، ويمكن أن يلتقط السمكة التي تختارها أنت، وهذا قد يكون في الإمكان، كما لو كان الحوض مثلاً مترين في مترين في عمق متر، والأسماك تتحرك فيه، إن سلم من الكبر والصغر، أو كان له الخيار وعيّن سمكة بعينها لا تختلط مع غيرها، فقد توجد أسماك -مثلاً- تأخذ اللون الأحمر، وأسماك تأخذ اللون الأصفر، وأسماك تأخذ اللون الأسود أو الأبيض وهكذا، فعيّن سمكة تختلف مع السمك الآخر، وقال: أريد هذه السمكة الحمراء، فاصطادها، وأخذها بشبكة صغيرة، أو بقفص وأحضرها إليه، فإذا أحضرها إليه وكانت على المقدار الذي قدره لها وهي في الماء فالحمد لله، وإن وجد في الأمر اختلافاً حيث أنه كان يراها في الماء كبيرة، ولما طلعت من الماء فإذا بها صغيرة، فله خيار النقض: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء ردها إلى الماء. إذاً: بيع السمك في الماء ممنوع لسببين: لاختلاف الحجم وفيه الغرر، وللعجز عن تسليمه ففيه أيضاً الغرر، فلا يجوز، وإذا أمكن انتفاء الغرر؛ بأن كان يمكن أخذها بسهولة، ولا تختلط مع غيرها، ويكون له الخيار إذا وجدها على خلاف ما كان يُقدِّر، وبهذا يكون البيع لا غرر فيه ولا ضرر على أحدهما، فلا بأس به.

النهي عن بيع الطير في الهواء

النهي عن بيع الطير في الهواء وكذلك يقولون في الطير في الهواء، فهواة تربية الحمام يطلقون الحمام وفي الليل يأوي إلى مكانه، فإذا جاء إنسان ورأى حماماً لشخص ورأى فيه أنواعاً فأعجبه منها نوع، فقال: يا فلان! بكم تبيعني هذا النوع؟ -وهو في الهواء- فهل يجوز له أن يبيعه وهو في الهواء؟ قالوا: إن عرف أوصافه، وتأكد من حالاته، وباعه على أنه إذا جاء المساء يأخذه من مبيته ويسلمه للمشتري؛ فلا مانع في ذلك، أما الطير في الهواء الذي لا يملكه، كما لو كانوا جالسين ومر سرب من الطيور، فقال: أبيعك عشرة من هذه الطيور، فلا يصح هذا البيع؛ لأنه لا يملكه، ولا يستطيع أن يأخذه ويعطيه للمشتري، فهذا البيع منهي عنه قولاً واحداً، أما طير يملكه هو ويأوي إلى مبيته، ويعلم أنه يرجع في الوقت الفلاني، ويتعين بلونه وشكله في الهواء، ولا يختلط بغيره فيقع النزاع، فإذا عرفت تميز الحمامة التي يريد شراءها أو الزوج الذي يريد شراءه وتأجل التسليم إلى الليل حتى يأوي الحمام إلى المبيت، فلا مانع في ذلك.

حكم بيع ما لا يقدر على تسليمه

حكم بيع ما لا يقدر على تسليمه وهكذا كل شيء مجهول أو معجوز عن تسليمه، وقد سبق أن أشرنا إلى المال المغصوب: كإنسان غصب من إنسان سيارة أو فرساً، ولا يقدر المغصوب منه أن ينتزع ماله من غاصبه ويسلمه للمشتري، فلا يصح بيعه، فلو جاء إنسان وقال: أنا قادر على أن آخذ المغصوب من غاصبه، فبعه عليّ، فباعه عليه، فذهب المشتري لأخذه، فإن قدر على إخراجه من يد الغاصب تم البيع، وإن عجز فإنه يرجع على المالك، ويسترجع الثمن، ولكن إذا باعه على نفس الغاصب فإنه يصح؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد، فهو في يده ومتمكن منه. وهكذا لو كان لإنسان -مثلاً- بضاعة في سفينة، والسفينة في البحر، ولا يدري ما هي النتيجة، فلا يحق له أن يبيع ما على ظهر هذه السفينة ولو كان ملكه؛ لأنه إلى الآن لا يستطيع أن يسلمه، ولا يتمكن من ذلك، وقد اشتراه ولم يقبضه، إلا إذا كان له هناك وكيل يستلم عنه من الشركة التي اشترى منها، ولو كان الوكيل من شركات التأمين كالتأمين البحري؛ لأن شركات التأمين التجاري البحري تقوم مقام الوكيل عن الأصيل في الشراء، فهو اشترى وبقي الاستلام والشحن والمجيء إلى ميناء بلده، فشركه التأمين التجارية تقوم عنه بالوكالة، فتستلم السلعة من الشركة التي تبيع، أو من المصنع الذي ينتج، وتتولى شحنها في أوعية تناسبها، ثم تتعاقد مع الباخرة التي توصلها إلى ميناء بلد المشتري، أي: المؤمِّن، وعليها أن تنظر الباخرة التي ستنقلها أهي صالحة للإبحار في تلك المحيطات أم لا؟ وكذلك اليوم الذي ستبحر فيه أهو يوم صالح للإبحار أم فيه عواصف وزوابع؟ فهي مسئولة عن هذا كله، ولهذا لو تلفت البضاعة بسبب تفريطها في نوعية السفينة التي تبحر بها، أو في اليوم الذي يسمح لها بالإبحار؛ كانت ضامنة لما تلف بسبب تفريطها. فإذا كان له وكيل يستلم؛ فاستلام الوكيل كاستلام الأصيل، فإذا جاءت إلى الميناء ووضعت في مستودعات الجمارك باسمه، فله أن يبيع منها؛ لأنها في ملكه، وعلى اسمه، وفي مستودعات عامة، وليس مستودع تاجر يشتري منه، ولكن مستودعات مؤمنة لجميع التجار، وكل بضاعة وصلت هناك فهي باسم صاحبها. فإذا عجز عن تسليم السلعة في أية حالة من الحالات فلا يجوز بيعها، وكذلك لو لم يستقر ملكه عليها، كما تقدم في قسمة المغانم، وقسمة الصدقات، فهو له حظ في الغنيمة، ولكن كم؟ لا ندري، وما نوعيته؟ لا ندري، فله حق ثابت، ولكن لا يستقر له هذا الحق إلا بامتلاكه وقبضه، وكذلك الصدقات، له سهم في الصدقة وجاءت الصدقات، وعرف له سهم كذا، ولكن لا يستقر ملكه للصدقة حتى يقبضها، وكذلك الهبة، كإنسان وهب إنساناً شيئاً ولم يستلمه؛ فلا يحق له أن يبيعه؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض. والخلاصة: أنه إذا استوفى الشروط: بأن كان مملوكاً للبائع ملكاً تاماً، وكان يقدر على تسليمه، وكان معلوماً لا غرر فيه؛ صح البيع، وما عدا ذلك فلا.

شرح حديث النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم

شرح حديث النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع) رواه الطبراني في الأوسط، والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لـ عكرمة، وأخرجه أيضاً موقوفاً على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي] . هذه عدة أشياء -سواء صح السند هنا أو لم يصح- جاءت فيها أحاديث مفردة في كل نوع منها، وكلها تدور في حلقة الغرر.

النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم

النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم الأول: النهي عن بيع الثمرة حتى تُطعم، ومعنى تطعم: يمكن أكلها لمتوسط الحال من الناس، فمثلاً: ثمر النخل، متى تطعم عند متوسط الناس؟ يمكن أن بعض الناس يأكل الثمر وهو أخضر، ولكن بعض الناس لا يطيق أكله ولا يقبل ذلك، فلا ينظر إلا لمتوسط الناس في حالة القبول والرفض، وكذلك ثمرة الرمان إذا كان لا يزال صغيراً وحامضاً فيمكن أن بعض الناس إذا كان جائعاً أو محتاجاً فإنه يأكله وهو فج لم ينضج بعد، وبعض الناس لا يأكله إلا في غاية منتهى النضج، إذاً لا ننظر إلى هذا ولا إلى ذاك، ولكن إلى أوسط الناس. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم تفصيل في نوعية الثمرة يرفع هذا الخلاف، فقد جاء في الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ثمرة النخل حتى تصفر أو تحمر،) وجاء: (تصفار أو تحمار) ، على وزن: تفعال، وهذا يعني أنه بدأ اللون وهو في طريق الزيادة، (ونهى عن بيع العنب حتى يتموه حلواً) ، (يتموه) أي: يجري الماء في الحبة، وقبل أن يجري الماء في حبة العنب يقال له: حصرم، فالحصرم عبارة عن جرم لا ماء فيه، مثل الليمون في أول ظهور الثمرة فإنه يكون كتلة من الخضرة ليس فيها ماء، فكذلك العنب في أول طلوعه يكون كتلة من الخضرة لا ماء فيها، فإذا بدأ الماء يجري في حبة العنب وتموه ووجد فيها الماء، وصار حلواً، وأيضاً الحلاوة على حسب متوسط الناس.

العلة في النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم

العلة في النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم فهذه مسائل زراعية أجرى الله سبحانه وتعالى -في العادة- أن يكون للأنواء وللنجوم تأثير على النبات في ثمرته وإنتاجه، فإذا صادف زرع النبات نجمه ووقته كان طيباً وأثمر ثمراً حسناً، وإذا فات نوءه فإنه قد لا يثمر بالكلية، وقد يهيج ويكون خضار وتكون أعشابه أو أغصانه ممتدة وطويلة ولكن لا توجد فيه الثمرة، وقد سمعت من خبير زراعي في المدينة هنا: أن رجلاً مر على أشخاص يزرعون الدباء، فقال لهم: لو انتظرتم إلى ما بعد الزوال، فإن الشمس تنزل في البرج الفلاني بعد زوال شمس هذا اليوم، فقالوا: ما الفرق؟ الآن ضحى، وبعد قليل زوال، واليوم واحد! فقال: علِّموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما تزرعونه بعد الزوال، وفعلاً علِّموا فكانت النتيجة أن ما زرع بعد الزوال كان إنتاجه أضعاف إنتاج ما كان قبل الزوال. والكثيرون يعرفون أن بعض النباتات إذا زرعت في وقتها أنتجت وأخصبت وكانت ثمرتها جيدة طيبة، وإذا لم تكن في وقتها صارت شكلاً أخضر لا شيء فيها. ويراد بالنجم هنا: الثريا، فإذا طلعت الثريا -بإذن الله- أمنت الثمار الآفة، والثمار تعتريها الآفات، والآن معروف عند وزارة الصحة العديد من الآفات التي تعتري الخضروات، وتعتري الزروع، ولها عندهم دوائر خاصة تسمى: دوائر الرش، فإذا طلع نجم الثريا فإن الآفات -بإذن الله- لا تصيب الزروع، وقبل ذلك يمكن أن تصيبها، فجاءت الأحاديث: (حتى يطلع النجم وتؤمن الآفة) . فلا يجوز بيع الثمار حتى يمكن أن يطعم ويصلح للأكل؛ لأنك إذا اشتريته قبل أن يصلح للأكل ماذا ستصنع به؟ فإن كنت تشتريه وتجزه علفاً للدواب فلا مانع، فقد أصبح علفاً وليس بثمرة، وإن كنت تشتريه وتبقيه في أصله حتى يصلح للأكل فهذا غرر على البائع؛ لأنك عطلت شجره، وعطلت أرضه حتى تطيب الثمرة، وأنت اشتريتها فجاً بثمن ناقص، وحينما تكون ثمرة ناضجة فلها ثمن آخر، فأنت استغليت حالة البائع واستفدت منه ما لم يسمح به، فهنا لا تباع الثمرة حتى تطعم، وهذا معروف الآن في بيع الصيف، فقالوا: حتى يَتَمَوّه العنب، وحتى تصفار أو تحمار الثمرة في النخيل، وهنا هل شرط الاحمرار والاصفرار وأمن العاهة في جميع أفراد نخيل البستان، أم أنه إذا ظهر في البستان صلاح مائتين أو ثلاثمائة نخلة، باحمرار وباصفرار، وبقيت عشر أو خمس عشرة أو عشرون نخلة يجوز البيع، أم ننتظر حتى يظهر ذلك في جميع النخل؟ يتفق العلماء على أننا نكتفي بظهور ذلك في بعض النخيل، وقد تظهر في بعض النخلات عشر أو عشرون حبة في كل عشر حبات، وقد يكون بدأ ظهور الصلاح في احمرارها أو في اصفرارها، والبعض يقول: إذا وجد الصلاح في المنطقة بستان جاز بيع جميع البساتين، وهذا غير صحيح؛ لأن البساتين تختلف في سرعة نضج ثمرتها باختلاف التربة والماء، فقد تظهر باكورة الثمرة في بستان، وبعد أيام عديدة تظهر في بستان آخر مجاور له، والفرق بينهما خصوبة التربة وحلاوة الماء. وقد كانوا إذا ظهرت الثمرة في المدينة -أياً كان نوعها- يبادرون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، علماً منهم بأنه يفرح لما يأتيهم من الخير، وأنت الآن إذا وجدت باكورة ثمرة عندك فأين تذهب بها؟ أتأكلها؟ لا ترضى أن تأكلها؛ لأنك تحب أن تريها أحبابك وأصدقاءك كبشرى، فلذة ذلك عندك أحسن مما لو أكلتها، أو تقدمها لمن تحب، أو أعز الناس عندك، فكانوا يقدمونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يفعل بها؟ كان ينظر إلى أصغر موجود في الجمع من الأطفال والأولاد أو من الغلمان ويعطيه إياها، فهم أتوا بها ليفرحوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يعطيها الصبي ليفرح بها، فكان أمراً متداولاً ومعروفاً في المدينة. إذاً: أي ثمرة وصلت في النضج إلى حد أنها تطعم، فلا بأس ببيعها، والتعبير هنا بقوله: (تطعم) فيه إعجاز، فلم يقل: حتى تؤكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا بعد كمال النضج، لكن المراد حتى تصلح لأن تطعم، أي: للطعم والتذوق، فمثلاً: المانجو حينما تكون خضراء فجاً لا تصلح حتى للطعم فضلاً عن الأكل، لكن إذا بدأت في النضج فيمكن للإنسان أن يطعمها وأن يأكلها، وكذلك البرتقال في أول أمره لا يمكن أن تأكل منه ولا أن تطعمه. فقوله: (حتى تطعم) أي: حتى يبدأ فيها الصلاح ويمكن ذوق طعمها، فحينئذ يجوز البيع، ولا يختص ذلك بالنخيل والعنب، وإنما جاء ذكر النخيل والعنب في الحديث لوجوده في المدينة، وإنما ذكر اللون الأحمر والأصفر بقوله: (تحمر أو تصفر) ؛ لأن ثمرة النخلة قبل الاحمرار والاصفرار لون واحد وكله أخضر، ثم يتميز بعد ذلك بالقدرة الإلهية، وهكذا جميع الثمار في العالم دونما تحديد، وما يستجد من ثمار ملقحة أو مهجنة أو أي صفة من الصفات، فلا يجوز بيعها على الشجر كثمر إلا بعد أن تطعم، وذلك في البيع جملة، أما إذا كانت كثيرة فكما يقول الفلاحون: يخصيها أو يخففها من أجل أن تزيد الثمرة نضجاً. ففي النخيل: إذا كانت النخلة جيدة، والتربة خصبة، والماء عذباً؛ فإنها تحمل الشيء الكثير، ولو تركت وكثرتها لأفسد بعضه بعضاً، وربما يستقيم العرق أو العرجون على البلحة الصغيرة فيفسد بعضه بعضاً، فيأتون ويخففون، إما بعض العروش، من الجنى، وإما بعض الحبات من العروش وهذا أحسن، فتكون الحبات متفرقة فتأخذ الثمرة مجالها وتكبر وتنضج وتصير ضعف ما لو تركت مع غيرها، فكانوا ينزلون هذا النوع المخفف إلى السوق ويباع كيلاً بالصاع علفاً للدواب، فلا مانع في مثل هذا أن يباع؛ لأنه ليس مقصوداً منه أن يطعم، وإنما المقصود منه أن يكون علفاً للدواب، فهو يباع على أنه علف. إذاً: القاعدة العامة في بيع الثمار في البساتين على أصولها: لا تباع إلا إذا وصلت إلى حد النضج الذي يمكن فيه أن تطعم.

حكم بيع الثمر قبل نضجة إذا كان تابعا لبيع البستان

حكم بيع الثمر قبل نضجة إذا كان تابعاً لبيع البستان وإذا جاء إنسان إلى بستان ووجد النخل قد أُبر والثمرة قد طلعت في صربان أخضر لا احمرار ولا اصفرار، وأراد شراء البستان بكامله، أي: الأرض بالنخل بما عليها، فهل يصح هذا البيع أم لا؟ نقول: يصح؛ لأن بيع هذه الثمرة ليس بيعاً مستقلاً، ولكنه تابع للنخلة، وهو مثل بيع اللبن في الضرع، فإذا اشترى الناقة وفي ضرعها حليب، فهل نقول: لا يجوز حتى نحلبها، أم أنه يجوز بيعها بحليبها في ضرعها؟! يجوز؛ لأن الحليب في الضرع تابع للناقة، وهكذا ما نهي عن بيعه منفرداً جاز مع أصله تابعاً. إذاً: نهى عن بيع الثمر حتى يطعم، وهذه -كما أشرنا- عامة في جميع أنواع الثمار.

النهي عن بيع الصوف على الظهر

النهي عن بيع الصوف على الظهر قال: (ولا يباع صوف على ظهر) . والوبر والشعر على الظهر داخل في هذا؛ لأن الغرض المثال في الجنس، والغاية من النهي: الغرر، فما يوجد من غرر في صوف على ظهر الغنم موجود في وبر على ظهر الإبل؛ وشعر على ظهر الماعز، ولكن بعض العلماء نظر في موضوع الصوف وأمثاله، فإذا جئنا إلى قطيع من الغنم وعليه الصوف، فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، فصاحب الغنم وجد الصوف قد زاد عن حده على ظهور الغنم، وبقاء الصوف الزائد عن حده على ظهر الغنم يضعف الغنم؛ لأنه يمتص غذاءها ويثقلها، فيريد أن يتخلص من هذا الصوف، فالطريقة المثلى: أن يأتي بمن يجز هذا الصوف ويجمعه في كوم أو يضعه في أكياس، ويعرضه على التجار ليشتروا هذا الصوف ويذهبوا به إلى الغزل أو إلى النسيج، فهذا طريق لا غبار عليه. ولكن إذا قال: أنا إذا جززت الصوف وبقي عندي في أكياسه، فماذا أفعل به؟ وإذا لم يأت التاجر فماذا أفعل به؟ إذاً: سأذهب وآتي بتاجر ونقدر الصوف على ظهور الغنم ونتفق على البيع، فهل يجوز هذا؟ هناك من يقول: إذا وجد من أرباب الخبرة من يقدر الصوف على الظهر قبل جزه، ووقع البيع على هذا المرئي المشاهد فلا مانع، ويتناول الحديث من جهة السند، ويقولون: ليس هناك ما يمنع، وقاعدة البيع هي: المنع من الغرر، فإذا كان المشتري خبيراً وكذلك البائع حتى لا يخدع، وعرف الطرفان كم يجز من عشرة رءوس من الغنم، كأن يجز منها خمسون أو مائة كيلو وتبايعا على الصوف الموجود، وخلى بينه وبين الأغنام، فيجز صوفها ويأخذه. والمانعون يقولون -لكنه تصوير عجيب-: إذا اشترى الصوف على الظهر وجاء يجزه، فمن أين سيجز الصوف؟ فهل يترك (3سم) من أسفل ويقص، أم يترك (5سم) ، أم يترك (1مم) ؟ فقالوا: في هذا غرر، ولا ندري كم سيأخذ وكم سيترك؟! وهذا ما له محل؛ لأن جز الصوف معروف عند الناس، ولهم مقص معين، وطريقة معروفة، والآن تطوروا وصاروا يجزونه بالمكينة، وهي مثل المكينة التي تقص شعر رأس الإنسان لكنها كبيرة، وعلى بطارية، وتجز شعر الغنم والماعز وغيرها. فإذا كان سائداً ومعروفاً في العرف أن الذي يجز الصوف يجزه من الموطن الفلاني، ويترك (1سم) ، أو يترك (½سم) ، أو نحو ذلك، وهذا الأمر صار متعارفاً عليه، وبهذا ينتفي الغرر، وإن كانت هناك طرائق متفاوتة في تحديد القص، فيجب تعيين الطريقة ومقدارها، وبهذا ينتفي الغرر في مقدار الصوف الذي سيتركه. إذاً: إذا علم المقدار، وانتفى الغرر، فهناك من يقول بجوازه، والله تعالى أعلم.

النهي عن بيع اللبن في الضرع

النهي عن بيع اللبن في الضرع قال: (ولا لبن في ضرع) . هذا تقدم الكلام عليه، وأنه لا يجوز؛ لأننا لا نعلم كم مقدار اللبن في هذا الضرع، والضروع تختلف أحجامها، فهناك الضرع متين اللحم يظهر فيه القليل كثيراً، وهناك الضرع رقيق اللحم يظهر الكثير فيه قليلاً، إذاً: هناك غرر محقق.

حكم بيع المغيب في الأرض

حكم بيع المغيب في الأرض وفي هذا الحديث يتوسع الفقهاء فيما يتعلق بحالة الفلاح، والفلاح قد يحتاج في ظروف ما إلى بيع نتاجه، فإما أن نقول فيها بالتسامح، وأنه من الغرر المعروف الذي يقبله الطرفان، ويأتي ذلك في بيع ما كان مقصوده في باطن الأرض، كالجزر والبصل والثوم والقلقاس والبطاط، فإن المقصود منها يكون فيما هو في بطن الأرض. فإذا كان عند إنسان حقل من الجزر، فلو أخذ في كل يوم حوضاً من الحقل بقدر ما يستطيع، وقلعه وغسله وذهب به إلى السوق وباعه عياناً للناس، فالحمد لله، وهذا من أحسن ما يكون، ولكنه أراد أن يبيعه مرة واحدة ويرتاح من عناء السوق والذهاب والإياب، فأتى بتاجر ونظر في الحقل -مع أنه لا يرى المقصود شراؤه؛ لأنه في بطن الأرض- فاتفقا على البيع والشراء، فهل يجوز هذا؟ الذين يمنعون بيع الصوف على الظهر واللبن في الضرع يمنعون هذا؛ لأن هذا مجهول، والذين أباحوا البيع قالوا: يباع على الأنموذج، ومعنى الأنموذج: أن يأتي التاجر إلى الحوض الذي فيه الجزر، والثمرة في الحوض الواحد قد تختلف لاختلاف قربها من الماء، فما كان قريباً من الماء وتطول مدة سقيه فإن ثمره سيكون أجود وأكثر، فالتاجر يأتي إلى مدخل الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -وهذا هو النموذج- ويذهب إلى طرف الحوض الآخر ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثانياً- ويأتي إلى وسط الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثالثاً- فإذا أخذ العينة من الأماكن الثلاثة استطاع أن يعمل نسبة متوسطة بين النماذج الثلاثة، وكم سيخرج من هذا الحوض عند قلعه؟ قنطار أو قنطاران أو نصف قنطار، ويخرجه في يوم واحد أو في يومين أو في ثلاثة، بشرط ألا يخرج من الأرض ما يداخل الموجود عند العقد، وأكثر تفصيل هذا المسألة عند المالكية والحنابلة. فإذا تم معرفة مقدار المغيب في بطن الأرض برؤية النماذج، وقد صلح أكله -أما إذا لم ينضج فلا؛ لوجود الغرر- ويكون البيع على ذلك، وقد نص بعض الفقهاء -وخاصة الحنابلة- على جواز بيع مثل هذه الصورة، وكذلك بقية ما كان غائبه مطلوباً، فمن أجازه قال: انتفى الغرر نسبياً، ومن منعه قال: لا يخلو من الغرر، ولا يمكن لأي بيع في العالم أن يسلم من الغرر. وما هو السبب في فرق الربح والخسارة؟ التاجر يشتريها بمائة ويبيعها بمائة وعشرة، فهذه العشرة يدفعها المستهلك وهي غرر عليه، لكنه لا بد من هذا الغرر البسيط، والتسامح فيه من أجل رواج السلع، وقد أشرنا إلى مسألة الثلاثة الذين يدخلون الحمام، فواحد يستهلك خمسة لتر، وواحد يستهلك عشرة لتر، والأجرة واحدة. وكذلك: ثلاثة يركبون الطائرة، فواحد وزنه مائة وخمسون كيلو، وواحد وزنه ستون كيلو، وسعر تذكرة كل واحد مساوٍ للآخر، وهذا فيه غرر على شركة الطيران، ولكن يتسامح في هذا. إذاً: هناك أمور من الغرر لا بد من التسامح فيها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث النهي عن بيع المضامين والملاقيح

شرح حديث النهي عن بيع المضامين والملاقيح [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح) رواه البزار وفي إسناده ضعف] .

معنى بيع المضامين والنهي عنه

معنى بيع المضامين والنهي عنه في نهاية هذا الباب الطويل يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح، وقد فسرها العلماء بأن المضامين هي: الحمل ضمن بطن الأم، وقد تقدم النهي عن مثل هذا في النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام حتى تضع، وكذلك هنا كل ما كان مغيباً مضمناً في غيره مجهولاً فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه، أصالة في الأجنة في البطون، وتبعاً لكل ما هو على هذا المنوال، وقد ذكرنا سابقاً: لو أن إنساناً أتى بصناديق وبعلب وقال: فيها كذا، وسأبيع ما فيها دون أن نفتح العلبة، أو نرى مضمونها، أو نفتش ما فيها، فلا يجوز هذا البيع؛ لأن فيه غرراً.

معنى بيع الملاقيح والنهي عنه

معنى بيع الملاقيح والنهي عنه والملاقيح، يقولون: إنها من التلقيح، والتلقيح -وهو في النخل التأبير- هو: إضافة طلع الفحل إلى النخلة، وكذلك في جميع الحيوانات: إضافة ماء الذكور إلى ماء الإناث، فتتلقح الأنثى من ماء الذكر، فالتلقيح والملاقيح من اللقاح، واللقاح يكون من جانب الذكر، فإذا كان هناك فحل نجيب يرغب الناس في نسله وسلالته، فجاء إنسان لصاحبه وقال: أشتري منك لقاح هذا الفحل، فهذا لا يجوز؛ لأنه ليس كل لقاح يكون منه إنتاج، ثم لا يدرى متى يأتي هذا اللقاح، وإذا لقح الأنثى كيف يكون هذا النتاج؟ وكل ذلك يجري في مجرى الغرر كما تقدم في أول الباب. وهناك ناحية تدخل في هذا الباب، وهي ما إذا كان لدى إنسان أنثى من بهيمة الأنعام، وهناك فحل من فحول هذا الجنس عريق السلالة، ورغب في لقاح هذا الفحل، فذهب بالأنثى التي عنده ليلقحها من ذلك الفحل، فهل يشتري لقاح الفحل؟! نقول: نهى صلى الله عليه وسلم عن ضراب الفحل) ، ولكن إذا كان صاحب الأنثى راغباً في تحسين نسل أنثاه فإن له أن يكارم، كما قال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن ضراب الفحل: (يا رسول الله! إنا نكارم على ذلك) ، أي: يأتي صاحب الأنثى وعندنا الذكر فنطلقه عليها يلقحها، فيكارموننا على ذلك، أي: يعطوننا شيئاً مكرمة وليس مشارطة، وليس بيعاً ولا شراءً، حتى قال بعض العلماء: ربما يأتون بالعلف لهذا الفحل مقابل هذا الجهد الذي بذله وتلقحت به الأنثى، فمثل هذا العمل لا بأس به، ما دام أنه على سبيل الهدية والمكارمة، وليس على سبيل البيع والمشارطة، ولا تقل: أشتري ضراب فحلك بكذا، أو تلقيحه للأنثى عندي بكذا، ولكن اتركه عليها أو أطلقه عليها، فلا بأس. وقد ذكر عن مالك رحمه الله: أن لصاحب الإبل أن يستأجر الجمل الجيد الذي يرغب في سلالته يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً يسرح مع إبله، ويلقح ما تيسر له، فلا مانع في مثل ذلك. واستنجاب النسل أمر معروف ومرغوب، وقد كان من عادات أهل الجاهلية السيئة -وقد قضي عليها والحمد لله- أن الرجل إذا أحب أن يكون له ولدا فارسا أو شاعرا أو كريما، فإنه ينظر من يتصف بذلك من قومه أو من غيرهم، فيرسل زوجته -بعد أن تطهر من حيضتها ولا يمسها- إلى ذلك الرجل، وتبقى عنده إلى أن تشعر بأنها قد حملت، فتعود إلى زوجها ويعاشرها الحياة العادية، فتنجب على فراشه، ويكون أصل الإنجاب وأصل التلقيح من ذلك الرجل، فيخرج الولد مشابهاً لأبيه في الشجاعة أو الفصاحة والبلاغة أو الحكمة أوالكرم، أو الشعر وكانوا يسمون هذا الفعل: نكاح الاستبضاع. تقول عائشة رضي الله تعالى عنها في هذا: (كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء) أي: أربع صفات، وذكرت هذا منها، ومنها: أن تخطب المرأة من وليها فيصدقها الخاطب ويتزوجها، أي: مثل النكاح الذي عندنا اليوم، فألغى الإسلام كل تلك الأنواع وأبقى النكاح بخطبة المرأة من وليها ويمهرها صداقها ويدخل عليها وينفرد بها.

النطف المجمدة والتلقيح الصناعي

النطف المجمدة والتلقيح الصناعي والآن يوجد في جميع وزارات الزراعة والمؤسسات الكبرى استجلاب النطف المجمدة، وهو ما يسمى: بالتلقيح الصناعي، والتلقيح الصناعي كان يجري حتى على بني الإنسان، وكانت ترتكب فيه الجرائم، ونقابات الأطباء تجرم كل طبيب أجرى عملية تلقيح صناعي لامرأة بماء غير زوجها، ويقولون: إن هذه جناية، فالمؤسسات تأتي بلقاحات لفصائل فارهة، سواء كانت من ذات اللحم، أو من ذات الجري، أو القوة، فيأتون بها محفوظة بطريقتهم الخاصة، ثم يلقحون الإناث من تلك الأجناس بتلك اللقاحات المشهورة، أو المعروفة، أو المرغوب فيها، فيأتي النتاج مهجناً، ويأتي على حسب أصالة ورفاهة الأصل الذي أخذت منه النطف ولقحت به الإناث. فالملاقيح لا يجوز بيعها، ولكن يجوز المكارمة عليها، ولا يجوز نقل نطفة بالنسبة للإنسان عن طريق التلقيح الصناعي، ولا بأس في الحيوان؛ لأن الحيوان ليست له محارم وليس له سلالة نسب، فإنه كلما كان فيه من إصلاح النوعية وتحسينها كان أفضل، ولا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب الخيار

كتاب البيوع - باب الخيار المعاملات في الإسلام مبنية على عقود، والعقود عادة إنما تتم بالإقرار والموافقة، ومن هذه العقود عقود البيع إذ تدخل تحت هذا، إلا أنه من سماحة هذا الدين أن أجاز لمن رأى التراجع عن بيعه أن ينقضه برضا الطرف الثاني عن طريق الإقالة، وهذا مبني على التسامح.

شرح حديث: (من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته)

شرح حديث: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم] . قبل البدء في شرح هذا الحديث ننبه إلى موضوع التلقيح الاصطناعي؛ لأنه ربما يدخل في الشجر عن طريق التطعيم، كأن تكون شجرتين متجاورتين ومن فصيلة واحدة كالأملاح، فيؤخذ غصن من هذه، ويضبب ويجرح، مع غصن من هذه يضبب ويجرح، ثم تدبس الضبتان معاً ويوضع عليها الطين، وتلف بالخرق، ثم يوالى عليهما صب الماء، ثم هاذان الغصنان سينبت منهما جذور جديدة، ثم تفصل هذه الأغصان وتزرع من جديد كشتلة، فتأتي الثمرة جامعة بين خصائص الشجرتين، فمثلاً: ما يسمى بيوسف أفندي هو من برتقال وليمون، وهذا نوع من تلقيح شجرة بشجرة. على كل: هذا باب واسع في مجاله، والذي يهمنا النهي عن بيع الملاقيح، ولكن يجوز أن يكارم صاحبه عليه. انتقل المؤلف رحمه الله إلى حديث خاتمة الباب، وهو نعم الخاتمة، وهو يأتي على جميع صور البيع، وعلى جميع العقود اللازمة، ما عدا ما يدخل فيه المحرمات كالنكاح والطلاق، وذكر هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) ، هنا قيد (المسلم) ، وفي رواية: (من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة) .

تعريف الإقالة وصورتها

تعريف الإقالة وصورتها الإقالة هي المسامحة والرفع، تقول: أقلني من العقد. أي: سامحني فيه وارفعه عني. وهذه من أحسن مكارم الأخلاق بين المتبايعين، وتدل على كرم النفس والسماحة، والتماس العذر وقبوله من الأخوة، وهي معروفة قبل الإسلام وفي الأمم الماضية، وقد جاء عن نبي الله داود عليه السلام حينما أوحى الله إليه: أن ابنِ لي بيتاً في بيت المقدس، وأراه المكان الذي يبني فيه البيت -أو المسجد- وكان الموضع ملكاً لرجل من بني إسرائيل فاستدعاه، وقال له: ثامني على هذا الحوش؛ لأبني فيه بيتاً للرب سبحانه. قال: اشتر. فقال: بمائة ألف. قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض أحسن أم الثمن؟ قال: استنصحتني؛ الأرض أحسن. قال: أقلني. قال: أقلتك. قال: اشتر. قال: بمائتي ألف. قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك: الأرض أم الثمن. قال: الأرض. قال: أقلني. خمس مرات. يهمنا في هذا الخبر: أنه طلب من نبي الله أن يقيله فأقاله، وفي الخبر: النصح لله ولعامة المسلمين، وهذا نبي معصوم من الغش، فنصح للرجل بالحق، ولو كان ذلك على نفسه هو؛ حتى ارتفع السعر خمسة أضعاف، وذلك نتيجة النصح والصدق، أخيراً لما تعب داود عليه السلام من الرجل قال له: سم ما شئت أعطه لك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأه علي إبلاً وبقراً وغنماً. قال: قبلت. ودعا بني إسرائيل ليجمعوا في الحوش من تلك الأنعام حتى ملئوه. يهمنا في هذا وجود عنصر الإقالة، وصورة الإقالة كما أشارت رواية الحديث الأخرى: (من أقال نادماً) : رجل اشترى السلعة برغبة منه، ثم بعد ذلك بدا له أمر وندم على شرائها، قد يكون كطلبة العلم، يرى الكتاب في المكتبة فيعجبه، ثم يرجع إلى مكتبه ليضعه ضمن الكتب فيجده موجوداً عنده، وكثيراً ما يقع هذا، فيرجع إلى صاحب المكتبة: أنا أخذت الكتاب فوجدته موجوداً عندي في المكتبة، وندمت على شرائه، تقيلني؟ فهنا إن كان صاحب المكتبة كريم النفس، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يقيل عثرات الإخوان سيقول: لا عليك يا أخي، بكم أخذته مني؟ تفضل هذا ما دفعته، هذه هي الإقالة، وهي لا تتقيد بزمن.

جواز وقوع الإقالة من البائع والمشتري

جواز وقوع الإقالة من البائع والمشتري أصل المبحث في الإقالة هو حول نقطة أصولية هي: هل الإقالة بيع أم فسخ؟ إن قيل: إنها بيع فيجري فيها أحكام البيوع، وإن قيل: فسخ، فتجرى عليها أحكام الفسخ بأن يرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد: يأخذ المشتري الثمن الذي دفع، ويرد السلعة التي أخذ، أما إذا قلنا: إنها بيع، دخلتها المساومة أرد الكتاب؟ كم ستدفع؟ كم ستنزل من الثمن؟ أعطيك واحد في المائة ورد الباقي، أو البائع ندم وجاء إلى المشتري وقال: ندمت على بيعه لأنه ليس عندي غيره. أي: أن الندم قد يكون من البائع أو من المشتري، فكلٌ منهما قد يعتريه الندم، وقد يضطر إنسان أن يقدم سلعة للبيع لضرورة نزلت به، وهذه السلعة من ألزم ما تكون عليه، ثم يندم ويستعيض عنها ويريد أن يرجعها، كرجل اضطر إلى مال وليس عنده، فجاء لزوجه -وكانت خيرة- فقالت له: خذ، بع هذا. فأخذه على استحياء وانكسار نفس، كيف يحتاج ويمد يده إلى مال الزوجة، وهو الذي قد أعطاها إياه منحة من عنده؟ لكن للضرورات أحكام، فذهب وباع. بعد قليل جاء الله بالفرج من جانب آخر؛ فندم على بيع ما كان لا ينبغي أن يبيعه، فجاء إلى المشتري وقال: أنا ندمت، بعتك المصاغ في حالة اضطرار، والآن فرج الله الأمر، وأريد أن أرد المصاغ لأهله. إذاً: الندم جاء من البائع، كما أنه يأتي من المشتري، وحينئذ المشتري أيضاً يكون كريم النفس، طيب الأصل، ينظر إلى حاله، فيعذره في ندمه، ويقول: لا عليك رد القيمة، فيرد إليه كامل القيمة. الإقالة: هي رد المبيع واسترجاع الثمن، لكن ما حكمها المترتب عليها، هل هي بيع أم فسخ؟ إن قلنا: فسخ؛ فإن الأمر يرجع إلى ما قبل العقد، ولا يترتب عليها ما يترتب على البيع، فمثلاً: شخص له شقص في بيت فباعه، وكان الشريك غير راغب في الشفعة، وترك الشفعة وسقطت شفعته؛ لأنه لم يبادر إليها، ثم علم أن البائع الذي هو شريكه استقال المشتري واسترجع الشقص لملكه، فرجع شريكاً له مرة أخرى، ولو قلنا: الإقالة بيع، فللشريك أن يأخذها بالشفعة، وإن قلنا: فسخ، فليس له حق أن يقول: أنا آخذ الحصة بالشفعة، فنقول له: هذا فسخ للعقد، ورجعت الحصة إلى ما كانت عليه لصاحبها، فليس بيعاً. وإن كان طالب الإقالة المشتري، وجاء ليرد السلعة إلى صاحبها: بكم اشتريتها؟ بمائة، كم تسقط من الثمن؟ قال: عشرة في المائة أنت تأتي لترد والثاني والثالث يرد، ماذا أستفيد أنا؟ اشتريت بمائة أنا أقبل أن أرد لك السلعة وآخذ عشرة في المائة من قيمتها، إن قلنا: الإقالة فسخ فلا يحق له أخذ شيء، وما دفعه المشتري يأخذه كاملاً، وإن قلنا: بيع، فلا مانع من المساومة من جديد، كما لو كانت الإقالة من البائع: أنا بعتها عليك بمائة، ردها علي وأعطيك عشرة فوق المائة، فإذا قلنا: إن الإقالة بيع، جاز فيها الزيادة والنقص على سبيل المبايعات: مساومة ومزايدة ومناقصة، وإن قلنا: فسخ؛ فلا دخل للزيادة ولا للنقص فيها، وإن قلنا: إنها بيع دخل حق الشفعة للشفيع، وإن قلنا: إنها فسخ لا دخل للشريك بالشفاعة فيها. إن قلنا: إنها بيع، ووجد عيب لم نطلع عليه من قبل؛ فللمشتري عوض الأرش في العيب على أنه بيع، وإن قلنا: هي فسخ؛ فسلعتك ترجع إليك على ما كانت هي عليه.

شمول الإقالة لأبواب المعاملات

شمول الإقالة لأبواب المعاملات الرسول صلى الله عليه وسلم رَغّب في الإقالة وحث عليها؛ لبقاء الألفة والمودة والأخوة بين المتبايعين، وقد لا يخلو منها سوق من الأسواق، وكثير من الناس ربما يعرض له ما يجعله يرجع عن هذا العقد؛ فالذي ينبغي على المسلمين أن يراعوا هذا الحديث، وأن يعامل بعضهم بعضاً بهذا الإرفاق. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أقال الله عثرته) ، الجزاء من جنس العمل، والعثرة: هي ضربة اصطدام في حجر أو نحوه، يعثر قد يسقط ويجرح، ثم عممت في كل زلة وخطأ يرتكبه الرجل، يقال: هذه عثرة من فلان. أي: في هذا التصرف أو العمل أو الممشى، فلو أن إنساناً أخطأ عليك. كانت هذه زلة وعثرة، ثم جاء واعتذر إليك، عندها ينبغي أن تقيل عثرته وزلته وتقبل اعتذاره، وهذا من إقالة أخيك في ما ندم عليه، مما ارتكبه في حقك، وهكذا تدخل في كل العلاقات بين الأصدقاء والإخوان؛ لتبقى أصول المودة، وليست قاصرة على البيع والشراء، ولكن أصل البحث فيها في البيع والشراء لضمان الحقوق واسترجاعها، وقد تعمم بأكثر من ذلك لما بين الناس وبعضهم من الصلات. ومن أحسن ما ورد في باب إقالة العثرات: ما جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما مع محمد ابن الحنفية أخوه لأبيه، محمد ابن الحنفية أمه من بني حنيفة، والحسن بن علي أمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الخبر: كانا معاً في السوق، فحدث بينهما ما يقع بين الإخوة، وذهب كل منهما إلى بيته، فلما استقر محمد ابن الحنفية في بيته أخذ ورقة وكتب فيها: من محمد ابن الحنفية إلى الحسن بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى هذا الأسلوب، هو ابن علي، فلماذا لم يقل: محمد بن علي؟ هضم نفسه إلى أقصى حد وانتسب إلى الجارية، ونسب أخاه إلى أعلى حد بـ علي ابن عم رسول الله. وابن بنت رسول الله؛ لأنه في معرض التكريم والإصلاح. أما بعد: تعلم ما كان بيني وبينك في السوق، وقد رجعنا إلى بيوتنا، ولقد هممت بعد العودة أن آتيك وأستسمح منك، وأستقيلك ما كان مني، ولكني تذكرت مكانك من رسول الله - فهو ابن بنت رسول الله، وابن علي ابن عم رسول الله- فكرهت أن أكون بمجيئي صاحب فضل عليك، فإذا أتاك خطابي هذا فخذ ثيابك، وشد نعلك، وائتني أنت في بيتي ليكون لك الفضل علي. انظروا إلى مكارم الأخلاق! استكثر أن يكون له الفضل على الحسن بن علي ابن بنت رسول الله بأن يأتيه في بيته، هذا يد وفضيلة ومنة، قال: لا، أنا لست كفئاً أن تكون لي عليك يد ومنة وأنت ابن بنت رسول الله، وهذه المكرمة يجب أن تكون من ابن بنت رسول الله علي أنا، لأني أنا ابن الحنفية. إذاً: إقالة عثرات الإخوان تكون في كل الأمور. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار)

شرح حديث: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار) قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء سمع من رسول الله أو قال له رسول الله، بأي حالة من الحالات فـ ابن عمر يسند الخبر إلى رسول الله، يعني: أن هذا الخبر الذي سيأتينا به إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس من عنده ولا من عند صحابي آخر، بل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [ (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايع الرجلان) ] . (تبايعا) ، على وزن تفاعلا، من طرفين، مثل تشاجرا، تشاركا، تقاربا، وهي هنا صيغة من صيغ العقود، وفي علم البيان تصلح إنشاء وإخباراً، وكذلك حينما تقول: بعت الكتاب. فهي تصلح أن تكون إخباراً عن البيع الماضي، وتصلح أن تكون إنشاءً في البيع، كما لو جاء إنسان وقال: أريد هذا الكتاب؟ يقول: بعتك. فـ (بعتك) يمكن أن تكون إنشاء كلام وإنشاء حكم نسبي، ويمكن أن يكون إخباراً عن ماض، فإذا قال: (تبايعا) يعني تم البيع بينهما أو أخذا يتبايعان، والفرق بينهما: هو الذي سيأتي عليه مبنى الخلاف بين الأئمة رحمهم الله. فإذا قلنا: إذا تبايعا أخذا في المبايعة، تبايع الرجلان: تفاهما على البيع، وحصل الإيجاب والقبول، وتمت عناصر البيع. (الرجلان) هل الرجلان مفهوم صفة أم أنه مفهوم لقب؟ بمعنى يدخل فيه المرأتان أو رجل مع امرأة كذلك؟ المعنى: إذا تبايع المتبايعان رجلان، امرأتان، رجل وامرأة كل ذلك ما دام أنه في حيز التكليف والعقل والحرية وصحة التصرف والأهلية فهو داخل في: (إذا تبايع الرجلان) . ثم قال: [ (فكل واحد منهما بالخيار) ] . هما: ضمير مثنى، وعندنا اثنان فقط: البائع والمشتري، فكل واحد منهما بالخيار في البيع الذي أوقعاه، أي: من حق كل واحد منهما أن يقول لصاحبه: أنا رجعت عن البيع، والثاني يقول له: أنا رجعت عن الشراء، فكل واحد منهما بالخيار.

خيار المجلس

خيار المجلس وقوله: [ (ما لم يتفرقا وكانا جميعاً) ] . هذا يسمى خيار المجلس، فما داما مجتمعين وكانا في مجلس في السوق أو البيت ما عدا المسجد؛ لأن المسجد لا يصح فيه البيع والشراء، فإذا كانا في سيارة، طائرة، أوتوبيس، باخرة. في أي مكان يجمعهما وتبايعا فيه، فهما بالخيار ما لم يتفرقا، سواء كانا في الدكان، أو المعرض فتبايعا وأخذ المشتري سلعته وخرج، فقد افترقا عن مجلس العقد، فهنا لما افترقا فلا خيار، وإن كان المعرض كبيراً، وفيه عدة أصناف من السلع، وعند كل صنف بائع، فوقف عند هذا الصنف وتبايع مع المسئول فيه، وتم البيع، وأخذ سلعته، وذهب -في نفس المعرض- إلى الصنف الثاني؛ فقد افترقا عن محل عقد الصنف الأول. وهكذا يقول أحمد رحمه الله: الافتراق بين المتعاقدين في كل صورة بحسب العرف، فإن كانا في دكان صغير وخرج أحدهما من الباب فقد افترقا، إذا جاء راجعاً وقال: أنا رجعت. نقول له: ليس لك خيار، ثم ننظر: إن ادعيت موجباً آخر فنعم، أما لمجرد عدم الرغبة فهذا يكون ممتداً ما دمت معه في المجلس، فإذا فارقته وبعدت عنه فحينئذ افترقت، فليس لك حق الخيار في المجلس. إذا كانا في سفينة -كما يقول أحمد - وكانت صغيرة يكون التفرق بذهاب هذا هنا أو ذهاب هذا هناك، وإن كانت كبيرة وذات أدوار، ونزل هذا إلى السفل وصعد هذا إلى العلو، إن كان وإن كان. بحسب ما يكون العرف، فإن وقع الافتراق فلا خيار للمجلس، قال هنا: ما لم يفترقا وكانا جميعاً، أما إذا تبايعا عن بعد، بالمراسلة، بالهاتف، بالفاكس، بكذا وبكذا، فهم متفرقون أصلاً، فلا يدخل في هذا الباب، إلا إذا قلنا: وهما على السماعة، وتفاهما على البيع، وقبل أن ينهيا المحادثة قال أحدهما: يا فلان! أنا تراجعت، لم نفترق بعد، ما زلنا على السماعة، والحديث لا زال موصولاً، حينها لهما الحق في ذلك. وهذا الخيار يفسخ العقد دون رضا الطرف الثاني، سواء كان الذي أراد الفسخ هو البائع كأن يكون تأسف على بيعها، أو ادعى غبناً أو لم يدع، أو مجرد رغبة في السلعة، وكذلك المشتري، ولو لم يدع غبناً، يقول: إن سعرها طيب ورخيص، لكن أنا عندي غيرها في البيت، وأنا في غنى عنها، ما دام في المجلس مع البائع فله حق الرد ولو بالقوة، أما إذا افترقا عنه؛ فحينئذ بطل خيار المجلس. وسيأتي خيار الشرط وهو أوسع ما يكون وأطول وأكثر تفريعاً.

ذكر خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس

ذكر خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس هذا النوع من خيار المجلس قال به كل من أحمد والشافعي رحمهما الله ومن وافقهما أو من سبقهما من الصحابة والتابعين، أما مالك وأبو حنيفة رحمهما الله فلم يقولا به، وصار هناك تشنيع على مالك وأبي حنيفة، الحديث صحيح ولماذا لم يقولا به؟ وقد رواه مالك في الموطأ، وما كان يجهله، ولكن لماذا يرويه ولا يعمل به؟ وهذا هو الذي كثر الحديث عنه عند أهل الحديث في شأنه وفي شأن مالك، حتى قال بعض معاصري مالك فيه مقالاً، وكذلك هو مذهب ربيعة شيخ مالك، ومذهب خالد الزنجي شيخ الشافعي، وإذا جئنا إلى سبب رفض مالك العمل بهذا الحديث، يقول: هذا مما ليس عليه عمل أهل المدينة، مع أن ادعاء الإجماع في المدينة لا يتأتى؛ لأن هناك ابن أبي ذئب -وهو من قرناء مالك - قد عمل به، وأخذ بخيار المجلس، وقد ابن عبد البر من أخذ به من المدينة، وبعد إطالة النقاش قال: إن المالكية والأحناف سردوا في هذا الباب شيئاً كثيراً لا دليل لهم فيه، شبهتهم -كما نص مالك في الموطأ-: بأنه لم ير أحداً من أهل المدينة يعمل به، وهناك نصوص أخرى ساقها أبو حنيفة رحمه الله، منها: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، يقول: إذا كنا سنجعل خيار المجلس عند التبايع فلا يمكن وفاء بعهد ولا وفاء عقد، وكلما عقدنا عقداً اختار في المجلس فسخه. ولكن أجابوا عن ذلك: بأن هذا عام في طريق، وهذا خاص في طريق آخر، ولا يرد هذا على ذاك. ثم يقولون: لو قلنا بخيار المجلس بعد انعقاد العقد، وهو: إن كان لم يقع العقد فله الحق، وإن كان بعد انعقاد العقد فقد انتهى ما بينه وبين صاحبه، وقالوا: إذا تبايعا بمعنى تساوما، فإذا كانا في حالة المساومة فكل منهما بالخيار، فقال ابن عبد البر وغيره: لو حملناه على المساومة لضاعت فائدة الحديث؛ ومعلوم أنه قبل أن يأتي هذا الحديث أن المتساومين بالخيار، ولا يحتاجان إلى حديث يعطيهما حق الفصل ما داما في المساومة ولم يستقر الأمر، إذاً: كل منهما له حق. وقالوا أيضاً: البيعان بالخيار، إذا قال البائع: بعت، والمشترى لم يقرر بقوله: اشتريت. فهذا التبايع وجب من طرف واحد -وهو البائع- والمشتري لم يقل: اشتريت. يعني: أن البيع وقع من طرف واحد، وبقي الطرف الثاني لم يعقد العقد، فقد عقد على نفسه -وهو البائع- الخيار قبل أن يعقد المشتري البيع بقوله: اشتريت؛ لأن البيع لم يتم بعد. وكما قال ابن عبد البر رحمه الله: كل ما ذكروه احتجاجاً برد الحديث لا محل له، وقال أيضاً عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه عادة ما يعرض حديث الآحاد على الأصول في الكتاب والسنة، فإذا وجده مخالفاً ربما تركه. وهذا من أشد ما يؤخذ على أبي حنيفة رحمه الله. وهنا نحب أن ننبه الإخوة على كلام ربما وقفوا عليه لـ ابن أبي ذئب في مالك -ليعلموا ما بين الأقران- وإذا كان ابن أبي ذئب يحمل على مالك، فلماذا لا يحمل على ربيعة شيخه، وعلى أبي حنيفة وأصحابه محمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر، وكلهم يقولون بعدم خيار المجلس؟ فإذا كانت المسألة علمية، وكان الاجتهاد موجوداً وله مجال في القضية فلا ينبغي التحامل على أحد الطرفين فيما فهمه. ويقول ابن عبد البر اعتذاراً عن مالك: لعله قد بلغه ما ينسخ هذا الحديث، فترك العمل به. والراجح عند جمهور العلماء: ثبوت خيار المجلس، وعليه مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله، وهو قول ابن عمر ومن وافقه من الصحابة من التابعين، وهذا القدر يهمنا في هذا الحديث: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا) .

الرد على من تأول التفرق بتفرق الأقوال

الرد على من تأول التفرق بتفرق الأقوال ومما تأولوا به هذا الحديث أن قوله: (تفرقا) أي: بالكلام، كأن يتبايعا بخمسة أو بستة أو بعشرة، صفاته كذا وكذا وكذا. في هذا المجال لهما الخيار، لكن إذا قال: قبلت اشتريت، بعت أخذت اليوم سمعنا أخبار كذا وكذا، وأخذا يتحدثان عن موضوع بعيد عن موضوع العقد، هنا افترقا في القول عن موضوع العقد، فحملوه في بعض التأويلات على الافتراق بالقول، وبعضهم يدخل دلالة اللغة في هاتين الكلمتين، والواقع أن كلاً منهما تستعمل مكان الأخرى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] ، ((وما تفرق)) أي: في الكلمة، ((إن يفترقا)) أي: بأبدانهما، فجاءت في كلا الأمرين تعبر عن افتراق الأبدان وافتراق الكلمة. ولكن يرد هذا التأويل قوله: (وكانا جميعاً) بأبدانهما، فيكون الافتراق بالأبدان وليس باللسان، وهذا القدر يكفي في التنويه على هذا الحديث، ومن أخذ به، ومن رده، وبم رد من تأويلات، والله تعالى أعلم.

جواز سقوط خيار المجلس

جواز سقوط خيار المجلس قوله: (إذا تبايع الرجلان؛ فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا أو يخير أحدهما صاحبه) فالتفرق يسقط خيار المجلس، وكذلك يخير أحدهما الآخر وهما في المجلس البائع قال للمشتري: ما رأيك؟ شاور، اختر، أتمضِ البيع؟ خيره في المجلس فاختار البيع، وهما في المجلس، ثم بعد فترة وهما في نفس المجلس، قال: تراجعت. لماذا؟ قال: لا زلنا في المجلس: (ما لم يفترقا) ونحن ما افترقنا، يقول له: لا؛ لأن صاحبك خيرك فاخترت إمضاء البيع فلا خيار لك. (أو يخير أحدهما الآخر) سواء كان الذي خير صاحبه البائع واختار المشتري الإمضاء، أو الذي خير صاحبه المشتري واختار البائع المضي في البيع، فإذا خير أحدهما صاحبه وقال: تعاقدنا، تبايعنا؟ قال: نعم. قال: لك خيار؟ قال: لا، أنا جزمت وانتهيت، عندها يكون انتهى العقد، ولا خيار للمجلس بعد ذلك، أو يقول أحدهما: أنا من جانبي أمضيت، والبائع: أنا بعت وانتهيت، وأنت شاور وفكر، ولك الخيار إلى الغد، أما أنا فلا خيار لي. أصبح الخيار هنا لواحد، والثاني أسقط خياره وأعطى صاحبه مهلة، فيذهب هذا صاحب الخيار ويأتي في المهلة أو قبلها ويقول: أمضيت البيع، انتهى. فإذا جاء وقال: ما ناسبني -بشرط ألا تنتهي المهلة- فله الحق في تلك المدة أن يختار وأن يرد السلعة أو أن يمضي العقد. إذاً: بالافتراق، أو بتخيير أحدهما الآخر ينتهي خيار المجلس. وينبغي التنبيه أيضاً على أن هناك أنواعاً من البيوع لا يدخلها خيار المجلس. منها: بيع السلطان؛ فإذا قام السلطان ببيع مال إنسان مدين ليسد دينه، وأعلن عنه، ورسا المال على شخص، فلا يحق للذي رسا عليه البيع وهو في المجلس أن يقول: لي خيار المجلس. ومنها: بيع التركة بين الورثة الورثة لهم تركة وأرادوا أن يبيعوها ليتقاسموها، وسواء واحد منهم أو خارج عنهم اشترى شيئاً من التركة فليس له خيار فيما اشتراه. ومنها إذا كان يشتري من نفسه لنفسه بأن كان ولياً أو وصياً على صبي، وأراد أن يبيع من ماله للصبي أو يشتري من مال الصبي لنفسه، فإذا تم العقد، فلا خيار له؛ لأن الخيار للنظر في المصلحة، وكذلك بين الشركاء، إن كانوا شركاء في شركة، وأرادوا أن يتفاصلوا وعرضوا الموجود للبيع، فاشترى أحد الشركاء أو جاء إنسان من الخارج واشترى من سلع الشركة، فلا خيار مجلس في ذلك. فهذه: بيع السلطان والتركة والشركة، ومن كان متولياً طرفي العقد في صفقة، فلا خيار لواحد من هؤلاء، كما أنه هنا لا خيار بعد التفرق، ولا خيار بعد أن يخير أحدهما الآخر. قال: [ (فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) ] . هذه صورة ثانية: تبيعني هذه السلعة؟ - لا، أنت لست مشترياً، أنت ستذهب تشاور أمك أو زوجتك أو كذا، أنا أريد بيع وشراء ليس فيه خيار، خيره قبل العقد، قال: لا مشاورة ولا خيار، نتبايع وننهي البيع الآن؛ فتبايعا. ليس له أن يرجع ويقول: لي خيار المجلس، وإن كان بعض الحنابلة يجيز له ذلك، لكن الجمهور على أنه ما دام خيره من قبل وخشي من هذا التطويل، وقال: ما هناك خيار، ونتبايع على ألا خيار بيننا. فقال: قبلت. وتبايعا على ألا خيار بينهما، فقد تم البيع. قال: [ (وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع؛ فقد وجب البيع) ] . لم يقل البائع: أنا تركت البيع ورجعت. ولم يقل المشتري: أنا تركت البيع ورجعت بعت، اشتريت، في أمان الله، تفرقا، بعد هذا التفرق ما حصل من واحد منهما أنه رجع، أو طلب الفسخ، أو الخيار، أمضيا البيع ومضى كل في سبيله، وحينها لزم البيع.

شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا.

شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ... ) قال رحمه الله تعالى: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] . قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البائع والمبتاع -بصريح العبارة- بالخيار -في عقد البيع- ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقةَ -أو صفقةُ- خيار) على ما تقدم في حديث ابن عمر. أشتري منك على أن يكون لي الخيار عدة أيام، ونجد أغلبهم على أن مدة الخيار ثلاثة أيام، ومالك يقول: ليس في ذلك حد عندنا ينتهى إليه، وكل سلعة خيارها بحسبها، فإذا اشتريت ثوباً أو بعيراً، فهذه يكفي فيها ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب المصراة ثلاثة أيام يحلب وينظر، وبعد الثلاثة الأيام ستظهر، قال: وأكثر من ذلك أكرهه. إذا اشترى عبداً على الخيار: هل تكفي ثلاثة أيام لاكتشاف كل نوايا العبد أو طبائعه أو أخلاقه؟ لا تكفي، اشترى داراً، هل الثلاثة الأيام تكفي لمعرفة الدار وحسن بنائها، ومعاملة جيرانها، وتصريف مرافقها ومنافعها؟ لا، فقالوا: كل سلعة بحسب مكانها تكون مدة اختيارها. إذاً: (إلا أن تكون صفقة خيار) ، أي: مشروط لها خيار، كم يكون؟ الجمهور يقولون: ثلاثة أيام، ومالك يقول: لا حد في ذلك عندنا؛ لاختلاف السلع فيما تحتاجه من مدة يتأملها المشتري، ويعرف محاسنها وعيوبها، والحديث يجيز وجود الخيار بين المتبايعين إلى مدة ما اتفقا عليه؛ ما لم تكن المدة حيلة لاستفادة البائع من المبيع؛ على ما سيأتي بيانه في الخيار في الأجرة على مدة لا تلي العقد. قال: (إلا أن تكون صفقة خيار) وصفقة الخيار: أن يتفق الطرفان على وجود خيار لأحد المتعاقدين مدة معينة بعد إمضاء العقد، سواء كان الخيار للبائع أنا أبيعك لكن أريد أن تعطيني مهلة يومين، المشتري: أما أنا فقد أمضيت البيع من عندي، وأنت لك مهلة ثلاثة أيام. أو كان الخيار للمشتري، البائع قال: بعتك. والمشتري قال: اشتريت؛ ولكن أريد أن أشاور أخي الأكبر، أشاور صديقي، أشاور صاحب خبرة. قال: لك ثلاثة أيام. فوقعت الصفقة صفقة خيار، فهما على شرطهما، إن اختار إمضاء البيع في المدة فالحمد لله، وإن اختار رد المبيع وفسخ العقد فله الحق في ذلك، وإن كان دفع الثمن يسترجعه. ثم تأتي الأحكام والتفريعات التي نص عليها ابن عبد البر وغيره: إذا كان الخيار مدة عشرة أيام، والسلعة في يد المشتري من أجل أن يختبرها، فضمانها وغرمها على من؟ وغنمها لمن؟ تقدم لنا بأن الغنم بالغرم، فهي في يد المشتري على ملكه، وإن تلفت فعلى حسابه، وإن غنمت فلحسابه، إن رد البيع أو أمضاه، أو كان عبداً يحتاج إلى مئونة، أو فرساً يحتاج إلى علف فعلى المشتري؛ لأنها في ملكه، أما إذا بقيت في يد البائع فهي أمانة عنده للمشتري. وهذه التفريعات التي تكثر في هذا الباب لا تحصيها إلا موسوعات الفقه الموسعة. إذاً: جاز خيار الشرط، وخيار الشرط أهم ما فيه هو: ألا يتخذ حيلة، وهذه الحيلة كنا نسمع بها في اليمن على مدى واسع في العقارات، يأتيه ويبيعه العقار ويقول له: لك الخيار إلى أن تأتيني بالثمن فأرد العقار عليك باعه البيت واستلمه وسلم الثمن، ثم ذهب البائع بالثمن، وانتقل المبيع من بيت أو أرض إلى المشتري على أن البائع له الخيار متى ما جمع الثمن جاء به إلى المشتري استرد البيت أو البستان، المحظور في هذا ما هو؟ كان يأتي ويقول: أقرضني ألفاً. يقول: ما عندي قرض. لكنني لست مستغنياً، أعطني البيت وخذ الألف، ويوم أن تردني الألف خذ بيتك. (خذ بيتك) هذه ما هي؟ ظل يجمع الألف سنة سنتين والبيت بيد المشتري، وحينما يرجع البائع ويقول: لي الخيار، وقد أحضرت الثمن، فيسلم الثمن كاملاً للمشتري ويسترجع البيت. سكنى البيت لمدة سنتين من قبل المشتري حتى جمع البائع الثمن مرة أخرى ورده لحساب المشتري الذي انتفع بها، هل كان الأصل في ذلك بيع وشراء والغرم بالغنم، أم كان البيع مبناه على أن المشتري يقرض البائع ويستفيد مقابل القرض سكنى البيت؟ فحينئذ يكون الشرط في الخيار حيلة، وربما تجدونها في كتب الحنابلة في الإجارة، (ويصح خيار الشرط في الأجرة ما لم تكن على مدة تلي العقد) . هذه عبارة زاد المستقنع، وبيان هذا: إذا كان عندك بيت، وتريد أن تؤجره، فأجرته الآن، والمستأجر استلم البيت ودفع الأجرة، وشرط لك الخيار في رد البيت شهراً، البيت عندك شهر، والأجرة عندك، إن هو وقع له اختيار الرد سيرده بعد شهر والأجرة عندك، ترد له الأجرة ويرد لك البيت، حينما أخذ البيت عنده والخيار شهر، فرد البيع واسترد الأجرة كاملة، أجرة الشهر إن كان استفادها مقابل مجرد خيار؛ فلا بأس، لكن إذا كان الشرط والمهلة تلي عقد الإجارة؛ فهي حيلة ليستفيد المستأجر سكنى البيت شهراً، وسيرده بعد مدة الخيار ويسترجع الأجرة كاملة. أما إذا كانت مدة الخيار لا تلي العقد فهذا صحيح. مثلاً: نحن الآن في شهر جماد الآخر، قال: أؤجرك البيت سنة كاملة تبدأ من واحد رمضان، وبينه وبين رمضان أكثر من شهرين فقال له: لكن أنا أريد أن أشاور؟ قال: لك الخيار شهر ونصف من الآن! هل سيستلم البيت؟ استلام البيت في الأول من رمضان، والخيار يبدأ من الآن؛ لأن عقد الإيجار الآن والتسليم في واحد رمضان، فإذا جعل له خياراً شهراً كاملاً لكنه لا يلي مدة العقد؛ لأن مدة العقد من واحد رمضان، بل هو دون مدة العقد، هل سيحصل هناك حيلة أو غبن في شيء؟ لا، اختر على ما ترى، والبيت عند مالكه، وهناك وقت طويل حتى يأتي رمضان، استلم البيت وسلم الأجرة، والفترة هذه كلها لك الخيار فيها، إذاً: ما ضاع شيء على صاحب البيت. إذاً: خيار الشرط على ما شرطاه، ولكن يكره مالك وغيره أن يكون على مدة طويلة؛ لأن فيها شبه نزاع، وألا يكون لحيلة يستفيدها أحد المتعاقدين في مدة هذا الشرط. [ (إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] . هذا -كما يقال- استطراد وتذييل يؤكد معنى الافتراق: ما لم يفترقا، أي: بالأبدان، ولا يحل له، أي: أحد المتعاقدين أن يفارقه من المجلس خشية أن يندم أو يستقيله، هل معناها التفرق بالأبدان أم التفرق بالأقوال؟ بالأبدان، تعاقدتما وأنتما في المجلس، وتخاف أن يرجع في كلامه فتخرج من المكان قصداً خشية أن يرجع، يعني: فارقه ليضيع عليه خيار المجلس، فلا يحل له؛ لأنه فوت عليه فرصة أعطاه الشرع إياها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وهو راوي الحديث الأول- إذا تعاقد مع إنسان على شيء يهمه حينما يتم العقد يفارقه ويخرج، ثم يرجع إليه، قالوا: إذاً كيف يفعل ابن عمر هذا، والرسول يقول: (ولا يحل له أن يفارقه) ؟ يذكر العلماء هذا دليلاً على أن التفرق يراد به تفرق الأبدان وليس تفرق اللسان، ويعتذرون عن ابن عمر بأن مفارقته لمن تعاقد معه بائعاً أو مشترياً أنه لم يبلغه هذا النهي، ولا يحل له أن يفارقه خشية كذا، أو أنه يتأول ذلك على سبيل الإرشاد وليس على سبيل اللزوم على كل له عذره، والله تعالى أعلم. قال: [وفي رواية: (حتى يتفرقا عن مكانهما) ] . هذا هو التفرق بالأبدان عن مكانهما.

شرح حديث: (إذا بايعت فقل: لا خلابة)

شرح حديث: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة) ، متفق عليه] . معنى هذا الحديث: أن رجلاً كان يبيع ويشتري ولكنه كان يخدع في البيع، وقيل: كان قد أصيب في رأسه، وحصل في عقله شيء في المساومة وفي إدراك قيم الأشياء، فكان يبيع ويشتري ويغبن كثيراً، فاشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعاه وقال: دعك من البيع والشراء الذي خسرت أهلك فيه، فيقول: يا رسول الله! ما لي غنى عن البيع والشراء لا أستطيع أن أترك السوق ولا البيع والشراء، لابد لي من البيع والشراء. فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا بعت أو اشتريت فقل لمن تتعاقد معه: لا خلابة. هذه الكلمة بمعنى: لا نقص، إن كنت أبيع لا نقص في الثمن، وإن كنت أشتري لا نقص من جانبك تزيده علي في السعر، فكان إذا تعاقد مع أحد يقول له: لا خلابة. وإذا تناكر مع إنسان يأتي واحد من الصحابة يشهد له بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه هذا الحق، والمؤلف يسوق هذا هنا لبيان جميع أنواع الخيار المتبقية، وهي تقوم على خيار الغبن. فهذا الرجل كان يغبن في البيع والشراء، وأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم حق النقض فيما يتعاقده إن ثبتت زيادة عليه في السعر إذا اشترى، أو ثبت عليه نقص في البيع إذا باع، فكان إذا اشترى سلعة ورجع بها إلى أهله وأخبرهم بالثمن إن أقروا ثمنها مضت، وإلا رجعوا على البائع واسترجعوا الثمن. وهنا المبحث في هذا الحديث: هل لكل إنسان أن يقول: لا خلابة؟ فبعض العلماء يقول: لكل إنسان أن يقول ذلك؛ لأن هذا منع للغبن. والآخرون قالوا: لم يجعل ذلك للعموم، ولكن جعلها لهذا الشخص بذاته فقط، فلا تصح إلا له ولمن كان مثله؛ بأن كان سفيهاً، أو لا يحسن المساومة. إلخ، فإذا وجد من في مثله وفي تلك الحالة، وقال هذه الكلمة: لا خلابة، فهو على ذلك، أما عامة الناس، والذي يتعاطى البيع والشراء، والذي يتعالم ويجعل نفسه أشطر الناس، ويحصل ويحصل. لو قالها لا يسمع منه. والمؤلف ساق هذا الحديث هنا مع الحديثين المتقدمين -خيار المجلس وخيار الشرط- ليبين كل نوع من أنواع الخيار والتي يذكرها العلماء إلى سبعة أصناف داخلة تحت هذا الحديث، وهناك نوع يسمى باسمه: خيار الغبن، وخيار الغبن عند الأئمة تقدم بعض أفراده، ويثبت إذا تلقى الركبان، وإذا وقع النجش، وللمسترسل الذي لا يعرف الأسعار، وفيما يتعلق بنوع من البيوع: التولية والمرابحة والمواضعة، والتولية: هو أن تأتي للتجار: بكم هذه السلعة؟ فيقول: أنا لا أريد منك مكسباً، ولا أن تخسرني، أبيعها لك برأس مالها عشرة. قلت: اشتريتُ. فتبين أن رأس مالها ثمانية، فهذا غبن، ودلس عليك في السعر، فيرد حصة الربح. وكذلك النقص، يقول: أنا لا أريد ربحاً ولا حتى رأس مال، أنا أتنازل لك بعشرة في المائة من رأس المال، كم قيمتها؟ مائتين، ثم تبين أن قيمتها مائة وثمانون، فيكون قد أخذ عشرون زيادة عن رأس مالها، أو قال: أنقص لك ثلاثين، وتبين أنه زاد الثلاثين في سعرها، أي: اختلف قوله في المرابحة، في المواضعة، في التولية؛ فحينئذ يأتي الخيار. كذلك إذا باعه سلعة فوجد فيها عيباً لم يكن يعلمه؛ دلسه البائع أو أخفاه عليه، ثم اكتشف ذلك فله خيار العيب. وكذا إن باعه موصوفاً في الذمة، والموصوف على قسمين: موصوف بعينه، مثلاً: كان في سفر على بعير له، فقال له: بعني بعيرك الذي كان معنا في السفر وكنت تركبه، ما صفاته؟ كم عمره؟ كم يحمل؟ كم يستطيع الصبر على العطش؟ وذكر أوصافاً معينة، فلما أخذت البعير المعين وجدت فيه نقصاً، عندها لك الخيار. أما إذا قلت: أريد بعيراً صفته وصفته وصفته. قال: عندي، ولم يعين لك بعيراً بعينه، فجاءك ببعير فوجدت فيه نقصاً من تلك الصفات، فلا خيار لك، وعليه أن يأتيك بغيره حتى يستوفي لك الصفات التي أردتها في أي بعير من إبله. وهكذا -أيها الإخوة- أنواع الخيار ستة أو سبعة على ما تقدم، والذي ساقه المؤلف رحمه الله في هذا الباب يعتبر الأصل الذي يدور عليه، وجميع التفريعات عليه توجد في أمهات الكتب. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الربا [1]

كتاب البيوع - باب الربا [1] أكل الربا من أكبر الكبائر، وهو ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه!! فيجب على المسلم أن يتعلم باب الربا ليحذر منه، وقد اهتم أهل العلم بهذا الباب اهتماماً بالغاً، وبينوا أنواعه وأحكامه بياناً شافياً.

شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا)

شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم، وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة] . آكل هنا: اسم فاعل يختص بالذكور، وإذا كانت امرأة تأكل الربا، فهل معفو عنها أو هي داخلة؟ هذا أيضاً من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به المساوي له، فهي داخلة، (وموكله) وكذلك موكلته. وآكل الربا هو الذي يأخذ الزيادة عن رأس المال، وموكله هو الذي يدفعه، فهو ما أكل، ولكن أطعم غيره، إذاً: عقد الربا فيه آكل وموكل، آخذ ودافع، وكلاهما داخل في هذا الوعيد واللعن. قد يأتي إنسان ويقول: هناك أشياء اضطرارية، هذا أكل الربا اضطراراً، وهذا أكله بغير اضطرار، فالذنب على الذي أخذ، هذا بحث أشرنا إليه في أكل الرشوة وليس في الربا. وقد أشرت سابقاً: أنه في مؤتمر ماليزيا الإسلامي عرض على المؤتمر طلب إباحة الربا للضرورة، وكانت قارعة، وأعان الله سبحانه وتعالى بأن قدم: أن الربا لا تدخله الضروريات البتة لا شرعاً ولا عقلاً، وكان النقاش حاداً فعلاً، حتى أعلن رئيس المؤتمر وهو رئيس الوزراء: أن نرجئ هذا القرار إلى مؤتمر آخر. وكلكم تعلمون أنه مؤتمر عالمي، ستة وثلاثون دولة مسلمة مشتركة فيه، ويقدم قرار في لجنة ويدرس ويأتي إلى لجنة للتصويت، ثم يوقف هذا القرار بمناقشة تبطله، ويعلن رئيس المؤتمر بإرجائه، يعني ما نجح، وقام رجل مغربي رحمه الله إن مات، وجزاه الله خيراً إن كان حياً، وصاح على الجميع: أتريدون أن نحارب الله ورسوله؟! أجئنا من بلادنا لنعلن الحرب مع الله ورسوله في ماليزيا حتى تريدون أن نبيح الربا؟! إلى أمر يطول شرحه. إذاً: الربا محرم بكل أنوعه وصنوفه، وهناك لفتة عجيبة جداً في (آكل وموكل) ، قال الله عن اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:160-161] ، وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة:275] ، وفي حق اليهود قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ، ما قال: وأكلهم، مما يدل على أن الربا كان في اليهود مهنة وليس من حاجة؛ لأن الذي يأكل الربا قد يكون محتاجاً، ولكن اليهود يأخذون، والأخذ أعم من مجرد الأكل، فهم يأخذونه كتجارة، يأخذونه كحرفة، وليس عن حاجة، ومن هنا -أيها الإخوة- لا تجد مرابياً فقيراً، الذين يرابون في أموال الناس هم الأغنياء، وما دمت غنياً ومغنيك الله فلماذا تنزلق في هذا الطريق الحرج؟! قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ولم يقل: وأكلهم، إذاً أخذهم للربا كان عن غنى، وليس عن فاقة وحاجة تدعو إلى الأكل. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكاتبه) ، الكاتب الذي يكتب السند، كما قال الله: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . وقوله: (وشاهديه) ؛ لأن اثنين يشهدون على الكتابة كالعادة، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، وشاهده اسم جنس يشمل الواحد والاثنين والعشرة، وقيّد العلماء الشاهد والكاتب في اللعن إذا كانا عالمين بأنهما يكتبان ويشهدان على ربا. أما إذا جاءوا إلى إنسان لا يعلم بذلك، وقالوا: اكتب: هذا له في ذمتي ألف، وما يدري ما سبب الألف، وترتبت على ماذا، فكتب: فلان له في ذمة فلان ألف، وشهد الشهود: نشهد باعتراف فلان بأن في ذمته لفلان ألفاً، فلا شيء عليه، لكن إذا كانوا يعلمون أنه أقرضه ثمانمائة والتزم له بدفع الألف، وكتب الألف على أنه أصل الدَين، وهو يعلم أن الأصل ثمانمائة، والمائتان ربا، فهو شريك. وكما يقولون: وسامع الذم شريك لقائله إذا جلست في مجلس فيه من يغتاب إنسان وتسمعت، وتتبعت، وتسليت؛ فأنت شريك للمغتاب. وسامع الذم شريك لقائله ومُطعم المأكول شريك للآكل لو كان طعام موجوداً في محل لزيد فجاء شخص وقال: والله! إني جائع، فإنسان فضولي رأى الأكل موجوداً فقال: خذ. قال: هل هو حقك؟ قال: لا، ما هو حقي. فالآكل يعلم أن الذي قدم له الطعام لا يملك هذا الطعام، والذي قدم الطعام يعلم أنه لا يملك هذا الطعام، فجاء صاحب الطعام. فيغرم قيمة الطعام الذي أكل، والذي أعطاه ومطعم المأكول شريك الآكل؛ لأنه هو الذي سلطه عليه، وإن كان الآكل هو المتلف المباشر، لكن يضم المطعم في الغرامة؛ لأنه عن طريقه وصل إليه. (وقال: هم سواء) أي: هم سواء في الإثم، لا نقول: الآكل الذي أخذ الربا هو الآثم وحده، بل نقول: هؤلاء شركاء وسواء في الإثم.

شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون بابا)

شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً) قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) رواه ابن ماجة مختصراً، والحاكم بتمامه وصححه] . هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب. إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب. (وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) ، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة! وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا. الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وجاء الجواب: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه. وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين: إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: (أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به) . وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور. وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً! إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل)

شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ] . عقد البيع فيه مبيع وثمن، الثمن من المشتري، والمبيع من البائع، والأصل أن الذهب قيمة المشتريات، كما يقولون: المال السائل، فهو الوسيط بين صاحب السلعة ومن يحتاجها، وكان قبل الذهب وقبل النقود وقبل العملة؛ كان البيع والشراء بالمقايضة، تأخذ صاع تمر وتبيعه لصاحب البر فيعطيك بالتمر براً، أو تأخذ البر وتبيعه لصاحب السكر، فتقول له: خذ هذا الصاع من البر، وأعطني سكراً، فكانت مقايضة بالأصناف والأعيان، وتأخذ صاع الحب وتذهب للجزار وتقول له: أعطني بهذا لحماً، وإلى الآن في بعض البلدان يتعاملون بالحبوب مقايضة في دكان البقالة، إلى الآن موجود. ثم جاءت النقود، والمعاملة بها صارت أيسر وميسرة للسفر، وتحديدها معلوم للجميع، فهنا الذهب بالذهب، أيهما ثمن؟ وأيهما مثمن؟ مع أن الذهب في أصله هو قيمة المشتريات وكذلك الفضة، لكن الذهب يخرج عن كونه قيمة المشتريات ويصبح سلعة؛ لأن الذهب له ثلاث حالات: إما تبر، مادة خام، سبيكة. وإما مضروب، دنانير أنصاف دنانير إلى آخره، وهذه عملة. وإما مصوغ كما يقال: منقوش، سوار، قرط في الأذن، خاتم في الأصبع، كذا كذا إلى آخره. فهو عملة وقيمة للمثمنات حينما يضرب، ويجعل وحدة متحدة وزناً وقيمة، والذين يضربون الذهب الآن يجعلونه جنيهات ذهبية، الجنيه الجورج، الجنيه الأمريكي، الجنيه السعودي، وغيرها، وفي حد علمي أن وزن معظم الجنيهات في العالم، وهو الجنيه الصغير ثمانية جرامات، وكأنه وحدة عالمية، وهناك جنيهات تخرج عن هذا، يوجد جنيه إنجليزي أو أمريكي بقدر أربع جنيهات، وفي عهد البرامكة جعلوا الدينار البرمكي أربعة مثاقيل؛ لأنه كان ضخماً يقدم هدية. والذي يهمنا أن الذهب بالذهب ربا، والذهب أصل قيمة المبيعات، فإذا أصبح الذهب ثمناً ومثمناً، فأين الثمن، وأين المثمن؟ إذا كان الذهب مضروباً نقداً فهذا هو الثمن، وإذا كان الذهب مصوغاً أو تبراً -مادة الخام- فهذا هو المثمن، أي: المشترى. إذاً: يمكن بيع الذهب بالذهب نقداً بنقد، مثل: بيع الذهب بالذهب تبراً بتبر، بيع الذهب بالذهب مصوغاً بمصوغ، بيع الذهب بالذهب مضروباً نقداً بمصوغ، مضروباً نقداً بتبر، كل هذه المسميات داخلة تحت قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا ... ) ، حتى قال بعض العلماء: ولو كان أحدهما مغشوشاً والثاني سليماً فلا يجوز أن تبيع ذهباً خالصاً بذهب مغشوش بالنحاس -أو ما يسمى شبه النحاس الراقي الذي يشبه الذهب في لونه- وزناً بوزن، ما يجوز ولو زدت فيه؛ لأننا لا نعلم قدر المغشوش في المغشوش، ولا نستطيع أن نحكم على الذهب الصافي بالذهب الصافي هناك، إذاً مهما كانت صورة الذهب تبراً، نقداً، صافياً، مصوغاً، خالصاً أو مغشوشاً، فجنس ذهب بذهب إذا بيع هذا بهذا لا يمكن أن تكون هناك زيادة، ولا تأخير. فالذهب بالذهب يحرم فيه الزيادة، ويحرم فيه التأخير، يعني: يحرم فيه ربا الفضل، وربا النسيئة. وإذا أردت أن أشتري حلياً، وعندي ذهب دنانير جنيه، فالوجه الشرعي أن توضع الحلي في كفة، وتوضع الدنانير المضروبة في كفة حتى تتعادل الكفتان، والتاجر يأخذ الدنانير الذهب، والمشتري يأخذ الحلي. ولو قال قائل: ما عندي دنانير، لكن عندي ذهب سبائك، وأريد ذهباً مصنعاً، فالوجه الشرعي أن يوضع الحلي المصنوع المزخرف في كفة، ويوضع الذهب الخام السبائك في كفة، فإذا تعادلتا صح البيع، وإذا زاد في وزن السبائك ونقص في المصوغ وقال: من أجل الصياغة؛ بطل هذا البيع، ولا يجوز، وما المخرج من هذا إذاً؟ بع السبيكة بالفضة، واشتري الحلي بالفضة، ويجوز بيع الذهب بالفضة مع الزيادة والنقص، ولا يشترط التماثل في الوزن، الفضة كيلو، وهذا الذهب ربع كيلو، فيوجد فرق في المقدار، لكن يشترط التقابض يداً بيد. إذاً: الجنس بالجنس من هذه المسميات يشترط فيه التماثل والتقابض، مثل بيع الذهب بالذهب تبراً، مصوغاً، مضروباً، مغشوشاً، صحيحاً، مستعملاً، مكسراً، بأي صفة من الأصناف، ما دام مادة الذال والهاء والباء موجودة، فإن بيع بجنسه وجب أن يكون وزناً بوزن، يداً بيد.

حكم الأوراق النقدية

حكم الأوراق النقدية الفضة الآن غير موجودة نقداً، إنما عندنا الأوراق النقدية، وهي تمثل الريال، والريال فضي، إذاً: هذه الأوراق المتداولة تمثل الفضة، فإذا اشترينا ذهباً بفضة بالنيابة وهو الورق فليس هناك وزن، وليس هناك تقدير بين الثمن والمثمن على ما اتفقا عليه، فيجوز شراء الجرام الذهب بثلاثين ريالاً، بخمسين ريالاً، بمائة ريال، لا يوجد مانع، لكن يداً بيد، يقول مثلاً: أعطني هذه الأسورة، وكان وزنها خمسين جراماً -مثلاً-، فقال: قيمتها ألفان، فأعطاه ألفين إلا خمسين ريالاً نقصت، فيقول له: حطها محلها، ولا يقول له: اذهب أنت مؤتمن، ولو أنت مؤتمن ألف مرة، فإن العقد لا يتم، إلا إذا كان الثمن والمثمن يداً بيد. وأهل الذهب ربما يعملون حيلة، يقول أحدهم: خذ هذه خمسين ريالاً قرضة حسنة مني إليك، أعطني الخمسين الباقية، وهذه الحيلة على من؟! تبغى تروج بضاعتك بالحيلة على الشرع؟ لا. وفي الذهب مشاكل كثيرة في الأسواق، إذا بيع بغير جنسه بالدولار، بالربية، بالاسترليني، بأي عملة ما لم تكن ذهبية، بع واشتر ما شئت، ولكن لا تفارق البائع وله عندك فلس واحد.

حكم صرف الذهب بالفضة

حكم صرف الذهب بالفضة ويشترط التقابض في صرف الذهب بالفضة، الصراف يأخذ الذهب ويعطيه الدراهم في نفس المجلس، وينقل بعض العلماء عن مالك لو أن مصطرفاً جاء إلى الصراف، ودفع إليه الدنانير ليعطيه الدراهم، فلا يجوز أن يفارقه ولو قليلاً إلا إذا مد يده بالدنانير ليأخذها، ومد الآخر يده بالدراهم ليدفعها، في نفس المجلس، ويقول: لو أن الصراف أخذ الدنانير، ودخل دكانه ليفتح صندوقه ويأتي بالدراهم فلا يجوز! سمعتم هذا يا جماعة؟! إذا جاء المصطرف بالدنانير، والصراف قاعد عند باب الدكان، وأعطاه مثلاً مائة دينار، فقال: مرحباً، عندي صرف، وأخذ الدنانير من صاحبها، ودخل إلى مكان في آخر دكانه ليفتح الصندوق، ويضع الدنانير ويأتي بالدراهم، مالك قال: لا يجوز؛ لأنه ما حصل يد بيد، والواجب أن يترك الدنانير مع صاحبها، ويذهب يفتح صندوقه، ويأتي بالدراهم إلى صاحب الدنانير، ثم هاء وهاء، خذ وهات. فـ مالك لا يقبل تأخير الصرف ما بين أن يذهب إلى آخر دكانه ويأتي، فما بالك إذا جاءه فقال: أروح البيت ثم أمر عليك؟! هذه معاملة ممنوعة في الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب. إذاً: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ، والمماثلة المعادلة، في الكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، وفي المعدود بالعد، والذهب والفضة موزونان. وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] . الشف: الزيادة أو النقص، والعوام يستعملونها، تذهب إلى الجزار وتقول: أبغى لحماً مشفياً، مشفي يعني: منقوص العظم، زائد اللحم (لا تشفوا بعضها على بعض) ، لا تقل: هذا مصنوع ومصوغ ودقة صفتها وصفتها، وهذا قديم ومكسر ويبغى له صياغة من جديد، لا تشفوا الناقص المكسر القديم على وزنه بالجديد أبداً، تبغى ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وما تبغى مثلاً بمثل فبع هذا الذهب بفضة، واشتر ذاك الذهب الثاني بفضة، وتكون الفضة هي الوسيط، وبين الذهب والفضة لا ربا في الزيادة، ولكن يداً بيد. وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) ] . الورِق والورَق أو الوَرْقُ: هو النقد من الفضة خاصة {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] سبحان الله! يا إخواني! كم استوقفتني كلمة (هذه) ، فالورِق هو عملة، فالأصل أن يقولوا: ابعثوا واحداً بالدراهم التي معكم لينظر لكم طعاماً ويشتريه، لكن التنصيص على (هَذِهِ) إعجاز القرآن أي: الموجودة معكم؛ لأنها هي مفتاح السر الذي سيكشف عنهم، فلما ذهب بتلك الورق التي معهم إلى المدينة، فالناس رءوا هذه العملة قديمة جداً، فسألوه: من أين هذه؟! فالعملة (هَذِهِ) هي التي كشفت عن سر أصحاب الكهف لأهل المدينة! إذاً: الورق هو الفضة نقداً. وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] . الفضة حكمها حكم الذهب في جميع التفصيلات السابقة، فإن كانت الفضة تبراً، أو مضروبة دراهماً، أو مصوغة حلياً، جديدة، قديمة، مكسرة، مغشوشة، سليمة، كله إذا كان فضة بفضة فهو مثل الذهب، وزناً بوزن يداً بيد. وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) ] ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير، فمنع ربا الفضل في الفضة كما منع في الذهب، ومنع ربا النسيئة في الفضة كما منع في الذهب، فالذهب والفضة بنات خالة أو بنات عم.

شرح حديث: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة،.

شرح حديث: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ... ) قال رحمه الله: [وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير بالشعير والتمر بالتمر) ] . قدم المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد في الذهب والفضة؛ لأن أكثر ما يكون الربا، في المعاملات فيهما، ثم جاء بالحديث الثاني وفيه (البر بالبر) ، ما هو البر؟ أظنه معروفاً في العالم كله، ويسمى البر، أو الحنطة، أو القمح، وكل هذه كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: مترادفات على مسمى واحد، كما تقول: الأسد والغضنفر والهزبر وو الخ. لكن بعض العلماء ينفي توارد الأسماء على مسمى واحد الذي هو الترادف، ويقول ابن تيمية رحمه الله: هناك سر، فإذا وجدت عدة أسماء لمسمى واحد؛ فكل اسم منها يختص بصفة في المسمى، إذا قلت: أسد، فهذا للجنس يشمل الصغير والكبير والمريض والمتعافي، وإذا قلت: هزبر، فمعناه أنه في حالة النشاط والقوة، وإذا قلت: غضنفر، فمعناه أنه ضخم وكبير، وهذا كله راجع لعين واحدة، ولكن روعيت صفاته، فكان لكل صفة اسم تشير إلى المعنى المنطلق منه. فالحنطة والبر والقمح كلها أسماء لمسمى واحد، ويراعى فيها الجودة والنوعية، وربما أننا نعرف أربعة أو خمسة أصناف موجودة، إذاً: هذا الصنف من الحبوب سمه ما شئت: قمحاً، براً، حنطة، فإذا بيع بجنسه فيجب التماثل والتقابض، صاع بر مديني بصاع بر شامي، تفاوتت صفات كل منهما وخواصه، فيوجد نوع من الحنطة يسمى العرق إذا طحن وعجن صارت العجينة مثل المطاط، ونوع إذا سحبته قليلاً تقطع مثل الذرة، فالذرة ما لها عرق، والقمح له عرق، ويتفاوت، ومهما تفاوت في صنفه، أو في لونه، أو في حجمه، حبة كبيرة وحبة صغيرة، ما دام المسمى بهذه الاسم (حنطة بحنطة) ، فلا تباع الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل يداً بيد. وأما الشعير فأعتقد أن العالم كله يعرف الشعير، ولكن كما يقول أهل الفلاحة: الشعير نوعان: شعير يسميه العامة شعير الحمير، وهو للعلف، وشعير يناسب كبار السن، يجعل لهم منه الخبز، فيكون ليناً سهل الهضم، ولا يكون معه إمساك عند كبار السن، ويدخل في الأدوية، فمهما كان صنفه شعير بشعير، أمريكي فرنسي للعلف أو للأكل، فكله شعير، ومالك رحمه الله يجعل -في الربويات والزكاة- البر والشعير صنفاً واحداً، ففي الزكاة إذا كان عنده ثلاثة أوسق براً، ووسقان شعير، فقال: يكمّل بعضهما بعضاً؛ لأنهما جنسٌ واحد ويزكي. والجمهور يقولون: لا، ما كمل عنده النصاب، هذا بر ثلاثة أوسق، وليس فيها زكاة، وهذا شعير وسقان وليس فيها زكاة، فلا زكاة عليه فيهما؛ لأن الحديث هنا ذكر الصنفين، ولو كان صنفاً واحداً لاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. إذاً: (البر بالبر والشعير بالشعير مثلاً بمثل) ، لكن لو بعنا البر بالشعير صاع بر بصاعين أو بثلاثة آصع شعير يجوز بشرط أن يكون هاء وهاء، يداً بيد، فإن قال: خذ البر واذهب وأعطني الشعير، لا يجوز، بل يكون كلاهما حاضراً: (ولا تبع ناجزاً بغائب) .

الربا في التمر

الربا في التمر قال عليه الصلاة والسلام: (والتمر بالتمر) ، التمر تتعدد أصنافه، وبعض من كتب عن تمر المدينة قديماً أوصله إلى مائتي صنف، وسمى كل صنف ووصفه، ومن الأسماء المشهورة: الحلوة، والحلية، والبرني، والشلبي، والصفاوي، وما لم يعرف له اسم عند الناس يسمى لونة، أو الجمع المختلط من عدة أشكال، فلو باع صاع تمر صفاوي بصاع تمر حلية فيشترط التماثل والتقابض، وتمر الحلية، تمر صغير، إذا يبس صار مثل الخشب، ولكن إذا لان فهو أقوى أنواع التمر طاقة مع الحلاوة، وأقوى أنواع العلف للحيوانات، وتمر الحلية قيمته ضعف تمر الحلوة، ولا يستوي هذا مع هذا، والآن بعض أنواع التمور الكيلو بمائتين ريال، وبعض منها بعشرة ريالات أو بسبعة ريالات، فلو قال إنسان: كيف أبيع هذا بهذا مثلاً بمثل؟! يا أخي! بع تمرك الجيد بالدراهم، بع الصاع بدراهم، واشتر بقيمة الصاع الواحد عشرين صاعاً من هذا، ولا يوجد مانع، تغاير الثمن عن المثمن فجاز التفاضل. إذاً: التمر بالتمر قضية عامة، وسيأتي حديث تمر خيبر الجنيب: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا نأخذ الصاع بالصاعين) ، وذلك كما يقول ابن عبد البر: كنا نرزق التمر، فنبيع الصاعين بالصاع، فنهينا عن ذلك، وسيأتي له زيادة بيان. إذاً: التمر بالتمر أياً كان نوعه من المائتي صنف، إذا كان التمر ثمناً ومثمناً فلا بد أن يكون بالكيل سواء بسواء، وما كان يباع بالكيل عرفاً فلا يجوز بيعه بجنسه وزناً، والتمر مكيل أو موزون؟ الأصل فيه أنه مكيل، ويرجع في معرفة المكيل والموزون إلى عرف مكة والمدينة، فما كان مكيلاً في المدينة فعرفه الشرعي الكيل، وما كان موزوناً في مكة فعرفه الشرعي الوزن، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل، وعرف التمر الكيل، فإذا أخذنا أحسن صنف من التمر في صاع ووضعناه في كفة، وأخذنا أردأ أنواع التمر في صاع ووضعناه في كفة أخرى، فهل يكون هناك زيادة في الحجم المكعب بين الصنفين أو يكونان متساويين؟ متساويين مثلاً بمثل، لكن إذا غايرنا العرف فيه، وبعنا كيلو بكيلو، فهل يتفق الحجم المكعب في كيلو تمر الصفاوي مع الشلبي الذي هو خفيف أو الحلية الذي هو أثقل؟ هل يتفق التماثل في الحجم المكعب؟ لا، ما يتفق، إذاً: هل حصلت المثلية؟ لا، والجهل بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ ولهذا لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إن كان مكيلاً إلا بعرفه الكيل، وإن كان موزوناً فبعرفه الوزن، فإذا غايرنا العرف، اختلف المقدار، ودخلنا في الجهالة بالمساواة، والجهالة بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ لأننا نقطع بأن هناك زيادة، إذاً: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وتعرف المثلية فيه بالكيل، ويكون الحجم واحداً، ولكن العرف يختلف، وباختلاف العرف يتفاوت الحجم، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل بالكيل؛ لأن عرفه الكيل. والذهب يوزن ولا يكال، فلو وضعت ذهباً مكسراً قدر نصف صاع، وقلت: أعطني ذهباً جديداً نصف صاع، هل يتعادل الذهبان؟ لا يتعادل، لو وضعت حلقات وخواتم قدر نصف صاع، ووضعت ذهباً آخر مصوغاً ومكسراً قدر نصف صاع، فهل حصلت مماثلة بالكيل أو لا؟ لا؛ لأن الذهب يتماثل بالوزن. إذاً: لا يجوز بيع الصنف بالصنف بغير عرفه، فلا يجوز بيع الصنف الربوي المكيل بصنفه موزوناً، ولا الموزون مكيلاً؛ لأن اختلاف عرف التقدير يأتي بالزيادة، ويأتي بالربا.

الربا في الملح

الربا في الملح قال عليه الصلاة والسلام: [ (والملح بالملح) ] . الملح عظيم القدر، حتى ذكر مع الذهب والفضة، ومع البر والشعير والتمر، ولا غنى لأحد عن الملح، لكن إذا زاد يفسد، والملح قسمان: ملح جبلي، وهو معدني. وملح بحري. وما كل بحر يخرج منه الملح، فمياه البحار فيها العديد من الأملاح، وبحيرة لوط خاصة فيها أنواع من الأملاح، وملح الطعام يؤخذ مما يسمونه الملاحة، وهي بقاع من الأرض يتجمع فيها الماء، وغالباً تكون الأرض سبخة مالحة، فإذا طفح الماء من منبعه، وامتلأت الحفرة، ترك الماء يتعرض للشمس، وتبخر الماء وترسب الملح، فيجمع ويكوّم ويجفف ويعبأ في الأكياس وينزل به إلى الأسواق، هذا ملح مائي، وليس معناه أن تذهب إلى البحر الأحمر وتستخرج ملح الطعام مباشرة، لا يوجد، وإن وجد فبمقدار قليل مع أملاح أخرى (صوديوم وفسفور وفسفات) ، وكل هذه يمكن استخراجها من المحيطات، ولكن ملح الطعام إما يستخرج من منقع ماء في أرض سبخة وإما من معدن في جبل، وفي أفريقيا بعض الجبال فيها عرق الملح، كما يوجد فيها عرق الذهب، وعرق الفضة، وعرق النحاس، كما يوجد فيها أحجار تحمل كحل الإثمد، تجد حجرة مثل الليمونة أو البرتقالة وفيها كحل العين، لا يكون فيها طين أو تراب، بل يكون فيها كحل من أجود أنواع الإثمد، مطحون وجاهز. والملح المعدني يدق؛ لأنه حجر مثل الرخام، وكيفية استعماله: أن يكسر منه قطعاً مثل علب الكبريت مثلاً، وتضعها في الماء، وتحركها في الماء حتى يستحلب منها الملح، كما أنه إذا وضع الملح في الماء فإنه يذوب نهائياً، سواء كان ملحاً معدنياً أو ملحاً مائياً. وهل الملح يكال أو يوزن في العرف؟ يكال، فإذا أردت أن تبيع ملحاً بملح ولو معدني بمائي فالجنس واحد، فيشترط التماثل والتقابض كما في أجناس البر وأجناس التمر، وكذلك الآن الرز أصناف، بل قالوا: فيه رز صناعي ورز نباتي، والذي يدخل في الربا الرز النباتي، لا الصناعي، ويهمنا هنا قوله: (والملح بالملح مثلاً بمثل) ، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا يجوز فيه التأخير. وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد) ] . (سواء بسواء) أي: متعادل (يداً بيد) ، وفي بعض الروايات: (هاء وهاء) (ها وها) ، (هاك وهاك) ، وهذه اسم فعل كما يقول ابن مالك: بمعنى: خذ، هات.

القاعدة العامة في معرفة الربا

القاعدة العامة في معرفة الربا قال عليه الصلاة والسلام: [ (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ] . هذا هي القاعدة العامة، فإذا اتحدت هذه الأصناف: ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، وكان الثمن والمثمن من جنس واحد، فلا تشفوا بعضها على بعض، مثلاً بمثل، ويداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم. فإذا كان الثمن جنساً، والمثمن جنساً آخر، مثلاً: باع ذهباً بفضة، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، وهكذا: باع تمراً ببر اختلف، فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأصبح المبيع يغاير الثمن، والثمن يغاير المبيع، وإن كان كلاً منهما ربوي، وإن كان كلاً منهما من الأصناف الستة؛ (فبيعوا كيف شئتم) ، بمعنى: صاع بصاعين، صاع بعشرة، لا يوجد مانع، ولكن بقيد: يداً بيد، (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) ، فإذا كان عندك البر، وعنده التمر، واشتريت التمر ببر، ويمكن التمر يكون أحسن، والصاع فيه بصاعين بر أو بالعكس كما فعل معاوية، نصف صاع يعادل صاعاً، فهل يجوز أن تبيع البر نصف صاع بصاع تمر إلى بعد يوم؟ لا، ولا يؤخر دقيقة، ولا بد أن يكون الصنفان موجودين، خذ وهات. إلى هنا إن شاء الله يكون قد اتضح لنا صور بيع الربويات الست بعضها ببعض إذا اختلفت أجناسها، ثم بعد ذلك تبقى عندنا مسألة: هل يقتصر الحكم على هذه الأصناف الستة أو يلحق بها غيرها؟ وإذا كان يلحق بها غيرها، فبأي علة يكون الإلحاق؟ سنتكلم على هذا في الدرس القادم. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الربا [2]

كتاب البيوع - باب الربا [2] اتفق أهل العلم على جريان الربا في الذهب والفضة؛ وفي البر والشعير والتمر والملح، واختلفوا في علة الربا فيها؛ ولهذا اختلفوا في الأشياء التي تلحق بهذه الأصناف الستة، ومعرفة خلافهم، ومآخذ أقوالهم، تدرب الطالب على التفقه، وتمرنه على الاجتهاد، فحري بطالب العلم أن يهتم بهذا الباب.

شرح حديث: (الذهب وزنا بوزن.

شرح حديث: (الذهب وزناً بوزن ... )

أنواع الربا

أنواع الربا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم] . تقدم الكلام على الربا في الأصناف الستة المتقدمة: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وتبين لنا أصول الربويات، وأن الربا يدور على أصله الحقيقي وهو الزيادة، وموضوعه كما قسمه الفقهاء: ربا الفضل. وربا النسيئة. فربا الفضل: هو الزيادة، إذا بيع جنس بجنسه وحصلت زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: تمر بتمر صاع بصاع وزيادة درهم مع أحد الصاعين، فهذا هو ربا الفضل. والنسيئة: صاع بصاع، لكن يقول: آخذ صاعك اليوم، وأرد إليك صاعي الذي هو الثمن غداً، هذا هو ربا النسيئة.

هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟

هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟ نذكر مسألة كثر الخلاف فيها، واختلفت المذاهب في القول بها: هل الربا مقصور على هذه الأصناف الستة أم أنه يدخل في غيرها؟ أو بمعنى علمي: هل يلحق بها غيرها أم لا؟ وإذا كان غيرها يلحق بها فبأي مبدأ؟ وبأي علة؟ لأن القياس عند العلماء: هو إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعلة جامعة، كما أنهم ألحقوا كل مسكوت عنه من المسكرات بالخمر، بجامع علة الإسكار، فالتحريم جاء نصاً في الخمر، ثم ألحق الفقهاء به كل مسكوت عنه، بأي اسم كان، إذا وجدت علة تحريم الخمر في ذاك المسكوت عنه، وعلة الخمر الإسكار، فإذا وجد الإسكار في العسل أو في اللبن أو في أي ثمرة ألحقت بالخمر في التحريم، وهذا أمر متفق عليه. إذاً: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به يحتاج إلى رابط، ويحتاج إلى قرابة، ويحتاج إلى صلة نسب بين المسكوت عنه والمنطوق به، فهل يلحق بتلك الأصناف غيرها أم لا؟ وإذا كان يلحق بها غيرها فما هي العلة؟ ذهب داود الظاهري إلى أن المنصوص عليه في الربويات لا يلحق به غيره، وأن أي نوع من الحبوب غيرها من المطعوم أو المكيل أو الموزون أو المدخر أو غيره لا يلحق بالربويات، والربا لا يكون عنده إلا في هذه الأصناف الستة المنصوص عليها فقط، وهذا قول انفرد به عن جمهور العلماء، وعامة علماء المسلمين يلحقون غير المنصوص عليه به، وما هي؟ وبأي شيء يكون الإلحاق؟ قالوا: توجد علة يلحق بها المسكوت عنه، وهذه الست الأصناف نماذج، وكأنها تنبيه بالأخص على الأعم.

العلة الربوية في الأصناف الستة

العلة الربوية في الأصناف الستة الذهب والفضة هما المصدر بهما نصوص الربا، ما هي العلة في كونهما ربويين؟ وإذا وجدت فيهما علة فهل هي قاصرة عليهما أم تتعدى إلى غير الذهب والفضة؟ الجمهور على أن علة الذهب والفضة في الربا علة قاصرة، أي: لا تتعدى محلها؛ ولهذا لا يقاس على الذهب والفضة موزون من المعادن الأخرى، وما هي العلة القاصرة؟ قالوا: هي ثمن المبيعات، وقيمة المتلفات. فالذهب والفضة ليسا سلعة، ولكن لها مهمة وهي الثمنية، فلكون الذهب والفضة ثمنية فلا ينبغي أن تدخل في البيع والشراء والزيادة والنقص، هذا على أنها عملة والعلة الثمنية، فلا نتحكم فيها بيعاً وشراء وتكون خالصة من الربا والزيادة. إذاً: الذهب والفضة عنصران ربويان لا يقاس عليهما. فإذا كان ذهبٌ ومعدن آخر: نحاس، أو قصدير، أو زنك، أو برونز أو أي نوع من أنواع المعادن، فإذا بيع ذهب بتلك المعادن وزناً بوزن فهل ينبغي فيه المساواة في الوزن؟ قالوا: لا؛ لأن الذهب ليس سلعة بل هو ثمن وقيمة؛ ولذا علة الربا فيه قاصرة عليه. وهل يجوز أن نبيع الموزونات الأخرى غير الذهب والفضة جنسها بجنسها؟ قالوا: نعم، والعلة في الذهب والفضة هي الثمينة. وقيل: الوزن، ومن قال بأن العلة هي الوزن قال: كل موزون يدخل فيه الربا، وإذا جعلنا الذهب والفضة علتهما قاصرة عليهما وهي الثمنية فلا ربا في الموزونات. نأتي إلى الأربعة الأصناف الأخرى المذكورة، ما هي الصفات المشتركة بينها؟ تمر، بر، شعير، ملح، نؤخر الملح، فهذه الثلاثة: تمر، بر، شعير، ما هو الوصف الذي يشترك بينها؟ أولاً: الكيل؛ لأنها كلها تقدر كيلاً، إذاً: الكيل جزء من علة الربا. ثانياً: الطعم. وهل الطعم في التمر والبر والشعير كالطعم في التفاح والخوخ؟ ثالثاً: الاقتيات، إذاً: يكون مطعوماً مقتاتاً، فالتمر والبر والشعير موزون مطعوم مقتات، وهل يوجد وصف آخر أم لا؟ الادخار، ممكن أن ندخر التمر والشعير والبر سنة أو سنتين بخلاف التفاح والخوخ، فالفواكه إذا لم تكن في الثلاجة، أو وقف الكهرباء فسدت، فهي لا تدخر. إذاً: هناك من قال: العلة في الربويات الثلاثة الموجودة مع الذهب والفضة هي الكيل، فقال: كل مكيلٍ بيع بجنسه فهو ربوي، وجماعة زادوا وقالوا: ليست العلة الكيل وحده، بل العلة كونه مكيلاً مقتاتاً، والمقتات يتضمن المطعوم، وجماعة زادوا في العلة الادخار مع الكيل والاقتيات، فاختلف اجتهاد الفقهاء في اعتبار العلة المشتركة بين الأصناف الثلاثة، فما وجدت العلة فيه مما لم يسم ألحق بها قياساً. فمثلاً: الدخن والذرة غير منصوص عليهما، وهل توجد في الدخن والذرة علّة جامعة مع الثلاثة المذكورة؟ كلاً من الدخن والذرة مكيل وقوت ويدخر، إذاً: لا فرق بينها، فتلحق بالأصناف الستة، فبعضهم ألحق المسكوت عنه بجامع العلة، وبعضهم قال: هناك غير العلة، وهي تقارب المنفعة. فمثلاً: الزبيب ليس من الستة الأصناف، لكن قال: إن الزبيب يشارك التمر في المعنى، فما الفرق بين التمر والزبيب؟ كلاهما حلو، ويكال، ويقتات، ويدخر، فقال: أنا لا ألحق بالقياس، بل ألحق بالاشتراك في المعنى، وتوسعوا في هذا، وأجروا الربا في اللحم باللحم، مثل: لحم الإبل بلحم الغنم؛ لأنه قريب منه في المنفعة، إذاً: من عمل بالقياس ألحق كل ما لم يذكر بما ذكر إن وجدت فيه العلة، واختلفوا في معرفة العلة ما هي؟

مذهب الأحناف والحنابلة

مذهب الأحناف والحنابلة قال الحنابلة: العلة هي الكيل، حتى أجروا الربا في الأشنان، والأشنان نوع من النبات ينبع على مجاري المياه، كان يغسل به الصوف دون الصابون؛ لأنه يذهب عنه الأوساخ والآكلة، ولا يوهن الصوف، فهو نوع من النبات، لكنه يباع بالكيل. وألحقوا بالأصناف الستة الحناء، فإنه إذا دق ورق الحناء صار مثل الدقيق، والعرف فيها الكيل، فقالوا: إذا بيع حناء بحناء فالعلة الكيل، فيمنع الربا فيها بجامع الكيل، واستدلوا بما جاء عند ابن حبان: (كل ما يوزن مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) . وبهذا أخذ الحنابلة والأحناف. ومن العلماء من قال: العلة هي: الطعم مع الكيل؛ لحديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) ، وكان طعامهم يومئذ الشعير، ولكن اللفظ: (الطعام بالطعام) أنتم طعامكم الشعير، وهناك في مكة طعامهم البر، وهناك في أندنوسيا طعامهم الأرز، وهناك في أفريقيا طعامهم اللوبيا، إذاً: الطعام في كل مكان بحسبه، ولفظ الطعام عام، ولا نخصصه بطعامهم يومئذٍ، هذا طعامكم أنتم، لكن طعام غيركم غير هذا. إذاً: علة الربا، وإلحاق غير المنصوص عليه، اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فمن استقرت عنده علّة الربا، ثم وجدها في غيرها ألحقه بها، فبعضهم عنده العلة الكيل والوزن فقط لحديث ابن حبان: (كل موزون مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) يعني: وكذلك كل مكيل؛ ولهذا اقتصر الحنابلة على أن العلة الكيل فقط.

مذهب المالكية

مذهب المالكية المالكية عندهم أن العلة هي أن يكون قوتاً مدخراً، فإذا بيع الجنس بجنسه كيلاً أو وزناً، وكلاهما قوت مدخر فيجري فيهما الربا إلا مثلاً بمثل يداً بيد. وهناك من يقول: نلحق بالمنطوق به كل ما كان زكوياً، فما هي الحبوب التي تزكى؟ هل التفاح يزكى؟ لا، هل التفاح يكال أو يوزن؟ عرفه العدد، والآن صار الناس يوزنون كل شيء، ذكر العلماء القدماء أن مما لا يكال ولا يقتات الفواكه، وابن قدامة يقول: التفاح والفرسك والخوخ والمشمش والكمثرى والخيار ليست مكيلة، وليست مدخرة، هي مطعومة ولكن ليست مدخرة. قيل: إن العلة هي الكيل والوزن كما جاء التنصيص عليها في بعض النصوص، وهي موجودة بالفعل في هذه المسميات الست، ومالك ألحق بالمطعوم ما يصلح المطعوم وهو الملح، فالملح ليس قوتاً لكنه مدخر ومكيل، اجتمعت فيه العلتان. إذاً: لا تبع مكيلاً بمكيل مدخراً بمدخر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، والملح ولو لم يكن قوتاً فبه صلاح القوت. الحنابلة يردون -كما يذكر ابن قدامة في المغني- على مالك في قوله: بإصلاح القوت، ويعترضون عليه بالحطب، فالإدام يصلحونه بالحطب والنار، لكن هذا ليس لإصلاح ذات الطعام، بل لإنضاجه، لكن الملح في الطعام يكون جزءاً منه، وألحقوا به التوابل التي تدخل في الطعام، إذاً: قضية الربويات فيما عدا المنصوص عليه بحرٌ لا ساحل له. وكلٌ من الأئمة رحمهم الله ألحق من غير المسميات ما وجدت فيه العلة التي استقرت عنده، والعلة دائرة بين المقدار الذي هو الكيل والوزن، مكيل بمكيل، موزون بموزون، وبين الأوصاف الأخرى الموجودة في المنصوص عليها، أن تكون قوتاً ومدخراً، وعلى هذا فيجري الربا بلا خلاف عند الجمهور في الدخن والذرة والأرز. والسمسم قوت، ويحكى أن جماعة أضافهم ناس، فقدموا لهم صحن عسل وصحن سمسم، وهم غير عارفين بطبيعة أهل البلد! فرءوا طفلاً صغيراً فقالوا: تعال تعال كل، فجلس الطفل الصغير، وغمس أصبعه في العسل، ثم في السمسم ولحسه، فقالوا: بس! قم، قم، كلم أمك! فهو قوت. وبذر القطن يعصر ويخرج منه زيت، ولكن ليس قوتاً، وحينما نعصر البذرة، وأصبح عندنا زيت، فالزيت مكيل أو موزون؟ الأصل فيه الكيل، وكذا السمن وجميع السوائل الأصل فيها الكيل، فأصبح عندنا الزيت مكيلاً، وأصبح مدخراً، فيدخل في أنواع الربويات، فلو بيع زيت بذرة قطن بزيت بذرة قطن وجب الحلول والتقابض والتساوي. وإذا بيع زيت بذرة القطن بزيت الزيتون، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، (بيعوا كيف شئتم) ، فلا يلزم فيه التساوي، ويلزم التقابض؛ لأن كلاً منهما دهن، ويدخلان في علة المقدار التي هي الكيل والادخار. والتفصيل بالجزئيات في أنواع الربويات لا يمكن حصره، ولكن الإلحاق موجود عند الأئمة الأربعة، وما امتنع من الإلحاق إلا داود الظاهري؛ لأنه لم يقل بالقياس.

الحكمة من تحريم الربا في المطعومات

الحكمة من تحريم الربا في المطعومات الإلحاق يكون بالعلة، كما ألحقنا كل مسكر بالخمر لوجود علة الإسكار فيه، وهنا يقول ابن رشد في البداية: وصف الطعم يدل على اشتقاق العلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الطعام بالطعام) ، فوصفه بكونه طعماً يدل على أن العلة هي الطعم، كما في قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، علة القطع هنا هي السرقة؛ لأن الحكم تعلق بوصف وهو السارق، والسارق اسم فاعل يشتق من سرق يسرق فهو سارق. إذاً: (الطعام بالطعام) دلت كلمة الطعام على علة الربا كما أن كلمة السارق دلت على علة القطع، وكذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ، فوصف الزنا في الطرفين هو علة الجلد، إذاً: الطعم علة في الربا لقوله: (الطعام بالطعام) . والذين يقولون: ما خرج عن الأصناف الستة يلحق بها بعلة الكيل والجنس، قالوا: أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ولما كانت زيادة الجنس على الجنس غبن، فإذا وجد في المكيل من غير المسميات -مثل الأشنان والحناء- فالعلة واحدة، والأصل حفظ الأموال وعدم الغبن، فيجب أن يكونا متساويين في الفائدة وفي النتيجة، فكيف أعطيك صاع حناء وتعطيني صاعاً إلا ربع؟! لماذا تغبني في ربع الصاع هذا؟ فما دامت متساوية في المنفعة فيجب أن تكون متساوية في المقدار؛ ولذا ذكر ابن رشد قاعدة تبين الربا، وهي أن ما خرج عن قانون الربا مما ليس بربوي، فتكون القيمة بين المبيع والمشترى، لو أن كلاً منهما سلعة بنسبة آحاد هذا الصنف في جنسه مع نسبة آحاد الجنس الثاني في جنسه، ويمثل ويقول: مثلاً: نشتري فرساً بثياب، فالثياب ليست ربوية، والفرس غير ربوي، فيصح أن نشتري الفرس بمائة ثوب، بمائتين ثوب، بعشرين ثوباً، ولكن ما الذي يقدر قيمة الفرس بعدد الثياب؟ قالوا: النسبة، أي: نسبة هذا الثوب الواحد في جنسه كنسبة الفرس الواحد في جنسه، فإذا تحققت النسبة ارتفع الغبن، هذا الفرس في جنسه كم يساوي؟ مثلاً يساوي ألف ريال، وهذا الثوب في جنسه كم يساوي؟ قالوا: عشرة ريال، إذاً: نسبة الفرس في الأفراس ألف ريال، ونسبة الثوب في الثياب عشرة ريال، فكم ثوب نقدر للفرس حتى لا يحصل غبنٌ؟ مائة، إذاً: نأخذ الفرس بمائة ثوب، ولو أخذناه بمائتين يحصل غبن، لو أخذناه بخمسين يحصل غبن، إذاً: النسبة التقديرية بين غير الربويات ترجع إلى المساواة، وترفع الغبن. إذاً: إذا كان المبيع جنساً واحداً فما الذي يرفع الغبن؟ التساوي، كيل بكيل، وزن بوزن، فلا يحصل غبن، ستقول: هذا جنس جيد، وهذا جنس رديء، إن بعناهما متماثلين وقع الغبن فيما هو فرق بين الجودة والرداءة، فنقول: سد هذا الباب، وبع الجيد بدراهم، واشتر بالدراهم الرديء، أو العكس بع الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم الجيد، وفي تلك البيعتين لا غبن؛ لأنك ستبيع الرديء بنسبته من جنسه بالثمن المتعادل، وتشتري بالدراهم التي عندك الجيد بنسبته من جنسه بالدراهم، وانتفى الغبن في الصفقتين.

شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلا

شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا. والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك) متفق عليه، ولـ مسلم: (وكذلك الميزان) ] . نعلم جميعاً أن خيبر فتحت عنوة، وأنها أصبحت للمسلمين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى اليهود فيها يعملونها على جزء من الثمرة، وأصبحت معاملة عند المسلمين تسمى المخابرة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في بلدهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ابن رواحة يخرص عليهم التمر، فيلتزمون بحصة المسلمين، ويأخذون حصتهم، فالعامل بمعنى الأمير، بمعنى الوكيل، بمعنى النائب، عامل رسول الله في خيبر، يعني: نائبه في إدارتها، والحكم فيها، وما يتعلق بشئونهم دنيوياً ودينياً. إذاً: كان صلى الله عليه وسلم قد نظّم أمور الدولة، وأقام العمّال، ونظم الجباية، ورتب الإدارات، كما قيل: التراتيب الإدارية في الدولة المسلمة الفتية، هذا العامل سواء كان أميراً أو قاضياً أو حاكماً أو غير ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: (أكُلّ تمر خيبر هكذا؟) ، وهذا مما ينبه عليه العلماء: أن ولي الأمر يجب أن يتفقد الولاة والعمال، كيف جاء العامل بهذا التمر؟ هل كل تمر خيبر هكذا أو أنه تصرف؟ فتبين أن العامل قد تصرف، فقال: لا والله! يا رسول الله! ما كل تمر خيبر هكذا، إنا لنشتري الصاع من هذا الجيد بالصاعين من دونه، أو الصاعين بالثلاثة، يعني: متفاضلاً، إذاً: نشتري الجنس بجنسه كيلاً مطعوماً مقتاتاً مدخراً مع التفاضل. فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ (لا تفعل) ، لا تفعل ماذا؟ أن تشتري الجنس الواحد بجنسه متفاضلاً، هل تبغى تشتري جنساً بجنسه؟ يجب أن يكون متساوياً، وأما الجودة والرداءة فحلها آخر، وليس في الإسلام طريق مسدود أبداً، عندك السوق، بع الرديء بنقد، فيحصل في يدك النقد ثمناً للرديء، وانقطعت العلاقة بالرديء، وأصبح في يدك نقد ثمنه، فتذهب إلى السوق وتشتري جيداً بالنقد، وأصبحت الصفقة الثانية بين الجيد والنقد، ولا علاقة للصفقة الثانية بالرديء الأول، وإن كان النقد ثمناً لها؛ لأن ببيع الرديء بالدراهم انقطعت علاقة الرديء، ونستأنف علاقة جديدة بالدراهم التي بأيدينا. إذاً: هذا خروجٌ من مأزق فوارق الجودة والرداءة. وقوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) ؛ يعني: لأن التمر مكيل، فكأنه قال: كل مكيل بيع بجنسه متفاضلاً لا يجوز، ماذا أفعل؟ بع بالتساوي، وإن كان فرق في الجودة والرداءة فبع بالنقد واشتر بالنقد، وكذلك افعل في كل ميزان، وليس المراد بكلمة ميزان هنا: الآلة التي نزن بها؛ لأنها آلة مصنّعة لا ربا فيها، ولكن المراد: وكذلك الموزون بالميزان. تكلمنا على حديث التمر الجنيب إجمالاً، وهناك مباحث في هذا الحديث فيما يتعلق بالأحكام الفقهية في تلك الصفقة، وهذا الحديث يبين بصفة عامة أن الجنس بجنسه لا بد أن يكون متماثلاً متساوياً ويداً بيد، فهذا الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا يجوز شراء التمر الجنيب صاعاً بصاعين من الجمع، والجمع يقال: إنه مجموع أصناف مجهولة الاسم، وغالباً ما تكون تلك الأصناف مجهولة الاسم قليلة الجودة عن المعروف المتعين باسمه، وكما نشاهد الآن في المدينة الشيء الفاخر الجيد معروف اسمه، يقول لك: صفاوي، شلبي، سكري، ومثله تمر الإخلاص المعروف في الإحساء، فالتمور الجيدة محافظة على اسمها ومعينة عند الناس، لكن التمور التي غير متميزة قد يكون لها اسم ولكن لا يحفظ. فكونه اشترى صاعاً جنيباً جيداً بصاعين أو صاعين بثلاثة، لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم عاب ذلك وقال: (لا تفعل) لا تفعل في هذه الصفقة، أو لا تفعل في المستقبل، (ولكن بع الجمع بدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً) . إذاً: هذا منهج للتعامل بين الرديء والجيد، وإذا كنا لا نقبل أن نتبادل جيداً برديء مثلاً بمثل؛ لأنه غير معقول، عندي تمر من أجود ما يكون، وتعطيني تمراً أردأ ما يكون، وتقول: مثلاً بمثل، أعطني صاعاً بصاع! أنا غير معطيك، فكيف نفعل؟ صاحب التمر الرديء يريد أن يأكل تمراً جيداً، فليعمل بهذا المنهج، وهو أن تدخل القيمة وسيطاً بين الرديء والجيد، بع الجمع بدراهم، وبعد أن أخذت الدراهم ثمناً للجمع اشتر بالدراهم جنيباً جيداً، ويكون هناك انفكاك بين الصفقة الأولى في الجمع، وبين الصفقة الثانية في الجنيب.

هل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع الربوي قبل العلم بالحكم الشرعي؟

هل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع الربوي قبل العلم بالحكم الشرعي؟ سؤال يبحثه العلماء: إذا كانت تلك الصفقة الصاع بصاعين لا تجوز، فهل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصفقة، ورد الرجل الجنيب واسترجع الصاعين من الجمع أم سكت عن تلك الصفقة وكان التنبيه لما يستقبل؟ التحقيق في ذلك أن الأحكام قبل التشريع تمضي، والحكم بعد صدوره يكون للمستقبل، وكما يقول الأصوليون: ليس للأوامر رد فعل عكسي، إنما تكون للمستقبل، ولا ترجع على الماضي، فالماضي مضى بما كان. والنظم والقوانين والتشريعات إنما تكون من صدورها إلى ما بعد، وهذا هو نص القرآن الكريم، وخاصة في الربويات، فتقدم لنا في دراسة الربا نص القرآن الكريم: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، يعني الربا الذي حصل عليه قبل مجيء الموعظة له، ما طالب المرابين أن يردوا الربويات على أصحابها، ولكن تركها لهم؛ لأنه ما كان هناك تشريع، ولا كان هناك نهي، فهم أكلوها على مبدأ التعامل عندهم، ثم جاء النهي وتبين الواقع: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ} [البقرة:279] من الآن {رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] . إذاً: يحرم الربا بعد الموعظة، فما كان قبل الموعظة ترك لهم، ومما يثبت تعميم هذا الحكم أو هذه القاعدة بأن الأوامر للمستقبل أو أن ما وقع قبل الإعلام أو قبل التشريع يترك ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بنكاح شهد عليه رجل وامرأتان، والأصل في الشهادة شاهدا عدل ممن ترضون من الشهداء، أما قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} [البقرة:282] فهذه لا دخل لها في النكاح والطلاق والدماء، ولكن في الأموال تجوز شهادة رجل وامرأتين، ولما كان الأمر كذلك فماذا يفعل عمر؟ قال: لو كنت سُبقت أو سَبقت؛ لرجمت. لو كنت سُبقت على ما أعلم بالتنبيه ممن سبقني سواء كان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو لو كنت سَبقت بالإعلام بعدم صحة النكاح برجل وامرأتين، لو كنت أعلنت ذلك بين الناس، وسبق العلم بمنع هذا، ثم فعل بعد العلم؛ لرجمت؛ لأنه يكون فعل بعد العلم، وإصرار على المخالفة، لكن كانت الشبهة قائمة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] ، فهم عمموا الحكم في الأموال وفي الفروج، وربما يجعلوها حتى في الدماء، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما لم يكن هناك علمٌ منتشر سابق بمنع الشهادة في النكاح برجل وامرأتين -أي: بعدم إدخال النساء في الشهادة في النكاح والطلاق- عذر هؤلاء، ولم يجعل لهذا الفعل أو هذا النهي رد فعل سابق، وأمر بتجديد العقد؛ لأن العقد تبين أنه باطل، وهل عاقبهم نتيجة لبطلان العقد لأنهما كانا زانيين؟ لا، بل من الآن، فكذلك هنا، وإن كان بعض الناس يقول: الرسول أمره برد ذلك، لكن الآخرين يقولون: لم يثبت هذا، ونحن نقول: لا حاجة إلى البحث عن رد العقد الأول أو عن إبطاله، وأنه غير جائز شرعاً ونقول: إنه قد وقع قبل العلم، وما وقع قبل العلم وقبل التشريع فإنه يترك كما في كتاب الله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، ثم تكون قاعدة عامة في جميع العقود التي صدرت، وكان الجهل يحتمل فيها؛ لأن هناك أشياء لا يعذر أحدٌ بجهله، فبعد حادثة عمر لو عقد أحد بشاهدٍ وامرأتين هل نقبل منه؟ هل نقول: لم نسُبق ولا سَبق العلم، ولا نعاقبه؟ لا. هذا ما يتعلق بحكم الصفقة الأولى، وقد وقعت مغايرة للحكم الشرعي، ومضت على ما مضت عليه ويستأنف العمل الجديد بما بعد هذا الإعلام.

كتاب البيوع - باب الربا [3]

كتاب البيوع - باب الربا [3] حرم الله أكل أموال الناس بالباطل؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكبيرة على الفرد والمجتمع، وقد جاء الإسلام ليُتمِّم مكارم الأخلاق، وظلم الناس في أموالهم ينافي ذلك؛ ولهذا حرم الإسلام الربا وكل ما يفضي إليه من المعاملات المالية، وهي كثيرة وينبغي معرفتها للحذر والتحذير منها.

شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الصبرة من التمر…)

شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الصبرة من التمر…) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيالها بالكيل المسمى من التمر) رواه مسلم] . هذه صورة من صور الربا، وتقدم التنبيه على أن الربا بضع وسبعون باباً، فهو أبواب متعددة، فبيع الجمع بالجنيب نوع من الربا، ومن الربا بيع جنس بجنسه متفاضلاً كبر ببر، وهنا لا يوجد تفاضل في الجنس، فما هي الصبرة؟ الصبرة من كل شيء: المجموع المكوّم، تأتي مثلاً بكيس البر، وتفرغه في الأرض، ثم بكيس آخر، وآخر. حتى يصبح بشكل هرمي من البر، وكذلك من التمر، فهذه هي الصبرة، والأصل في بيع الصبرة أن يكال، فنقول لصاحبها: أبغى صاعين. أبغى ثلاثة، أبغى خمسة. ، ومالك ذكر في الصبرة أحكاماً عديدة، وقد نبهت سابقاً أن من أراد الجزئيات الدقائق جداً في الربا فليرجع إلى موطأ مالك، وإلى الباجي في شرحه. نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الصبرة بجنسها كيلاً، مثلاً يقول الرجل: يا صاحب الصبرة! هذه الصبرة تمر أو بر؟ قال: تمر، فيقول: أشتريها منك بخمسين صاعاً، والزائد من الخمسين لي، والناقص علي؛ لأنه لا يمكن أن نحكم أن الصبرة خمسين صاعاً ما تزيد تمرة ولا تنقص، فتحتمل الزيادة والنقص، فيقول: آخذها على حظي، آخذها بخمسين صاعاً، وإن وجدتها إحدى وخمسين، أو خمسة وخمسين، أو ستين، فالزائد لي، وإن وجدتها أربعين، أو خمسة وثلاثين، فالناقص عليّ، وما أنا مطالبك بشيء. يوجد تراض وتسامح بينهما، لكن تراضي المتعاقدين لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لأن كل المعاملات تكون عن تراضٍ، حتى الذي يكتب سنداً بأنه اقترض ألفاً، ويرده ألفاً ومائتين، ويوقع عليه؛ فهو راضٍ بذلك. إذاً: لا كما يقول القانونيون سابقاً: العقد شرعة المتعاقدين. ثم عدلوا في هذه القاعدة وزادوا: ما لم يخالف قانوناً، إذاً: العقد شرعة المتعادقين ما لم يخالف الشرع، ونحن بحمد الله قانوننا الشرع، فما المانع في هذه الصورة أن يصحح بيع الصبرة مجهولة الكيل بكيل معلوم محدد؟ المانع أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا

الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، البر بالبر لا بد أن يكون مثلاً بمثل، وهل عرفنا المثلية في الصبرة؟ لا، نحن عرفناها في الخمسين لكن هل عرفناها في الصبرة؟ لا، إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة، كأننا بعنا الصبرة وعرفنا أنها ستون صاعاً، وبعناها بخمسين، لو أن صاحبها كالها ستين صاعاً، وصارت معلومة عنده، ثم جاء المشتري وقال: أشتريها بخمسين، قال: بعتك، فنكون قد علمنا بالزيادة، والزيادة في الجنس الواحد تكون رباً. إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة. لو جاء وقال: أنا عندي صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنت عندك صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنا محلي هناك قريب من صبرتك، وأنت محلك هناك قريب صبرتي، فأشتري صبرتك بصبرتي لتنقلها إلى محلك بسهولة، وأنقل صبرتي إلى محلي بسهولة، فما حكم بيع صبرة بصبرة، ولا يوجد تحديد بالثمن؟ لا ندري كم صبرتك، ولا كم صبرتي، إن كانت معلومة الكيل، هذه خمسون صاعاً، فيجوز، ولا توجد زيادة، حصل بيع الجنس بجنسه متساوياً يداً بيد، لكن إذا كنت أنا لا أعلم مقدار صبرتي، وأنت لا تعلم مقدار صبرتك؛ فحينئذٍ لا يجوز إلا إذا كان كيلاً بكيل حتى تتحقق المساواة والمماثلة. ولو كانت الصبرة موجودة، وصاحب الدراهم جاء وقال: يا صاحب الصبرة! بكم تبيعها؟ قال له: بمائة ريال، قال اشتريت، فعندما جاء يعبئ الصبرة في الأكياس وجد الصبرة مكومة على صخرة، ماذا تقولون؟ تكويمها على الصخرة تدليس، فهي صبرة إلا ربع، فالصخرة زادت في حجم الصبرة، وأنا اشتريت حباً ما اشتريت صخرة، فماذا يفعل المشتري؟ ما دام أن البيع بالدراهم فهي الواسطة، والزيادة والنقصان لا دخل لها هنا، لكن وجدت صورة تدليس؛ لأن كومها على صخرة، أو كانت الأرض غير متساوية، كل الأرض معتدلة إلا عند هذا المحل يوجد محل ناتئ كوم عليه الصبرة. إذاً: إذا كان يباع المبيع بجنسه فلا بد من معرفة المقدار في الجانبين، أما إذا كان البيع بالدراهم فالجهالة لا تضر، قال: بكم الكيس؟ قال: الكيس بعشرة، قال: كم فيه؟ قال: والله! أحياناً عشرة صاعات، وأحياناً تسعة ونصف، زاد أو نقص لا يضر؛ لأن المقابل هنا الدراهم، وليس بين الدراهم والمطعومات ربا.

شرح حديث: (الطعام بالطعام مثلا بمثل)

شرح حديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) قال رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل، وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) رواه مسلم] . رجع المؤلف رحمه الله إلى البر والشعير، وكان هذا الحديث محله هناك مع تلك الأصناف، لكن كأن المؤلف يريد أن يختم بحث الربويات المطعومة بما هو أعم؛ لأن المتقدم في حديث عبادة بن الصامت ذهب وفضة وتمر وبر وشعير وملح، وهذه أعيان مسماة مميزة معروفة، وهل نقتصر عليها كما اقتصر الظاهرية أو نلحق بها غيرها؟ نلحق بها كل ما وجدت فيه العلة التي توجد مشتركة بين تلك المسميات، وتقدم لنا بأن الكيل والوزن فقط علة عند بعض العلماء، وقالوا: كل مكيل أو كل موزونٍ يجري فيه الربا، وفي حديث الجنيب: (وكذلك الميزان) ، فإذا بيع بجنسه فلا بد من المماثلة ومن القبض، أي: الحلول والتقابض. الذي يمنع من الإلحاق يقول: الرسول ذكر أشياء، وسكت عن الباقي، فما لنا شغل فيه، والآخرون يقولون: ما دام قد اشترك في المعنى فيدخل، كما قالوا: الزبيب والتمر، والبر والشعير، فهذه مشتركة في المعنى، وكذلك الذرة والبر، وكذلك الدخن وغيره من المكيلات، فقالوا: نلحق، وبعضهم وسعوا في العلة، وبعضهم ضيقوا فيها، وبعضهم زادوا وصفاً آخر وقالوا: قوتاً، وبعضهم قالوا: مقتاتاً ومدخراً. إذاً: ألحقوا المسكوت عنه بالمنطوق به بالعلة، جاء المؤلف وقال: هذا نص موجود، فالطعام، (أل) هنا لاستغراق الجنس، كل طعام، ولهذا هناك من قال: العلة كل مكيل مزكى، وبعضهم قال: ذكر الطعام ولم يشترط الاقتيات، فأجرى الربا في اللوبيا الحمص الفاصوليا البزاليا الفول، وكل هذه قطنية، ومنع الربا فيها لأنها طعام تؤكل، فأخر المؤلف رحمه الله حديث الطعام بالطعام لعمومه وشموله، فهو أوسع من مدلول المسميات الأخر، فكأنه يقول: إن من ألحق المسكوت عنه بالمنطوق به عنده نص ولا مانع أن يثبت الحكم بنص وقياس وإجماع، لا مانع أن تتوافر على تشريع الشيء كل الأصول: إجماع وقياس ونص من كتاب أو سنة. إذاً: المؤلف أتى بهذا الحديث بعد ما ذكر من الصبرة، ومن الجنيب، والجمع وغير ذلك من المسميات، وهنا جاء طعام بالطعام. ثم كلمة الصبرة، هل بين لنا نوع هذه الصبرة التي لا يجوز بيعها بجنسها مكيلاً أو كل صبرة من طعام؟ كل صبرة من طعام، إن كانت براً إن كانت شعيراً، إن كانت تمر، إن كانت لوبيا، إن كانت فولاً، إن كانت إن كانت ما دام أنه يدخل تحت عنوان الطعام بالطعام. وكون الراوي يقول: (وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) لا يقصر المعنى العام في الجنس على طعامهم، فطعامهم في ذاك الوقت هو الشعير، وطعام غيرهم البر، وطعام غيرهم اللوبيا، وطعام غيرهم كذا، ونحن طعامنا اليوم الأرز، ولهذا يدخل الأرز مع التمر ومع البر في عموم طعام. فنلحقه بالقياس كما تقدم، والعلة هي كل مكيل وقوت ومدخر، إذاً: تساوى مع البر وتساوى مع الشعير في علة الربا، فيكون الرز أيضاً ربوياً، وهذا ما يشير إليه تأخير المؤلف رحمه الله لإيراد هذا الحديث (الطعام بالطعام) .

شرح حديث: قاعدة مد عجوة ودرهم

شرح حديث: قاعدة مد عجوة ودرهم قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل) رواه مسلم] . هذا من المبيعات المتداخلة، كما يوجد الآن عند الصاغة بعض الحلي مرصع بالأحجار الكريمة التي لها قيمة مستقلة، وغالباً تكون أغلى من الذهب، ولكن الذهب إذا بيع بذهب كان جنساً بجنس، والذهب يباع، وزناً بوزن، والأحجار الموجودة معه ستدخل في الميزان، فيكون ذهب بذهب وزيادة أحجار، لكن ينبغي أن نعرف مقدار الذهب الموجود في قطعة الحلي التي معها أحجار كريمة حتى نقول: إن هذه القطعة فيها ذهب عشرون جراماً، وفيها أحجار كريمة عشرة جرامات فيكون الذهب بالذهب عشرين جراماً، وقيمة الأحجار الكريمة نفصلها جانباً إن بيعت بجنسها ذهب. وهناك من يفصل في الأحجار الكريمة مع الذهب ويقول: ننظر أيهما أصل وأيهما تبع، قد يكون الأصل هو الجوهرة من الأحجار الكريمة مثل الياقوت، والزمرد، والماس، وهو أغلى أنواع الأحجار الكريمة، وأشدها صلابة، والفيروز، فهذه الأحجار الكريمة قد تحلى بالذهب، فيجعل لها إطار من ذهب، ويجعل عليها نقوش من ذهب، ويجعل فيها حفريات وتملأ بالذهب، إذاً: يكون الحجر الكريم هو الأصل، والذهب هو تبع. وقد يكون الذهب هو الأصل، سوار من ذهب ورصع في بعض أطرافه أو جهاته بأحجار كريمة من الماس أو من غيرها، فهناك من يقول: ننظر إذا كان الذهب تبعاً للحجر الكريم، واشترينا الحجر الكريم بذهب فلا عبرة بالذهب التابع في هذا الحجر؛ لأنه غير مقصود لذاته، وغالباً يكون طفيفاً، أما إذا كان العكس وكان السوار مثلاً ربع كيلو، والأحجار الكريمة فيه مثلاً خمسة عشر جراماً، فهذه نسبة قليلة جداً، إذاً: الأحجار تبع للذهب، فلا بد أن نعامل الذهب الموجود الذي هو الأصل في تلك السلعة معاملة الذهب بالذهب. ومالك رحمه الله وضح متى تكون الأحجار هي الأصل، ومتى يكون الذهب هو الأصل، فقال: ما كان حده الثلث فأقل، فهو تبع، وما كان الثلثان فأكثر فهو الأصل، وهذا حد تقريبي، فمثلاً حجر كريم محلى بالذهب وزنه مائة جرام، فيه من الذهب عشرة أو عشرون جراماً، فهل بلغ الثلث؟ لا، فهنا عند مالك الذهب تبع وإذا كان العكس، قطعة الحلي وزنها خمسمائة جرام، والأحجار الكريمة التي فيها عشرة أو خمسة عشر جراماً، إذاً: مالك يحد حداً بين ما هو تبع، وما هو أصل؛ أو ما هو أكثر وما هو أقل بالثلث، فما كان الثلث فدون فهو تابع ويعتبر أقل، وما كان أكثر من الثلث فهو أكثر، وهو المقصود بالعقد في البيع والشراء، فإذا كان على سبيل التساوي، فما الحكم؟ إلى عهد قريب كانت تصاغ الدنانير في السوار، أسورة وتحاط بالجنيهات وتعلق حولها، يكون سوار ومعه عشرون أو ثلاثون ديناراً ذهبياً، فإذا كان مع تلك الدنانير أحجار كريمة، وتساوى قدر الدنانير مع الأحجار وبيعت بذهب، فهنا لا نستطيع أن نعرف مقدار الذهب الموجود في القلادة إلا إذا فصلنا ونزعنا عنه الحجارة، فحينئذٍ نستطيع أن نقول: وزناً بوزن، ولكن الآن لو تأتي إلى الصائغ وعنده القلادة أو الأسورة وفيها الأحجار الكريمة، وتقول له: أفصل هذه الأحجار، وزن الذهب بالذهب! لن يوافق؛ لأن هذا يفسد عليه الصنعة، فلا تشتر بالذهب، واشتر بالفضة، وغالب الصاغة يكون عندهم بيان أن هذه القطعة من الحلي يوجد فيها من تلك الأحجار ما وزنه كذا، ويكون قد عرف وزن تلك الأحجار قبل أن يدخلها بالصنعة في هذا السوار، وتقول: يا أخي! أنا أبغى ذهباً بذهب، مثلاً بمثل، فيقول: مرحباً، هذه وزنها خمسمائة جرام، وفيها من الأحجار مائة وخمسون جراماً، إذاً: عرفنا وزن الذهب من وزن الأحجار، فنتعامل مع الذهب الموجود في هذه القلادة على ما عرفنا من وزنه، ولا يبيع بصفة عامة ويقول: والله! ما أدري كم فيها من أحجار؟ ما أدري كم وزن الذهب الذي فيها؟ فكيف يبيع الذهب مثلاً بمثل والحجارة موجودة في القلادة؟! فخروجاً من هذا كله نشتري تلك القلادة الموجود فيها ذهب وحجارة، أو فيها ذهب وفضة، أو فيها ذهب ونحاس، أو على حسب الصنعة؛ نشتريها بالفضة؛ لأنه يجوز التفاضل بين الفضة والذهب، جرام ذهب تأخذه بعشرة جرامات فضة لا يوجد مانع، إذاً: إذا اشترينا بغير جنس الذهب -أياً كان- خرجنا من المحظور. وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تباع حتى تفصل) لماذا؟ لنعرف مقدار الذهب فيها؛ لأنه اشتراها باثنى عشر ديناراً، والدينار معروف في ذلك الوقت، لم يختلف وزنه، الدينار والمثقال اسمان على مسمى واحد، المثقال وحدة وزنية، فالدينار وحدة نقدية، أما الدرهم فوحدة وزنية ونقدية، تقول: هذا وزنه درهم، وتقول: هذا قيمته درهم، وإلى الآن بعض الدول تستعمل الدينار على أنه وحدة نقدية، وكذا الدرهم، مثل الدرهم المغربي، والدرهم في الخليج، إلى غير ذلك. إذاً: لما اشتراها بذهب وجد فيها ذهباً أكثر من الثمن الذي دفع، فيكون أخذ ذهباً بذهب متفاضلاً. وما سبب وجود التفاضل؟ وجود الأحجار في السلعة، وما عرفنا كم وزن الذهب في تلك الحلية. إذاً: لكي نعرف مقدار الذهب، نفصل عنها الحجارة الكريمة إذا أمكن، فإذا لم يمكن، أو كان الصانع بنفسه أو التاجر لا يوافق على الفصل، فلا نقول: افصلوا هذا من هذا، ثم ارجعوه وركبوه، بل لا نجعل الثمن ذهباً لوجود الذهب، ونجعل الثمن فضة، ومهما زادت الفضة أو نقصت عن الذهب فلا محظور في ذلك.

شرح حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)

شرح حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) قال رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) ] من المبيعات المنهي عنها، وتصنف في أبواب الربا، ما ورد في حديث سمرة الذي ساقه المؤلف رحمه الله، وهو النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والحيوان كل ذوات الأربع، والنسيئة التأجيل والتأخير، وهذا الحديث يعتبر من المشكلات، فقد ورد ما يعارضه من حديثي أبي رافع وابن عمرو، أما حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه فيقول: (استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً، فرد رباعياً) ، وحديث ابن عمرو يقول: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فكنت آخذ البعير على البعيرين من إبل الصدقة) ، فحديث أبي رافع وحديث ابن عمر كلاهما فيه نسيئة، وحديث سمرة ينهى فيه عن النسيئة! وهنا وقف العلماء ما بين الجمع بين الحديثين، وما بين ادعاء النسخ، وما بين الترجيح بين سند الطرفين، أما حديث سمرة فروي عن الشافعي رحمه الله أنه جمع بينه وبين حديث أبي رافع وابن عمرو قائلاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إذا كان كلاً من المبيع والثمن غائباً، أي: كلا طرفي العقد غائباً، كأن تقول: عندي جمل نجيب جيد، فقال لك الآخر: اشتريه منك بجملين أو بثلاثة، وكل من الجمل المبيع والجملين أو الثلاثة -الثمن- غائبة غير حاضرة، بأن قال لك المشتري مثلاً: أين جملك؟ تقول: إنه مع الإبل يرعى في المرعى، ويقول البائع: أين جملاك؟ أو أين الثلاثة الجمال؟ فيقول: إنها تأتيني بعد غد، فيتبايعان حيوان بحيوان كلاً منهما غائب، هكذا فسر الشافعي رحمه الله حديث سمرة في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي: أن يكون النَسَاء في كلا الطرفين. وذهب الأحناف ورواية عن أحمد بأن هذا الحديث ناسخ لحديث أبي رافع: (تسلف بكراً فرد رباعياً) ، فـ الشافعي يجمع بين الروايات ويقول: الجمع أولى من اطراح أحد الطرفين بادعاء النسخ، والجمهور يقولون: النسخ يحتاج إلى دليل. وهناك من يقول: إن حديث سمرة أقل إسناداً من حديث أبي رافع ومن حديث ابن عمرو، وقد ذكر الصنعاني شارح هذا الكتاب رحمه الله بأنهم اختلفوا في هذا الحديث وصلاً وإرسالاً، فبعض العلماء يقول: هو مرسل، وبعضهم يقول: موقوف على ابن عباس، ومعلوم عند الفقهاء أن المرسل: هو ما لم يذكر فيه الصحابي، كما قال الناظم: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راو فقط فعلى هذا يكون حديث سمرة إما أنه أضعف سنداً، وإما أن يجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى بأن النسيئة تحمل على الطرفين، وبيع النسيئة من الطرفين مجمع على النهي عنه، ويسمى بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو الدين، فلا يجوز بيع دين بدين، فتقول: اشتر ديني الذي علي لك بكذا، وأين ثمن الدين؟ يقول: مؤجل! إذاً: دين بدين لا يجوز، ويقولون: تفسير الشافعي رحمه الله يجمع بين الحديثين. وبعد ذكر الخلاف في هذا الحديث، نأتي إلى ما ذكره المؤلف بقوله: رواه الخمسة، والخمسة هم السبعة ما عدا البخاري ومسلم، أي: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، فنأتي إلى أبي داود؛ فنجده يبوب على هذا الحديث كراهية بيعه، ثم بعده يأتي بحديث سمرة، ثم يقول: باب: الرخصة في ذلك، ويذكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشترى جملاً بجملين وقدم أحد الجملين وقال: الآخر آتيك به غداً، ويعني بالرخصة: أن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يكون رخصة. والترمذي ذكر حديث سمرة ثم قال: وقد ترخص بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وذكر أثر ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا يكون النهي أقل ما فيه الكراهية، وهناك من حمله على المنع والتحريم، وهناك من حمله على أنه ناسخ لغيره، وهناك من رجح أن الحديث ضعيف السند، ووجدنا صنيع أبي داود وصنيع الترمذي أنهم عقبوا هذا الحديث بذكر الرخصة، فيكون الأولى ترك ذلك، اللهم إلا إذا حصل اضطرار ولا اضطرار في ذلك؛ لأن صورة بيع ابن عمر أنه اشترى بعيراً ببعيرين، ودفع بعيراً اليوم، وقال: الثاني آتيك به غداً، إذاً: أقل الدرجات أن هذا الحديث يحمل على الكراهية، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب الربا [4]

كتاب البيوع - باب الربا [4] إذا كانت الأمة تقدم دنياها على دينها، وتمزق دينها لترقع دنياها، وتترك الجهاد في سبيل الله، وتتغافل عن فضائله وفوائده؛ فإن الله يبتلي هذه الأمة بالذل والصغار أمام الكفار حتى ترجع إلى دينها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام هذا في حديثه المشهور الذي يعتبر من دلائل نبوته، فينبغي تدبره، والانتفاع به.

شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)

شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ] . إذا تبايعتم، يعني: حصل البيع من طرفين أو من أكثر تكراراً، وصار البيع بالعينة متداولاً، شائعاً ظاهراً فاشياً، (واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) اتبعتم أذناب البقر فيه تقبيح، وإن كان العمل شريفاً؛ لأنه في مقابل ترك الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فما كان معطلاً لهذا السنام فإنه يقبح، واتباع أذناب البقر كناية عن الاشتغال بالزراعة والحرث، والتعامل مع البقر. ومن النعم الزراعة، واختلف العلماء أيهما أفضل: الزراعة أم التجارة؟ قيل: إن الله أنزل مائة قيراط من البركة، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في جميع الأعمال، ومع ذلك فالزراعة أفضل من التجارة؛ لأن كسب التجارة للتاجر، وفائدة الزراعة للإنس وللحيوان وللطير، وحتى للجن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتاه وفد الجن ثم قالوا: (نريد الطعام يا رسول الله! فقال لهم: كل عظم ذكر اسم الله عليه؛ كساه الله لكم لحماً كأوفر ما كان) ؛ ولهذا يسن للإنسان إذا ألقى العظام أن يسمي الله ليكون طعاماً لمؤمني الجن لا لكفارهم، قالوا: (وعلف دوابنا؟ قال: كل روث حيوان يكون علفاً لدوابكم) . إذاً: الجن إما أن يأكل من الزرع مباشرة، أو بالواسطة، وقد جاء أنه سرق الطعام من هذا المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه كان حارساً عليه، فأمسكه ليلة ثم ثانية ثم ثالثة، وفي كل مرة كان الجني يعتذر ويقول: أنا مسكين، أنا صاحب عيال، ويتركه، وفي المرة الثالثة قال: لأربطنك حتى تصبح بيدي رسول الله، فقال: أقول لك: اتركني هذه المرة، وأعلمك آية تحرس لك كل شيء من جميع الجن، فقال: وما هي؟ قال: آية الكرسي، إذا قرئت على شيء لا يستطيع جني أن يقربه. فتركه، وهذه فائدة عظيمة، ولما غدا أبو هريرة على رسول الله في الصباح استقبله رسول الله وقال: (ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! قال: والله! يا رسول الله! كذا كذا، فقال: أتدري مع من كنت تتعامل في الليالي الثلاث؟ قال: لا، قال: إنه من الجن) ، إذاً: الجني يأخذ الطعام ويأكله، فالزراعة يستفيد منها الجن مع الإنس، والزراعة هي أصل الأقوات، والتاجر لا ينبت نبات الأرض، والحبوب والألبان واللحوم كلها ليست إنتاج التاجر الذي في المعرض! بل هي بسبب الزارع الفلاح الذي يكابد الليل والنهار، ومع ذلك يكني صلى الله عليه وسلم عن هذا ويقول: (واتبعتم أذناب البقر) لماذا؟ (وتركتم الجهاد) .

ترك الجهاد مهلكة

ترك الجهاد مهلكة ترك الجهاد مهلكة، ذكروا في تفسير قوله سبحانه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] قصة رجل من المسلمين، اصطف الفريقان، فبرز من الصف وقاتل واخترق صف الكفار حتى اخترقه إلى الجهة الأخرى، ثم جاء راجعاً أيضاً كاراً يقتل من يلاقيه حتى رجع إلى صف المسلمين. فقال قائل: هذا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وحده يخترق صفوف العدو! والله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال رجلٌ من الأنصار: لا تقولوا ذلك، والله! لقد نزلت فينا معشر الأنصار، لما أتم الله الدين ونزل على رسوله الكريم: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقلنا: لقد انشغلنا عن أموالنا وبساتيننا ومزارعنا، وقد انتشر الإسلام، لو رجعنا إلى مزارعنا لنصلحها، فنزلت: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال: التهلكة بترك الجهاد؛ لأننا إذا تركنا الجهاد جاءنا العدو، وما انتصر الإسلام وانتشر إلا بالاستمرار في الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) .

فضل الجهاد في سبيل الله

فضل الجهاد في سبيل الله وفضل الجهاد ليس في حاجة إلى بيان، وتكفي آية واحدة، فالمولى سبحانه وتعالى هو الممتن على الإنسان بإيجاده، والممتن عليه بما بيديه، ثم يأتي سبحانه ويتلطف مع عباده ويعقد معهم صفقة ويقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111] اشترى منهم ماذا؟ {أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111] ، هل ورثوها من آبائهم؟ هل صنعوها؟ هل أنتجوها؟ لا، بل منحهم الله إياها، وكما يقول ابن القيم وغيره من علماء الرقائق: أنفسهم هنا هي أرواحهم، والنفس تطلق ويراد بها الروح، وتطلق ويراد بها الجسم مع الروح معاً، قال الله: {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] ، وقال: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93] ، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:27-28] ، فقد تطلق ويراد بها الروح فقط، وقد يراد بها مجموع الإنسان، فهنا اشترى من المؤمنين أنفسهم، يعني: شخصيتهم روحاً وجسماً (وَأَمْوَالَهُمْ) اشتراها، وما هو الثمن؟ (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) الثمن والله غالٍ، وسلعة الله غالية، (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) ، إذاً: يكفي هذا، وقال تعالى عن الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، فلا حاجة إلى الكلام في هذا، والسكوت عنه أولى؛ لأنه بوضوحه لا يحتاج إلى بيان، فترك الجهاد في سبيل الله مهلكة، ومن يوم أن ترك الناس الجهاد في سبيل الله واشتغلوا بالزراعة وببيع العينة، سلط الله عليهم الذل.

الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا

الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا، وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، وقال: (التاجر البار مع الكرام البررة) ، وتقول عائشة: (من بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له) ، فالإسلام دين عمل، ودين إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وقال عن الجسم: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ، تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض. فإذا نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير. ونجد النصارى غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت الأمة المحمدية كما وصفها الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ، يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله في افتتاحية المصحف في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] . والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في العبادات وفي المعاملات، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا، قصدوا وأخذوا الوسط {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] لماذا؟ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، أمة متوسطة بلا إفراط ولا تفريط. وجاءت النصوص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس، واذهبوا إلى أين؟ {أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] . والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل النصارى؟ لا، {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ} [الجمعة:9] هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون الأودية، بل على قمم الجبال! {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] . {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] (ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . أيها الإخوة! الإسلام جمع بين المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده. واسأل اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة، وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول: والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها. إذاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) ، أما إذا لم نترك الجهاد فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله لا يوازي 25% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع، وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا 10% فقط! ويقول أستاذ الاجتماع علي عبد الواحد وافي: لو أن مصر زرعت نصف أرضها الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!! والله! شيء مؤلم يا إخوان!

حرمة بيع العينة

حرمة بيع العينة حذر النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من بيع العينة، وقد وقع مصداق ما قال: (إذا تبايعتم بالعينة) ، والعينة عند الفقهاء: اصطلاح لنوع من البيع مخصوص، وهي صورة واحدة عند الجمهور، وعند الحنابلة عكس العينة يأخذ حكم العينة، والعينة: هي من العين، قيل: هي الاشتغال بالنقد عندما تكثر الأموال بأيدي الناس، ومن قبل كانت المعاملات مقايضة بيع الصنف بالصنف. والآخرون يقولون: لا، العينة هي بيع العين بذاتها بيعتين: تأتي إلى التاجر وتريد منه قرضاً ألف ريال، فيقول لك: والله! أنا ما عندي قرض، أبيع سكراً وشاهياًوأرزاً، ولكن من أجلك أنا أبيعك من السكر مائة كيس بألف ريال. - أنا ما عندي فلوس. - لا مانع، لك مهلة. اشتريت المائة كيس بألف ريال وتدفعها بعد ستة أشهر! وأنت جئت تبغى أكياس سكر أو تبغى ريالات؟! تبغى الريالات، وهو يعرف هذا، وكتب: عليك ألف ريال قيمة مائة كيس سكر، تقول: هات الأكياس! فيقول: نعم، هي موجودة انظرها بعينك لكن قل لي: أين تضعها؟ وما تبغى بالمائة الكيس؟ هل ستفتح محلاً؟! - لا، ما أنا فاتح محل، سأذهب أبيعها، وآخذ ثمنها، وأقضي حاجتي، فالتاجر يقول لك وكأنه يعاملك بالرفق وبالمعروف: لا يا أخي! لا تتعب نفسك، أنا أشتريها منك بالنقد. - اشترها مني. - بثمانمائة!! - أنت الآن بعتها لي بألف!! - لا، ذاك مؤجل، لكن هذا أعطيك الثمانمائة الآن. فأنت تقول: أين أبيعها؟ فتختصر الطريق وتقول له: هات ثمانمائة. - خذ، فأخذت الثمانمائة في جيبك، ورجعت إلى بيتك، وحقيقة الأمر آلت هذه الزيادة الكريمة لهذا التاجر الرحيم الرفيق إلى الربا، فإنك أخذت ثمانمائة نقداً، وعلى ظهرك ألفٌ مؤجلة، ويبقى الفرق بينهما مائتين، هذه هي العينة، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول: (. الربا بينهما حريرة) ، كان بعض الناس يجلس في دكانه وعنده أثواب قماش حرير أو قطن أو غير ذلك، فيأتيه رجل فيقول: يا فلان! أبغى ألفين ريال قرضة. - والله! ما عندي، خذ لك بالدين حريراً، فأخذ حريراً بالمبلغ الذي يريده إلى سنة، فيبغى يأخذه، فيقول له: أين تذهب؟! لماذا تتعب نفسك؟! أنا اشتريه منك بكذا، ويرجع الحرير إلى محله، ففي هذه الصورة تتحقق العينة، ويتحقق الربا. ولكن يقول الفقهاء: إذا كان التبايع على بابه. أنت بحثت عمن يقرضك ألفاً فلم تجد، فجئت إلى التاجر واشتريت منه البضاعة ديناً على نية أنك تبيعها، وتأخذ الثمن وتقضي مصلحتك، فاشتريت منه بألف ريال ديناً إلى ستة أشهر، لا ننسى النهي عن بيعتين في بيعة، ولا ننسى زيادة الثمن من أجل الأجل. فأخذت السكر أو الرز من التاجر، وسجل عليك الثمن إلى نصف سنة، ثم جئت بالسيارة وحملت الرز أو السكر إلى بيتك، ثم أخذت تبيعه على من يأتيك، ولا علاقة للبائع في بيعك بالنقد، فالجمهور على أن هذا جائز، ويسمى التورق. ولو ذهبت بالبضاعة من عند التاجر إلى السوق، وقلت: يا دلال! حرج لي على هذه المائة كيس من الرز، بخمسمائة بستمائة حتى وقف المزاد على ثمانمائة، من الذي يزايد؟ إذاً: الذي يزايد، ويشتري، بعيد كل البعد عن البائع، فالبيع صحيح ولا شيء فيه، أما إذا كان البائع بالأجل أرسل شخصاً وراء المشتري ليشتري منه البضاعة بنقد بكذا، فهذه عين العينة، أما إذا بيعت على غير بائعها، مؤجلاً أو بأي ثمن كانت نقداً، ولا ترجع إلى صاحبها الأول، ولا إلى من لا تجوز شهادته له من الأقارب أو الشريك أو الوكيل؛ إذا لم ترجع للأول فلا شيء عليه. إذاً: العينة متى تكون محرمة؟ إذا رجعت السلعة المبيعة بثمن مؤجل إلى بائعها بنقدٍ أقل من ثمن التأجيل.

حرمة الحيلة على الربا

حرمة الحيلة على الربا ما هو عكس العينة؟ إنسان احتاج إلى نقد وما وجد أحداً يعطيه، فبحث عمن يبيعه أرزاً إلى آخر السنة بثمن مؤجل فما وجد أحداً يعطيه، هو غير معروف في السوق أو غير مؤتمن أو مماطل، المهم ما أحد بايعه، فذهب إلى البيت وقال لزوجته المسكينة: اعملي معروفاً، هات المصاغ الذي عندك، وأنا أبغى كذا، وأبغى أتصرف، وأفعل لك وأفعل، حيل كثيرة تحصل، فقالت: لا مانع يا ابن الحلال! تفضل، فأخذ المصاغ من المرأة، وذهب إلى الصائغ وقال: أنا عندي هذا الحلي وأريد أن أبيعه، قال: ما عندي مانع، فوزنه وقال: والله! هذا قيمته ألف ريال، فقال: بعت، أعطني الألف، الصائغ أخذ الحلي، والرجل أخذ الألف، ووضعها في جيبه، ثم قال للصائغ: يا شيخ! والله! أنا آسف، هذا حق امرأتي، وأنا قلت لها: سآتي لك به، وأخاف أن تقع مشكلة ونزاع وكذا وكذا، اعمل معي معروفاً، خلصني من هذه المشكلة، قال: ماذا تريد؟ قال: أنا أشتريه منك بثمن مؤجل بألف ومائتين. قال له: لا مانع، اكتب لي سنداً بألف ومائتين ثمن حلي وزنه كذا، تفضل خذ الحلي، فرجع إلى بيته بحلي المرأة، وبألف ريال، وعلى ظهره للصائغ ألف ومائتان ريال، فهذا حكمه حكم بيع العينة، فالحلي دليل على الطريق، والعملية انتهت على ألف ريال نقداً، بألف ومائتين بعد سنة، وهذا عكس العينة؛ لأن المبيع ملك المشتري، بخلاف الأولى، وكلاهما مآله إلى الربا. ما موقف العلماء من هذا العقد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، مالك، أحمد رحمهم الله على فساد البيع والتحريم. الشافعي يقول: إن كان البائع والمشتري لأكياس الأرز مثلاً متفقان بنظرات العيون، وبقسمات الوجوه، ويعرفان بحالة الواقع، وكلاهما يعرف ماذا عند صاحبه، فكأنهما متفقان لفظاً، وكما قيل: الموجود عرفاً كالموجود حقيقة، فإذا جاء إلى رجل معروف أنه قعد في دكانه، ولا يبيع أرزاً ولا سكراً، عنده عشرون أو ثلاثون كيساً على طول السنة وهي موجودة، ويبيعها في اليوم عشرين مرة! ويسترجعها، إذاً: الذي يأتي إليه عادة هل يريد أن يشتري أو من أجل العينة؟ من أجل العينة؛ لأنه معروف بهذا، يقول الشافعي رحمه الله: إذا وقع العقد على غير اتفاق بين الطرفين فلا مانع. والجمهور يقولون: لا يجوز أبداً، ما دامت السلعة سترجع إلى بائعها؛ فسداً للباب تمنع، ومالك خاصة عنده سد الذرائع مقدم، وهو أصل من أصول مذهبه، وسد الذرائع هو: ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس. إذاً: حكم بيع العينة عند الأئمة رحمهم الله أنها ممنوعة وباطلة عند الأئمة الثلاثة، وفيها تفصيل عند الشافعي، وأجاب عليه الجمهور، وبالله تعالى التوفيق.

معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر)

معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر) في قوله صلى الله عليه وسلم: (واتبعتم أذناب البقر) بعضهم يصرفه إلى شيء بعيد فيقول: إذا سخر القوي الضعيف، وساقه بذنب البقر، ففي بعض الجهات يتخذ من ذنب البقر سوط، خاصة في حالات الطغيان، وتسخير الناس في مشاريع حفر نهر، أو في بناء جسر، أو في كذا وكذا، ويسخرون المواطنين للعمل بالقوة دونما أجرة، من أجل أن يقيموا تلك المشاريع، ويسوقونهم بسياطٍ من ذنب البقر، وبعضهم يستعمل إحليل البقر سوطاً، ييبسه بالملح ويصبح كالسوط إلى غير ذلك، ولكن التفسير الصحيح هو الأول: اتبعتم أذناب البقر: أي بالزراعة، وتركتم الجهاد من أجلها، ويكون عليه هذا الوعيد: (سلط الله عليكم ذلاً) ؛ لأنكم تركتم الجهاد الذي فيه قتل النفس، وقتل النفس عزة، تطلب إحدى الحسنيين: شهادة أو نصر، والجزاء من جنس العمل، فعوملوا بنقيض قصدهم، هم تركوا الجهاد ليسلموا من القتل فجاءهم الذل، والذل موت معنوي، وانظر إلى الرقيق إذا أعتقه رجل، فله الولاء؛ لأنه بمثابة من أحياه حياة معنوية (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ، هذه المصيبة الكبرى، إذاً: ما يقع في الأمم من كوارث وأحداث ومذلة للأفراد والجماعات، إنما هو بسبب، وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولكن من قضائه إذا تركت الجهاد سلط عليك الذل، فإذا تركتم الجهاد واستعضتم عنه بالدنيا، جاء الذل بسبب ذلك، ولا يرفع هذا الذل الذي لحق بالأمة حتى ترجع إلى إلى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ، ولما سألوا في غزوة أحد {أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ، لماذا من عند أنفسهم؟! الرسول يؤكد عليكم: (لا تبرحوا أماكنكم ولو رأيتم الطير تتخطفنا) ، فنزلوا إلى الغنيمة، فحصل ما قضا الله وقدره، وما شاء فعل {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] . المهم أن آخر هذا الحديث خطير؛ لأن الأمة الإسلامية إذا أرادت عزتها وأرادت مكانتها التي كانت عليها في القمة، وفي المقدمة؛ فلتجاهد في سبيل الله؛ وبهذا تحصل لها قيادة الأمم، والوسطية الكريمة، والخيرية على الناس، وإنما يحصل هذا بالدين، فإذا شغلت عنه وضيعته، ضيعت مكانتها وأفلت الزمام من يدها، فمتى ترجع إلى دينها، يرد الله عليها ما أخذ منها، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الربا [5]

كتاب البيوع - باب الربا [5] الرشوة من أعظم الأمراض التي تفتك بالأمة، وفيها مفاسد كثيرة، وأضرار عديدة؛ على الأفراد والمجتمعات، ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها حرمت الرشوة، بل وحرمت ما يشبه الرشوة، وزجرت عنها زجراً شديداً، ورهبت منها ترهيباً عظيماً.

شرح حديث: (من شفع لأخيه شفاعة.

شرح حديث: (من شفع لأخيه شفاعة ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) رواه أحمد وأبو داود] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديثاً فيه التقبيح والتنفير من أخذ الهدايا على خدمة الإنسان وفعل الخير، وخاصة في باب الشفاعة، وأصل الشفاعة من الشفع، والأساس في هذا أن الإنسان واحد فرد، فيأتي بشخص معه فيشفعه فيكونا شفعاً، وكما يقولون: العدد إما فرد وإما شفع، فالشفع ما قبل القسمة على اثنين بدون باق، والفرد: الأعداد الفردية أو الآحاد، وهي التي لا تقبل القسمة، مثل: الثلاثة الخمسة السبعة والإنسان وحده قد لا يستطيع أن يصل إلى حاجته عند من هي عنده، فينظر أقرب الناس إلى ذاك الشخص أو من لهم عليه سلطان أدبي أو اعتباري أو حقيقي، فيأتي إليه ويقول: أريد أن تشفع لي عند فلان، أي: تذهب معي بدلاً من أن أكون وحدي، فأكون أنا وأنت، فتشفع لي عنده في كذا وكذا، والشفاعة فضلها معروف عند الجميع: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) . والشفاعة يوم القيامة يعطيها الله للأنبياء وللصلحاء وللعلماء، وقد يشفع الإنسان في جيرانه وأهل بيته، والطفل يشفع في أبويه، وأعطي صلى الله عليه وسلم سبعة أقسام من الشفاعة، وأهمها الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وذلك حينما يشتد الأمر على أهل الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس، فيقول بعضهم لبعض: (ألا تنظرون من يشفع لنا عند ربنا ليأتي لفصل الخطاب؟) ، فيذهبون لآدم أبي البشر، فيعتذر بقوله: إني أكلت من الشجرة وقد نهيت عنها. فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتذر، والله أعلم بنوع العذر، يقول: كذبت كذبة: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] . ومن اللطائف أن شيخ القراء في المدينة الشيخ حسن الشاعر كان في محفل مجيء المحمل المصري للحج، فقرأ: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:62-63] ، فقام بعض شيوخ القراءات فحمله وقبّله وكان غلاماً، فإنه وقف على قوله تعالى: ((قَالَ بَلْ فَعَلَهُ)) [الأنبياء:63] كأنه تصديق على قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] {بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء:63] يعني: إبراهيم فعله، ثم استأنف كلاماً جديداً: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] ، ويكون فيه تورية على أن الفاعل فعلاً هو إبراهيم، ولم تكن هناك كذبة، ولكن العلماء يذكرون هذه الكذبة في حديث الشفاعة، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله ويعتذر أيضاً بقوله: إني قتلت نفساً، اذهبوا إلى عيسى، ويعتذر عن الشفاعة، اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها، أنا لها، ويذهب ويسجد تحت العرش، ويلهمه الله محامد لم يكن يعلمها في الدنيا) ، وهي المنوه عنها في الحديث: (بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فمن تلك الأسماء الحسنى التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده يلهمها رسول الله في ذلك الوقت، فيحمده بها، ويسبحه بها، ويدعوه بها، حتى يستجاب له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) ، فيشفع في جميع الخلائق، فيغبطه على تلك الشفاعة الأولون والآخرون. قوله: (من شفع لأخيه) يعني: مشى معه في حاجة إلى إنسان، سواء كان هذا الإنسان حاكماً أو غير حاكم، ومطلق حاجة الإنسان عند آخر لم يستطع أن يظفر بها وحده، فيبحث عن شخص له عنده وجاهة، ولا يرد له طلب، قد يكون بسبب إحسان إليه، وقد يكون مكرهاً، كما لو جاء إنسان يشفع لآخر، والشفيع هذا صاحب سلطة وقوة، والمشفوع عنده يخشاه، فإذا رد شفاعته يخشى أن يتسلط عليه، فيقضيها رغماً عنه، أو يكون الشفيع صديقاً محباً مثل زوجه أو ولده أو أبيه أو صديقه، فيكلمه فيه، ويقضي له حاجته من باب المودة والملاطفة والإحسان. وقوله عليه الصلاة والسلام: (من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية) ، يعني: بعد الشفاعة، وتكون هذه الهدية كأنها مكافأة على شفاعته، فكأنه أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، لماذا؟ يقولون: تلك الشفاعة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون شفاعة في حق، وإما شفاعة في باطل، والشفاعة في الحق حق، ولا ينبغي أن تأخذ على الحق أجراً، فمن حق أخيك عليك أن تساعده، ولك أجر عند الله، وإن كانت الشفاعة في باطل فهي باطل، ولا يجوز لك أن تمشي فيها، فضلاً عن أن تأخذ عليها هدية، ومشابهة الهدية بالربا أن كلاً منهما مالٌ في غير مقابل، وقدمنا أن علماء الاقتصاد يقولون: الحياة تبنى على المعاوضة، فسلعة وثمنها متعادلة، ألف ريال قرضه، وألف ريال سداد؛ متعادلة، لكن ألف ريال قرضه وألف ومائة سداد؛ فالألف مقابل الألف، والمائة مقابل ماذا؟ هي زائدة عن الحق، فكذلك الهدية في شفاعته لأخيه زائدة، لماذا تأخذ هدية مقابل مشيك مع أخيك؟! فهذا تقبيح وتنفير من أخذ شيء على الشفاعة؛ لأن هذا إما حق لأخيك فعليك أن تؤديه إليه، وأجرك على الله، وإما باطل فيجب أن تبتعد عنه، بل وتنهاه عنه، لا أن تسعى معه وتأخذ هدية.

شرح حديث: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي)

شرح حديث: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي) قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه أبو داود والترمذي] . الحديث السابق فيه: شافع، ومشفوع عنده، ومشفوع إليه، وقضيت الحاجة ودفع إليه هدية. والموضوع الثاني هنا: موضوع الرشوة، والرشوة أخطر وأضر داء في المجتمعات، يفسد الدين والدنيا، والفرد والجماعة والحاكم والمحكوم، فالرشوة في الغالب لا تكون إلا في باطل؛ لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة في الغالب، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، وسميت رشوة للمحاكاة، وأما الغالب الدائم فهو أن تدفع رشوة للباطل، وأما إن كنت صاحب حق فحقك يصل إليك. إذاً: الرشوة: ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، والله سبحانه وتعالى أشار إلى خطر الرشوة في موطن تشريع عجيب يا إخوان! ففي سياق آيات الصيام قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، ويمضي المنهج والأسلوب في التشريع وفي الرخص وفي الفدية، ثم في إباحة ما كان محرماً، ثم ذكر أول الصيام وآخر الصيام، ثم التحذير من حدود الله فلا تقربوها، ثم النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، ثم في النهاية قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، تدلوا: من الإدلاء وهو الدلو (وَتُدْلُوا بِهَا) أي: بأموالكم، فالدلو تدلونها إلى قاع البئر لتأخذوا الماء، فكذلك الرشوة، والرشوة من الرشا، والرشا هو الحبل الذي يتدلى به الدلو إلى قاع البئر، فكأن الرشوة بمثابة هذا الحبل الذي ينزل الدلو إلى قاع البئر لأخذ الماء، فكذلك عند الحكام، فالرشوة هي الحبل الذي يتوصل به الراشي إلى المرتشي ليأخذ منه ما يريد، من إبطال حق خصمه أو إحقاق باطله عليه. وأقول: إن هذا من عجائب التشريع والإعجاز في كتاب الله؛ لأن الآيات في صيام رمضان ولوازمه، ثم قبل الخروج منها يأتي النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وبعدها: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] ، فأيهما ألصق بالصيام: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أو {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] ؟ الأهلة من تتمة أحكام الصيام (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، لكن حجزها في الأخير، وجاء قبلها بتحريم الرشوة، وكأن السياق الكريم يقول لنا: صمتم رمضان، وصمتم عن الحلال، أمسكتم عن الطيبات، وتعففتم عن الزوجات طيلة الشهر، فأنتم كمن دخل مصحة وهو مريض فتعافى، فقفوا هنا فكما صمتم عن الطيب الحلال من المطعم والزوجة؛ فصوموا عن أموال الناس بقية العام، لا تأكلوا أموال الناس، وأنتم صيام ما أكلتم أموالكم الحلال، وكذلك بعد رمضان لا تأكلوا أموال الناس بالباطل. ويقولون: بعض الدول الأوروبية تفشت فيها الرشوة، وهي من لوازم الحروب، إذا وقعت حرب في دولة لا بد أن تأتي الرشوة؛ لأن مواد الغذاء والتموين تقل، وليس كل إنسان يحصل على حقه إلا بالرشوة، والمظالم تكثر، فقيل لرئيس وزرائها: لقد تفشت الرشوة في البلد وأفسدتها، فقال: أخبروني عن القضاء، هل وصلته الرشوة أو هو سالم منها؟ قالوا: القضاء سالم منها، فقال: إذاً: البلد بخير؛ لأن القضاء سيرد كل شيء إلى أصله، فالرشوة في القضاء مفسدة كبيرة، يأتي شاهد الزور ويأخذ الرشوة من المشهود له، ويقف أمام القاضي ويشهد، والقاضي لا يعلم الغيب، بل المصطفى صلى الله عليه سلم يقول: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، يأتي بها أسطاماً يوم القيامة في عنقه) ، والأسطام الحديد الذي يحرك به النار، يحرك به الفحم والحطب حتى يشتعل، فلما سمع كلاً منهما ذلك تراجعا، وقالا: حقي لأخي، لا أريد شيئاً. ويهمنا أن سيد الخلق يقول: (وإنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ؛ لأن الوحي لن يأتيه في هذه؛ لأنه يشرع ويسن للناس، فإذا كان يأتيه الوحي سيقول: الحق عند فلان، والحق عند فلان، والقضاة الآخرون من سيأتيهم؟ وهل جبريل سينزل للقضاة بعد هذا؟! لا. فالرشوة تفسد النظام، وتضيع المصالح، وتحق الباطل، وتبطل الحق، وإذا أُبطل الحق، وحق الباطل فليس هناك فساد أكثر من ذلك. إذاً: من هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي) وهو دافع الرشوة، (والمرتشي) أي: آخذها، وفي لفظٍ: (والرائش بينهما) أي: الساعي بينهما، يقول: كم تدفع لفلان ويمشي لك كذا؟ كم تأخذ من فلان وتفعل له كذا؟ ويساوم ويسعى بين الاثنين، هذا يقول: أدفع ألفاً، وهذا يقول: لا، أنا ما يكفيني إلا ألفين، ولا يزال يتوسط حتى يوصلها إلى ألف وخمسمائة، هذا هو الرائش، وقلنا: الثلاثة يلحقهم هذا الإثم: هذا بدفعه إياها، وذاك بأكلها، وهذا بالسعي فيها. واليهود ذموا لأكلهم السحت، والسحت هو الرشوة، أو الحرام، أو الباطل، والكل يرجع إلى مصب واحد، وعلى هذا يجب على كل مسلم أن يتجنب مسلك الرشوة.

حكم إعطاء الرشوة للضرورة؟

حكم إعطاء الرشوة للضرورة؟ إذا كان هناك موقف اضطرار، فهل تدخل الضرورة في الرشوة أو لا تدخل؟ هناك من يقول: لا ضرورة في الرشوة أبداً، الراشي والمرتشي بأي حالة من الحالات كلاهما داخل في اللعن. وهناك من يقول: ليس الراشي كالمرتشي، المرتشي داخل في اللعن مطلقاً، ولكن الراشي قد تأتيه ظروف يضطر إليها كما يضطر الجائع إلى أكل الميتة. وقد سبق -يا إخوان- أن كتبت في هذا الموضوع بحثاً مطولاً، ونشر في مجلة الجامعة الإسلامية، ومما وقفت عليه أن ابن مسعود كان في الحبشة، وفي طريقه اعترضه قطاع الطريق، وأخذوه ورفيقاً معه، وأوثقوهما وباعوهما، فجاءا إلى الوالي ليخلصهم، يقول: ما وجدنا مخلصاً كالرشوة، دفع كل منا دينارين للوالي فأعتق سراحنا. وفي المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله أن الراشي إذا اضطر لإحقاق الحق الذي سيبطل أو إنقاذ الحق الذي سيموت أو مات؛ فله أن يفعل ذلك، ويحرم على المرتشي أن يأخذ، ومثل بمثالين: لو أن رجلاً كان مع زوجه، وليس هناك إلا الله، وتحت سقف غرفة النوم قال: أنت طالق بالثلاثين. ولا يوجد ورقة، يا ابن الحلال! خف الله! - ومن الغد ذهبت لأهلها، وأخبرتهم بالطلاق الموثق والمؤكد، وجاءهم يطلبها، فقالوا: أنت طلقتها! قال: لا، أبداً هي تكذب، أنا في عمري ما تكلمت بالطلاق، ولا عمري أطلقها أبداً. تعال -يا ابن الحلال- أنت ما قلت: طالق بالثلاثين؟ أنا قلت هذا؟! ما خرجت مني كلمة. فأهلها قالوا لها: أنت كذابة، أنت تبغي تشردي، اذهبي مع زوجك، فرجعت مع زوجها، ودخلت بيته وقد صمت أذناها بلفظ الثلاثين، فماذا تفعل في هذه الحالة؟ هل تمكنه منها وهي مطلقة بالثلاثين، فتكون قد أتت الزنا يقيناً؟ ماذا تفعل؟ هي مغلوب على أمرها. يا ابن الحلال! خف الله أنت مطلق! قال: تريديني أكتب لك ورقة بالطلاق، وأسرحك إلى أهلك؟ أعطيني ثلاثين ألفاً! ورجعت المسألة إلى المساومة، فهذا الذي تدفعه المرأة لهذا الزوج المنكر يعتبر رشوة، وإذا كانت تستطيع أن تدفع فهل تدفع وتبعد عن طريق الزنا المتيقن في اعتقادها أو تستمر معه على طلاق الثلاثين؟! تدفع؛ لأنها مضطرة، وليس باختيارها، وهل له حق أن يأخذ هللة واحدة؟ ليس له حق، وعليه أن يقر بالحق، وليس له أن ينكر ذلك! والصورة الثانية: سيد كان مع عبده في سفر أو في خلوة أو في أي مجال، فخدمه خدمة طيبة وقال: أنت معتق لوجه الله، جزاك الله خيراً على ما عملت، وأنت عتيق لوجه الله، ومشيا ولما رجعا إلى البلاد تأسف وقال: كيف يضيع هذا العبد؟ فقال له: يا سيدي! أعطني ورقة بالعتق، فقال: عتق ماذا؟ - أنت قد عتقتني! قال له: أنت مجنون؟ لا عتق ولا شيء! هل يظل في الرق، وهو يعلم يقيناً أن سيده قد أعتقه أو يخلص نفسه من الرق الباطل الموجود حالياً؟ يخلص نفسه، وقال: إذا أردت أن أقر لك بالعتق فأعطني مالاً، فحينئذٍ يعطيه على أنها رشوة ليثبت حريته ويخرج من الرق، والسيد لا يحل له أن يأخذ المال، فهذا يعطي لإحقاق الحق، وذاك يأخذ بالباطل.

جواز إعطاء الظالم مالا لكف شره أو تقليله

جواز إعطاء الظالم مالاً لكف شره أو تقليله يذكرون في كتب الفقه لو أن ناظر وقف أو وصي أيتام ابتلي بظالم اعتدى على عين الوقف، وأخذ جزءاً منه، مثلاً جاره اعتدى على الحد، وأخذ جزءاً منه، حاول ناظر الوقف هنا وهناك في المحكمة أن يرجع الحق، وأبرز وثائق الإثبات لكن بدون فائدة، وجاء له هذا الظالم وقال: اسمع! تريد حقك؟ قال: نعم، قال: صالحني بمبلغ كذا، وأنا أرد لك الوقف، فيتفق العلماء أن للناظر أن يصالح هذا الظالم ببعض الوقف ليستخلص البعض، مثلاً: هو أخذ ألف متر، فيقول له: أترك لك مائتين متر، ويسامحه ويصالحه على مائتين متر، ويستنقذ الثمانمائة، وكذلك وصي اليتيم، وآكل مال اليتيم يأكل ناراً في بطنه، ومع ذلك إذا اغتصب ماله، ولم يستطع وصيه تخليصه إلا بجزء منه فله ذلك؛ لأنه عمل لمصلحة اليتيم باستنقاذ البعض بالبعض، وله أجر في ذلك، وذاك عليه وزرٌ فيما يأخذ. إذاً: الرشوة من حيث هي محرمة، ملعون دافعها، وملعون آكلها، وملعون الواسطة بينهما، ولكن: إذا دعت الضرورة فنجد من العلماء من يقول: اللعن عام دون استثناء، فماذا يفعل صاحب الحق الضائع؟ قالوا: يصبر، لكن إلى متى؟ وهناك من يقول: يرتكب أخف الضررين، وينقذ البعض أو الأكثر بالأقل، والله تعالى أعلم.

خطورة الرشوة

خطورة الرشوة لو أننا تصورنا مضرة الرشوة لكان الجميع يحاربها، وأكثر ما تكون الرشوة في المسائل التي لها علاقة بالحكومات، بالدوائر الحكومية، ومن أبرز صورها -والكل يعلمها- أن تأتي الدولة، وتطرح مشروع مباني، وتعمل مواصفات في القمة، بأحسن ما يمكن لو نفذت بحذافيرها، في الأبعاد والنسب، نسبة الإسمنت مع الرمل كذا، والحديد كذا، وو وبكل ما يمكن، وتجتهد، وتأتيها المظاريف مقفلة، تفتح المظاريف وترسو على زيد بن عبيد، وزيد بن عبيد وضع أقل عطاء، لكنه يريد أن يحصل على أعلى عطاء، فماذا يفعل؟ الجهة تأتي بمهندس مشرف، والمشرف هذا يمثل جهة المشروع، ويوقع له أو يعطيه سندات على كل خطوة خطوة، أولاً: الحفريات صالحة أو غير صالحة؟ وهكذا في مراحل البناء والتصليح، ويذكرون في ذلك النوادر والحكايات، فبعضهم سحب الحديد بعد التسليح! وبعضهم سحب كذا وكذا، وتقع أشياء لا يتصورها عقل، فيأتي المشرف وينظر إلى التسليح، فيجد الحديد ناقصاً عن المواصفة، فيقول له المقاول: خذ هذا المال واسكت، فيقول: صالح، ويأتي إلى الأبعاد وهكذا ويقول بعض المهندسين: لا ولن تجد مقاولاً يصدق، ولو في العتب حق الطاقة والباب، ينقص فيها الحديد، ينقص فيها الإسمنت، يفعل ويفعل. لكن نقول: هذا نوع من التحامل، والخير في الأمة إلى يوم القيامة، وهناك من يبرئ ذمته، ويبرئ ساحته، لكن المشكلة في عملية الإشراف، والمشرف يرى النواقص بعينه، ويتغاضى عنها مقابل رشوة يأخذها. وهذا المقابل لا يدري المسكين أنه يذهب بسببه ضحايا، ولعلكم سمعتم ببعض المشروعات في بعض الدول التي سقطت على من فيها؛ بسبب سوء التنفيذ، وسوء التنفيذ وقع بالاشتراك بين المقاول والمشرف، والمصيبة جاءت من المشرف، فإنه لا يخضع للمقاول إلا بالرشوة. وكذلك إذا جئنا إلى خفر السواحل والحدود الذين يحرسون البلد من الممنوع، فتقدم إليهم الرشوة فيفتحون الباب على مصراعيه، وو وما نقدر نعدد الشيء الكثير، ولا نتهم أحداً بعينه، ولكن نقول: مضار الرشوة ليست قاصرة على الذي يدفع بأنه غرم بل تحصل أضرار من ورائها أضعافاً مضاعفة، وتكون النتيجة السيئة الحتمية على المواطن. ولو أخذنا تصوير القرآن الكريم، لوجدنا أن الراشي أدنى الناس منزلة، وأقلهم مروءة، وكأنه -كما في التصوير الموجود في كتاب الله {وَتُدْلُوا بِهَا} [البقرة:188]- كان على علياء المروءة والكرامة مع الناس، فإذا به يتدلى إلى القاع، وإلى الحضيض، وإلى أدنى مستوى في المجتمع الذي يعيش فيه، ولهذا يصنعها بالدس، ويخشى أن تظهر، ويخشى أن يقال: والله! فلان هذا يرتشي، ويفعل ويفعل. إذاً: يا إخوان! قضية الرشوة ما هي مجرد كون الإنسان يدفع شيئاً، أو مجرد إنسان يأخذ شيئاً، لا، انظروا إلى النتائج المترتبة عليها، فإنها تعود على المجتمع كله، مدرسة تسقط على الطلاب، مستشفى يسقط على من فيه، عمارة تسقط على سكانها، أليس هذا من جناية الرشوة؟ ولو جئنا إلى الطرق إلى المطارات إلى كذا إلى كذا وهكذا السلاح وعدم ضبطه أو التحرز من مبطلاته أو فساده، أشياء كثيرة ما يستطيع الإنسان أن يعددها، ولكن ننبه على خطر الرشوة في أي بلد، وكما أشرنا أن رئيس تلك الدولة الأوروبية يقول: الرشوة إذا تفشت في القضاء أفسدت البلد، وفعلاً إذا تفشت أفسدت، والله أسأل أن يعافينا وإياكم جميعاً إن شاء الله.

شرح حديث: (أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة.

شرح حديث: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ... ) قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال: فكنت آخذ البعير ببعيرين إلى إبل الصدقة) رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات] . تقدم التنبيه على هذا الحديث عند الكلام على حديث سمرة: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والعلماء قالوا: عارضه حديث ابن عمرو أنه كان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، يعني: ربا فضل وزيادة. وكذلك حديث أبي رافع: (استسلف صلى الله عليه وسلم بكراً، فلما جاء صاحب البكر قال: أوفوه، قال أبو رافع: فبحثت فلم أجد بكراً في الإبل، وإنما وجدت رباعياً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطه إياه، إن خيركم أحسنكم وفاءً) . وأشرنا إلى تفسير الشافعي لبيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو أن يكون كلا الطرفين نسيئة وغائباً، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن حديث سمرة نسخ الحديثين الآخرين، وذكرنا أن سند الحديث فيه مقال، وأنه مرسل، وهذا جزء مما تقدم الكلام عليه هناك، ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلف عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز الجيش، مثل وزير الدفاع، أو وزير المالية، أمره أن يجهز الجيش، وسيجهزه من إبل الصدقة، مما يوجد للمسلمين، فإن لم يوجد تصرف، إذاً: تسند الأمور إلى من يقوم بها، وهذا مما ذكره صاحب كتاب: التراتيب الإدارية في الحكومة الإسلامية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر من يتولى أمر الصدقة، ومن يتولى أمر الجيوش، ومن يتولى أمر العدالة، ومن يتولى الحراسة، وهكذا، ويكون هناك بداية تخطيط لدولة قائمة، فهذا عبد الله بن عمرو يأمره صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من الناس، ويقولون: ولي الأمر له عند الشدة والحاجة -وخاصة عند الحروب- أن يأخذ من الأثرياء قرضاً أو هبة، فإذا وجدت حالة شدة، مثل أن يدهم العدو البلد، أو علم ولي الأمر أن جيش العدو مقبل وليس عنده في صندوقه أو بيت المال أو وزارة المالية ما يجهز ما يقابل به هذا الجيش؛ فله أن يفرض على الأغنياء من أموالهم ما يجهز به الجيش الذي يدافع عن البلد؛ لأنه يدافع عنهم أنفسهم، ومن هنا: فهناك من يأخذ ذلك قرضة، وهناك من يأخذ ذلك مصادرة؛ لأنه حماية للبلد، وحماية لأمن الدولة، وكما يقولون: الأمن القومي، أمن الدولة، وقد نص الفقهاء على أن لولي أمر المسلمين ذلك، ولكن يجب أن يكون ذلك مع حفظ الحقوق، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز الجيش، فلما نفدت الإبل أمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا يدل على أنه لا ربا في الحيوان، وهناك نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يثبت أن ربا النسيئة يقع في الحيوان، ومالك فرق وقال: إذا كان الحيوان بجنسه فربا، وإذا كان بغير جنسه فلا، فمثلاً: لو اشترى فرساً ببعير، أو اشترى بعيرين بفرس، اختلف الجنس فلا مانع أن يكون نسيئة، والجمهور على ما قدمنا في هذا الحديث، وهو دليل على أنه لا ربا في الحيوان، لا ربا الفضل؛ لأنه يأخذ الواحد باثنين، ولا ربا النسيئة؛ لأنه يدفعها من إبل الصدقة حينما يأتي المصدق في آخر العام بالإبل، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (نهى رسول الله عن المزابنة)

شرح حديث: (نهى رسول الله عن المزابنة) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيبٍ كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله) متفق عليه] . (نهى صلى الله عليه وسلم عن المزابنة) ، والمزابنة من الزبن، وهو الدفع، ومنه الزبانية عافانا الله وإياكم، ثم فسرها ابن عمر وقال: والمزابنة -أي: في العرف الشرعي- أن تبيع ثمرة النخل على نخلها بخرصها تمراً، فمائة نخلة فيها رطب، لو أنها تركت كم يجيء منها من التمر، يجيء منها خمسة أوسق، فيقول: أكيل لك الآن خمسة أوسق، وخل بيني وبين الثمرة. وهكذا الكرم، وإن كان هناك من يكره تسمية العنب كرماً، فهذا العنب لو ترك حتى صار زبيباً، كم يأتي منه من قنطار؟ قال: يأتي عشرة قناطير، فيقول: أقدمها إليك الآن عشرة قناطير زبيباً، وخل بيني وبين شجر العنب، ثم أبيعه عنباً، أو أعصره، أو أتركه حتى يصير زبيباً، أنا حر فيه. وهكذا حقل للقمح أو للشعير، يقول: كم يحصل منه لو تركناه حتى يجف الحب ويشتد، ثم يحصد ويداس ويصفى؟ قال: يحصل منه خمسون إردباً، قال: أدفع لك الآن هذا القدر، وخل بيني وبينه، وأنا سأحصده يوم الحصاد. وسواء حصلت في ثمر النخل مقدار ما دفعت لك كيلاً أو أقل أو أزيد، فالزائد لي والناقص علي، وكذلك في العنب، سواء حصل من الزبيب بقدر ما أعطيتك زبيباً أو أقل أو أكثر، وكذلك الحب. وكل يزبن الغبن عن نفسه، فصاحب النخل يحسب أنه حصل على كيل معلوم أحسن من الذي على الشجر، وصاحب التمر الذي كاله يظن أنه سيحصل مما على الشجر أحسن مما دفعه، ويزبن النقص عن نفسه، وهكذا كل ثمرة بجنسها، أما إذا كان بغير الجنس، مثلاً: اشتريت ثمرة البستان بالذهب والفضة، أو اشتريتها بالقمح، أو بالأرز فلا مانع؛ لأن الأرز بالتمر يجوز فيه الزيادة، ولكن بقي عندنا التسليم، ولا ربا نسيئة إذا اختلفت الأجناس والعلة، إذا كان بالنقد تساوي هذه الثمرة خمسة آلاف أو ستة آلاف، فيقول: تفضل هذا النقد، وأخذ الثمرة التي على رءوس النخيل، وعالجها، وهو ما يرزقه الله، وكذلك العنب، وكذلك الحب. إذاً: المزابنة بيع الثمرة قبل نضجها بخرصها يابساً من جنسها، الرطب على النخل بالتمر، والعنب بالزبيب، والحب في الحقول بالكيل من طعام من جنسه، والله تعالى أعلم.

شرح حديث النهي عن اشتراء الرطب بالتمر

شرح حديث النهي عن اشتراء الرطب بالتمر قال رحمه الله: [وعن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم] . النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، يعني: كيلاً بكيل أو وزناً بوزن، فسأل صلى الله عليه وسلم ليلفت الأنظار، وإلا فلا يخفى الجواب على رسول الله فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) وهل يوجد أحد يجهل هذا؟! لا، حتى أطفال أصحاب البساتين يعرفون هذا؛ لأن الرطب يحمل كمية من الرطوبة، فإذا يبس نقص؛ لأنه تتبخر تلك الرطوبات، ويبقى الأصل فيخف، وينقص الرطب عما هو عليه. فقالوا: نعم ينقص، فنهاهم عن ذلك؛ لأن التمر لن ينقص، ولكن الرطب سينقص، فنكون في النهاية بعنا تمراً بتمر مع التفاضل، وكذلك العنب بالزبيب، وجميع الربويات أخضرها بيابسها، فنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر وزناً متساوياً أو كيلاً متساوياً لعلة الربا، وهي نقص الرطب عن مثله تمراً، والتمر لن ينقص؛ لأن النقص قد تجاوزه، والرطب سينقص فيدخل على صاحب التمر نقص في الثمن، والله تعالى أعلم.

شرح حديث النهى عن بيع الكالئ بالكالئ

شرح حديث النهى عن بيع الكالئ بالكالئ قال رحمه الله: [وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني: الدين بالدين) رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف] . سواء إسناده ضعيف أو إسناده قوي، هذا متلقى عند الأمة بالقبول، وهو إجماع واتفاق على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، الكالئ هو الدين، وصورة ذلك: لك عند زيد ألف ريال، وحل الأجل؛ لأن قبل الأجل ليس لك المطالبة، فإذا حل الأجل وجئت تطالبه، ولم تجد عنده سداداً، فعلم بذلك إنسان وقال: أنا أشتري منك ما كان لك عند فلان، إن قدرنا أن لك عنده ألف ريال، أو أن لك عنده إردباً من التمر، أو أن لك عنده قنطاراً من كذا، وجاء إنسان وقال: أنا أشتريه، فقال: بكم تشتري الألف ريال؟ قال: بثمانمائة، وبعد شهرين مثلاً: يكون له عند فلان ألف، وأنت تريد أن تأخذ ثمانمائة، وليس هناك استلام ولا قبض، وبقينا في الدين كما كنا فيه، أو لك عنده قنطار أو إردب من التمر، فقال: أنا أشتريه منك بألفين ريال، فقال: هات الألفين، قال: لا، بعد أسبوعين أو بعد شهر، فرجعنا أيضاً إلى الدين كما كان أولاً. فكل ما كان بهذه الحالة: بأن يشتري دينك الذي عند فلان بثمن مؤجل ديناً عليه هذا لا يصح، والسبب أو العلة في هذا أننا لم نحصل على نتيجة فعلية، وما خرجنا عن نطاق الدين، ولا زال البائع دائناً لم يقبض حقه، بل جاء وارتبط بمدينٍ آخر، ولم يحصل الوفاء من هذا ولا من ذاك؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين. ولو أنه قال: قنطارك التمر الذي عند فلان أنا أشتريه بألف ريال بعد شهرين، فهذا لا يجوز، لك تمر عند فلان، وأنا أشتري التمر الذي لك عنده بألفين ريال بعد شهرين، لا يجوز هذا؛ لأن الألفين ما سلمها، ولو أنه جاءه وقال: أريد منك إردبين من التمر بألفي ريال بعد سنة، فهل يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأنه بيع وشراء في عقد واحد، والثمن مؤجل، والناس يتعاملون بالدين دائماً، فليس هنا دين بدين، لكن الممنوع دين بدين مؤجل، وهو النقد، وأكدنا سابقاً بأن الأثمان لا تدخل في ربا النسيئة؛ لأنها قيم المبيعات.

كتاب البيوع - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

كتاب البيوع - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار الإسلام دين ودنيا، وعبادات ومعاملات، وقد نظم الإسلام أحكام المعاملات تنظيماً حكيماً، ويظهر ذلك بوضوح في باب البيوع، وهو باب واسع شمل كل أنواع المعاملات المالية وبين أحكامها، ومن هذه البيوع التي بينها الشرع بيع الثمار ووضع الجوائح وبيع العرايا.

شرح حديث: (رخص في العرايا.

شرح حديث: (رخص في العرايا ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تبيع بخرصها كيلاً) متفق عليه، ولـ مسلم: (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً] . (رخص) يعني: أعطى رخصة في شيء ممنوع. (رخص في العرايا أن تباع) (أن) تفسيرية، تفسر معنى العرايا التي رخص فيها رسول الله. (أن تباع -النخلة أو النخلات- بخرصها تمراً) ، تباع ثمرة النخلة والنخلتين وهي رطب بخرصها تمراً، وصورة بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصها تمراً كيلاً معلوماً تقدم لنا في المزابنة، والمزابنة: هي بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصه تمراً مكيلاً. مثلاً: هذا البستان فيه مائة نخلة، فتعطيه خمسين وسقاً من التمر الآن، ويدع لك النخل، لكن عندما تأخذ رطباً، وتجفف التمر، تحصل على خمسين أو أربعين أو ستين، هذا ممنوع، وهو من المزابنة. (رخص في العرايا) ما هي العرية؟ سيأتي بعد البيان الإجمالي (بخرصها تمراً) حالاً، ويدفع التمر لصاحب النخل، وكيف رخص في هذا وهي مزابنة؟ قال: لكي يأكلها المشتري رطباً لا أن يجففها، وموجب الترخيص فيها الرفق بالمسلمين، وهي: أن يأتي إنسان لصاحب بستان يأكل الرطب، وجيرانه ليس لديهم المال ليشتروا نخلة أو نخلتين، ويجوز أن تشتري ثمرة هذه النخلة من رطب بمبلغ كذا نقداً، تسلمه الآن أو لاحقاً، لا مانع، مثل الذين يشترون الثمر كله ويتولون أمره، ينزلون منه رطب، يجففون منه، هذا بيع وشراء طبيعي، لكن جيران البستان ليس عندهم نقد يشترون رطباً يتفكهون به كما يتفكه الناس، وعندهم تمر، جاءهم زكاة من فاعل خير، إذاً الناس يأكلون رطباً جنياً وهؤلاء يأكلون تمراً جافاً من العام الماضي، قالوا: نريد أن نأكل رطباً نحن أيضاً، فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون شراء رطب النخلة نقداً وعندهم تمر، رخص لهم صلى الله عليه وسلم أن يشتروا ذلك عرية، وسميت النخلة التي يباع رطبها بالتمر خرصاً عرية ليست عارية، بل عرية من عريانة؛ لأن العارية من الاستعارة ويستعير، لكن عرية عريانة عن ماذا؟ عن حكم المزابنة بمقتضى الرخصة، فخرجت عن حدود المزابنة، لماذا؟ لخصوص هؤلاء الناس ليتمكنوا من مشاركة أصحاب البساتين والنقود من أن يأكلوا رطباً مع الناس. وهنا أحكام عديدة؛ من أهم تلك الأحكام في رخصة العرية: أن تكون في حدود التفكه، هل يجوز أن يشترى البستان كاملاً بخرصه تمراً ويقال: عرية أتفكه؟ هل كامل البستان للتفكه أو للتجارة؟ للتجارة، إذاً: في حدود التفكه. إنسان عنده أسرة من شخصين أو ثلاثة أو أربعة هؤلاء يكفيهم نخلة نخلتين، فيأخذ بقدر ما يكفيه للتفكه. فإذا اشترى على قدر ما يحتاج بتقديره، وبعد أن اشترى قال: ما لنا والرطب! دعنا نجففها وتصير تمراً لعلنا نحصل على أكثر مما دفعنا. هذا لا يجوز. إذاً: الشرط الأول: أن يكون في حدود التفكه، الشرط الثاني: ألا يتعمد ترك الرطب على الشجر حتى يثمر؛ لأنه بهذا يكون قد باع تمراً بتمر مؤجلاً، ويكون قد استغنى عن الرطب، وما دام أنه استغنى عن الرطب فترجع العرية إلى المزابنة مرة أخرى، إذاً: رخص في بيع العرية والعرية هي: النخلة أو النخلات يشتريها صاحب العيال بخرص ما فيها من رطب تمراً يدفعه حالاً عند العقد ولا يؤجله. ثم هو يباشر أخذ الرطب للأكل، وما سبقه عن الأكل وأتمر فلا بأس؛ لأنه لم يتعمد تركه حتى يجف ويصير تمراً. وإذا زاد من رطبه ماذا يفعل في هذا الزائد هل يتركه على الشجر حتى يجف؟ لا، له أن يبيع أو أن يهدي؛ لأنه أخذ منه في حدود طاقته. قال رحمه الله: [ولـ مسلم (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً) ] . رخص أن يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، أي: يأكلها أهل البيت، إذاً العرية: هي بيع الرطب بخرصه تمراً، وهو عين المزابنة، لكن لما كانت للحاجة لأهل البيت لكي يأكلوا رطباً رخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (رخص في بيع العرايا دون خمسة أوسق)

شرح حديث: (رخص في بيع العرايا دون خمسة أوسق) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) متفق عليه] . هذا هو القيد، قلنا بأنه لا يحق أن يشتري ثمرة البستان كله عرية، ولكن يشتري نخلة أو نخلتين في حدود ما يخرج عن ظنية الاتجار، فما كان في حدود خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، في حدود ثلاثمائة صاع، وقد تكون العائلة كبيرة وذات أرحام وأقارب، وقد يكونون مختصرين، لكن في مجال الخمسة أوسق، أما لو كان الرطب على النخل يخرص بستة أوسق فلا، هذه خرجت عن كونها عرية، هذا يريد أن يتاجر، إذاً: خمسة أوسق فأقل يجوز بيعها بخرصها رطباً يأكله أهل البيت، سواء زاد وأهدوا أو باعوا، أو جف عليهم وغلبهم اشتد الحر وسبق الصيف أوانه، أحياناً تأتي بعض السنوات في منتصف المدة، وتجد البستان بعد أن كان كله رطباً فإذا به في أسبوع واحد كله صار تمراً لشدة الحر. إذاً: المقدار الذي يكون فيه الترخيص ببيع الرطب بخرصه تمراً إذا كان الخرص خمسة أوسق فأقل، هذا ما ذكره العلماء في التمر والرطب، وهل يقاس على ذلك الرخصة على العنب بالزبيب، والمشمش بالمجفف منه؟ بصفة عامة: الفواكه تجفف، التين يجفف، والعنب يجفف، والمشمش يجفف. يهمنا: هل يقاس على الرطب والنخلة والتمر غيرها مما يشاكلها، وأهم ذلك العنب والتين أم أنها تقف عند المنصوص؟ يقول الأصوليون: الرخص لا تتعدى محلها؛ لأنها على خلاف الأصل وخلاف القاعدة، فيكون ما عداها محظوراً، ويكون ما عداها مغايراً لها. إذاً: لا يقاس العنب بأن يخرص ويباع بخرصه زبيباً، ولا التين بخرصه تيناً مجففاً، فالعرية خاصة بالنخلة رطباً وتمراً، وما عدا ذلك لا يدخل في الرخصة.

شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها)

شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع) ، متفق عليه، وفي رواية: (وكان إذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهتها) . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار) متفق عليه، واللفظ للبخاري] . هذا نوع من أنواع البيوع الممنوعة احتياطاً من الربا؛ ومن أكل المال بالباطل. الثمار: جمع ثمرة، ويدخل في ذلك الرطب، العنب، التفاح، الخوخ، الرمان. كل ما يسمى ثمرة (حتى يبدو صلاحها) صلاحها في ماذا؟ في إمكانية أكلها عند متوسط الناس، لا عند الجائعين يأكلونها وهي خضراء، لكن متوسط الناس أصحاب الأذواق المعتدلة، فإذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها، وهل المراد بصلاح الثمرة كل حبة على حدة؟ قالوا: لا، بين صلى الله عليه وسلم ما هو صلاحها، قال: (أن تزهو) ، فما زهوها؟ قال: (تحمار أو تصفار) ما الفرق بين: تحمار وتحمر؟ تفعال: تدل على الشروع في الشيء، والمضي فيه إلى النهاية، فمعنى (تحمار) بدأت مخايل الحمرة وإن لم تكتمل حمرة الثمرة كلها، بمجرد ابتداء اللون، أو الصفرة تميزت ثمرة هذه النخلة بالاحمرار، وثمرة تلك النخلة بالاصفرار ولو لم يكتمل الاحمرار في هذه، ولا الاصفرار في تلك. وجاء في بعض الروايات عن العنب: (حتى يتموه حلواً) ، يتموه موهاً من الماء، وأصل الماء: موهٌ، فإذا جرى الماء في العنب، بمعنى: العنب في أوله الحبة مثل قطعة لحم، فإذا بدأ في الصلاح بدأ الماء يجري داخل الحبة، ويتموه حلواً، وقد يتموه في بادئ أمره لكن على الحموضة، فحينئذ ما بدا صلاحها ولا تصلح للأكل، لكن إذا تموه وجرى فيه الماء، وكان الماء طعمه حلواً فيها فقد بدا صلاحها. والعلة في هذا كله: ما جاء في الرواية: (حتى تؤمن العاهة) ، أي: الآفة، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم) ، أي: نجم الثريا، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، ذكر منكراً، ويفسره الجميع بأنه الثريا، أمنت العاهة على الثمار، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس للثريا تأثير في الثمار، ولكن توقيت للفصول في السنة واختلاف الأجواء بما يناسب الزروع، وكل زرع له فصل معين يجود إن صادفه ويفشل إن لم يصادفه، قد يهيج ويخضر ولكن لا يثمر، وسمعت من الشيخ ابن صالح رحمة الله تعالى علينا وعليه يحكي عن شخص فلاح كبير السن، مر على جماعة يزرعون الدبا الحمراء -التي يقولون عنها: الشرقية- في الضحى، فقال: يا أولادي! لو صبرتم حتى تزول الشمس. قالوا: وما الفرق بين الآن وزوال الشمس إلا ساعة أو ساعتين. قال: لا، الشمس تنزل في برج كذا بعد زوال الشمس من هذا اليوم، وهو أول أوان زرع هذا النوع، فكأنهم شباب استخفوا بشيبته، قال: علموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما زرعتموه بعد الزوال، فكانت النتيجة فارقاً بعيداً، فما زرعوه قبل الزوال ورقه كبير، وأخضر طويل، وثمرته قليلة، وما كان بعد الزوال الثمرة أكثر من الورق. إذاً: هناك مواسم زراعية تتناسب مع الجو والهواء والحرارة والبرودة، وكلنا يعلم، والفلاح أعرف بهذا، هناك مزروعات صيفية ومزروعات شتوية، والآن جاءوا بالبيوت المحمية لإيجاد جو يتناسب طيلة السنة مع المزروعات، وأصبحت ترى مزروعات الصيف شتاءً، ومزروعات الشتاء صيفاً؛ لأن البيوت المحمية لا فرق فيها بين صيف وشتاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يطلع النجم) ، (حتى تؤمن العاهة) ، (حتى يحمار أو يصفار) ، (حتى يزهو) ، كل تلك أوصاف في الثمرة تدل على أنها تجاوزت مرحلة الإتلاف والآفة. جاء في وضع الجوائح: بأنه إذا اشتراها بعد أن بدا صلاحها، ثم جاءت جائحة سماوية كبرد أسقط الثمرة -كما هو معروف عند أهل الزراعة آفة- وأتلفت الثمرة، ما حكم المشتري مع البائع؟ يرد الثمن، (علام يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) لأن الثمرة لا زالت في بستانك، فهي على حسابك. يهمنا هنا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة لتكون ثمرة. أما إذا بيعت لتكون علفاً أو غرضاً آخر، جاء إلى النخيل، والنخيل فيه أقنية بكثرة، فالبعض منها يزال تخفيفاً على النخل لتكون علفاً للدواب، فهل باعها على أن تكون ثمرة يبدو صلاحها؟ لا، ولا ينتظر بدو صلاحها، فهكذا إذا بيعت الثمرة لا لكونها ثمرة بل لغرض آخر فإن ذلك ليس فيه نهي، النهي عن بيع الثمرة لتبقى في مكانها في أصولها ثمرة يتم نضجها ويستوفيها المشتري، عندها لا يجوز عقد البيع حتى يبدو الصلاح.

مقياس بدو الصلاح

مقياس بدو الصلاح إذا كان البستان فيه مائة نخلة، وظهرت حبة أو حبتين زاهية، هل بحبة أو حبتين زهت يحكم ببدو صلاح ثمرة البستان؟ لا، هذه بشائر خير لا مانع، لكن إذا انتشر الاحمرار في أكثر النخيل أو في النخلة الواحدة، وبدا الصلاح في بعض نخيل البستان، وكان البستان فيه عدة أنواع، والصلاح بدا في نوع منه، وبقيت الأنواع الأخرى، أيجوز بيع جميع الأصناف على بدو صلاح صنف واحد أو لابد من بدو الصلاح في جميع الأصناف؟ جميع الأصناف، إذا بدا الصلاح في بستان زيد وجواره بستان عمرو لم يبدو فيه صلاح، فهل نقول: صلاح بستان عمرو يصلح لصلاح بستان زيد؟ لا، المنطقة واحدة والحد واحد؟ لا، التربة تختلف، والماء يختلف، والصلاح كذلك يتفاوت وهكذا. بدو الصلاح يكون غالباً في البستان الواحد، وإذا كان هناك أصناف وأنواع فإنه يعم الأصناف، وحينئذ تباع الثمرة على بدو صلاحها بنقد لا من جنسها، وبعد ذلك له أكلها رطباً، أو باعها رطباً، أو جففها دخلت في ملكه فيصنع فيها ما بدا له.

شرح حديث: (نهي عن بيع العنب حتى يسود)

شرح حديث: (نهي عن بيع العنب حتى يسود) قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) ، رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم] . تتمة لما تقدم: قال في حق النخيل: (حتى تحمار أو تصفار) ، (تفعال) ، هذه تدل على الشروع في الشيء والمضي فيه إلى الكمال، كما في قوله سبحانه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ} [الحجرات:14] ، (ولما يدخل) يعني: يدخل ويستمر في دخوله إلى الكمال والتمام، فكذلك يحمار ويصفار، يعني: يبدأ اللون إلى أن يأتي في الكمال. جاء في العنب: حتى يسود، وهل كل عنب سيسود؟ لا، هناك عنب أسود وأحمر وأبيض، وشريفي، وحجازي، ومصري، وبناتي. العنب كثير، لماذا أسود بالذات؟ الذي أصله أسود حتى يسود، ويسواد على وزن يحمار ويصفار، ولكن العنب الأبيض الذي ليس فيه سواد! هلا تذكرتم الأسودين، حتى يسواد يعني: يجري فيه اللون الأسود كناية عن الماء، (شهرين: هلال وهلال وهلال لم يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً. قال: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء) الماء إذا رأيته في مكان عميق رأيته أحمر أو أسود؛ لغزارة مائه، فيسود بمعنى يظهر فيه الماء، هو كان أخضر فيروزي، ثم لما وجد الماء فيه مال إلى السواد. إذاً: حتى يسود بمعنى يجري فيه الماء، كما قال: (يتموه حلواً) . قال: [ (وعن بيع الحب حتى يشتد) ] . وكذلك بيع الحب في مزرعته، إنسان عنده عشرون فداناً، قمحاً، ثم جاء إنسان وقال: أريد أن أشتري منك مزرعتك هذه، فهل اشتراها ليحصدها علفاً، أو ليبقيها حتى يشتد الحب ويحصد ويذري؟ إن كان اشتراها لتكون علفاً فلا مانع، وإن كان اشترها ليبقيها في زرعها حتى يشتد الحب ويستحصد ويحصد ويدوس ويصفي ويأخذ حباً. لا يجوز البيع حتى يشتد الحب في سنبله؛ لأنها قبل اشتداد الحب أول ما تكون الحبة فارغة، ثم يجري فيها اللبن، سبحان الله! من أين جاء هذا اللبن؟ الأرض ليس فيها لبن، الماء ما فيه لبن، عود القمح ما فيه لبن، حينما ينعقد هذا اللبن داخل غلاف الحبة ويشتد، قبل الاشتداد يسمى فريكاً فتفرك السنبلة وتأكلها، حب أخضر. هذا لا يجوز، حتى يشتد وتريد أن تأكلها فصاحب الأسنان القوية هو الذي يستطيع أن يأكلها. فإذا ما اشتد الحب في سنبله أمنت عليه الآفة، وإذا ما أردت أن تحصد فكيفما شئت، لكن لا يباع بقمح كيلاً، بل بالنقد، فإذا ما اشتراه نقداً بعد اشتداد حبه جاز، وقبل أن يشتد الحب لا يجوز بيعه. وقلنا: إذا كان الشراء مراداً به التبقية حتى يحصد، أما إذا كان مراده بالشراء أخضر علف أو أي شيء آخر هذا ليس داخلاً في هذا.

شرح حديث: (لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة.

شرح حديث: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة ... ) قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) ، رواه مسلم، وفي رواية له: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) ] . يأتي المؤلف رحمه الله في نهاية باب البيوع بهذين الحديثين، الحديث الأول: (إذا باع أحدكم ثمراً لأخيه فأصابته جائحة؛ فلا يأخذ من ماله شيئاً) ، وأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح. صورة هذا الحديث مما تقدم لنا في بيع الثمار وحدها دون الأصول: أنها لا تباع حتى يبدو صلاحها، وبدو الصلاح: هو أن يمكن لصاحب الذوق المعتدل أن يأكله، ثم بين صلى الله عليه وسلم نوع هذا الصلاح: بأن ثمر النخل تحمار أو يصفار، وفي العنب أن يتموه حلواً؛ فإذا حصلت تلك الصفات في الثمار جاز بيعها دون أصولها، كما هو المعروف عند أهل المدينة ببيع الصيف، يعني: ثمرة النخل صيفاً، ويكون هناك العنب والرمان والتين، وكل ذلك تباع الثمرة دون الأصل -أي: دون الشجرة- بخلاف ما إذا باع الشجرة والأرض وانتقل الأصل للمشتري، فسيأتي في الحديث حكم ذلك؛ فعلى أن الثمار لا تباع حتى يبدو صلاحها، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم وتؤمن العاهة) ، والنجم هو الثريا، وبمشيئة الله سبحانه يعتدل الجو وتؤمن الآفات على الزراعة. فإذا أمنت العاهة في غلبة الظن وأن الثمرة ستظل سليمة إلى النهاية جاز بيعها، فإذا باعها قبل بدو الصلاح كان مغايراً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معرضاً لإصابة الآفة، أما إذا اشترى الثمرة بعد بدو الصلاح وعلى الوجه الشرعي، ثم جاءت جائحة، والجائحة هي الحدث العام الذي يجتاح -بمعنى: يكتسح ويدفع ما أمامه- بعد أن وقع البيع بعد بدو الصلاح على الوجه المشروع، وجاءت على غير العادة، فمثلاً: اشترى الصيف بعد بدو الصلاح، وبعد أن اشتراه بشهر -أو أكثر أو أقل- جاءت ريح عاتية فأسقطت الثمار وأتلفتها، أو جاء مطر مصحوب ببرد، وأسقط البرد الثمرة وأتلفته، أو نحو من ذلك الذي هو خلاف العاهات الزراعية والآفات التي تعتري الزراعة مما هو معهود عند علماء الزراعة، فتأتي آفة عامة بحدث مفاجئ فتتلف الثمرة، هذه هي الجائحة؛ فحينئذ وقع البيع ودفع المشتري الثمن أو لم يدفع وكان في ذمته، وخلى بينه وبين الثمرة يأخذ منها ما شاء، ويستغلها كيفما شاء. وعلى صاحب النخلة أو الشجرة أن يسقي إذا احتاجت إلى سقي، أو يمنع من سقيها إذا كان ذلك يضرها، فلو كان لصاحب النخيل زراعة تحت النخل وتحتاج إلى سقي، لكن السقي يضر بالشجر؛ فيمنع للمضرة عما هو مبيع.

إلزام البائع بوضع الجوائح

إلزام البائع بوضع الجوائح إذا جاءت الجائحة وأتلفت الثمرة المبيعة بعد بدو الصلاح على الوجه الشرعي، فهذه الثمرة التي أتلفتها جائحة سماوية على من يكون الضمان؟ الحديث هنا يقول، للبائع: فلا يأخذ من ماله شيئاً لماذا؟ لأن ضمان الثمرة ما دامت على الشجرة على البائع. وهنا يقع الخلاف، ونجد القلة من العلماء من يقول: البائع لا يتحمل أي شيء، وإنما عوض هذا المثال وتلفه وضمانه على المشتري؛ لأن البائع باع ما تحت يده، وخلى بينه وبين المشتري، فهو في عهدة المشتري، إن سلم سلم له، وإن تلف تلف عليه. يمكن أن يقول إنسان: هذا مقتضى العقل والقياس، ولكن تخلية البائع للمشتري بينه وبين الثمرة ليست تخلية كاملة، بل هي متعلقة ببقائها، ومن هنا كان الحديث صريحاً صحيحاً ولا يحتمل الاجتهاد عند من يعمل اجتهاده، وكما قيل: لا اجتهاد مع النص، والحديث في آخره يقول: (بأي حق يأكل مال أخيه) ، أنت بعت الثمرة بألف ريال، والمشتري دفع الألف، وبعد لحظات، أو أيام، أو أسابيع، وبعد أن اشترى منك في أوائل بدو الصلاح، وبعد أن اكتمل الصلاح، وأراد أن يستثمر ما اشتراه، ويجني الثمرة؛ فإذا بجائحة تتلف الثمرة عليه، أين المبيع؟ لكأن البائع لم يسلم المشتري عين ما باعه عليه، إذاً: من أول بدو صلاحها إلى أن ينضج ويكتمل صلاحها، إلى أن يستنفد المشتري ثمرته هي في ضمان البائع، والحديث صريح، ولا ينبغي الاجتهاد في معارضة النص، والجمهور على أن: ضمان الثمرة هذه التي ما بيعت إلا بعد بدو الصلاح، وتلفت بآفة عامة سماوية، وليس من صنع أحد؛ فإنها من ضمان البائع. أما إذا كان ذلك بصنع أحد بأن جاء وأطلق عليها الماء في الليل وزاد إلى أن أفسدها، أو جاء وكانت ثمرة أخرى دون النخيل، أو النخيل ليس مرتفعاً بكثرة؛ وجاء وأطلق فيها إبله أو بقره فأتلفت الثمرة، إذاً: يكون هناك متعدٍ، والمتعدي ضامن، فيكون ضمانها على من تعدى. إذاً: الكلام في الجوائح العامة السماوية التي لا دخل لأحد فيها.

قانون التأمين البحري وفساده

قانون التأمين البحري وفساده نشأ في عالم التجارة والقوانين الاقتصادية ما يسمى بالتأمين البحري، والتأمين البحري هو أول نوع من أنواع التأمين التي انتشرت الآن في العالم، كانت التجارة بحرية، وكان القراصنة يعتدون على السفن، وكانت أكثرها شراعية أو بخارية صغيرة، وكانت الأمواج تأتي عاتية، فلربما طغت الأمواج وأغرقت السفينة، ولربما سطا اللصوص والقراصنة عليها واجتاحوها، فإذا كانت هناك تجارة في عرض البحر، وجاءت الأمواج والرياح فأغرقت السفينة بما فيها من السلاح، المشتري اشترط التسليم في بلده، والمنتج البائع تعهد له بإرسال السلعة إلى محله، لكنها في الطريق ما بين محل الإنتاج ومحل الاستلام تلفت بآفة لا باعتداء، فإذا كان التلف باعتداء القراصنة فهذا تعد من إنسان؛ فهو ضامن؛ فعليهم أن يتبعوهم، أما إذا تلفت بأمر إلهي سماوي: رياح عاتية، أمواج شديدة؛ فأغرقت التجارة؛ فيكون الضمان على البائع؛ لأن المشتري لم يستلم شيئاً بعد، فقاموا وأنشأوا الضمان البحري، وتقوم الشركات تضمن السلعة من موضع إنتاجها أو مبيعها، وتتعهد بشحنها ومتابعة الجو والحالة الجوية، ثم نوع السفينة التي تحملها، وقبل ذلك نوع التعبئة، وتعبئة الزجاج غير تعبئة القماش غير تعبئة الخشب، فشركة التأمين تتولى كنائب عن المشتري استلام السلعة، وتعبئتها بما يناسبها، ثم النظر في السفن التي تحمل هل هي صالحة للإبحار إلى محل التسليم أم لا؟ ثم تسأل مصلحة الأرصاد: هل هناك احتمال رياح أو إثارة رياح أو أمواج؟ بقدر ما لديهم من معلومات يتبادلونها مركزاً عن مركز آخر، فإذا ما اطمأنت شركة التأمين على سلامة الوصول شحنت البضاعة، وأبحرت السفينة، ومضت في طريقها إلى محل التسليم. إذا عملت كل هذا ووقع المحظور، وجاءت جائحة عارضة بعد كل هذه الاحتياطات؛ فإن شركة التأمين هنا تضمن، والإسلام يقول: توضع الجوائح، فنظام الاقتصاد يحمل شركات التأمين ضمان ما ضمنت به في سلامة وصوله إلى المشتري؛ لأنها تأخذ على ذلك التأمين جعلاً، فلما أخذت الجعل وتوثقت من الأحوال التي تتعلق بإبحار البضاعة، وجاء أمر عارض، فتتحملها، وكونها تتحمل أو لا تتحمل فإنها قد تتحمل في السنة صفقة أو صفقتين، بينما تحصل من المؤمنين على مئات الصفقات وتصل بسلامة ولا تغرم شيئاً، فنسبة ما تغرمه في تلك الحالات لا يتجاوز العشرة في المائة أو العشرين في المائة من مجموع ما يدخل عليها من الصفقات الأخرى، هذا لا يهمنا، ولكن نقول: إن هذه القضية بذاتها عالجها رجال الاقتصاد وأخطئوا فيها، وهنا الإسلام يقول: (إذا باع أحدكم ثمراً فاجتاحته جائحة، فلا يأخذ من ماله شيئاً) .

النسبة التي بها توضع الجوائح

النسبة التي بها توضع الجوائح قوله: (أمر بوضع الجوائح) ، يعني: وضع قيمتها، والجوائح تكون على حالات نسبية، قد تجتاح الجائحة جميع الثمرة، ولا يبق منها ما يصلح، وقد تجتاح البعض، وحينما تجتاح الجميع فلا خلاف أن هذا الحديث موضوعها، أما إذا اجتاحت البعض والبعض قليل؛ فإن هذه تجري بها العادة بأن تهب رياح، أو أن يأتي مطر نوعاً ما فيسقط بعض الثمرة أو يتلفها، فإذا كان الاجتياح لشيء قليل فلا وضع، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن ذلك في حدود المعتاد. وما حد القليل من الكثير؟ يقدره البعض بالثلث، إذا وقعت الجائحة على ثلث الثمرة وضعت من قيمتها عند البائع، باع البستان بألف، وجاءت الجائحة وأتلفت ثلث الثمرة؛ فالبائع يرد ثلث ثمن الثمرة للمشتري، أما إذا كان المتلف أقل من ذلك فهذا يغتفر ويتسامح فيه؛ لأنه من عوارض البيع والشراء، ومن حالات البساتين والرياح وغير ذلك. إذاً المبدأ الأساسي: ضمان البيع والشراء، وأن عهدة المبيع في ذمة البائع حتى يستوفيه المشتري، وتقدم لنا نظير ذلك: لو أن إنساناً اشترى من آخر مائة كيس من الحب، ودفع الثمن، ولم يستلم ذلك، ولم تزل تلك الأكياس في مستودع البائع، فتلفت الأكياس في مستودع البائع، فتكون من ضمان البائع؛ لأن المشتري لم يستلم السلعة من المبيع؛ فهي في عهدة البائع حتى يستلمها المشتري، فكذلك هنا النخيل بمثابة الأكياس في المستودع؛ فلما ضمن الشرع للبائع ما تلف في مستودعه كذلك ضمنه ما تلف على أشجاره، ثم أمر بوضع الجوائح -وهي ما يجتاح الثمار- ولكن تفصيل بعض العلماء: إذا كانت الجائحة اجتاحت الجميع فعلى هذا النص، وإذا كانت اجتاحت قليلة فهذا مما يتسامح فيه، والحد بين القلة والكثرة هو الثلث، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر.

شرح حديث: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر ... ) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترط المبتاع) ، متفق عليه] . هذا تابع لبيع الثمرة والأصول: إذا اشترى إنسان بستاناً، والبستان قد أُبر نخله، والتأبير وضع الوبار، وهو دقيق طلع فحل النخل في إناثها، وهذه الطريقة خاصة بالنخل، ولذا قالوا: إن أميز أنواع النباتات هي النخلة، كما قالوا: إن أميز أنواع الحيوانات الخيل، فالنخلة متميزة عن بقية الأشجار بصفات هي أقرب إلى صفات الإنسان، وأرقى أنواع النباتات النخلة؛ لما فيها من الشبه بالإنسان، في حياتها إذا جززت الرأس ماتت، وجميع الأشجار تقطع أغصانها يميناً وشمالاً، وتنبت وتعود إلى ما كانت عليه إلا النخلة، إذا جززت رأس النخلة ماتت، وكذلك ما يقال في أن النخلة ليست لها أغصان في وسطها كشجرة الرمان والتوت وغيرها، بل ساق واحد كالإنسان وعمود واحد، وكذلك قالوا: جميع أجزائها يستفاد منها، ولا يلقى منها شيء، وكذلك الإنسان مفيد للمجتمع بكليته: بعينه، بأذنه، بلسانه، بيده، برجله. كل ذلك يفيد الأمة، فكذلك النخلة: في ورقها، في جريدها، في ثمارها، في نوى ثمرها، في جذوعها، في كرانيفها. كل ذلك يستفاد منه ولا يتلف منه شيء. ثم قالوا أيضاً في هذه العملية -عملية التلقيح وعدم التلقيح-: الإنسان لابد في تلقيحه من لقاء الذكر بالأنثى، فيكون هناك التلقيح كما يقال له فعلاً، ويكون هناك الولد بين الذكر والأنثى، فكذلك ثمرة النخلة لابد من تأبير وبار الذكر أو فحل النخل بطلع الأنثى، يعني تلقيحها متميز ذكر وأنثى، بخلاف بقية الأشجار، سواء كانت الحمضيات من ليمون وبرتقال وأترج وسوى ذلك أو العنب أو التين أو الرمان. جميع الفواكه فإن فيها أيضاً تأبير -فيها تلقيح- ولكن ليس هناك نوع من شجر العنب، ولا التين ولا البرتقال هذا ذكر وهذه أنثى، الكل منتج، والكل مثمر، ولابد للثمرة من لقاح. كيف تلقح تلك الأشجار؟ أما النخلة فقد عرفنا بأن الإنسان يأتي ويأخذ أبار الفحل ويضعه في طلع الأنثى، وبقية الأشجار من الذي يلقحها؟ بين الله سبحانه ذلك فقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، يقولون: إن الشجرة بذاتها تكون فيها أزهار ملقحة، وأزهار تتلقح، فالشجرة الواحدة من كل صنف تحمل النوعين: زهور فيها لقاح ولا تثمر، وزهور تأخذ اللقاح وتثمر، ما الذي ينقل اللقاح من تلك الزهور الملقحة إلى تلك الزهور المتلقحة؟ الرياح، تمر بالشجرة فتأخذ من لقاح زهرة التلقيح وتمر على الزهور الأخرى فتعلق بها لواقح الزهور الملقحة فتلقحها بإذن الله. وعلماء الزراعة يقولون: أيضاً الفراش والنحل وبعض الحيوانات أو الحشرات تساعد في التلقيح، فالنحلة: تنزل على هذه الزهرة -وهي زهرة لقاح- لتمتص منها، فيعلق بأرجلها نوع من اللقاح، فتنتقل إلى زهرة أخرى لتأخذ منها وجبة غذائها، ويسقط ما علق بأرجلها في تلك الزهرة الأخرى فتتلقح بذلك. ويقول أيضاً علماء الزراعة: جميع الحبوب لها لقاح، وإذا لم يأتها اللقاح فلا تجد فيها الحبوب، وربما بعض الفلاحين يعرف أن في المزرعة كاملة بعض السنابل على هيئة الدخان، أو هيئة القطن المحروق، والسنبلة الطبيعية لها -كما يقال- السَفَاة، الإبر الصغيرة الممتدة إلى أعلى، وإذا مررت عليها بإصبعك وجدتها كالمنشار مسننة، تلك الفجوات الصغيرة في تلك السفاة الطويلة هي أنابيب ونوافذ تتلقى بها اللقاح الندى، ويدخل من خلالها إلى الحبة عند أول ظهورها في السنبلة، فهناك تلقح وتمشي في نموها، ثم تصير لبناً، ثم تعقد، ثم تكون حبة، فإذا مرت الرياح على تلك السنابل الملقحة لقحتها، وهي نادرة؛ لأن الواحدة تلقح آلاف الأفدنة. إذاً يهمنا في هذا: أن النخل له طبيعة في التأبير، فإذا أبرت النخلة بدأت في النمو، وبدأت في مسيرتها إلى النضج، من الذي وضع أساس النضج في النخلة: المشتري أم البائع؟ البائع هو الذي أبر، إذاً: مسيرة نمو الثمرة ووصولها إلى النضج من عمل البائع، لذا فهي من حقه.

تعارف أهل المدينة على أن الثمر لمن أبر

تعارف أهل المدينة على أن الثمر لمن أبّر وقضية أن الثمرة أو الشجرة إذا أُبرت فثمرتها للبائع قضية معروفة في المدينة قبل الإسلام بسنين، كما يذكر علماء التاريخ والأدب: أن بعض التبباعة جاء من اليمن في طريقه إلى أفريقيا، فمر بالمدينة، فاستطاب جوها، فترك ولده ملكاً عليهاً ليرجع ويأتي بأهله ليسكنوها، وفي أثناء غيبة الملك في ذهابه إلى أفريقيا رجع فوجد ولده مقتولاً، لماذا؟ لأن ولده جاء إلى نخلة مثمرة، وطلع وجذ ثمارها، فجاء صاحبها وضربه بالمنجل على رأسه وقال: إنما الثمر لمن أبَّر. ليس لإنسان لم يؤبر ولا دخل له أن يعتدي عليها، وكان من شأنه أنه لما وجد ولده مقتولاً حاصر المدينة، وأخذ يقاتلها ويقاتلونه، إلى أن طال الحصار فطال عليهم الزمن ونفد زادهم، فقال أهل المدينة فيما بينهم -لتعلموا حال أهل المدينة قديماً-: ليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً نفد طعامهم، ونحن نأوي إلى بيوتنا ونسائنا نستريح ونتغذى، ثم نصبحهم بالقتال وهم جياع. قالوا: ماذا نفعل؟! هم المعتدون، ليرحلوا، ما رحلوا، قالوا: إذا لم يرحلوا نقدم لهم العشاء، فإذا بالملك يقول: واعجباً لأهل هذه القرية!! نقاتلهم نهاراً ويقروننا ليلاً! فخرج عليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة وسألاه: ماذا تريد من هذا الحصار الطويل؟ قال: أستأصل أهلها الذين قتلوا ولدي. قالوا: لا تتعب نفسك، لن تسلط عليها. قال: ولماذا؟ قال: إنها مهاجر آخر نبي يأتي من الحرم. إلى آخر القصة. والذي يهمنا أن الثمر لمن أبر، ويأتي الحديث: (من باع نخلاً قد أُبرت، فإن الثمرة للبائع ما لم يشترط المبتاع) ، وعلى هذا: فلو أن إنساناً أبر نخله، ثم جاء بعد التأبير وباع البستان، الثمرة التي في النخل المبيع تكون للبائع، إلا إذا اشترط المشتري أن الثمرة تابعة، ولو أن إنساناً جاء يستأجر البستان سنتين أو ثلاث، ووجد النخل مؤبراً، عقد الإجارة من الآن، ويمضي العقد ثلاث سنوات، ثمرة هذه السنة التي أبرها المؤجر للمؤجر، إلا إذا اشترطها المستأجر. صاحب البستان احتاج نقداً فرهن البستان وقد أبر نخله، الثمرة الموجودة داخلة في الرهن مع الأصول أو خارجة عنه؟ خارجة؛ لأن صاحب النخل قد أبر، فلا تدخل الثمرة ضمن الرهن، وعلى هذا فالحديث مبين بأن من أبر نخلاً فإن الثمرة له، فلو باع النخل وقد أبرت فإن الثمرة ترجع للبائع ما لم يشترطه المبتاع -المشتري- فإذا اشترط ووافق على ذلك البائع، ف (المؤمنون عند شروطهم) .

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1]

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1] يعتبر السلم أو السلف عقداً من عقود الإرفاق بين المسلمين؛ وقد جعل الشارع عليه الصلاة والسلام له شروطاً حتى لا يقع الغرر أو التعدي على أي من طرفي العقد؛ وفي هذه الشروط: معرفة كيل ومقدار ونوع الشيء المسلم فيه، وعلى هذا جرى الصحابة رضوان الله عليهم في معاملاتهم.

شرح حديث: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم)

شرح حديث: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) ، متفق عليه، وللبخاري: (من أسلف في شيء) ] . يقال في اللغة: السلف؛ بالفاء، والسلم؛ بالميم. والسلف لغة أهل الحجاز كما هو في الحديث، والسلم لغة أهل العراق، وكلاهما اسم لمسمى واحد. جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، فوجدهم على منهج وطريق في التعامل في البيع والشراء، والبيع والشراء من عقود الحاجيات؛ لأن الأمور: إما ضروريات، وإما حاجيات، وإما تتميمات: فالضروريات: حفظ الجواهر الست: الأديان، والعقول، والدماء، والأعراض والأنساب، وحفظ الأموال. فحفظ هذه المسميات ضرورية لكل مجتمع، مسلماً كان أو غير مسلم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بسلامتها وحفظها. والحاجيات: تبادل المنافع؛ مثل: البيع، والإجارة، والوكالة، والحوالات؛ فكل هذه حاجيات؛ أي: الحاجة تدعو إليها، وقد يعيش الإنسان طيلة حياته ولا يعقد صفقة واحدة؛ لأنه يجد من يكفيه في ذلك. والتتميمات: مثل الرهن، وهو تابع لعقد في الحاجيات؛ وهي المبيع، فهو متمم لعقد القرض بضمان سداده، فالسلم من العقود التي هي من ضمن الحاجيات؛ لأن الحاجة تدعو إليها: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] ؛ لمصلحة الحياة، ولو كان الناس كلهم سادة لا يعملون شيئاً لفسدت الحياة، ولو كانوا كلهم عملة وليس هناك سادة لديهم المال والعقارات ما وجدوا ما يعملون فيه، فلابد من هذه الطبقية لإعمار الكون، والنتيجة الشرعية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم لهم عقوداً في البيع، والسلم، والإيجارات، وقد حصل تعديل بعض تلك العقود، كالإجارة، كما في حديث جابر؛ فإنه أتى إلى أهل قباء وقال: (أتيتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كانت لكم فيه منفعة، ولكن طاعة الله ورسوله أنفع) ، فقد كانوا يؤاجرون الأرض للزراعة على أن لصاحب الأرض ما في رءوس الجداول وما على القناطر من زرع، وللمستأجر وسط الأحواض، أو أن لصاحب الأرض الجزء الشرقي أو الغربي -لجزء معلوم المساحة- والباقي للمستأجر، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد يصاب هذا ويثمر ذاك؛ فيكون ذلك غبناً. فأما إن كان على جزء معلوم من الثمر فلا مانع، كأن تؤجر الأرض قمحاً على جزء منه؛ إما على الربع، أو على الثمن، أو السدس، فإن صحت فللجميع، وإن نقصت فعلى الجميع، ولا يكون هناك غبن. كذلك المبيعات التي كانت ممنوعة، عدّل فيها، وذلك مثل السلم.

شروط السلم

شروط السلم لابد في العين المسلف فيها: أن تكون معلومة للطرفين، وأن يغلب على الظن وجودها عند التسليم. أما إذا كانت نادرة ويغلب على الظن عدم وجودها؛ فيكون إحراجاً على المشتري، لذلك لابد في المسلم فيه من تحديد وبيان يمنع النزاع عند تسليم السلعة، فإذا أسلم في حبوب فيكون نوعها معروفاً، وإذا أسلم في تمور فيكون نوعها معروفاً، والمدينة كان فيها أكثر من مائتي صنف من التمر، فلابد أن يسمي الصنف الذي وقع عليه العقد، ويكون متميزاً معروفاً عند الطرفين، وإذا أسلف قمحاً فلابد أيضاً أن يحدد النوع؛ لأن القمح أنواع: البيضاء، والسمراء، والشامية، والحجازية، ولابد أن يكون المسلم فيه مسمى. وكذلك الكيل لابد أن يكون معلوماً من جهتين: الجهة الأولى: مقدار المكيل: بالصاع، أو بالإردب، أو بالقفيز، أو بالتنكة، وتكون مشاعة عند الناس؛ فلابد أن يكون الكيل معلوماً للطرفين حجماً ومقداراً، وإذا كان بالصاع؛ فهل هو الصاع الشامي أو المدني؟ وهل هو خمسة أو عشرة؟ بحيث أنه إذا جاء الأجل يقول: هذا عقدك عشرة آصع من تمر برني، أو هذا عقدك عشرة آصع من البر الشامي حباً، حتى لا يكون هناك نزاع. الجهة الثانية: إذا كان المسلم فيه زيت أو نحوه - كما سيأتي- لابد من تبيين نوعية الزيت؛ هل هو من الزيتون، أو السمسم، وكذلك المقدار، فإذا جاء الأجل سلمه النوع والمقدار الذي تعاقدوا عليه. هذا المكيل والموزون، وإذا كان المسلم فيه ليس مكيلاً ولا موزوناً، فهل يصح فيه السلم أم لا يصح؟ ينص الحنابلة وغيرهم: أن غير المكيل والموزون؛ وهو المعدود، إن كان يصح أن يوصف ولو وصف استوفت الأوصاف عينه، بحيث يتميز عند التسليم، ولا تقع المشاحة؛ جاز. والآن في الوقت الحاضر نحتاج إلى هذا، ولنفرض وقوعه في: كاسات الشاهي، أو الصحون الصيني، أو كاسات الماء، أو الفنايل، أو الشماغ، فإذا أردنا أن نشتري أو نبيع سلماً، فكيف سيكون ذلك؟ إن كان يمكنك أن تصف هذا اللباس بوصف معروف عند الناس يميزه عن غيره، بحيث أننا لو جئنا عند التسليم لا نتنازع في المعقود عليه، وذلك بذكر النوع والخامة؛ هل هو قطن أو كتان أو حرير، وهناك قاعدة في علم الغزل: كم في الـ (سم) من مدَّة خيط؛ السدى واللحمة، ويعرف عندهم بكثافة النسيج وخفته، فتأتي وتأخذ المسطرة وتنظر كم خيطاً في الـ (سم) ، وكلما كان الغزل رفيعاً كان أقوى وأكثر، وكلما كان متيناً كان أضخم وأضعف، فإذا أمكن وصفه بكل الصفات بحيث أنه لا يختلط مع غيره صح. والآن توجد ماركات وأسماء معينة وقد تشتبك في الأسماء، ولكن المقصود: الوصف الذاتي؛ وذلك مثل الملابس الجاهزة؛ ماركة كذا، ورقم كذا، وقماش كذا، فإذا وصف الملابس وقياساتها، ونوع نسجها، ولو أمكن أن يذكر أيضاً الشركة المنتجة بحيث أنها لا تختلف مع إنتاج شركة أخرى لكان أفضل، فإذا توافرت هذه المواصفات فلا مانع. ومثلها الصحون والملاعق، وأثاث المنازل. يقول الحنابلة: أما الأمور التي لا تنضبط كالقماقم والأسطال؛ فلا يسلم فيها، والقمقم: عبارة عن إناء مستدير يختلف حجمه، وتختلف قاعدته، ووسطه، وعنقه، فلا نستطيع أن نحدد قدر الضيق ولا السعة، ولا أن نحدد كم بين الضيق والوسط والقاعدة. فهذه لا تنضبط، ولكن إذا أمكن ذلك بالإنتاج المكنيكي الآن، وذلك مثل القالب الواحد الذي يصب آلاف الأسطال بمقياس واحد، وأمكن تحديد قاعدته ومحيطه، وذكر الوصف الذي يحدده ويميزه عن غيره، هل من هو من زجاج أو فضة، فإذا أمكن الوصف وأن يحدد المسلم فيه بحيث لا يختلف مع غيره فلا مانع. إذاً: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) ؛ أي: وصفات معلومة، والغرض من ذلك: منع النزاع عند التسليم، فكل ما يسبب نزاعاً عند التسليم بعدم التميز أو وصف مشترك لا يصح أن يكون سلماً. وكل ما يقضي على النزاع عند التسليم وليس فيه وصف مشترك مع غيره صح فيه السلم. وعلى رأي الجمهور: أن السلم يكون في كل ما يمكن وصفه، ولا يكون قاصراً على المكيل والموزون كما قال البعض؛ لأن هذا تحجير، وقد جاء النص: (من أسلف في شيء) ، و (شيء) أعم العمومات، حتى أنه يشمل المولى سبحانه، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] . إذاً: هذا موضوع السلف، أو موضوع السلم.

شرط تسليم الثمن في مجلس العقد

شرط تسليم الثمن في مجلس العقد إذا تعاقدا في المجلس فلابد من تسليم الثمن في مجلس العقد، ولو تعاقدا في مجلس وقال: سأعطيك المال فيما بعد، وعندما يأتي الأجل تأتيني بالمبيع؛ فإنه لا ينعقد سلماً، فلابد من دفع الثمن في مجلس العقد، فإن افترقا ولم يدفع الثمن لم يتم العقد، لكن إذا دفع الثمن في المجلس فلابد أن يكون معلوماً، ولا يصح أن يكون صبرة في كيس، لماذا؟ لأنه في النهاية إما أن يوفي التزامه ويأتي بالمبيع، وإما أن يعجز عن الوفاء بأن يفتقد الصنف في ذلك الوقت، فماذا يكون الحكم؟ إما أن يسترجع ما دفع. وإما أن ينتظر حتى يوجد المسلم فيه، ولا يجوز أن يأخذ على ذلك شيئاً، فإذا دفع ألفاً وكان الأجل إلى سنة ولم يوجد الصنف وتعذر فإنه يأخذ الألف، أو ينتظر حتى يوجد الصنف ولو لسنة ثانية، ولا يجوز أن يحوله إلى صنف آخر عندما يتعذر وجود الصنف المعقود عليه، فيكون الثمن معلوماً كما أن المثمن يكون معلوماً.

مكان تسليم المسلم فيه

مكان تسليم المسلَم فيه أين يسلم البائع العين التي أسلم فيها؟ إن كان مجلس العقد في مكان يصلح للتسليم فعلى حسب العادة، واستصحاباً للأصل: أن يأتي به البائع إلى محل المشتري، وإن كان العقد قد وقع في مكان لا يصلح للتسليم فعلى ما اشترطاه، فإن لم يشترط نرجع إلى الأصل وهو مجلس العقد. متى ينعقد عقد السلم في مكان لا يصلح للوفاء؟ لو كنت في سفر على متن طائرة وجاءت المناسبة، وكنت تريد تمراً سلماً أو براً أو أثواباً من القماش، فقال صاحبك: عندي ما أبيعك، وأسلمك في العين بعد ستة أشهر، فيقول: اشتريت، خذ الثمن، فدفع الثمن في مجلس الطائرة وانعقد البيع، والمبيع أجله إلى ستة أشهر، فأين يأتي البائع بالمبيع؟ هل يأتي به في الطائرة؟ يتعذر هذا، فإن اشترطا عند العقد محل التسليم؛ فيلزم البائع أن يوفي بذلك. وإذا فاتهم أن يشترطوا ومكان العقد لا يصلح للتسليم، فإننا نرجع إلى الأصل؛ ويوفيه إلى المشتري في المكان الذي يصلح للتسليم؛ لأن مكان العقد وهو الأصل غير صالح للتسليم، وكذلك لو كانوا في سفينة في عرض البحر. إلى آخره. ومباحث السلم واسعة، وأهمها ما جاء في الحديث: من ضرورة تعيين المسلم فيه مقداراً ووصفاً وجنساً، حتى لا يتأتى فيه النزاع عند التسليم، وكل ما صح وصفه، وأمكن تمييزه، وانتفى النزاع عند تسليمه، جاز فيه السلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله.

شرح حديث: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله ... ) قال رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما قالا: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب -وفي راوية: والزيت- إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، رواه البخاري] . هذا شرط من شروط صحة السلم. قال: [كنا نصيب المغانم] . والمغانم نقود وأعيان. إلى آخره، فكانوا يستعيضون عن تلك المغانم بدراهم، فيأتي التجار من الأنباط وأمثالهم إلى المدينة فيسلفون يعطونهم الثمن سلفاً في سلع معينة كما ذكرها هنا: البر، والشعير، والزيت، والزيتون، وهذه كلها مكيلة أو موزونة، وألحق بهذه الأصناف ما أمكن انضباطه. قوله: [إلى أجل مسمى] . كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى زمن معلوم) ، وهذا الأجل يشترط فيه التأثير على الأسعار، لأن المسلم فيه تطرأ عليه تغيرات الأسواق من زيادة أو نقص، لماذا؟ لأن كلاً من المشتري والبائع إنما باع مراعياً تغير الأسعار، فالذي دفع الثمن دفعه على أن يؤتى له بالمبيع في مواعيده. مثلاً: الناس الآن في المدينة والنخيل فارغة، فيأتي شخص إلى صاحب بستان ويسلفه ألف ريال في إردب من التمر، فالذي دفع الألف الآن يرتجي بأن الألف سيأتيه بإردب أرخص مما يكون في السوق، والذي أخذ الألف وتعهد بالإردب يستفيد من المبلغ ويرى بأن الإردب في ذلك الوقت أقل من ذلك الألف في هذه الساعة، فكل منهما يراعي المصلحة لنفسه؛ فإذا لم يكن هناك تغير لزمن الأسعار ما كانت هناك دوافع للمسلم ولا للمسلم إليه في بر أو زيت أو زبيب إلى أجل معلوم، فالأجل لابد أن يراعى فيه تغير الأسعار. [قيل: أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم] . يشترط في المبيع سلماً: ألا يقيده البائع ولا المشتري، كأن يشترط من نخل معين، أو نخلة معينة، أو زرع معين، أو تأتي إلى صاحب بستان لتشتري منه إردباً سلماً، فلا تشترط: أريد من بستانك الذي في قباء، أو الذي في العوالي، أو الذي في بير علي؛ لأن اشتراط كون المسلم فيه من مكان معين قد لا يثمر ذاك المكان، وقد لا يأتي بالكمية التي أسلمت فيها، فماذا تصنع؟ وبهذا تكون كأنك بعت معدوماً معيناً، وهذا لا يجوز، لكن أن تبيع شيئاً مستقراً في الذمة، سواء كان عندك في بستان ستأتي من ثمره، أو أرض ستأتي من زرعها، أو ليس عندك شيء، فالذي ليس عنده شيء ماذا يعمل؟ إبان الموعد يذهب ويشتري من السوق المعقود عليه، ويأتي به يسلمه للمشتري. إذاً: من شرط صحة السلم: ألا يعين المصدر الذي منه المبيع سلماً؛ مخافة ألا يأتي من المعين، فإذا كنت عينت من بستان معين والبستان لم يأت بالمقدار الذي اشتريته، فسيقول لك صاحب البستان: أنت الذي عينت البستان، وهذا الموجود، لذلك اشترط أن يكون السلم ديناً في الذمة ليس معلقاً بمعين في الخارج. قال: (أكانت لهم زروع؟ قال: ما كنا نسألهم) ، ولا لنا دخل، فنحن لنا المعقود عليه فقط، سواء كان مسروقاً أو زارعة أو هبة أو شراء، نحن دفعنا المال وانتظرنا السلعة، فإذا جاء وقت الأجل أخذت المسلم فيه، وليس لك أن تقول: من أين جئت به، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)

شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) رواه البخاري] . أتى المؤلف رحمه الله بالحديثين الأولين في موضوع السلم، وأرجو من الإخوة أن يرجعوا في هذا الباب إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن هناك زيادات يستفيدها الإنسان لتوفية هذا الموضوع، وما تقدم في موضوع السلف؛ في عقده وشروطه وجنسه وزمنه ومقداره. إلى آخره، لعل فيه الكفاية على رءوس مسائله، ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى الموضوع الثاني؛ وهو موضوع القرض؛ فقد أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الوعد والوعيد لمن أخذ أموال الناس قرضاً، بدليل قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؛ لأنه أخذها لحاجة وبنية سليمة، وقد دفعته الحاجة إلى ذلك، وهكذا أمور الحياة، تزيد وتنقص، (ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) ، سواء كان في حاجة نفسه أو غيرها، وأخذها تبذيراً، أو من أجل إتلافها على صاحبها ولم ينو الوفاء، وإنما احتال عليهم، وما أكثر الحيل في ذلك! والأمثلة على هذا قد ترى من الغرائب: يذكر أن رجلاً أتى إلى قرية يبيع ويشتري، فنقصت عليه ألف دينار، فطاف في تجارها فلم يجد من يدفع عنه؛ لأنه غريب، فأتى تاجراً فقال له: أدفع عنك، ولكن بشرط: أن تأتيني بكفيل، قال: الكفيل موجود، قال: أين هو؟ قال: الله، فقال التاجر: أعطيتك والله الكفيل، وكان موعد الوفاء بعد سنة، فذهب الرجل بالمال، وجاء الموعد، فانتظر المقترض سفينة يركب فيها إلى صاحب الدين من أجل أن يوفيه حقه فلم يجد، وكل أسبوع يذهب للانتظار ولكنه لا يجد سفينة، وصاحبه هناك ينتظر أن تأتي السفينة بالرجل فلا يجد شيئاً، فيئس هذا من مجيء الرجل، ويئس ذلك من مجيء سفينة، فأخذ المقترض خشبة وحفر داخلها، ووضع القرض في الخشبة وأقفل عليه، وجاء إلى البحر وقال: يا الله! اقترضت بكفالتك، وهذا ديني، فسد عني ديني وفك كفالتك، وألقى بها في البحر، ثم قدر الله أن يذهب صاحبه إلى البحر لينتظر مجيء السفينة كالعادة، فوجد خشبة في الشاطئ فأخذها، وقال: لو أني أستدفئ بها، فحملها فإذا بها ثقيلة، فقال: لعل هذا من الماء، ولما وصل إلى البيت مغضباً ألقى بها فانكسرت عن الدنانير، ومعها ورقة مكتوب فيها: هذا ديني بكفالة الله، فإن وفى إليك فالحمد لله، وإلا فهو في ذمتي، وبعد مدة وجد المقترض سفينة فذهب ليتاجر في تلك البلاد، فمر على صاحبه وفي يده الألف، وقال له: لقد طال علي الزمان، ولم أجد سفينة، ولم يذكر له أمر الخشبة، وقال له: هذا دينك، فقال له: لقد وفى الله عنك، قال: أوصلت الخشبة؟ قال: نعم، فقال: الحمد لله! (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها ليتلفها) ، وهذا أمر بيّن واضح، والجزاء من جنس العمل، وهناك نصوص أخرى جاء فيها: (كان الله في عونه حتى يؤدي) ، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وبعض الصحابة ربما يقترض من غير حاجة، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: (التماساً لقوله صلى الله عليه وسلم: كان الله في عونه حتى يؤدي، فأحب أن يكون الله في عوني دائماً) . قوله: (أدى الله عنه) ، أي: بأن ييسر له بعد عسر، أو يوسع عليه بعد ضيق، أو يهيئ له من يدفع عنه، كان له عون من الله حتى يؤدي هذا الدين، كثيراً كان أو قليلاً. ويقولون: إن الزبير كان مديناً بكثرة، وكانت عنده تركة واسعة، فقال لولده: يا ولدي! إذا أنا مت فقل: يا رب الزبير! أد عن الزبير، فأخذ يبيع من تركة أبيه حتى وفى جميع دينه، وكان لا يظن أنها توفي بالنصف، بل وزاد للورثة منها! وعلى هذا: فإن أموال الناس ودائع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه) ، والأعمال بالنيات، فإذا اقترض المحتاج وهو ينوي الأداء أعانه الله في قضاء الدين، ومن كان على عكس ذلك فهو على العكس، وهذا ترغيب في حسن النية بالاقتراض: أن ينوي الأداء والله يعينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح حديث: (إن فلانا قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه.

شرح حديث: (إن فلاناً قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه ... ) قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن فلاناً قدم له بز من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه فامتنع) ، أخرجه الحاكم والبيهقي، ورجاله ثقات] . ماذا تقولون في هذا الذي امتنع؟ أنا أقول: جزاه الله خيراً؛ لأنه بين لنا حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لمن لم يطعه، فإنه لم يلزمه صلى الله عليه وسلم بما يريد، سبحان الله العظيم! نرجع إلى موضوع الحديث، وله نظائر: [إن فلاناً قدم له بز من الشام] . البز: نوع من القماش مثل الخز، يشترك في نسيجه القطن والكتان، والحرير، أو شيء من هذا. [فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين] . هل كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم ثياباً كثيرة؟ لا. الواحد منا كم عنده من ثوب؟ لا يقل عن أربعة أو خمسة أثواب. قد يقال: هذا فيه نوع ترفيه وتجمل، وقد سبق ل عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! اشتر هذه، تلبسها في الأعياد وعند الوفود، وهذا الذي ينبغي على المسلم وخاصة المسئول؛ فإنه لابد أن يكون في التجمعات مظهره أكمل؛ لأن في هذا إظهار فضله واعتزاز نفسه، وأكثر من هذا: في غزوة تبوك لما نزلوا منزلاً، وكانت تلك الأيام أيام حر، وكانوا إذا نزلوا منزلاً وفيه شجر، يتركون الشجر الأكثر ظلاً لرسول الله، فجاء أبو طلحة إلى رسول الله بغرارة وفيها قثاء، فقال له رسول الله: (من أين هذا؟ قال: جئت به من المدينة) ، ونعلم بأن القثاء أشد تحملاً في السفر من الخيار والخربز، والحبحب؛ لأنها صلبة، فأكل صلى الله عليه وسلم، فإذا بغلام لـ أبي طلحة مر في ثياب خلقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس عنده سوى هذا الثوب؟ قال: بلى يا رسول الله، ثوب جديد في الخريطة، فقال: مره فليلبسه، فدعاه وقال له: البس ثوبك الجديد، فلبس ثوبه الجديد، فكان بمنظر غير المنظر الأول، فقال رسول الله: ضربت عنقه! -أي: أليس هذا أحسن؟ - فقال الغلام: في سبيل الله يا رسول الله! قال: في سبيل الله) فضربت عنقه في سبيل الله، لكن المشكلة هنا: أنهم في غزوة ومقدمون على الروم، فقد كانت غزوة تبوك عن موعد مع الروم، ومن عادة الجيوش أو المتقاتلين: أن الهيئة والبزة تعود على الخصم بالتأثير، فإذا رأى الخصم خصمه مهلهل الثياب، ضعيف السلاح، مطأطئ الرأس؛ طمع فيه ولم يبال. أما إذا رآه منتفخاً ريشه، ومرتفعاً رأسه، ويزهو بنفسه عمل له حساباً، ولهذا لما أخذ أبو دجانة السيف وأخذ يتبختر به ويمشي مشية الخيلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأنه إذا استخف به كأنه مستخف بالعدو، كما قال: جاء شقيق عارضاً رمحه إن في بني عمك سلاح وأباح صلى الله عليه وسلم الذهب -الممنوع- أن يجعل حلية في السيف؛ لأنه يراه العدو، فيعرف بأن صاحبه صاحب نعمة، وسبق أن سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته -وهي قبيلة تجارية حربية- كانوا في سفر للتجارة؛ فرءوا في طريقهم رجالاً يعترضونهم بالسلاح، فعرفوا أنهم قطاع طُرق، وأنهم سيتقاتلون معهم؛ فلما دنوا منهم أناخوا الإبل -وكانت عليهم ثياب للسفر عادية- ثم أخرجوا أحسن ثياب يحملونها معهم فلبسوها، وأخرجوا أفضل نعالهم فانتعلوها، ثم أثاروا الإبل، وتقدمها رجال وتأخرها رجال، واكتنفها من الجانبين رجال ومشوا بتؤدة وتأن ولا كأن أمامهم شيء، فلما رأى قطاع الطريق ذلك قالوا: هؤلاء أناس ليسوا بعاديين، فمادامت هذه حالهم فإنهم واثقون بأنفسهم، فجنبوا عن الطريق، فابتعدوا عن طريق سيرهم حتى اجتازوا فأناخوا الإبل، وأخرجوا من تجارتهم شيئاً كالهدية والطعم، ووضعوه على ظاهر الطريق، وكأنهم يقولون لهم: تعالوا خذوا بعض الشيء، ثم مضوا في سبيلهم. وهذا كما يقال: فيه كسر لنفسية العدو، وكذلك ما حصل في تبوك، فإنهم عندما يرون الخادم بالثياب الجميلة يقولون: إذا كان هذا خادمهم وراعيهم، فما بال الآخرين؟ وعمر رضي الله تعالى عنه عندما رأى الحلة، ورأى الوفود تأتي إلى رسول الله أراد أن يكون لرسول الله ثياباً خاصة يلقى فيها الوفود، وهذا مناسب، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) ؛ فالفلاح والجزار والحداد له لباس لعمله يتحمل الأوساخ، فهل يذهب الجزار مثلاً إلى صلاة الجمعة بملابسه التي يعمل بها في المجزرة، ويدخل المسجد بين الناس في صلاة الجمعة بهذه الملابس؟! فلابد أن يكون له ثوباً خاصاً ليوم الجمعة بعيداً عن أوضار المهنة؛ ليكون في مظهر ومنظر حسن، وحسن السمت من حسن السيرة. إذاً: لما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض على عمر أن يلبس حلة للوفود، ولكن لما نظر في قماش الحلة وجد أنها لا تصلح له، وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) ، يعني: نوعية قماشها لا تصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: أنه لو كان القماش من نوعية أخرى لقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه كانت له بردة يخطب فيها يوم العيد ويقابل بها الوفود، وبقيت بعده إلى أن اشتراها معاوية رضي الله عنه. إذاً: عائشة رضي الله تعالى عنها رأت من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في حاجة إلى ثوبين من هذا البز، فعرضت عليه أن يشتري، فقالت له: (لو أرسلت إليه، فأخذت منه ثوبين نسيئة، فبعث إليه فامتنع) ، نقول: إن الرجل لا يجهل قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه حريص على المال لأي معنى من المعاني، وهذا قضاء الله الذي وقع. وامتناع الرجل عن البيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسيئة أعطانا خلفية عن معاملته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فإنه لم يخاصمه ولم يعاتبه ولم يلزمه بشيء؛ لأن هذا ملكه وله حرية التصرف فيه. ولو حدث هذا الموقف لأحدنا فسيقول للتاجر: أنت لا تقرض أحداً، ولا تأمن الناس، والتاجر معه الحق في ذلك؛ لأنه حر في ماله، فله أن يقرض من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومن أجل ثوبين ليس لديه حقهما يطلب من رجل ثوبين بقيمتها نسيئة، ومع ذلك يرفض الرجل! يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، صلوات الله وسلامه عليه. وقريب من هذا قضية بريرة؛ فبعد أن أعتقت واختارت نفسها، وصار زوجها يتبعها في الطرقات، وبلغ خبرها رسول الله، قال لها رسول الله: (زوجك- يعني: انظري في حاله- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟ فقال لها: أنا شافع؟ - والشافع قد تقبل شفاعته وقد لا تقبل، والآمر إذا كان له حق الأمر فأمره مطاع- فقالت: لا حاجة لي فيه) ، وهذه كما أشرنا مراراً: جواب ملفوف في ورق ملون مكتوب فيه: لا أقبل شفاعتك، فلم يعتب عليها صلى الله عليه وسلم ولم يلزمها، ولم يأخذ في خاطره منها؛ لأنها حرة في نفسها، وقد شفع فلم تقبل الشفاعة. إذاً: نحن أيضاً مع الناس في الشفاعة، لو شفعنا في مصلحة إنسان فردت شفاعة من شفع لا يحمل في قلبه الحقد، ولا يقول: لم يقبل شفاعتي، لماذا؟ ليس بينك وبينه عداوة، ولا أخذ لك حقاً، غاية ما في الأمر أنك طلبت منه طلباً ليس ملزماً بإجابته فرفض، لماذا تحمل في نفسك عليه؟ والمؤلف جاء بالحديث في باب القرض؛ لأنه انتهى من باب السلم، وتقدم حديث عائشة قبل ذلك: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، وهذا تحذير من القرض بدون حاجة، أو بنية عدم الرد والسداد. وهنا عملياً: إذا أنت اشتريت وبقي الثمن مؤجلاً، فكأنك اقترضت الثمن من صاحبه، فيجوز البيع بتقديم السلعة وتأخير الثمن، ذكرنا سابقاً بأن البيع ثلاثة أقسام: إذا كان الثمن والمثمن حاضر خذ وهات، وإذا كان الثمن غائباً والسلعة حاضرة فخذ السلعة ثم هات الثمن، والعكس في السلم؛ الثمن مدفوع في المجلس، والمثمن مؤجل. إذاً: أخذ السلعة نسيئة لا بأس به، ولكن إذا كان الثمن نقداً من غير جنس المبيع، فلو أنك اشتريت إردباً من التمر بإردب من البر على أن يكون نسيئة، فلا يجوز؛ لأن البر بالتمر يجب أن يكون يداً بيد، وإن جاز التفاضل فلا يجوز النساء، كما هو في السلم؛ إذا أسلمت في تمر وكان رأس المال براً فلا يجوز؛ لأنه من بيع ربوي بربوي نسيئة، فلا يجوز ذلك. وباب القرض واسع، فقد يكون في النقد، وقد يكون في ثمن البيع، وقد يكون في أجرة الأعيان، كأن تستأجر البيت أو البستان والأجرة مؤجلة إلى كذا كل ذلك جائز.

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [2]

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [2] جعل الله عز وجل الناس بعضهم لبعض سخرياً، ومن ذلك التسخير ما يكون بينهم من المعاملات المالية، فكل إنسان مهما استغنى بنفسه إلا أنه يحتاج إلى غيره سواء كانت حاجة جسدية أو مالية، وهذا يدخله معهم في معاملات، ومن هذه المعاملات الاستدانة، وعندها فقد يحتاج بعض الدائنين إلى ما يوثقون به ديونهم وهو ما يعرف بالرهن. وقد فرع الفقهاء عليه أحكاماً كثيرة ومسائل عديدة.

من أحكام القرض

من أحكام القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته) ] . يتعلق بالقرض أبواب تجر إلى الربا، فلو كان القرض عيناً؛ كأن تكون اقترضت ألف دينار، أو إردباً من التمر، وتقدم بأنه لا يجوز لك إذا شفعت لإنسان شفاعة فأهدى إليك هدية أن تأخذها؛ لأنك بهذا تكون قد دخلت في باب الربا، وإذا أقرضت إنساناً فأهدى إليك بسبب القرض، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا. ويختلف الفقهاء في جواز القرض في أشياء؛ لأن القرض يكون في معين: موصوف معلوم؛ ليكون عند السداد موضع وفاق، أما إذا كان القرض في شيء غير منضبط، فلا، قالوا: كل ما صح سلماً صح قرضاً، أما الجواهر والأحجار الكريمة فلا يصح السلم فيها؛ لأنه لا يمكن انضباطها، وكذا في الفيروز والياقوت والعقيق والزمرد لو قلت: أسلمت فيما وزنها كذا جرام، فإن شكلها وصفاءها ونعومتها تختلف، ولا يمكن انضباط ذلك، ولهذا قالوا: لا يصح السلم في الأحجار الكريمة، ولا الجواهر النفيسة؛ لأنها لا تنضبط عند التسليم، فكذلك القرض؛ لأنك عند ردها نختلف؛ هل هذا الذي اقترضت أو غيره؟ إذاً: لا يجوز القرض فيها. والحيوان: هل يجوز القرض فيه أم لا؟ يختلفون: الجمهور على الجواز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (استسلف بكراً ورد خياراً رباعياً) ، قالوا: هذا من حسن الأداء، ونحن هنا في بيع وشراء، وفرق بين البيع والشراء عند مقاطع الحقوق وبين حسن الأداء مكارمة. الإماء والعبيد هل يصح القرض فيهم؟ قالوا: هذا يرجع إلى حكم القرض، هل هو عقد تمليك على القطع أم مؤقت؟ اقترضت ألف دينار، هذه الألف التي اقترضتها امتلكتها ملكاً قاطعاً تاماً أو معلقاً؟ فمن قال: هو ملك تام مقطوع به؛ فيجوز عنده، ومن قال: هو مؤقت؛ لأنه معلق بالذمة لصاحبه، قال: لا يجوز، وقوم قالوا: يجوز في العبيد ولا يجوز في الإماء؛ لأننا إذا أقرضنا الأمة، وقلنا: هو تمليك، ربما استمتع بها وهي ليست ملكاً له على الحقيقة، لذا قالوا: يجوز قرض الأمة لمن لا يحل له وطؤها، كامرأة لا تطأ؛ أبوها، أخوها، ذو محرم منها؛ لأنه لا يتأتى المحظور. إذاً: هناك مباحث في القرض للتوسع فيها يرجع إلى كتب الفقه، والله أعلم.

شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته.

شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) رواه البخاري] . هذا شروع من المؤلف في مباحث الرهن، والرهن في اللغة: الحبس، كما جاء في الحديث: (الميت مرهون في قبره بدينه) ، أي: محبوس فيه، والرهن في اصطلاح الفقهاء: توثيق دين بعين يمكن الاستيفاء منها، وقد بين سبحانه أنه عند عدم وجود الكاتب أو الكتابة يكون الرهن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، سواء كان ذلك في السفر لتعذر الكتابة، أو كان في الحضر. والرهن عقد جائز؛ وإذا وقع فهو لازم، وذلك: إذا كان إنسان مديناً بدين لآخر، لكنه لا يثق في المدين لوفاء الدين، فيقول له: أحضر لي رهناً توثيقاً للدين، فيقدم إليه الرهن، وكما يقولون: كل ما جاز بيعه سلماً جاز رهنه؛ لأن العين المرهونة عند نهاية أجل الدين يردها المرتهن للراهن، فإذا حصل فيها خلاف أو نزاع، لابد أن يرجع إلى ما صح سلماً؛ أي: بالوصف.

شرط العين المرهونة

شرط العين المرهونة العين المرهونة لابد أن تكون معلومة للطرفين، حتى إذا ما جاء وقت السداد، ورد العين المرهونة لصاحبها لا يكون هناك نزاع. والرهن بمجموع أمره لا يجوز للمرتهن أن يستفيد منه على حساب الدين، والدين قد يكون قرضاً حسناً، أو ثمن مبيع، أو أجرة عين متأخرة، فتأخذ رهناً عليها، أو بعته عيناً والثمن مؤخر فتأخذ رهناً منه إلى التسليم اقترضت منه ألفاً أو عشرة آلاف وطلب رهناً، فلا مانع من ذلك، وهذه كما يقولون: من العقود المكملة والمتممة لعقد البيع؛ لأنه توثيق للثمن المؤجل، وكل عين جاز الانتفاع بها جاز رهنها على ما تقدم في أوصاف السلم. ويشترط في الراهن: أن يكون جائز التصرف؛ لأن غير جائز التصرف لا يحق له أن يرهن؛ لأن الرهن تسليط المرتهن بالعين المرهونة.

حكم الاستفادة من العين المرهونة

حكم الاستفادة من العين المرهونة إذا رهن إنسان شيئاً كان له غنمه وعليه غرمه، وبعض الناس ربما اتخذ عقد الرهن وسيلة للانتفاع مقابل القرض الذي أقرضه، طلب منه قرض عشرة آلاف وهو لا يقدر أن يقول له: على أن تردها ومعها مائة، أو ومعها إردب من التمر، أو ومعها كذا، أو تعمل لي كذا؛ لأنه ربا صريح، فيقول: ترهن لي البيت، أو السيارة، أو كذا، فيقول: أرهن لك، فحينما يقدم إليه العين المرهونة يأخذها ويستفيد منها، داراً يسكنها، سيارة يستعملها، أشياء من هذا القبيل، فما استفاده من عين الرهن لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه بمثابة -على ما سيأتي- قرض جر نفعاً بواسطة الرهن، حتى الهدية لا يقبلها إلا إذا عاوض عنها، فإذا كان للعين المرهونة نفقة، ومنها منفعة, فلها وعليها، على ما يأتي تفصيله، وإذا كانت لا تحتاج كلفة كالدار، والأرض الزراعية، فيرهنه إياها يأخذها ويزرعها، ويستغل زراعتها، فيتعين عليه أن يحتسب كم حصل من زراعتها، كم من حصل من سكنى الدار، فيحسبها ويخصمها من الدين التي هي مرهونة فيه، فلما كان الرهن لا يجوز للمرتهن أن يستغله لحسابه زائداً عن الدين الذي له، جاء هذا التنبيه: (الرهن يركب، والضرع يحلب، وعلى الراكب وعلى الحالب - أو الشارب- النفقة) . إذاً: حينما يكون الرهن يعطي ويأخذ، فإن ما يعطيه يحاسب به فيما يأخذه؛ أي: من النفقة، فإذا كان يعطي ولا يأخذ؛ كالدار مثلاً، تعطي سكنى ولا تأخذ شيئاً، اللهم إن كانت صيانة خفيفة أو كذا فتحسب.

موقف العلماء في الاستفادة من الرهن

موقف العلماء في الاستفادة من الرهن هناك من يقول: تحريك الرهن المتحرك قد يكون واجباً وقد يمتنع، إذا كانت السيارة مرهونة عندك وأنت لا تستعملها، ومدة الدين ستة أشهر، هل تظل السيارة واقفة في محلها ستة أشهر أم أنه ينبغي عليك ما بين فترة وأخرى أن تشغلها وتحركها بما يمنع مفسدتها؟ لأن طول مدة وقوفها قد تؤدي إلى الإضرار بها. إذاً: لابد من الحركة لمصلحتها لا لمصلحتك أنت، كذلك إذا رهن عنده فرساً أو بعيراً في غنى عنه، لكن طول مكثه في مكانه الزمن الطويل قد يؤذيه، ولابد أن تحركه، سواء راكباً أو قاعداً، على ما فيه مصلحته، لكن إذا كانت لك حاجة في هذا الرهن؛ بأن تقضي حاجتك عليه، وهذا يتطلب منك نفقة؛ نأتي أولاً للراهن: أنت يا صاحب البعير، هل تتعهد بالنفقة لرهنك عند المرتهن أم أنك تتركه وتذهب؟ فإن تعهد بنفقته فلا يحق للمرتهن أن يركبه لمصلحته، لكن يمشيه لمصلحة البعير، أما إن كان الراهن ترك البعير عند المرتهن، ثم سافر، أو لم يرجع؛ هنا البعير يحتاج إلى نفقة، وإذا تركناه تلف، وهو أمانة في يد المرتهن، ماذا يفعل؟ يقول العلماء هنا: إذا كان في البلدة حاكم يعرض الأمر عليه: هذا رهن في يدي، وصاحبه تركه لي، ويحتاج إلى نفقة، وليس هناك من ينفق عليه، فيستأذن الحاكم في ركوبه بنفقته، وقيل: بدون إذن الحاكم، أنفق على البعير أو على الرهن بنية الرجوع على صاحبه، وإذا جاء صاحبه رجع عليه، أما إذا أنفق بدون نية الرجوع، على أنه متبرع، ويريد أن يخرج من عهدة حبس الحيوان وتجويعه وتعطيشه، فإن أنفق متبرعاً فلا يرجع؛ لأن: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ، وإذا أنفق بنية أن يرجع على صاحبه فله الحق في الرجوع، فإذا كان البعير صالحاً للركوب وهو في حاجة إليه، ننظر كم علف البعير في اليوم؟ إن قدرناه بعشرة ريالات، فبكم سيركب البعير في حاجته المتقطعة، بما يساوي خمسة، وعلى هذا يحسب متوسط هذا المجموع فيما يحصل له من فائدة ركوب البعير، فإذا كان ما يحصل عليه من ركوب البعير في مصلحته يتساوى مع الإنفاق عليه، فقد انتهت المسألة، أما إذا كان ما ينفقه على البعير أكثر مما يحصل عليه من مصلحة البعير، فيحتسب ويرجع بالباقي على صاحبه، وإن كان ما يحصل عليه أكثر من نفقته فلا مانع من ذلك، ويحتفظ بالزائد لصاحب البعير، ويخصمه من الدين الذي هو عليه عند الوفاء، هكذا الارتفاق والانتفاع بالرهن. أما أن ينتفع به لمصلحته، ولا يحسب ذلك على صاحبه؛ فهذا هو النفع الذي جاء بسبب القرض وأنه هو ربا. كذلك لو رهن عنده شاة أو بقرة فيها حليب تريد أن تأكل وتعطي حليباً، فإن تركناها دون حلبها تضررت، وإن منعنا الأكل عنها تلفت، إذاً: لابد من مراعاة المصلحة، وكما يحافظ عليها في نفقتها وسقيها يحافظ عليها أيضاً فيما تحتاجه؛ من محل مبيتها، وربطها، وتمشيتها في بعض الأحيان حتى لا تتألم أرجلها أو شيء من هذا، ثم عليه أن يعرف: كم تعطي حليباً؟ وكم تأخذ نفقة في اليوم؟ وإذا نظرنا بالمقاصة: وجدنا أنها تعطي حليباً بخمسة عشر، وتأخذ نفقة بعشرة، حينها له على صاحبها كل يوم خمسة، فإذا جاء الأجل وجاء المدين بالدين خصم من مجموع الدين مجموع الأموال التي توافرت عنده على مدار الأيام من قيمة حليبها؛ لأنه حق لصاحبها. إذاً: الرهن لا ينتفع به أبداً لمصلحة المرتهن إلا إذا حسب ذلك من الدين الذي له، فإذا كان الرهن يعطي ويأخذ فتحصل هناك المقاصة، وإن كان يوجد حاكم استأذنه وقدر له النفقة، وإن لم يوجد عمل ذلك لمصلحة الرهن، ثم تحاصى مع صاحبه عند الوفاء، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه.

شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، رواه الدارقطني، والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله] . هذه أيضاً ناحية كانت تقع ولا زالت عند كثير من الناس؛ يقترض الدين إلى أجل، ويقدم المقترض الرهن، فإذا جاء الأجل ولم يسدد امتلك المرتهن الرهن، ويجيء صاحبه بعد فترة ويقدم الدين، فيقول له: أنت لم تسدد، والرهن صار مكان الدين. هذا لا يجوز، فمهما طال الزمن لا يغلق الرهن، ولا ينسد عليه باب تسديد الدين واسترجاع العين المرهونة، فإذا طال الزمن وجاء الموعد قال له: هذا ملكك رهن، ولي عندك الدين، فإن عندك استطاعة أن تسدد ديني وتأخذ رهنك، فنعم، وأنا ما طلبت الرهن إلا توثيقاً لحقي. ماذا نفعل؟ يعرض المسألة على الحاكم، والحاكم يكلف من يبيعه بالمزاد العام على ملأ من الناس حتى لا يكون هناك هضم للحق، ولا تواطؤ فيه، كم دينك؟ مائة. بكم بيع الرهن؟ مائتين، إذاً: خذ حقك ورد الباقي لصاحبه، الدين مائتان والرهن بيع بمائة، كم بقي لصاحب الدين؟ مائة، إذاً: الرهن نزلت قيمته ولم يسدد الدين، أيضاً لا نقول: إن قيمة دينك في الرهن، لا. بل نبيع الرهن بما يساوي في يوم السداد، إن زاد عن الدين دفعنا الزيادة لصاحبه، وإن نقص عن الدين صار في ذمة صاحبه؛ إما أن يدفع أو أن يكون ديناً عليه. هذا معنى قوله: (لا يغلق الرهن) . أما ما ينص في بعض الكتابات والعقود: إذا لم تسدد فيكون الرهن ملكاً لي، ولا حق لك في الرجوع فيه، فكل ذلك باطل؛ لأنه يأكل مال الغير بغير حق، الرهن يساوي ألفاً، ودينك مائة، لم تأكل تسعمائة؟ ليس لك حق في هذا، لك الذي يوثق دينك، والرهن موجود لتوثيق الدين، لا ضرر ولا ضرار. كنا نسمع في بعض الأقطار المجاورة: أنهم يتخذون طرقاً للاستفادة من الدين، وحقيقة الأمر أنه دين جر نفعاً للدائن بلا شك، وله صور مختلفة، وقوالب متنوعة، وبحجة خيار الشرط والرهن؛ يأتي إلى إنسان ويقول: أبيعك هذه الدار، ولي الخيار سنة، فيأخذ البائع ثمن الدار، ويستلم الدار المشتري، ويسكنها مدة الخيار، فإذا انقضت السنة جاء البائع وقال للمشتري: أنا اخترت أن أرد البيع. ليس هذا خيار الشرط، أنا اخترت وفكرت واشترطت سنة، فوجدت أن البيع غير نافع لي، ففسخ البيع، خذ ما دفعت ورد علي الدار، اشتراها المشتري بألف وبعد سنة رد الألف واسترد الرجل داره، وسكنى الدار سنة استغلها المشتري بتواطئ بينهما، كأنه أقرضه ألفاً واسترجعه بعد سنة، ومع القرض سكن الدار، وكان عليه أن يقدر بكم تؤجر الدار في السنة، ويخصمها من الألف. كذلك الرهن: أرهنك البستان، الدار، السيارة، أي شيء له دخل، ومدة وجود الدين سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل والمرتهن يستغل العين بفوائدها. وكنا نشاهد هذا في الأراضي الزراعية، والبيوت؛ فلان رهن بيته، أو أرضه، وإذا بقيت في يد الراهن لا مانع، لكن تكون ممنوعة من البيع والشراء. أما إذا سلمت للمرتهن وصار يستغلها فتلك الغلة هي المنفعة التي جرها القرض، لكنهم ما جعلوها في صورة قرض جر نفعاً، لا؛ بيع ورهن وسداد الرهن، واسترجاع العين، ولفة طويلة، وكلها تصب في: (قرض جر نفعاً) . وهناك مباحث عديدة في موضوع الرهن والقرض، وتجدون ذلك في كتب الفقه الموسعة؛ وهي: التحذير من كل ما يمكن أن يقصد به المدين نفع الدائن بسبب الدين من الهدايا، أو أن يعمل له ما يجامله به، من أن يساعده في شيء ما كان يساعده فيه من قبل، ولذا كان يقول بعض السلف: لو أقرضت إنساناً ألف دينار، وأهدى إليك حمل تبن فلا تقبله. وكان بعض السلف إذا أقرض إنساناً قرضاً يكره أن يجلس في ظل بيته، خشية أن يكون هذا من منفعة القرض، وهل ظل البيت يبذل فيه صاحب البيت شيء؟ لكن يقولون: الشحيح لا يرضى لإنسان أن يستظل في ظل بيته، والأولاد الصغار يفعلون هذا؛ إذا تخاصموا لا يدع الآخر يجلس في ظل بيتهم، فإلى هذا الحد كانوا يتورعون من أن يستفيدوا أدنى فائدة ممن أقرضوه مخافة أن تكون تلك الفائدة -على ضآلتها- قرضاً جر نفعاً، وكل هذا كان تورعاً، من روائح الربا الكريهة. ولكنهم يقولون: إن كان بينك وبين المقترض علاقة سابقة؛ مثلاً: كان صديق لك، وجاء يقترض منك، وكنت قبل القرض تتبادل معه الزيارة، وتتناول عنده الطعام على حسب الضيافة أو الصداقة، ثم صار القرض، هل تمتنع؟ وقد كنتم من قبل تتبادلون الهدايا في المناسبات، فأهدى إليك هدية في مناسبة، هل تمتنع عنها؟ قالوا: يأخذها بحكم الصداقة حتى لا يقطع الصلة التي بينهم أو يسيء علاقته بصديقه، ولكن لابد أن يكافئ عليها، إما بهدية تعادلها، وإما بتقديرها وحسابها من الدين الذي له عليه، والبعض يقول: إذا أقرضته لا تدخل بيته ولا تأكل طعامه، لأنه يكارمك ويوسع لك ويخجل ويعمل ويتكلف بسبب الحمل الذي على ظهره، قالوا: هذا لا يجوز، لكن إذا كان قبل القرض هناك صلة والملاطفة والمزاورة موجودة، وتبادل الهدايا والمكارمة قائمة، فلا مانع في ذلك مادام سيحسبه ويعاوضه عليه، أما أن يأخذها هكذا ويسكت، لا. فهذا قرض جر نفعاً.

شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاء)

شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاءً) قال رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء) ، رواه مسلم] . المؤلف يأتي بعد حديث: (الرهن يركب بنفقته، والضرع يشرب بنفقته) ، وسيأتينا: (كل قرض جر نفعاً؛ فهو ربا) ؛ فالزيادة في الوفاء في الدين نفع: أقرضته ألفاً وردها ألفاً وصاعاً من تمر، هذا نفع أم لا؟ نفع. والمؤلف هنا يعطينا صورة ليست من صور النفع الذي جره القرض، ولكن من صور مكارم الأخلاق في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عبد الله بن عمرو: (أمرني أن أجهز جيشاً؛ فكنت آخذ البعير بالبعيرين) . وهنا: (استسلف) ، والهمز والسين والتاء للطلب، مثل: استغفر، استقدم، واستسلف: أي: طلب سلفة. (بكراً) ، البكر: البعير الصغير، ثم جاء الرجل في الموعد يطلب بكره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالقضاء من إبل الصدقة، فبحثوا فيها عن مماثل للقرض، وهو البكر نظير البكر، قال: لم أجد إلا خياراً رباعياً، والخيار يزيد عن البكر، وكان من حق المقاصة لو دفع إليه الرباعي أن يأخذ منه فرق الرباعي من البكر؛ بكرك الصغير لا يوجد عندي، وعندي ما يزيد عنه، كما لو وجد أقل من البكر ودفع له النقص، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يجد النظير المعادل المطابق ووجد ما هو خير منه قال: (أعطه إياه، خيار الناس أحسنهم قضاء) ، إذاً: هذا من باب الإحسان، وليس من باب الربا، وليس مشروطاً في العقد من قبل؛ أنا أقرضك بكراً لكن بشرط أن ترد لي أحسن منها. إن جاء الشرط في البداية بهذا بطل العقد، لكن إن جاء عن طيب نفس المقترض فالجمهور يقولون: لا بأس. وهنا يأتي النزاع في كون المقرض يقبل زيادة في الدين أو لا يقبل؟ فنجد الجمهور يقولون: إن كانت الزيادة جاءت من المقترض بعد سداد الدين؛ بأن كان الموعد في يوم واحد رجب، فسدد الدين، ثم سافر المقترض وجاء بهدية ودفعها للمقرض، وقد انتهى من السداد من عشرين يوماً يردها أم يأخذها؟ البعض يقول: لا يأخذها؛ لأنها امتداد لخيط القرض. والبعض يقول: خيوط القرض انتهت بالدفع والسداد، وهذا شيء دفعه إليه عن طيب نفس منه، قدمه لمن أسدى إليه معروفاً فأكرمه، فنجد النزاع في هذا. ومن أراد التحقيق فيها فليرجع إلى نيل الأوطار للشوكاني، فقد ساق نصوصاً عديدة في هذا. لكن الجمهور يقولون: لا يقبل الزيادة عند السداد، وهل بعد السداد يقبل المكارمات؟ هذا محل النزاع. مالك رحمه الله يقول: نعم؛ لحديث: (خيار الناس أحسنهم وفاء) ، وإذا كان الحسن في الوفاء ذاتي وليس خارجياً، كالصورة التي معنا؛ الزيادة الموجودة في الرباع الخيار ذاتية، وكما يقولون: نماء متصل، ف مالك يقول: إن كان الحسن في ذات الدين فلا بأس، كما في قضية البكر والخيار، أما إذا أتى له ببكر ومعه عنز، العنز هذه زيادة خارجية، مالك يقول: لا، هذه خارجة عن الموضوع ولا يحق له أن يأخذها، ولو كانت الزيادة في الخيار الرباعي أكثر من العنز مرتين لا مانع؛ لأنه وصف للدين، وقد أحسن المقترض في سداد قرضه إلى من أقرضه. وعلى هذا: من أقرض إنساناً شيئاً ففي مدة القرض لا يحق له أن يقبل منه شيئاً، كما قيل: ولا عوداً من أراك، إلا إذا كان العهد بينهما قبل القرض تبادل الهدايا، يقبلها ويعوضه عنها، سواء قبل أن يسدد القرض في مناسبات تأتي أو بعد أن يسدد، وإذا انتهى القرض وسدد المدين دينه، ثم جاء المدين في مناسبة وقدم لمن كان أقرضه هدية، يقبلها أم لا؟ هناك من يقول: إنها من توابع القرض فلا يقبل، وهذا هو التورع. وهناك من يقول: لا. القرض انتهى، والدين سدد، وانقطعت العلاقة، وهذا جاء متبرعاً محسناً، فلا ينبغي أن تردها. وهذه النقطة نقول فيها: الله تعالى أعلم. عند سداد الدين هل يقبل زيادة في القرض بعينه؟ الجمهور يقولون: لا، ومالك يقول: إن كانت الزيادة متصلة من عين المقرض أو القرض الذي قدمه فلا بأس، هذا بكر وهذا خيار رباعي، وإن كانت خارجة عنه من غير جنسه فلا يقبلها تطبيقاً للحديث في هذه القضية بالذات، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)

شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، رواه الحارث بن أبي أسامة، وإسناده ساقط] . هذه هي القاعدة العامة التي أخذ بها جمهور الفقهاء، وإن كان الحديث متكلم في سنده ولا ينهض للاحتجاج وحده، لكن تشهد له قرائن أخرى؛ ما هو الربا؟ الربا زيادة عن الدين، وهذا القرض إن جر نفعاً اتفق مع الربا في الصورة، ولا يحتاج هذا حتى إلى نص أو حديث في المسألة. (نفعاً) ، نفعاً هنا: نكرة، مطلق يعني: كل ما ينتفع به الشخص، كما قال بعض العلماء: ولو عوداً من أراك، ولو أن يستظل في ظل حائطه، ولو حمل تبن، فإن له قيمة، لكن عود الأراك، أو الظل في جداره؟ كل ذلك يقول: لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه ربا، (كل قرض) أي قرض أياً كان، وإذا كان الأمر في القرض نقداً فإنه ينجر على كل دين، مثلاً: مدين في ثمن مبيع، أو في أجرة بيت، فلا يوجد قرض، فلكون الدين موجوداً لا يجوز أن تنتفع من وجود دينك عليه لأي منفعة كانت، لك دينك فقط، أو ثمن مبيعك أو أجرة العين، أو نقد القرض الذي أقرضته أياً كان، وهذه أصبحت قاعدة عند الفقهاء معمول بها دون منازعة، أجمعوا على العمل بهذه القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) ، سواء صح السند، أو كان فيه اضطراب، أو فيه ضعف، فإن العلماء تقبلوه بالقبول، ورتبوا عليه هذه الأحكام، وأصبحت معمولاً بها عند الأئمة رحمهم الله، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [1]

كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [1] حرمت الشريعة أكل أموال الناس بالباطل، وأوجبت على المدين أن يقضي ما عليه، فإن أفلس فإنه يحجر عليه وينتزع ما في يده من المال والعقار، وفي الإفلاس والحجر أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.

شرح حديث: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس)

شرح حديث: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) متفق عليه] . هذه صورة من معاملة أصحاب الديون في ثمن المبيعات؛ لأن الرجل قد يكون مديناً في ثمن مبيعات، أو في أجرة أعيان، أو في قرضٍ عيني نقدي، وغيرها من الالتزامات المتعددة التي يلحقه الدين فيها، فإذا أفلس رجل، وصدر الحكم من الحاكم بأن يحجر عليه، وجب أن يعلن ذلك للعامة؛ حتى لا يتعاملوا معه، ومن تعامل معه بعد الحجر عليه لا يشارك الغرماء في قسمة الموجود من ماله؛ لأنه دخل على بينة بأنه محجور عليه، وتكون المعاملة معه في الذمة غير متعلقة بماله فلا يشارك الغرماء فيما يخصه، بخلاف من له دين قبل الحجر عليه، فإذا حجر الحاكم على المفلس، ثم أراد أن يبيع موجوداته، فوجد أحد الدائنين سلعته بعينها التي باعها عليه ديناً، فهو أحق بها من الغرماء سواء كان الدين كيس رز مثلاً، أو سيارة، أو بعيراً، فإذا وجد سلعته ستباع وتقسم على الغرماء بحصص ديونهم بالنسبة المئوية، وهو من ضمنهم، لكن سلعته موجودة بعينها بخلاف الديون الأخرى التي تصرف فيها، استدان سيارة وباعها، استدان ناقة ونحرها، استدان كذا وصرفه، أو استدان كذا وصنّعه، لكن هذه السلعة بالذات ما زالت موجودة على ما هي عليه، فصاحبها أولى بها، ولكن بشروط أوصلها بعضهم إلى خمسة شروط: 1- ألا يكون أخذ من الثمن شيئاً؛ لأنه لو كان أخذ من الثمن شيئاً سيكون هناك اشتراك. 2- ألا يكون المشتري المفلس المحجور عليه باع بعضها، كما لو اشترى منه وسقاً من التمر، ثم باع منه خمسة أو ستة صيعان. 3- ألا يكون تصرف بجزء منها. 4- ألا يكون تعلق بها حق الآخرين، كما لو أدخلها في شركة مع أناس آخرين. 5- ألا تكون السلعة تغيرت بزيادة أو بنقص، زيادة في ذاتها لا في قيمة السوق، فلو اقترضها يوم اقترضها وهي تساوي ألف ريال، والآن صارت تساوي ألفين أو تساوي نصف ألف فالدائن أحق بماله، لكن لو اشتراها وهي حائل، فحملت، فهذا الحمل زيادة من حق المفلس، ولو اشتراها وهي حامل فنتجت، فإذا أبعدنا النتاج نقصت، أو إذا اشترى العبد بنسيئة، وعند الحجر كان العبد قد تعلم صنعة، أو تعلم مهنة يكتسب منها فهذه زيادة، أو اشترى الجارية البكر وعند الحجر عليه لم تعد بكراً؛ لأنه قد استمتع بها، فهذا نقص فيها، فيقولون: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء ما لم يحدث فيها تغير، وما لم يكن قد استلم من قيمتها شيئاً، وما لم يطرأ عليها زيادة أو نقص، وما لم يتعلق بها حق الآخرين. فقوله: (من أدرك ماله بعينه) يعني: أدرك ماله بعينه وذاته في أموال المفلس التي يراد بيعها لتوزيع القيمة على الغرماء، فأدركها بعينها فهو أحق بها، ونقول له: خذ سلعتك لكن بتلك الشروط.

شرح حديث: (أيما رجل باع متاعا فأفلس)

شرح حديث: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس) قال رحمه الله: [ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلاً بلفظ: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئاً فهو أحق به) ] . هذا الشرط منصوص عليه، أي: (أيما رجل باع متاعاً ثم أفلس الذي ابتاعه، ولم يكن قد تقاضى شيئاً من ثمنه فهو أحق به) وهذا أحد الشروط التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله. قال رحمه الله: [ (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) ] . لو مات المشتري الذي أفلس، ولم يستطع السداد، والورثة عجزوا عن سداد الديون، والتركة لم تتحمل؛ لأن الورثة غير ملزمين بقضاء دين الميت من مالهم، والميت مرهون بتركته، فإن ترك وفاءً سدد منه الديون، والدين مقدم على حق الورثة، بل إن البعض يقدمه على الوصية وعلى حقوق الله، والبعض يقدم حق الله على حق العباد، وجملة ذلك أن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة، ومنها: مئونة تجهيز الكفن والحنوط، وإذا كان لنقله أجرة، وإذا كان لقبره ثمن، فكل ذلك يسمى مئونة تجهيزه، وهو مقدم على حق الورثة. وهناك من يقول: لا، الدين أحق من هذا، ومئونة التجهيز تكون على بيت مال المسلمين. وبعضهم يقول: لا، حق الله يقدم، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت: (إن أمي ماتت أينفعها إن حججت عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) ، وقال الذين قالوا دين العباد مقدم: دين الله مبني على المسامحة، ودين العباد مبني على المشاحة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قدم له ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا، صلى عليه، فقدم له ميت فسأل عن دينه: فقالوا: نعم عليه دين ديناران، فقال: صلوا عليه، فقال أبو قتادة صل عليه -يا رسول الله- والديناران عليّ، قال: حق الغريم، وبرئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) . والذي يهمنا أن من لحقه دين، فإن وجد في التركة سداد الدين فبها، وإن لم يوجد، فالورثة غير مسئولين، فنقول للدائن: خذ من تركته دينك، ثم إن بقي شيء فللورثة؛ لأن حق الورثة آخر حق في التركة. فإذا مات المفلس وترك شيئاً لا يفي بالدين، وجاء الحاكم ليبيع الموجود ويقسمه على الغرماء، فإن أحب الورثة تطوعاً من عندهم أن يسددوا عن أبيهم فجزاهم الله خيراً، وإذا كانوا عاجزين عن سداد دينه، وجاء أحد الدائنين فوجد سلعته بعينها، فهل يأخذها كما لو كان المدين حياً؟ نجد النص هنا يقول: (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) . أي: وإن مات المشتري المفلس فصاحب المتاع الذي وجده على حالته، والذي كان له الحق أن يأخذه لو كان المدين حياً، أسوة الغرماء، يعني: ماله يباع مع المال الموجود، ثم يقاسم الغرماء في مجموع ما يحصل من قيمة الذي وجد بالنسبة المئوية كما تقدم. قال رحمه الله: [ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة قال: (أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به) ] . قضاء أبي هريرة فيه أن من مات أو أفلس فهو أحق بمتاعه، ولكن الأول مقدم على هذا، ولعله الأرجح إن شاء الله.

شرح حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)

شرح حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) قال رحمه الله: [وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان] . المفلس الذي ليس عنده وفاء لمجموع الديون، تباع موجوداته، ويسدد الغرماء بحصص متساوية، وهذا حكم المفلس الذي لم يجد ما يسدد ديونه، فإذا كان غنياً ولم يسدد فهل هو مفلس؟ لا، فالمال موجود لكن صاحبه مماطل، والمطل هو التأخير والتسويف والروغان: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها ويقصد الشاعر أنها لا تفي له بوعد، وتماطله وهو معنى أي: تعبان، فالمطل هو التسويف والتأخير، فالغني يجب عليه أن يسدد الدين في أجله، فإن لم يسدد فهو مماطل، وفي بعض الروايات: (مطل الغني ظلم) . وقوله: (يحل عرضه وعقوبته) أي: يحل عرضه بشكواه وذكر حاله، فيقول: هذا فلان مماطل، وهذا لا يعتبر غيبة بالنسبة للدائن، لأنه متشك من حاله، وليست هذه من باب الغيبة، فأحل عرضه للدائن بأن يتكلم فيه، وما كان يحق له ذلك، وغير الدائن ليس له حق أن يتكلم عليه؛ لأنه ليس له حق عنده. ومعنى قوله: (وعقوبته) أي: حبسه، ويقولون: المفلس يحجر عليه ويباع ما معه، والغني يحبس ويلزم بالدفع كرهاً، فإن لم يدفع فقال الأئمة الثلاثة: الحاكم يبيع من ماله لغرمائه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أنتم لا تملكون المال فتبيعونه، ولا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، لكن يضيق عليه في حبسه حتى يتولى هو البيع ويفك نفسه، والذي يهمنا أن الغريم قسمان: واجد يماطل، ومفلس لا يجد، فالمفلس يباع ما تحت يده، وليس للغرماء فوق ذلك، كما لو كانت موجودات المفلس لا تفي بالديون مثلاً: كانت خمسين في المائة من الديون، فماذا يفعل الغرماء في بقية حقوقهم؟ لا شيء، وكما قال سبحانه وتعالى فيما يتعلق بتصفية الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .

سجن المفلس مفسدة

سجن المفلس مفسدة أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رفع إليه معسر، فقال لغرمائه: أتعرفون له شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن احبسه! فقال: لا، وما الذي يعود عليكم بحبسه؟! فحبسه ضياع له ولكم ولعياله، ولكن أتركه يسعى في الأرض. وهذا -والله- هو الحق، بخلاف ما يجري في إنسان يدعي الإفلاس، ويأتي بشهود بأنه لا يملك شيئاً، ومع هذا يحبس إلى أن يرفع أمره إلى الحاكم، وربما يحبس السنة والسنتين، فماذا استفاد بالسجن؟ كلف الدولة مئونته، وضيع من ورائه أهله، والغرماء لم يستفيدوا شيئاً! وأول قضية عرضت علي في المحكمة هي لشخص مطالب بثلاثين ألف ريال لبعض جيرانه، وكنت أعرفهم قبل القضاء، فقلت: أتعلم أن عنده مالاً؟ قال: لا والله! إني لأصرف على أهله وهو في سجنه، فقلت: فماذا تريد من سجنه؟ يا أخي! اتركه يخرج من السجن، ويكفيك مئونة أهله، أنت لك عليه دين وتصرف على أهله شفقة منك، فاتركه يخرج ليكفيك هذه المئونة لعله يفعل شيئاً، قال: ما أدري هل يرضى بقية الغرماء؟ فجمعتهم وكلمتهم، وذكرت لهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقالوا: ماذا تريد؟ قلت: أريد منكم أن تعطوه مهلة ليعمل فيها، وكان يعمل في البيع والشراء، وكان ذلك في شعبان، وقد قرب رمضان والموسم، فقلت: أعطوه مهلة ليحاول أن يسددكم بالتقسيط، فقالوا: وإذا لم يفعل؟ قلت: إذا ما فعل فالسجن موجود! اتركونا نعملها تجربة، فقلنا للمفلس: ماذا يا فلان؟ قال: أنا لا أريد إعلان إفلاسي؛ لأن التجار لن يتعاملوا معي بالدين إذا خرجت، فأعطوني مهلة وأستعين بالله، وطلب مهلة سنة ونصف، فقلت: لك سنتان، نصف سنة من عندي حتى توفي دينك، وسبحان الله! كان مقابل المسجد عمارة تحتها معارض، وليس كل إنسان يستطيع أن يستأجرها، فأملاها بالبضائع، والزبائن والحجاج يمرون من عندها بكثرة، والحركة عنده شديدة، فما مضى ستة أشهر إلا وقد سدد نصف الدين! فهذه الطريقة لماذا تتركونها؟! الآن يمكث الغريم سنة وسنتين وثلاثاً في السجن حتى يوفي دينه، فمن أين سيوفي دينه؟ السجن ليس محل اكتساب، فلو عومل الناس المدينين بهذه الطريقة التي يراها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لخفت المسئولية على السجون، وحفظت الأسر التي تضيع، وكانت سبباً لسداد الديون. إذاً: المفلس إذا لم يجد ما يسدد دينه، فإدخاله السجن مفسدة لا مصلحة فيها، وهم يريدون بسجنه أنه لو كان عنده شيء يخفيه فسيظهره، ولو كان ذلك لأظهره من قبل، والذي يهمنا هي الناحية الشرعية في حق المعسر، قال الله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، أما إذا كان موسراً عنده المال، ويتأخر ويماطل؛ فهذا ظلم نفسه قبل أن يظلم الغرماء، وفعله هذا ظلم يحل عرضه بالكلام عليه وشكواه، ويحل عقوبته بحبسه، وإن لزم الأمر ضربه، وبعضهم يقول: الضرب ممنوع، ولكن الحبس إلى أن يبيع الحاكم من ماله ما يسدد حق الغرماء. ويقولون: بعض الغرماء لا يملك حبس غريمه، كالولد لا يملك حبس أبيه في الدين لحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، فإذا تعامل معه وأراد أن يأخذ من ماله فله الحق في ذلك لكن بشروط: 1- ألا يأخذ من مال الأكبر ويعطي الأصغر أو العكس؛ لأنه يكون قد ملك أحد الإخوة من مال أخيه بدون حق. 2- ألا يكون مال الولد تعلق به حق الآخرين؛ بأن دخل مع أناس في شراكة برأس المال، فلا يذهب للشريك ويقول له: آخذ من حق ولدي؟ لا؛ لأنه مرتبط بمال الغير. 3- ألا يكون الولد في حاجة لهذا المال في نفسه ولمن تلزمه مئونته. 4- أن يكون الوالد محتاجاً له، وحاجة الوالد هذه يفرع عليها المالكية: في الضروريات والكماليات، سواء في الأكل والشرب واللبس، أو في الزواج إذا كان محتاجاً للزواج، وهل الزواج ضرورة أو حاجة أو ترفيه؟ على حسب حالة الأب، وهذه تفصيلات في حديث: (أنت ومالك لأبيك) . إذاً: (مطل الغني ظلم) ، وللدائن الحق أن يشتكيه ويتكلم عليه، وللحاكم الحق أن يحبسه حتى يسدد ما عليه، ما دام أنه يوجد عنده يسار.

شرح حديث: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)

شرح حديث: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فأفلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم] . في هذا الحديث أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، وشارح هذا المتن يربط بين هذا الحديث وبين حديث وضع الجوائح بعموم: (أصيب في ثمار ابتاعها) أي: اشتراها، والواقع أنه ليس بين الحديثين ارتباط، وليس بينهما تعارض، وموضوع ذاك الحديث أنه اشترى الثمار بعد بدو صلاحها، ولا زالت على أصولها، فأصابتها جائحة، فأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، وهذا الحديث أصيب في ثمار ابتاعها، أي: اشتراها فلحقته ديون، وليس في هذا الحديث ذكر الجوائح، لكن أصيب في ثمار، والإصابة في الثمار أعم من كونها جوائح وهي على رءوس النخل، وفي مثل هذا أحب من طلبة العلم أن يرجعوا في الحديث الذي فيه مثل هذا الإشكال إلى مرجعه، فإذا قال المؤلف ابن حجر مثلاً: رواه أبو داود، فنرجع إلى أبي داود لننظر كلام الشراح عليه، فيكون القول هناك أولى من قول شارح جديد على أبي داود. موضوع هذا الحديث أن الرجل اشترى ثماراً، وأصيب في ثماره، وما نوع الإصابة؟ لم يحدد لنا الحديث نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولكن ما جُمِع من الصدقات لا يسدد الديون التي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) يعني: في الوقت الحاضر ليس لكم عليه وليس لكم عنده إلا ما وجدتم، ماذا يفعل؟ لا يوجد إلا هذا، وهل معنى هذا إسقاط بقية حقوقهم؟ لا، بل الطلب يرتفع عنه في الوقت الحاضر، وليس لهم عليه إلا هذا الموجود، فإذا أيسر فيما بعد فعليه قضاؤهم، وذمته لا زالت مشغولة، فعليه أن يوفي أصحاب الديون بقية حقوقهم، ويتفقون على هذا في المفلس وغير المفلس. الشارح هنا يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتصدقوا عليه يتعارض مع الأمر بوضع الجوائح، وهذا لا تعارض فيه، ويقول: إن الأمر بالصدقة إنما هو جبراً لخاطره، وتخفيفاً للمصيبة عليه؛ لأنه أصيب في الثمار، لكن الإصابة المذكورة في هذا الحديث لا نعرف نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ لأن وضع الجوائح معروف مسمى، واتفقوا أن الجوائح هي الحوادث العامة مثل: ريح عاصفة، برد ينزل ويتلف الزرع، مطر شديد، آفة من آفات الزراعة، غرق، حريق، فالجائحة محددة بأحداث عامة، والخطابي في شرح السنن يقول: إن إصابته في ثماره لم يذكر فيها جائحة، فقد يكون أصيب في ثماره بعد أن اشتراها، نضجت وجذها ووضعها في الجرين ينتظر تجفيفها، وخرجت من عهدة صاحب الشجر، فأصيبت وهي في الجرين، مثلاً: جاء لص فحملها، أو باعها على إنسان ولم يدفع له الثمن، أو فاض عليها ماء فغرقت، قال: إصابة تلك الثمار لا تتعين أن تكون بجائحة على رءوس النخيل، أو على رءوس الشجر، فيحتمل أن تكون قد أصيبت بما أصابها بعد أن استوعبها، وانقطعت علاقته بصاحب أصول النخيل، وأصبحت في عهدته وفي جرينه، إذاً: لا علاقة لصاحب الأصول هنا بوضع الجوائح؛ لأن الجائحة لم تكن في زمن عهدته، بل هي بعد أن انفصل عنه بجني الثمر ونشره في الجرين، وانتظار إدخاله في مستودعاته، فلا علاقة لصاحب النخيل البائع بالجائحة. ويكون أمره صلى الله عليه وسلم للناس بالتصدق عليه من باب الإرفاق ومن باب التخفيف عليه، ولكن كل الذي جمعوه من الصدقة لا يفي بدينه، والناس غير ملزمين بسداد دينه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ، وكل تطوع بما جادت به نفسه، وكان المجموع لا يفي بالدين، إذاً: هذا الحديث لا علاقه له بوضع الجوائح، فلا حاجة لأن يربط به، وأن يتطلب الجمع بينهما؛ لأن كلاً منهما مستقل عن الآخر. ونفهم من هذا أن من أفلس أو أعسر في دين، فإن كان عنده شيء بيع وسلم للغرماء، فإن وفى بالدين الذي عليه فبها ونعمت، وإن لم يف فليس لغرمائه عليه طريق، وأشرنا إلى قضاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما طلب الغرماء أن يحبس المدين لهم، فقال: لا، لأن حبسه ليس فيه فائدة له ولا لأهله ولا لكم أنتم، فلماذا نحبسه وليس في الحبس فائدة؟! وكذلك معاذ رضي الله تعالى عنه لما طلب غرماؤه حقوقهم، باع النبي صلى الله عليه وسلم ممتلكاته، ولم تف بالدين، فقال: (ليس لكم إلا هذا) ، وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعله يصيب شيئاً. فمن هنا نعلم أن المفلس الذي لا يجد ما يسدد دينه ننظر: ما كان زائد عن ضرورياته، مثل ثيابه، مسكنه، مركبه، مأكله ومشربه، آلات صنعته التي يتعيش منها، فهذا لا يباع في الإفلاس بالدين؛ لأنه أحق بذلك لحياته، وما زاد عن ذلك يباع، فإذا لم يف بالدين أطلق سراح المدين ليسعى ويعمل، وليس للغرماء متابعته ولا حبسه؛ لأن ذلك لا يفيد أحداً شيئاً، فإذا يسر الله عليه، وتيسر أمره نقول له: سدد ما بقي عليك في ذمتك.

شرح حديث: (حجر على معاذ ماله)

شرح حديث: (حجر على معاذ ماله) قال رحمه الله: [وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله] . قضية معاذ مشهورة في عهده، وكان من خيرة شباب قومه وأكرمهم وأسخاهم يداً، فكان يستدين ليكرم الناس، وكان أكثر دائنيه من اليهود، فطالبوه بدينه فلم يستطع أن يقضيهم، ولم يواجه الناس وذهب مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم اشتكوه إليه، فقال: ما عندي ما أسدد ديونهم، فليأخذوا ما عندي، فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وباع ماله، وكان من طريقته صلى الله عليه وسلم أن يوصي الغرماء بالحط من الدين، فينبغي عند المطالبة بالدين، وكثرة الدين على المدين أن يوصى الدائن بأن يسقط من الدين شيئاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان في حجرته، فسمع لجاجاً في المسجد فخرج عليهم وقال: ما هذا؟ فقالوا: فلان يطالب فلاناً بدين عليه، فقال: يا فلان! حط من دينك، فحط من دينه الشطر، فقال للآخر: قم فاقضه) ، وهكذا ينبغي لمن حضر عند خصومة الغرماء مع غريمهم أن يتوسط بالصلح، وبإسقاط شيء من الدين، حتى في المحكمة يحق للقاضي أن يعرض على الدائن أن يسقط من الدين شيئاً. وفي الآونة الأخيرة صارت الدولة تسدد عن بعض المعسرين، وهناك شروط يشترطونها إدارياً، والقاضي يساعد على هذا بأن يوصي الدائن أن يسقط شيئاً من دينه، والدولة تسدد الباقي، وهذا من باب التعاون فجزاهم الله خيراً. فعلى هذا: إذا كان الدائن يرى أن المدين ليس قادراً على سداده فينبغي الإرفاق به، كما جاء أيضاً في حق المكاتب، فالمكاتب أمر الله سبحانه بأن يعطى فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، قالوا: بأن يسقط عن المكاتب بعض الأقساط، ولو الأخير أو ما قبل الأخير، وكل ذلك مساعدة له في وفاء الدين الذي عليه. والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من غرماء معاذ أن يسقطوا من الدين، فقالوا: لا، وكان هذا الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في محله بالنسبة لـ معاذ، وبالنسبة لأصحاب الدين؛ لأن الدائن موسر يريد أن يستلم ويقبض ماله، والمدين ما عنده ما يسلم، فالدائن أحق بأن يخاطب بأن يترك شيئاً من الدين، وأن يرفق بالمدين ويخفف عنه، قالوا: إنهم لم يقبلوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يهود، وقد جاء فيهم حديث عائشة (أنه بلغها أن رجلاً جاء بخز من الشام فقالت: يا رسول الله! لو أرسلت إليه لتشتري منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع) !! امتنع أن يداين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إنه يهودي، ولم يتسامح في ذلك، وهؤلاء لم يتسامحوا مع معاذ، وقال الراوي للحديث: لو أحد من اليهود أسقط شيئاً لأحد لكان أولى الناس بذلك معاذ لطلب رسول الله، فلما لم يقبلوا لم يلزمهم؛ لأن هذا حقهم، وهذا من العدل والإنصاف والمساواة في الحكم، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل سلطته ولا مكانته أمام اليهود حيث أنه طلب منهم أن يسقطوا شيئاً من دين معاذ ولم يقبلوا، فهم أحرار، ولم يغصبهم. لكنهم قالوا: بعه لنا! وبيع المدين بسبب دينه كان إلى عهد قريب في القوانين الأوروبية، كان الرجل يباع في دينه، أو يباع أحد أولاده، وكانت المزارع إذا بيعت بيع معها العمال الذين يعملون فيها، فقالوا: بعه لنا، وهذا على ما عندهم من السابق، فقال لهم: (ليس لكم طريق إليه) ، وجاء الوعيد لمن باع حراً وأكل ثمنه، وكيف يبيع الحر؟ قد يتواطأ معه ويقول له: ادعي أني ملكك، ونتقاسم المبلغ، وإذا تواطؤا على ذلك فهم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، كما جاء في الحديث. يقولون في فقه اللغة: مادة الحاء والجيم والراء تدل على القوة والصلابة واليبوسة. وهنا الحجر: حبس وتضييق وشدة على المحجور عليه، فلا يتصرف في ماله، وقالوا: الحجرة من الحجر أيضاً؛ لأن الحجرة ما أحيطت بالجدران، وحجرت حتى امتنع خروج شيء منها كامتناع الحجر أن يخرج منه فلتة، ومنه الحجر بحفظ الولد، والحجر في الخلاء حافظ نفسه، وكذلك الحِجر: وهو الجزء الذي خرج من الكعبة ولا يدخل في عموم الكعبة. واحجر بمعنى: ضيق، واحجر عليه يعني: شدد عليه وامنعه من التصرف في ماله، وهذا الحجر إذا تم -كما أشرنا سابقاً- يمنع صاحب المال أن يتصرف فيه تصرفاً ينقل الملك، فلا يرهن، ولا يبيع، ولا يهب.

هل ينفذ إعتاق المفلس لعبده؟

هل ينفذ إعتاق المفلس لعبده؟ إذا كان عند المفلس عبيد وأعتقهم، فما حكم العتق؟ الشارع يتشوف إلى عتق الرقاب، وقد يكون العتق إجبارياً على صاحبه، فمن أعتق شقصاًَ له في عبد، وكان عنده وفاء، عتق عليه العبد كله، وألزم بدفع حصة للشريك، ويصبح العبد حراً كله بالإجبار، بل قد يلزم العتق بأوهى الأسباب، كما في حديث الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترى الغنم، وجاء الذئب فأخذ منها شاة، وأنا بشر فغضبت فلطمتها، ثم تأسفت، أفأعتقها؟ قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) واللطمة التي لطمها لا يكفرها إلا أن تعتق! انظر إلى هذا الحد! والإخوة طلبة العلم قد يقرءون في بعض الدوريات: الانتقاد على الإسلام باسترقاق الأحرار، ويذكرون كلمة عمر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!) ، ويقولون: الإسلام هو الذي ابتدع الرق، وهذه فرية، والذي يصغي إليها جاهل، فالرق كان موجوداً قبل الإسلام، والإسلام غاير جميع النظم في مبدأ الرق، في إيجاده وفي تصفيته، أما إيجاده فلا رق في الإسلام؛ إلا من أخذ أسيراً في أرض معركة بين المسلمين والكفار، وما عدا ذلك فليس هناك رق، فإذا ثبت عليه الرق انسحب عليه وعلى ذريته. وفي الوقت الذي شرع الرق؛ فالأبواب متعددة لإخراج الرقيق من رقه إلى سعة الحرية، فجعل في الكفارات اعتاق رقبة، مثل كفارة من جامع في نهار رمضان أو أكل أو شرب متعمداً عند مالك، وبم تكون الكفارة؟ تبدأ بعتق رقبة، ثم صوم شهرين، ثم إطعام ستين مسكيناً. وإذا ظاهر أحد من زوجه فما الذي يفك عنه هذا الظهار؟ عتق رقبة، أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً. ومن حلف يميناً وأراد أن يكفر عنها فكفارته العتق أو الإطعام أو الكسوة، وليس هناك ترتيب كما في غيرها. وإذا أراد أن يتبرر ويعتق نفسه من النار أعتق رقبة كما في الحديث: (من أعتق رقبة أعتقه الله بها من النار، كل عضو بعضو منه، حتى البضع بالبضع) ، أي: والرأس بالرأس، واليد باليد، والرجل بالرجل، والبضع بالبضع، فيعتقه لوجه الله فيكون فكاكه من النار. وإذا أساء إلى العبد أدنى إساءة بأن لطمة فليس لها كفارة إلا عتقه. بينما نجد الذين يعيبون على الإسلام الرق يوسعون أبواب استرقاق الأحرار، ويضيقون باب إخراجهم عن ربقة الرق إلى الحرية، فتجدون في قوانينهم: إذا كان السيد مديناً بيع وصار عبداً، وإذا أفشى سر الدولة، أو أطلع على نقطة ضعف في الجيش أو إذا نظر إلى زوجة سيده بنظرة غير عادية، وغير ذلك؛ فإنها تستوجب استرقاق الحر، فوسعوا دائرة الإدخال، ومتى يتحرر الرقيق عندهم؟ لا يحق عندهم للسيد أن يحرر عبده إلا بإذن من الدولة؛ لأن تحرير العبيد يجعل ارتباك في الإنتاج والاقتصاد؛ لأن العبيد تقوم عليهم عملية الإنتاج، بينما الإسلام يعطي للإنسان الحرية في أن يعتق ما شاء. وعلى هذا: لو أعتق المفلس عبيداً له، والشرع يتشوف إلى حرية أو تحرير العبيد، فهل يمضي عتقه أو لا يمضي؟ قالوا: لا يمضي عتقه بعد أن أعلن إفلاسه أو أعتقهم هروباً من سداد الديون التي عليه، وقد رد (النبي صلى الله عليه وسلم العتق على المدين الذي أعتق ستة أعبد عن دبر ليس له مال غيرهم، وباعهم وسدد دينه) . إذاً: من حجر عليه لا يتصرف في ماله بما يضر الغرماء. ومسألة البيع يتولى أمرها الحاكم، فيبيع ماله ثم يوفي الغرماء من هذا المبيع بحسب حصصهم من الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ما يملك، وقسمه على الغرماء، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، وباقي الدين يكون في الذمة وليس لهم أي مطالبة الآن، فيتركونه إلى ميسرة. ثم بعث صلى الله عيه وسلم معاذاً إلى اليمن قاضياً ومعلماً ومرشداً وجابياً للزكاة، ولعله أن يصيب من عمالته شيئاً، وأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الهدية على غير العادة، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً مقبولة، ولكنها للعمال رشوة، وذلك لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه من ورعه، ومن معرفته، ومن زهده لن يقبل الهدية التي هي رشوة؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذاً: لن يأخذ هدية تؤدي إلى حرام، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [2]

كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [2] جعل الله المال قياماً لمصالح الدين والدنيا، والشريعة جاءت بأحكام تحافظ على هذه الضرورة، ومن ذلك أنها تشرع الحجر على مال الصغير والسفيه المبذر لمصلحتهما، وترغب المرأة في استشارة زوجها في مالها، وبهذه الأحكام وغيرها يصلح أمر الفرد والمجتمع.

شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة

شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) متفق عليه، وفي رواية للبيهقي: (فلم يجزني ولم يرني بلغت) وصححه ابن خزيمة] . يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق -والخندق كان بعد أحد بسنتين؛ لأن غزوة الخندق كانت في السنة الخامسة على الصحيح- وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) . أتى المؤلف بهذا الحديث في باب التفليس والحجر، ليبين أن الحجر كما يكون على المال يكون أيضاً على النفس، فالصغير يحجر عليه، والمفلس الذي زاد دينه على رأس ماله يحجر عليه، بل إنه حجر على: معاذ بن جبل وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو كامل العقلية ومتوفر العلم والأهلية ولكن حجر عليه من جهة الإفلاس في المال.

الحجر للسفه والصغر

الحجر للسفه والصغر الحجر نوعان: حجر بإفلاس، وحجر بسفه، فلو أن إنساناً ما عليه ديون، ولا أحد يطالبه بشيء، لكنه يبذر ماله يميناً ويساراً، ويضيع ما معه، فهذا سفه، فهل نتركه يضيع المال أو نحجر عليه؟ نحجر عليه، خلافاً لـ أبي حنيفة، والأئمة على أن الموسر الذي ماله كثير ولكن عقله قليل، فهو ينذر المال ويتلفه، نحجر عليه، وكأننا نضعه في حجرة. كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجل يدعى أسيفع، وكان هذا الرجل مغرماً بالدعاية والفخر، فإذا جاء وقت الحج اختار أسرع الإبل من أجل أن يسرع بعد الحج ويأتي إلى المدينة قبل الحجاج، فيقال: سبق أسيفع الحجاج، وكل سنة يريد شيئاً أحسن من شيء، فتكاثرت عليه الديون، فأخبر عمر رضي الله عنه بخبره، فخطب في الناس وقال: أيها الناس! إن أسيفعاً قد رضي من دينه ومروءته أن يقال: سبق أسيفع، وقد لحقه الدين، فمن كان له عليه دين فليأتنا غداً، وباع عمر رضي الله تعالى عنه الموجود من أمواله وسدد الغرماء، فهذا كان يضيع المال في غير محله، فهذا هو السفه، فإذا وجد إنسان كبير عمره ثلاثون أو أربعون سنة، أو أكثر أو أقل، لكنه لا يضع المال في محله ويبذره فإنه يمنع من التصرف في ماله لحفظه، قال الله: {إن الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] . والصبي الصغير إذا كان يمتلك مالاً ميراثاً أو هبة أو غير ذلك، لو تركناه وماله سيبذر فيه، فليس عنده كامل الأهلية في التصرف في ماله، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره فيه، فهو قاصر الأهلية في المال، فلا نتركه يضيع المال وعندما يكبر يقول: أعطوني! لا، فمن الآن نحجر عليه، فالسفيه في التصرف بالمال والصبي الصغير يحجر عليهما.

متى يحجر على الصغير؟

متى يحجر على الصغير؟ حد الصغر من الكبر سن أربعة عشر وخمسة عشر، فأربعة عشر آخر حد الصغر, وخمسة عشر في حد الكبر، ومن يحدد عمر الإنسان؟ جاء رجل عندي في شهادة، فقلت له: كم عمرك؟ فضحك، قلت له: ماذا هناك؟ قال: تريد عمري في التابعية أو على حساب أمي وأبي؟ قلت له: كلاهما، حتى أنظر الفرق بينهما؟ قال: في التابعية عمري تسعون سنة، وعلى حساب أمي وأبي فوق المائة! فإن كان هناك ضبط لتحديد السن قُبِل، والناس مؤتمنون على أعمارهم. ومن الناحية الطبية يحدد عمر الإنسان في نقطة واحدة فقط يقيناً قطعاً، وما عداها يكون ظناً وتخميناً، وهي سن السادسة عشرة، يقول الأطباء: هناك عظمان متقابلان يسعى كل منهما إلى الآخر، فإذا بلغ الإنسان ستة عشر سنة التقا العظمان معاً، فهما متباعدان، وكل ينمو ويمتد إلى الآخر إلى نهاية سن السادسة عشرة سنة، فيلتقي العظمان، وقبلها يعلم أنه ما بلغ ست عشرة سنة، وبعدها يعلم أنه تجاوز ست عشرة سنة، لكن كم بقي عليه حتى يصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين، وكم مضى عليه منذ وصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين. والمؤلف رحمه الله يسوق هذا الحديث هنا ليبين أن الصغير الذي يحجر عليه لعدم الأهلية المالية حده خمس عشرة سنة، فإذا كان عمره خمس عشرة سنة لا يحجر عليه، وإذا مات الرجل وترك من الأولاد من هم في سن أربع عشرة فأقل فهم في وصاية، ويقام عليهم وصي يتصرف في أموالهم بالحكمة لمصلحتهم، وإذا كان منهم من تجاوز الخمس عشرة سنة فليس عليهم وصاية، وعند أبي حنيفة سبع وعشرون سنة، وليس هناك وقت ابتداء للحجر بوصف الصغر، لكن قد يأتي الحجر بعد ذلك لوصف السفه. والصغير لا يعطى ماله إلا بعد البلوغ والرشد، يقول المولى سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، وقبل هذا قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، فالسفيه لا يتحكم في المال بل نحجر عليه، وإذا آنسنا من الصغار الرشد بعد التمرين والتدريب، بأن نعلمه البيع والشراء في الأشياء الخفيفة، فعند ذلك نعطيه ماله بعد البلوغ والرشد، وكنا نشاهد في المدينة في الستينات الطفل الصغير يبيع الجاز والكبريت والملح، وأشياء خفيفة ليس فيها غبن عليه.

متى يفك الحجر عن الصبي؟

متى يفك الحجر عن الصبي؟ يفك الحجر عن الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة، وبعد البلوغ يجري القلم عليه في العبادات، ولكن في المعاملات يربط مع السن الرشد، وما هو الرشد؟ بعض العلماء يقولون: الرشد هو حسن التصرف في المال، وحسن التدبير في المال، والشافعي وغيره يقولون: أول صفات الرشد حفظ الدين، فينظر هل هو مستقيم في دينه أم لا؟ لأنه إذا كان مستقيماً في دينه يؤدي الصلوات ويصوم ويصدق في الحديث فسيحافظ على أمر دنياه، وهناك من يقول: لا، الدين للدين والدنيا للدنيا، فلو كان حصيفاً في ماله وسفيهاً في دينه ندفع إليه المال، والآخرون يقولون: إذا لم يكن رشيداً في دينه فسيضع المال في أي طريق كان، ولا يفرق بين حلال وحرام، ونص الشافعي على أن الصبي إذا بلغ الخامسة عشرة وهو يضيع ما بيده في اللعب فإنه سفيه لا يعطى له ماله، ومن السفه اللعب بالصواريخ النارية، فالعبرة في الحجر ليس مجرد العمر بل يشترط مع العمر وصف الرشد، وهذا نص كتاب الله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} ، فإذا بلغ الخامسة عشرة فقد تجاوز مرحلة اليتم، وتجاوز مرحلة الصغر، لكن ننظر هل رشد أم لا؟ فإن رشد فيكون قد اكتمل من الجانبين المادي والمعنوي، وإذا لم يكن مع البلوغ رشد فنقول: لا نعطيك مالك حتى تعقل. إذاً: المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليبين لنا الفرق بين البلوغ وعدم البلوغ، وهل البلوغ متوقف على أربع عشرة وخمس عشرة أو أن هناك علامات أخرى؟ يوجد علامات أخرى كما في قصة بني قريظة، فمن علامة البلوغ الإنبات، فنبات الشعر في العانة علامة على البلوغ، وإذا احتلم وأمنى فهو أيضاً علامة على البلوغ، وقد يحتلم في الثانية عشرة من عمره، وكذلك الجارية إذا حاضت، وتقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة) فتكون قد بلغت، ولكن من حيث التكليف الشرعي والإلزام بالفرائض فحتى تبلغ خمس عشرة سنة.

حرص شباب الصحابة على الخير

حرص شباب الصحابة على الخير قال ابن عمر: عُرضت فرفضت ثم عُرضت فقبلت، ما هذا العرض؟ وما الذي جاء به حتى يعرض؟ غلام عمره أربع عشرة سنة ويأتي ويزامل الرجال، ليس في نزهة أو رحلة، أو حفلة، بل في قتال تتطاير فيه الرءوس! انظروا كيف كان الشباب في ذلك الوقت! والآن صار الشباب شباب الموضة، وشباب التوليتة، لا تنسوا -يا إخوان- شباب الرعيل الأول، عمره أربع عشرة سنة ويزاحم الرجال، ويحمل السيف في القتال. ولما استعرض النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر، كان غلام يمشي على أطراف أصابع قدميه، فقال له أخوه: لماذا تفعل هذا يا أخي؟! قال: أخشى أن يراني رسول الله فيتصاغرني فيردني، وأنا أحب الشهادة، سبحان الله! يتطاول على أصابع قدميه لئلا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيراً فيقول له: ارجع، أنت لا تصلح للجهاد، فيحتال للقتال، واستشهد فعلاً في غزوة بدر. هذه النوعية -يا إخوان- من أين نأتي بها؟ هل من الشباب في هذا الوقت عشرة في المائة، أو خمسة في المائة مثل تلك النوعية؟ لا، لأنهم نشئوا أول ما نشئوا على الأخلاق الفاضلة، وعلى الفروسية، وهؤلاء نشئوا أول ما نشئو على الحضارة والمدنية. نريد أن نغرس في نفوس أبنائنا أصالة الإسلام، وأن نوجد آثاره في حياتهم العملية، فهذا ابن عمر رضي الله تعالى عنه يعرض يوم أحد، وتعرفون كم كان عدد الكفار، والنسبة بين الطرفين، فيرد لصغره! وعرض رافع بن خديج وسمرة بن جندب في أحد، فرد أحدهما فذهب الآخر يبكي عند أبيه، قال: ماذا بك تبكي؟! قال: (أجاز النبي عليه الصلاة والسلام فلاناً وردني وأنا أصرعه، فذهب أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ولدي يقول: كذا وكذا -يا رسول الله- فأجزه، فناداهما الاثنين وتصارعا أمامه، وفعلاً صرعه فأجازه) .

شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل.

شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل ... ) قال رحمه الله: [وعن عطية القرظي رضي الله تعالى عنه قال: (عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) رواه الأربعة] . البلوغ يحصل إما ببلوغ خمس عشرة سنة، وإما بنبات الشعر في العانة، وهذه علامة بارزة ترتبط بسن البلوغ وبدء الأهلية، وعلامة الإمناء قد تكون مبكرة عن هذا الحد، فبعض الفتيات قد تحتلم، في تسع سنوات، وبعض الشباب في سن اثنتي عشر قد يحتلم ويكون بالغاً من الناحية الجنسية، وليس بالغاً من الناحية الأهلية، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)

شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز للمرأة عطية إلا بإذن زوجها، وفي لفظ: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها) ] . هذا الحديث يشعر أن الزوجة إذا ملك الزوج عصمتها حجر عليها أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله، فعنده أن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها إلا بإذنه، وعند غيره أن المرأة لها حق التصرف في مالها ما لم يكن هناك سفه، أو هناك تضييع، والمقصود بمالها: المملوك لها خاصة سواء كان ميراثاً عن أبيها أو أمها، أو هدية أو تجارة، بخلاف مال زوجها فإنها لا تملك فيه إلا التصرف بالمعروف كإعطاء السائل، وإعارة المتاع واسترجاعه، والجمهور على أن هذا من باب الإرشاد، واحتياطاً لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، وقالوا: إن المرأة قد لا تحسن التصرف في المال، وقد جاءت النصوص المشهورة في تصرف المرأة بمالها بغير إذن زوجها؛ فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عيد، ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بقرطها، أو بخاتمها، أو بسوارها، وتلقي من حليها الذي معها في حجر بلال رضي الله تعالى عنه، ولم تستأذن زوجها في هذا التصرف، وكان الرجال في جهة والنسوة في جهة. وكانت خديجة رضي الله تعالى عنها تقدم المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تنفق عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكون المرأة إذا تزوجت وأصبحت في عصمة رجل؛ لا تتصرف في مالها، هذا مذهب المالكية، وبعضهم يحد ذلك بسنتين إلى أن يعرف حصافتها في مالها، وحسن تدبيرها فيه، وعلى كلٍ، فهذا الحديث للإرشاد. واتفقوا على أنه لا يحق للمرأة إذا دخلت في أشهر الحمل الأخيرة أن تتصرف في شيء من مالها، قيل: إذا أنهت الشهر السادس، وقيل: إذا أخذها المخاض، فإذا أخذها المخاض فلا يحل لها بيع ولا شراء ولا وصية؛ لأنها في حالة يخشى عليها فيها من الموت، وتكون كمن وقف في الصف في المعركة، فإنه لا يحل له أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن المال معرض لأن ينتقل منه إلى الورثة، وكذلك المريض مرضاً مخوفاً فلا يحق له التبرع ولا الوصية إلا في حدود ما سمح به الشارع، وهو ثلث المال، فالمرأة إذا أخذها المخاض تمنع من التصرف في مالها مطلقاً، وإذا أنهت الشهر السادس كان ذلك على سبيل الكراهية، وإذا كانت غير حامل وكانت في عصمة رجل فإن أمرها قد انتقل من أمر أبيها إلى زوجها، وهذا مما يعظم حق الزوج على الزوجة، حتى إنه يتحكم في مالها الذي لا يخصه، وغير مالك جعل ذلك للإرشاد، ولها أن تتصرف في مالها، ولها أهلية التصرف في المال كغيره من الأمور التي لها الحق فيها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة.

شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ... ) قال رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) ] . تقدم وجوب التعفف عن المسألة وأن: (من سأل وعنده أوقية أتى يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم) ، وقد ذكرنا قصة الشاب الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أراك قوياً جلداً! قال: ليس عندي شيء وعندي عجوز في البيت، قال: ماذا عندك في البيت؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: علي بهما، فأخذهما صلى الله عليه وسلم وقال: من يشتري هذا؟ فقال رجل: بدرهم، فقال: من يزيد؟ قال رجل: بدرهمين، فباع ذلك عليه وأعطى الشاب الدرهمين وقال: اشتر طعاماً لأهلك، واشتر بدرهم فأساً وحبلاً وأتني بهما، فجاءه بالفأس والحبل، فأخذ الفأس ووضع فيها عوداً وقال: اذهب واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب يحتطب ويبيع ويستغني بما يعود عليه من هذا العمل، ثم جاء بعد الموعد ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب جديد ومعه دراهم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيستغني؛ خير له من أن يتكفف الناس السؤال) وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله) وقال: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالصبر على الحاجة أولى من مد اليد. وهنا في باب الحجر يبين المؤلف متى يجوز للإنسان أن يسأل، والواجب أن يكف الإنسان عن المسألة، والمسألة بمعنى السؤال، والسؤال والمسألة يأتيان اصطلاحاً في سؤال استفسار كما يسأل طالب العلم أو المستفتي في مسألة نازلة به ويطلب حكمها، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، وهذا من باب المسألة في العلم سواءً ما يتوقع أو لا يتوقع، وتكون المسألة بمعنى سؤال الحاجة، وطلب العون، سواءً كان نقداً أو متاعاً أو مساعدة كشفاعة بجاه إنسان عند إنسان آخر، وهذه المسألة هي المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل المسألة إلا لإحدى ثلاثة) ، والمراد بالثلاثة هنا: الجنس، وليس ثلاثة أشخاص فقط، ولكن ثلاثة أصناف من الناس هم الذين تحل لهم المسألة.

جواز السؤال لمن تحمل حمالة

جواز السؤال لمن تحمل حمالة قال عليه الصلاة والسلام: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) . رجل تحمل حمالة أو امرأة، وذلك بأن تكون هناك خصومة بين الناس، أو نزاع، ويشتد الأمر بين الطرفين، ويحتاج الأمر إلى تدخل من يصلح بينهما، ويكون النزاع على مال، فيأتي إنسان خير ذو مروءة فيتحمل الشيء الذي تنازعوا عليه، وكل يدعيه لنفسه، فهذا تحمل حمالة لغير منفعته الخاصة، ولكن للإصلاح بين الناس. وسيأتي في هذا الكتاب باب الصلح وحكم الجوار، ويبين فيه أقسام الصلح، وهذا الباب من أهم أبواب الفقه، قيل: إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة تتمنى أن تكون من أهل الأرض لكثرة ما ترى من ثواب عملين، وهما: الإصلاح بين الناس، وسقي الماء، فالذي يتحمل حمالة فهو ساع للإصلاح بين المتنازعين، وإن كان أصل النزاع على مال أو نفس تحمل الغرم، كما قيل: سعى ساعياً غيض بن مرة بعدما تبذل بين العشيرة بالدم تحمل ديات الفريقين، وأصلح بينهما، فالذي تحمل هذا لمصلحة الطرفين وجبت مساعدته، ولا نتركه يتحمل من ماله، فله أن يأخذ من الزكاة، وله أن يسأل ولو كان وفير المال؛ لأنه لم يتحمل لمصلحة شخصه، وإنما توسط مروءة وإصلاحاً، فلو تركنا كل إنسان يتدخل بالإصلاح بين الناس ويتحمل ما يدفعه للإصلاح من عين ماله، لأحجم الناس عن هذا التدخل، وتركوا هذا العمل الخير، وبقي النزاع بين الناس، ولكن ما دام أنه تحمل الغرم لمصلحة الآخرين، فعلى الآخرين أن يساعدوه، وأن يعطوه ما سأل حتى يبلغ ما تحمله، فإن كانت القضية تحتاج إلى تحمل ألف، أو مائة ألف، أو مائتين ألف ريال أو أكثر أو أقل، فإذا أصاب بمسألته ما يوفي عنه حمالته كف عن المسألة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دامت الحمالة موجودة فله حق في السؤال، وما دامت قد زالت وارتفعت فليس له حق، ووجب عليه أن يكف عن المسألة.

جواز السؤال لمن أصابته جائحة

جواز السؤال لمن أصابته جائحة وقوله: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) . مثلاً: إنسان صاحب تجارة، وله سفن في عرض البحار، تحمل تجارته ورأس ماله، فجاءت (أمواج عاتية، ورياح صاخبة، فأغرقت تلك السفن، فهذه جائحة أصابت ماله، وبقي لا مال عنده، فهل نتركه على هذه الحالة؟ لا، بل تحل له المسألة، وهل يسأل حتى يحصل على ما فات عليه؟ لا، فقد يكون فات عليه الشيء الكثير جداً، ولكن كما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى يصيب قواماً من عيش) ، أي: المال الذي يقيم حياته ومعيشته على نمط أمثاله في حياتهم، ولا نقول: ينبغي أن يكتفي بأقل ما يمكن أن يعيش به إنسان، فإذا كانت له عائلة، وله أولاد، وله التزامات، فإن له أن يسأل (حتى يصيب قواماً من عيش) ، حتى يكون كأمثاله في حياتهم اليومية، لا أن يستمر في المسألة حتى يستعيض كل ما افتقده من تجارته، فقد يكون افتقد الشيء الكثير. ومثل ذلك إذا أصيب ماله بحريق أو بغرق أو بلصوص، المهم أي جائحة عامة اجتاحت ماله، كان بالليل غنياً فأصبح فقيراً كما قيل: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما يدري الفقير متى غناه، فالغني أمر بيد الله، وما يدري الغني متى يعيل: يعيل بمعنى: يفتقر: وما تدري وإن ذمرت سقباً يكون لك أم لغيرك ذا الفصيل إذا كانت لك ناقة حامل، وذمرت سقبها، فلا تدري: أيكون لك هذا الفصيل، وتعيش حتى يكبر وتستمع به أم تتركه مع عنايتك به لغيرك؟ فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، ولا يقدر قدرها إلا الله، فإذا كان إنسان صاحب مال واجتاحت ماله جائحة، فتجب مساعدته من باب التعاون الإسلامي، أو كما يقولون: التضامن الاجتماعي، فأخوة الإسلام تجعل المسلم مع المسلم كالجسد الواحد، وأي فرد آخر أصيب بمثل ذلك فيساعده الجميع، فهو أخوهم قد أصيب بهذه الجائحة، فمن حقه عليهم أن يساعدوه، (وله أن يسأل حتى يصيب قواماً من عيش) .

جواز السؤال لمن أصابته فاقة

جواز السؤال لمن أصابته فاقة وقوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) . وهذا شخص ثالث، فالأول: تحمل حمالة لغيره، فيأخذ حتى يسترد ما تحمل، ولو كان عنده مال؛ لأنه فاعل خير لغيره، فوجب تعاون المسلمين معه، والثاني: ماله موجود، ولكن اجتاحته جائحة فأصبح معدماً، وهذا من حقه على إخوانه المسلمين أن يتعاونوا معه، وإذا سأل حلت له المسألة (حتى يصيب قواماً من عيش) ولا نتركه -بعد أن كان ذا مال وفير- يتكفف الناس السؤال؛ لأن هذا أصعب ما يكون عليه، وهذا أصعب عليه من ضياع ماله واجتياحه؛ لأنه ما تعود هذا، بخلاف الشخص الذي نشأ على المسألة، فلا يهمه أن يسأل أعطوه أو طردوه، عبسوا في وجهه أو استبشروا في وجهه؛ لأنه تعوّد على ذلك فلا يضيره، بخلاف الشخص العفيف المستغني بماله الذي لم يتعود المسألة، فإنه إذا اضطر إلى قرضة من المال، توقف وأحجم أن يطلب من أحد قرضاً، مع أنه سيقترض ويرد؛ لأن القرض يشعر بالحاجة، فمن حقه على المسلمين أن يعطوه ويساندوه (حتى يصيب قواماً من عيش) . وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن رجلاً مات جوعاً في محلة قوم لألزمتهم ديته، لأنه كان يجب عليهم أن يطعموه، ومن هنا يحق للمسلم أن يعلن للعالم: أن ما تدعونه من الضمان الاجتماعي هو موجود في الإسلام بأكثر مما لديكم، ولا ننسى فريضة الزكاة، فهي ضمان إجباري: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فيجب أن يتميز المجتمع الإسلامي بالتعاطف والتراحم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) يعني: أحس بشكوى العضو، ولو كان في أقصى العالم، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، فهذا الأول والثاني. والثالث: لم يتحمل حمالة لغيره، ولم يك ذا مال فاجتاحت ماله جائحة ولكنه ضعيف الحال، فقير أصابته فاقة، ودخله بقدر حاجته، ولكنه في بعض الظروف تعطلت روافد مصرفه، مثلاً: كانت له تجارة فتعطلت، أو كانت له تجارة فخسر فيها، أو كانت له زراعة فقل دخلها، فأصابته فاقة بأي سبب، ومهما كانت الأسباب فمادام أنه قد أصابته الفاقة، وهو في حالة الحاجة والاضطرار؛ فحينئذ له الحق أن يسأل، وإلى متى؟ (حتى يصيب قواماً من عيش) .

شهادة ثلاثة لمن أصابته فاقة وشروطهم

شهادة ثلاثة لمن أصابته فاقة وشروطهم الثالث الذي أصابته الفاقة لابد أن يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا بأنه قد أصابته فاقة، والأصل في الشهادة كما قال الله: {ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، ولو شهد اثنان على إنسان في قتل نفس لقتل، فيقتل المسلم بشهادة رجلين، وهنا يشترط صلى الله عليه وسلم أن يقوم ثلاثة من ذوي الحجا، والحجا هو: العقل، فيشهدون بأن فلاناً هذا قد أصابته فاقة، والموجب لكون الشهادة هنا ثلاثة أشخاص، مع أنه يكتفى في الجنايات بشاهدين: أن الشاهدين في الجناية يشهدان في أمر ظاهر عياناً، فهما مثلاً رأياه يقتل بآله حادة أو يخنق، وشهدا على أمر ظاهر واضح، أما من أصابته الفاقة فهو في بيته، وهو في أمره وشأنه، فلا نعلم حقيقة مدخله وحقيقة معيشته؛ ولهذا يشترط في هؤلاء الشهود: أن يكونوا من محلته التي يسكن فيها، وأن يكونوا من ذوي الحجا ممن يدركون ويعرفون مداخل الرجل، ويقارنون بين دخله وبين نفقته؟

الموظف قد يكون فقيرا

الموظف قد يكون فقيراً لو أن موظفاً له راتب شهري، ولكن لوازم حياته ومستلزماته أكثر من هذا الراتب، فهل يكون غنياً أو فقيراً؟ الفقهاء حددوا المسكين بأنه من كان دخله أقل من نفقته، والفقير من لا دخل له، كما في الآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، كان عندهم سفينة يعملون في البحر، ويكرونها، ومع ذلك سماهم مساكين؛ لأن دخلهم من السفينة لا يكفي نفقة عوائلهم، وكذلك قد يكون حال صاحب وظيفة، صاحب معرض، صاحب سيارة، صاحب مزرعة، صاحب عمارة، صاحب أي سبب من الأسباب التي يتعاظمها الناس، وينظرون إليها نظرة إعجاب، فقد يكون الدخل مع عظم المورد لا يفي بالحاجة، وهذا أشق ما يكون في المجتمع؛ لأن من لا شيء له ظاهر: لا مزرعة، ولا معرض، ولا وظيفة، ولا شيء، فالكل يقول عنه: مسكين ليس عنده شيء، ويتعاطفون معه، لكن هذا يرون مظهره، ويرون دخله، فيرون أشياء عظيمة، ولا يعلمون بحاله! فالمورد قد لا يكفي، بل قد يكون له وقت معين، كما سئل أحمد عن رجل له مزرعة، وزرع فيها، ونبت الحب ونما وجف، ولم يبق عليه إلا الحصاد، وليس عنده ما يحصد به، وليس عنده نفقته، فهل يعطى من الزكاة؟ قال: يأخذ من الزكاة مع أنه بعد الحصاد سيكون لديه المال الوفير، لكن في هذه الساعة ليس عنده شيء. وأجمعوا أنه إذا كان الرجل يملك منزلاً كبيراً يسعه ويسع غيره معه، وليس عنده نفقة، فله أن يأخذ من الزكاة؛ لأنه لن يأكل من هذا البيت الكبير! ولا يكلف ببيعه والسكن في بيت صغير، وهذا مستوى حياته. فمن أصابته فاقة بأي سبب، وشهد له بالفاقة ثلاثة من ذوي الحجى، فله أن يسألها، وكان الشهود ثلاثة لأن المشهود به أمر خفي، وما كل إنسان حتى من الجيران يعلم بحقيقة أمره، ولن يقول له: كم راتبك؟ وكم مصرفك؟ وكم نفقة عيالك؟ وفي هذه الآونة الأخيرة خاصة، تنوعت وتوسعت مرافق الحياة، فالولد في المدرسة يحتاج، والمريض في المستشفى يحتاج، ونفقات المرافق العامة تحتاج، مثل فواتير كهرباء، وفواتير ماء، وفواتير هاتف، وكلها لوازم شهرية، وأنت تنظر إليه كل يوم في ثياب طيبة، ذاهب إلى الدائرة، وراجع من العمل، وتظن أنه يذهب خماصاً، ويرجع وقد ملأ جيوبه من المال! وهو راتب والله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ومعظم الموظفين -لا أقول: خمسون بالمائة بل الأكثر- ربما لا يأتي عليهم نهاية الشهر إلا وقد استدانوا. إذاً: هذا الصنف من الناس يجب التنبه لهم؛ ولذا جعل الشارع ثلاثة من العقلاء الأذكياء الذين لهم بصيرة، ويعرفون حقيقة حياته وحقيقة معيشته، فيشهدون بأن فلاناً أصابته فاقة فعلاً، يعني: ليس عنده ما يكفي حاجته في هذه الحالة، ولا نقول له: يطير في السماء! ولكن نقول: له الحق أن يسأل ويأخذ حتى يسد حاجته، وفي هذا الحديث بيان وجوب التعفف، وإعطاء الفرد المسلم حقه بما يسد حاجته، وتعاون المجتمع في مثل هذه الحالات. ومن هنا -يا إخوان- تجدون في المحاكم إذا ادعى إنسان إعساراً، وادعاء الإعسار لا يكون إلا في المدين، سواءً أعسر في نفقة شرعية، أو أعسر في نفقة سفه، أو أعسر في أمر مما يخصه هو، فيطلب منهم في المحاكم تقديم ثلاثة شهود، واثنان يزكيانهم، ويشهدان على صدقهم وأمانتهم ومعرفتهما بهم، وبالله التوفيق.

كتاب البيوع - باب الصلح

كتاب البيوع - باب الصلح من محاسن الشريعة الإسلامية ترغيبها فيما يدعو إلى الألفة والمحبة، وزجرها عما يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وقد رغبت في الصلح بين المسلمين، وللصلح أحكام كثيرة بينتها الشريعة الحكيمة.

شرح حديث: (الصلح جائز بين المسلمين)

شرح حديث: (الصلح جائز بين المسلمين) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً) . رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه] . الصلح جائز، وجاءت النصوص في كتاب الله تحث على الإصلاح في المجتمع، والإصلاح أنواع: فهناك الإصلاح بين الزوجين. وهناك الإصلاح بين الطائفتين. وهناك الإصلاح بين الفريقين أيَّاً كانا. إذاً: الصلح جائز، ومُرَغَّب فيه، ومندوب إليه. وكذلك الشرط، كما جاء في حديث بريرة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) ، إذاً: الشرط صحيح. وإذا كان الشرط أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً فهذا معلوم من الدين بالضرورة أنه يكون شرطاً فاسداً، وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله. وضعف الحديث تجبره شواهد الكتاب أو السنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (جائز) يعني: ليس بلازم حتماً، فمن لم يرضَ بالصلح في بادئ الأمر فلا نلزمه به. والصلح مبناه على التنازل، مثلاً إنسان له على إنسان ألف ريال، فجاء وقال: أصالحك على تسعمائة ريال، وأتنازل لك عن مائة ريال، فهذا صلح في هذا الدين. ويقول الفقهاء: الصلح نوعان: الصلح على إقرار، والصلح على إنكار، ففي هذا المثال صلحٌ على إقرار؛ لأنه مقر بالألف، ويقولون: إن كان موضوع الصلح من جنس المصالَح به فلا ينبغي أن يكون بلفظ الصلح، خاصةً إذا كان ربوياً، فألف ريال بتسعمائة هذه ربا، ولهذا يقولون: ينبغي في هذه الصورة أن يقول: أبرأتك من مائة ريال، وأعطني تسعمائة، فيكون هذا إبراء من الدائن، أو يقول المدين: هب لي من دينك مائة ريال، فيكون في هذه الحالة التخفيض والتقليل من الدين بلفظ الهبة أو الإبراء، يقول الدائن: أبرأتك من مائة ريال، أو وهبت لك مائة ريال من الدين، وأعطني الباقي. فلا مانع من ذلك؛ لكن أن يقول: (صالحتك) يقولون: هذا لا يجوز؛ لأنه يكون من صورة الربا أقرب منه من صورة الهبة والعطية. إذاً: المسألة مسألة لفظ، ومسألة اعتبار، لأن الصلح يكون في معنى البيع. أما إذا كان المصالَح به من غير جنس المصالَح عليه مثلاً: له عليه إرْدَبٌّ من التمر، فتعذَّر تقديم الإرْدَبِّ من التمر، فنقوِّمه؛ لأنه إذا تعذَّر عين الدين تعيَّنت القيمة، فإذا كانت قيمة إرْدَبِّ التمر بألف، فقال: أنا أتنازل لك من الألف بمائة. فلا مانع من ذلك. أو يقول: أصالحك على الدين الذي في ذمتك من التمر بتسعمائة أو بمائتين أو بخمسمائة؛ لأن المصالَح به نقد، والمصالَح عليه تمر، فاختلف الدين مع عين الصلح، فلا مانع من ذلك.

حكم الصلح على الإنكار

حكم الصلح على الإنكار صلح الإنكار هو أن يدعي إنسانٌ على إنسان شيئاً فينكره. وتحقيق الأمر في هذه المسألة: أن بعض العلماء نفى صلح الإنكار بالكلية كـ الشافعي رحمه الله، والبعض أجازه؛ ولكن فصل بعض العلماء وقال: لا ينبغي أن يقال: صلح الإنكار ممنوع مطلقاً، أو صلح الإنكار جائز مطلقاً. قالوا: إذا كان المدعى عليه بالدين يعلم حقيقة الدين؛ ولكن أنكره بغية أن يصالحه الدائن على شيء منه، فصالَح مدينٌ له بإرْدَبٍّ من التمر، فقال: ليس لك عندي شيء، فذهب وجاء، وادعى عليه، وما عنده بينة، وما حصَّل شيئاً، فأراد الدائن أن يصالح على بعض حقه لينقذ بعض حقه، فقال: أصالحك على نصف الإرْدَبِّ بقيمة خمسمائة ريال. ففي هذه الحالة الدائن له حق أن يكتفي بنصف حقه، والمدين ليس له حق أن يصالح على أقل من دينه؛ لأنه يعترف به في قرارة نفسه، وكان ينبغي أن يعترف به صراحةً، ويطلب من الدائن أن يخفف عنه أو أن يسامحه، أما أن يجحده بغية أن يصالحه صاحب الحق على جزء منه؛ فهذا لا يجوز. وقد يدعي من ليس له شيء على رجل يستحي من المثول في مجالس القضاة، ويستحي أن يُعرض عليه اليمين، ويتورع أن يحلف يميناً ولو كان صادقاً، فذهب إلى القاضي وادعى عليه: أن لي عليه ألف ريال. فالقاضي يستدعيه، فيقول: لا، أبداً، هذا ليس بيني وبينه معاملة، فيقول القاضي للمدعي: البينة، فيقول: ما عندي بينة، فيقول للمدعى عليه: احلف، وهذا الذي يريد المدعي أن يصل إليه، ويعلم أن المدعى عليه من مروءته وأمانته وزهده أنه لن يحلف، فحينئذٍ يضطر المدعى عليه أن يصالح المدعي، فهل صالَحه على الدين؟ لا. بل صالحه على الدعوى ليترك دعواه، ويفك نفسه من هذا. فحينئذٍ هذا المدعي محق أم ظالم؟ ظالم، وأخذ بصلح الإنكار مال إنسان بغير طيب نفس؛ ولهذا مالك رحمه الله يقول: لا ينبغي أن تُسمع كل دعوى، وأن تكون القضية دائماً، البينة اليمين لا. بل يُنظر هل بين المدعي والمدعى عليه ما يشبه دعواه؟ فإن كان المدعي الذي ادعى على إنسان ليس بينه وبين المدعى عليه لقاء ولا معاملة ولا أي شيء، ولا يشبه أن يحتاج ويستدين منه؛ فلا تسمع دعواه، مثلاً: إنسانٌ رأى رجلاً ماشياً صاحب هيئة ومال وكذا؛ فمسكه وقال له: هاتِ حقي. - وما حقك؟ - الدين الذي لي عندك. - أيُّ دين؟! أنا ما رأيتُك، أنا ما أعرفك! - أبداً، لي عندك ألف ريال. ورفع أمره إلى المحكمة، فـ مالك هنا يقول: من أين هذا الرجل؟ - والله! من أفريقيا من هناك من آخر الدنيا، من داكار. - وهذا من أين؟ - هذا من الشام. - وما الذي جمع الشامي على الأفريقي؟! فـ مالك يقول: أولاً نثبت أن هناك ما يشبه حقيقة الدعوى، فيسأله القاضي: هل لقيته قبل ذلك؟ هل سافر إلى الشام؟ هل سافرت أنت إلى داكار؟ فإذا لم يكن هناك ما يشبه الخلطة بينهما فهل يكون لهذه الدعوى محل؟ لا محل لها. مثال آخر: إنسان فقير في المدينة ادعى على تاجر معروف صاحب استيراد وتصدير ومعارض جملة، وقدم عريضة في المحكمة بأن لي عليه عشرة آلاف ريال، والمدعي بعشرة آلاف لا يملك إلا قوت يومه، فالقاضي يجب أن ينظر، هل هناك ما يشبه أن هذا الفقير المسكين امتلك عشرة آلاف، وهذا التاجر المصدِّر المورِّد صاحب الرصيد في البنوك، هل احتاج الغني إلى هذا في عشرة آلاف؟ إذا كان هناك ما يشبه هذا سمع الدعوى، وإذا لم يكن هناك ما يشبه من ثبوت الخلطة فـ مالك يقول: تُرفض الدعوى ولا تُسمع. فإذا القاضي ما رأى هذه الناحية، وقال: عندي مدَّعٍ، والمدعي عليه البينة، والمنكر عليه اليمين، فقال: كونك غنياً، وكون هذا فقيراً، أنا لا دخل لي بهذا، عندك بينة؟ - ما عندي. - ماذا تقول؟ - أريد يمين المدعى عليه. والمدعى عليه لو ادعى عليه بمليون يريد أن يدفعه، فهو متورِّع عن اليمين، وكما قدمنا عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه امتنع أن يحلف وهو محق؛ مخافة أن يصادف قدَر من الله، فيقال: أصيب بكذا لأنه حلف. فهذا قد لا يحلف، وبراءة لعرضه تحمَّل الدين وهو ينكره، ودفعه مفاداةً لليمين. فالصلح على إنكار: إن كان المدعى عليه يعلم حقيقة الدين وينكره، واضطر صاحب الحق أن يصالح عليه، فالمدعى عليه آثم لإنكاره، وما سقط من الدين بسبب مصالحة المدعي الدائن لا يسقط عند الله. وهناك بعض الصور: قد يضطر المدعي أن يصالِح إنقاذاً للبعض من الكل، وينص على هذا الفقهاء في ناظر الوقف، والوصي على الأيتام، هناك عقار وقف، وبجواره رجل ظالم معتد ذو سلطان وجاه، فتعدى على أرض الوقف، فأخذها، فالناظر مطالَب بحفظ ملك الوقف، فحاول معه، فقال له: اذهب ما لك شيء! - يا ابن الحلال، هذا وقف لله، هذا صفته، هذا فيه أيتام، هذا فيه أرامل، هذا هذا هذا - فقال: لا دخل لي، اذهب. - فقال له: أقول لك -يا شيخ- أصالحك على النصف، ويكفيك النصف واترك لنا النصف. أو أن المدعي قال: أنا أعطيك النصف، واترك دعواك، واصرف الموضوع. فهل من حقه أن يقبل هذا الصلح أو يترك؟ يقبل؛ لأنه إنقاذ للبعض من الكل. وإذا صالح ناظر الوقف على نصف العين، فهل النصف الباقي يحل للمعتدي أو أنه حرام في يده؟ حرام في يده. إذاً: الصلح على الإنكار: إن كان المدعى عليه لا يعلم بالدعوى، وأنكر لعدم علمه أو نسي فلا مانع من ذلك، وإن كان أنكر وهو يعلم فهو جاحد، وهو آثم، وما بقي بعد الصلح فهو في ذمته. وكذلك المدعي، إذا ادعى بشيء يعلم أنه لا حق له فيه، وصالحه عليه المدعى عليه، فأخذ شيئاً في هذا الصلح؛ فأخذه إياه غير جائز، وهو آثم بهذا الأخذ، والذي دفع مسكينٌ مضطر يريد أن يحمي ماله.

معنى قوله: (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما)

معنى قوله: (إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) وقوله: (إلا صلحاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً) هذه قاعدة يدخل تحتها كثير من الصور. إذا تنازعوا على شيء، وقال أحدهما: أصالحك على هذه الأرض بشرط أن تعطيني كذا من الأشياء المحرمة، أو أن تؤمِّن لي كذا من الأشياء المحرمة، يعني: يكون الصلح على شيء يحرم اقتناؤه أو محرم بيعه، وطلب أن يصالَح به، فهذا الصلح لا يحل هذا الحرام، ولا يجوز له أن يأخذه في هذا الصلح. فإذا اصطلحوا عليه فهو حرام، وهذا الصلح أدى إلى استباحة الحرام. كما لو جاءه وصالحه على أن يعيره جاريةً وقال: أستمتع بها مدة إعارتها. هذا لا يجوز؛ لأنه صالحه على شيء محرم، والاستمتاع بالجارية لا يجوز إلا بملك يمين أو بعقد نكاح. فأي شيء أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، مهما كانت الصور التي تتفرع تحت هذه القاعدة فإن الصلح لا يحلها. مثلاً: امرأة ادعى رجل أنها زوجته في سفر، أو في غربة، ومسك يدها وقال: تعالي! - ماذا بك؟ - أنتِ زوجتي. - زوجتك؟! ثم صالَحها على أن تقر له بالزوجية، فهل هذا الصلح جائز؟ لا؛ لأنه يحلُّ حراماً. إذاً: الصور في هذه القاعدة عديدة، ولا نطيل الوقت فيها.

معنى قوله: (والمسلمون على شروطهم)

معنى قوله: (والمسلمون على شروطهم) وقوله: (والمسلمون على شروطهم) : هذه الجملة تعتبر قاعدة تجمع بين المروءة والأمانة والديانة والصدق، وكما يقال: الإنسان يربط بكلمة من لسانه، والحيوان يُربط بالحبل، وإذا قال إنسان كلمة فيجب أن يقف عندها ويلتزمها، فإذا اشترط شرطاً الآن وأخل به فيما بعد فهذا حرام، ولو صار كل الناس يخلون بشروطهم ما انتظمت أمور الحياة، وكما يقال عن هتلر أنه حينما أراد أن يهاجم دولة قيل له: بيننا وبينهم معاهدة، فقال: المعاهدة يُعمل بها في السلم، أما في الحرب فلا معاهدات!! بينما في الإسلام قال الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، وإذا كان هناك عهد بين المسلمين والمشركين فلا ينبغي أن يُخفر العهد حتى يُعلَن لهم، وكان المشركون الذين لهم عهود يأتون إلى مكة للحج فقال الله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] ، وقال: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] اتركه حتى يرجع إلى بلده. - (والمسلمون على شروطهم) ، وجاء أيضاً بلفظ: (والمؤمنون على شروطهم) . ويقول بعض العلماء كشارح الكتاب هذا: كلمة (على) تدل على الاستعلاء، بمعنى: أن المشترط شرطاً يتعالى عن أن ينزل ويخل بهذا الشرط، فيجب أن يوفي بالشرط، وكون المؤمنين أو المسلمين على شروطهم هذا مما يدل على قوة الإسلام وقوة المسلمين؛ لأنهم لا يخفرون بالشروط، ولا يخفرون بالذمة، بل يوفون بالشرط ولو على كُلفة منهم. ولكن إذا كان هناك شرط يحلُّ حراماً أو يحرِّم حلالاً، فهذا الشرط باطل، كما تقدم في قضية بريرة، قال: (اشتريها واعتقيها واشترطي لهم الولاء) ؛ لأن هذا شرط أحلَّ حراماً، لماذا يكون لهم الولاء؟ ليس لكم الولاء، إنما الولاء لمن أعتق، فهذا الشرط يكون باطلاً. والصور والأمثلة في الشرط الذي يحلُّ حراماً أو يحرِّم حلالاً كثيرة جداً، وليست مفسدات الشرط قاصرة على تحليل الحرام أو تحريم الحلال، بل كل شرط على غير شرع الله فهو باطل، وتقدم لنا قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة حينما سألهم السائل عن بيع وشرط، فقائل منهم يقول: البيع صحيح، والشرط صحيح. وقائل يقول: الشرط باطل والبيع صحيح. وقائل يقول: كلاهما باطل! فواحد يقول: كلاهما صحيح. وواحد يقول: كلاهما باطل. وواحد يقول: البيع صحيح، والشرط باطل؟ وذكروا النصوص الموجودة في هذا، فمنهم من يستدل بقضية بريرة، ومنهم من يستدل بجمل جابر، ومنهم من يستدل بحديث آخر. وهكذا في نكاح الشغار، لو قال: أزوجك مولاتي على أن تزوجني مولاتك. اشترط عليه أن يزوجه ليزوجه، وهذا هو نكاح الشغار، فهذا شرط باطل. وأيضاً: لو اشترطت الزوجة عليه ألَّا يكون للضَّرَّة ليلة معها، فقبِل، فهذا الشرط باطل؛ لأن لها حقاً في ذلك.

حكم اشتراط المرأة عند الزواج بها عدم الزواج عليها

حكم اشتراط المرأة عند الزواج بها عدم الزواج عليها هل يجوز أن تشترط المرأة عند الزواج بها -وليس بعد الزواج- على الزوج ألَّا تكون له زوجة حاضرة، وألَّا يتزوج عليها بعد أن يتزوجها؟ بعضهم يقول: هذا شرط باطل؛ لأنه حرَّم حلالاً، فهي تقول: واحدة فقط، والله يقول: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] . وبهذه المناسبة أذكر أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما سافر إلى أفريقيا، ودخل موريتانيا ونزل في مدينة يقال لها: أبو تلميد، وهذه المدينة مدينة علمية، فيها معهد علمي، وجميع الأسر تطلب العلم، تقريباً الصغير والكبير فيهم طالب علم، والشيخ رحمه الله كان في العادة عندما يأتي بلدة يلقي محاضرة في برحة البلد، وإذا كانت هناك أسئلة أو كان هناك شيء فحسب العادة، وكان الذي يدير الندوة أو الحديث عالم أديب شاعر يقال له: أبو مدين، فسأل الشيخ: ما حكم هذا الشرط الشائع عندنا، لا سابقةً ولا لاحقةً، وما قيمة هذا الاشتراط على الزوج؟ فقال رحمه الله: هذا من حقها، وليس شرطاً أحلَّ حراماً، ولا حرَّم حلالاً؛ لأن الزوجة تقول للزوج: أنا وأنت نعلم قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] ، وأنا لا أمنعك من ذلك؛ ولكن أنا أريد لنفسي الانفراد بزوج، ونحن لا زلنا على البر، إن قبلت هذا -أي: تنازلتَ عن حقك في {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]- فتزوجني، وإن لم تقبل فاذهب واطلب غيري، وأنا لا أمنعك، ولا أحرم عليك. إذاً: هذا الشرط لا يحرم حلالاً، فإنما تختار لنفسك، وأنت بالخيار، إن شئتَ قبلت هذا وتركت حقك فيه؛ لأن {مَثْنَى وَثُلاثَ. } [فاطر:1] ليس بواجب، إنما هو من باب الجائز. وقد تشترط المرأةُ: السكنى المعينة، أو عدم المضارة، أو عدم مجاورة أهلها، أو عدم السفر بها، وهذه كلها من الشروط التي يجب الوفاء بها، فإنها لم تحل حراماً ولا حرَّمت حلالاً، ولم تدخل ضرراً على أحد الطرفين.

صور من الشروط التي فيها غرر

صور من الشروط التي فيها غرر يوجد الآن بعض المعاملات فيها غرر، فمثلاً نسمع في مجال المواصلات (التكسيات) شركة ليموزين، تشترط على السائق شروطاً، وتعطيه السيارة بشرط أن يأتي في اليوم بكذا، والزائد له، فهذا شرط فيه غرر، وفيه مضرة، فهل يضمن أن يأتي بهذا المبلغ؟ ليس مضموناً عنده، فيكون هذا تكليف بغير المطاق. وكذلك إنسان يعطي إنساناً فندقاً، يهيئه بكل شيء، ويقول: أسلمك إياه لتشغِّله، وتسلمني في كل شهر كذا، والزائد لك. هذا أيضاً غرر، لا تدري هل يحصل هذا الشيء أم لا؟! فهناك شروط فيها غرر ومضرة. وفي معارض السيارات يقول البائع: أبيعك السيارة هذه أمامك، وإذا وجدتَ فيها أي عيب فلا تُرَد، كيف لا تُرَد بالعيب؟ هذا شرط حرَّم حلالاً؛ لأن الحلال أنه إذا وجد في السيارة عيباً فإنه يردها بالعيب أو يأخذ أرش عيبها. وقد يضللون ويقول البائع: أبيعك كومة حديد، أو سكراً في ماء، أو ملحاً في ماء، ويموِّهون أنه لا شيء فيها، ويقطعون على المشتري طريق النظر في العيب حتى لا يردها بعيبها، أو يأخذ أرش العيب. فكل هذه من الشروط الفاسدة، ولو لم يكن الشرط يحرِّم حلالاً أو يحلِّل حراماً، والله تعالى أعلم. ومما ينبغي التنبيه عليه -يا إخوان- أن الحديث لم يقل: الناس على شروطهم؛ ولكن قال: (والمسلمون على شروطهم) ، وفي الرواية الأخرى: (المؤمنون على شروطهم) ، ومعنى هذا أن صفة الإيمان وصفة الإسلام يجب أن تكون مميزة للمسلم والمؤمن على غيره، فإذا تعامل مسلم مع غير مسلم، فهل كون العميل غير مسلم يجوز له أن يخفر ذمته وأن تخفر شرطه؟ لا يجوز، ومن أغرب ما سمعت في الوفاء بالكلمة، وهي أحق بالمسلمين آلاف المرات، أن شخصاً من أهل جدة معروف بالتجارة، وقبل الحرب العالمية تعاقد مع شركة في صفقة حديد، فقامت الحرب العالمية الأخيرة، وتوقفت السفن عن التجارة بسبب الغواصات والألغام وو إلخ، وانقطعت الأخبار بين المستورد الذي من جدة وبين البائع الذي في إيطاليا أو ألمانيا. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وفتحت الطرق المائية والبرية والجوية إلخ، جاءه إشعار من الشركة التي عقد معها الصفقة: إن الحديد الذي اشتريتَه وتعذَّر إرساله إليك باقٍ عندنا، والآن بعد الحرب قد أصبحت قيمته كذا -بعدة أضعاف من القيمة التي اشترى بها- وأنت بالخيار، هل نرسل إليك الصفقة أو نبيعها ونرسل إليك القيمة الجديدة؟ بعد الحرب وبعد اليأس وبعد انقطاع الأمل، يعرضون عليه هذا!! لو أنهم قالوا: قيمة صفقتك موجودة لكان خيراً منهم؛ لكن يزيد السعر وتتضاعف القيمة ويربح أضعاف الثمن ولا يطمعون فيها، بل يقولون: أنت بالخيار: نرسلها إليك أو نبيعها بالثمن الجديد المضاعَف ربحه ونبعث لك بالقيمة!! هذا يدل على الأمانة. فهم يحسنون التعامل لأجل الدنيا، فهذا الشخص ومن يسمع بتلك المعاملة هل يستبدل عنهم غيرهم؟ لا، بل الكل يسعى إلى أن يتعامل معهم لأنهم أهل صدق ووفاء، والمسلمون أحق بهذا من باب أولى. وعلى هذا: ينبغي على المسلم أو المؤمن أن يفي بالشروط، وكما يقولون: الوصف مُشْعِرٌ بالعلة، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] : فحَدَثُ السرقة علة في القطع، وهنا قوله: (المؤمنون على ... ) : وَصْفُ الإيمان علة في أن يفي المؤمن بشرطه. فينبغي على المؤمن أن يعلو بإيمانه على غيره، وألَّا يخفر الشرط مع غيره ولو كان غير مسلم؛ لأن الوفاء من جانب المؤمن علوٌّ واستعلاءٌ بإيمانه عن أن ينحطَّ إلى درجة من يخفر الذمة.

شرح حديث: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)

شرح حديث: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً في جداره. ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) . متفق عليه] . هذا الحديث قاله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه حينما كان أميراً على المدينة في زمن مروان بن الحكم، فهو أمير ينتهي إليه الأمر، وكان يتولى القضاء والإمارة والفتوى إلخ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً في جداره) ، وهذا الحديث يبين حق الجوار، وذكره المؤلف في باب الصلح ونبهنا أن كثيراً من العلماء يقرن الصلح وحقُّ الجوار، بجامع أن كلاً منهما فيه تنازل، وفيه تعاطف، وفيه تعاون، حق الجوار من باب مكارم الأخلاق، وكذلك الصلح من باب المروءة ونحو ذلك، فيجمعونهما معاً. فهذا الحديث ليس من باب الصلح، إنما هو من باب بيان حق الجار على جاره، ففي هذه الجزئية يروي وهو أمير حديث: (لا يمنع جارٌ جارَه) ، والجار هنا هو المجاور الملاصق؛ لأن الجار قد يُطلق على البيت المقابل في الشارع، والجار قد يصل إلى سبعة بيوت أو إلى أربعين بيتاً أو إلخ، فالجار هنا المراد به: الملاصق في البنيان، وكانوا قديماً إذا جاء إنسانٌ يبني بجوار بيت إنسان، لا يبني جداراً بجوار جداره، بل يكتفي بجدار الجار ساتراً عليه، وقد يبنيان الجدار معاً، ويكون الجدار مشترَكاً؛ ولهذا الجدار مباحث في الفقه، فلو تنازع الجاران في هذا الجدار، قال أحدهما: هذا ملكي، وقال الآخر: لا. ملكي، وكلٌّ ادعاه لنفسه، فيقول ابن القيم في إعمال القرينة: يُنظر إلى عقود القُمُط ويُنظر إلى الطياق، فالإنسان في جدار بيته ربما يعمل تجويفاً وهو ما يسمونه: الطاقة غير المفتوحة، والعادة أن تكون من داخل الجدار؟ فإذا تشاحَّ جاران في جدار واحد، ننظر إلى فتحة الطاقة، هل هي مفتوحة إلى هذا اليمين أو مفتوحة إلى هذا اليسار؟ فمن كانت مفتوحةً إلى جهته يكون الجدار له هو. وكذلك القُمُط التابعة للطياق أو إلخ. وكانوا إذا بنى الإنسان من جهة الجار، أقام ثلاثة جدران، وعند التسقيف يجعل الخشب معترضاً إلى جهة الجار والجهة الأخرى، فيقع الخشب على جدار الجار، وقد يضع الخشب معترضاً بمُسامَتَة الجار، فيكون الخشب بعيداً عن جدار الجار، ولنفرض أن الجار غربي وشرقي، والجدار بينهما في الوسط، فإذا كان امتداد الخشب من شرق إلى غرب ستكون أطراف الخشب على جدار الجار، وإذا كانت أطراف الخشب من الشمال إلى الجنوب فهي بعيدة عن جدار الجدار.

من أحكام الحديث

من أحكام الحديث استدل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث أنه يلزم الجار الأسبق إذا أراد جاره الجديد أن يسقف ما هو بجواره معتمداً على جداره؛ ألا يمنعه. حتى يقول الحنابلة: ولو كان الجار مسجداً، فلو بنيتَ بيتك بجوار المسجد، وأردت أن تسقف على أحد جدرانك وجدار المسجد، فإمام المسجد لا يمنعك، أو المسئول عن المساجد لا يمنعك؛ لأنه جوار. واختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه القضية: هل هذا على سبيل الوجوب والإلزام جبراً؟ فـ أبو هريرة يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين؟!) يعني: لم تعجبهم هذه المسألة: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً ... ) ، فقد يقول الجار: والله هذا اعتداء، يريد أن يستولي على جداري، ويتحكم في مالي! فقال: (ما لي أراكم عنها معرضين؟!) لا يعني هذا: أنهم ليسوا مستبشرين أو ليسوا فرحين! لا. بل القضية ثقيلة عليهم، فقال: (والله لأرمينَّ بها ... ) ما المراد بقوله (بها) ؟ هل هذه القضية أم الخشب؟ القضية، وبعض العلماء يقولون: الخشب، يعني أنه قال: إذا ما قبلتَها على جدارك فسأرميها على كتفَيك. ولكن أين هي الخشبة حتى يرميها بين كتفَيه؟! إذاً: معنى: (لأرمينَّ بها) أي: بهذه القضية، (بين أكتافكم!) أي: ألزمكم بها، وما دام أميراً فهو يملك الإلزام. وهنا مباحث للفقهاء كثيرة، منها: هل هذا على الإلزام أو يملك الجار أن يمنع؟ وإذا سمح له ووَضَع الخشب أو رغماً عنه وُضِع الخشب، فتلف الجدار وسقط، فما الحكم؟ ومتى يجوز أن يضع الخشب؟ وإذا سقط الجدار هل لصاحب الخشب أن يشارك في بناء الجدار؟ وإذا أقام صاحبُ الجدار الجدار فهل يعيد خشبَه مرة أخرى أو لا يعيدها؟ هذه كلها مباحث فقهية في هذه المسألة. نأتي أولاً إلى ما يقوله الفقهاء: يُنظر! هل جدار الجار فيه قوة التحمُّل؟! فلابد أن يُسأل المهندس، فقد يكون بناه على أنه لا يسقِّف على هذا الجدار، وأن الجدار مجرد ساتر، فكيف تأتي أنت وتضع خشبك؟! أنا لم أضع خشبي! وأنا لم أبنِه على هذا الأساس! فتأتي لتضع خشبك أنت على جداري وتهدمه؟! لذا قال الفقهاء: يتحقق هذا الحديث، ويلزم بالوضع إذا كان الجدار يتحمَّل خشب الجار. وإذا لم يكن للجار الأول خشب عليه، فهل يتحمل خشب الجار الجديد أم لا؟ فإذا كان لا يتحمله فليس بواجب؛ لأن فيه مضرة، والمسألة مسألة إرفاق وتعاون بين الجيران. إذاً: (لا يمنع جارٌ جارَه ... ) حينما يكون جدار الجار صالحاً لوضع خشب الجار عليه. ولو وَضَع الخشب، وبنى الدور الثاني، فهل يكتفي بالخشب فقط في الدور الأول؟ قالوا: إذا كان له حق أن يضع خشبه فليبني، وإذا جاء الجار الأول ويريد أن يبني الدور الثاني فيكتفي بجدار الجار هذا، بشرط أن يكون الجدار قابلاً لأن يحمل جداراً آخر.

شرح حديث: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه.

شرح حديث: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه) . رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما] . يعني: لا يجوز للإنسان أن يأخذ من مال الغير ولو العصا، وفي بعض الروايات: (. ولو عود أراك) ، والعصا يهشون بها على الغنم أو على البعير، فإذا كان لا يحل الشيء الحقير، فما هو أكبر منه من باب أولى. ولماذا جاء المؤلف بهذا الحديث بعد حديث: (. لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) ؟ هذا نأخذه من ترتيب العلماء عند إيراد الأدلة، فهي لا تأتي عشوائية، إنما تأتي لغرض ولحكمة، فكأنه يقول: لا يهولنَّكم قول أبي هريرة: (لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) ، انظروا إلى هذا الحديث! إذا كان لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس، فهل يحق له أن يكظم على نَفَسِه بخشب جاره؟! أيهما أكثر حقاً؟! العصا التي يأخذها وليس له حق فيها أو عيدان وجذوع النخل يضعها على ظهره؟! أيهما أكثر كلفةً يا جماعة؟! الخشب، فوضع الخشب على الجدار، فيه التحكُّم في ماله. إذاً: موضوع الحديث الأخير: لا يحق لإنسان أن يأخذ عصا، وفي بعض الروايات: (. متاعاً ... ) ، ولا يأخذه جاداً ولا مازحاً، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يأخذ متاعاً قليلاً ولو وصل إلى حد عصا؛ فجريدة من النخلة أو عود من الأثل، أو عود خيزران، لا يحق له أن يأخذه من أخيه بغير طيب نفس، فكيف يستحل لنفسه أن يُلزم جاره بخشبه؟! إذاً: حديث أبي هريرة إنما يكون من باب الإرفاق والتعاون والمسامحة على قانون: (لا ضرر ولا ضرار) ، فإن كان جدارك لا يضره أن أضع عيداني عليه، وإقامتي لجدار بجوار جدارك فيه تكلفةٌ عليَّ، فما الذي يمنعك أن تسمح لي أن أحط الأعواد وأسقف، ما دام أنه لا توجد مضرة عليك، ولا يوجد إجحاف على الجدار؟! فهذا من باب الإرفاق، وليس من باب الإلزام، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب الحوالة والضمان

كتاب البيوع - باب الحوالة والضمان شريعة الإسلام شريعة متكاملة، جاءت بما يصلح الدين والدنيا، وكما أنها حكيمة في أمور العبادات، فهي حكيمة في أمور المعاملات، ويتبين هذا في باب الحوالة والضمان، فإن من درس هذا الباب ظهر له الأحكام الحكيمة في المعاملات المالية وغيرها.

شرح حديث: (مطل الغني ظلم)

شرح حديث: (مطل الغني ظلم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه، وفي رواية لـ أحمد: (ومن أحيل فليحتل) . ] . هذا باب الحوالة والضمان، والحوالة: بفتح الحاء وكسرها حَوالة وحِوالة، فَعالة وفِعالة، وهي من التحول أو التحويل، والضمان من الضم بأن ينضم شخص لشخص آخر في الوفاء بما عليه، والضمان بمعنى الكفالة. والحوالة صورتها: إنسان دائن، وإنسان مدين له، وهذا المدين هو دائن لشخص ثالث، فشخصيات الحوالة ثلاثة: رقم واحد له دين على رقم اثنين، ورقم اثنين عليه دين لرقم واحد، وله دين عند رقم ثلاثة.

أركان الحوالة

أركان الحوالة الحوالة أركانها خمسة: المحيل الذي هو وسط بين المحال والمحال عليه، والمحال، والمحال عليه، والدين الذي يحال به، والدين الذي يحال عليه. فهذه أركان الحوالة الخمسة، ثلاثة منها في الأشخاص، واثنان في الحقوق. أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الباب ليبين حكم هذه العملية إذا وقعت، وماذا يترتب عليها؟ وقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل) المطل والمط: التطويل والتسويف، أتى أجل الدين وهو يَمطُّ فيه ويبعده ويسوف في الأداء، فإن كان الماطل غنياً فهو ظالم؛ لأن الواجب عليه أن يؤدي الدين في موعده. والمطل مصدر، وقوله: (مطل الغني) ، هل الغني فاعل المصدر أم مفعول له؟ الصحيح أنه فاعل، والمصدر مضاف لفاعله، أي: الغني الذي يمطل الناس ظالم، وبعضهم يقول: يحتمل من حيث الصناعة اللغوية أن يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وأن يكون الغني مفعولاً للمطل، فيكون الماطل غنياً آخر، ويقولون: إذا كان صاحب الحق غنياً فمطل المدين له ظلم، فإذا كان مطله للغني ظلماً، فما بالك إذا مطل الفقير؟! ولكن الحديث الذي معنا يُبعد هذا الاحتمال؛ لأن في آخره: (يُحل عرضه وعقوبته) ، وحلّية العرض والعقوبة تكون للمدين المطلوب الذي يمطل في سداد الدين. إذاً: المصدر مضاف لفاعله. قال: (مطل الغني ظلم) ، فإذا كان المدين فقيراً فهل مطله ظلم أم خارج عن الظلم؟ خارج عن الظلم؛ لأنه مسكين ما عنده شيء؛ ولذا يقول الشافعي: لا يجوز حبسه؛ فهو ليس بظالم، فهو غير واجد، وقالوا: لو كان له مال مغيّب عنه أو لا تصل يده إليه، فهو كالفقير لا يكون ظالماً. إذاً: معنى الحديث: أن مماطلة الواجد القادر على سداد الدين في أجله ظلم، وهذا الظلم (يُحِل عرضه) : كيف يحل عرضه؟ يقول: فلان هذا مماطل فلان هذا سيء المعاملة حتى اختلف العلماء: هل يفسَّق وترد شهادته بالمماطلة، ويكون هذا ذنب يخرجه عن العدالة؟ فالبعض يقول: نعم، والبعض يقول: لا، إلا إذا تكرر، يعني: مطل دائناً مرّة فلا يفسق، لكن مرتين وثلاث، وصارت معاملته هكذا مع الناس فيُحكم عليه بالفسق، ولا تقبل شهادته لأنه ظالم، وينبغي أن يبادر الناس بسداد الديون، ولا يستحلي إنسان ويستمرئ المماطلة بالدين. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، (ومن أحيل على مليء فليحتل) ، بكلا اللفظين، من الذي يحيل؟ ومن المحال؟ ومن المحال عليه؟ قلنا: الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، رقم واحد له ألف عند رقم اثنين، ورقم اثنين معترف بالألف لرقم واحد، فجاء رقم واحد يطلب ألفه من رقم اثنين، ورقم اثنين -سواء كان واجداً أم لا- قال: اذهب وخذ ألفك التي علي من رقم ثلاثة، فيكون قد حوّله إلى شخص ثالث، هذه صورتها في الأشخاص، والذي يحال هو رقم واحد، فإذا أحلت على مليء فاحتل، وإذا أُحيل على غير مليء: أيحتل أم يرفض؟ يرفض.

شروط الحوالة

شروط الحوالة في الحوالة شروط: فيشترط شرط في المحال، والمحيل، والمحال عليه، وشرط في الدين الذي للمحال على المحيل، والدين الذي للمحيل على المحال عليه، لأنه يوجد دينان: دين بين رقم واحد واثنين، ودين بين رقم اثنين وثلاثة. وإذا كان المحال عليه مليئاً، فهل يلزم رضا المحال في إحالته على الثالث أو لا يلزم؟ الحنابلة والجمهور أنه لا يلزم رضاه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيل على مليء فليحتل) ، والذي يشترط رضاه هو المحيل، فلو أن المحيل لم يحل هذا، وهذا عرف أن له عند الشخص الثالث ألف ريال، فذهب يقول له: أعطني ألف ريال مما لرقم اثنين عليك، فسيقول له الثالث: أهو أحالك علي؟ فيقول له: ما أحالني، إذاً: لن يعطيه. فهل يشترط في الحوالة رضا المحيل فقط، أو يشترط رضا المحال والمحال عليه؟ لا يحق للمحال عليه أن يقول للمحيل: لم تحِل عليّ؟ فهذا حقه عليه، وله يستوفيه بنفسه أو بنائب عنه أو بغيره، والذي عليه أن يدفع الألف سواءً وضعها في يده أم في يد شخص آخر. إذاً: المحال عليه لا يؤخذ رضاه إلا عند مالك في صورة واحدة وهي: إذا كان المحال عدواً للمحال عليه، فهو عدو له لا يتعامل معه. فإذا كان المحال عدواً للمحال عليه فـ مالك يقول: المحال عليه لا يلزمه أن يعطيه؛ لأنه أحال عليه عدواً، وهو لا يتعامل مع عدوه، والجمهور يقولون: الحديث مطلق. وقالوا: يشترط في الدين الذي أحيل أن يكون مساوياً للدين الذي أحيل عليه في الجنس، فإذا كان له ألف ريال سعودي أو ألف روبية أو ألف دولار؛ فيجب أن يكون الدين الذي للمحيل على المحال عليه من جنس ذلك، يعني: يحيل أبو الريالات على ريالات، ويحيل أبو الدولارات على الدولارات. فلو كان هذا مدين لعدة أشخاص بعدة مبالغ، واحد له استرليني، وآخر له سعودي، وآخر له دولار، وهو كذلك أيضاً له ديون عند الناس بأنواع من العُمَل، فجاءه المطالبون، فيحيل كل دائن له على نوع الدين الذي له عند الآخر. أما إذا كان هذا له ألف ريال عنده وهو له ألف دولار عند هذا، فلا يصح أن يحيل الألف الريال على الألف الدولار؛ لأن فيها مصارفة بدون تسليم. وإذا كان الجنس واحداً، عنده ألف ريال لهذا، وله خمسة آلاف ريال على ذاك، فأحال صاحب الألف على صاحب خمسة آلاف، فتصح الحوالة. وإذا كان العكس، هذا له خمسة آلاف على هذا، وهذا له ألف على ذاك، فهل يحيل بالخمسة على الواحد؟ لا، بل يحيل بالواحد على الواحد لتساوي الدينين. ويشترط في الدين الذي يحال عليه شرط مهم، وهو: أن يكون ثابتاً مستقراً للمحيل، ليس قابلاً للنقض والفسخ، فلو أن هذا كان قد باع للثالث سلعة، والثالث اشترط الخيار فيها شهراً، وجاء رقم واحد يطالب بالدين، فأحاله على قيمة المبيع لذاك الثالث، فلا تصح الحوالة؛ لأن قيمة المبيع لم يستقر في ذمة المشتري، وبقي له الخيار، وإذا كان الخيار باقياً فإن الثمن معلَّق. إذاً: لا يصح أن يحيل عليه، لأنه يمكن أن يفسخ البيع ولا يدفع الحوالة التي أحاله عليها. والمرأة إذا كان لها ألف ريال صداق على الزوج، ولكنه لم يدخل بها، فهل لها أن تحيل بدين عليها على الزوج، ليأخذ المحال الألف من صداقها؟ لا، لأنه لم يدخل عليها، والصداق إنما يستقر بالدخول، فهذا دين ليس مستقراً. وإذا كان رجل له دين سَلَمٍ على رجل، فهل يحيل عليه؟ لا يحيل عليه؛ لأن دين السَّلَم لا يبدَّل ولا يغيَّر ولا يُحال عليه. إذاً: يشترط في الدين الذي يحال عليه: مماثلة الدين المحال، واستقراره في ذمة المحال عليه. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحيل أحدكم على مليء) ، المليء يكون -كما يقول الحنابلة- بالقول وبالفعل وبالجاه، مليء: عنده الوفاء بالدين. ويشترط لصحة الحوالة حلول الدينين، هذا له ألف حل أجلها، وهذا له ألف عند ذاك وحل أجلها، لكن إذا كان دين هذا حلّ على هذا، ودين الثاني لم يحل على الثالث، فلا يحيل على مؤجل؛ لأنه سيقول المحال عليه: ما حل الأجل حتى أدفع لك، فلو جاء صاحب الدين الأصيل وقال: أعطني ديني، يقول له: ما حل الأجل، وما لك حق في المطالبة. إذاً: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل، واتفاق جنس الدينين، وحلول الأجل فيهما، وبقي شروط، وهو: أن يكون المحال عليه مليئاً معروفاً بالوفاء، فيكون عنده مال، ويعطي ولا يماطل، ولا يكون معروفاً عند الناس بأنه لا يدفع الدين الذي عليه إلا بالمحاكم وبالحبس وبالإساءة، فلو كان على هذه الحالة فليس مليئاً في الحوالة، ويرفض المحال أن يحتل إلى هذا؛ لأنه رجل معروف بالمطل، وقد لا يعطيه إلا بعد سنة! ويشترط الحنابلة أيضاً أن يستطيع المحال مقاضاة المحال في المحكمة، ومفهومه لو أن مديناً أحال دائناً على والد الدائن، وقال له: عند والدك لي ألف ريال، اذهب وخذه. فهل الابن يستطيع أن يقدم أباه للمحكمة في الدين؟ لا، وسيقال له: ارجع فأنت ومالك لأبيك. ولو كان الرجل مديناً لأمير أو سلطان أو إنسان ظالم جبار أو إنسان يأكل حقوق الناس ولا يبالي، فحول دائنه على من لا يستطيع إحضاره إلى مجلس القضاء، فهل هذا مليء أم غير مليء؟ غير مليء؛ لأنه يحتاج إلى مقاضاة وإلى معاناة، وقد يحصل الوفاء، وقد لا يحصل. إذاً: إذا استوى الدينان جنساً، ورضي المحيل، وكان المحال عليه مليئاً؛ تمت الحوالة، وبها تبرأ ذمة المحيل من دين المحال، ويتحول المحال إلى المحال عليه، ولا يرجع إلى المحيل بحال من الأحوال أخذ أو لم يأخذ، حتى لو قدر أن المحال توانى عن مطالبة المحال عليه حتى أصبح فقيراً، فلا يقول: هذا غير مليء؛ لأنه وقت أن حوّله المحيل كان المحال عليه مليئاً، والمحال هو الذي تأخر، ولا يحق له أن يرجع إلى المحيل. وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن رجلاً يمانياً كان له دين عند علي، فأحاله على إنسان مليء معروف، فذهب وبعد فترة جاء يطالبه فإذا المحال عليه مفلس، فرجع إلى علي، وطالبه بالدين، فقال له: قد أحلتك، فقال الرجل: هو مفلس، فقال له: لم ترض بنا، ورضيت بغيرنا بديلاً، اذهب ولا كرامة. أي: أن حقك كان علينا، وأنت لم ترض أن تنتظر، وحوّلناك وتحوّلت، وإذا لم تحصل على دينك فليس لك أن ترجع علينا مرة أخرى. ولهذا يقولون: إن الدين المحال برضا المحيل على مليء ينتقل في الحال، ولا يرجع المحال على المحيل بالدين بحالة من الأحوال، ومن يوم أن حوّله برئت ذمته، وانتقل الدين إلى المحال عليه.

الخلاصة

الخلاصة الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، وسط وطرفان، وفيها الدين مكرر: دين المحال، ودين المحيل على المحال عليه، وفي كل من الأركان الخمسة نوع من الاشتراط، والمبدأ الأساسي أن الدائن أتى يطلب المدين حقه، وقد حل الأجل، والمدين قال: أنا أحيلك على مدين لي، كما أنا مدين لك تطالبني أنا لي أيضاً مال عند مدين أطالبه، فأحيلك عليه بدينك عليّ حتى تستوفيه من المدين لي، فهذا له دين على الثاني، والثاني له دين على ثالث، والدينان قد حل الأجل بدفعهما، والدينان من جنس واحد، فجاء دائن الشخص الأول يطالب مدين الشخص الثاني بدينه؛ لأن الدائن طالب المدين بحقه، وهذا المدين الشخص الثاني هو دائن في نفس الوقت، والشخص الثالث مدين وليس دائناً، فالدائن الأول جاء لمدينه وقال: أعطني، فقال: مرحباً، وكما أنك تدينني فأنا أدين غيري، وكما أنك تطالبني، بدينك فأنا أطالب غيرك، فاذهب وخذ دينك ممن أطالبه بديني. ويشترط أن يكون دين الدائن الأول من عين دين الدائن الثاني للشخص الثالث، فهذا دين بين (أ) و (ب) ، وذاك دين بين (ب) و (ج) ، فإذا استوى النوع صحت الحوالة بهذا الدين. ويشترط في المحال عليه أن يكون مليئاً، ولا يشترط في المحال أن يرضى ويأذن، فصاحب الدين الأول لا يؤخذ رأيه، فيقول له المدين: حقك عندي، اذهب وخذه من هناك. والأصل في المعاملات عين المعاملة، فلو كان إنسان مديناً، وشخص من أهل الخير علم بأنه مدين، فذهب وسدد الدين عنه من غير أن يشعره، فيكون الدين في هذه الحالة قد تم سداده، وفي الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم) ، وستأتي قصة أبي قتادة. فإذا اتفق الدينان، والمحيل رضي بالإحالة، والإحالة كانت على مليء؛ فحينئذٍ انتقل دين المدين بالنسبة إلى الشخص الدائن الأول إلى الثالث وهو المدين الثاني، وليس للأول الحق أن يرجع على الثاني، حتى ولو أن الثالث لم يعطه فلساً مادام أنه مليء. أما إذا أحاله على إنسان غير مليء مفلس، فإن كان المحال يعلم بإفلاسه ورضي بالحوالة صحت؛ لأنه رضي بالإحالة على من عرف حاله، وإذا كان لم يعلم بأفلاسه، وافق على الإحالة وقال: هذا رجل سمعته طيبه، وذهب إليه، فإذا به مفلس محجور عليه من قبل الحاكم، ففي هذه الحالة له أن يرجع على المحيل؛ لأن شرط الإحالة لم يتحقق؛ لأنه ما أحيل على مليء. والمليء هو الذي يستطيع أن يدفع، ويستطيع المحال أن يرفعه إلى الحاكم، ويستطيع أن يأخذ حقه منه بدون مماطلة. وإذا أحال بأكثر من حقه على المدين له، فليس عليه إلا أن يدفع دينه، فمثلاً: الأول له خمسة آلاف على الثاني، والثاني له ألف على الثالث، فالثاني حول هذا بالخمسة على الثالث، فيقول الثالث للأول: ليس له عندي إلى ألف ريال، تفضل هذه الألف، والأربعة الآلاف لا أتحملها عنه، ويرجع المحال على المحيل بالأربعة الآلاف الباقية.

شرح حديث: (حق الغريم وبرئ منهما الميت)

شرح حديث: (حق الغريم وبرئ منهما الميت) قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (توفي رجل منا، فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] . هذه مسألة طويلة الذيل، ويذكر ابن شبة أنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب إلى بيته وينتظره حتى يقضي، ثم يجهزونه ويصلي عليه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله، فلو أننا نجهز الميت ثم نأخذه إلى بيت رسول الله ليصلي عليه هناك، فكان يذهب إلى البيوت ليصلي على الجنائز في المدينة، فأشفقوا عليه صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن يحملوا الجنازة من مكانها إلى بيت رسول الله، فكان يصلي بها في مصلى الجنائز، ومكان مصلى الجناز هو هذا الحوش الذي ترونه محاطاً ما بين باب جبريل إلى باب البقيع الجديد، وكانوا قديماً يسمونه: فرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، فكانوا إذا أتوا بالميت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل عن دينه، ولم يكن يسأل عن أي عمل له، وإنما يسأل أعليه دين أم لا؟ والسؤال عن الدين خاصة يدل على شدة الاهتمام بالدين؛ لأن الميت مرهون بدينه في قبره، والشهيد الذي استشهد في المعركة وعليه دين مرهون بدينه حتى يوفي الله عنه يوم القيامة. وقوله: (فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم) ، كأنه يقول: صلاتي لا تنفعه، مع أن صلاته شفاعة له، ودعاء له بالمغفرة والرحمة، وقد سمع رجل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة جنازة فقال: تمنيت أن أكون أنا هذا الميت لهذا الدعاء! فقال أبو قتادة: صل عليه -يا رسول الله- والدين في ضماني، وقد روي مثل هذا عن علي، فقال صلى الله عليه وسلم: (حق الغريم، وبرئت ذمته) أي: هل الدين تحول عليك؟ فقال: نعم صار في ذمتي، وبرئت منه ذمة الميت، فتقدم وصلى عليه. فهذا الضمان، فـ أبو قتادة ضمن بقضاء دين الميت، قالوا: يصح الضمان عن الميت. وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم (سأل أبا قتادة من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ فقال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم من بعد الغد سأله: ماذا فعل الديناران؟ فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلدته) . ولهذا يقال: المدين تتم براءته من وقت السداد، لا من حين الضمان، فهو ضمنه قبل أمس، لكن ما سدد عنه إلا اليوم، فالآن بردت جلدته من حر الدين.

شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)

شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه) متفق عليه] . بعد أن فتح الله على المسلمين، وأصبحت تأتيهم الغنائم، قال عليه الصلاة والسلام: (من ترك غرماً فعلي، أو كلاً فلي -يعني: من كان عاجزاً ذا عاهة فأنا ضامن له، فإن ترك ديناً فعلي دينه- قيل: يا رسول الله! وعلى الأئمة بعدك؟ قال: نعم، وعلى كل إمام بعدي) أي: أن بيت مال المسلمين المنتظم يتضمن سداد دين المعدم، ومغنم الميت يرجع إلى أهله، وهذه -والله- هي الرحمة المهداة فعلاً، إن كان الميت مفلساً معدماً ليس عنده ما يسدد به دينه سدده عنه رسول الله، وإن كان غنياً ذا مال فماله لورثته، ولا يأخذ منه عليه الصلاة والسلام شيئاً، قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ، فكان من مات وعليه دين لم يصل عليه، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح صار يصلي على من مات وعليه دين، ويقضي دينه من بيت مال المسلمين. ويسوق المؤلف هذا الحديث في باب الضمان؛ لأن دين الميت تحوّل عنه، والضامن اشتغلت ذمته بهذا الدين عن الميت. ويؤخذ منه أنه يصح سداد الدين من وارث الميت ومن غيره أياً كان، وهل يرجع على ورثة الميت أو لا يرجع؟ إن كان ترك وفاءً، وفعل ذلك رحمة بالميت فله أن يرجع، وإن كان فعل ذلك تطوعاً أو صدقة أو هبة فليس له أن يرجع، وبالله تعالى التوفيق.

شرح حديث: (لا كفالة في حد)

شرح حديث: (لا كفالة في حد) قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا كفالة في حد) ، رواه البيهقي بإسناد ضعيف] . الكفالة والضمان في الدين على الميت جائزة، وكذلك تجوز في الدين الذي على الحي. واختلف العلماء في كفالة الوجه ويسمونها: كفالة الحضور، فإن الكفالة قسمان: كفالة غرم وأداء، وكفالة حضور، فكثير من العلماء يقول: كفالة الحضور ليست صحيحة ولا تجب، والكفالة الصحيحة كفالة الدين؛ لأنه التزمه وتعهد به. يختم المؤلف الباب بحديث: (لا كفالة في حد) ، بمعنى: لو إنسان لزم عليه حد، فلا يأتي إنسان آخر ويقول: اتركوه، وأنا كفيل به! وإذا ذهب وتغيب ماذا ستفعل؟ أنت لا يقام عليك حد لم ترتكبه، وكيف تعاقب على جرم غيرك؟ هذا لا يجوز، فلا يصح كفالة صاحب حد في إحضاره لإقامة الحد عليه؛ لأن الحدود ليس فيها شفاعة، والحدود ليس فيها نيابة، والحدود ليس فيها مصالحة، إذا بلغت السلطان لا يصح أن يصالح عليها؛ لأنها حق لله، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [1]

كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [1] الإسلام يحث على عمارة الأرض من أجل عبادة الله فيها، ومن ذلك أنه حث على التجارة والتعاون فيها بأنواع الشركات، وهذه الشركات أقسامها كثيرة، وأحكامها عديدة، وترتبط بها أحكام الوكالة، والعلم بهذه الأحكام يبين سماحة الشريعة ويسرها وحكمتها.

معنى الشركة وأنواعها

معنى الشركة وأنواعها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: ذكر المؤلف رحمه الله تعالى بعد باب الحوالة والضمان وأنواع المعاملات الشخصية: باب الشَرِكة والوكالة، ويقال: شَرِكة وشِرْكة، والشركة تنقسم إلى قسمين: شركة أملاك، وشركة عقود. فشركة الأملاك: كأن يرث جماعة عن مورثهم بيتاً أو أرضاً أو دابة، فهذه الأرض أو البيت أو الدابة شراكة بين الورثة، كما بيّن سبحانه في إرث الإخوة للأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] . وهذا النوع من الشركات لا دخل له فيما يبوب له الفقهاء؛ لأنه ملك ثابت على حصص مشاعة، والحصص معروفة: ربع، سدس، نصف، ثلثان، فهي عين مشاعة مشتركة بينهم. والقسم الثاني من الشركات: شركة العقود، وهي محل الدراسة في كتب الحديث وكتب الفقه وهي: أن يتعاقد اثنان أو أكثر على نوع من الاشتراك في عمل قابل للكسب والخسارة. في شركة الأملاك العين المشتركة بينهم ثابتة على ما هي عليه، ارتفع السعر أو نزل السعر هي بعينها موجودة، ولكن شركات العقود فيها الحركة والبيع والشراء والتصرف، فهي قابلة للربح بزيادة رأس المال وقابلة للنقص والخسارة بنقصان رأس المال.

شركة العنان

شركة العنان الشركة التي هي شركة العقود تفصيلها في كتب الفقه، ويقسمها العلماء رحمهم الله إلى خمسة أقسام، منها المتفق عليه، ومنها المختلف فيه. القسم الأول: شركة العنان، وقد أجمع عليها الناس، وهي أقواها وأكثرها تداولاً، وهي: أن يتساوى الشريكان أو الشركاء، ويشترك كل واحد منهم ببدنه وبماله، فيأتي هذا بألف ريال، ويأتي هذا بألف ريال، ويشتركان معاً في تجارة -بيع وشراء- أقمشة، مواد غذائية، سيارات، مصنع، عمل منتج، ويكون الربح شراكة بينهما، والمهم في أركانها أن كل الشركاء يعمل ببدنه ويُعمل ماله. فهذه الشركة أجمعوا على جوازها وصحتها، ولكنهم اشترطوا شروطاً تمنع النزاع عند تقاسم الأرباح، منها: أن يكون رأس المال من الجميع واحداً، بأن يأتي الجميع بدراهم، أو يأتي الجميع بدنانير، أو يأتي الجميع بريالات، أو يأتي الجميع بدولارات، لكن هذا يأتي بدنانير وهذا بدراهم أو هذا بريالات وهذا بدولارات، لا؛ لأنهم بعد نهاية العمل عندما يريدون أن يصفوا الشركة سيختلفون، هذا كان له ألف ريال وهذا كان له ألف دولار، وسعر الصرف للريال والدولار يختلف، واختلاف سعر الصرف هذا يكون لحساب من؟ فيخلتفون، لكن لما يكون رأس المال واحداً بصرف النظر عن المقدار، فلو كان هذا عنده دولارات، فصرفها ريالات وصارت خمسة آلاف ريال، والآخر عنده ألف ريال، فلا مانع، فالمجموع ستة آلاف ريال، فيعملان والربح على ما شرطاه، حتى بالمناصفة لا مانع، فقد يكون صاحب الألف بحذقه ومعرفته أفضل من صاحبه أبو خمسة آلاف، فتكون خبرته في البيع والشراء تعوض النقص في رأس ماله على ما اتفقا عليه. إذاً: يشترط فيها اتحاد رأس المال، ولا يشترط فيه التساوي. ويشترط أن يعمل كل منهما مع الثاني، فمثلاً فتحا محل (سوبر ماركت) ، يحتاج إلى أكثر من عامل، فهذا على المكينة في الحساب، وهذا مع الزبائن يناول، ويأتيان بصبيان أجراء، وما لهم دخل في الشركة، والمهم أن أصحاب رأس المال يعملون، فهذه شركة العنان. ويشترط فيها أيضاً: معرفة رأس المال للكل، فلو جاء واحد وقال: خذ هذا المال شراكة، ولا ندري كم هو! فهذا لا يصلح، ولابد أن يكون رأس المال معروفاً للطرفين. ويشترط أن يكون رأس المال منهما حاضراً، فلا يقل أحدهما: رأس مالي دين عندي أو سأعطيك فيما بعد، فيصير رأس المال كله من جهة واحدة، فهذا لا يصح. وشركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، ففي السباق يكون كل من المتسابقين عنان فرسه متعادلاً مع الثاني، ويكونان متساويان. وأنواع الشركات فيها تفصيلات كثيرة جداً في كتب الفقه، لكن نحن نريد أن نأخذ الهيكل العام، ثم نأخذ ما ساقه المؤلف رحمة الله عليه.

شركة الأبدان

شركة الأبدان القسم الثاني: شركة الأبدان، وهي اشتراك بالأبدان، وليس فيها ولا فلس، ليس فيها مال، مثل اشتراك اثنين بمجهودهما، مثل اشتراك قوي وضعيف، ارتضيا أن يكونا شريكين بما يعملانه بأيديهما، مثلاً قال أحدهما: يا فلان! أنا أعمل لحالي، وأنت تعمل لحالك، وبعض الأشياء تكون ضخمة وكبيرة وتتعبنا، فدعنا نشترك، أنت تجمع وأنا أجمع، ونكوّن انتاجاً واحداً، ونكون شركاء فيه. مثاله: جماعة ذهبوا يحتشون الحشيش، هذا يحش ويتبع الموجود هنا، وذاك يحش من هناك، وذاك من هناك، ويجمعونه كله، وهم شركاء في هذا المحصول، ومثله أن نصطاد، أخذنا سنانير، وأخذنا شباك، وذهبنا نصطاد بأبداننا بلا مال. وهذا النوع من الشركة يمنعه الشافعي رحمه الله، ويقول: كل منهما يعمل عملاً، فيجب أن يكون عمله لنفسه، هذا اجتهد وحصل شيئاً كثيراً، فكيف يأخذ الثاني من حصيلة هذا؟ فصاحب الجهد الكبير حقه أكثر، والثاني جهده قليل وحقه قليل، ولكن الجمهور يقولون: هذا جائز؛ لما سيأتي من حديث: اشتركنا يوم بدر. فشركة الأبدان جائزة عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله، والهيكل فيها الأشخاص، حتى قال الحنابلة: لو اشترك جماعة بأبدانهم. في بناء عمارة، فأتوا بالحديد، وعملوا الصبة، واشتغلوا حتى أكملوها، فلا مانع. ولو اشترك أربعة في الصيد، وفي يوم من الأيام أحد الشركاء مرض، فذهب ثلاثة، فما حصل عليه الثلاثة فالمريض يشاركهم؛ لأنه شريكهم وتخلف بعذر، وإذا طال مرضه وطالبوه أن يقيم مقامه شخصاً آخر وجب عليه ذلك، فإذا جعل معهم رجلاً نيابة عنه فلا مانع. وإذا قال: والله! ما عندي أحد، ولا أملك إلا نفسي، فيقولون: إذاً فسخنا شركتك معنا، وبعد ما كانت الشركة بأربعة صارت بثلاثة.

شركة المضاربة

شركة المضاربة القسم الثالث: شركة المضاربة: وهذه الآن موجودة بكثرة، وشركة المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهي: أن يكون المال من جانب، والعمل من جانب آخر. مثلاً: شخص يأتي بألف أو عشرة آلاف ريال أو أكثر أو أقل، ويعطيها لشخص متدرب يعرف ويحسن أعمال التجارة، فيقول له: خذ هذه اتجر فيها والربح بيننا، وعلى أي نسبة؟ على ما اتفقا عليه. إن قالوا: للعامل النصف، فيبقى النصف للثاني. وإن قالوا: للعامل الثلث، فيبقى ثلثان للثاني. وإن قالوا: ثلثان للعامل، فيبقى الثلث لصاحب المال. ولماذا على ما اتفقا عليه؟ قد يكون هذا الشخص العامل جيداً، ويمكن أن يفتح الله عليه، ويرزق الله الجميع على يده، ويستفيد صاحب المال وهو جالس في محله. فهذه شركة المضاربة. في شركة العنان الربح بينهما على ما شرطاه، والوضيعة والخسارة بينهما على قدر رأس المال، ما فيها شرط، كل دفع ألف ريال، فالخسارة بالنصف، والربح على ما شرطاه، والربح لا يتبع رأس المال، ولكن يتبع الشرط الذي يتفقون عليه، أما الخسارة فهي تبع لرأس المال، فإذا كان الأول دفع ألف ريال، والثاني دفع خمسة آلاف ريال، واتفقا على أن الربح مناصفة، فإذا حصلت خسارة فهل تكون مناصفة، الخمس وأربعة أخماس؟ تكون حسب رأس المال، فالأول دفع ألف ريال، والثاني دفع خمسة آلاف، فيكون السدس على صاحب الألف، والخمسة أسداس على صاحب الخمسة. ولو أحدهما دفع عشرة آلاف والثاني دفع أربعة آلاف، فيبقى أربعة من عشرة، هذا عليه أربعون في المائة من الخسارة، وهذا عليه ستون في المائة من الخسارة، وأما الربح فبحسب الشرط. وفي شركة المضاربة الربح بينهما على ما شرطاه، والخسارة كلها على صاحب رأس المال، والعامل لا يتحمل من خسارة رأس المال شيئاً، وهذا فيه عدالة، وليس فيه ظلم. فالخسارة كلها على رأس المال، والربح بالاشتراك. ولا يوجد في هذا غبن، إذا كان صاحب رأس المال حصلت عليه خسارة عشرة في المائة بعد سنة، فالعامل خسر جهده سنة كاملة؛ لأنه ليس له أجرة على صاحب رأس المال، إنما علاقته بهذا العمل، وما يحصل من الربح يأخذ منه حصته، وإذا ما حصل شيء من الربح فما له شيء. فإذا وقعت خسارة فالخسارة على صاحب رأس المال، والعامل يكفيه أنه لم يحصل على شيء، فيكونان متعادلين بلا ظلم ولا غبن. وهذه الشركة لها شروط منها: أن يسلم رأس المال، وأن يكون معلوم المقدار، وإذا شرط صاحب المال على العامل نوعاً خاصاً من التجارة فلا يصح، فقد يكون هذا النوع لا يمشي في السوق، بل اترك له الاختيار، لكن إذا نهاه عن نوع معين وجب عليه أن يمتنع، فإذا قال: لا تضع رأس مالي في ذي كبد رطب، فيحرم عليه أن يتاجر في ذلك، وإذا جعله فيه فهو ضامن. والمراد بذي كبد رطب: الحيوان، فلو اشترى ثلاثمائة شاة، وجلبها من المنطقة الشرقية إلى الغربية، وفي نصف الطريق مات نصفها، عطش أو تعب ومات، فمن يضمن هذا؟ هو قال له: لا تحطها في ذي كبد رطب، ثم هو حطها فيها! فتكون تلك الخسارة على العامل، والعامل لا يضمن شيئاً ما لم يتعد، فإذا تعدى في رأس المال أو فرط في حفظه فهو ضامن، وإذا لم يتعد ولم يفرط، وعمل عملاً عادياً، وكانت الخسارة بحسب حركة الأسواق فلا يضمن؛ ولهذا يقول الفقهاء: إن زيادة ونقصان السعر في الأسواق لا عبرة بها شرعاً. فهذا العامل الذي هو أحد الشريكين في المضاربة لا يتحمل من الخسارة شيئاً ما لم يفرط أو يتعدى. وفي نهاية مدة العقد إذا أراد صاحب المال أن يصفي الشركة أو أن يتحاسب ويعرف حصيلته؛ فعلى العامل أن ينضد التجارة، بأن يصفيها نقداً حتى يعرف صاحب المال قدر الربح أو الخسارة، وينبه مالك هنا على ناحية خطيرة جداً، وهي أنه لا يجوز أبداً أن يأتي صاحب رأس المال للعامل ويقول: نحن الآن في آخر السنة فما النتيجة؟ قال: أبشر، فيه خير كثير، والربح عشرون في المائة، فيقول صاحب المال: إذاً: جددنا العقد، فـ مالك يقول: لا يصح هذا أبداً، بل لا بد للعامل أن ينضد التجارة، ويحضر رأس المال والربح، ثم يقول لصاحب رأس المال: هذا الربح بيني وبينك، ثم إن شاءا بعد ذلك جددا عقداً ثانياً أو اقتصرا على ذلك الربح. ولماذا لا يكتفي مالك بقول العامل لصحاب رأس المال: الربح كذا؟ لأنه يخشى أن تكون المسألة بالعكس، والخسارة عشرون في المائة، والعامل يغطي هذا على صاحب رأس المال من أجل أن يجدد عقداً آخر؛ ليعمل ويعوض، فيكون فيه نوع من الربا أو نوع من إكراه العامل على تحمل خسارة موجودة، فلا بد أن يأتي برأس المال، ويخبر صاحب رأس المال بالموجود، فيعلم هل ربحت تجارته أو خسرت، ثم بعد ذلك إن شاء عقد معه مضاربة جديدة، فهذا القسم الثالث هو شركة المضاربة.

شركة الوجوه

شركة الوجوه الرابع: شركة الوجوه: وهي ليس فيها فلوس، وليس فيها رأس مال، لكن فيها وجاهة، فيها ثقة، فيها شخصية معروفة بالسوق، فيأتي اثنان معروفان لأصحاب الأسواق الذين يبيعون بالجملة، فيقول: تعال -يا أخي- نأخذ أتعابه ونتسبب ونربح، أنا آخذ على وجهي وجاهي عند التجار، وأنت أيضاً تأخذ على وجهك وجاهك عند التجار؛ لأن العملة الصعبة الحقيقية عند التجار هي صدق الكلمة، وما يروج في سوق التجارات عند الناس مثل الصدق والكلمة الصادقة الوفية، فإذا عرف التجار من إنسان الصدق والوفاء، فلو أراد كل ما عندهم لأعطوه، أما اللف والدوران فهي عملة مزيفة، تلف وتدور قليلاً ثم تدوخ وتطيح، ولم يبق لكلمته أي معنى ولو في عشرة ريال، ولو أعطوه شيئاً فهي مجاملة أو صدقة. فإذا كان إنسان صادق الكلمة، وفيّ الوعد، أميناً في المعاملة، فجميع التجار يرغبون في التعامل معه، ولو تأخر عليهم الثمن شيئاً ما فلا مانع، فيأتي رجلان من هذا الصنف إلى التجار ويأخذان بضاعة منهم، ثم يبيعان ما أخذاه بجاههما من التجار، ثم يأخذان مرة أخرى ويبيعانه، وهكذا تسير شراكتهما على الوجاهة، ثم بعد هذا يؤديان الحقوق لأصحابها، ويقتسمان الربح على ما شرطاه، وإذا خسر فبقدر ما جمعه كل واحد منهما، هذا أخذ على جاهه عشرة آلاف، وهذا أخذ على جاهه عشرين ألفاً، فمن أخذ على جاهه شيئاً فهو ضامن له، فتكون الخسارة على قدر ما أخذاه، وكل منهما يسمى مدين بالتضامن، فكلاهما متضامن مع شريكه في تسديد الدين، فلو علم أصحاب السوق أنهما شريكان يأخذان على جاههما، ولحقهما دين؛ فلأصحاب السوق أن يطالبوا من شاءوا منهما؛ لأنهما مشتركين، فهذا شركة الوجوه.

شركة التفويض

شركة التفويض القسم الخامس: شركة التفويض: ويمكن الكثير يعملها، يأتي إنسان صاحب مال لزميله أو جاره صاحب مال يقول له: يا فلان! نحن شركاء فيما عندنا، فوضتك في مالي، وفوضتني في مالك، فكل منهما يبيع ويشتري في ماله بالأصالة، وفي مال شريكه بالوكالة، وبدون تحديد: كم عندك؟ وكم عندي؟ وبعض العلماء يمنع هذه الشركة ويقول: فيها ضرر، وقد يكون المال الموجود معلوماً لدى الطرفين، والبعض يقول: تجوز ما لم يدخلا فيها كسباً نادراً أو غرامة نادرة، والكسب النادر مثل الميراث، فالأول يعلم أن عنده في دكانه بضاعة مثلاً بخمسة آلاف ريال سواء اتحدت البضاعة أو اختلفت، والثاني عنده بضاعة بعشرة آلاف، وتفاوضا مفاوضة مطلقة في كل ما يملكان، فإذا ورث أحدهما مالاً في أثناء الشراكة، فهل يدخل الميراث في هذه؟ لا، وإن دخل فيها أبطلها؛ لأن التعاقد كان على الموجود المعتاد، ولو أن أحدهما صارت عليه غرامة، وقعت حادثة ولزمته غرامة، فما دامت شركة مفاوضة فإنه يأخذ من ماله ومن مال شريكه، والشريك ما كان متوقعاً مثل هذه الغرامات النادرة فتبطل بهذا. هذه أنواع الشراكات الخمسة، وكتب الفقه فصلتها على حسب موضوع الكتاب وسعته واختصاره، فقد تجد كتاباً من مراجع الحنابلة (كالروض المربع) مثلاً يجملها كلها في ورقتين، وتجد (المغني) مثلاً يفصلها في خمسين أو ستين صفحة، وتجد (المجموع) أيضاً توسع في جزئياتها واحتمالاتها، وذكر لها تفريعات على أصولها. ونحن بعد هذه المقدمة لأنواع الشركات نرجع إلى الأحاديث التي في الباب، ونأخذ مدلولها وما ينطبق منها على تلك الشركات الخمسة، فما انطبق عليها فالحمد لله، وما لم ينطبق عليها فنرجع إليها في كتب الفقه. ومهما يكن من شيء، فلا يمكن أبداً أن نفقه موضوع الشركات من كتب الحديث، ولا حتى من (فتح الباري) ولا غيره، إنما يفهم ذلك من كتب الفقه والتفريع، لأنها تخرج الجزئيات على الكليات، والفروع على القواعد، وتذكر الأمثلة الكثيرة، فرحمة الله على الفقهاء.

شرح حديث: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه.

شرح حديث: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ... ) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما) رواه أبو داود وصححه الحاكم] . هذا الحديث صدر المؤلف رحمه الله به الباب، لا لنوع من أنواع الشركات الخمسة، وإنما لإطار الشركات كلها، ففيه حث للشركاء على الأمانة والصدق، وتحذير لهم من الخيانة والكذب، يقول المولى سبحانه: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما) ، فالله لا يكون مع الخائن.

معية الله

معية الله ربما يتطلع الكثير إلى معنى: ثالث الشريكين وأقول: أرح نفسك، فهذا من مواطن العقيدة، ومواطن العقيدة ليست قواعد فقهية وإنما هي مبادئ اعتقاديه، وقد قال سبحانه وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وهذه المعيات حيرت علماء العقيدة، وحيرت حتى السلفيين؛ لأن السلف يقولون: نحن لا نئول آيات الصفات، مثل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وكما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] ، ونقول كما قال الله، ونقول: هي على مراد الله، لكن المعية أولوها وقالوا: المراد بالمعية: معية علم ونصرة وتأييد كما قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] . ويتعين على طالب العلم أن يتضلع من علوم العربية، كما أنه يذهب إلى مكة ويتضلع من زمزم. وينبغي أن يعلم أحكام علم الوصل والفصل، ومجيء الجمل متتالية، فإن كانت الجملة الثانية معطوفة بالواو فهي بعيدة عنها مغايرة لها، وإن كانت بدون عطف الواو فهي عينها أو جزء منها أو مفسرة لها، فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لم يقل بعدها: (وصراط الذين) ، بل قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، فيكون الصراط المستقيم هو {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] . وكذا قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، لم يقل بعدها: (والذين يؤمنون) ، بل قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ، فيكون الذين يؤمنون بالغيب هم عين المتقين. وكذلك هنا لم يقل: إنني معكما وأسمع وأرى، بل قال: {مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فيكون قوله: (أسمع وأرى) تفسير لقوله: (معكما) ، كما أن {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] تفسير (للمتقين) . وهكذا علم البلاغة يكشف لنا كثيراً من الغوامض في كتاب الله، ولما سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} [المجادلة:7] ما معناه؟ وكيف يكون؟ قال: اقرأ ما قبلها وما بعدها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، قال: بدأها بالعلم، وختمها بالعلم، فيكون المعنى: معهم بعلمه، وليس هذا من باب التأويل، وصرف الصفة عن معناها، ولكنه تحقيقها وتنزيلها على ما جاء به كتاب الله؛ لأن الله جعله قرآناً عربياً. (أنا ثالث الشريكين) ، لا تتعب نفسك وتقول: كيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان آخران فكيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان أيضاً فكيف يكون هو ثالثهم؟ العلماء يقولون: (أنا ثالث الشريكين) بمعنى: من كان الله شريكه فإنه ولابد يربح، فالمعنى: وفقهما، وبارك لهما، وأربحهما في تجارتهما، والذين يخرج من بينهم رب العالمين سيكلهم لأنفسهم ويخسرون، فهذا هو المعنى الكلي، ولا تجهد نفسك في مسائل العقائد، ولا تحاول أن تتعمق فيها، ولن تحصل على شيء. إذاً: الشركة يكون مبناها على الأمانة، وكما أسلفت أن العملة الصعبة في العالم كله في عالم التجارة هي الكلمة الصادقة، والوعد الوفي، والأمانة، فإذا وجدت هذه الثلاثة في إنسان أياً كان ولو لم يملك إلا درهماً واحداً فهو يملك السوق كله، وإذا فقدت هذه الصفات ولو كان رصيده الملايين أو المليارات فإنه لا يثق التجار بكلماته. إذاً: هذا حث على صدق التجارة والأمانة والوفاء، وقد ذكرت لكم قضية الحديد المستورد من إيطاليا لرجل من جدة، هذا وهم كفار، ونحن أحق بهذا الوفاء منهم، وهم لم يفعلوا ذلك ديانة، ورجاء مثوبة عند الله بل من أجل الربح؛ لأن من يسمع عنهم بمثل هذا لن يستعيض عنهم أحداً أبداً، ويكون دائماً يتعامل معهم.

شرح حديث السائب (أنه كان شريك النبي قبل البعثة.

شرح حديث السائب (أنه كان شريك النبي قبل البعثة ... ) قال رحمه الله: [وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: (أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحباً بأخي وشريكي) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة] . السائب كان شريكاً للرسول قبل البعثة، وجاءه في عام الفتح فقال: (مرحباً بشريكي، ما كنت تماريني ولا تداريني) . نشرح هذا الحديث على الهدوء وعلى الراحة، وننظر إليه بمناظير بعيدة: (مرحباً بأخي وشريكي) كان شريكه في الجاهلية، فأول فائدة من هذا الحديث أن الرسول اشتغل بالتجارة، وقد اشتغل أيضاً برعي الغنم. يقولون: النماء الاجتماعي يكون إما بالصناعة أو بالزراعة، فما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم إنه اشتغل بالزراعة، فمكة أرض غير زراعية؛ ولهذا لما جاء المدينة، ورآهم يوءبرون النخل، أشار عليهم أنهم لو تركوه فلعله يثمر فتركوه فصار كله شيص! ً، فهو ما جرب زراعة، وهذه أمور دنيوية؛ ولذا قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) . ورعي الغنم نوع من التنمية، وفيها حكمة، فالغنم حية، وهل كلها تمشي على وتيرة واحدة مثل جهاز ميكانيكي؟ لا، بل واحدة تمشي يمين وواحدة يسار وواحدة تفر واثنتان تتناطحان، فهي أمة، ومن أحسن وأتقن سياسة الغنم فيمكن أن يحسن سياسة بني آدم، فرعي الغنم تدريب له، ويعود على الرفق والحرص على المصلحة، فإنه يبحث لها عن المرعى الخصب، ويحرص على مواعيد سقيها، ويهشها بعصا صغيرة جداً، ثم إذا ولدت وأنتجت الغنم أخذ ولدها بين يديه، وهذا بخلاف رعاة الإبل فما يسوقها إلا بعصا كبيرة، وترى الجمل رافع رأسه فوق، ولازم يرفع رأسه إلى أعلى؛ ولهذا فأهل الإبل هم أهل الكبر والخيلاء، وأهل الغنم هم أهل الوديعة والسكينة، فراعي الغنم يعلم بسياسة الإدارة للأمة، ويحرص على الجماعة، ويكتسب الرفق والرحمة، ويسعى لمصلحة الضعيف، وكل ذلك كان عند رسول الله، فهو مكتمل الأخلاف عليه الصلاة والسلام. وأهم شيء في التجارةصدق الكلمة، والوفاء بالعهد، والأمانة، وكل ذلك ظهر منه صلى الله عليه وسلم، ولما سافر في تجارة لـ خديجة مع ميسرة، أكرمه الله بالربح الوفير، فكان ماهراً في التجارة. وأقول: ينبغي لطالب العلم أن يكون ذا مهنة، وأن يكون ذا اتجاه منتج، إن كان عنده رأس مال فبتجارة، وإن لم يكن فبرعي غنم، وإن لم يتأت له الذهاب إلى البوادي، وصعب عليه ذلك، وبقي في المدن فينبغي أن يكون عنده صنعة، ويكون عنده طريق للرزق، ونعلم أن كثيراً من العلماء كان يتعاطى التكسب، فـ أبو حنيفة كان يتعاطى التجارة، وغيره أيضاً، وعندما يكون عند طالب العلم جانب إنتاج واستثمار؛ فإنه يكون عوناً له على القيام بنفسه، وليس بلازم أن يكون من كبار التجار، ولكن بقدر ما يكفيه، وما يسد حاجته، ونحن نعلم أن كثيراً من طلبة العلم الكبار كان يبيت طاوياً ما عنده شيء، ولكن كانوا أصحاب عفة. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم عمل في التجارة قبل البعثة، وهي من عادة قومه، وجاراهم في ذلك، وكما يقولون: البركة مائة جزء، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في بقية الأعمال. ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان كفرد من أفراد المجتمع في أمور حياتهم، وإن كان متميزاً بذاته وصفاته؛ لأنهم لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود، وكادوا يقتتلون، اتفقوا على أول من يخرج عليهم، فكان الخارج عليهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بخمس سنوات، فكلهم قال بلسان واحد: الأمين ارتضيناه، الأمين ارتضيناه، فكان متميزاً بالأمانة والإصلاح ومكارم الأخلاق. زيد بن حارثة خطف من قومه، وبيع في مكة، ووصل إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله ليخدمه، وكان أبوه يبحث عنه في القبائل، حتى قيل له: إنه في مكة عند بني هاشم، فقدم مكة ووصل إلى الرسول قبل البعثة، وقال له: إن ابني عندك، وقد جئتك بالفداء، وجاء عمه مع أبيه، وقال: ما أحببت من الفداء نعطيك، فقال: (أوغير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أخيره بيني وبينك، فإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني، وإن اختارك فهو لك بدون فداء، قال: والله! أنصفتني، فدعاه، فقال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: اسمع منهما، فسمع منهما، فقال: والله -يا محمد- لا أختار عليك أحداً أبداً! فأبوه قال: ويحك يا زيد! أتختار العبودية والرق على الحرية؟! وتختار الغريب الأجنبي على أبيك وعمك؟ قال: نعم، والله! مدة ما صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) يعني: وجد عند رسول الله ما لم يجده عند أبيه، فالرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكذلك كان قبل الرسالة أولى وأرأف بالشخص من أبويه، صلوات الله وسلامه عليه. والشاهد من هذا الحديث: (مرحباً بأخي وشريكي) كلمة: (شريكي) ، إذاً: الشراكة أو الشركة كانت معاملة موجودة عند العرب قبل أن يأتي الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، والإسلام جاء فوجد أموراً عديدة، منها ما ألغاها كالربا ومهر البغي. إلى أخره، ومنها ما أقره، وأنواع من الأنكحة ألغاها وأنواع من الأنكحة أقرها، فالإسلام أصلح أوضاع المجتمع. إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف تحت باب (الشركة) ليبين أن الشركة كانت موجودة قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، ويجمعون على أنها من العقود الجائزة، والله أعلم.

شرح أثر ابن مسعود: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر)

شرح أثر ابن مسعود: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر) الحديث رواه النسائي] . يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث من أجل قوله: (اشتركت) ، إذاً: كما أنه صلى الله عليه وسلم كان له شريك قبل البعثة، فكذلك استمرت الشراكة في الإسلام؛ لأن شراكة الرسول صلى الله عليه وسلم مع السائب كانت قبل البعثة، والإسلام أقرها، فيأتي المؤلف بهذا الحديث: (اشتركت أنا وسعد وعمار) ، ولم يتم الحديث؛ لأنه ما له غرض في تمام الحديث، والمطلوب من إيراد هذا الحديث إثبات الشراكة بعد الإسلام في بدر. إذاً: الشراكة كانت موجودة قبل البعثة، وأقرها الإسلام، والشراكة استمرت بعد مجيء الإسلام وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر) ، هل كان في يوم بدر بيع وشراء أو كان فيه قتال؟ كان فيه قتال، وجميع البدريين الذين اشتركوا في المعركة ثلاثمائة وأربعة عشر، ولكن اشترك هؤلاء الثلاثة فيما يحصلون عليه من الغنائم، وما ينتابهم من الفائدة، فصار الثلاثة شركاء فيما يأتي به واحد منهم، وما أتى به اثنان يرجع للثلاثة، فأصبحوا هم الثلاثة كشخص واحد، قال: فأتى سعد بأسيرين، ولم آت أنا وعمار بشيء، فهم ثلاثة اشتركوا، فواحد أتى بأسيرين، واثنان من الشركاء ما أتوا بشيء، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: أن الثلاثة صاروا شركاء في الأسيرين؛ لأن في المرة الثانية قد يأتي الآخر بثلاثة أسرى، وفي المرة الثالثة يأتي آخر بأربعة أو خمسة أسرى، فما دام تم عقد الشراكة بينهم، فما يأتي من أحدهم فهو شركة بين مجموعهم، سواء كان قليلاً أو كثيراً. وهل اشتراك هؤلاء الثلاثة فيها رأس مال؟ ليس فيها، وتقدم معنا أنواع الشراكة الخمسة، وهذ هي شراكة الأبدان، وهذا يسوقه المؤلف هنا ليبين الدليل على صحة شراكة الأبدان؛ لأن الشافعي رحمه الله يمنعها، ويقول: هؤلاء أشخاص يعملون بأبدانهم، فمن عمل شيئاً فلنفسه هو، ولماذا يشاركه غيره في عمله؟ هو اكتسب وبذل جهداً فلماذا يعطيهم من غير مقابل؟ ولماذا يأخذون ماله بغير حق؟ فـ الشافعي رحمه الله غلب جانب العمومات، ولكن لا اجتهاد مع النص، وهذا يسميه الأصوليون: فساد الاعتبار، فهنا ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اليوم الأغر يشتركون شراكة أبدان، وسبحان الله ما جاء كل واحد بأسير حتى نقول: كانوا متساويين، بل أحدهم أتى بأسيرين، والآخران ما أتوا بشيء، ونحن قدمنا في شركة الأبدان عن الفقهاء أنه لو أن أحد الشركاء قصر في العمل، وغاب عن المشاركة معهم بعذر، فله نصيبه فيما اكتسبه الآخرون، فإن الشركاء رضوا بغيابه، فإذا لم يرضوا وطلبوا منه إقامة بديل عنه وجب عليه أن يأتي ببديل مكانه، فإذا لم يأت ببديل ولم يرضوا بغيابه فلهم أن يفسخوا شراكته معهم، ويخرج من الشراكة، وليس في هذا مضرة على أحد.

شرح حديث: (أتيت وكيلي بخيبر.

شرح حديث: (أتيت وكيلي بخيبر ... ) قال المصنف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً) رواه أبو داود وصححه] . هذا الحديث في موضوع الوكالة، وموضوع الوكالة من ضروريات الأخذ والعطاء والحركة؛ لأن كثيراً من الناس تكون له الحاجة والمصلحة التي لا يستطيع أن يؤديها، أو لا يتأتى له أن يدخل فيها، مثل إنسان له حقوق عند بعض الناس، ولا يمكن تخليصها إلا عن طريق السلطة والمحاكمة، وبعض الناس يكون بمكانة من المروءة أو من السلوك ولا يحب أن يجلس في مجلس القضاء، ولا أن يناقشه خصمه، وقد يكون دونه، وقد يتجرأ عليه بكلمة، فهو يعفي نفسه من هذه المقابلات، ويوكل شخصاً عنه في المحاكمة. أو إنسان مقيم في بلد، وله مصالح وحقوق في بلد أخرى، ولا يستطيع أن يواصل ويباشر طلبها بنفسه، لبعد المشقة أو لاختلاف الوضع أو أو إلى أخره، فماذا يفعل؟ هل يضيع حقه؟ لا، يقيم وكيلاً عنه يتولى ذلك. إذاً: الوكالة تقتضيها حياة الناس، وقد تكون امرأة ما تحسن الكلام، قال الله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] ، وتوجهت عليها دعوى، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام أخيها أو أمام عمها أو غيرهما، فماذا تفعل؟ هل تذهب عند القاضي تبكي؟ البكاء ما يعبر عن الحق، والقاضي ما تستميله العواطف، والقاضي لا يحكم بعلمه: (إنكم تختصمون إلي، وأنا بشر، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر؛ فأقضي له على نحو ما أسمع) ، إذاً: هذه محتاجة إلى أن تقيم وكيلاً عنها، ويكون مستوعباً لقضيتها مع خصمها، ويقف أمامه موقف الند للند. إذاً: الوكالة أمر تقتضية الحياة، وضرورة التعامل مع الناس سواء كان بالاختيار أو بالاضطرار، وكما يقولون: الوكيل كالأصيل، والوكيل على قسمين: وكيل مستقل، ووكيل مطلق. ويذكر الفقهاء من شروط الوكالة وحقوق الوكيل مع الأصيل أن الوكيل يحكي الأصيل فيما ينقله عنه، وفيما يوصله إلى القاضي. وهل للوكيل أن يوكل غيره؟ وهل للوكيل إذا وكل في عمل أن ينيب غيره فيه؟ كل هذه الجزئيات تبحث في كتب الفقه. واتفقوا على أنه إذا وكل في أمر، ولم يعط حق توكيل الغير؛ فلا يحق له ذلك، ويجب أن يباشر ذلك بنفسه، ويجب أن يباشر العمل الذي وكل فيه إلا إذا اقتضى الأمر عملاً لا يليق بمثله، كما لو كان وكيلاً في بيع وشراء في متجر، فإنه يباشر فتح المحل، ويباشر عرض المتاع الموجود، ويباشر معاملة الزبائن بكيل أو بوزن أو بذرع أو بمثل ذلك، وهو مسئول عن هذه الأعمال بنفسه، لكن إذا كانت هناك نوعيات في المستودع لمصلحة هذا المحل، ولا يمكن أن يحملها إلا حمال مختص، ولا يمكن نقلها من المستودع إلى المحل إلا بآلة، فهل نقول له: احملها على ظهرك كالحمال؟! لا، لأنه لا يليق به، فله أن يستأجر من يؤدي هذا العمل، ولو أن المحل احتاج إلى إصلاح: ترميم البناء أو الأرض أو السقف، ومثله لا يفعل هذا، فيأتي بمن يفعل هذا على حساب موكله؛ لأنه يعمل ما فيه المصلحة، والوكالة باب واسع تتناوله كتب الفروع، ويلزم على طالب العلم أن يرجع فيها إلى تلك المراجع. وفي هذا الحديث أن جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، توجه إلى خيبر لمصلحته أو أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لحاجة، وبمناسبة ذهابه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهمة عند وكيل رسول الله في خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي في خيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً) ، وهذا محل الشاهد: (إذا أتيت وكيلي في خيبر) ، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له وكيل سواء كان في خيبر أو في الطائف أو في أي مكان.

مشروعية جعل علامة بين السلطان ووكيله

مشروعية جعل علامة بين السلطان ووكيله هل الوكيل الذي في خيبر يعلم أن رسول الله أرسل جابراً ليأخذ منه هذه الأوسق؟ هل عنده خبر؟ ما عنده خبر، والرسول لم يسبق أن أرسل إليه: سأرسل إليك جابراً، ولكن في بعض الروايات أنه قال لـ جابر: (فإذا طلب منك أمارة فأمسك ترقوته) ، والترقوة: العظم المحيط بالعنق، يعني: إذا كلمته فأمسكه في ترقوته، وهذه هي الشفرة، أي: كلمة السر والعلامة حتى يصدقك بأنك وكيل من عندي، ولا أحد يعرف أن هذا بيني وبينك، وما يعرفها إلا أنا، فإذا أبنتها فهي العلامة، وهي أصدق من البرقية، فالبرقية يمكن أن تزور، وهذا نوع من المعاملات مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس، فكان يتعامل معهم كغيره من البشر، ما قال له: سيأتيك جبريل ويقول له: كذا، لا؛ لأن التعامل مع الناس يحتاج إلى منهج بشري يستطيع كل إنسان أن يطبقه، كما قال: (إنكم تختصمون إلي، وأنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في أبسط الأشياء، جاءه الوحي بأن يخلع نعليه؛ لأن فيهما أذى، فخلع نعليه في الصلاة بعد التكبير، فلماذا في القضاء لم يأته جبريل ويقول له: الحق مع هذا والباطل عند هذا؟ يذكرون في تاريخ القضاء -والله أعلم- يذكره صاحب معين الحكام أنه كان في زمن نبي الله داود؛ إذا أرادوا أن يحتكموا، كانت سلسلة معلقة في سقف المجلس، فإذا تقدم المدعي قال: مد يدك إلى السلسلة، فإن كان محقاً تدلت السلسلة حتى يمسكها بيده، وإن كان مبطلاً بعدت عنه، وإذا أنكر المدعى عليه، قال: مد يدك، فإن نالها عرفنا أنه صادق، وإذا لم ينلها عرفنا أنه كاذب، ويقولون: جاء رجل وادعى على رجل أنه ائتمنه أمانة، ثم طلبها منه فجحدها، فلما علم الخصم أنه تقدم إلى نبي الله داود، وأن السلسلة ستفضحه احتال، فأخذ الأمانة وهي دنانير، فنقر عصاه، ونزل فيها الدنانير حتى ملأها وكبسها، وجاء يتوكأ عليها، فتقدم المدعي الذي له ألف الدينار فطولت السلسلة، فمد يده فأمسك السلسلة، فأنكر المدعى عليه، وقال: أبداً ما له عندي شيء، فقال: أمسك السلسلة، فقال لخصمة: امسك العصا حتى أمسك السلسلة، وفي هذه اللحظة كان حق المدعي عنده، وليس عند المدعى عليه، فمد يده فأمسك السلسلة، وما يمكن أن الاثنين يكونان صادقين، كما جاء في حديث اللعان: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، فلا يمكن الإثبات والنفي في وقت واحد، فأبطل السلسلة عندما وجد تحايل عليها، وفي الحديث: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) . وهذا من باب الشيء بالشيء يذكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع عامة الناس كفرد من الأفراد؛ لأن هذا منهج التعامل مع البشر، ولو أنه كان يعاملهم على منهج الرسالة والوحي، فكيف يفعل من بعده؟ فمثلاً في القضاء قال: (أقضي على نحو ما أسمع) ، فلو جاءه جبريل وقال له: هذا محق، وهذا مبطل، وبعده من سيأتي للقضاة؟ لن يأتيهم جبريل، لكن عندهم ما هو في طاقة البشر، القضاء على نحو ما يسمع، وهناك أيضاً فراسة القاضي أو إلهام ونور من الله للقاضي يساعده به على الحكم. إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام له وكيل، والوكيل كان ينوب عنه، وكان بينه وبين الوكيل مثلما يكون بين الموكل ووكيله في العالم كله، من علامات أو أمارات. إلى آخره.

كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [2]

كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [2] الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير، والحرج منفي عنها، ومن الأحكام الفقهية التي شرعت للتسهيل على العباد الوكالة، ولها صور كثيرة منها: الوكالة في البيع والشراء، والوكالة في جمع الزكاة، والوكالة في ذبح الأضاحي والبدن، والوكالة في إقامة الحدود، وغير ذلك.

شرح حديث: (بعث رسول الله مع عروة بدينار يشتري له أضحية.

شرح حديث: (بعث رسول الله مع عروة بدينار يشتري له أضحية ... ) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية) الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم] . لما كانت مهمة هذا الكتاب المبارك بيان أدلة الأحكام، فهو يذكر من الحديث محل الدليل، كالحديث السابق: (اشتركت أنا وعمار وفلان) الحديث؛ لأن موضع الشاهد منه: (اشتركت) ، وكذا حديث: (إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه) ولم يذكر كيف عرف أنه وكيله، وهذا له جانب آخر. وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى البارقي ديناراً ليشتري له أضحية، والشاهد هنا أن عروة قد تصرف تصرف الوكيل، ونحتاج إلى إيراد كامل الحديث ليتبين مناط الاستدلال على الوكالة؛ لأن مجرد إعطائه ديناراً ليشتري له شاة قد لا يكون وكالة، فعندما أقول لك وأنت ذاهب إلى السوق: خذ هذا، واشتري لي كذا، فهذه مساعدة وتعاون، وليست وكالة. والذي حصل من عروة أنه ذهب بالدينار واشترى شاتين، هو أعطاه ديناراً يشتري شاة واحدة، فهو تصرف، وهذا التصرف بحكم الوكالة. ولما اشترى الشاتين، لقيه رجل وقال: أتبيع شاة من هاتين؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بدينار، فباع شاة من الشاتين بدينار، فهو باع ملك غيره، فالمال للرسول صلى الله عليه وسلم، واشترى الشاتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز له أن يبيع ملك الغير بالوكالة. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خذوا شاتكم، وهذا ديناركم) ، فسأله عن خبره، فذكر له الخبر، فهل قال له: وكالتك مفسوخة؟ لا، بل قال: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) ، فكان الناس يأتونه، ويلقون إليه أموالهم شراكة معه؛ بغية بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لو أخذ حفنة من تراب ليبيعها لربح فيها! وعرف الناس أنه أصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهينا من باب الوكالة، وهذا تصرف تصرف الوكيل، وأقره وكيله على ما تصرف، ولو لم يأمره من قبل؛ ولهذا فإن الوكيل لو تصرف لمصلحة موكله وأقره الموكل على ذلك صح التصرف، وإذا تصرف ظاناً منه أنه لمصلحة موكله ولكن موكله رفض، فالتصرف باطل، ويكون لحساب الوكيل، وهو يتحمل مسئوليته، ولهذا تفصيلات عديدة في باب الوكالة. إذاً: الوكالة انتهت، ولكن هل نقف على هذا بهذه السرعة؟ ونحن نعلم أن الحديث بحر، ودلالته لا تنتهي، والناس يتفاوتون في الاستنتاج وفي التفقه في معنى الحديث، فمن العلماء من قال: استنتجت من حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) أربعين مسألة!

هل يحدد ربح البائع؟

هل يحدد ربح البائع؟ يذكر الفقهاء في باب البيوع زيادة الثمن ونسبة الربح، فهذا الرجل كانت نسبة الربح عنده مائة في المائة، فكم نسبة الربح؟! ليست هناك نسبة في ربح البيع والشراء، ولكن ينبغي ألا يستغل البائع جهالة المشتري، وألا يستغل البائع حاجة المشتري واضطراره فيزيد عليه. ذات مرة رأيت نسخة من كتاب (المستصفى) للغزالي، طبعة قديمة في مجلد ممتاز، فقلت لصاحب المكتبة: بكم هذا؟ قال: هذا غالي الثمن، ولعل هذا من باب التحريض، فقلت: بكم؟ قال: بخمسين ريالاً. وكان في ذلك الوقت راتب الجندي الشهري ستين ريالاً، فكم تكون نسبة قيمة هذا الكتاب؟ وكم قدر الخمسين ريالاً لطالب العلم في ذلك الوقت؟ المهم اشتريت الكتاب، وحمداً لله وشكراً له على ما كنت عليه في ذلك الوقت، فرآه معي بعض الإخوان فأعجب به، وقال: من أين؟ فقلت: من فلان، قال: أوه! عسى ما أكلك، قلت: كيف أكلني؟ قال: هذا إذا عرف أن المشتري طالب علم، وله حاجة ماسة إلى الكتاب، يضاعف عليه القيمة، فمرة ثانية إذا أردت أن تشتري منه أرسل شخصاً عامياً عادياً ليشتري لك، بكم اشتريت؟ قلت: بخمسين ريالاً، قال: أوه! رده، قلت: لا والله! لو قال لي بمائة لاشتريته، فالفلوس تذهب وتنتهي، لكن هذا يبقى، ولا زال عندي بحمد الله إلى الآن منذ خمسين سنة في مكتبتي. المهم أن مثل هذا كان المفروض عليه أن يخفف على طالب العلم. ومرة أخرى كنت أريد كتاب (التقرير على التحرير) ، وفتشت عنه في المدينة وفي مكة فلم أجده، فقال لي رجل: هو موجود في مكتبة باصفرين في جدة في سوق الندى، فذهبت إليه، وبعد العشاء وجدت المكتبة، وكانت صغيرة، وفيها رجلان جالسان معهما فانوس، فسلمت عليهما، وقلت: لا مؤاخذة أقطع حديثكم قليلاً، قالا: نعم، قلت: يا شيخ عندك كتاب كذا؟ قال: نعم، عندي نسختان، قلت: أبغى نسخة، قال: ليست للبيع، قلت: في المثل: مطابق وأخوه عريان، يعني: كيف تلبس ثوبين وأخوك عريان؟ فأعطه ثوباً منهما، قلت له: لماذا يا شيخ؟! قال: هذه طبعة قديمة، وأصبح الكتاب مفقوداً وأنا معتز به، قلت: جزاك الله خيراً، لكن إذا جاءك طالب علم فبعه، لعل الله ينفعه به، وأنا مضطر إليه، وهو غير موجود، وعجزت أن أحصله، وأنت رجل كبير السن، وتعرف حاجة طالب العلم للكتاب، فقال: لا، أبداً، فقال له صاحبه: يا شيخ خف الله، معك في المكتبة نسختان، وطالب علم يجيء إليك ويقول لك: أبغى واحداً وتقول له: لا. حرام عليك، قلت: جزاك الله خيراً ساعدني. وأخيراً قال لي: بخمسة وثلاثين ريالاً، وهو ثلاثة أجزاء، والله! لو قال لي: بثلاثة آلاف، وكانت في يدي في ذاك الوقت، لأعطيته بطول يدي، فقلت له: مرحباً بخمسة وثلاثين أو خمسة وأربعين أكثر أو أقل بسيطة، فقال الذي بجواره: هات ثلاثين فقط قلت: والله! إنك رجل خير، وفيك بركة، تفضل، وقال لي: هما في الرف، تخير إحدى النسختين وخذها، وكانت النسختان متقاربتين، فأخذت نسخة منهما، وفي أمان الله، السلام عليكم. يهمني أنه ليس هناك تحديد للربح، ولكن نؤكد على الرفق، وعدم استغلال جهالة المشتري، وعدم استغلال شدة حاجته.

حكم التسعير

حكم التسعير يبحث الفقهاء في حكم التسعير وتحديد الثمن، ولقد طلب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم فقال: (إن الله هو المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحدكم عندي مظلمة) وما هي المظلمة؟ أن تحدد عليه سعر السلعة وتمنعه من الربح، أليست هذه مظلمة؟ ولما جاءوا لـ عمر وقالوا: يا عمر! غلى اللحم فسعره لنا، فقال: لا، أرخصوه أنتم، قالوا: كيف نرخصه وليس عندنا؟! قال: اتركوه لهم، فتركوه اليوم الأول، وتركوه اليوم الثاني، فإذا بالجزارين ينادونهم: هلموا -يا جماعة- للحم، قالوا: لا، أنتم أغليتموه علينا، ثم رخصوه لهم. إذاً: متى يكون التدخل؟ عند الاحتكار، إذا جمع تجار أو تاجر ما في السوق، ثم أغلاه بعدما نفذ ما بأيدي الناس، مثل بعض تجار التمور وقت الجذاذ يجمع ما نزل السوق من الصنف الطيب، وبعد شهر أو شهرين الناس يبحثون عن التمر لكن قد ابتلعته بالوعة التاجر الفلاني، فيقولون: بع لنا يا فلان! قال: لا، أنا لا أبيع الآن، وينتظر شدة الحاجة ليتحكم، وبعد أن كان الصاع بريال يبيعه باثنين أو بثلاثة أو بأربعة، فحينئذ يتضرر الناس، فيتدخل ولي الأمر كما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله، كما يتدخل عند توقف بعض الطوائف عن أعمالهم مثل السقايين والخبازين. فلو أن أصحاب الأفران أضربوا عن أن يخبزوا، فماذا نأكل؟ تشتري دقيقاً وتعجنه، وتشتري فرناً وتخبز، وهل كل إنسان يقدر أن يعمل هذا؟ لا، فيلزمهم الإمام بالرجوع إلى العمل. وكذلك السقاة، كانوا من قبل يأخذون الماء على الكتف، والآن لو أن عمال مصلحة المياة توقفوا عن العمل، وأوقفوا الماء، ولم يوجد ماء في البلد، فهل لولي الأمر أن يتركهم؟ لا، بل يلزمهم على العودة إلى العمل. وهكذا شركة الكهرباء لم يعد للناس عنها غنى، وقد نصبر عن الطعام والشراب ولكن لا نستغني عن الكهرباء، لا نقدر نمشي في الظلام، ولا نعيش في الظلام، نصبر على الجوع حتى ييسر الله، فلو أضرب عمال الكهرباء، وتوقفت المكائن أو الموتورات عن الإنتاج، فولي الأمر يلزمهم بمعاودة العمل؛ لأن مصالح الناس ترتبت عليه. إذاً: التسعير لا يكون إلا عند الاحتكار لما يحتاجه الناس، ولا يوجد له نظير في الأسواق، فيلزم ولي الأمر المحتكرين أن يخرجوا البضاعة ويقدر لهم الربح المناسب، وذلك بالنظر إلى رأس المال، فلا هو يزيده على الناس ولا هم ينقصونه عنه، وفعلاً إن الله هو المسعر، فالسعر بيد الله سبحانه وتعالى، قد يجمع إنسان ويجمع الآخر لمناسبة معينة، لكن تأتي المناسبة والكل يخرج ما عنده، فيكثر العرض على الطلب فيرخص السعر، ونظام الاقتصاد يكون بالمعادلة بين العرض والطلب، وإذا كان الطلب كثيراً والعرض قليلاً غلا في السعر، وإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً صارت البضاعة رخيصة، فالكل يعرض في تلك المناسبة التي جمع لها، فيكثر العرض ويقل الطلب فترخص السلعة عما كان يتوقعه التجار.

شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة.

شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ... )

مشروعية بعث الجباة لجمع الزكاة

مشروعية بعث الجباة لجمع الزكاة قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة) الحديث متفق عليه] . هذا من أحاديث الوكالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، وبعث العمال من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين، وكان العمال يجمعون الصدقة من أرباب الأموال الظاهرة، ويوزعونها على المحتاجين، أو يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون عليها، وقد بين العلماء أن هؤلاء العاملين يذهبون إلى أصحاب الماشية وبهيمة الأنعام على مياههم، فيجمعون ما عندهم من إبل أو بقر أو غنم، ولا يفرقون بين مجتمع، ولا يجمعون بين مفترق، ويحصون على الناس ما يملكون، فمن بلغ عنده النصاب أخذوا الزكاة منه، ونصاب الغنم أربعون، وإلى مائة وعشرين ففيها شاة، ومائة وواحد وعشرون فيها شاتان إلى مائتين، وهكذا في كل مائة شاة. ونصاب الإبل أقله خمس وفيها شاة، وعشر فيها شاتان، وإذا بلغت خمسة وعشرين فبنت مخاض، فكان هؤلاء العمال إذا أتوا إلى الناس قبضوا منهم الزكاة بحسب ما لديهم من تعليمات، وأخذوها منهم بالوكالة عن ولي الأمر. ومن غرائب ما حدث في مثل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث عامله إلى جهة الحناكية، فوجد عند رجل خمسةً وعشرين من الإبل، فقال: (زكاة إبلك بنت مخاض) ، وبنت المخاض هي: التي لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض بأختها، فقال الرجل: بنت مخاض! ماذا تجزي هذه وليست ظهراً فيركب، وليست ضرعاً فيحلب؟! ولكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لم تجب عليك فلا أستطيع أن آخذ أكثر من الواجب، فتشاح العامل مع صاحب الإبل، فقال العامل لصاحب الإبل: إن كنت مصراً فدونك النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فاذهب بها إليه، فإن قبلها قبضتها منك، فجاء مع العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: يا رسول الله! إن بنت مخاض في سبيل الله لا تجزي شيئاً، ولكن هذه ناقة كوماء (يعني: سمينة مثل كوم اللحم) خذها في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم يا رسول الله! فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك!) فتناسلت إبله إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، حتى كان يخرج العشرات من رءوس الإبل في زكاته. نرجع إلى تتمة الحديث: لما رجع عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إن خالد بن الوليد منع زكاته، والعباس أمسك زكاته) ، اشتكاهم عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس عتاده وأدراعه في سبيل الله) يعني: وهذا مال وقف لا زكاة فيه ما دام أنه في سبيل الله. وأخذ منه الفقهاء أن الوقف إذا كان وقفاً خيرياً للفقراء والمساكين قربة لله فلا زكاة فيه؛ لأنه كله في سبيل الله، أما إذا كان وقفاً أهلياً -وهذا اصطلاح عند الفقهاء- بمعنى وقف على أشخاص معينين يقتسمون ريعه، فهنا ينظر لكل واحد على حدة، فمن أخذ من هذا الوقف ما فيه نصاب، ومكث عنده الحول، فإنه يزكي عليه لا على أنه وقف ولكن على أنه مال اكتسبه.

حكم تقديم إخراج الزكاة؟

حكم تقديم إخراج الزكاة؟ وأما زكاة العباس فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنها عليّ) ، وذكر في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان استسلف من العباس زكاة سنتين) . ويختلف العلماء هل يجوز تقديم زكاة سنة قبل مجيء حولها أم لا؟ مالك وغيره يقول: لا يجوز؛ لأنها مؤقتة كتوقيت الصلوات، وكما أنه لا تصح صلاة قبل دخول وقتها، فكذلك لا يصح أخذ زكاة قبل مجيء موعدها، ولكن الجمهور يقولون: هذه حالة نادرة، وكان صلى الله عليه وسلم احتاج إلى هذه الزكاة من العباس فاستسلفه، أي: أخذ زكاة تلك السنة، واستسلفه زكاة السنة التي تليها. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث العمال وكلاء عنه.

قصة ابن رواحة عندما خرص نخل خيبر

قصة ابن رواحة عندما خرص نخل خيبر ترك النبي عليه الصلاة والسلام خيبر في أيدي اليهود يعملونها بالنصف، فإنه لما أراد أن يجلوهم صلى الله عليه وسلم عنها، قالوا: (نحن أعرف بالأرض وبالنخل وبالزراعة منكم، وأنتم مشغولون عنها، فدعنا فيها نقوم بها، فقال: نترككم ما شاء الله) ، يعني: بدون تحديد زمن، وبدون التزام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم عند إبان الجذاذ من يخرص نخلهم، وأرسل إليهم يوماً عبد الله بن رواحة، فجمعوا له من حلي نسائهم وقالوا: هذا لك وخفف عنا، يعني: إن كنت تجد أن نخل خيبر ألف وسق فاجعلها ثمانمائة أو سبعمائة، لكنه كان أشد خوفاً لله منهم، وقال (والله -يا إخوة الخنازير- لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس إلي، وليس حبي لرسول الله أو بغضي إياكم بحاملي على أن أحيف عليكم، أنا قاسم وإن شئتم فاقبلوا ووفوا إلينا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم ونوفي إليكم) ، فقالوا: يا ابن رواحة! والله! بهذا قامت السماوات والأرض، أي: بالعدالة حين القدرة، فهو قال فيها: عشرة آلاف وسقاً، لكم خمسة آلاف، ولنا خمسة آلاف، فإن شئتم التزموا لنا بالخمسة الآلاف وسقاً ونكف عنكم، وإن شئتم ارفعوا أيديكم ونحن ندفع إليكم خمسة آلاف وسقاً، فهذه هي عين العدالة والمساواة. الوكالة بابها طويل، والحاجة إليها ضرورية ولازمة، والوقت لا يتسع لأكثر من هذا، والوكيل الذي ذهب لقبض أموال الزكاة وكيل عن ولي الأمر مطلقاً، ولو ماتت بعض الأنعام في طريقه، فهل عليه شيء من هذه الأنعام؟ يده يد أمانة، لا ضمان عليه فيها إلا إن فرط أو تعدى فهو ضامن، وإن لم يفرط ولم يتعد فليس بضامن؛ لأنه مؤتمن على ذلك، ولم تجن يده جناية على ما تحت يده. وهل له أن يتصرف فيها ويبدلها؟ فعل ذلك معاذ في اليمن، فإنه استبدل الزكاة والجزية بالثياب، وقال: هذا أرفق عليكم، وأنفع لأصحاب محمد؛ لأن مئونة النقلة من اليمن إلى المدينة كبيرة، فعندما يسوق بهيمة الأنعام من اليمن إلى المدينة، كم يأخذ عليه من زمن؟ وكم يتلف عليه منها؟ فبدلها بالوكالة عن ولي الأمر بثياب.

شرح حديث: (نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثا وستين بدنة.

شرح حديث: (نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة ... ) قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه أن يذبح الباقي) الحديث رواه مسلم] . عندما حج الرسول صلى الله عليه وسلم، كان علي شريكاً معه في الهدي، وكان علي وأبو موسى الأشعري في اليمن، وكان علي على مخلاف، وأبو موسى على مخلاف، واجتمعا على أن يحجا، فقدم علي رضي الله تعالى عنه بعدد من الإبل هدياً، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ومعه هدي، فاجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما خرج به من المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فشرك علياً معه، فلما كان يوم النحر ذهب صلى الله عليه وسلم لينحر الهدي، فنحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة ثم وكل علياً في أن ينحر بقية المائة. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم باشر نحر عدد، ووكل علياً في نحر عدد آخر. وتكملة الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يأتي بالجزارين من أجل أن يسلخوا تلك الإبل، وأن يقطعوا لحمها، ويقسموها على الحاضرين، وأمره أن يتصدق بجلالها، والجلال جمع جلالة، وهي ما تجلل به البدنة من الغطاء، كانوا يغطونها بقماش مثل الزينة؛ لأنها هدية مقدمة إلى الله سبحانه وتعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، وكانت تلك الجلال تجمع في منى، ويأخذها بنو هاشم ويصنعون منها كسوة الكعبة، وما يفيض يتصدق به، وكان من عادتهم -كما فعل ابن عمر - أن يحللوها عند خروجها من المدينة، وإذا انفصلوا عن ذي الحليفة نزعوها عنها لئلا تمزقها الشجر، ولا تتسخ بالنوم على الأرض، وإذا قدموا إلى مكة وصعدوا بها إلى عرفات جللوها بها، ونزلوا بها إلى المنحر ثم ينزعونها عنها حتى لا تتلوث بدمائها. ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أمر بأن يؤخذ له من كل بدنة بضعة لحم، وجمعت تلك القطع المائة في القدور وطبخت، وشرب صلى الله عليه وسلم من المرق وأكل من اللحم، قال الله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج:28] ، وقالوا: إن الحكمة والسر في أن المهدي يأكل من هديه لكي يختار نوعية الدم الذي سيريقه، ولا يكون مريضاً ولا هزيلاً، بل يتخير ما سيأكل منه؛ ليطعم غيره. والذين يبحثون وراء الرموز ووراء الحكم من أجل الاستنتاجات يقولون: في فعله صلى الله عليه وسلم هذا حكمة عظيمة وإشارة لذوي الألباب، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، ولم ينحر ستين، ولا سبعين، قالوا: وهذا مقصود؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين سنة، فالسنة التي حج فيها هي تمام الثلاثة والستين، وقولنا: هي مقصودة فيه نوع من التجوز، لكن سواء كانت بالصدفة أو مقصودة فهي إشارة، فكأنه يقول للأمة: هذا عدد أعوام حياتي، أعيش ثلاثة وستين سنة، وفعلاً رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ومكث زمناً غير بعيد، وانتقل إلى الرفيق الأعلى. إذاً: نحر بيده صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين.

لماذا أهدى النبي عليه الصلاة والسلام مائة بدنة؟

لماذا أهدى النبي عليه الصلاة والسلام مائة بدنة؟ بعض طلبة العلم يفتش وينبش ويسأل: لماذا أهدى مائة؟ كان يكفيه شاة أو يشترك هو وستة في بدنة، قالوا: لا، هذا العدد أيضاً له تاريخ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، والمراد: أبوه عبد الله وإسماعيل عليه السلام. أما إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ} [الصافات:102] إلى قوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] . يقولون: إن هذا الذبح والفداء الذي نزل به جبريل هو القربان الذي كان قد قربه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة:27] ، هابيل قدم كبشاً كبيراً طيباً، وقابيل قدم حزمة زرع، وكان صاحب زراعة، وهابيل كان صاحب ماشية، فذاك الكبش من ذاك الوقت يرعى في الجنة، حتى نزل فداء لإسماعيل، والله أعلم، لكن هكذا يقول بعض العلماء. وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أخذ للذبح، وذلك حينما رأى أبوه عبد المطلب في المنام قائلاً يقول له: أحيي برة، وبرة هي: زمزم، وكانت جرهم لما جلت عن البيت ردمت زمزم، وهذا كالحروب العسكرية يدمرون المنشآت حتى لا يستفيد عدوهم منها، فطمسوها وبقيت مطموسة، فأتي فقيل له: أحيي برة، يعني: يحيها بنبشها، قال: وأين هي؟ قالوا: حيث ترى الغراب ينكت في الأرض، في المكان الفلاني، أي: حول الكعبة، فخرج فإذا بالغراب ينكت في محل، فبدأ بالحفر، وكلما مر عليه بنو هاشم وأهل مكة، سألوه: ماذا تفعل يا عبد المطلب؟ قال: أحفر زمزم، قالوا: كيف تبحث عن زمزم، وزمزم مطموسة، ولا أحد يعرف مكانها؟! قال: أنا عرفت مكانها، فكانوا يسخرون منه، فلما نزل بالحفر رأى طي البئر، فقالوا: زمزم ليست لك وحدك، نحن شركاء معك في زمزم، ومنعوه من إتمام الحفر حتى يشتركوا معه، وتكون زمزم للجميع، فما استطاع أن يقاومهم، فنذر لله إن رزق بعشرة بنين، وعاشوا حتى يحملوا السلاح ليذبحن واحداً منهم لله، دار الزمن واكتمل عنده عشرة من البنين، فاجتمعوا فأخبرهم بنذره، فقالوا: وف بالنذر، قال: من أذبح؟ قالوا: اختر، فاستهموا، فكان السهم على عبد الله، فأخذه ومضى ليذبحه، فقامت قائمة قريش، وكان عبد الله أحب أبنائه لأهل مكة، فقالوا: لا والله! لن تذبحه، قال هذا الذي وقع عليه السهم، قالوا: لا، أبداً، فاحتكموا إلى عدة أشخاص، وأخيراً احتكموا إلى كاهنة كانت في جهة الحنكية شرقي المدينة، فقالت لهم: كم دية الرجل عندكم؟ قالوا: كذا، قالت: استهموا على ولدكم مع عشرة من الإبل، فإن طلعت السهام على الإبل فانحروها وتكون فداءً له، وإن طلعت السهام على ولدكم فزيدوا الإبل عشراً وأعيدوا القرعة، فما زالوا يقترعون ويطلع السهم على عبد الله، ويزيدون حتى وصلت الإبل مائة، وحينئذ طلع السهم على الإبل، ففرحت قريش وقالوا: سلم عبد الله اذبح الإبل، قال: لا، عشر مرات وأنا أعيد القرعة ويطلع السهم على ولدي، سأعيد القرعة، فأعادها فطلعت على الإبل، ثم أعادها فطلعت على الإبل، ثلاث مرات، فذبحت الإبل فداء لـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، وقوله هذا: يرد على من يقول: إن الذبيح هو إسحاق، وكثير من الناس يقول هذا، ولكن التحقيق في هذه المسألة أن الذبيح حقيقة هو إسماعيل عليه السلام، واليهود هم الذين صرفوا كلمة الذبيح لإسحاق ليذهبوا بها فخراً لهم، ففدي عبد الله بمائة من الإبل، وعاش عبد الله حتى أودع الأمانة التي كان يحملها في مقرها، وذهب إلى حال سبيله، وجاءت تلك الأمانة إلى الوجود، وهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه من العمر أربعون سنة، ثم كانت الرسالة، وعاش ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكل ذلك عمر الرسالة، فلما حج أهدى مائة من الإبل، وكأنه يقول: لئن فدي أبي بمائة من الإبل أن تذبح للأصنام، فأنا أذبح مائة من الإبل لوجه الله تعالى، وهكذا يربطون بين هذا وبين ذاك، وكما ربطوا بين نزوله في المحصب وهي المعلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من منى بات هناك، وتجدون في كتب الفقه والحديث خلافاً في هذا: هل كان هذا النزول من النسك أو كان على سبيل الإرفاق بالناس حيث يبيت في أول مكة بدلاً من أن يدخل في الليل مكة ويتعب أصحابه، وهذا أخف عليهم عند خروجه إلى المدينة؟ قالوا: لا، لقد كان هذا النزول متعلقاً بحدث وقع في أول الأمر وهو: أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد كتبوا الصحيفة الظالمة على مقاطعة بني هاشم، وألجئوهم للدخول إلى الشعب، وتلك الصحيفة كتبت بظلم في ذلك المكان، في خيف بني كنانة، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: لئن شهد هذا الخيف كتابة صحيفة ظالمة فليشهدن نزول الأمة الإسلامية بعد نزولها من الحج، وتكون ليلة مباركة تمحو آثار تلك الليلة الظالمة.

شرح حديث: (واغد -يا أنيس- على امرأة هذا.

شرح حديث: (واغد -يا أُنيس- على امرأة هذا ... ) قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) الحديث. متفق عليه] . هذا الحديث -يا إخوان- مباحثه كثيرة، ومواضيعه هامة وخطيرة؛ لأنه يتعلق بعدة أمور، وأول هذا الحديث، أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل آخر، فقال: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا -والعسيف: الأجير- فزنى بامرأته، فقالوا: على ولدك مائة شاة، فافتديت ولدي بمائة شاة فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وغنمك رد عليك، واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) . إذاً: القضية قضية حد من حدود الله، ومجيء والد العسيف مع زوج المرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام له شأن، ولو أن الرجل جاء بولده فقط ولم يسم أحداً؛ ما طلب رسول الله المرأة؛ لأن الحد يقام على من أقر على نفسه، ولو أقر على امرأة بعينها لا يقبل منه؛ لأنه إقرار الغير على الغير، والرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال: (يلم ولا يتبع) . فـ الغامدية لما جاءت هل سألها: زنيت بمن؟ لا لم يسألها، وهكذا ماعز لما اعترف بأنه زنى، هل قال له: زنيت بمن؟ ما سأل، ولو قالت الغامدية: زنيت بفلان، وجاء فلان وقال: هي تكذب، فهل يمكن أن يقام عليه الحد بمجرد قولها؟ لا، وكذلك ماعز لو قال: زنيت بفلانة، وجيء بها وقالت: لا، هو يكذب، هل يقام عليها الحد لمجرد دعوى؟ لا، فلابد من أربعة شهود صفتهم كذا وكذا أو الإقرار من الشخص نفسه. لكن هنا اجتمع الطرفان: الرجل يقر على ولده، وولده يسمع، وهذا يقوم بمثابة إقرار الولد، وزوج المرأة يسمع، وهذا لا يكون بمثابة إقراره عليها، لأنها لم تؤاخذ بإقرار زوجها بل قال: (اغد) ليسمع منها شخصياً. فمن أهم مباحث الحديث: مجيء هذين طائعين طالبين إقامة الحد، وقد أفتي والد العسيف بفتوى خطأ، فقيل له: عليك أن تفدي ولدك بمائة شاة، وهذا حكم غير صحيح، وإذا رفع الحكم الباطل إلى ولي الأمر فإنه يلغيه، فقال: (غنمك رد عليك) ؛ لأن هذا باطل.

رجم الزاني المحصن

رجم الزاني المحصن قال والد العسيف: اقضي بيننا، بكتاب الله، فقضى بينهما بكتاب الله وقال: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، فقضى بينهما بكتاب الله، الطرف الأول عليه جلد مائة؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، والجلد بكتاب الله، والطرف الثاني قال: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، خذ المصحف! هل في المصحف رجم الزاني؟ هل تقرءون الآن في المصحف رجم الزاني؟ لا، لكن قال الأصوليون ومدققوا علماء الحديث: إن الرجم من كتاب الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سأقضي بينكما بكتاب الله) وحكم في امرأة هذا بالرجم؛ لأنها محصنة، والعسيف ما هو محصن، بل هو أعزب بكر، والبكر عليه الجلد، وهذا في نص كتاب الله، وأين الرجم في كتاب الله؟ الرسول يقول: (سأقضي بينكما بكتاب الله) ، وقضى على المحصنة بالرجم، ونحن لا نجد الرجم في كتاب الله! وهل كتاب الله فيه ظاهر وباطن؟! لا، ولكن قضاء رسول الله من قضاء الله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ، وقال العلماء: بالإجماع كانت آية الرجم ثابتة في كتاب الله، ونصها: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله) ، ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، وقد خطب عمر الناس يوم الجمعة وقال: (آية الرجم ليست في المصحف، ولكننا قرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه) . فهي ثابتة في كتاب الله أو غير ثابتة؟ غير ثابتة الآن، وما الذي حصل؟ حصل نسخ اللفظ، وبقي الحكم. وهنا يتساءل علماء الشريعة ما دام الحكم باقٍ فلماذا ينسخ اللفظ؟ قالوا: تكريماً لهذه الأمة، حتى لا يسجل على شيوخها أنهم زناة، فإذا بقيت تقرأ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) ، ففيه أن من شيوخ هذه الأمة زناة، لكن من دواعي الستر من المولى سبحانه على ضعاف هذه الأمة نسخ اللفظ وبقي الحكم، وها هو صلى الله عليه وسلم يقرر هنا أن الرجم في كتاب الله، فحكم بينهما بكتاب الله، وحكم على المرأة بالرجم، إذاً: الرجم في كتاب الله.

صحة الوكالة في إقامة الحدود

صحة الوكالة في إقامة الحدود تصح الوكالة والنيابة من ولي الأمر إلى إنسان لينفذ الحكم أو ليسمع الإقرار ويقوم مقامه، ففي هذا الحديث لم يدع المرأة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فلا نستدعيها وما عرفنا أنها زنت، ومجرد قول والد العسيف: إن ابني زنى بامرأة هذا؛ لا يثبت زناها؛ لأنها قد تنكر، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم من يذهب إليها ويسألها.

إقامة الحد بالإقرار أو الشهود

إقامة الحد بالإقرار أو الشهود بعض العلماء يقولون: يجب تكرار الإقرار لإقامة الحد، كما يشترط في الشهادة أربعة، فقالوا: يجب أن يقر الزاني على نفسه في مجلس الحكم أربع مرات بأنه زنى، لكن هل الرسول قال له: اسمع منها الاعتراف أربع مرات وما قيمة التكرار إذا كان الإقرار صادراً من الجاني؟ وإنما احتجنا لأربعة شهود؛ لأنهم يثبتون الزنا على غيرهم. ولماذا يجب الأربعة الشهود في الزنا مع أن البكر يجلد، وتكفي شهادة رجلين في قطع الرقبة في القصاص؟ إذا شهد شاهد واحد بأنه رأى بعينه الزنا كالمرود في المكحلة، فهل الشاهد الواحد يقام به الحد؟ إذا شهد اثنان، هل نقيم بشهادتهما حداً على طرفين؟ لا، الزنا يكون باشتراك، ولا يتأتى من جانب واحد، وإذا ثبت الزنا بالشهادة، فسنقيم الحد على الطرفين، فلما كانت إقامة الحد على طرفين احتجنا إلى أربعة شهود، حتى نكون قد أقمنا الحد على كل واحد منهما بشاهدين، ولا يكون في ذلك هضم ولا يكون في ذلك نقص. ويقول بعض الفقهاء: إنما تشدد الشرع في إثبات الزنا لدرء المفاسد والسمعة وعدم إشاعة الفاحشة وكذا وكذا، ولذا البعض يقول: ما أقيم حد زنا بشهادة قط إلى اليوم، فهو متعذر. إذاً: لماذا الحد؟ قالوا: هو كالسوط المعلق، فكلما هم أحد بالزنا رأى هذا السوط يسقط عليه أو رأى تلك الحجارة تقذفه، فامتنع، ففيه إرهاب وتخويف، لكن هذا تشريع، والله سبحانه وتعالى أعلم بالحكمة، بخلاف القوانين الوضعية فقد تكون خالية من الحكمة، ويهمنا أن التشريع الإسلامي حكيم ثابت، وهو أقوى من رسوخ الجبال. وقوله: (واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، مفهوم المخالفة إذا لم تعترف فلا ترجم، فأتى إليها فاعترفت فرجمها، وهذه هي الوكالة في إقامة الحدود، وبالله تعالى التوفيق. والراجح الاكتفاء في الإقرار بمرة واحدة، وليس بلازم أن يقر عدة مرات، والذين اشترطوا تكرار الإقرار، استدلوا بأن ماعزاً أقر فأعرض عنه، فجاءه من قبل وجهه فأقر فأعرض عنه، أربع مرات، قالوا: ليستخلص منه أربعة إقرارات ليثبت الحد عليه، لكن لا والله ما كان رسول الله ليحتال على ماعز حتى يستخلص منه أربعة إقرارات وهو لا يدري ذلك، ولكن كان يعرض عنه لعله يولي ويدبر، كما جاء أنه قال لرجل جاء بزان: (هلا سترته بردائك) ، والغامدية اعترفت وهي حامل، فقال: (اذهبي حتى تضعي، فرجعت ووضعته، ثم جاءت، فقال: اذهبي حتى تفطميه، فرجعت ثم جاءت به مفطوماً، وفي يده كسرة يأكل منها، فقال: اذهبي حتى تجدي من يكفله) ، فهل كان يردها هذا الرد من أجل أن تأتي بعد ذلك؟ لا، ولو أنها لم تأت ما طلبها، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الإقرار

كتاب البيوع - باب الإقرار الإقرار سيد الأدلة، وقد أثبتت الشريعة حجيته بضوابط وشروط معتبرة، والعمل به وإقراره يدل على كمال الشريعة وعدالتها وحكمتها.

شرح حديث: (قل الحق ولو كان مرا)

شرح حديث: (قل الحق ولو كان مراً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل الحق ولو كان مراً) صححه ابن حبان من حديث طويل] . قبل الدرس نقدم الشكر لله، ونحمده سبحانه أن أعادنا إلى هذا المكان، وجمعنا بالإخوان في هذا الدرس المبارك، ونسأله سبحانه أن يتم علينا وعلى كل مريض الشفاء، وأن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يبارك لنا في هذه الجلسات، وهذه الدروس، إنه سميع مجيب. وأخبر الإخوان أني طيلة هذه المدة ما ذهب عني التشوق إلى لقائكم، والجلوس معكم، والتحدث إليكم، وأحمد الله سبحانه، وإن كان هناك بعض الأثر، ولكن دائماً بحمد الله ولو كنت متأثراً إذا جئت إلى الدرس وجلست وسميت الله سبحانه أحسست بكل نشاط وبكل ارتياح، فأحمده سبحانه وأشكر فضله؛ ولهذا أحث الإخوة على الحرص الدائم على طلب العلم عامة، وفي المسجد النبوي خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزى في سبيل الله) ، وقد ميّز الله سبحانه وتعالى هذا المسجد المبارك ببركات عديدة، يفتح بها على طلاب العلم، فيحصلوا على أضعاف ما يحصله طلاب الجامعات أياً كانت، ويكفي أنه إذا ذكر في الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحالاً وبسرعة وقوة ورغماً عنك تتذكر مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونسأله سبحانه أن ييسر الخير لنا ولكم، وأن يعلمنا وإياكم، ويفتح علينا وعليكم والمسلمين، إنه سميع مجيب، ونبدأ بحمد الله الدرس، وإلى الإقرار.

معنى الإقرار

معنى الإقرار الإقرار في اللغة: قرّ، بمعنى: مكث وثبت، تقول: أقر بالمكان بمعنى: جلس وثبت فيه، ومنه قرار البئر، وقرار النهر أي: عمقه ونهايته، والإقرار يكون في الحقوق المدنية أو في الجنائية، إلا أنهم في الجنائية اصطلحوا على أن يسمى اعترافاً، يقال: اعترف بالجريمة، وفي الحقوق المالية يقال: أقر، وهو في الشرع -سواءً كان جنائياً كالحدود، أو مدنياً كالأموال ونحوها- يسمى إقراراً، ويعرفونه: بأنه إخبار عن حق في الذمة للغير، هذا أوجز التعريفات، وإن كانت قد تعددت، فالإقرار إخبار، والبعض يعتبر الإقرار إنشاءً، والصحيح الأول، والفرق في اللغة بين الإخبار والإنشاء هو: أن الإخبار إنباء عن شيء حاصل بالفعل قبل أن تخبر عنه، مثلاً تقول: أكلت تمراً، تخبر بالأكل، والأكل قد وقع قبل أن تخبر به، بخلاف الإنشاء، تقول: كل تمرة، الآن ما حصل الأكل، وأنت تنشئ القول بإيجاد الأكل، وهناك ألفاظ تحتمل الخبر والإنشاء ينصون عليها كصيغة البيع والطلاق، تقول: بعت كتابي، بعتك الكتاب، بعت واشتريت، قد تقول قبل البيع والشراء: أتبيعني كتابك؟ فيقول: بعتك، ويمكن أن تقول: بعتك كتابي العام الماضي، ولم تدفع لي ثمناً، فبعتك تحتمل إخباراً عن بيع قد سبق قبل القول، وتحتمل إنشاء البيع الآن بإيجاب وقبول. فالإقرار من باب الإخبار عن شيء سابق، وليس إنشاءً، أقول: هذا الكتاب لك، هل هو إخبار أم إنشاء؟ إن قلت لك هذا بمعنى: أعطيتك إياه، فهو إنشاء هدية تتوقف على القبول، وإن كان إخباراً فأكون قد أعطيتك الكتاب من قبل، والآن أقرر أني قد أعطيته لك فلا أملك الرجوع، والإقرار له مباحث عديدة، وهو ركن أصيل في القضاء، وطرق الإثبات ثلاثة كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه في أمر الزنا: إما بينة أو حمل أو إقرار، يعني: لا يثبت حد الزنا إلا بالبينة كما ذكر سبحانه أربعة شهود، وإما أن يظهر الحمل وهي ليست ذات زوج، وإما الإقرار. مع أن قول عمر: أو الحمل، فيه نقاش؛ لأن المرأة قد تبتلى بالحمل بدون زنا، وذلك إذا وصل إلى محلها ماء الرجل دون قصد، كما قال عمر: اعزلوا ما شئتم، فإن جاءت الأمة بولد وهي تحت سيدها لألحقت الولد به؛ لأن الماء يسري، ولذا عندما قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (لي جارية، وأحب منها ما يحب الرجل من أمته، أفأعزل عنها؟ فقال: اعزل إن شئت أو لا تعزل، إذا أراد الله خلق الولد من ماء الرجل خلقه ولو ألقيته على حجر) ، يعني: ولو ألقى الماء على حجر، وجاءت امرأة ولامسته ووصل إلى جسمها فحملت، مثل التلقيح الصناعي يكون مشروعاً إذا كان بماء الزوج، وممنوعاً إذا كان بماء رجل أجنبي، وقد يكره مطلقاً.

الإقرار سيد الأدلة

الإقرار سيد الأدلة الإقرار يقول فيه أرباب القوانين: هو سيد الأدلة، مع أنه يدخله الاحتمال؛ لأن الخبر في اللغة: ما احتمل الصدق والكذب لذاته، وكلمة (لذاته) ، تخرج غيره كإخبار الله وإخبار رسوله، فهي لا تحتمل إلا الصدق، أما قول شخص: أكلت، فهذا إخبار، قد يصح أنه أكل ولعله لم يأكل. فالإقرار أصل في القضاء في الإثبات، وهو سيد الأدلة؛ لأن غالب الأحوال أن الشخص لا يعترف على نفسه بما فيه مضرة، فلا يقول: سرقت، وهو لم يسرق، ويعلم أنها تقطع يده، أو يقول لك: عندي ألف وما عنده شيء، فيغرم الألف!! فالغالب أن الشخص لا يقر على نفسه إلا بالحق، ولكن قد يكون الإقرار لغرض، وليس الإقرار صحيحاً، وهذا من أصعب ما يكون أمام القضاة؛ لأن القاضي إذا سمع الدعوى، وسأل المدعى عليه فأقر بصدق ما ادعى به المدعي؛ انتهينا، هذه دعوى، وهذا إقرار المدعى عليه، فلم يبق إلا الحكم، ولكن قد تكون هناك دوافع تدفع الشخص إلى أن يقر بغير الواقع، إما لدفع شيء أعظم مما ادعي به عليه، وإما لمصلحة لنفسه.

من أخبار القضاة

من أخبار القضاة يذكر وكيع في إخبار القضاة: أن شيخاً دخل ومعه شاب على القاضي، فادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فسأل القاضي المدعى عليه: ما تقول؟ قال: نعم، أقر بأن له عليّ ألف دينار، فتعجب القاضي! ثم قال: قوما عني وارجعا غداً، فذهبا، وكان في السابق القاضي يستصحب طلبة العلم والعلماء ويستشيرهم في مجلس القضاء بغية الوصول إلى الحق، فكان بعض أصدقاء هذا القاضي من العلماء جالساً، وسمع الدعوى، وسمع الإقرار، ورأى القاضي صرفهما، فلما انصرف قال: ما بالك؟! مدعٍ يدعي ومدعى عليه يقر بصدق الدعوى، وتقول: قوما وارجعا غداً! لماذا لم تحكم بمقتضى الإقرار؟! قال له: على رسلك، ننتظر، وفي الغد جاء شخص مع الشيخ والشاب يصيح: مولانا القاضي! إن ولدي هذا قد أفسد علي مالي، وقد طلب مني ألف دينار، فامتنعت أن أعطيه، فأتى وتواطأ مع هذا الشيخ، أن يدعي عليه بألف فيعترف، وليس عنده ما يسدد، فتحكم عليه بالحبس، فتأتي أمه وتلح عليّ أن أدفع الألف لأخرجه من الحبس، ثم يخرج ويقتسمها مع الشيخ. فهنا التفت القاضي لصاحبه وقال: أرأيت؟! قال: ما الذي ساق نظرك لذلك؟! قال: ألم تر سرعة إقراره؟! لأنه قال فوراً: نعم. وبهذه المناسبة أذكر أنه دخل عليّ شيخ وشاب، والشيبة أعرف اسمه له قضايا كثيرة، وكان الشاب يدعي على الشيخ أنه باعه أرضاً وقبض ثمنها منذ ثلاث سنوات، ولم يسلمها إليه، ويطلب الحكم عليه بأن يفرغ له الأرض، فإنه باعه الأرض منذ ثلاث سنوات وأخذ ثمنها، ولم يفرغ له الأرض، فطلب أن يفرغها له، وهذا حق. فسألت الشيبة المدعى عليه، فقال: نعم، أنا بعت واستلمت! فضحكت! فالشيبة فطن فقال: لماذا تضحك؟! قلت: أضحك عليكم، قال: لماذا؟ قلت: أنت -يا فلان- شيبة، وتعرف المحاكم، وتذهب وتأتي، ما هي قضيتكم التي أنتم تختصمون فيها؟ كيف يقول: اشتريت، وأنت تقول: بعت واستملت، بلا إنكار؟ فضحك الشيخ!! فقلت: لماذا تضحك؟! قال: لأنك فهمتنا! قلت له: ما هي القصة؟ قال: أنا بعت، وجئنا لكاتب عدل ليكتب، فامتنع؛ لأن الأرض فيها مبيعات، وليس فيها حلول درعة، وقال: لازم تعملوا درعة وتأتوا، فقلت: إذاً: دعواكم عند الكاتب. فقد يكون الإقرار مظنة التهمة، والقاضي الفطن يتنبه لدوافع الإقرار.

لابد في الإقرار من قرينة تدل على صدق المقر

لابد في الإقرار من قرينة تدل على صدق المقر جاءت الجهنية إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأقرت على نفسها بالزنا، وطلبت إقامة الحد، فردها صلى الله عليه وسلم، فهذا إقرار صحيح، والدافع عليه هو ما قالت: طهرني. وكذا الرجل الذي وجد امرأة في طرف المدينة، فأصاب منها كل شيء إلا الجماع، فقال: أصبت حداً فأقمه علي وطهرني، فسأله عما فعل، فذكر كل شيء إلا الوطء، فأمره بما يطهر ذلك. فالإقرار سيد الأدلة إذا كانت هناك قرائن تؤيده، أما إذا وجدت قرائن تدل على أن هناك عوامل أخرى حملته على الإقرار بغير الواقع فلا قيمة له. ومن مباحث الإقرار يتناول العلماء أيضاً: من هو الذي يقبل إقراره؟ وما هو الحق الذي يقبل الإقرار به؟ ومن الشخص الذي يصح الإقرار له؟ وهناك مباحث واسعة في رجوع المقر عن إقراره، والفرق في هذا الرجوع بين شخص وشخص، وبين حق وحق، فيختلف الحكم إذا كان الذي رجع عن الإقرار معروفاً بالتهمة، أو إذا كان الحق لله سبحانه في حد من حدوده. وهذه المسائل بحثت فيما يتعلق بالإقرار، وأعتقد أن استيفاء أحكام الإقرار لا يتأتى بما اقتصر عليه المؤلف، فإنه اقتصر بجزء من حديث، وإلا فأبواب الإقرار القضائية وأبواب الإقرار الفقهية متسعة.

ثبوت الحق بالإقرار

ثبوت الحق بالإقرار قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قل الحق ولو كان مراً) ، يدل هذا اللفظ: (قل الحق) على صحة إثبات الحق بالإقرار؛ لأنه لو لم يكن لقول الحق فائدة في الإثبات لما صح. ويقولون: الإقرار حجة بالكتاب، والسنة، والإجماع. في الكتاب في قضية الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:283] ؛ لأنه يملي ما عليه، ويقر بذلك في نفسه، ومن حكمة التشريع: أن الذي يملي على الكاتب هو المدين؛ لأن إملاءه عليه اعتراف بالدين، لا أن نملي عليه الدائن؛ لأنه يملي بما يريد، وإقرار الشخص لا يسري إلا على نفسه، فلا يحق للدائن أن يملي على الكاتب، فهذا من الأدلة، وأيضاً قوله تعالى: {أَأَقْرَرْتُمْ} [آل عمران:81] ، وقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ، فأخذ المولى سبحانه العهد على النبيين بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] . وفي السنة لما جاء ماعز واعترف بالزنا، ورده عليه ثم ألزمه بإقراره، وأمر بإقامة الحد عليه، وكذلك قصة العسيف، لما جاء أبو العسيف مع رجل آخر، وقال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً عنده- فزنى بامرأته، فسألت فقيل: على ابنك وليدة ومائة شاة، فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله فقال: (سأقضي بينكما بكتاب الله: الوليدة والمائة شاة رد عليك، وعلى ابنك الجلد وتغريب عام -لأنه بكر- واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، ثم رجمها بناءً على اعترافها. إذاً: الإقرار بينة يعتمد عليها بنص السنة في ذلك. وجاء رجل إلى أبي بكر فقال: إني وجدت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا فلان! اذهب إلى امرأته فسلها، فوجدها مع نسوة فقال لها: إن زوجك يقول كذا وكذا -وإقرار الإنسان لا يكون إلا على نفسه، يعني: ما يلزمك من إقراره غيرك أي شيء- فأقرت ولم تنزع عن إقرارها، وأصرت على إقرارها واعترافها، فأمر برجمها.

هل يشترط تكرار الإقرار؟

هل يشترط تكرار الإقرار؟ وهل يكون الإقرار مرة واحدة، أو مرتين بعدد الشهود في الأموال، أو أربع مرات بعدد الشهود في الزنا؟ الصحيح: أن الإقرار ما دام أنه اعتراف المرء على نفسه يكفي مرة. والذين قالوا: يجب تكراره، استدلوا بقضية ماعز؛ لأنه أتى فاعترف فأعرض عنه، ثم جاءه عن يمينه، وجاءه من أمامه ومن خلفه أربع مرات، لكن الرسول كان يعرض عنه لعله يذهب ويترك إقراره، لا لينتزع منه تكرار الإقرار الموجب للحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولما ألح قال: (أبك جنون؟ قال: لا، لعلك فاخذت؟ لعلك قبلت؟) ، فقال: بل زنيت بها، وكل هذا من دواعي صدقه، وتلك الأسئلة كأنها إيماء له بالرجوع عن إقراره، وسأل أصحابه: (أمجنون هو؟) . قالوا: تكرر اعتراف ماعز أمام رسول الله أربع مرات، فيجب أن يكون الإقرار في الزنا أربع مرات بدلاً من أربعة شهود. لكن جاء رجل برجل وقال: قد سرق، وليس معه متاع، فقال: (ما إِخالك سرقت!) حتى يقول: ما سرقت، ويذهب. وجاء عن علي أنه قال: إذا جاء المعترف بالسرقة أو بالزنا فردوه. إذاً: ليس تكرار إقرار ماعز، وإعراض الرسول عنه؛ لإثبات الحد بل هو يريد أن يدرأه عنه، ويدل على أن الإقرار مرة يكفي قوله في حديث العسيف: (فإن اعترفت) ، وما قال: أربع مرات. إذاً: الإقرار مرة يكفي في الحقوق، أما الرجوع عن الإقرار فهذا مبحث كبير، إذا كان الرجوع عن حد من حدود الله فيصح رجوعه، بل إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ذهب إلى أبعد من هذا، فقال: لو جاء إنسان وأقر على نفسه بالزنا، ولم يعين من زنى بها، أخذ بإقراره؛ لكن إذا عين المرأة التي فعل معها الفاحشة، وسئلت فنفت، فهي لا تؤاخذ بإقراره، ويسقط الحد عن هذا المعترف! لماذا؟! قالوا: لأن الزنا لابد فيه من جانيين، وهذه أنكرت، وقبلنا إنكارها، والزنا لا ينتصف، إذاً: لا يقام عليه الحد، وهذه شبهه، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها إن أقرت أخذت بإقرارها، وإن لم تقر لا يقام عليها الحد. والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته الجهنية ما سألها: مع من زنيت؟ ولما جاءه ماعز ما سأله: مع من زنيت؟ فهو يرغب في الستر على المسلمين، فلا يبحث عن الزناة، بل يسكت عنهم.

من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم

من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المؤلف رحمه الله جزءاً من حديث طويل، وسبق أن كتبت عنه في كتاب صدر باسم: وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع هذا الكتاب فوق الخمسين وصية بنص الوصية، لا كما فعل بعض الناس جمع النصائح من باب الترغيب والترهيب، وجعلها وصايا، بل ذكرت ما فيه: (أوصاني خليلي) ، وهذا الحديث ذكره الشارح الصنعاني وسنشرحه جملة جملة. [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم) ] . هذه الخلة نعمة كبرى، وإذا سمعت هذه الكلمة: (أوصاني خليلي) تحس برقة وتحس بشفافية، وقوة ارتباط: (خليلي) من التخلل، وأصل الخلة: مأخوذة من عيدان الخِلال، أتعرفون الخِلة؟ إن الفلاحين يعرفوها، وقبل ما تظهر المساويك هذه وفرشات الأسنان، كان كوز الخِلة في الجيب دائماً وأبداً، وهي عبارة عن ثمرة فيها أعواد رفيعة دقيقة مثل الإبر التي طرفها عادي، وليست متينة، والكوز يجمع حوالى مائة عود، فكانوا يخَللون بها الأسنان، ينظفون ما بين السن والسن، وما بين السن والسن ضيق جداً، وبعضهم يتخلل بالخيط، فالخلة هذه تدخل بين السنّين بقوة وبضغط، ولا تدع فراغاً بين السن والسن إذا تخلل بها، فكذلك الخلة محبة تتخلل القلب فلا تدع فراغاً لغير المحبوب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أمتى خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، ومنه الخليلة، شديد الحب لها، حتى تخلل حبها قلبه، فلم يبق لغيرها مكان، وهنا قال: (أوصاني خليلي) يعني: حبيبي الذي ملأ حبه قلبي، فلم يعد لأحد مكاناً فيه. وإذا كان الموصى له بهذه الصفة يحب خليله، فسيوصيه بأعظم شيء، وبأحسن شيء؛ لأنها وصية من الخليل إلى الخليل، قال: (أوصاني خليلي) ، من هو؟ ما يحتاج أن يسميه؛ لأن الوصف إذا ذكر مطلقاً صرف إلى أعلى فرد فيه، وأعلى فرد في الخلة والمحبة للصحابة ولكل مسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين) . وكلمة: الوصية وأوصاني لها فقه في اللغة: وصل، وصي، قالوا: إذا اتفقت الكلمتان في المادة في حروفها، واختلفت في حرف واحد، كان بين الكلمتين ارتباط وصلة، فوصي من وصل الحبل، فكأن الموصي يصل الموصى إليه بخير من عنده، فعندما تقول: أوصيك بكذا؛ فكأنك تصله بمعروف من عندك، ومنه الوصية في المال، تقول: أوصيت لفلان بكذا، يعني: وصلته بشيء من مالي.

النظر إلى من هو أسفل منك

النظر إلى من هو أسفل منك قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي) ] . أول جملة في الوصية أن أنظر إلى من هو أسفل مني. والناس في الدنيا قسمان بالنسبة إليك، دونك وأعلى منك، مهما كنت، وإن كنت لا تملك إلا درهماً، فهناك من هو دونك لا يملك درهماً، وهو مريض، فهو دونك. وإن كنت تملك ملياراً، فهناك من يملك مائة ألف فهو دونك، وهناك من يملك المليارات فهو فوقك. إذاً: دون وفوق أمور نسبية، ومهما كنت في حالة من الحالات، فهناك من هو دونك، وهناك من هو فوقك. انظر إلى هذه الجملة! والله! ثم والله! لو أن العالم كله وقف عندها، وطبقها لاستراح، إذا نظرت إلى من هو دونك وعندك مائة ألف، أو ألف ريال، أو في يدك عشرة ريالات، وهو عنده ريال واحد، فصاحب الريال ماذا سيفعل به؟ سيأخذ له رغيفاً من الخبر، وقليلاً من ملح، أو حبتين تمر! وأنت معك عشرة ريال، ستأخذ خبزاً، وتأخذ لبناً، وتأخذ جبناً، وحلواء، فإذا نظرت إلى صاحب الريال وأنت معك عشرة، فهل تقلق وتنزعج أو ترضى؟ ترضى وتطمئن، وإذا نظرت لمن عنده ألف ريال، ستقول: أوه! والله! هذا سيأتي بذبيحة، هذا سيفعل، وتجري على يديك ورجليك من أجل أن تدركه فلا تستطيع، إنسان يمشي وهو يتوكز على عصا، وآخر يزحف على الأرض، وآخر يجري على قدميه، وأنتم في طريق واحد، وأنت تمشي برجلك وتتوكز على عصا، والآخر مر عليكم مثل الفرس، فلو نظرت إلى هذا السريع وأردت أن تجري مثله، تتعب نفسك وتسقط، لكن إذا نظرت إلى هذا الزحاف مشيت على مهلك؛ لأنه يوجد من هو أقل منك. ولو كنت صاحب سيارة، انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى سيارة أحسن من سيارتك، لأنك إن رضيت بسيارتك استرحت، وهي ستوصلك، وإذا نظرت إلى الأخرى تألمت. كذلك في البيوت، إذا نظرت إلى من يسكن في عشة في خيمة في صندقة، وأنت في بيت من اللبن، قلت: الحمد لله معي بيت مبني، وإذا نظرت إلى صاحب الفيلة والعمارة والحديقة ماذا تفعل؟ تبيت كمداً، والحسرة لا تفيدك شيئاً. وفي الملابس قد تقول زوجتك: أريد فستاناً، فتشتري لها بمائتين ريال، فتقول: لا! فلانة عندها فستان بألف، فإذا نظرت إلى من فوقها أرهقت زوجها، وشقت عليه، ونكدت نفسها، وما طابت نفسها بفستان بمائتين، لكن التي ما عندها، ولا شيء، وتستعير ثوباً من جارتها إذا احتاجت، فإذا جاءها فستان بمائة ريال تقول: هذا ليوم العيد، وتفرح به؛ لأنها ما عندها شيء، فلو نظرت المرأة إلى من دونها أراحت نفسها، وأراحت زوجها. وهكذا في الأمور الأخرى، بعضهم يقول: مهر ابنتي كذا. لا، لازم بنتي يكون مهرها كذا، ولو نظر إلى من كان مهرها عشرة ريال أو درهمين لفرح بمهر ابنته، لكن يقول: أريد الزواج في قصر صفته كذا، حتى في مكان الأفراح قد ينظر المرء إلى من فوقه أو ينظر إلى من تحته، وفي جميع أحوال الحياة، سواء في نفسك أنت، أو في ظروف حياتك، كلما نظرت إلى من هو دونك استرحت، وإذا نظرت إلى من هو فوقك تعبت، وكما يقول الناس: الذي يمشي في الطريق مستوياً مستريح، لكن الذي يمشي ونظره إلى السماء، رقبته ورأسه يدوخ. والمقصود من هذا -يا إخوان- القناعة بالواقع، إذا كنت تنظر إلى من دونك، ووجدت نفسك خيراً منه، قنعت بما أنت عليه، وإذا نظرت إلى من هو فوقك لا تعرف القناعة لنفسك طريقاً ودائماً تقلق، وكان والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما جاء الرياض، يأتيه فلوس وهدايا من الملك عبد العزيز الله يغفر له، فقد كان يعطي العلماء في المناسبات، فكان الشيخ حالاً يقسمها على الأرامل، وعلى أسر منقطعة في المدينة من عوائل الشناقط، ويرسل لأهله أيضاً، وكان يكثر من هذا، ففي يوم كنت خالياً معه، فقال: أنا خائف على نفسي، جئت من بلادي بكنز عظيم جداً، والآن أخشى عليه الضياع، قلت له: ما هو هذا الكنز يا شيخ؟! أنا أعرف أن الشيخ في بعض الأحيان لا يجد مالاً، وهذا ليس عيباً في طالب العلم، وكان يرسلني لأقترض له من بعض الأشخاص، فقلت له: ما هو هذا الكنز وأنا اقترض لك من فلان وفلان؟ قال: هو كنز القناعة، كنت قانعاً بكل ما يكون في حياتي وجدت أو لم أجد كله عندي سواء، وفعلاً كانت الأمور عنده سواء، وهذا الكنز من القناعة من أين جاء إليه؟ من النظر إلى من هو دونه. أيها الإخوة! هذه الجملة من الوصية تعطي الإنسان طمأنينة وقرارة نفس، وقناعة بالواقع، وأخيراً الأمر سواء، فصاحب المليارات وصاحب الريالات في النهاية هم مستوون، صاحب المليارات ليس له منها إلا ما أكل وأفنى، أو لبس فأبلى، وأنت ليس لك من دنياك إلا ما أكلت، أو لبست، وصاحب الريالات آكل ولابس، لكن الخلاف في النوعية، هذا يأكل لحماً مشوياً، وهذا يأكل جبناً وفولاً وطحينية، والمعدة ستمتلئ، والفوارق هذه لا يعادل بها طمأنينة النفس. وهذا باب واسع، ومن أراد التوسع في هذه الوصية بالذات فليرجع إلى ذاك الكتاب: (وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم) .

حب المساكين والدنو منهم

حب المساكين والدنو منهم قال: [ (وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم) ] . ولماذا يحبهم؟! ولماذا لا يحب الأغنياء؟ لو قلت: صديقي الأمير فلان، وصديقي التاجر فلان، فأنت إذا صادقت من هو أكبر منك كنت معه في منزلة وضيعة، لو كنت مع كبير التجار، وأنت تاجر صغير، وجالسته في المجالس، فالناس يفضلونه عليك، ويقدمون له التشريف والتكريم دونك؛ لأنهم يرونك دونه. وإذا كنت مع تاجر أقل منك فستكون أنت موضع التكريم. أوصاه أن ينظر إلى من هو دونه، والآخر إلى من هو دونه، وهكذا حتى يصل إلى المساكين، فجالس المساكين، وأحب المساكين؛ لأنهم يحفظون لك دوام النظر إلى من هو أقل منك، والمساكين دائماً وأبداً حياتهم سهلة، لا يكلفونك شيئاً ليس في طاقتك، وهم أقرب الناس إلى الله بالطاعة، وبالذكر، وأقل شيء أنهم لا يظلمون الناس، ولا يعتدون عليهم، ولا يتعاملون معاملة منهياً عنها، ما عندهم شيء، فأحب المساكين، وادن منهم، لا تحبهم من بعيد! بل، أزورهم، أخالطهم، أجالسهم؛ لأكون دائماً على هذا المستوى، وكلما تطلعت نفسي إلى أعلى، أتذكر هؤلاء فيردونني.

صلة الرحم

صلة الرحم قال: [ (وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني) ] . ما دام أنه يحب المساكين وهم قد يكونون غرباء وأجانب، فليصل رحمه، وليس حب المساكين محبة في القلب فقط، بل إذا أحب المساكين عطف عليهم وساعدهم، المسألة ليست بالكلام فقط، والحب هذا يكون جسراً لمنفعة المساكين والعطف عليهم، فإذا كان سيعطف على المساكين ويدنو منهم فذو رحمه أحق بذلك. وذكرت لكم أنه إذا وجدنا صفاتاً متعددة في حديث واحد؛ فلننظر إلى العامل المشترك بينها، فصلة الرحم جاءت مع المساكين بجامع العطف والعطاء، حتى ولو كان ذوو الأرحام أغنى منك، فحقهم عليك أن تصلهم وإن قطعوك. جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إن لي أقرباء أحسن إليهم ويسيئون إلي، وأصلهم ويقطعونني، قال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) ، أي: الرماد الحار، وصلة الرحم غنية عن التنبيه عليها.

قول الحق ولو كان مرا

قول الحق ولو كان مراً قال: [ (وأن أقول الحق ولو كان مراً) ] . (وأن أقول الحق ولو كان مراً) ؛ لأن قول الحق فيه صلة لصاحب الحق، كان الحق ضائعاً خفياً لا يعرفه أحد، فإقراره بالحق كما يعطي المساكين، وكما يصل رحمه، فيعطي صاحب الحق حقه، وكيف يكون الحق مراً؟ لأن الحق ثقيل، فيه إلزام، وله توابع، والكذب ذاهب في الهواء، والحق أمر معنوي، والمرارة أمر حسي، تقول: هذا الطعام مر، وهذا الطعام حلو، والحلاوة والمرارة أمر مادي موجود ملموس؛ ولكن الحق أمر معنوي، وهذا على سبيل التشبيه؛ لأن الحق لو كان مطعوماً لكان مراً كما قال الشاعر: ولم أر كالمعروف أما طعمه فحلو وأما وجهه فجميل المعروف أمر معنوي، وهو الإحسان، لكن شبهه لو كان من الناس لكان جميل الوجه، ولو كان في الطعام لكان حلواً.

شروط صحة الإقرار

شروط صحة الإقرار محل الشاهد من هذا الحديث: أن الإقرار معتبر؛ لأنه إذا أقر بالحق على نفسه أخذ به، وألزم بما أقر به، وهنا تفاصيل عديدة، فما يشترط في المقر؟ ومتى يقضى عليه بإقراره؟ قالوا: يشترط أن يكون عاقلاً، سليماً، بالغاً، حراً، فيعترف بإرادته بغير إكراه، وكونه عاقلاً أخرج المجنون، والمغمى عليه، والمخدر ففاقد العقل فاقد الأهلية، وفي الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يصحو، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) . فلا يعتبر الإقرار حال الجنون، والإغماء، والنوم، فبعض الناس قد يتكلم وهو نائم، وربما يعترف بشيء وهو نائم، فلا يؤاخذ بذلك؛ لأن الإقرار التزام، والالتزام مسئولية، وهذا فاقد المسئولية. قالوا: وأن يكون بالغاً؛ لأنه يقر على نفسه بحق، والصبي ليس عليه التزام، وكذلك أن يكون اعترافه بإرادته لا بإكراه؛ لأنه إذا أكره ألغي إقراره، كما في قوله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، وهذا في أعظم شيء وهو التوحيد، تكلم بما يوهم شركاً، وأقر بما يريدونه؛ ليدفع عن نفسه التعذيب، ولكنه إقرار مكره، ويذكر ابن قدامة رحمه الله أو غيره: أن امرأة أتت عمر وقالت: إن زوجي طلقني ثلاثاً ثم أنكر، فاستدعاه، فقال: كانت دائماً تسألني الطلاق وأمتنع، فذهبت وإياها يوماً نشتار عسلاً -اشتار العسل بمعنى: جناه- في صفحة جبل، فتدليت بحبل إليه -ربط الحبل في قمة الجبل في صخرة، وتدلى بالحبل حتى نزل عند مستوى النحل- فقامت على رأسي وقالت: طلقني، قلت: لا أطلق، قالت: سأقطع عليك الحبل! وإذا قطع الحبل سيتردى ويموت، فقال: أنت طالقة ثلاثاً، قال: فطلقتها ثلاثاً، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه وقال: اذهب لا شيء عليك، لا طلاق في إكراه. فإذا أكره الإنسان على شيء لا يعتبر ذلك، ويبحث الفقهاء عن نوعيه الإكراه، فليس إكراه زيد كإكراه عمرو، بعض الناس يعتبر مجرد التأنيب والعتاب إكراهاً، وبعض الناس لو جلد عشرة أسواط أو عشرين سوطاً، ما يعتبر هذا شيئاً، فالإكراه بحسب الشخصيات، فهذه شروط من يؤاخذ بإقراره. وكذلك يشترط إمكان إقراره عقلاً، فلو أن امرأة ادعت على رجل بالزنا، والشخص الذي ادعت عليه مجبوب الذكر، فجاء ليدرأ الحد عن غيره فقال: نعم زنيت بها، فكشفنا عليه فإذا به ليس عنده آلة الزنا، فهل يكون هذا الإقرار صحيحاً؟ ليس بصحيح، لو جاءت بأربعين شاهداً فواقع الحال يكذب البينة، وكذلك لو قال: هذا ولدي، ونظرنا في السن، فإذا بهذا ولد والمدعي له عمره خمس سنوات. فهل يتأتى هذا؟ لا. يقول المالكية: إذا كان هناك ما يشبه قبول الدعوى سمعت. وعلى كلٍ الإقرار مباحثه طويلة، وهو سيد الأدلة، ولكن تحفه شبهات، ويجب أن يتحرى فيه، ومن أراد التوسع فكتب الفقه تفصل ذلك.

كتاب البيوع - باب العارية

كتاب البيوع - باب العارية من سنن الله عز وجل في خلقه أنه جعلهم محتاجين إلى بعضهم البعض، فلا يستطيع أحد أن يعيش بمفرده دون الآخرين مهما كان، ولهذا شرع الله عز وجل للناس التعامل فيما بينهم البين، وبين لهم ما يحل من هذه المعاملات وما يحرم، ومن هذه المعاملات التي أباحها الله عز وجل للناس لحاجتهم إليها: العارية، بل إن الله عز وجل ندب إليها وتوعد من يمنع الماعون.

حديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)

حديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم] . هذا الحديث ليس فيه نص في ذكر العارية، ولكن فيه: (على اليد ما أخذت) ، سبحان الله! هل اليد هي الآخذة أو الإنسان هو الذي يأخذ بيده؟! الجواب: هو الإنسان ولكن هذا من البلاغة؛ لأن اليد هي المباشرة، فأسند الفعل إليها، وأما حقيقة فليست هي الآخذة ولكنها آلة الأخذ، وهنا (اليد) (الـ) هنا للجنس أي: كل يد (عليها ما أخذت حتى تؤديه) . (تؤديه) يعني: ترده من حيث أخذته، ومن أين أخذته؟ أخذته من شخص جاز التصرف فيه.

الأشياء التي تصح إعارتها

الأشياء التي تصح إعارتها (ما أخذت) (ما) عام يخصص بما يجوز أخذه وهو الذي تجوز إعارته، وقد وسع الفقهاء فيما تجوز إعارته حتى قالوا: العبد والجارية. لكن ينص الحنابلة في بعض كتبهم: على أنه لا تصح إعارة الجارية في موطن الفتنة، كما لو أعيرت لرجل تخدم عنده وليس عنده أحد فهو سيخلو بها، وهذا لا يجوز، لكن إعارة الجارية لامرأة لا بأس بها.

وجوب رد العارية

وجوب رد العارية (على اليد ما أخذت) أخذت ممن؟ ومن أين؟ وهل أخذت سرقة أو أخذت غصباً؟ المراد: أخذت من مالك العارية أو من ينوب عنه. (حتى) وحتى: حرف غاية، (تؤديه) أي: ترده من حيث أخذته، واستدلوا على وجوب ردها بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، والحديث عام في كل ما أخذته يد من غيرها، إذا استأجرت عيناً، أو استأجرت سيارة فعليك أن تؤديها: (على اليد ما أخذت) وهي في ضمانها حتى تؤديه، فإذا استعرت أرضاً مثلاً: فعليك هذه الأرض حتى تؤديها، أو استعرت داراً تسكنها، أو دكاناً تستخدمه، أو دابة تركبها، وكل ذلك مما تصح إعارته فعليك ضمانها، وعليك حفظها. (على اليد ما أخذت) هنا يقولون: في الحديث محذوف مقدر يرجع تقديره إلى حكم العارية. أي: مؤداة أو مضمونة. فإن كانت مؤداة فعلى اليد حفظها، وإن كانت مضمونة فعليها ضمانها. أي: على اليد ضمان ما أخذت، وعلى اليد حفظ ما أخذت، وكلا التقديرين وارد. وعليه يأتي البحث في العارية أمضمونة هي أم مؤداة؟ والفرق بين مضمونة ومؤداة: المضمونة لو تلفت بصرف النظر عن صور الإتلاف فيما تلفت، وقلنا: عليه الضمان ضمن القيمة أو المثلية، والقيمة إن كانت مقومة، والمثل إن كانت مثلية، وأما مؤادة فالموجود منها يرده ويؤديه إلى صاحبها، والتالف لا ضمان فيه. إذاً: العارية من حيث هي مندوب إليها في الحكم، وقد ذم الله مانعيها في عموم قوله سبحانه: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] ، ثم يأتي الكلام عن أنواعها وعن أحكام المعير، والمستعير، والضمان. إذاً: (على اليد ما أخذت حتى ترده) ، هل في هذا الحديث تنصيص على ضمان أو عدم ضمان؟ يقول العلماء: ليس في الحديث تنصيص وإنما فيه تقدير نحتاج إليه: (على اليد ما أخذت حتى ترده) ماذا عليها؟ بعضهم يقول: على اليد حفظها وضمانها، وقيل: على اليد أداؤها، وعلى كلا الوجهين جاءت الأقوال والمذاهب في الضمان وفي الأداء وعدم الضمان، وكل له وجهة، وتحقيق المناط هنا في الأداء أو الضمان ما لم يوجد تعدٍ أو إفراط، فإذا تلفت في إفراط أو تعدٍ فيكون بالإجماع ضامن، وأما إذا تلفت في عين ما استعيرت له فهنا جاء الخلاف: فإذا استعار دابة ليركبها فذهب وحمل عليها الحطب فتلفت، فهو بهذا قد تعدى، وإذا استعارها ليركبها من المدينة إلى قباء فذهب وحملها خشب من البيت إلى قباء، فهو بهذا قد استعملها في غير ما استعارها له. فهو بحمل الخشب عليها قد تعدى، فإن تلفت تحت الخشب فهو ضامن باتفاق، وكذلك إذا تلفت بتفريط، فإذا استعارها ثلاثة أو أربعة أيام ليركبها، ولما وصل إلى البيت لم يعطها ماءً ولا علفاً فتلفت فهذا فيه تفريط. وإذا استعرت سيارة ومشيت بها من غير زيت، ولا ماء، ولا كشفت على كذا ولا على كذا، ومشيت بها في محلات وعرة فبنشرت الكفرات، وعطلت المكينة، فأنت بهذا قد حصل منك تفريط في عدم النظر فيما تحتاج إليه السيارة، وتعدٍ في مشيك بها في طريق غير معبد لا تمشي فيه السيارات، ففي هذه الحالة لا خلاف في ضمانها. ولكن الخلاف في نقطة واحدة والبحث محصوراً عليها وهي: فيما لو استعارها ليركبها فركبها وفي أثناء الطريق قبل أن يصل إلى الغاية التي استعارها من أجلها وسماها لصاحبها تلفت تحته، فهنا يأتي الخلاف، ولكن إن استعارها للفريش فقال له: أعطني دابتك، أو أعطني سيارتك أتوصل عليها للفريش -منطقة- وآتي، فلما وصل تعداها إلى المساجيد -منطقة- والذي سافر على الجمال يعرف المساجيد، أو الطريق الأول قبل طريق الهجرة. استعارها لمكان معين ولكنه تجاوز المكان، فتلفت في حدود المجاوزة، فهو ضامن، ضامن الأجرة؛ لأن صاحبها لم يأذن له في تلك الزيادة، وضامن عينها إن تلفت في تلك الزيادة؛ لأنها تلفت بسبب التعدي. إذاً: أهم مباحث العارية أولاً: الندب إليها وتذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول: إنه كان عندها ثوب قطري -نسبة إلى قطر- ثمنه خمسة دراهم وما كانت امرأة تتزين في المدينة إلا استعارته. الآن يستأجرون من الكويفيرة أو يذهبون إلى المرأة التي تعنى بتهيئة النسوة أو العرائس فعندها أنواع من ثياب العرائس، وبعض الناس لا يقدر أن يشتري بدلة عروسة فيستأجر أو يستعير، وقد كان نساء الأنصار رضي الله تعالى عنهن ربما استعارت المرأة منهن ثوباً لتخرج إلى حاجتها إذا لم يكن عندها ثياب تخرج بها. والذي يهمنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تعير ثياباً كانت عندها. إذاً: هذا من استباحة المنفعة بغير عوض؛ لأنه مأذون فيه من صاحب العين، وعليه أن يرد العين بعد استيفاء منفعتها، وهذا من أهم المرافق بين المسلمين وتعاطفهم وتعاونهم.

الخلاف في معنى الحديث

الخلاف في معنى الحديث إذاً: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) استدل به من قال: بأن العارية مضمونة، والآخرون ينازعون في الاستدلال بهذا الحديث ويقولون: الحديث محتمل تقديرين: الأول: على اليد حفظ العارية. والثاني: على اليد ضمان العارية. فعلى تقدير الحفظ فهو ليس بضامن، وعلى تقدير الضمان فهو ضامن، ولا نزاع فيما لو تلفت بتعدٍ أو تفريط.

من فوائد حديث: (على اليد ما أخذت.

من فوائد حديث: (على اليد ما أخذت ... ) ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا كان للعارية مئونة رد فهي على المستعير، فإذا استعرت سيارة من المدينة لتصل بها إلى آبار علي فوصلت، فليس من حقك أن ترجع إلى صاحبها وتقول له: سيارتك في آبار علي اذهب فخذها؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديها. إذاً: عودتها من آبار علي إلى صاحبها بالمدينة على المستعير، ولو تلفت هناك أو تعطلت فالمسئول عن إعادتها هو المستعير، ثم ننظر هل هو ضامن للعطل فعليه أن يصلحه أو ليس بضامن، وهكذا إذا استعار شيئاً آخر فإن عليه أن يرده من حيث أخذه وأجرة الرد على المستعير.

حديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك.

حديث: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك ... ) قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه، وصححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي، وأخرجه جماعة من الحفاظ. وهو شامل للعارية] . الحديث الثاني في هذا الباب أيضاً أعم من العارية، (أد الأمانة إلى من أئتمنك) انظر: (من ائتمنك) : يعني: لا تخلف ظنه فيك، ائتمنك واعتبرك أميناً، فأمَّنك أمانة، والأمانة والأمن مأخوذان من لفظ واحد فكأنه آمن على سلعته عندك، وهي آمنة عندك من الضياع، وأنت أمين عليها، فيجب عليك أن تحفظها. (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) : إذا خان: فهل خيانته إياك عيب أو مدح؟ وهل فيها إثم أو أجر؟ الجواب: فيها إثم، فإذا كنت أنت تستنكر عليه أنه خانك فكيف ترتكب ما تنكره عليه؟! قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، فعليك أن تؤدي الأمانة إلى صاحبها، والأمانة: لفظ عام شامل سواءً كان في الحقيقة أو المجاز. أبو طلحة لما مرض ولده وكان شغوفاً به وكلما دخل سأل عنه زوجه أم سليم، وفي يوم من الأيام توفي الطفل وأبو طلحة غير موجود، فقالت لأهله: لا يكلمه أحد قبلي، فلما جاء سأل عن الولد فقالت: إنه في غاية الراحة -ما كذبت ولكن ورّت- فهيأت له عشاءه ثم تهيأت له حتى قضى حاجته. وانظر إلى القدرة والتحمل عندها، فولدها مات ولم تنزل عليه دمعة عين، ولم يحصل منها ولولة ولا صياح ولا بكاء، واستقبلت زوجها بهذا الاستقبال، حتى في نفسها، فتجهيز الطعام أمره سهل، ولكن أن تتهيأ وتمكنه من نفسها، فأي نفس تقبل هذا الآن؟ ولكن هذا منها كان وفاءً بحق الزوج، وأين هذا الصنف يا إخوان؟! وأين هذه النوعية من النسوة؟ إنها نسوة الصدر الأول من السلف الصالح، فهذه هي الزوجة التي تعين زوجها على كل خير، وتكون فعلاً سكناً له. لما قضى حاجته قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو كان لجيرانك أمانة عندك فطلبوها أتؤديها إليهم أم تمسكها عندك؟ قال: بل أؤديها. قالت: إذاً: إن الله قد أخذ ولدك، فقم فواره، فغضب وقال: سكتِ عليَّ حتى أكلت، ودنوت مني حتى اقترفت، ثم تقولين: وار ولدك، ثم غدا في الصباح يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتبسم وقال: أعرستما البارحة؟ قال: نعم، قال: بارك الله لكما في ليلتكما) ، فأنجبت الولد المبارك وكان منه الخير الكثير. إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) أياً كان نوعها على سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة، والمراد هنا: الأمانة الحقيقية العينية، ائتمنك على كتاب، ائتمنك على أوراق، أئتمنك على نقد، على آلة، على أي شيء، فأي عين ائتمنك عليها فأدها إليه.

حكم خيانة الخائن

حكم خيانة الخائن قال: (ولا تخن من خانك) وفي هذه المسألة يقولون: لو أن الذي خانك وأخذ من مالك ولم يرده ولم تقدر على أخذه منه جهراً فظفرت له بمال سراً أو خفية أو دون علم منه، فهل تأخذ حقك مما ظفرت به من ماله أو تؤديه إليه كاملاً وتطالب بمالك الذي أخذه من قبل؟ للعلماء في هذه المسألة مباحث طويلة، وقد أطال ابن عبد البر في هذه المسألة وكذلك ابن رجب عند حديث: (لا ضرر ولا ضرار) لمناسبة عندهم فيه، وهذه المسألة تسمى عند المالكية في الفقه بالاعتصار: من العصر، أي أنه يعتصر حقه مما ظفر به من مال خصمه، ويقول ابن عبد البر: إنه إن أخذ حقه، أي: مقابل حقه لم تكن خيانة؛ لأن الخيانة هي: أخذ الشيء ظلماً، وهذا حينما أخذ هل اعتدى على صاحب المال وظلمه أو استرد حقه؟ استرد حقه. وابن حزم يقول: يتعين عليه أن يأخذ؛ لأن في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه عن الظلم) فأنت حينما تأخذ حقك من ماله فقد ردعته عن الظلم ورفعت المظلمة التي كانت عنده لغيره، وتغيير المنكر واجب. والجمهور يختلفون، وابن عبد البر يجيب عن هذا الحديث: (ولا تخن من خانك) ، ويستدل بجواز أخذ الحق بأدلة أخرى مع تفصيل إن كان المال الذي ظفرت به هو من عين مالك، فإذا كان قد اغتصب عليك صحوناً فضفرت بعشرة صحون له، وهو أخذ منك خمسة فخذ خمسة ورد له الخمسة، وكذلك إن كان المال الذي أخذه عليك دراهم وظفرت بدراهم له، أو دنانير فإن كان من غير عين ما خانك به فهل تأخذ مقدارها أم لا؟ إذا خانك في لباس، أو في ثياب، وظفرت له بمال فضة أو ذهباً وهذا المال من غير جنس ما أخذ منك فهل تأخذ قيمة ما خانك فيه؟ على هذا الخلاف الذي يذكرونه عند هذا الحديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ويقول ابن عبد البر: لا تخن من خانك. أي: بعد أن أدى إليك ما كان قد خانك فيه، فإذا كان قد خانك في مال ثم أداه إليك ثم ظفرت له بمال بعد ذلك فلا تأخذ من ماله وتقول: لأنه كان قد أخذ مني، وكان قد خانني، فالمعاملة قد ارتفعت ولم يعد الآن خائناً لك؛ لأنك قد استوفيت حقك منه. فقوله: (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفائه حقك، أما قبل وفاء الحق إذا أخذت حقك من ماله فلست بخائن، واستدلوا على ذلك بحديث هند مع أبي سفيان لما قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي عيالي أفآخذ من ماله ما يكفيني؟ قال: خذي من ماله ما يكفيكِ ويكفي عيالكِ بالمعروف) ، فهو أمسك عنها وقصر عنها في النفقة وهذا يُعد خيانة، وهي ظفرت بماله تحت يدها فتأخذ من ماله ما يسد حاجتها، فهل هي خائنة؟ قالوا: لا؛ لأن الخيانة تنتفي إذا كانت بالمعادلة، كما جاء في عموم قوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ، والمجازي على السيئة ليس مسيئاً والمعاقب على قدر ما عوقب به ليس معاقباً وإنما مسترد للحق. إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) ، هذا صفة عامة. و (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفاء الأمانة، وأما من أخذ حقه من الخائن فهو ليس بخائن. (لا تخن) أنا ما خنت ولكن أخذت حقي.

حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا)

حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) قال المؤلف رحمه الله: [وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً، قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان. وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: (أغصب يا محمد؟! قال: بل عارية مضمونة) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم: وأخرج له شاهداً ضعيفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما] . قوله: عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) . يسوق لنا ابن حجر رحمه الله في نهاية باب العارية هذين الحديثين: حديث يعلى وحديث صفوان، فـ يعلى يقول: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) ، مبدئياً في هذا الجزء من الحديث ما يدل على أن للشخص أن يرسل رسولاً عنه في قضاء حاجته، ويكون بمثابة الوكيل في القبض، فإذا سلّم المرسل إليه الرسالة إلى هذا الرسول فكأنه سلمها إلى من أرسله. (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) الدرع هو: لباس من زرد الحديد، حلق صغيرة، فراغ الحلقة أقل من الـ (سم) ينظم بعضها في بعض حتى تكون كالثياب على صورة القميص، يلبسها الفارس ليتدرع بها من وقع السهام أو الرماح أو السيف، وتختلف جودةً ورداءةً وطولاً وقصراً إلى غير ذلك، وهي من أهم آلات الحرب. وفي هذا الحديث: الاستعانة في أداة الحرب بالعارية مع قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ، ما يدل على أن استعداد المسلمين يكون بصنعهم وبملكهم وبالاستعارة من غيرهم، ومثل الإعارة الإجارة، ومثل الإجارة الشراء ولو من غير المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى يعلى وقال له: (أعط رسلي ثلاثين درعاً) . وهنا يستوضح يعلى: (أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟) ، المؤداة هي: التي تبقى بعد استعمالها على ما كانت عليه فيؤديها للمعير، والمضمونة هي: التي إذا تلفت -وتحت كلمة تلفت ضع خطين- تلفت فيما استعيرت له أو تلفت بتعدٍ أو تقصير يضمنها المستعير، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مؤداة) . وقوله: (مؤادة) ، الفقهاء يتفقون ويقولون: إذا كانت العارية مؤداة فالتالف لا ضمان فيه، بخلاف العارية المضمونة، فما بقي على طبيعته رده بعينه وما تلف فيما استعير له أو بتعدٍ أو بتفريط فهو ضامن، وقوله: (مضمونة) يعني: يعوض عن التالف إن كان مثلياً فبمثله، وهذه الأدرع إذا تلفت فعليه أدرع مثلها من نوعها ومن مقاسها، وإن كان في الوقت الحاضر فهناك أواني معروفة الماركة، أو المساحة، أو المقياس، فعليه مثلها. وهذا الحديث نص في أن العارية مؤداة. ومعنى مؤداة: أن العين الباقية على ما هي عليه أولاً ترد، والتالفة لا ترد، ولا ضمان فيها، وفي حديث صفوان: (بل عارية مضمونة) وهذا من تعارض الأحاديث، وهي مهمة هذا الكتاب، بلوغ المرام لأدلة الأحكام. فالفقهاء مختلفون في العارية هل هي مؤداة أو مضمونة؟ فمن قال: مؤداة استدل بحديث يعلى. ومن قال: العارية مضمونة استدل بحديث صفوان. إذاًَ: إذا وقع الخلاف في الحديث وأخذ كل إمام برواية أو بحديث مغاير للآخر وكلا الحديثين صحيحان فهل يمكن أن يعيب من قال بأحد القولين على من قال بالقول الآخر؟ مثلما يقول الشناقطة: (ما بال بائك تجر وبائي لا تجر) فلا تعب عليَّ وأنا آخذ بحديث صحيح، كما أني لم أعب عليك حينما أخذت بحديث صحيح، فكلانا مستدل بدليل شرعي، ولكن هناك خطوة أرقى وهي: النظر في مختلف الحديث إلى ما هو الراجح وهل المسألة اتفاقية؟ وهل كل من الطرفين متساوٍ مع الآخر؟ وهناك أشياء قال فيها ابن القيم رحمه الله: لا اعتراض على أحد إذا أخذ بأحد الأقوال فيها لصحة أسانيدها، وهي: ألفاظ الأذان، والصوم في السفر أو الفطر، والتيمم ضربتان أو ضربة واحدة، فالأذان هل يربع ويرجع فيه أم لا؟ وهل الإقامة مثل الأذان أم لا؟ ومن أخذ بتربيع التكبير أو بتثنيته وجعل الإقامة كالأذان أو أفردها فالكل صحيح، ومثل هذا أنواع المناسك في الحج: فمن أخذ بأحدها: أخذ بالإفراد، أو أخذ بالتمتع، أو أخذ بالقران فنسكه صحيح؛ لأن كل نسك فيه نصوص صحيحة، ولا ينبغي الخلاف فيها ولا الاعتراض على من خالف غيره؛ لأنه إن ذهب إلى واحد منها فبدليل صحيح والآخر إن ذهب إلى غيره فبدليل صحيح، فلا خلاف، وهذه المسألة قد أطالوا فيها القول. ونأخذ الكلام على حديث صفوان أولاً: عن موضوعه، ثم نرجع إلى القضية من صلبها لا من خارج عنها إن شاء الله. وصفوان يقول هذا بعد فتح مكة وكان صفوان لا زال على دين قومه، وكان هذا في غزوة حنين في عام الفتح، عند أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هوازن قد جمعت له، فبادرها قبل أن تبادره؛ لأنه كان يعلم قوة هوازن، وكان قد خرج معه من المدينة عشرة آلاف مقاتل وتهيأ معه من مكة ألفان فصاروا اثني عشر ألفاً والعشرة الذين جاءوا من المدينة جاءوا بسلاحهم وبكامل عدتهم، وأما الذين جاءوا معه من مكة فالبعض منهم ينقصه شيء؛ لأن البعض خرج لإسلامه، والبعض خرج حمية لقومه، والبعض خرج للنظر وللغنيمة. فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم دروعاً لهذا العدد الجديد، وهو يعلم أن صفوان عنده دروع عديدة، فأتاه وسأله، وصفوان ما زال على دين قومه لم يسلم حتى قيل: إنه هرب ثم رجع، فطلب منه مائتي درع، وقيل ثمانين، وقيل: مائة، وقال له: (وتوصلها إلينا إلى حنين) ، أي: أعرنا إياها وعليك حملها تبرعاً من عندك، وهنا سأل كما سأل يعلى: هذه العارية على أي أساس على أنها مضمونة أو على أنها مؤداة؟ فكان جواب رسول الله لـ صفوان: (بل مضمونة) .

حكم الاستعانة بالكافر

حكم الاستعانة بالكافر وهنا قبل أن نأتي إلى الدروع نأتي إلى ما هو أهم من ذلك، صفوان لا زال على دين قومه مشركاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل مشركين، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويستعين بـ صفوان ويستعير منه أدرعاً وصفوان ما زال مشركاً، فهل في هذه الاستعارة استعانة أو لا؟ الجواب: نعم، فيها استعانة، وهي استعانة بمشرك. إذاً: نقف هنا ونقول بكل وضوح إلى أنه لا مانع للمسلم إن احتاج أن يستعين بغير المسلم على عدو دينه سواءً كان العدو مشركاً أو كتابياً أو غير ذلك، وهذه المسألة كنا قد سمعنا فيها سابقاً كلاماً كثيراً وما أحببنا الخوض فيها ولا الوقوف عليها أو تناولها. واستدل بعض الناس بحديث: (ارجع فإنا لا نستعين بمشرك) وكتبت الصحف في ذلك وتكلم الناس واستدلوا بما ذكرنا بحديث الرجل الذي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء وقال: (خرجت أقاتل معك -حمية لقومه- وأرجو الغنيمة، فقال له: أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع لا نستعين بمشرك) ، ثم رجع إليه وفي المرة الثالثة (قال: نعم، أسلمت، قال: فامض إذاً) فهناك يقول: (لا نستعين بمشرك) وهنا يستعير من مشرك، والناس لهم في هذا نظران: قالوا: إن غزوة بدر كانت في السنة الثانية فقال: (لا نستعين بمشرك) من أجل ترسيخ العقيدة، ووضع خط الفصل بين الإيمان والشرك، وعزل المؤمنين عن المشركين واستقلالهم بذاتهم وتميزهم، وأما في حنين فقد تميز الإسلام بذاته، وأصبحت له خصوصيته ومكانته ودولته فلا يضره بعد ذلك مخالطة المشركين. وبعضهم يقول: ما كان في بدر فهو في السنة الثانية وما كان في حنين فهو في السنة الثامنة والمتأخر ناسخ للمتقدم، ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث هذه المسألة في أضواء البيان وذكر فيها أقولاً عديدة، ورجح جواز الاستعانة بغير المسلم ما لم يكن في ذلك حيف أو مضرة على الإسلام أو المسلمين. وفي قصة الهجرة التي هي من أخطر أحداث الإسلام كان الصديق رضي الله تعالى عنه حينما كان مع رسول الله ذاهبين ليلاً من البيت إلى الغار فكان يمشي تارةً خلفه وتارةً أمامه وتارةً عن يمينه وتارةً عن يساره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالك يا أبا بكر؟! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، قال: أوددت لو كان شيء أن يكون فيك أنت؟ قال: نعم، يا رسول الله! إن أهلك أهلك وحدي أما أنت فمعك الرسالة) ، فهذه مخاطرة في الخروج في الهجرة في كونه يشق مواقع ومنازل القبائل المعادية ويخاطر أمام فداء بمائة ناقة لمن أتى به حياً أو ميتاً، ولكن عناية الله هي التي كانت ترعاه. فهنا حدث الهجرة من أخطر أحداث الإسلام ولهذا لما فكر عمر بنظره الثاقب ونوره الإيماني بوضع التاريخ اعتبر الهجرة هي بداية التاريخ؛ لأن بها انتقل الإسلام من المطاردة إلى المهاجمة، ومع هذه الخطر كان دليل الركب في الهجرة عبد الله بن أريقط. وعبد الله بن أريقط كان على دين قومه ومع كونه على دين قومه كانوا يأتمنونه على أرواحهم ورواحلهم وزادهم وأسرارهم، وتواعدوا معه عند الغار بعد ثلاث؛ لأن عنده المروءة، والرجولة، والصدق، والوفاء، وهذه جعلته يتعالى فوق الماديات، فضحى بنفسه، وما ذهب يقول للمشركين: تعالوا أنا أدلكم عليهما وأعطوني المائة حتى تكون غنيمة لي طول عمري؛ ولكن هذه المائة لا قيمة لها في الغدر، ففي هذه القصة استعانة بمشرك في أخطر وقائع الإسلام. نأتي أيضاً إلى تعامل الرسول في المدينة مع اليهود فقد كان يعاملهم ويبيع ويشري منهم، وفي نهاية الأمر كان درعه مرهوناً عندي يهودي في ثلاثين صاعاً من طعام، فبالنظر إلى قضية صفوان نهدئ ما في ثائرة نفوس بعض الإخوة في قضية (لا نستعين بمشرك) ويمكن الاستدلال أيضاً من نفس الواقعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى بدر هل خرج لقتال جيش أو لأخذ عير؟ الجواب: خرج لأخذ عير، يعني: أنه في غنىً عن أن يستعين بمشرك، ولا توجد حاجة داعية لهذه الاستعانة، لكن إذا كانت الحاجة داعية فسيتغير الموقف ويتغير الحكم، فلو قلنا: إنه رده في بادئ الأمر ليتميز الإسلام عن غيره بخط واضح عريض فلا بأس بهذا القول، وإن قلنا إنه رده كما يقول بعض العلماء: لعلم رسول الله بما أعلمه الله أنه إذا رده يسلم فيكون رده لا لكونه مشركاً ولكن بغية أن يسلم، ولكن هذا الشيء نحن لا ندخل فيه؛ لأنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمال التشريعية هي للأمة وهو ما عنده علم بأنه سيسلم أو لا يسلم. لكن إذا قلنا: بأن الواقعة التي توجه إليها صلى الله عليه وسلم في نظره وفي تقديره وفي حكم القوة والعسكرية كما يقال، تدل على أنه ليس في حاجة إلى عدد كثير؛ لأنه عند خروجه من المدينة قال: (من كان ظهره حاضراً فليركب) واستمهلوه أن يأتوا برواحلهم من العوالي، فقال: ما أنا بمنتظر، فإذا كان ما هو بمنتظر للمسلمين فهل يبقى في حاجة إلى أن يأخذ مشركاً؟! وأما هنا فالموقف مغاير؛ لأن هوازن ذات شوكة، ونحن نعلم ماذا حدث حينما بادروهم بالنبل عند نزولهم الوادي فرجعوا حتى نادى رسول الله العباس وأمره أن ينادي أصحاب الشجرة -أهل بيعة الرضوان- وأهل العقبة فناداهم فرجعوا والتفوا حوله وكان النصر، فلم تغن عنهم كثرتهم في ذلك اليوم. إذاً: هو كان في حاجة إلى عدد أكثر، وفي حاجة إلى عتاد يوازي أو يغطي حاجة العدد الجديد الذي خرج معه من مكة. إذاً: نحن في الوقت الحاضر قد تطرأ على المسلمين أحداث، ويكون عدوهم أكثر منهم عتاداً وعدة ورجالاً، ونجد من غير المسلمين من يمد المسلمين بالإعارة أو بالإجارة أو بالهبة أو بأي صفة كانت، فهل نتوقف عن هذه الإعارة أو الإجارة ونترك العدو يتمكن منا أو نقبل عارية المشرك أو حتى ما وراء الآلة؟ الجواب: أننا نقبل، وقد ذكرت لكم كلمة الملك فيصل رحمه الله في هيئة الأمم، عند أن استحكم المعسكر الشيوعي وبدأت المملكة في مبدأ تنويع مصادر السلاح؛ لأن وحدة مصدر السلاح خطر على الأمة؛ لأن الأمة تكون تحت رحمة مصدر سلاح واحد، وأنتم تعلمون أن في حرب العبور بعض الدول سحبت طيرانها من المعركة، فلو كان الاعتماد على جهة واحدة لوقفنا، وروسيا بالذات امتنعت أن تقدم قطع الغيار لطيرانها الموجود في مصر إلا بدفع القيمة نقداً وبالعملة الصعبة، ومصر في ذلك الوقت ليس عندها عملة صعبة ولا سهلة؛ لأنها في حرب، خرجت من ثلاثة حروب، فكيف يكون الحال؟! واعتقد أن هذا ليس بسر؛ لأنهم يقولون: أخبار الحروب بعد خمس عشر سنة لم تعد سراً، فالملك فيصل سجل أعظم موقف في الحروب وفي التاريخ، فلما أخبره السادات بالموقف استشار الملك فيصل مستشاريه الماليين فقالوا: ما عندك مال، فقال: بل عندي، فقالوا: نحن المختصين بالمال نعرف أنه ليس عندك، وأنت تقول: عندي، فمن أين؟ قال: من رصيد الريال في البنك الدولي، فالريال كان ضمانه كاد أن يصل إلى مائتين في المائة ويصير من العملة الصعبة، فأخذ من رصيده شيكاً مفتوحاً ودفع للسادات ما دفعه لروسيا قيمة قطع الغيار واستمرت الحرب. وهنا أخذ الملك فيصل في ذاك الوقت سلاحاً من روسيا شراءً، فقالوا له: أنتم دولة إسلامية وتحاربون الشيوعيين ثم تشترون منهم سلاحاً! فقال: أنتم امتنعتم أن تبيعوا لنا ونحن اشترينا منهم حديداً مصنعاً وليس مبادئاً شيوعية، أي: أن الذي اشتريناه هو حديد مصنع ليس فيه مبادئ شيوعية، والمدفع الروسي والمدفع الأمريكي كلاهما حديد مصنع وليس بينهما فرق. يهمنا أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم واستعارته الدروع من صفوان وهو على دين قومه مبدأ من مبادئ الحروب مع العدو إذا احتاجت الأمة من غيرها عتاداً عارية أو شراءً أو استئجاراً.

لماذا استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان عارية مضمونة ومن يعلى عارية مؤداة؟

لماذا استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان عارية مضمونة ومن يعلى عارية مؤداة؟ وهنا ننظر في جوبه صلى الله عليه وسلم وموقفه من إعارة دروع صفوان وإعارة دروع يعلى له، فهذه دروع وهذه دروع، وهذه إعارة وهذه إعارة، لكن واحداً منهم يقول له: (مؤداة) والثاني يقول له: (مضمونة) . فهل نستطيع أن نتوسع ونقول -ما وجدت من نبه على هذه- إن الذي قال له: (مؤداة) هو مسلم صحابي جليل ومن واجبه أن يساهم في القتال والجهاد بنفسه وماله، فإذا كانت عنده دروع واحتاجها المسلمون فالواجب عليه أن يقدمها؟ وهنا يقول: هي لكم يا رسول الله! لأنه مسلم وهو مطالب بالجهاد، وقد توفرت عنده آلة قتال، وطلب منه الرسول إعارتها، فلا أقل من أن يعيرها ولكن بأخف الأمرين: (مؤداة) ؛ لأنها إذا تلف منها شيء فالرسول هو الذي استعارها، وهو استعار هذه الدروع للقتال، وهذا القتال هو في سبيل الله، فكيف يغرمهم ما أتلفوه في سبيل الله وهو مسلم، بل الواجب عليه أن يقاتل ويساهم. إذاً: هذا واجب، ويشهد الله أن نفسي مستريحة له، لكن صفوان لو قال: لا أعيرك يا محمد! فله الحق؛ لأن هذا ماله، وهو على غير دين الإسلام، وسيقاتل بها النبي صلى الله عليه وسلم بني دينه، فلو قال: لن أعطيكم، فما بقي إلا الغصب، وما بقي إلا أن يقال: محمد يغتصب، ومحمد يسلب أموال الناس وغيرها من ألفاظ التشنيع، لكن يقابل موافقته وهو مشرك أن يعير المسلمين أدرعه ليستعينوا بها على قتال أهل دينه فهذا منه كافٍ جداً، وتلفها في الحرب ليس على صفوان منه شيء، سواء انتصروا أم انهزموا. إذاً: من حق صفوان أن تكون عاريته مضمونة. إذاً: على هذا لا خلاف ولا نزاع ولا ينبغي أن ينصب الخلاف في العارية هل هي مضمونة أو مؤداة، فلكل عارية ظروفها. ولذا فإن من الفقهاء من توسط وقال: مضمونة إن اشترط ضمانها، وبعضهم يقول: ليست مضمونة ولو اشترط الضمان، وعبارة ابن قدامة في المغني: والعارية مضمونة وإن شُرط عدم ضمانها. أي: هي بذاتها مضمونة. ثم نرجع إلى صلب الموضوع، ما الذي جعل كلاً من الأول والثاني يتساءل هل هي مضمونة أو مؤداة؟ ألا يوحي هذا التساؤل إلى أن تعاملهم في العارية كان بحسب الشرط؟ الجواب: يوحي إلى أنه كان فيها قبل ذلك أحكام صادرة، وإلا لما سألوا، فلو كانت مؤداة قولاً واحداً والعرف عندهم فيها الأداء فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا، وإن كانت مضمونة والعرف عندهم فيها الضمان فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا؛ لأن العرف محكم، لكن أظن -والله تعالى أعلم- أنهم فيما بينهم كانت العارية عندهم على الأمرين، أي: بحسب الشرط، فإن اشترط ضمانها فهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها فهي مؤداة. إذاًَ: نستطيع أن نجمل القول في العارية حتى ندخل في الباب الذي بعد هذا وهو باب الغصب؛ لأن مباحثه واسعة، وحتى لا يفوت علينا مثل الذي فات في موضوع العارية نقول: العارية من حيث الضمان وعدم الضمان مندوب إليها، فإذا استعرت شيئاً من حق أخيك المسلم فعليك أن ترفق به وأن ترده، والعارية هي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها من حق المال) ، فالإبل يعار فحلها ودلوها ومنيحتها وحلبها على الماء إلى غير ذلك، ومدلول يمنعون الماعون كما فسره ابن عباس القدر والقدوم والميزان إلى آخره. فإذا كان مندوباً إليها فلا ينبغي أن تمنع أخاك شيئاً ينتفع به ولا مضرة عليك بذلك، ولكونها مندوبة يجب ردها في أي وقت طلبها صاحبها؛ لأنها في يد المستعير أمانة، ولكن يقولون: إلا إذا كان عند طلبه إياها يترتب على ردها مضرة للمستعير، ويمثلون على ذلك بلوح خشب فيما لو استعاره ووضعه في السفينة فجاء صاحبه في نصف البحر وقال: أعطني اللوح حقي، فلو أعطاه فسيغرق وينزل إلى قاع البحر، فلا يمكن أن يرد اللوح في هذا الوقت، بل على صاحبه أن يصبر حتى يخرج المستعير إلى البر ويخلع له لوحه ويعطيه إياه، وكذلك لو استعار سيارة من إنسان من المدينة النبوية إلى جدة وفي نصف الطريق قال له: أعطني سيارتي، فقال المستعير: وأنا أين أذهب؛ لأنه مقطوع ما عنده سيارة أخرى. إذاً: عليه أن يردها، حين طلبها المعير ما لم يكن في ردها مضرة على المستعير.

حكم إعارة العارية وتأجيرها

حكم إعارة العارية وتأجيرها وحكم رد العارية لصاحبها، فالكلام كله ينحصر في جزئية وهي: فيما إذا تلفت العين المعارة، وإذا لم تتلف، فإذا أخذها وانتفع بها ثم جاء بها وقال: جزاك الله خيراً، بارك الله لك في عين مالك، فهنا انتهت المسألة، لكن إذا تلفت في يد المستعير فهنا الخلاف، وإذا كانت في يد المستعير فليس له أن يعيرها، إلا ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: له حق في أن يعيرها، والجمهور يقولون: ليس له حق في ذلك؛ لأن المعير ائتمن المستعير بذاته وأما غيره فلم يأذن له أن يعطيه، واتفقوا على أنه لا يؤجرها، فلو قال: أعرني إياها يومين، فقضى حاجته في يوم وأجرها في اليوم الثاني، فلا يحق له ذلك، وإن تلفت في يد المستعير الثاني أو المستأجر فصاحبها بالخيار إن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأنه لم يأذن له، وإن شاء ضمن المستأجر، وإذا ضمن المستأجر الذي كان قد استأجرها على أنها للمستعير ودفع له الأجرة فإنه يرجع على من أجرها عليه؛ لأنه أجر ما لا يملك. فإن تلفت تحت يده نظرنا: هل تلفت في استعمالها فيما استعيرت له أو خارجاً عنه، وقد نبهنا على قول الفقهاء: إن تلفت فيما استعيرت له بغير تعدٍ ولا تفريط فهنا محل البحث: هل يضمن أو لا يضمن، فإن كان استعارها لشيء فتعدى حدود الشيء المستعارة له إليه أو فرط في العين حين استعمالها فتعديه وتفريطه يقتضي الضمان، ولهذا كانت القاعدة في قانون الجنايات أن المسئولية تترتب على التعدي أو التفريط، هذا مناط المسئولية في الجنايات. فكذلك هنا، إذا استعارها إلى مسافة فتجاوزها، أو استعارها إلى نوع من العمل فتعدى إلى عمل آخر أو إلى نفس العمل ولكن تجاوز الحد. مثلاً: استعارها لينقل عليها أسمنت وحمولتها طن فذهب وحمل عليها طنين، فهذه استعيرت له ولكنه ليس في حدود طاقتها، فهو بهذا قد تجاوز وتعدى. وكذلك إذا تلف من العارية جزء يؤثر على المنفعة بباقيها فالحكم كما هو في تلف عين العارية فما استعملت له أو فيما استعيرت له بتعدٍ أو بتفريط فيكون الضمان في الجزء المفقود. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيوع - باب الغصب [1]

كتاب البيوع - باب الغصب [1] لقد عظم الشرع الوعيد لمن اغتصب أرض غيره، حتى ولو كان الجزء المغتصب شبراً أو جزاءً من شبر، وللغصب مسائل وأحكام يذكرها العلماء في كتب الفقه.

شرح حديث: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما.

شرح حديث: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً ... ) [وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) متفق عليه] .

شمول الحديث لكل أرض صغرت أو كبرت

شمول الحديث لكل أرض صغرت أو كبرت قوله: (من اغتصب شبراً) وفي بعض الروايات: (شيئاً) ؛ لأن التقدير بالشبر في الأرض شيء ليس له أهمية، كما لو كان شبراً في ذرع قماش، أو شبراً في بيت مبني، عندها تكون قيمته كبيرة، فعندما تكون أرضاً في الخلاء ويكون الفارق شبر أو شبرين أو متر أو مترين فالمسألة هينة، ولكن أقل التقديرات عندهم الأصبع والشبر، فإذا كان الوعيد الشديد في الشبر فالذراع والباع من باب أولى، ولكون الشبر ليس له مفهوم، وقد جاءت الرواية الأخرى بـ: (من اغتصب شيئاً) ، ولو قدر إصبع؛ لأنه الغرض النهي عن الغصب بصرف النظر عن القليل والكثير الأرض فلاة متسعة، لكن كونك تغتصب من حق أخيك فهذه هي الجناية. وهذا وعيد شديد ينبغي على جميع أهل البساتين والأراضي وأصحاب المخططات، الذين يتعاطون العقارات أن يحفظوا هذا الحديث؛ ليتحروا الحق فلا يتجاوزه، ومما يروى في ذلك: أن امرأة كانت جارة لـ سعد بن أبي وقاص، فجاءت واشكته إلى الأمير وادعت أنه اغتصب شيئاً من أرضها. فقال: معاذ الله! أنا أغتصب من أرضها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب من الأرض شبراً طوقه من سبع أرضين) ، فزجرت عن ذلك، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واجعل ميتتها في أرضها. ففي آخر عمرها -عياذاً بالله- كف بصرها، ولما كانت تمشي في أرضها سقطت في بئر من آبارها وماتت فيها، ثم بعد ذلك جاءت السيول وكشفت عن الظفير الذي بينها وبين سعد، فإذا بالظفير بعيد عن أرض سعد، وإنما هي التي دخلت في أرض سعد، والظفير مدفون في أرضها هي.

ما يقع عليه الغصب

ما يقع عليه الغصب في هذا الحديث زجر ووعيد شديد لمن تجاوز حده، واستدل به الجمهور على إمكانية غصب العقار الثابت، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو يقول: الغصب يكون في المنقولات فقط: بهيمة الأنعام، الأثاث، المطعومات، الملبوسات، الشيء الذي ينتقل من مكانه ويحوله الغاصب من مكان إلى مكان، أما العقار الثابت في محله فليس فيه غصب. والجمهور يقولون: قوله: (شبراً من الأرض) يدل على أنه يريد الأرض وهي عقار وعقار ثابت (طوقه من سبع أرضين) . إذاً: كل ممتلك يستولي عليه الغير بالقوة؛ فهذا يصدق عليه الغصب، وله أحكام في ضمانه، وعلى الغاصب ما يقع نتيجة لذلك من الشحناء والبغضاء والتقاطع بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، فكيف يتولى هو الظلم بنفسه؟!

معنى التطويق في الحديث واختلاف العلماء في كيفيته

معنى التطويق في الحديث واختلاف العلماء في كيفيته في هذا الحديث جانب من الجوانب حير العلماء، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (طوقه) والتطويق من الطوق، وهل الطوق هو الآلة التي تجعل في العنق كسلك أو سلسلة أو شيء من هذا مادي، أو أنه الطوق من الطاقة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَّوقُونَهُ} [البقرة:184] ؟ وهذا على قراءة عن علي رضي الله تعالى عنه في أمر الصوم. أي: يفعلونه مع كلفة ومشقة إلى أقصى غاية الطاقة عندهم، والطاقة: القوة. تقول: الطاقة الحرارية التي تدفع الآلة أو الجهاز أو الأشياء. المشكلة عند (سبع أراضين) ، فبعضهم يقول: هذا على الحقيقة: أن هذا الشبر يكلف بحمله تراباً إلى المحشر، ثم يكون في عنقه كالطوق، وفي بعض الروايات الأخرى: (خسف به إلى منتهى سبع أراضين) وحينما يخسف به إلى أسفل يكون ما حوله من الأرض كالطوق في عنقه؛ لأنه مطوق لعنقه.

بحث في عدد طبقات الأرض

بحث في عدد طبقات الأرض وهذا البحث من مباحث الجيولوجيا -كما يقولون- أو طبقات الأرض أو نوعيتها، وهل الأرضون سبع أو واحدة؟ والمشكلة قائمة من السابق، ويذكر بعض العلماء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه سئل عن سبع أرضين، فقال: (لو حدثتكم بها لكفرتم) . أي: لا تستطيعون تصديق ذلك فتنكروه فتكفرون، ولكن الأثر ضعيف. إن الله سبحانه وتعالى ذكر السماوات سبعاً بالعدد، فذكرها بلفظ مفرد وذكر السماء بلفظ الجمع، أما الأرض فلم تأت مجموعة في كتاب الله قط، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن الله سبحانه وتعالى جمع السماوات؛ لأن هذا الجمع سائغ، أما الأرض فجمعها شاذ، وكما يقول ابن مالك في الألفية: وأرضون شذ والسنون. عندما تجمع الأرض وتقول: أرضون، هذا جمع شاذ، وكذلك، والسنون جمع شاذ، تقول: سنوات، سنين، أما سنون في حالة الرفع فهذا شاذ، والقرآن يتجنب الشاذ. وقد شهدت مناظرة في هذا المسجد من شخص يدير معهداً في علوم ما مع والدنا الشيخ الأمين، وذلك حينما تعرض الشيخ لهذه القضية في الجمع والإفراد؛ فتجرأ وقال: يا شيخ! الناس ذهبت إلى الفضاء وإلى كذا وكذا في مراكب، ونحن الآن في جمع شاذ وجمع غير شاذ! فتضجر الشيخ قليلاً من هذا الكلام، واستأذنت الشيخ أن أتفاهم معه، وأذن للعشاء، وبعد العشاء كان هناك حديث طويل لا حاجة إلى إيراده في هذا الجمع الآن، لكن يهمنا أنهم كانوا ولا زالوا حتى الآن -وللأسف كل الأسف! - في هذه المسألة وفي هذا الحديث كتبهم من أغرب كتب التفسير، وعندما أقف على تفسير جديد محدث صاحبه له شهرته، وله قدرته في البلاغة واللغة، تزل قدمه في هذا الموضوع علماء الهيئة يقولون: إن السماء قبة زرقاء هوائية، وهو يعبر في تفسيره عن الكرة الهوائية، ويفسر السماوات السبع بالكواكب السيارة، وهو ما ذكره صاحبنا في قضيته مع الشيخ من حوالي عشرين سنة؛ لأنهم يتخيلون أن ليس هناك جرم سماء، وإنما الذي نراه من الزرقة من بعد المسافة، وأنها طبقات هوائية، وهذا المؤسف إذا كنا نسمعه من أشخاص درسوا الماديات على غير المسلمين، ثم تكلموا بها، فيمكن للعاقل أن يعذرهم، فهذا حدهم، ولكن عالم من علماء المسلمين، ويكتب التفسير من كذا جزء، ويقول عن السماء: الكرة الهوائية القائمة على الأثير، وكونها سبع إنما هي الكواكب السيارة السبعة! والله ذكر: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] ، فجاء العلماء وقالوا: الأرض مثلهن في ماذا؟ في ارتفاعها؟ لا. في مساحتها؟ لا. الأرض بالنسبة إلى السماء كنقطة حبر في قطعة ورقة مساحتها كيلو في كيلو، والسماء على الأرض كالقبة كما جاء في حديث ابن عباس، السماء الأولى على الأرض كالقبة، والثانية فوقها كالعقبة، وهكذا سبع سماوات، وسمك السماء في ذاتها مسيرة خمسمائة عام، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، أي: بقوة، وهذا لا يقال في الهواء، وفي حديث الإسراء حينما عرج جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا فطرق الباب، فقيل: من؟ قال: جبريل. أمعك أحد؟ قال: معي محمد. أو أرسل إليه؟ قال: بلى. فيفتح الباب، هل هذا في هواء؟! نأتي إلى الأرض التي نحن نعيش فيها، فهناك من يقول: سبع أرضين كل واحدة منفصلة عن الثانية إلى سبع، وبين كل أرض وأرض فضاء، وذكروا أشياء وأخباراً، حتى أن البعض عزاها لمن سمع من الإسرائيليات، ومنهم من يقول: كل أرض فيها آدم كآدمكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وكعبة ككعبتكم، و. و. إلى شيء كثير جداً. والتحقيق عندهم: أن عدد الأرضين سبع متلاصقة وليست منفصلة، وتجدون البحث في هذا عند قوله: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] ، فمن يقول: {كَانَتَا رَتْقًا} ، الرتق: المرتبط، والفك الفتح، والسماء كانت رتقاً مع الأرض ففصلت السماء على حدة والأرض على حدة، وبعضهم يقول: السماء كانت رتقاً ففتقها سبعاً، والأرض كانت رتقاً ففتقها سبعاً. والآخرون يقولون: إن فتق السماء بإنزال المطر، وفتق الأرض بتشققها للنبات، كانت الأرض رتقاً صماً، فالله سبحانه وتعالى فتقها لإنبات النبات: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:27-28] ، إلى آخر الآيات الكريمة. وبعض المحققين يقول: في هذا الحديث إشعار بأن الأرض على تقدير أنها سبع أرضين متلاصقة. وبعضهم يقول: كقشر البصل كل واحدة فوق الثانية، وبعضهم يقول: إن الأرضين السبع هي القارات اليابسة مع الماء، ونسبة اليابس مع الماء مع الأرض الربع، وثلاثة الأرباع ماء، المحيطات وهو بحر واحد، وإن كانوا يسمونها البحر الأحمر، البحر الأبيض، المحيط الأطلسي، المحيط الأطلنطي، المحيط الهادئ، ولكن عند التحقيق فكلها بحر واحد: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] ، البحر واحد في الأرض، لكن تتغير الأسماء بموقعه. والآن ماذا يقول السادة المشايخ بعد مجيء مراكب الفضاء، وبعد الدوران حول الأرض عدة مرات؟ هل هناك أرضين تحت الدورة هذه؟ وتعاقب الليل والنهار مع الشمس بحركة الأرض أو بحركة الشمس ليس لنا علاقة بهذه المعركة؛ فما تعامد مع الشمس فهو نهار، وما تعاقب دونها فهو ليل، فهل الأرضون السبع لها سماوات سبع ولها سبع شموس؟ أقول: إن هذه النقطة بالذات شغلت العلماء، وأوجدت تلك الأقوال والأفكار، ونحن نقول: يقول الله سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] ، وجاء الحديث: (ولم تدرك عقولنا كنهها) . إذاً: ما لم يشهدنا كيف خلق الأرض، نقول: آمنا بالله، وبما جاء عن الله على مراد رسول الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، أما كونها سبع أرضين بعضها منطبق على بعض؛ فالذين درسوا قليلاً من الجغرافيا يعلمون أن جوف الأرض منصهر، وأن البراكين التي تظهر ما هي إلا من انصهار المعادن والأجرام التي في باطن الأرض وتتموج، وإذا وجدت ضعفاً في قشرة الأرض الخارجية خرج البركان حمماً يسيل مثل الماء. إذاً: باطن الأرض الله أعلم به، ويكفي -كما يقولون- في أحاديث الوعيد أن تمرر كما جاءت، ولا يفصل فيها، وهذا اللفظ بذاته يكفي لزجر وإرعاب من تسول له نفسه بالاغتصاب. والله تعالى أعلم.

أحكام ومواعظ من بيت النبوة

أحكام ومواعظ من بيت النبوة قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا. ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسور) رواه البخاري والترمذي، وسمى الضاربة عائشة رضي الله عنها، وزاد: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام، وإناء بإناء) ] .

حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه

حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه وهنا زيادة بيان من واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا واجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل رسوله أباً وزوجاً ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويرهن، وكل ما هو من حاجات البشر كان يصنعه؛ ليكون أسوة للناس، ولاسيما في بيت النبوة الطاهر حينما تقع الحوادث، وتجري الأمور على سنن البشر كيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعالجها؟ لقد شاهدنا من عظماء الرجال إذا كانت عنده ثلاث نسوة أو أربع يحتاج إلى إدارة معونة على سياسة تلك الأخرى، وهذا صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، مع الفارق في النوعية؛ لأن زوجات رسول الله أمهات المؤمنين لسن كبقية الناس، فهن يتميزن بحسن السمع والطاعة، وخالص الحب والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقبل ذلك أريد التنبيه على موضوع قد التبس على بعض الإخوة من قبل، ولعلاقته بالعقائد وآيات الصفات، وأحب أن يصحح أولئك الإخوة مفاهيمهم: حينما ذكرنا موضوع السماء، وأنها سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وإثبات أن السماء جرم من النصوص كقوله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، وقلنا: (بأيد) يعني: بقوة، ولكون اللفظ (أيد) يحتمل جمع يد ويحتمل القوة، فبعض الناس يظن أن ذلك جمع يد، وأنه من الصفات لا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] وهل كان عليه السلام عنده مجموعة من الأيدي أو يدان فقط؟ اثنان فقط. إذاً: الأيد: أي: القوة. القاعدة: أن كل ما جاء في كتاب الله فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل على ما يريد، إنما يأتي مضافاً إليه، كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، فهذا يكون بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من باب الصفات، ومجرى آيات الصفات على ما عليه سلف الأمة، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وليس هذا موضوع تحقيق ما يتعلق بالعقيدة، ولكنه تصحيح لمفاهيم بعض الإخوة الذي ظن بالاشتراك باللفظ بين جمع يد وبين القوة، فهي هنا: ((بنيناها بأيد)) بقوة، وهو المناسب أيضاً لبناء السماء، هذا الجرم العظيم، مسيرة خمسمائة عام سمكها، وسقف المسجد ربما كان سمكه خمسين سنتيمتر، أقل من المتر، وهذه مسيرة خمسمائة عام! أين موقع العقل في مثل هذا؟!

اهتمام السلف بالسيرة النبوية

اهتمام السلف بالسيرة النبوية إن دراسة حياة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في شخصه، في بيته، في مجلسه، في طعامه وشرابه ولباسه واجب على كل مسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكيف تتأسى بمن تجهل حياته وأحواله؟ إذاً: يتعين على كل مسلم أن يعلم كل الجوانب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقديماً قلت: إن شخصية رسول الله في ذاته من شعره إلى أظفاره، وحياته وسلوكه معجزة في ذاته، ولو لم تجرِ على يده المعجزات من تكثير الطعام، ونبع الماء من بين الأصابع، ومجيء الشجر إليه، ومناجاة البعير له. إلخ، إذا لم تأت ولا آية من هذه الآيات لكانت شخصية رسول الله معجزة في ذاتها؛ لأنه بشر، نعرف أبويه ومتى ولد ونسبه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] ، قال ابن عباس: أي تعرفون مولده ونشأته وحياته. ليس بغريب عليكم، وكان يذكر ابن فرحون -في كتاب له مخطوط إلى الآن في المسجد النبوي- في القرن السابع الهجري، قال: كان العلماء في المسجد النبوي إذا دخل شهر رمضان ترك كل إنسان الدروس، صاحب التفسير ترك تفسيره، صاحب الحديث ترك حديثه، صاحب الفقه تركه، صاحب اللغة الأدب، كل معلم في المسجد يترك المادة التي كان عليها ويدرس الجميع الشمائل النبوية. يعني: الصفات الخلقية والخُلقية؛ حتى يتعلموا ويعرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

غيرة عائشة رضي الله عنها وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك

غيرة عائشة رضي الله عنها وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ذكرنا بعض الصور التي وقعت في بيته صلى الله عليه وسلم ومن نسائه معه، وكيف عالج ذلك، مع أنهن تحزبن عليه، ووقفن ضده، وليس ذلك -والله- حطاً من قدرهن ولا تنقصاً من ذواتهن، بل هو إعلاء لمكانتهن؛ لأنهن فعلن ذلك محبة فيه وحرصاً عليه، وبدوافع الغيرة، ونعلم جميعاً أن المرأة لا تغار على زوجها إلا من دافع الحب؛ فهو من صفات المدح لهن، وليس من صفات الذم، وقد بين لنا تلك الحياة وصورها ليتعلم الرجل ماذا فعل رسول الله، ويتعلمن النسوة كيف فعلن زوجات رسول الله، وهكذا تؤخذ الحياة العملية تطبيقاً من بيته صلى الله عليه وسلم. أما الدافع الأساسي -كما أشرنا- وهو الغيرة، فإن مبدأ ذلك -أو الغيرة المبسطة، لا المؤامرة- جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات ليلة، تقول: والحجرات ليست فيها المصابيح -ظلام- إذا أطفأوا السراج وناموا لم يروا شيئاً، وكانت السرج بالزيت وفتيلة. انظروا إلى القناديل التي كانت معلقة في المسجد، كان يوضع فيها الزيت وفتيل، وطرف الفتيل على حافة السراج ثم يشعل بالزيت. تقول: فقمت أتحسس الحجرة فما وجدته، فتقدمت فوقع كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: (سبوح، قدوس، رب الملائكة والروح) ، فقلت: والله إني لفي شأن وإنك لفي شأن. لما وقع كفها على بطن قدمه قالت: لعله كان قد ذهب إلى بعض نسائه واغتسل هناك وجاء يصلي هنا، فلما قام من سجوده وقفت بجانبه، وأدخلت يدها في شعره -وكانت له جمة إلى منكبيه- لتتحسس أثر الغسل، كل ذلك والرسول ساكت، فلما انتهى التفت إليها وقال: (أخذتك غيرتك يا عائشة؟ -أعلمها ما هو الدافع- قالت -ويا لصدق ما قالت! وهو يبين المقدار الحقيقي للتأثر بالغيرة وإن كانت شديدة-: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟) . وبعض الروايات: أنه جاء من الخارج فوضع ثيابه، ثم اضطجع، ثم سرعان ما قام. تقول: وتظاهرت بالنوم. فلما خرج أرسلت بريرة وراءه فأتتها وقالت لها: ذهب إلى أهل البقيع، تقول: فشددت عليّ ثيابي، وخفت أن يرجع من أهل البقيع إلى بعض زوجاته، ووقفت من بعيد، فلما رأته فرغ من السلام عليهم، وبدأ يتحرك عائداً جاءت راجعة، فشعر بها، فأسرع، تقول: فأسرع فأسرعت، إلى أن جئت البيت واضطجعت في فراشي، فلما دخل وضع يده على صدري، وقال: ما هذا يا عائشة؟! أأنت التي كنت أمامي؟ قالت: بلى يا رسول الله؟ قال: أظننت أن يحيف الله بك ورسوله؟ لا يا عائشة. فهذه -كما أشرنا- أمور جبلية لا يمكن للمرأة أن تتخلى عنها، وكذلك الرجل، لكن فرق بين من يتحكم في دوافع النفس وانفعالاتها ويبين من يضعف أمام ذلك. نأتي إلى موضوع القصعة والطعام وما ذكره البخاري، وأعتقد أنه لو جاء في غير صحيح البخاري لكنا وقفنا موقف التساؤل؛ لأنهن أمهات المؤمنين، ويقول الله عنهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] من كل دنس وشائبة، وسوء خلق، مما ينتقص من النساء، ولابد أن يكن كذلك؛ لأنهن فراش رسول الله، وكان الرجل يتحرى صديقه بالهدية عند بعض زوجاته، وكانوا يتحرون ليلة عائشة ويهدون إلى رسول الله فيها هداياهم.

موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في قضية التحريم

موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في قضية التحريم ذكر البخاري رحمه الله بأن زوجات رسول الله كن قسمين: عائشة وحفصة وسودة، وأم سلمة ومن معها، وكن بهذا التآمر يحتلن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور ربما كان يحبها، من ذلك: أنه كان صلى الله عليه وسلم من عادته إذا صلى العصر طاف على نسائه، وكانت حجر زوجاته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن مطيفات بالمسجد، ابتداءً من حجرة عائشة وحجرة حفصة التي كانت مقابلة لها. والشباك الذي في واجهة جدار المسجد القبلي كان محله باب، وكان يقال له: (باب آل عمر) ؛ لأن حفصة كانت تسكن في مقابل حجرة عائشة، وكن إذا صعدن في الطابق الثاني يتناولن الهدايا من الشباك، فكان يبدأ من بيت آل عمر في الجنوب، ويطوف بالشرق، ثم يأتي إلى الشمال. هكذا كانت حجرات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يطوف عليهن بعد العصر، فإذا مر بـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها استوقفته، وأتته بعسل، ومزجته بالماء وصنعت له شراباً، وكان يحب الحلوى والبارد، فيشرب العسل، فغرن من هذا، لماذا يخصها بالوقوف، ولماذا يشرب عندها العسل واستكثرن ذلك عليه، فبدأت مؤامرة حفصة وعائشة، كيف نمنعه من هذا الوقوف؟ وكيف نمنعه من هذا العسل الذي اختصت به زينب؟ فقلن فيما ببينهما: ليقل له من يأتيه قبل الأخرى أجد -كان ربما دنا وقبَّل- ريح مغافير، وهو نبات حلو الطعم كريه الرائحة، فيقول: لا. أنا ما شربت هذا، أنا شربت عسلاً عند زينب، يمكن أن النحل رعى في ذاك النبات، فجاءت الرائحة في العسل، وكأنهن لا يعلمن شيئاً رضوان الله تعالى عليهن. فلما جاء للأولى قالت له ذلك، ولما جاء للثانية قالت له ذلك، فحرمه على نفسه، ثم أصبح يمر على زينب كعابر سبيل كما يمر على غيرها، وفيما بعد عندما نجحت المؤامرة قلن فيما بينهن: والله لقد حرمناه من شيء كان يحبه.

موقف أمهات المؤمنين من زواج النبي بأسماء بنت النعمان

موقف أمهات المؤمنين من زواج النبي بأسماء بنت النعمان نأتي إلى ما هو أخطر وهو زواجه من أسماء بنت النعمان -من كندة- وكان النعمان -وهو سيد قومه- وفد ضمن الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام تسع من الهجرة عام الوفود، حتى إن ابن كثير يقول: إن الذئاب قد أرسلت وفداً لها إلى رسول الله. ويذكر في الخبر: بأنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فجاء ذئب يخطر من بعيد حتى دنا من القوم، فأقعى وحرك ذنبه ورأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا وافد الذئاب إليكم، ماذا تنزلون له من أغنامكم ويكون بينكم مسالمة، قالوا: والله ما نعطيه ولا شيء. فقال: اذهب وهه! هه! يعني: اختلس ما استطعت) . فعام الوفود كانت كل القبائل ترسل فيه وفودها، وهي: إما قبيلة لم تسلم فتعلن إسلامها كثقيف، التي جاءت في العام التاسع، ونزلوا في المسجد النبوي. إلخ، وإما أن تبعث وفوداً تجدد العهد على الإسلام والتزامهم بذلك، فجاء وفد كندة وفيهم النعمان، وكانت ابنته -وصاحب الإصابة يذكر في قول أنها أخته- وكانت من أجمل نساء العرب وأشبهن، فزوجها رسول الله، ثم أرسل بها إليه، تقول حفصة وعائشة: فلما رأيناها قلنا فيما بيننا: لقد وضع يده في العرب، وسيصرفنه عنا، والله لن يراها رسول الله إلا وانصرف إليها، فقامت عائشة وخضبتها، وقامت حفصة ومشطتها وهيآها لرسول الله -انظر المقدمات! - ثم قلن لها: إذا أردت أن تكوني ذات حظوة عند رسول الله ويكرمكِ ويحبكِ إذا أقبل عليك فقولي له: أعوذ بالله منك -يا سبحان الله! - والمسكينة ظنت أن هذا يقربها عند رسول الله، فامتثلته بغية الوصول إلى رضا رسول الله، فأخذ بكمه على وجهه وقال: (لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك) فلما رجعت كانت تقول: سموها الشقية؛ لأنها حرمت ذاك الفضل العظيم. هل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة سألها من أمرك بذلك، من علمك هذا؟ هل عتب على حفصة وعائشة فيما فعلنه؟ لا؛ لأنه أدرك أن الدافع لهذا هو الغيرة، والغيرة ناشئة عن الحب والحرص على رسول الله. نأتي إلى موضوع قصعة الطعام، وتحري الناس الهدية وبالطعام ليلة عائشة مرضاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عند بعض زوجاته، فصنعت إحدى أمهات المؤمنين طعاماً، وقلنا وكان من أحسنهن في الطعام صفية وحفصة، وهي رضي الله تعالى عنها تقول: ما رأيت صناعاً للطعام كـ حفصة، ثم جاءت قصعة حفصة قبل قصعة عائشة، تقول: فصنعت له طعاماً، وصنعت حفصة طعاماً، فجاءت قصعة حفصة قبل قصعتي. وهناك روايات متعددة، والتحقيق: أن القصة بذاتها تعددت مع حفصة، مع صفية، مع سودة. أربع مرات. فلما انكسرت القصعة أمسكها الرسول، وجمعها نصفين، وفي بعض الروايات (قال: كلوا، غارت أمكم) ، وفي بعضها: (وضع الطعام على النطع -السفرة الممدودة-) ، وقيل: كان من الحيس -يعني: ليس مرقاً يتدفق- ثم جاءت قصعة عائشة التي كانت متأخرة، فدفعها بما فيها من الطعام للرسول الذي جاء بالقصعة الأولى، وفي بعض الروايات: قالت عائشة لما جاءت وبيدها فهر وضربت القصعة فكسرتها فانتبهت، وأدركت ما فعلت، قالت: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: (قصعة بقصعة وطعام بطعام) . ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تدارك الموقف بالحكمة والتأني، وهل أحد من الحاضرين أو الغائبين وقف على نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف أنه عنف على إحدى زوجاته أو سبها؟ لا والله؛ لأنه أدرك الدوافع، وأن القضية قضية صافية، والقلوب طاهرة، ويكفي أن عائشة قالت في الحال: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ لو أنها من النساء الأخريات ما عليها انكسرت أو لا، وتصر على موقفها، ما هذه فقد تذكرت وتراجعت واعترفت وطلبت الكفارة.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من طلب أزواجه زيادة النفقة عليهن

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من طلب أزواجه زيادة النفقة عليهن أحب أن أنبه على قضية أكبر من هذه: أعتقد أن كل إنسان، ويمكن لأول مرة يسمع أن زوجات رسول الله كن قد خاصمن رسول الله بسبب مطالبتهن بالنفقة، وشددن الطلب، فتركهن غضباناً، وخرج إلى المشربة وظاهر منهن شهراً، حتى بلغ الخبر إلى عمر محرفاً بأن زوجات رسول الله طلقن، وكان عمر له جار في العالية يتفقان على المناوبة في رعي البستان وفي النزول إلى المسجد النبوي، ينزل أحدهما إلى المسجد النبوي مع رسول الله حتى المساء، ويحفظ ما يسمع، ويرجع إلى صاحبه يمليه عليه، بينما صاحبه هناك يراعي مصلحة النخيل، ومن الغد من كان في النخيل ينزل إلى المسجد النبوي، وهكذا دواليك. فجاءه -أي: جاء عمر صاحبُه- وبعد المغرب ينادي عليه بشدة: يا عمر يا عمر! قال: ما شأنك، أجاء الروم؟ لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الروم، قال: لا، الأمر أشد. قال: وما هو؟ قال: طلق رسول الله زوجاته. ومن إحدى زوجاته حفصة بنت عمر، فأخذ رداءه وذهب؛ فوجد الدنيا واجمة، ثم جاء من الغد ودخل المسجد، فوجد الناس واجمين، فسأل: أطلق رسول الله زوجاته؟ فلم يرد عليه أحد، ثم دخل على حفصة، قال: أطلقكن رسول الله؟ فظلت تبكي وما ردت عليه، قال: أين رسول الله؟ فأشارت إلى المشربة، وكان على الحجرة حارس منعه من الدخول على رسول الله، قال: استأذن لي على رسول الله. فرجع وقال: استأذنت فلم يتكلم. فاشتد الأمر على عمر، فانتظر برهة ثم قال: اذهب فاستأذن لي على رسول الله. ثم بعد فترة قال: قد أذن لك يا عمر فاصعد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماً، فقال: أطلقت زوجاتك يا رسول الله؟ قال: لا. فكبر عمر -الله أكبر (ثلاث مرات) - يقول عمر: فعزمت في نفسي أن أقول شيئاً يضحك رسول الله، وهذا الواجب على الصديق الوفي حينما يجد صديقه في أزمة، يجب أن يفتح له باب الحديث، ويطرق القلب ليعرف الموضوع، يجب أن تكون له فعالية، كما لو جاء إلى المريض لا يكون كلٌ منهما ينظر في الآخر، يجب أن يكلمه عن العافية، عن الثواب، عن الأجر عند الله، عن الأمور التي تفسح فسحة الأمل في الحياة. لما قال: ما طلقت. قال: خيراً، وسكت، ثم قال: يا رسول الله! لو رأيت فلانة -يعني زوجته- وهي ناشبة في وتقول: أعطني، أعطني. وما عندي ما أعطيها، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يطلبنني النفقة فيما ليس عندي. إذاً: فتح الباب، وانحلت العقدة، فنزل إلى ابنته يطعنها: أغرك من بنت أبي بكر أن تقول على رسول الله؟! والله لولا أنا لطلقك، أتطلبين من رسول الله من النفقة ما لا يملك؟! لا تسألي رسول الله شيئاً، ما أردت من المسألة والحاجة فاسأليني أنا، ولا تكلفي رسول الله شيئاً. وهذا موقف الصهر العاقل، ولو يدفع من عنده ويتحمل من نفقات ابنته في بيت زوجها لتظل الحياة الزوجية كريمة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، وضاق الأمر بزوجها ستعود إلى بيت أبيها، وستكلفه أكثر من هذا، فيكون هناك غض النظر في البذل والجود، وهناك تصلح الأمور وتستقيم الحياة الزوجية. فهذه ناحية، الناحية الثانية هي التي ساقها البخاري: تضايقن، وكلمن سودة أن تكلم رسول الله في أن يكلم الناس بأن يوزعوا الهدايا حيثما كانت، وحصلت المناقشة والعرض، وثلاث مرات وهن يلححن عليه، حتى قال: (لا تؤذيني في عائشة) ، ولما رأوا هذه الواسطة ما نفعت ذهبوا إلى فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، فكلمته، قال: (ألا تحبين ما أحب يا ابنتي؟ قالت: بلى. قال: لا تؤذيني في عائشة) ، ثم جاءت زينب بنت جحش وفعلت ما فعلت، ولقيت ما لقيت، وانتهى الأمر بأنهن ما وصلن إلى شيء.

نصرة الله لنبيه ولو على أزواجه

نصرة الله لنبيه ولو على أزواجه زوجات رسول الله تقسمن فيما بينهن على رسول الله وحن حزبين، ثم جاء حزب ثالث -إن صح هذا التعبير مع التجوز- ينضم إلى رسول الله مناصرة له، اقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ} [التحريم:4] انظروا إلى الأسلوب البلاغي! {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، لو كان في غير القرآن يمكن أن يقال: فإن الله مولاه، لكن يؤتى بضمير الشأن لتقوية الخطاب والبيان، وهو من تعلمون رب العزة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] . نحن قلنا تجوزاً: الحزب الثالث، أو الحزب الثاني مقابل أمهات المؤمنين هو الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة ظهيراً. انظر إلى هذا التعداد: الله، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة، أمام تسع نسوة، وهل لدى النسوة من الفاعلية ما يحتاج إلى تجنيد كل هذا؟ وكان يستشهد ببيت واحد من شعرائهم، يقول: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن ولا يستغرب بعض الأشخاص أن يسمع أن زوجات رسول الله تحزبن عليه؛ لأن هذا من طبيعة النسوة، ومن دافع المحبة والغيرة، والله سبحانه وتعالى عاتبهن وحذرهن، وقبل كل شيء فتح لهن باب التوبة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] وهذه القضية بين حفصة وعائشة فيما أمر ما، فقد صغت وصفت وانتهت قلوبكما {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ. } [التحريم:4] .

صبر أمهات المؤمنين وتعففهن

صبر أمهات المؤمنين وتعففهن إن تلك الحياة التي مرت ببيت النبوة مع ما فيها من أحداث لها جانب آخر يحكي ما كن عليه أمهات المؤمنين من الصبر والتعفف والزهد في الدنيا، كما قالت أم المؤمنين: كان يمضي على بيت رسول الله الهلال والهلال والهلال -شهران بين ثلاثة أهلة- لا يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا} [الواقعة:71-73] ، تنضج طعامك، تصنع الشاي، وتصنع وتصنع على النار، أما هنا فلا يوجد، فما كان طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فيرسل إلى أمهات المؤمنين واحدة تلو الأخرى: من كان عندها طعام فليأت بعشاء الضيف، فكل واحدة تعتذر: ليس عندي شيء، تسعة بيوت ليس عندهن عشاء للضيف! فيتوجه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: من يستضيف هذا هذه الليلة وله الجنة؟ أحضروا المقاييس، أحضروا الموازين، أنت تعلم بأن الثمن يعادل المثمن، هذا قيمته ألف ريال، ولو قلت: ألفي ريال فذلك يكون زائداً عن السلعة، ولو قلت: مائتي ريال تكون ناقصة عن السلعة، فعادة يكون الثمن معادلاً للمثمن، فأي ليلة هذه التي ثمنها الجنة؟! الآن أبسط واحد منها الآن بمقدوره أن يعشي عشرة أشخاص، لكن في ذلك الوقت تسعة بيوت لرسول الله ليس فيها عشاء الضيف، كيف كانت تلك الحياة؟ والشيء إذا قل أو انعدم لا يثامنه شيء. إذاً: (فله الجنة) ؛ لقلة الطعام وندرته، وجاء في القصة: أن الذي ذهب به إلى بيته قال لزوجه: هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: لا والله إلا عشاء العيال. قال لها: علليهم حتى يناموا دون عشاء، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأحرك يدي في القصعة تلتقي مع يد الضيف، أوهمه أني آكل معه، وما أنا بآكل، ولكن أوفر له الطعام. انظروا إلى هذه الحيلة: أولاده ينامون جوعاً بلا عشاء، وكذلك الزوجة والزوج والطعام بين أيدهما، ولو كان بعيداً لقلنا: صابر، لكنه أمامه، ولا يرفع منه شيئاً إلى فيه. إذاً: الطعام كان متوفراً. هذا أحسنهم حالاً الذي رضي أن يأخذ الضيف ليضيفه تلك الليلة، وإذا به ليس عنده إلا عشاء عياله، فيحتال هو وأم العيال على توفير عشاء الضيف. والله لا أريد أن أقول: إن له الجنة؛ لأنها لو كانت قليلة في هذا أو كثيرة فالرسول قال له: (وله الجنة) . فلما غدا بضيف رسول الله في الصباح استقبلهما صلى الله عليه وسلم متبسماً وقال: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، العملية تضحك فعلاً أن يحتالا لإشباع الضيف على جوع: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، وليسوا كل الناس: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: بلى. وهنا أحاديث الصفات، وكذلك الصحابي مر بها وقال: لا عدمنا خيراً من رب يضحك. هذا تعليقه على صفة الضحك لله، أكثر من هذا لا يوجد، وهكذا كن في بيوت رسول الله تمضي عليهن الليالي وليس عندهن عشاء ضيف! إذاً: كانت تلك البيوت مساكن لهن، ومعاهد لما يجرى فيها من آيات الله والحكمة، وكن يعلمن الناس سواء مباشرة أو عن طريق النسوة، أو بواسطة الزوجات للأزواج، كما قالت أم المؤمنين عائشة للنسوة: مروا أزواجكن أن يستنجوا بالماء، فإني أستحيي منهم. وهكذا -أيها الإخوة- علينا أن نجدد دراسة حالات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبق أن كتبت مقدمة بحث في السيرة النبوية وأنها تنقسم إلى قسمين -في نظري-: سيرة ذاتية، وسيرة تبليغية، والسيرة الذاتية: هي ما كان يتعلق بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاته وبيته وفيما يخصه، والسيرة الرسالية: ما كان فيها تبليغ الرسالة للأمة. والحمد لله رب العالمين.

كتاب البيوع - باب الغصب [2]

كتاب البيوع - باب الغصب [2] لقد حرم الإسلام الغصب وحذر منه، ورتب عليه الوعيد الشديد، وضمن لمن غصبت أرضه حقوقه، وجعل بين الغاصب والمغصوب حقه سبلاً وطرقاً للصلح، فحكم على من غرس بقلع غرسه، وعلى من زرع بأخذ نفقته.

حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها

حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها قال المصنف رحمه الله: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، ويقال: إن البخاري ضعفه] . بالتأمل فيما ساقه المؤلف رحمه الله في باب الغصب، وما تقدم في اغتصاب شبر أو شيء من الأرض، والتحذير والوعيد الشديد من الظلم والاغتصاب، وجاء بحديث القصعة، وبيان أن الغصب معه قيمة المتلفات، ولهذا يقول ابن رشد: البحث في الغصب من عدة جهات، منها: من جهة أن المغصوب إذا وجد بعينه رد إلى صاحبه بتمامه بلا خلاف، أما الطوارئ فبخلاف ذلك، والطوارئ: هي المتغيرات التي تحدث في المغصوب، بأن غصب غزلاً فنسجه، أو شاة فذبحها. إلى غير ذلك مما يطرأ على المغصوب من زيادة أو نقص. ثم جاء المؤلف رحمه الله بهذين الحديثين، ويمكن أن يقال: إن أحد الحديثين يغني عن الآخر، كحديث: (من غرس النخل حكم بالأرض لصاحبها، ولصاحب النخل أن يرفع نخله) ، ثم جاءت القضية العامة: (ليس لعرق ظالم حق) ، لكنه جاء بالحديث الذي قبله فيما يتعلق بالزرع، فكان أحد الحديثين يتعلق بالزرع، والآخر بالغرس. وفرق بين الزرع والغرس: أن الزرع -كما يقولون- زراعة موسمية مؤقتة، وأقصى ما يكون مدته في الأرض ستة أشهر على حسب نوعية المزروع، وإن كان البعض قد يتجدد على جدات -وخاصة في الحجاز- إلى خمس سنوات، وهو نوع من البرسيم، وفي غير المدينة يسمى البرسيم الحجازي. فالزرع مهما كان له أمد، فهو بخلاف الغرس فإنه يعمر طويلاً، فالحديث الأول: (من زرع في أرض قوم) ، ولم يقل: غرس، وللمغايرة بين الحديثين اختلف العلماء، ونحن نأخذ مدلول الحديثين كلاً على حدة، ثم نرجع بالنظر بين الحديثين، وخلاصة ما ذكره العلماء في هذه القضية المزدوجة.

حكم استخدام العين في غير ما أجرت له

حكم استخدام العين في غير ما أجرت له (من زرع في أرض قوم) ، والقوم للجماعة، فمن زرع في أرض غيره، وهو لا يملكها أو هي مملوكة للآخرين، فما حكم هذا الزرع الذي زرعه في ملك غيره؟ هذه هي القضية الأولى، وقد حكم فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء) فلو استأذنهم: أعيروني الأرض أزرع فيها. لا مانع، وإذا استأجر منفعة الأرض عين الأرض، كما يقول الفقهاء: عقد الإجارة عين على منفعة مضمونة، تستأجر الدار وتشتري الدار، فإذا اشتريتها ملكت عينها، ولك الانتفاع بها بما شئت من امتثالك بما تملك، لكن استأجرتها، فأنت اشتريت المنفعة التي يمكن أن تؤخذ من الدار. وما المنفعة؟ كل بحسبه، إن كان هناك نص على عين المنفعة التي تستوفى فهي المعقود عليها، استأجرتها مدرسة، أو مستودعات، أو للسكنى، فعلى ما عقدت عليه، ولا يحق لك أن تستفيد من الدار بمنفعة أكثر مما استأجرتها من أجله استأجرتها لتسكن أنت فيها وعيالك، فلا يحق لك أن تجعلها مستودعات؛ لأن المستودعات تضر بالبنيان أكثر من السكنى؛ لأن فيها البضائع والمطعومات، وربما جاءت الفئران، ويكون الأخذ والرص الذي يهز الجدران، فلا يجوز ذلك. وكذلك لا يجوز لك أن تجعلها مدرسة؛ لأن المدرسة تضم الأطفال، أو غير العابئين بالمسئوليات والقيم، فتكون مضرتها على البنيان أكثر من السكنى، أما إذا استأجرتها لمدرسة، ثم هونت من المدرسة وسكنت، فالسكنى أقل إرهاقاً على البنيان من المدرسة؛ فلا مانع، كما لو استأجرت سيارة لنقل الأحجار، ثم ما وجدت أحجاراً فنقلت أخشاباً أو برسيماً، وإذا ما وجدت برسيماً ركبت أنت، فكلما كان استيفاء المنفعة مقابل المعقود عليه كان أوفى بالعقد، وإن نقصت فلا مانع، أما إن زادت عن المعقود عليها فلا يحق لك ذلك.

ما يلزم به صاحب الأرض إن أذن بالزرع

ما يلزم به صاحب الأرض إن أذن بالزرع إن زرع الأرض بإذن أصحابها، فهذا يكون منهم بمثابة التنازل عن حقهم بالاستفادة من الأرض، وإن سمحوا له بالاستفادة منها فلا يحق لهم بعد ذلك أن يعارضوا أو يطالبوا برفع الزرع؛ لأنه وضع بالعدالة وليس بالظلم، ووضع البذر وحرث وسقى ونبت بإذنهم ورضاهم، فلا يحق لهم بعد أن وصل الزرع إلى مرحلة ما قبل الحصاد أن يطالبوا برفعه، كمن أعار سفينة لإنسان أو أجّره إياها، وجاء في عرض البحر وقال: رجعت عن الإعارة، أعطني سفينتي، الإعارة عندك مؤقتة، ولصاحبها أن يطلبها حيث شاء، ولكن هل وسط البحر موضع تسليم؟ وأين أذهب بمن فيها؟! لا يحق له ذلك؛ لأنه أعارها وهو يعلم بأنه سيعبر بها النهر. وكذلك الأرض إذا زرع فيها بإذن أهلها، ونبت الزرع، وقارب الحصاد لا يحق له أن يرجع في هذا الإذن؛ لأن فيه مضرة على الزارع وتغرير به، ويجب عليه أن ينتظر حتى يستحصد الزرع ويأخذ زرعه، ويقول له: خذ أرضك. أما إذا كان زرع بغير إذنهم فتلك المنفعة التي يريد أن يأخذها من الأرض فالزرع ملك لأصحابها، ولم يأذنوا لك فيها: (ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وهم ما طابت أنفسهم بها، فجاءوا يطالبونه. ولو أنه اغتصب الأرض -على رأي الجمهور بأن الغصب يدخل في العقار غير المتحرك، أي: في المملوك الثابت كالأرض والبنيان، خلافاً للأحناف؛ فإنهم لا يرون الغصب في الثوابت وإنما في المتحركات المتحولات- فإذا اغتصب الأرض واحتواها، فعلم بذلك أصحابها، فجاءوا والأرض على ما هي عليه، لم تدخلها الزيادة والنقصان. كأن يأخذ من ترابها إلى جهات أخرى؛ فتصبح الأرض مجرد حفر أو منخفضة عن جاراتها، وتصبح في هذه الحالة غير صالحة للزراعة حتى تسوى، ويرد لها ما أخذ منها، فيكون هناك نقصان، فإذا أدرك صاحب الأرض أرضه تحت يد الغاصب كما هي ردت إليه بعينها بالإجماع، وليس لهم على الغاصب شيء، وليس للغاصب عندهم شيء، بقي الحق العام -كما يقال- فكونه يتعمد الاعتداء على مال الغير، هذه فوضى، فولي الأمر له أن يعزره على تعديه. أما إذا جاء صاحب الأرض ووجد الزرع، فماذا يكون الحكم؟ هذا يقول: أرضي، والآخر يقول: زرعي. ماذا نفعل معهما؟ الحديث صريح: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) . نسأل الزراع: الزرع هذا كم عمره؟ ومتى يحصد؟ بعد ثلاثة أشهر. إذاً: الزرع لم يأت بالحب في الوقت الحاضر، وجاء صاحب الأرض يطالب بأرضه، فيقال لصاحب الزرع: ليس لك من زرعك شيء؛ لأنك وضعت البذرة، وسقيت الماء فقط، والنبات الذي نبت نموه من الأرض، والأرض ملك لغيرك، فيكون الزرع ملك لغيرك، وما أنفقته حتى صار الزرع إلى هذا الحد فهو حقك، وضعت بذراً فيها بعشرة، وحرثتها بخمسة، وسقيتها ماءً بخمسة، نفقتك على الزرع وصلت إلى هذا الحد فلك هذه النفقة، هذا ظاهر هذا الحديث والله أعلم.

صورة الصلح بين المتنازعين على الأرض

صورة الصلح بين المتنازعين على الأرض في هذه المسألة الواردة في هذا الحديث وسع الفقهاء رحمهم الله التفصيل فيها، وقالوا: إذا لم يكن له من الزرع شيء فله النفقة، والزرع يرجع لصاحب الأرض فهل يلزم الزارع بأخذ النفقة فقط ويترك الزرع، وهل يلزم أصحاب الأرض بأن يدفعوا النفقة ويأخذوا الزرع؟ لو قالوا: لا نريد الزرع، ليأخذ زرعه، لن ندفع شيئاً ماذا يقال لهم؟ في هذه الحالة يخير أصحاب الأرض: في أن تحسب عليه الأرض بالإيجار إلى أن تستحصد، ويكون كالمستأجر من غيره، وبهذا نكون قد جمعنا بين المصلحتين: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ صاحب الزرع يأخذ زرعه، وصاحب الأرض يأخذ أجرة مثلها، فنكون ضمنا لصاحب الأرض حقه وفائدته من أرضه، وحفظنا على الغاصب زرعه، وقد دفع أجرة الأرض. وابن حزم يشنع على الفقهاء في هذه القضية، ويقول: على هذا فكل من يريد أن يغصب أرضاً ما عليه إلا أن يذهب ويزرع فيها وسوف يدفع الأجرة ويأخذ الزرع، فهذا يمكن المعتدين من زيادة الاعتداء. ولكن الفقهاء يقولون: يجب مراعاة المصلحة، فقولنا له: خذ زرعك وهو إلى الآن لم يستحصده، ماذا سيفعل به؟ سيعدمه، ويتلفه، وإتلاف المال لا يجوز، فإذا أمكن الاستفادة من هذا المال في المستقبل نحافظ عليه، وأنت يا صاحب الأرض لما فاتت عليك مصلحة أرضك، نضمنها لك بالأجرة.

قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن

قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن [وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخلة أن يخرج نخله، وقال: ليس لعرق ظالم حق) ] . قبل الكلام على هذا الحديث ننظر ما يقوله العلماء في شأن اختلاف الناس في أحكام الأراضي، وخاصة الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن عمل أهل المدينة هو القدوة، وكما يذكر عن مالك أنه قال: إن العالم كله في الأراضي والمساقاة والمزارعة تبع لأهل المدينة؛ لأنهم كانوا يعملون فيما بينهم فيتفقون تارة ويختلفون أخرى، فإذا ما وقع خلاف بينهم كان مرده إلى رسول الله. إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على الخلافات التي تقع في الأراضي، وليس هذا في قطر من أقطار الدنيا، وكل العالم يتتبع ويسأل: ماذا فعل رسول الله في مثل ذلك؟ ماذا قضى في ذلك؟ وما ينقل عن أهل المدينة في مثل هذه القضايا فهو نقل لأصل عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أن هذان الرجلان في الشام أو مصر أو اليمن ووقع النزاع بينهم، فإنهم سيختصمون للعلماء الذين سوف يبحثون عما فعل وقضى به رسول الله في هذه المسألة، وسيرجعون إلى عمل أهل المدينة في هذه المسألة. رجلان اختصما كل منهما خاصم الآخر، صاحب الأرض يخاصم في أرضه، وصاحب النخل يخاصم في نخله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. شخص غرس نخلاً في أرض قوم، فجاء أصحاب الأرض يخاصمون في أرضهم ويطلبونها فقضى رسول الله بأن الأرض لصاحبها.

تولية الرسول للقضاة من أصحابه

تولية الرسول للقضاة من أصحابه النص هنا: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها) . إذاً: الرسول تولى القضاء بين الأفراد، وهذا مصداق قول الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] . ثم قد يولي قضاة في ما بعد عنه، كما وقع لـ معاذ رضي الله تعالى عنه حين بعثه إلى اليمن، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فكان معاذ قاضياً وأميراً وجابياً للزكاة والجزية، وكان هناك عمال أيضاً للزكوات في أقاليم اليمن، وكان معاذ هو المشرف عليهم، ويتنقل ما بين حضرموت إلى صنعاء، وأبو موسى في مكانه، ولذا سأله: (بم تقض يا معاذ؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ -لأن كتاب الله نصوص محدودة- قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي) . وهنا العلماء يزيدون بعد قول معاذ بم يقض القاضي؟ بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد هل يجتهد رأيه؟ لا؛ لأنه غير معاذ وقد تقدمه من أهل الحل والعقد، من هم أهل العلم وأدرى بالحكم، فينظر في أقضية أصحاب رسول الله، هل في هذه القضية نص عن صحابي، أو عن خليفة راشد؟ فـ معاذ يقف عند حد الكتاب والسنة، ثم يعطي لنفسه حق الاجتهاد، وغير معاذ ممن يأتي بعده أمامه جبال راسيات، فعليه أن يبحث في حكم النازلة في الكتاب، ثم السنة، ثم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإذا وجد عنهم أقضية في قضيته أخذ بها، وإذا لم يجد اجتهد رأيه؛ لأنه لم يبق هناك من يرجع إليه. قضى صلوات الله وسلامه عليه لصاحب الأرض بأرضه. (وأمر صاحب النخل) ، والأمر والقضاء سيان؛ والقضاء ملزم أكثر من الأمر، (وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله) هذا الحد الأدنى في القضاء، ولكن لكل قضية ملابساتها وجوانبها، فلو أن صاحب الأرض قال: لا تتعب نفسك، ولا تقطع النخل وتخسره وتفسده، وبمقدار ما أنفقت عليه أعطيك نفقته واترك لي النخل، ولهذا قال: (أمر) ولم يقل: (قضى) ؛ لأن القضاء ملزم، والأمر قد يأتيه بعض عوارض فتصرفه.

كيفية الصلح بين المتنازعين

كيفية الصلح بين المتنازعين لو اتفق صاحب الأرض مع صاحب النخل أن يتركه له، وأحياناً يمكن الاستفادة من رفع النخلة من مكان إلى مكان آخر، والاستفادة منه كغرسه، وأحياناً لا، وجاءت الروايات في هذا الحديث: (وإني لرأيتها تضرب بالفئوس وإنها لنخل عم -يعني طويلة-) يعني: لا يوجد رافعة لتنقلها في أرض أخرى، ولا يمكن رفعها إلا بتكسيرها، فحينئذ تكسر، وهنا في أول الحديث: أن الرجل غرس في أرض قوم؛ فلو أنه حينما جاء يغرس بحث فلم يجد لها معالم، وهي أرض بيضاء صالحة للزراعة، ولا يوجد فيها آثار تملك، وظنها أرض بيضاء لا ملك لأحد عليها فغرس. هل معنى الظلم والتعدي موجود أم أنه الخطأ؟ حتى ولا الخطأ؛ لأنه رأى أرضاً بيضاء ليس فيها معالم تملك، والفقهاء ينصون في باب إحياء الموات: أن من أحيا أرضاً ميتة ملكها، وإذا استمر في إحيائها عشر سنوات، ثم مات وجاء أولاده فلم يستطيعوا الاستمرار في الإحياء فتركوها حتى اندثرت معالم الإحياء، وعادت مواتاً كما كانت قبل أبيهم، فهل يجوز لأحد أن يعيد إحياءها لنفسه لأنها صارت مواتاً أو لا يجوز ذلك؟ النزاع في هذه المسألة موجود، وعند الحنابلة لا يجوز ذلك؛ لأنه سبق عليها ملك لغيره. هنا: إذا علم أن الأرض لقوم وغرس فيها بغير إذنهم -كما جاء في الزرع- وجاء بالوديان معتمداً وحفر الفِقَر وغرس النخل وسقى وكبر النخل وأثمر، ثم جاء صاحب الأرض - مسافراً، مسكين، مريض. - ولم يعلم، بخلاف ما إذا علم من أول وهلة، ورآه يحفر، ولم يسأله، وتركه حتى جاء بالودي وغرسه وسقاه، وترك الأمر حتى صارت نخلاً عُماً، وأصبحت تؤبر وتثمر، وجاء يقول: أعطني أرضي ولماذا سكت حتى غرم هذا كله، وانتظرت حتى أصلحها ثم قلت له: أعطني أرضي؟! ولهذا يقول الفقهاء: هل يمكن الانتفاع من هذا النخل وهذه حاله أم لا؟ جاء الحديث بأنه ما كان يمكن في ذلك الوقت؛ لأنه صار نخلاً طوالاً، ولا يمكن رفعه وحمله وسحبه إلى أرض أخرى لكي يغرس فيها، واللفظ الآخر: (رأيتها تضرب بالفئوس) معناها: تحطم؛ لماذا؟ أليس هذا من إتلاف المال؟ نعم، ولكن قبل إتلافها الأمر صدر والحكم مضى، ولكن الحق لا يتعدى صاحب الأرض وصاحب النخل؛ فإن اتفقا فقال صاحب الأرض: اشترِ الأرض، وتبقى لك الأرض مع النخل. فلا مانع، وإذا قال صاحب النخل: اشترِ مني النخل، واتفقا لا مانع، لكن هو ليس بمشتريه، وقد صدر فيه أمر بأن ينزع، لكن إن كان من باب الإصلاح واتفقا على ذلك فلا مانع. لكن يأتينا هنا الأمر برفع النخل، وهناك في الزرع: (له النفقة) ، وهنا لم يقدر له نفقة، بل النخل يقطع ويرفع بعينه، إذا كان النخل المثمر هذا يقطع ويتلف فهل نبحث له عن نفقة؟ لا؛ لأنه أنفق في شيء لا يملكه، والأصل فيه التعدي.

مناسبة تشبيه المغتصب بعرق الظالم

مناسبة تشبيه المغتصب بعرق الظالم ثم قال: (ليس لعرق) هنا بعض العلماء يقول: يجب أن يختلف الحكم في اغتصاب الأرض بزرع، أو اغتصابها بغرس؛ لأن الزرع جعل فيه صلى الله عليه وسلم نفقة الزرع للغاصب، والنخل لم يجعل له فيه شيء، وأشاروا بأن الزرع مؤقت والغرس مستديم، وبعضهم يقول: إن قلنا: (ليس لعرقِ ظالم) . إذاً: الظلم نسب لصاحب العرق، وإذا قلنا بالتنوين: (ليس لعرقٍ ظالم) أسندنا الظلم للعرق، وإسناد الظلم للعرق مجاز، فالأولى إسناده لصاحب العرق. وإذا اجتث نخله؛ لأنه عرق ظالم، كانت الأرض صالحة لأنه يأتي بالحراث ويحرث ويبذر القمح، أو لتخطيط أشجار موالح، كانت وكانت. يقول الفقهاء: إذا اجتث النخل عليه أن يجتث أصول الصنو في الأرض، ثم عليه أن يسوي الحفر التي نشأت عن قلع النخيل من أصله، ويسلم الأرض غير ناقصة المنفعة؛ لأنه إذا قطع النخلة من وجه الأرض كان الباقي تحت الأرض أكثر من الذي قطع من أعلى، ويعيق الزراعة والغرس، ويحتاج إلى مئونة وكلفة، لذا على صاحب العرق الظالم أن يرفع عرقه برفع جذور النخلة، ومن المعلوم أن جذور النخلة تمتد إلى عمق الأرض. لا نقول له: اتبعها في باطن الأرض وأخرجها لا. يقول علماء النبات: إن سطح الأرض هو الخط المنصف بين جذور الشجرة في باطن الأرض وبين جذعها وأغصانها، أي: أن النخلة لها جذور في باطن الأرض، لو اجتمعت لكانت مثل طول النخلة إلى رأسها، وكذلك جميع الأشجار، وأصحاب المزارع يعرفون ذلك، شجر الأثل إذا كان قريباً من البئر تمتد عروقه إلى قاع البئر، وربما أفسده، وهذه -كما يقولون- عملية توازن؛ لأن الشجرة ذات جرم كبير، وهذه السارية الموجودة عندنا الآن على سطح الأرض، هل جيء بعمود ووسد على سطح الأرض أم أن تحته قواعد عميقة يمكن أن تمسك هذه السارية، وتمسك ما يأتي فوقها؟ فكذلك عروق الشجرة، هي في باطن الأرض تعادل أعلى الشجرة حتى يمكن أن تصلبها، وإذا جاءت رياح عاتية ما الذي يمسك الشجرة ألا تذهب مع الرياح؟ إنها تلك العروق التي في بطن الأرض المتعادلة مع ظاهر الأرض من تلك الشجرة. فلا نقول لصاحب النخل: تتبع كل عرق حتى ينتهي، لكن نقول: مجموع الصنو، وهو منتهى الشجرة ومجموع عروقها، ينتزعه، ثم بعد ذلك يسوي الأرض.

كيفية نظر القاضي للخصومات

كيفية نظر القاضي للخصومات هنا -يا إخوان- مسألة: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرقِ ظالم حق) عممه الفقهاء في كل ظلم، فلو أنه جاء إلى أرض إنسان، وله أرض بجوارها في مخطط واحد، وجاء هذا ليبني، فتجاوز عن حده إلى أرض الجار بمتر، وبنى، فإن البنيان الذي قام على أرض الجار بزحف المتر عرق ظالم، ويحمل عليه وإن لم يكن هناك عروق، وإن كان مبانٍ فهناك قواعد، حتى وإن كان بنياناً عادياً؛ فكل عمل وقع في ملك الغير له دوام وثبوت أطلقوا عليه عرق ظالم. ولكن هل هذا الحديث يمكن أن يطبق في كل صغيرة وكبيرة؟ قال لي والدنا الشيخ الأمين حينما كلفت بالقضاء وجئت أستشيره ماذا أفعل؟ قال: أوصيك بتقوى الله والتأني والتريث في فهم القضية، فلكل قضية ملابساتها، ولا يوجد قضية مثل الثانية، ثم تبين لي فيما بعد أن القضايا تدخل المحكمة كما يدخل الأشخاص، لا يوجد اثنان متفقان، حتى التوأم فيهم بعض المخالفات في الشكل، فكذلك القضايا، كل قضية تدخل المحكمة ففيها بعض المغايرة عن أختها ولو كانت من نوعها، هذه قضية سرقة، وهذه قضية سرقة، خمس قضايا سرقة لا يمكن أن تكون القضايا الخمس متفقة في كل الملابسات. ومن واقع العمل: نجد أن هناك بعض الأمور قد يتمسك فيها بعض الأشخاص بهذا الحديث وهي من التوافه، كما وقع من إنسان اشترى قطعة أرض من مخطط، ثم تقدم إلى الأمانة، وعملت الذرعة والتطبيق وأعطي الرخصة وحفر وبنى إلى أربعة أدوار، ثم بعد خمس سنوات من بداية البناية جاء الجار، وقال: إن صاحب العمارة تجاوز علي بخمسة عشر سنتيمتراً، وأنا أطلب هدم العمارة وإرجاعه عن حقي وتسليم أرضي كاملة. بعد خمس سنوات وهو ساكت! ولما رأيته قلت له: هذا البيت من يسكن فيه؟ قال: أنا، قلت: ألم تره عندما حفر القواعد ورفع الأعمدة، حتى بنيت أربعة أدوار ثم تأتي وتقول: هذا حقي؟! هو يريد أن يشهر بهذا النص سلاحاً قوياً، ولكن هل يتحقق موضوع الغصب والظلم في هذه القضية؟ ثم قال المدعى عليه: والله أنا لا أعرف ذرعة، ولا أعرف أن هذه من حق غيري، أنا عندي صك فيه ذرعة محددة، وتقدمت لطلب رخصة، والأمانة جاءت بمهندس، والمهندس ذرع المخطط، ووضع للمقاول علامات، وأنا ليس لي دخل في هذا ولا أعرف هذا. فلو طبقنا فعلاً هذا النص هل تحقق الظلم من صاحب العمارة، أم أن هذا من باب الخطأ، أو ما يسمى بالتجاوز الذي يمكن أن يعفى عنه أو يغتفر؟ هنا خمسة عشر سنتيمتراً في قطعة ضلعها ثلاثون متراً، ماذا يكون هذا؟ مسألة: رأيته يحفر ما سألت، رفع الأعمدة ما سألت، سقف الدور الأول ما سألت، لماذا سألت الآن، من الذي أدراك بأنه اغتصب من أرضك؟ قال: قال لي الناس، قال الناس ليس بصحيح، أتت الهيئة وذرعوا أرض العمارة، فما وجدوا أي تجاوز. قال: كان هناك سور وتعداه. تعال احفر جنب جدارك ونرى السور، فأتوا حفروا فما وجدوا شيئاً، ما ثبت الظلم هنا. فقال: لا. (ليس لعرق ظالم حق) ، أين تحقيق الظلم الذي وقع من هذا الشخص؟! أخيراً: طلبناً تقدير هذا الذي يدعيه، وإن كان غير ثابت عندنا، لكن من باب مصالحة، وقلنا: هذا حقك أربعمائة ريال. قال: لا أريد. ورفعت للتمييز وصُدق الحكم، وأتينا قلنا له: خذ حقك. قال: لا أريده. فحولناه إلى بيت المال، وبعد أربعة أو خمسة أشهر جاء وقال: أعطني حقي. قلت له: حقك عند بيت المال، اذهب وارفع دعوى عليه وخذ حقك منه. إذاً: تطبيق النصوص لابد أن يراعى فيه المبادئ الأساسية. فقوله: (غرس في أرض قوم) يعني: عمداً؛ لأنه يعلم أنها أرض قوم، فإذا لم يكن هناك العمد، ولم يكن هناك تعريف الغصب بالقوة والقهر، فتطبيق النص ليس متأتياً.

احتياط القاضي في القضايا المالية والتعويضات

احتياط القاضي في القضايا المالية والتعويضات إن مما هو جار على ألسنة الكثيرين: ما يقع من النزاع بين الزوجين، وتطلب الزوجة المخالعة، وقد عرضت عليّ قضية كان الوكيل فيها من طلبة العلم الأخيار، والموكل عنها أيضاً من أسرة أبو طالب علم من الأخيار، فعرض الخلع، فقال وكيل الزوجة: نعطيه ما دفع، وهذه عند الناس جارية. متى كان الزواج؟ قالوا: منذ اثنتي عشرة سنة. لابد أن يوجد هناك رأي خاص، وهل ما دفعه من اثني عشرة سنة هو بعينه اليوم في القيمة الشرائية، ثم جلست في لجنة وفيها من قادة وأخيار أهل المدينة، أربعة أشخاص، وجاء في هذه القضية، فقال رجل منهم: والدي تزوج أمي بريال، فجاءت المناسبة: لو أرادت أن تخالع بعد أن صرت أنت رجلاً كبيراً تدفع ريال؟! فقلت له: إن القيمة الشرائية تختلف من اثني عشرة سنة إلى اليوم. قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته) ؟ هذا المعنى الملتحق في أذهان طلبة العلم، نعم قال ذلك، ولكن هل الحديقة في عينها كالنقد بالريال؟ لا، من عشرين سنة كان الريال الفضة مستعمل، ثم جاءت الريالات الورق، وكان الريال الورق محبب ومقدم عند الناس على الفضة، وكان من أراد الحج والسفر جاء بمائة ريال فضة ومعها ريالين للصراف ليأخذ ورقة بمائة ريال، حتى تكون خفيفة في الحمل، الآن الريال الفضة صار سلعة وهدايا عند الزواج، فتغيرت الأوضاع. فقلت: يا فلان! أنت تعلم أن القيمة الشرائية للمال تختلف بحسب الزمن، ولكن الحديقة هي بعينها، إن ارتفعت الأسعار ارتفعت معها، وإن نزلت الأسعار نزلت معها، فهي بعينها لم تنقص ولم تزدد، فإذا كان الصداق حديقة نعم تردين الحديقة عليه، لكن إذا كانت نقداً، والنقد في ذلك الوقت يختلف عما هو عليه الآن إذاً: القيمة الشرائية للصداق الذي دفعه الرجل من اثني عشرة سنة تعادل القيمة الشرائية لنفس المبلغ الآن بنصف القيمة، فيكون خاسراً لو أنه أخذ ما دفع. إذاً: هذه النصوص بعمومها يجب أن تؤخذ بالموازنة، وبملابساتها، ويراعى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) .

مبحث فيما يطرأ على العين المغصوبة

مبحث فيما يطرأ على العين المغصوبة لقد فرع الفقهاء رحمهم الله على مسألة النخل -ولا يزال في كل ما يمكن أن يقال فيه: إنه غصب وطرأت عليه الطوارئ- مسألة ما يطرأ على المغصوب كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: البحث في أصل الغصب وعين المغصوبة، والبحث في الطوارئ التي تطرأ على المغصوب. مثلاً: إنسان اغتصب سيارة، ثم مكثت عنده شهراً، ثم رأى إطاراتها قديمة، فذهب وغير لها الإطارات الأربعة، وجاء صاحبها يطلبها، هذه السيارة حصل فيها زيادة. إذاً: هناك طوارئ، ولنقل: لم يغير الإطارات ولكن أحد الإطارات تلف وتركه مركوناً بجانب الباب، فجاء صاحبها يطلبها. فهل بقيت على ما كانت عليه وقت الغصب أو نقصت؟ نقصت. إذاً: ينظر في هذه العين مع نقصها. وهناك من يقول: إذا حصلت هناك زيادة بفعل الغاصب دون مادة يضيفها؛ فلا شيء له في فعله، ويردها كما هي، وإذا حصل هناك نقص فهو ضامن لهذا النقص في تلك العين التي اغتصبها؛ لأنه مكلف بأن يردها كما هي. وتقدير هذا النقص يكون بحسب قيمتها يوم أن اغتصبها أو يوم أن يردها؟ نجد هناك الخلاف: من يراعي أصل السلعة يوم اغتصابها؛ قال: يرد قيمة الناقص يوم اغتصبها، والنقص؟ كأن يكون اغتصبها قبل ستة أشهر، والنقص حصل بالأمس، فيقدر هذا النقص من يوم اغتصبها. والآخرون يقولون: يقدر حين يردها؛ لأنها تحت يده إلى أن تؤخذ منه. وهذا الخلاف موجود حتى في بعض المذاهب فيما بينهم، كما هو منصوص عند بعض المالكية، والباب -كما يقال- فروعه متعددة، وما وجدت تفريعات أكثر منها في المغني لـ ابن قدامة، وكشاف القناع للحنابلة أيضاً. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب البيوع - باب الغصب [3]

كتاب البيوع - باب الغصب [3] جمع النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته التي خطبها يوم الحج الأكبر أبرز معالم الإسلام وأصوله التي اشتملت عليه؛ إذ بها تقوم حياة الأمم وتستقيم، وكان من ضمن تلك الأصول: تذكيره للناس بحرمة أكل أموالهم بينهم بالباطل، وأكدّ عظمة تلك الحرمة بجعلها كحرمة البلد الحرام في الشهر واليوم الحرام.

شرح حديث: (إن أموالكم عليكم حرام.

شرح حديث: (إن أموالكم عليكم حرام ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: (إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه] .

مجمل خطبة الوداع في الحج

مجمل خطبة الوداع في الحج هذا جزء من حديث طويل، ومن خطبة بليغة جامعة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد اشتملت في مجموعها على مهام تعاليم الإسلام؛ فتناول صلى الله عليه وسلم الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وحذر من الفرقة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ثم تناول المرأة بحقوقها، وأنها عوان بأيديكم، واستوصوا بها خيراً. ولم يقل: أوصيكم بها خيراً، بل قال: استوصوا؛ لأنه لو قال: (أوصيكم) تكون وصية واحدة من مصدر واحد، وهو كاف؛ لأنها وصية رسول الله، ولكن قال: (استوصوا) ؛ لتستمر الوصية على مدى الأجيال، كل يوصي الآخر بالمرأة، والعوان: الخدم، (استحللتموهن بكلمة الله) ، ليس بالصداق، ولا بالمغالاة في المهور، ولا بالأثاث ومتاع الدنيا، ولكن بكلمة الله: زوجتك قبلت. ثم تناول صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام، ثم جاء إلى هذه الجملة، وهي من جوامع الكلم، وجعل لها مقدمة، وهذا من بلاغة الأسلوب النبوي حتى يسترعي الانتباه، ويوحي بخطر ما سيأتي بعده، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى. وقال: أي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر الله المحرم -أي: الأشهر الحرم-؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى) كل هذه المقدمات تثير تعظيم حرمات الله، اليوم الحرام، الحج الأكبر، الشهر الحرام: ذو الحجة، في البلد الحرام: مكة المكرمة، ثم قال: (ألا -وهي أداة تنبيه تسترعي انتباه الغافل، وقد أثار فيهم الشعور من قبل بالحرمات الثلاث- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) . لو تأملنا هذا التحريم بالربط مع هذه المحرمات الثلاث لو جدناه كما يقوله الرياضيون: تحريم أس ثلاثة. يعني: تكرار التحريم ثلاث مرات، والمتأمل في ذلك يجد أن أمن الدنيا وأمانها في سائر العالم لا في بلد دون بلد، ولا قطر دون قطر، ولا مع دين دون دين، جميع أنحاء العالم لا يمكن أن تستقر فيها حياة، ولا يستتب فيها أمن إلا إذا أمنت هذه الأمور الثلاثة؛ لأن البلد الذي لا يأمن فيه الناس على دمائهم قلق مضطرب، ونحن نشاهد ونسمع في بعض البلاد التي تزعزعها السياسة، وتثيرها الأحداث كيف يعيشون، لا يأمن الإنسان على نفسه في بيته ولا الطريق ولا الأسواق، ولا يدري متى يصاب، وهكذا الأعراض تنتهك بدون مبالاة، والأموال تنتهب علانية وتغتصب قسراً، ولا يستطيع أحد أن يرد تلك المظالم، بل أصبحت أموال الدول تغتصب الدولة تغتصب في ممتلكاتها وإنتاجها وذخائرها وموردها الخام، وقد تغتصب عياناً، أو من وراء الستار.

حقوق الإنسان من منظور إسلامي

حقوق الإنسان من منظور إسلامي الأصوليون يقولون: إن جميع الأديان، وجميع نظم العالم اتفقت على ضرورة حفظ الضروريات الخمس التي لا قوام لمجتمع بدونها: الأديان، والأبدان، والأنساب، والأعراض، والأموال، وبعضهم يجعلها ستاً بإضافة العقول، والبعض يعد الأنساب والأعراض اثنين، وبعضهم يجعلها واحدة تلك الأمور الست مشتملة ضمناً في مسميات خطبة الوداع، دماؤكم هي حفظ الأبدان، أعراضكم، ويدخل تحتها الأنساب؛ لأن الأنساب لا تتدنس ولا تختلط إلا بعد انتهاك الأعراض، فإذا صينت الأعراض صينت الأجساد، وبقي العقل والدين؛ فالخطاب مع أهل الدين؛ لأنهم في الحج، ومن احترم ذلك احترم الدين، وكذلك العقل؛ لأنه يخاطب العقلاء. وعلى هذا: فتلك الجملة في هذه الخطبة تعتبر أماناً وضماناً للمجتمعات بأسرها، وإذا أردنا أن نوسع في مدلول هذه المسميات: (دماءكم) سواء كان باعتداء أو خطأ، أو في النفس أو الأعضاء، كل ذلك محرم، وقد حمى الله الدماء، وجعل في الاعتداء عليها القصاص {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] ، ثم جعل الجروح قصاص، ثم سد باب الاعتداء، ووضع الحواجز دون سفك الدماء؛ لعدم الاستهزاء والسخرية، والسباب، والدخول في المناقشات الحادة حتى لا تصل إلى سفك الدماء، وتأملوا ذلك في سورة الحجرات. والأموال حرمها الله سبحانه وتعالى: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وطيب النفس إما بعوض وإما بهبة، أما بغير ذلك فليس هناك طيب نفس، وما جاء في الصداق: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإذا لم يطبن؟ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ثم يبين: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] ؛ فهو حق ثبت بالإفضاء، فإن طابت نفس المرأة بصداقها ولو قناطير مقنطرة فـ: {هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإن لم تطب نفسها ولو بدرهم فلا يجوز أخذه، وهذا تنبيه للذين يؤذون النساء ويسيئون عشرتهن لتفتدي منه بالمال، فهذا أخذ ماله بغير رضاها، والتعدي على حقوقها واضطرارها للافتداء منه. وكذلك لو ذهبنا إلى الأسواق ونظرنا فيما يتعلق بالغش والتدليس، وبتطفيف الكيل والوزن، وبكل أمور المبيعات والوصول إلى أموال الناس بغير حق، فهي داخلة في هذا ضمناً، ثم لما حرم الله المال ما حرمه إلا بحق، وجعل في سرقته القطع، وفي اغتصابه التعزير، وفرق بين الاختلاس والاغتصاب والسرقة، بفوارق مذكورة في كتب الفقه. فالسرقة: أخذ المال بالخفية من حرزه. والاختلاس: أن يخون المؤتمن على ما اؤتمن عليه. والغصب: أخذ المال قهراً بدون حق. فهذه كلها طرق حرمها الله ليسلم المال لصاحبه. ثم في التحايل عليه، وطرق الغش فيه، والرشوة قال الله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] ، أو العموم في أول السياق: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله: (بالباطل) راجعة إلى أموالكم بينكم، إلى مال الشخص في ذاته بأن ينفق ماله في باطل محرم: مخدرات، مضرات، سرف وتلف، وأموال أخيه إليه، و (أموالكم) تعم الطرفين: الشخص في ذاته في إنفاقه فيما حرم الله، والآخر في أخذه بدون رضاه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، بخلاف الذي لا يعلم بأن ذلك خطأ، أو جاء سهواً، فلما نبه عليه رد المال إلى أهله.

حفظ الإسلام للأنساب

حفظ الإسلام للأنساب نجد أن جميع الحقوق في الإسلام قد صينت، وأما الأنساب فقد حرم الله الزنا؛ لأن به اختلاط النسل، وجعل فيه الحد الجلد أو الرجم، وجعل له حمى كما جعل للمال حمى تحريم الاختلاس والغش والتدليس، وفي الزنا حرم الخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة بغير محرم معها، والنظرة تلو النظرة، وحرم كل ما لا يجوز للإنسان فعله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور:30] ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [النور:31] ، فكل ذلك حرمه حماية للأنساب، وسداً لباب الشيطان. بل قد سد الشرع كل منافذ القلب، فالعين والأذن والأنف كلها منافذ توصل إلى القلب، فالعين بالنظر: (لك الأولى وعليك الثانية) ، والأذن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ، وبالأنف: (لا تخرج المرأة من بيتها متعطرة) ، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مرت به امرأة فشم ريح العطر منها، فقال: يا هذه! ارجعي فاغتسلي غسل الجنابة فإنك زانية. وأين الزنا؟ الحديث الآخر يبين ذلك؛ لأن الزنا نسبي، (فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والأنف. والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وكذلك السمع: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] ، كن يلبسن الخلاخل في الرجل، فإذا ضربت الأرض برجلها تصادم الخلخالان -من الفضة مجوفان- وأحدثا صوتاً يسترعي الانتباه، وهكذا كل ما يلفت النظر إلى المرأة: لباسها، زينتها، لا تبدي زينتها فتسترعي الأنظار إليها. إذاً: حفظ الأنساب، وجعل في التعدي بالزنا الحد، وجعل له حمى حتى لا يصل الاثنان إلى ما حرم الله. وكذلك الأعراض: وهو السباب، والقذف بالمحرمات. كل ذلك صيانة للمجتمع، فإذا ما سلّم المجتمع الإنساني ولا أقول الإسلامي بل الإنساني لأن لهذا لكل الإنسانية حفظ له دينه.

حفظ الإسلام للدين والمال والأسرة

حفظ الإسلام للدين والمال والأسرة ويقول علماء الاجتماع: الدين ضرورة اجتماعية، يمكن أن تجد مدينة بلا ملعب ولا ملهى ولا مسبح، ولكن لا تجد مدينة بدون معبد -على عبادتهم صالحة أو طالحة- لأن الداخل لابد من إعماره وإلا كان خواءً، فيملأ الداخل بعبادة. كيف تكون؟ هذا أمر مختلف فيه، وكما قيل سابقاً: الشرق الأوسط فيه خلاء لابد من شغله -أي: خلاء سياسي- وكذلك الداخل في الإنسان خواء ما لم يشغله بتعبد، وأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام وهي حجارة وهم من ينحتونها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:3] . إذاً: أمر بحفظ الأديان والأبدان وعدم الاعتداء عليها، وهذه مشاكل العالم كله، وقد عجزت هيئة الأمم، ومجلس الأمن، والجامعة العربية، وهيئة الإسعاف والإغاثة وكل تلك الدوائر والمؤسسات عن كف وحقن الدماء في تلك البلاد التي تسفك فيها الدماء ونحن نسمع ذلك ليل نهار، سواء كان بين مسلمين وغير مسلمين، أو شحناء وعصبية قبلية كما يوجد الآن في بعض دول أفريقيا، فلو حفظت الدماء، وأمن الناس، واستقرت الحياة، ليسعدوا بالأمنين {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] . وكذلك الأموال؛ لأن الإنسان يسعى لكسب المال، وهذه غريزة، وهذا دفع للشيوعية كما كانت؛ لأنه لولا المال وحق تملكه والميراث من بعده ما سعى إنسان لجمع أكثر من قسط يومه؛ ولكن يجمعه لمستقبله ولذريته ولما شاء الله، وهكذا الأنساب، لو ضاعت ضاعت المجتمعات، وكما كان يوجد في (نظام الكبتس) ، وهو معسكرات أو مستوطنات يجتمع فيها الأخلاط من رجال ونساء، ليس عليهم كسب للعيش، يطعمون ويسخرون في عمل الدولة، وعليه أن يعمل حيث ما وجه الرجل أو المرأة، ويضمن له طعامه وشرابه، والرجال مع النساء سواء، وما جاء من الذرية يعيش في تلك الحياة، وينشأ على ذلك الحال، ولا يعلم من أبوه ولا من أمه! وهكذا ضاعت المجتمعات. إن النظام غير الأسري نظام منهار؛ لأن كل فرد بذاته، ولو أخذنا منهم جيشاً وواجهوا العدو فكل إنسان يراعي حياة نفسه، أما المجتمع الأسري الذي يعيش على الأسرة، والترابط وذوي الأرحام؛ فإننا إذا أخذنا جيشاً من هذا المجتمع وقف أمام العدو. إن هذا النظام الأسري لا ينظر إلى شخصه ونفسه، بل ينظر إلى أمه وخالته وعمته وأبيه وعمه، ويكون سداً منيعاً أمام من وراءه من ذوي رحمه وقرابته، فالمجتمع الأسري مترابط كالبنيان يحمي بعضه بعضاً، والمجتمع غير الأسري لا حياة له لعلكم سمعتم سابقاً في أول قيام إسرائيل، من المجيء بالفرق الأجنبية المستأجرة من هذا النوع، ليس لها أسر، وكانوا يربطون في المصفحات بالسلاسل؛ لأنهم إذا واجهوا العدو شردوا، فليس عندهم من يدافعون عنه، والقضية ليست قضيتهم إنما هي قضية غيرهم، فلا يبيع حياته بأجرة يأخذها. هكذا نجد الفرق بين المجتمع الذي يحافظ على أنسابه، ويقوم على كيان الأسرة، وبين المجتمع الذي لا نظام للأسرة فيه ويكونون كقطعان الغنم، أو كالسمك في الماء، لا يلوي فرد على فرد، ولا أحد على أحد. إذاً: تحريم الأنساب هو قاعدة البناء للمجتمع الإنساني الصحيح، وهكذا الأعراض؛ لأن من حفظ عرضه وحفظ كيانه، ووجد نفسه طاهراً نقياً حافظ على ذلك الطهر. ومناسبة هذا الحديث الذي من أجلها جاء به المؤلف قوله: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ، ومناسبته لباب الغصب إنما هو لذكره تحريم المال والعرض؛ لأن العرض يغتصب، والمرأة إذا اغتصبت لا حد عليها؛ لأنها مكرهة، وهكذا الرجل إن صح ذلك كما يقول ابن تيمية رحمه الله. وهكذا -أيها الإخوة- نجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة يجمع أطراف الإسلام وتعاليمه كلها في تلك الخطبة، وأنا أسميها: (مجمل الإسلام) ، فلو أن إنساناً تأمل كل ما جاء فيها لعلم قدرها، وهي ولم تجمع حتى اليوم، ولو أن طلاب علم -ليس بطالب علم- تعاونوا على جمع جملها وفقراتها من كتب السنة والتاريخ لخرجوا لنا بدستور ومنهج قويم من السنة النبوية، يعتبر الإجمال لكل تفصيلات التشريع منذ ثلاث وعشرين سنة، فكل باب من أبواب الإسلام تطرق له النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة العقائد، والعشرة في البيوت، والضرب في الأسواق، حفظ الكيان الإنساني في نسبه وعرضه. إلى غير ذلك. وإذا كان مدلول هذا الحديث ومناسبته لباب الغصب فإننا بهذه المناسبة نرجع قليلاً إلى تلك الخطبة ومثارها، حيث قال صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة مطلقاً: (خذوا عني) ، وجاء مقيداً: (خذوا عني مناسككم) فالأول أعم؛ (خذوا عني) كل شيء مما يقوله، ويفعله، ويقرره، خذوا عنه في شأن الحج مناسككم، خذوا عنه في شأن المرأة، والمال، والبيع والشراء، والمعاهدات، والمجتمعات، خذوا عنه كل شيء رأيتموه سواء كان سماعاً أو رؤية أو تقريراً. ثم الجملة التي جاءت مع هذه المقدمات: (خذوا عني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وفعلاً فإنه ما حج بعدها، ولا أدرك الحج، ولا عُمِّر طويلاً، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.

إرهاصات وفاته عليه الصلاة والسلام

إرهاصات وفاته عليه الصلاة والسلام إن انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت له إرهاصات، وكان فيها تنبيهات كما جاءت إرهاصات عام مولده صلى الله عليه وسلم، فكان لمولده إرهاصات أشارت إلى مجيئه، ولوفاته إرهاصات أشارت إلى قرب أجله وانتقاله. نعلم جميعاً أن هناك من يجعل من إرهاصات المولد هلاك جيش أبرهة بطير أبابيل، كما قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ} [قريش:1-2] ، أي: فعل ذلك من أجل قريش، وقالوا: إرهاصاً بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك انصداع إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وجفاف بحيرة ساوة. ومن العجب -أيها الإخوة- حينما جئنا إلى المدائن، وإلى الإيوان رأيناه مبنىاً في ارتفاع فوق الثلاثين متراً تقريباً، وعرضه ثلاثون متراً، وعمقه أربعون متراً، وسقفه عقود كالقبة، ليس بخشب ولا مسلح! فقلت: أين الصدع؟ فإذا به فوق الجدار في الوسط بين الأرض والسقف جدار الإيوان عرضه من أسفله أربعة أمتار، وينتهي في أعلاه على بعد النظر في العين حوالي نصف المتر، والصدع آخذ شكل -كما يقال-: (سنبوسك) من أعلى ينتهي بصفر، ومن أسفل ينتهي بصفر، ومن الوسط انفراج حوالي ما بين المترين أو الثلاثة في نظر العين، فقالوا: هذا هو الانصداع من ذاك التاريخ إلى اليوم. فسألت: أين القبلة؟ فكان معنا الملحق الثقافي، وبحضور الشيخ ابن صالح رحمه الله، قال: ما شأنك في هذا؟ قلت: لي حاجة. قالوا: هنا. إلى جهة الصدع، قلت: الله أكبر! قال: ماذا؟ قلت: على اتجاه الكعبة مباشرة، لكأن أشعة جاءت من مكة إلى الأيوان فصدعته، ما صدع من الشرق ولا من الغرب، والصدع إلى مسامتة مكة تماماً، ما صدع من يمين ولا يسار، ولكنه مقابل لها، وهذا يؤيد صدق الخبر. ومن العلامات التي وجدت عند مولده صلى الله عليه وسلم: أن الشياطين حبست عن السماء. وكذلك عند انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كانت هناك إرهاصات أو علامات، صريحة الدلالة على النقل، ولكن ربما كان في دلالتها بعض الكنايات، أوائل ذلك: قبل حجة الوداع في سفره صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وذهب يقضي حاجته ويتوضأ، فتأخر على القوم، فقالوا: أمره عنده، ونحن أمرنا بالصلاة في وقتها، ونخشى إن انتظرنا أكثر ربما يخرج الوقت، وقدموا رجلاً يصلي بهم وهو ابن عوف، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه المغيرة بن شعبة، فهم المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم رسول الله؛ لأنه من حقه، فهو الإمام الراتب، فأشار إليه رسول أن دعه، وصف في الصف خلف إمامهم، وكان قد سبق بركعة، فصلى مع الجماعة ركعة، ثم أتم صلاته بعد سلام الإمام، فلما نظر الناس ما وقع لرسول الله حدث عندهم شيء، فقال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن صلى وراء رجل من أمته) . إذاً: الدلالة هنا دلالة عظمى، يدركها حتى الصغار. إذاً: جاء النبي إلى أمة أعرابية حفاة عراة جهلة، يأكل قويهم ضعيفهم، فساسهم سياسة الإبل الصعاب حتى سخرهم الله وقادهم إليه، وانتقلوا من البداوة إلى الحضارة، ومن التبعية إلى الإمامة، وأصبح الواحد منهم صالحاً لأن يكون إماماً وقدوة يقتدى به. تربية ناجحة، وتخريج ناجح، وأصبحت الأمة الإسلامية بجميع أفرادها صالحين للإمامة وللقدوة، ولهذا سادوا العالم، ونشروا الإسلام، وانطلقوا بالدعوة شرقاً وغرباً حتى امتلأ العالم كله بتلاميذ رسول الله، وممن اقتدى يعلمون الناس الخير، فهذا إرهاص بأنه تمت مهمته، ونجح في رسالته، وأخرج هذه الأجيال. من ذلك أيضاً: ما كان في حجة الوداع: لما نزل عليه قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى شيوخ قريش يستكثرون مجيء ابن عباس في مجلسهم أراد أن يبين لهم فضله وهو غلام، فسألهم ذات يوم: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ؟ قالوا: هذه بشرى من الله لرسوله بالنصرة والفتح ودخول الإنسان في الإسلام بلا قتال، وابن عباس لم يتكلم، فالتفت إليه عمر وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟ قال: والله لقد نعت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن الله أرسله بالرسالة لكي يبلغها، وقد بلغها للناس، وأصبح الناس يدخلون في الدين الذي جاء به أفواجاً بغير قتال. إذاً: مهمته قد انتهت وقد فرغ منها، ولم يبق له إلا أن يتهيأ ويتزود لملاقاة ربه ليلقى. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. كذلك قال: أحضروا المنبر. فصعد فخطب الناس بعد صلاة الظهر، ولم ينزل حتى أذن العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن المغرب، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن العشاء، فقال قائل: (والله ما ترك لنا شيئاً ولا طائراً يطير بجناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه خبراً، حفظ من حفظ ونسي من نسي) . وعن العرباض بن سارية، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: زدنا يا رسول الله لكأنها موعظة مودع) ، نعم موعظة مودع، أدركوا ذلك، وقال وهو على المنبر: (عبد خيره الله فيما بينه والدنيا، فاختار ما عند الله) ، فبكى أبو بكر في أصل المنبر، قال: قلنا: ما بال هذا الشيخ! ما الذي يبكيك؟ وما شأنه في ذلك؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه عرف من العبد الذي خُير، وقد جاء صريحاً في مرض وفاته صلوات الله وسلامه عليه، لما ألحوا عليه أن يكتب لهم، قالوا: (دعوني فما عند الله خير لي منكم) . بعد هذه العلامات والإرهاصات جاء مرضه صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) هنا جاء الاستخلاف. ثم لما قال: (ائتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم. فقال علي رضي الله تعالى عنه: قلت في نفسي: خفت أن أذهب فيفوتني، قلت: قل يا رسول الله فإني حاضر -يعني: أحفظ ما تقول عن الكتابة، مخافة أن أذهب فيفوتني ما تريد أن تقول- فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم!) ، إلى نحو ذلك، ما خرج من الدنيا صلوات الله وسلامه عليه بغتة، ولكن أعطى تعليمات وإشارات ليتهيأ الناس لذلك الحدث العظيم، كما جاء: (من أصيب في مصيبة فليتذكر مصيبته في) ، وعن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاستنارت وأنار منها كل شيء، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظلمت المدينة وأظلم منها كل شيء) . ويقول ابن مسعود: (والله لقد أنكرنا قلوبنا ولما نقبر رسول الله بعد) . كانوا في حياته في إشعاع، أنوار، هداية، وبعد وفاته تغيرت القلوب. ثم في وصيته ما ترك الناس همجاً، ما ترك الدنيا بعد هذه التوجيهات إلا وقد رسم لهم منهج السعادة والحياة الكريمة، وإبقاءً على دعوة الإسلام وامتدادها إلى ما شاء الله: (تركت فيكم -أي: بعدي- ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) . وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية تسير على محورين متقابلين، كل منهما يبين الآخر، ويفصل مجمله: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالسعيد من رزقه الله فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله، وإقام حياته على مقتضاهما، ولقد جرب العالم منذ ذاك التاريخ حينما يقام كتاب الله، ويعمل بسنة رسول الله حين كانت الأمة الإسلامية هي أسعد الأمم في العالم، حينما كانت دول الغرب -كما قيل- قناصين في البحر، أو صيادين للأسماك، أو بادية في صحرائهم وغير ذلك، كان العرب سادة وقادة، وأخذ الغرب عن المسلمين -دون أن يعلموا- ذخائر العلم وردوها عليهم. وهكذا نحن في هذا العصر وبعد قرن ونصف يجد العالم كله أن التجربة الإسلامية هي الحقة، الدولة التي قامت على كتاب الله وعلى سنة رسول الله على ما في أهلها من قصور، لكنها أمثل العالم أمناً واستقراراً وطمأنينة وإخاءً، فعلى هذا كان صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع حينما قال هذا الحديث النبوي الشريف: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وإني لأتمنى وأرجو من الإخوة طلبة العلم أن يتعاون الخمسة أو العشرة على النظر في كتب السنة والمسانيد ليجمعوا كل ما قيل في تلك الخطبة، ثم ينسقوها لنا، ويقدموها لنا منهجاً وبرنامجاً. وبالله تعالى التوفيق. والحمد لله رب العالمين.

كتاب البيوع - باب الشفعة [1]

كتاب البيوع - باب الشفعة [1] من القواعد العظيمة في الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار، فرفع الشرع الضرر عن المسلم وحرم عليه الضرار، ولذلك جاءت أحكام كثيرة في الشرع تدل على هذه القاعدة، ومنها: الشفعة، فالشفعة شرعت لرفع الضرر عن الشريك أو الجار ممن قد يأتي ويحصل منه الضرر والأذى.

شرح حديث: (قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم.

شرح حديث: (قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي رواية لـ مسلم: (الشفعة في كل شِرك: في أرض، أو ربع، أو حائط، لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه) ، وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات] .

مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب

مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب؛ لأن بينهما شبهاً وهو انتزاع ملك الغير بغير إذنه؛ لأن الغاصب يستولي على ملك الغير قهراً وبغير إذنه، وكذلك الشفعة، فالشفيع ينتزع حصة المشفوع عليه قهراً. أي: بالقوة أو بدون رضاه؛ فبينهما شبه ما.

تعريف الشفعة وصورتها وسبب مشروعيتها

تعريف الشفعة وصورتها وسبب مشروعيتها والشفعة لغة: من الشفع ضد الوتر، فالوتر واحد، والشفع اثنان فأكثر مما يقبل القسمة على اثنين بدون باقٍ، كالأربعة والستة والثمانية والعشرة إلخ، فهذه أعداد شفع، والواحد والثلاثة والخمسة والسبعة أعداد وتر؛ لأنها لا تقبل القسمة على اثنين بدون باق. والشفعة قيل: أخذت من معنى الشفع بمعنى: الزيادة، وبمعنى: الضم، وبمعنى: النصرة. والشفعة عند الفقهاء رحمهم الله هي: أن يأخذ الشريك حصة شريكه ممن اشتراها عن طريق الحاكم. وقال بعض العلماء: إن الشفعة غايرت القاعدة العامة في احترام أموال الناس؛ لأن بها انتزع حق المالك بغير رضاه، والقاعدة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) فقالوا: غايرت القاعدة العامة، ولكن استندت إلى قاعدة أخرى وهي: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ ولهذا يقولون: شرعت الشفعة لرفع الضرر عن الشريك. وصورتها على سبيل الإجمال: أن يكون العقار -ربع أو دار، أي: أرض أو بيت أو بستان- مملوكاً لاثنين هما شريكان فيه، وتلك الشركة على الإشاعة، كل له النصف أو الربع أو ثلاثة أرباع، أو الثلث أو الثلثان، بدون قسمة ولا تمييز، أو له ثلاثون أو ستون في المائة من عين العقار، فيبيع أحد الشريكين حصته إلى شخص ثالث، فيأتي الشريك الذي لم يبع ويخشى مضرة الذي اشترى بأن يسيء معه الشراكة أو يكون رجل سوء؛ فيشفع عليه وينتزع منه الحصة التي اشتراها من شريكه ويضمها إلى حصته هو، فيكون قد شفع حصة شريكه إلى حصته بضمها إليه. هذا هو هيكل الشفعة، وذكر بعض العلماء: أن الشفعة في الجملة كانت موجودة في الجاهلية وإن لم تكن على النظام المشروع والموجود في الإسلام، وذكروا: أن الرجل كان إذا أراد أن يبيع بيته -وليس فيه شركة لأحد- فإذا علم رجل بذلك، وأتاه وقال: أنا أحب أن أشتري البيت، قدمه على غيره، فاعتبروا ذلك من الشفعة. ومن القواعد العامة في الإسلام: احترام الأموال، ومن القواعد العامة: رفع الضرر، فالشفعة يجتمع فيها الأمران؛ يجتمع فيها احترام المال والتعدي عليه، ويجتمع فيها وجود المضرة. أما أخذ المال؛ فلأن الشفيع يأخذ حصة المشتري بدون رضاه، والمال محترم وهذا فيه مضرة على المشتري أن ينتزع ماله بغير رضاه، وفيها أيضاً رفع الضرر عن الشريك الذي لم يبع؛ لأن المشتري أجنبي عنه، وقد يعلم من سلوك المشتري الذي سيدخل شريكاً معه ما يتضرر به. إذاً: هناك مضرة على الذي اشترى بانتزاعه منه، وهناك مضرة على الذي لم يبع بدخول شخص ثالث عليه، فاجتمعت المضرتان. والقاعدة عند الأصوليين: (إذا وجدت مضرتان؛ فيرتكب أخفهما ضرراً) . فقالوا: إن المضرة التي تكون على المشتري بأخذ الحصة منه وردها إلى الشريك أخف من المضرة التي ستكون على الشريك من المشتري الجديد سيئ الخلق أو سيئ الشراكة أو العشرة. إذاً: يرتكب أخف الضررين؛ فيلغى شراء المشتري الجديد وترجع الحصة إلى صاحب الشراكة القديمة، والمشتري سيأخذ ما دفع، وليس عليه مضرة مالية، فإذا اشترى بألف فسيرد إليه الألف الذي دفع، وانتهت المشكلة، بخلاف ما لو ألغينا الشفعة، فسيأتي شخص آخر -وبحكم التملك- ربما طالب بالقسمة في المشاع، وربما زاحم صاحب الشراكة الأول فتكون المضرة مستمرة. ويقولون: ما خالف في الشفعة من السلف إلا عالم واحد يقال له: الأصم، فإنه قال: هذا اشترى وتملك، فكيف ننزع منه ملكه بغير رضاه؟ وأجاب الجمهور: بأن هذا من باب ارتكاب أخف الضررين. والعالم كله على سبيل الإجمال يقرر الشفعة في القضاء المدني ما عدا بلداً واحداً عربياً ألغى الحكم بالشفعة في عهد قريب حوالي في الخمسينات بينما القضاء الفرنسي إلى اليوم يعمل بالشفعة، والقوانين الأوربية كلها تقر العمل بالشفعة. إذاً: كما يقول العلماء: الشفعة ثابتة بالكتاب، وبالسنة وبالإجماع. أما الكتاب فبالعمومات، وأما السنة فبنصوص تفصيلية كما ذكر المؤلف رحمه الله هنا. وأما الإجماع: فالعمل بها ماض من زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مر العصور الإسلامية، وهلم جرا. إذاً: الشفعة مشروعة بلا نزاع، ولا عبرة بالأصم في مخالفته، ولا عبرة بإلغاء بعض الدول العربية المتأخرة للشفعة، فقد كانت موجودة عندها قبل الإلغاء، وهو حجة عليها.

أركان الشفعة وفي أي شيء تكون

أركان الشفعة وفي أي شيء تكون وهذه النصوص التي جاءت وسمعناها في الشفعة كما يقول ابن رشد رحمه الله تعالى: تبحث من عدة جوانب: أولاً: أركان الشفعة، وأركانها: شافع، ومشفوع عليه، ومشفوع فيه. أما الشافع: فهو الشريك الأول، وأما المشفوع عليه فهو المشتري، وأما المشفوع فيه، فهو موضع البحث عند العلماء. ثانياً: في أي شيء تكون؟ عندنا الحديث الأول وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا جرت القسمة، وصرفت الطرق، وضربت الحدود؛ فلا شفعة) يؤخذ من هذا الحديث: أن الذي تقع فيه الشفعة هو الملك المشاع مثل عقار يمكن أن يقسم وتميز الحصص الشائعة، كما يقال: قسمة إفراز، فإذا كان هناك اثنان يمتلكان بيتاً أو أرضاً، واحد منهما له الثلث والآخر له الثلثان فهو مشاع، فلكل واحد منهما حصته في كل شبر منها، كل شبر من الأرض لأحدهما فيه الثلث والآخر له الثلثان؛ لأن هذا حق مشاع داخل في جميع جزئيات الأرض المشتركة، وهذا خلاف ما يقال عند المتأخرين والمتقدمين: ما كانت الشراكة فيه على التعيين، بمعنى: هذه الأرض ألف متر، له خمسون متراً ولشريكه الباقي، فهنا هذه شركة على التعيين بالأمتار وليست مشاعة بنسبة مئوية، وهذا النوع من الشراكة، الجمهور على أنه لا شفعة فيه، وعند بعض المالكية أنها تساوي الشراكة المشاعة بدون تعيين وتحديد مقدار. فإذا كان الحديث: (الشفعة فيما لم يقسم) . إذاً: يكون قابل القسمة فإذا كان العقار من حيث الصغر أو من حيث موضوع عمله لا يقبل قسمة فلا شفعة فيه، فلو أن هناك مصنعاً لتجميع سيارات، أو منجرة فيها آلات يساعد بعضها بعضاً؛ فمنها المنشار الذي يشق الخشب والذي يمسحه ومنها ما يثقبه، وكلها يكمل بعضها بعضاً، فلا يمكن قسمتها، فلا يمكن قسمة المنشار، ولا يمكن قسمة الآلة التي تنعم الخشب، فإذا قسمت وأخذ واحد منشاراً، وأخذ الثاني قطعة من خشب فالمنشار بدون تلك القطعة لا يعمل شيئاً، أو كان العقار صغيراً، كدكان مساحته متر في متر ونصف، وقد شاهدنا سابقاً بعض الدكاكين لا يزيد عن متر في مترين، متر واجهة ومترين عمق، فكيف يقسم؟ وإذا قسم لا يستفاد من قسمته، فهذا لا شفعة فيه. وقالوا: ما أبطلت الشفعة المنفعة المقصودة منه فلا شفعة فيه، ومثلوا بالحمام، والحمام هو: مبنى كبير فيه مرافق لجلوس الناس وراحتهم بعد الاستحمام، وفيه مغطس فيه ماء حار، وفيه موضع للتدليك، فلو قسمنا هذا الحمام لبطل كونه حماماً؛ لأن كل شقص منه لا يؤدي وظيفته كحمام بكامله. إذاً: لا تصح فيه شفعة. وكذلك الرحى على ما كانت قديماً، كانت تدار بالماء وتدار بالهواء، وهي تقبل القسمة؛ لأنها حجر فوق وحجر تحت، ولكن أحد الحجرين لا يعمل بدون الآخر، كما يقول المثل العامي: (يد واحدة لا تصفق) ، أي: لابد من ضم اليد الثانية إليها، وكذلك الرحى، وهكذا البيت الصغير، إذا لم يقبل القسمة وإذا قسم عطلت منافعه، فلا يصلح لسكنى أحد. إذاً: قوله: (ما لم يقسم) يفيد أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة؛ لأن نفي القسمة لا يكون عن شيء من شأنه أن يقبل القسمة، وهذه قاعدة عند علماء المنطق يسمونها: (العدم والملكة) ، وهو أنه لا يحق لك أن تنفي صفة عن شيء إلا إذا كان قابلاً للاتصاف بها، فلا تقول: هذا الكرسي لا يطير؛ لأنه ليس من شأنه الطيران، ولا تقول: هذه السارية لا تسمع؛ لأنه ليس من شأنها أن تسمع، فتنفي عنها شيئاً ليس من شأنها، اللهم إلا إذا كان في العصور الحديثة حيث صارت السماعات تجعل في الجدران!! فهنا: (مالم يقسم) نفي القسمة يدل على أن المتحدث عنه قابل للقسمة. ومن هنا خص الجمهور الشفعة في الشراكة؛ لأنه إذا ضربت الحدود، بمعنى: قسمت فلا شفعة، فإذا كان هناك ألف متر من الأررض وأردنا أن نقسمها مناصفة فهل يتعين أن كل قسم يكون خمسمائة متر أو يمكن أن يتفاوت في القسمة بحسب المواقع، فإذا كانت هناك واجهة عشرون متراً، وواجهة من الجهة الثانية عشرة أمتار، وقسمناه عرضاً، فسيكون النصف على الواجهة الأولى عشرون متراً، والنصف على الواجهة الثانية عشرة أمتار، فهل يستويان معاً وتتحد فيهما الرغبة؟ الجواب: لا، بل لابد أن ننقص من القسم الذي على الواجهة الواسعة لنعوض صاحب الواجهة الصغيرة. إذاً: بحسب القسمة، وقعت القسمة بالمناصفة في الحقوق، لا في عين المساحة إذا قسمت ووضعت الحدود؛ لأن المشاع ليس فيه حدود، (فإذا وضعت الحدود) أي: جعل هذا حد قسمي وهذا حد قسمك، (وصرفت الطرق) كأن يكون الطريق كله في الشارع الواسع؛ لأنه مشترك مشاع، ولما قسمنا اضطررنا أن نوجد طريقاً آخر للقسم الثاني فجعلنا طريقه من الشارع الآخر سواءً شرقاً أو غرباً، فحينئذ إذا وقعت القسمة وضربت الحدود وصرفت الطرق، فقد انتفت الشراكة، وأصبح كل واحد من الشريكين جاراً للآخر، فقالوا: لا شفعة للجار بمقتضى هذا الحديث، وهو كما ذكر المؤلف رواه الشيخان البخاري ومسلم، وليس فيه أي مطعن. إذاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم) يعني: في كل شراكة في أي عقار قابل للقسمة ولم يقسم، فإذا ما جرت القسمة، وضربت الحدود، وصرفت الطرق انتفى معنى الشراكة وأصبحا بدل الشريكين جارين.

شرح حديث: (الشفعة في كل شرك.

شرح حديث: (الشفعة في كل شرك ... ) قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية مسلم: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط) ] . (الشفعة في كل شِرك) والشرك بأن يكون -كما تقدم- شركاً مشاعاً، ليس شركاً محدداً بالأمتار، فهذا نص في أن الشفعة تكون في كل شرك، والمجاور ليس شريكاً إنما هو مجاز. قوله: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط) . (في أرض -أرض بيضاء- أو في ربع) والربع: قيل: الأرض البيضاء التي لا غرس فيها، وقيل: هي التي فيها الغروس، يعني: نقول: في بستان أو في أرض بيضاء أو في بيت.

حكم البيع إذا لم يعرض البائع على شريكه

حكم البيع إذا لم يعرض البائع على شريكه قوله: (لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه) . أي: لا يصلح لأحد الشريكين أن يبيع حصته في الشراكة حتى يعرضها على شريكه، فيقول له: أتأخذ نصيبي أو أبيعه؟ فإن قال: آخذ، فالحمد لله، وهو أولى من الغير، وإن قال: لا آخذ، فله أن يبيعه من غيره؛ لأنه سيأتي في شروط الأخذ بالشفعة: أن الشفيع يأخذ بعين الثمن الذي أخذه به الأجنبي، وأن يكون الثمن حالاً، وإنما الخلاف فيما إذا كان باع نصيبه مؤجلاً، فهل يأخذه الشفيع أيضاً بثمن مؤجل وكما أجل للأجنبي يؤجل لشريكه؟ قالوا: نعم، إذا كان مليئاً أو أتى بكفيل غارم. إذاً: في بادئ الأمر إذا أراد الشريك أو أحد الشركاء -فقد يكون العقار شركة بين اثنين أو أكثر- أن يبيع، فلا يحق له إلا إذا عرض على الشركاء، فإن أجازوا فالحمد لله، وإن أبوا وقالوا: نحن نشتري فيأخذون، وكيف يأخذون إذا كانوا مجموعة؟ لو كان الشريك واحداً فسيأخذ حصة الشريك الآخر لنفسه لكن إذا كانوا ثلاثة وكل واحد قال: أنا أشتري، وكل الثلاثة قالوا: نأخذ بالشفعة، فهل نعطي واحداً من الشركاء الجزء المبيع ونترك البقية؟ أو نقول: أيها الشركاء! أنتم كلكم لكم حق الشفعة. بأي صفة تكون الشفعة لهم كلهم؟ فإذا كان الثلاثة: واحد له السدس، والثاني له الثلث، والثالث له الربع، فهل نعطيهم من حصة الشريك الذي باع بقدر شراكتهم الشائعة فيه، فالشريك بالربع في الأرض العامة يأخذ ربع المبيع بالشفعة، والشريك بالثلث في الأرض العامة يأخذ الثلث من المبيع بالشفعة؟ قيل: إنهم يأخذون بقدر أنصبائهم في التملك في العين المشتركة، وقيل: يأخذون بعدد الرءوس. أي: نقسم حصة الشريك الذي باع عليهم بعدد رءوسهم، وأعتقد أن الأول أضبط وأوفق تمشياً مع قواعد البيع والشراء. فهنا لا يصح للشريك أن يبيع حصته حتى يؤذن شريكه.

هل للشريك أن يشفع بعد البيع إذا عرض عليه قبله

هل للشريك أن يشفع بعد البيع إذا عرض عليه قبله وهنا إذا قال الشريك: أنا لا أشتري، فقال له: أنا سأبيع، فقال له: بع. فقال له: ولكن هل ستشفع بعدما أبيع أم ستترك الشفعة؟ فسكت ولم يقل شيئاً، أو قال: لا أشفع، فباع الشريك حصته على ثالث، وبعد أن باع جاء الشريك وقال: سأشفع، فهل يحق له طلب الشفعة، أو أن طلبه سقط بإسقاطه إياه قبل العقد؟ المسألة خلافية، ولكن المنصوص عليه عند الحنابلة والراجح عند الجمهور: أنه إذا عرض عليه فقال: لا أشفع وسكت حتى باع، فإن أصل الشفعة لا يأتي بها إلا عقد البيع للشقص، وهل هناك شفعة قبل أن يبيع؟ الجواب: لا شفعة قبل البيع، وهو عندما قال: أسقطت حقي في الشفعة، فحقه لم يأت بعد؛ لأن الشريك لم يوقع البيع فلا محل للشفعة، فهو أسقط مالم يملك، فلما جاء عقد البيع جاء العقد معه بحق الشفعة، فقيل له: لماذا قلت: أنا لا أشفع وغررت بشريكك؟ قال: لا، هو يريد أن يتفق المشتري عليّ، وإذا باع له فسيبيع له بألف، وإذا علم بأني سأشفع فسيتفق معه على ألفين؛ لأن الشفيع لا يأخذ إلا بما وقع عليه البيع للأجنبي، فإذا قال الشريك: أنا سأشفع إذا بعت فقد يذهب شريكه الآخر ويبيع ما يساوي ألفاً بألفين، ويزيد الألف هذا إما تعجيزاً للشفيع ليترك الشفعة، وإما زيادة في الظاهر ثم يتقاسمان الألف الزائدة بينهما على حساب الشفيع، فإذا قال الشريك: أنا لن أشفع، اذهب وبعه، فهو ينفي الاتفاق على المضرة والغرر به، وكذلك إذا قال: أنا تركت ولم يقل: أشفع، حتى لا يدخلوا عليه الزيادة في الثمن لعلمهم أنه سيشفع. إذاً: لا يبيع حتى يؤذن صاحبه فيشتري أو يترك، فإن اشترى فالحمد لله، وإن ترك حتى باع الشريك، فله الحق أن يأتي ويقول: مادام أن البيع قد وقع فأنا أشفع، وهذا أيضاً نص على أن الشفعة في الشراكة وليس فيه الجوار. قوله: وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) . هناك لا شفعة إلا فيما يقسم، وإذا وقعت القسمة انتفت، الشفعة في ربع أو دار. أي: في عقار ثابت، وهنا قال: (في كل شيء) إذا وجدت شراكة في أي شيء سواءً كانت في سيارة، أو في سفينة أو -كما يقول البعض- في سيف، أو في فرس، أو في حيوان أو متاع منقول، فكلمة: (في كل شيء) جمعت كل شيء، ولم يقل بهذا الجمهور، ولكن يروى هذا عن مالك وعن أحمد ولكن مذهب الحنابلة على خلاف ذلك، فهذا الحديث أو هذا الأثر يشعر بجواز الشفعة في كل شراكة، وإذا سألك أحد: كيف أشفع في سيارة فشريكي الأول الذي كان معي ابن حلال لا يدقق معي ولا يحاسبني -وسيأتي هذا- فإما أن يأخذ السيارة ويقول: أحاسبك، أو يأتي كل يوم إليّ ويقول: حاسبني حساب السيارة اليوم، فأنا أشفع وآخذ حقي؟ فبعضهم يقول: إذا تضرر الشريك من شركة الآخر تباع ويفض النزاع بين الطرفين؛ ولتعذر الاستفادة من الشراكة أو الشفعة في المنقول كالثياب، فكيف يشفع في الثوب؟ وإذا باع عباءته أو باع مشلحه، فقال: شريكه أنا أشفع فيه، فإن لي النصف فيه، فقد اشتريناه شركة، أو ورثناه سوية من أبينا، وهذا يصح التملك فيه، يقولون: إن الأثر الذي عند الطحاوي لا يمكن أن يناهض ما جاء في الصحيحين، فقد جاء بصريح النطق: (لا شفعة إلا في ربع أو دار) (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم) والسيارة والثوب ونحو ذلك، هذه لا تقسم ولا يمكن الانتفاع بحصة منها. إذاً: ما يمكن إلا أن نبيع؛ ولهذا حتى الروايات التي جاءت عن بعض الأئمة أصحابهم لم يعملوا بها.

شرح حديث: (جار الدار أحق بالدار)

شرح حديث: (جار الدار أحق بالدار) قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جار الدار أحق بالدار) روه النسائي، وصحح ابن حبان، وله علة] . قوله: (جار الدار أحق بالدار) هذا نص صريح في أن الجار أحق بدار الجار. ونحن في خصوص الشفعة، والحديث لم يتعرض لمعنى الشفعة. إذاً: أحق بها بماذا؟ هل هو حق بالإجارة أو بالارتفاق أو بالانتفاع أو أحق بالشفعة؟ كل هذه احتمالات، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، ولكن هناك من يقول بهذا الحديث في إثبات الشفعة في الجوار، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويتفق الأحناف مع الجمهور في أن الشفعة أولاً للشريك في الأشياء الشائعة مالم تقسم. ثم يقول أبو يوسف: إذا لم يوجد شريك شائع يطالب بالشفعة فللجار المطالبة.

مراتب الشفعة عند الأحناف

مراتب الشفعة عند الأحناف ولذا يقولون: الشفعة على ثلاث مراتب: الشفعة في الشراكة الشائعة للشريك، والشفعة في الجوار إذا وجدت شراكة في مرافق العقارين، والشفعة في الجوار بلا مشاركة في المرافق. والمشاركة في المرافق قالوا: في الطريق؛ بأن يكون البيتان يقعان على طريق أو شارع واحد بشرط أن يكون غير نافذ أي: أن هذا الطريق مشترك بين الجار هذا والجار هذا؛ لأن الجار إذا باع على شخص آخر فسيأتي من يزاحمه في هذا الطريق وقد يكون شرساً أو سيئاً، فيؤذي الجار في الطريق، فقالوا: يوجد هنا معنى الشراكة، ويحتمل معنى المضرة؛ فيعطى الجار الحق في الشفعة إذا لم يوجد الشريك الشائع صاحب الحصة؛ فإن وجد -كما يقول أبو يوسف - حجب الشفعة عن غيره، فإذا لم يوجد شريك أو وجد ولم يطالب بالشفعة فللجار الذي له الشراكة في مرافق الجوار حق الشفعة. وكذلك الأرض، هذا له أرض بحدودها وجاره له أرض بحدودها، إذا كان بينهما اشتراك في الماء الذي يسقي الأرضين، ولكن ينص أبو يوسف أيضاً بأن يكون على نهر صغير لا تجري فيه سفن، وأن يكون النهر محدوداً يسقي مزارع معينة وليس عاماً يمشي إلى ما شاء الله، وعلى هذا: مراتب الشفعة عند الأحناف: أولاً: تكون للشريك شراكة شائعة كالجمهور. ثانياً: للجار الذي له شراكة في مرافق العقار. ثالثاً: للجار الذي لا شراكة له في هذا العقار ولا شراكة له في مرافقه. وحجتهم هذا الحديث: (جار الدار أحق بالدار) ، ولكن كما قالوا: هذا الحديث له علة، وقد تكلم عليه العلماء، فسنده لا يقاوم ما تقدم. قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة] . وهي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف، فقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف. الواقع أن هذا الحديث له عدة جوانب، وفيه عدة شبه، والوقت لا يكفي لعرض أو لبيان نقاط المغايرة لأحكام الشفعة؛ لأنه كان له بيوت داخل الدار وليس بينهما شراكة مشاعة، وإنما هي جوار، وفي هذا الحديث قصة وهي تحتاج إلى زيادة إيضاح، ولعلنا نرجئه إن شاء الله إلى درس قادم، وبالله تعالى التوفيق. ونحب أن ننبه الإخوة إلى أن مباحث الشفعة في جزئياتها متسعة جداً، وقد كُتبت فيها رسائل تصل إلى الثمانمائة صفحة، والتفصيل في كل جزئياتها إنما هو عند المذاهب، وقد تناولوا الشفعة في الإجارة؛ كأن يكون هناك شركاء وواحد أجر حصته، وكذلك الشفعة بالنسبة للغائب والصغير والمجنون والمولى عليه والمتراخي في طلبها، وأيسر ما يؤخذ في هذا: (المغني) لـ ابن قدامة، و (المجموع) للنووي، وقد تناولها ابن قدامة في (المقنع) ولكن بشيء من التعقيد. وننصح الإخوة بأن يراجعوا موضوع الشفعة إذا أرادوا التوسع في الجزئيات والتصور لبعض مواضيعها فيما يتعلق بنوع الثمن وكيف ينتقل الشقص، وكل هذا سيأتي إن شاء الله لكن على سبيل الإجمال، وأما التوضيح الوافي فهو كما أشرت إما في الرسائل المتخصصة، وإما في (المغني) لـ ابن قدامة وهو أقل تفريعاً من النووي في (المجموع) ، فيرجع إلى تلك المراجع الأصيلة. وبالله تعالى التوفيق. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب البيوع - باب الشفعة [2]

كتاب البيوع - باب الشفعة [2] جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الحقوق وأداء الواجبات، ومن هذه الحقوق والواجبات حقوق الجار، فقد أمر الشرع بالإحسان إلى الجار وحرم إيذاءه، ولذا أذن له بالشفعة من جاره الآخر لما قد يحصل عليه من الضرر ممن سيحل محله.

شرح حديث: (الجار أحق بصقبه)

شرح حديث: (الجار أحق بصقبه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة] والقصة هي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله! ما أزيدك على أربعة آلاف، وقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف. هذا الحديث بقصته في صحيح البخاري، وفي القصة أن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فأتى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى المسور بن مخرمة، فقال أبو رافع للمسور: ألا تكلم هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري بيتي اللذين هما في داره، فقال سعد: والله! لا أشتريهما أبداً، فقال المسور مساعدة لـ أبي رافع: والله! لتشترينهما، فقال: والله! لا أعطيك فيهما إلا أربع مائة -وفي لفظ: أربعة آلاف- وأربعمائة على أنها مثاقيل؛ لأن المثقال يصرف بعشرة دراهم، وأربعمائة في عشرة تكون أربعة آلاف منجمة أو مقطعة - والله لا أشتريهما إلا بأربعمائة منجمة -أي: مقسطة- فقال أبو رافع: وكيف أبيعك إياها وقد منعتها من خمسمائة دينار؟ -يعني: خمسة آلاف درهماً، بمعنى: أن سعداً نقص من قيمتها إما ألف درهم فضة ومائة دينار ذهباً -كيف أبيعك إياها بأربعة آلاف وقد منعتها من خمسة آلاف؟ والله! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك إياها، فباعها عليه بالأربعمائة دينار. هذا الحديث بنصه في صحيح البخاري على هذا العرض، وهنا دار سعد كما تقول آثار المدينة كانت بالبلاط، والبلاط ما بين المسجد النبوي ومسجد المصلى -مسجد الغمامة-، وكان سعد حريصاً على تلك الدار مع أنه كان له قصر؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث عن الروضة: (ما بين بيتي والمصلى روضة من رياض الجنة) فحمل البعض كلمة: (المصلى) على صلاة العيد، وحملها الجمهور على أن المراد بالمصلى: المكان الذي كان يقوم فيه صلى الله عليه وسلم للصلاة جماعة وهو على ميسرة المنبر، وهذا هو الصحيح؛ لأن الرواية الأخرى في الروضة: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) . إذاً: الروضة مرتبطة بالمنبر وليست مرتبطة بمسجد المصلى الذي هو موضع مصلى العيد الذي هو الآن معروف بمسجد الغمامة.

وضعية الدور في السابق

وضعية الدور في السابق فـ سعد كانت له دار، ولـ أبي رافع فيه بيتان، ومعنى بيتين: حجرتين، والدور في السابق كانت عدة حجرات شبه الدائرة وبينها فراغ يسمى الصحن أو الحوش في العرف الحاضر، يطوف عليها البنيان ولها باب واحد يدخل منه، وقد تكون الدار فيها عدة بيوت لعدة أشخاص، وكل يسكن في بيته على حدة، ويبحث الفقهاء ذلك في باب الحرز في القطع؛ لأن تلك البيوت هي في دار واحدة، فإذا أخرج شيئاً من تلك الدور إلى الصحن، فهل يكون قد أخرجه من حرزه؟ أو لا يتم الإخراج من الحرز حتى يخرجه إلى الصحن ومن الصحن إلى الخارج؟ وهذا كان عرفاً موجوداً في السابق كما كان العرف في المدينة وفي مكة تجزئة التملك ما بين الطابق الأرضي والطابق العلوي، فقد كان يتملك الإنسان دكاناً أو دكانين تحت بيت شخص آخر، فالبيت لشخص والدكان أو الدكانين لشخص أو لأشخاص آخرين، أي: تجزئة المبنى. فهنا أبو رافع يقول للمسور: ساعدني على سعد، أي: كلِّمه أن يشتري مني البيتين اللذين هما لي في داره من داخل، فقال سعد: والله! لا أشتريهما أبداً، فتدخل المسور -وهو الواسطة- وقال: والله! لتشترينهما، فلما تدخل المسور وأقسم عليه، قال: إذاً: لا أعطيك بهما إلا أربعمائة مثقال. ولو أتينا إلى المثاقيل وإلى الأسعار فإن الباحث الاجتماعي يستطيع أن يعرف القيمة الشرائية للعقار في ذلك الوقت، ويقارن بينها وبين الأثمان والعقار في الوقت الحاضر، ومن هنا تؤخذ الأحكام بمتابعة الأحوال الاجتماعية والعامة، كما جاء في قصة الرجل الذي أعطي ديناراً ليشتري شاة. إذاً: القيمة الشرائية للشاة هي دينار، فما هي القيمة الشرائية اليوم بالنسبة للدينار؟

الخلاف في أحقية الجار بالشفعة

الخلاف في أحقية الجار بالشفعة وإذا جئنا إلى موضوعنا فالمؤلف وغيره كما فعل البخاري ساق هذا الحديث في باب الشفعة، ما علاقة بيتين في دار بموضوع الشفعة؟ ليس هناك شركة مشاعة، إنما بيوت محددة مميزة، وكل بيت له باب، وهو مستقل بذاته، فلا علاقة للشفعة هنا؛ لأن الشفعة لا تكون إلا في شقص مشاع باعه أحد الشركاء على شخص آخر، وهنا لم يحصل بيع، وإنما صاحب البيتين يعرض على صاحب الدار أن يشتريهما منه. إذاً: موضوع الحديث موضوع البيع والشراء ولا علاقة له بالشفعة أبداً، ولهذا ينبه ابن حجر في فتح الباري ويقول: الحديث موضوعه البيع، ولكن الذين يقولون بالشفعة للجوار يستدلون به؛ لأنه عرض عليه أن يشتريهما، ولئن كان جاره أولى بأن يشتري منه فكذلك جاره أولى بأن يشفع عليه؛ فتكون دلالة الحديث على الشفعة من باب القياس واللزوم وليس من باب النص؛ لأنه قال هنا: (اشتر بيتي اللذين هما في دارك. فقال: والله! لا أشتريهما) . إذاً: لو أنه توقف عند هذا وقال: والله! لا أشتريهما، ولم يشترهما فيكون كأنه ما حصل شيء؛ لأن الغير كان ممكن أن يشتريهما؛ لأنه قال: منعتهما من خمسمائة. إذاً: قد سيم عليهما، وقد جاءه زبون، ولكنه نظر إلى الحديث: وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) وتقدم الكلام على كلمة: (صقب) بالصاد أو بالسين، وأما معناها فمنهم من يقول: الإحسان إلى الجار، ومنهم من يقول: المساعدة، وذكروا أموراً عديدة، حتى أن البخاري رحمه الله أتى بعد هذا الحديث في الصحيح بباب: أي الجارين أحق، وهو في باب الشفعة وما الذي نقله إلى أي الجارين أحق؟! ثم ساق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (قلت: يا رسول الله! يكون لي الجاران، فإلى أيهم أهدي؟ ... ) الحديث. لأنه صلى الله عليه وسلم وصى بالجار، فقال: (وما زال جبريل يوصيني بالجار ... ) الحديث. والجار له حالات: جار من خلف البيت وله طريق من شارع آخر، ولكنه مجاور في البنيان من الظهر، وجار عن اليمين وبابه من شارع آخر، أو بابه من شارعك أنت، وجار عن اليسار، وجار مقابل، وبينكما الطريق، فأي هؤلاء الجيران هو الأقرب؟ وكذلك يأتي هذا البحث في دعاء الوليمة: إذا أتاك الجار ودعاك إلى وليمة، وجاء الجار الآخر فأيهما تقدم؟ أي: من أحق هؤلاء في وصف الجوار؟ الآن وصف الجوار يكون من أربع جهات: جار من الخلف وبابه من طريق آخر، وجار عن اليمين وبابه من طريق آخر أو من طريقك، وجار عن اليسار وبابه من طريقك أو من شارع آخر، وجار مقابل لك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (إلى أقربهما منك باباً) ومن هو الذي بابه أقرب؟ الجار الملاصق للجدار من الخلف بابه من طريق آخر، وأما الجار الذي مقابل له وبينهما الشارع فهو أقرب؛ لأنه ما بينهما إلا الشارع، ولكن لماذا قدم الأقرب؟ قدمه لأن قرب الباب يعطي معنى المجاورة أكثر، فهو يعطيه من خيره، وهو أسرع لو استنجد به، فإذا استنجد الجار بجيرانه فأسرع من يأتيه هو الذي يقابله؛ لأنه أقرب، فإذا كان الذي على يمينه أو الذي على يساره بابه في طريق واحد معه وهو أقرب فيقدم، أما إذا كان بابه المسافة إليه عشرون متراً، وهذا بابه المسافة إليه خمسة أمتار فهذا أقرب، وهكذا جعل صلى الله عليه وسلم التقديم بالنسبة لقرب الباب. وهذا يأتي بحثه مستوفى كما يقول ابن حجر في باب الآداب في حقوق الجوار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في ذلك أخبار عديدة. وهنا يقولون: سعد كان له بيتان متقابلان بينهما شارع مسافته اثنا عشر ذراعاً، وكان في بعض الدارين بيتان لـ أبي رافع، فعرض عليه أبو رافع أن يشتري البيتين فكان هذا الأمر. إذاً: عرض أبي رافع على سعد أن يشتري منه البيتين من باب الأولوية في الشراء وليس من باب الشفعة في شيء، ولكنهم قالوا: إذا كان أبو رافع قدم سعداً في الشراء فكذلك يقدم في الشفعة، وهنا أبو رافع استدل بالأولوية لـ سعد في الشراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) . إذاً: هناك اشتراك بين بيع داري أبي رافع على سعد وبين أحقية الجار بصقب جاره، وإلى هنا يكون المؤلف قد أورد مع ما سيأتي بحث مسألة الشفعة في الجار، إلا أن الآتي أسانيده ضعيفة. وقد قدمنا أن الجمهور على أن الشفعة لا تكون إلا في شركة مشاعة فيما يمكن قسمه، وأول الجمهور كلمة الجار في الشفعة بأنه الشريك، وهذا كما يقال: من التأويل البعيد لقرينة، واستدلوا بقول القائل: أجارتنا بيني فما أنت بجارة فسمى زوجته وهي شريكته في الحياة جارة، والبعض ينازع في استعمال اللغة كلمة (جارة) في معنى الزوجة، أو كلمة (الجار) بمعنى الشريك لبعد الدلالة في كلمة (جار) على الشريك، وقالوا: مما يؤيد البعد اللغوي القرينة، وهي ما جاء في الحديث الآخر: (فإذا وقعت القسمة، وضربت الحدود صرفت الطرق فلا شفعة) إذاً: وجود القسمة والحدود والطرق يؤكد بأن هذه الشفعة تكون في المقسوم قبل أن يقسم، فإذا ما قسم ووضعت الحدود وصرفت الطرق فقد أصبح الشريك جاراً وليس بمشارك. ونهاية البحث في هذا كما يذكر ابن القيم رحمه الله وينسبه اختياراً لـ ابن تيمية رحمه الله، وهو قول الجمهور أن الأصل في الشفعة أن تكون في الشركة المشاعة في العقار الذي لم يقسم وهو قابل للقسمة، فإذا كان غير قابل للقسمة فلا شفعة، ومثلوا بالحمام وبالرحى وبالدكان الصغير وبالبئر، وقالوا: لأن هذه إذا قسمت لا يؤدى بقسميها ما كان يؤدى بمجموعهما، فالحمام إذا قسم لا يكون حمامين، وكل قسم لا يصلح أن يستعمل حماماً، فيمكن أن يستعمل للسكن، أو يستعمل مستودعاً، لكن أن يستعمل حماماً على ما كان من قبل فلا يصلح، وكذلك البئر، والرحى، وكذلك الدور الصغيرة، والدكاكين الصغيرة التي لو قسمت لم يصلح أحد القسمين على حدة فلا تصح الشفعة. فإذا أراد الشريك أن يتخلص من الشراكة ماذا يفعل؟ قالوا: يجبر الشركاء بالبيع معه أو بشراء قسمه، فإما أن يشتروا قسمه، وإما أن يبيع الجميع وكل يأخذ حقه من الثمن، هذا رأي الجمهور. المرتبة الثانية: الشركة في الجوار فإذا كان هناك تبعية للشراكة بأن كان هناك طريق مشترك أو مسقى ماء مشترك، فهذه بقية شراكة يمكن أن يتأذى منها الشريك الأول من الجار أو الشريك الذي سيأتي عليه فجعل له حق الشفعة. المرتبة الثالثة: الجوار الملاصق بلا مشاركة، وهذه الترتيبات الثلاثة عند علماء العراق ما عدا أبا يوسف، فإنه يقول: إذا وجد الشريك المشاع فإن يحجب الشفعة عن كل أحد شفع أم لم يشفع. ولكن المتأخرون يقولون: الأحناف لا يذكرون رأي أبي يوسف في هذه المسألة، ويقتصرون على رأي أبي حنيفة رحمه الله على التقسيم المتقدم: الشفعة في المرتبة الأولى للمشارك، فإذا لم يوجد فالشفعة في المرتبة الثانية للجار الذي له مشاركة في المرافق، فإذا لم يوجد فمطلق الجار المشارك، وهذا خلاصة ما جاء في النزاع في ثبوت الشفعة للجار أو عدم ثبوتها.

شرح حديث: (الجار أحق بشفعة جاره.

شرح حديث: (الجار أحق بشفعة جاره ... ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إن كان طريقهما واحداً) رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات] . يأتي المؤلف بهذا الحديث بعد حديث أبي رافع، وهذا الحديث بلفظ: (الجار أحق بشفعة جاره) فهذا نص صريح في ثبوت الشفعة بين الجارين، والذين يمنعون الشفعة في الجوار بمعنى الملاصق أو المجاور، قالوا: الجار أحق بشفعة جاره. بمعنى: الجار المشارك، واستدلوا بقول القائل: (أجارتنا بيني فما أنت بجارة) ، فهو طلق الزوجة وسماها جارة وقالوا: إن اللغة تطلق على كل ما كان قسيماً لشيء أنه جار، فلو جئت إلى دائرة وأخذت أقطارها من المركز الذي في الوسط إلى المحيط، فكل قسم من هذا مجاور للقسم الثاني وهكذا، فهي كلها في جزء واحد مشتركة في الدائرة ولكن كل ما بين قطبين يعتبر مجاوراً للقطب الثاني أو للقسم الثاني مع أنها مشاركة له في عين الدائرة، فقالوا: كذلك كل ما كان شريكاً في شيء فهو مجاور له، وعلى كل هذا كما يقال: من التأويل والنص هنا صريح، ولذا فإن من اختيارات ابن تيمية رحمه الله: أن هذا الحديث مخصص لعموم الجار؛ لأنه قيده: (الجار أحق بشفعة جاره إذا كان طريقهما واحداً) أي: مشتركاً، فهذا يخصص الشفعة التي جاءت في: (الجار أحق بصقبه) ففي هذا الحديث عموم الجار، فقال: لكن عموم الجار قد خصص هنا؛ لأن وجود بعض شراكة في مرافق العقار تدل نوعاً ما على المشاركة، والشفعة وضعت لرفع المضرة، وقد يتضرر الجار من جار جديد، ولكن كما قدمنا أنهم يحددون الجار هنا في الطريق غير النافذ، أما إذا كان طريقاً عاماً فليس أحد أولى من أحد؛ لأن الطريق العام يمر به الجار وغير الجار، أما إذا كان الطريق غير نافذ وعليه بيتين من اليمين وبيتين من اليسار وبيت في الرأس في الآخر؛ فإن المرور من هذا الطريق محدود محصور ولا ممدوحة لأحد من هؤلاء الجيران عن أن يمر من هذا المكان، فقد يكون الشافع بالجوار في هذا المحل يؤذي بعض جيرانه الآخرين، فقالوا: ترفع المضرة عنه بالشفعة، والآخرون قالوا: مضرة الجار مع جاره أقل نسبياً من مضرة الشريك مع الشريك في الرقبة وفي عين العقار، والله أعلم.

شرح حديث: (الشفعة كحل العقال)

شرح حديث: (الشفعة كحل العقال) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة كحل العقال) رواه ابن ماجة والبزار وزاد: (ولا شفعة لغائب) وإسناده ضعيف] . إسناده ضعيف لا يقاوم إسناد غيره. وقوله: (الشفعة كحل العقال) يعني: إذا أبقيت العقال على البعير أمسكته، وإذا حللت العقال انفلت عليك، فكذلك الشفعة إن أنت طالبت بها عقلتها ولك الحق في مطالبتك بها، وإذا تركتها أو أفلت عقالها انطلقت عنك، وقد قدمنا بأن البعض يقول: يعفى في ذلك الوقت الضروري، فإذا علم وقت القائلة وشدة الحر فليس بملزم أن يكلف نفسه ويذهب إلى المشتري ويقول: شفعت عليك، وإذا بلغه الخبر وهو يتناول الطعام فليس عليه أن يترك طعامه ويذهب يطلب الشفعة بل يتم أكل طعامه، بل قال الحنابلة: ويستريح بعد الطعام إلى أن يهضم ثم يذهب ويطلب الشفعة، هذا الذي عليه الجمهور في المبادرة وإن كان الصنعاني أو غيره يقول: الأصل ثبوت الشفعة، وأما التعجل بها أو الفورية فليس هناك دليل، ولكن الآخرون يقولون: إن لم يكن في المسألة دليل شرعي ففيها دليل عقلي، وهو: إذا كنت شريكاً والمشتري قد اشترى وشريكك قد ذهب وأنت تريد أن تشفع؛ فإن لم يكن هناك توقيت للشفعة فإنك تستطيع أن تلحق ضرراً بالمشتري؛ لأنه حينما يشتري هو لا يعلم أتشفع أو لا تشفع؟ إذا أراد أن يعمر أو أن يغرس أو أراد أن ينمي ما اشتراه توقف؛ لأنه لا يدري أيثبت له ما اشتراه أم ينتزع منه بالشفعة؟ فتكون فيه مضرة أكثر، فقالوا: ليس تحديد الزمن بأولى من زمن، فتكون على الفور. وبعضهم يقول: إن كان غائباً فيعطى مهلة ثلاثة أيام إن كان سفره قريباً، أما إذا كان بعيداً فليس بملزم أن يقطع سفره ويأتي ويعلن الشفعة، ويقول مالك رحمه الله: إذا كان مسافراً سفراً بعيداً، فإنه حينما يعلم في غيبته بالبيع يشهد أنه شافع، فإذا رجع إلى بلده تقدم بطلب الشفعة وقدم الإثبات على أنه قد طالب بالشفعة منذ علم، وحينئذ يكون له الحق ولو طال الزمن، فإذا طال الزمن والمشتري قد بنى وغرس فماذا يكون حكم البناء والغرس الجديد؟ قالوا: يأخذ الشافع الأرض بقيمتها التي اشتراها المشتري ويقدر ما عليها من البناء والغرس الذي أقامه المشتري؛ لأنه حقه فلا يظلم فيه؛ فإن استعد ودفع ثمن الأرض وما لحقها من بناء وغراس فله الحق، ونكون بهذا قد حفظنا على المشتري حقه، ورددنا عليه قيمة الأرض ورددنا عليه ما أنفق في غرس وبناء فلم يقع عليه ظلم. وبقي هنا أبحاث في باب الشفعة لأنها كما أشرت سابقاً واسعة، منها: إذا كان الشركاء متعددين، أو كان المشترون من الشريك الواحد متعددين، فمثلاً: الدار لخمسة أولاد ورثوها من أبيهم، فكل واحد له الخمس، فجاء واحد من الخمسة وباع سهمه، فكيف يكون حظ الشفعة للأربعة؟ لو قام واحد من الأربعة ليشفع على مشتري الخمس فالطريق واضح، فله أن يأخذ بالثمن الذي بيع به ويضمه إلى خمسه الأول ويصير له خمسان، والثلاثة الإخوة الآخرون لكل واحد منهم الخمس. لكن لو قام الأربعة يطلبون الشفعة في الخمس الذي باعه أخوهم، فلمن نعطيه منهم؟ قالوا: نعطيه للأربعة؛ لأنهم كلهم متساوون في الحق، فإذا أعطيناهم الشفعة، ورددنا الخمس إليهم وهم أربعة فكم لكل واحد منهم في هذا الخمس؟ قالوا: نقسم الخمس الذي بيع على الموجودين بحصصهم، وأصبح الملك الآن لأربعة؛ لأنهم أربعة أشخاص لكل واحد منهم ربع الخمس الذي بيع. وإذا كان العكس: اثنان مشتركان بالنصف وباع أحد الشريكين نصيبه على أربعة أشخاص، فجاء الشفيع صاحب القسم الثاني وشفع، أيشفع على واحد من الأربعة أم على الجميع؟ الجواب: على الجميع، فلو شفع على واحد فقط فيقال له: لا، إن فيه مضرة، والمبيع جزء واحد، فاشفع في هذا المبيع كله بصرف النظر عن المشترين، فإذا قال: لا، أنا آخذ حصة واحد فقط، فيقال له: لا، إما أن تأخذ كامل الشقص الذي بيع بصرف النظر عمن اشتراه، واحد أو اثنان أو أربعة وإما أن تتركه كله، فحينئذ إن أراد بأن يشتري الشقص كاملاً من الأربعة يلزم أن تكون الشفعة عليهم جميعاً.

حكم المطالبة بالشفعة، وهل تورث؟

حكم المطالبة بالشفعة، وهل تورث؟ وهنا السؤال: هل القيام والمطالبة بالشفعة واجب أم جائز؟ المطالبة بالشفعة جائزة؛ فإن شاء قام وطالب بها وإن شاء تركها، بل بعض العلماء يقول: الأحسن أن يتركها، لكن إن علم الشريك القديم من المشتري ما يضره في دينه بأن كان يجاهر بالمعصية وسيأتي إلى حصته في الدار ويسكن ويجاهر بما حرم الله، فهل يتركه يأتي ويدخل عليه بهذا الشر أم يتعين عليه أن يشفع ويدفع عن نفسه المضرة في دينه؟! وإذا كانت المطالبة بالشفعة على الجواز، فهل هذا الحق بالمطالبة يورث، وهل الورثة يستحقونه أو لا يورث ما دام مجرد جواز؟ وقالوا: إذا كان الشريك الأول وهو الذي يستحق المطالبة بالشفعة مات بعد أن باع شريكه حصته، فهل لأولاد الشريك الأول أن يقوموا مقام أبيهم ويطالبون بالشفعة؛ لأنهم حلوا محله في الملك أو ليس لهم ذلك؟ وبعض من يقول: إنها جائزة قالوا: هذا حق لا يملك بالميراث، وهؤلاء متملكون جدد ليس لهم الأسبقية، وآخرون يقولون: لهم الشفعة، والقول الوسط: إن كان أبوهم أو مورثهم حينما علم بالبيع في حياته سكت عن الشفعة فيكون قد أسقطها؛ لأنه هو الأصيل، فلا حق للورثة بالمطالبة بها؛ لأن صاحب الحق الأصلي قد ترك، أما إذا كان قد علم في حال حياته فطالب بالشفعة وفي أثناء المطالبة والمفاهمة توفي، فحينئذ يكون صاحب الحق الأصلي قد طالب به؛ فورثته أحق بها تبعاً لمورثهم، فيرثون مطالبة المورث بالشفعة.

الشفعة في مدة الخيار

الشفعة في مدة الخيار ويقولون: من شروط الشفعة: أن ينتقل الجزء المبتاع للشافع بنفس ثمن المبايعة، وأن يستقر البيع ويستقر الملك للمشتري، فإذا باع الشريك حصته على إنسان واشترط المشتري الخيار. فهل للشريك القديم أن يقوم ويطالب بالشفعة قبل مضي الشهر أو ليس له ذلك؟ هنا يقولون: إن كان اشتراط الخيار للمشتري والبائع قد أسقط حقه في الخيار، فهل يكون البائع قد أمضى البيع أم لا؟ من جانبه أمضاه؛ فحينئذ يكون للشريك الحق في القيام بالمطالبة بالشفعة؛ لأنه يشفع على الشريك والشريك قد أمضى البيع وأصبح في حقه لازماً، أما إذا كان البائع هو الذي اشترط الخيار والمشتري أمضى البيع فإنه لا يحق للشريك أن يطالب بالشفعة؛ لأن الشفعة مبناها على إتمام البيع، وإتمام البيع متوقف على المالك وليس على المشتري وهنا البيع لم يتم.

الإقالة في الشفعة

الإقالة في الشفعة وهنا مسألة أخرى: الشريك باع والمشتري استلم، والشريك القديم لم يطالب، ثم إن المشتري وجد في نفسه أنه غبن، ووجد عيباً أو جد شيئاً ندم بسببه على الشراء، فرجع إلى البائع وقال: أقلني بيعتي، وطلب الإقالة، فقام الشريك الأول حينما تمت الإقالة ورجع الشقص لصاحبه كما كان، هل يحق له أن يشفع عقد الإقالة الجديد أو لا يحق؟ سنأتي ونقول: هل الإقالة فسخ أو بيع؟ الجمهور على أن الإقالة فسخ للعقد الأول، والمالكية يقولون: هي عقد من جديد؛ ولذا يجوز له أن يقيله بزائد على الثمن أو بأنقص؛ لأنه بيع. والجمهور يقولون: لا. إذا أقاله لا يأخذ منه درهماً ولا ينقصه من حقه شيئاً، فإذا اشتراها بألف وقال له البائع: أنا أقيلك وأرد لك تسعمائة فأنقص من حقك مائة فلا. وبموجب ماذا ينقص؟ قالوا: لأنه عقد بيع ومساومة، فإذا جاء البائع وطلب الإقالة، وقال: أنا ندمت أني بعتك، أنت اشتريت مني بألف، أنا أعطيك ألف ومائة ورده عليّ، فهنا الزيادة والنقص في عقد الإقالة يجعلها بيعاً. فإذا حكمنا بأن الإقالة فسخ للعقد الماضي، إذاً: لم ينتقل الملك انتقالاً جديداً فلا شفعة. وإذا حكمنا على الإقالة بأنها بيع ووقعت في صورة البيع بزيادة أو بنقص، مساومة من جديد قلنا: فيه الشفعة، والله تعالى أعلم. وأوصي الإخوان أن يراجعوا هذا الباب في تلك المراجع التي ذكرناها سابقاً، وهناك رسالة ماجستير لرجل مغربي عمل مقارنة في الشفعة بين المذاهب الأربعة وفي القوانين، فلو اطلع إنسان عليها فهي مفيدة؛ لأنه تعمق في البحث تعمقاً كبيراً. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب البيوع - باب القراض

كتاب البيوع - باب القراض لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وهو عقد من عقود الشركة في الجاهلية وأقره الإسلام، ويعرف أيضاً باسم المضاربة، ويقوم هذا العقد على أن يأتي أحد الطرفين بالمال ويقوم الطرف الآخر بالعمل، وهو نوع من الإجارة، إلا أنه عفي فيها عن الجهالة في الأجر، ويحق لصاحب المال أن يشترط على العامل تجنب التعامل في أمور معينة أو مع أشخاص بعينهم، ولكنه يمنع من هذا الشرط إن كان فيه تحجير على العامل في عمله، وأما أرباح المال فعلى ما يتفق عليه الطرفان. ومن الأحكام المجمع عليها في القراض: أن الجهالة مغتفرة فيه، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد أو يفرط.

شرح حديث: (ثلاث فيهن البركة.

شرح حديث: (ثلاث فيهن البركة ... ) [عن صهيب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف] . إن الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، تسعة وتسعين منها في البيع والشراء، وواحد في بقية الأسباب الأخرى كلها: صناعة زراعة هكذا يقولون. وأعتقد أن هذه النسبة أمر نسبي وليس قطعياً، وكم من صانع يبارك الله له في صناعته، وكم من زارع يبارك الله له في زراعته، وكان بعض الصحابة يثمر بستانه في السنة مرتين ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا الحديث: (البركة في ثلاثة) ، وفي غيرها أم فيها فقط؟ كل شيء أراد الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيه حصلت فيه البركة، هذا صاحب الدينار والشاة قال له صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) ، فكان لو التمس تراباً بارك الله له فيه وربح، وكان الناس يأتونه بأموالهم ليضارب بها؛ التماساً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالبركة. البركة: الزيادة والنماء، وحفظ الشيء والخير فيه، فهنا جعلها في ثلاث، وليس هذا من باب القصر الحقيقي، ولكنه قصر نسبي؛ لأن من أساليب البلاغة في القصر تعريف الطرفين، تقول: الشاعر زيد، مع أن أسلوب القصر: إنما الشاعر زيد؛ لأن (إنما) أداة حصر، و (ما وإلاّ) كذلك، ما الشاعر إلا زيد، ولذا نقول في كلمة الشهادة: (لا إله) نفي، (إلا الله) ، وقالوا أيضاً: تقديم ما حقه التأخير: (إياك نعبد) ، وأصل الترتيب العربي في غير القرآن: نعبدك، فكان الأولى أن كاف الخطاب تتأخر عن الفعل: (نعبدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك) ، كما في الحديث، لكن لما قدم المفعول وكانت الكاف المتصلة انفصلت عن الفعل جيء لها (بإي) لتقوم عليها (إياك) ، فتقديم ما حقه التأخير من أساليب الحصر، وتعريف الطرفين -أي: المبتدأ والخبر- من أدوات الحصر، فهنا (ال) أداة التعريف، (بركة) معرفة، ثم ذكر الثلاث وهي معارف كلها. إلا أن هذا الحصر نسبي -كما يقولون- وليس قطعياً، أو حقيقياً. يعني: إن كانت البركة في أمور فتلك الثلاث منها، أو أن الله خص هذه الثلاث ببركة زائدة عن عموم البركة في بقية الأشياء، فيكون لها فضل اختصاص.

بركة البيع إلى أجل وصورته

بركة البيع إلى أجل وصورته [ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل) ] . أول هذه الثلاث: (البيع إلى أجل) أما البيع إلى أجل الواقع الآن فهو بيع آخر. أما البيع إلى أجل الذي هو محل البركة: هو أن لا تزيد مقابل الأجل في سعر السلعة، إذا كانت بعشرة وبعتها بعشرة والثمن مؤجل إلى شهر شهرين أما هذا هو البيع إلى أجل، أما إذا كانت بعشرة وتبيعها إلى شهرين أو ثلاثة أشهر بخمسة عشر فما بعت لأجل، لأنك قبضت ثمن الأجل؛ لأن الغرض في البيع إلى أجل التخفيف والتيسير، واللطف والرفق بالمعسر، وهذا كله من باب التراحم بين المسلمين. وتذكرون قصة الرجل من بني إسرائيل الذي كان يوصي عماله أن ييسروا على الناس ويقول لهم: يسروا على كل معسر لعل الله أن ييسر علينا، فلما لقي ربه قال له: ما عندك من عمل؟ لا لك عمل كبير، ولكنك كنت تيسر على المعسر، ونحن أحق بأن نيسر عليك، والجزاء من جنس العمل. وعلى هذا فإن البيع إلى أجل منطلق من: الرفق الرحمة التيسير عدم التضييق على المدين الذي ليس عنده قيمة السلعة، وخاصةً إذا كانت من السلع الضرورية: طعام لباس أو ما يحتاجه المسلم في بيته، أما الكماليات فأمرها آخر كبعض الناس يسعى إلى تلفزيون ملون ودش، وفيديو، وما حاجة هذا كله؟! وفر لقمة العيش لأهلك أولاً، وهذه كماليات، أو ربما هي زائدة عن الحاجة، أو ممنوعة محرمة. فإذا وجدت حاجة لذلك، وتدعوه الضرورة لأن يشتري السلعة وهو مسكين ليس بيده شيء، ماذا تعمل معه؟ تعسر الأمر عليه في ثمن لقمة الخبز وهو يريدها لأهله؟! تقول: أنا أبيع أربعة بريال، ما دام الثمن مؤجلاً فأبيعك اثنين بريال، إذاً: حملته عسراً فوق عسره، عسر زيادة الثمن، وعسر الذلة التي حملته إياها وأشعرته بها، ولو كنت أنت في مكانه كيف تريد أن يعاملك الناس؟! ألم يكن من مبادئ الإسلام أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، ولكن ما أصعب هذا!! وأحياناً تحدث مشاكل بسبب اختلاف تعامل الناس، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة. هذا غير المعاملات الفاسدة في السوق، وكانوا يعطيه القرض ويوفي بحق الله وبعهده، كما ذكر ابن كثير: عن رجل تاجر جاء إلى بلد فنقصت عليه ألف دينار، فكان يذهب إلى التجار ويقول: أقرضوني أنا تاجر في بلدي، فيطالبوه بكفيل غارم، رجل غريب لا أحد يعلمه، من أين يأتي بكفيل حتى لو كان كفيلاً حاضراً، حتى جاء إلى رجل فقال: ائتني بكفيل، قال: كفيلك رب العالمين. قال: رب العالمين؟ قال: نعم. قال: قبلت، وأعطاه الألف دينار، ثقة بعهد الله، ومتى الموعد؟ قال: مثل هذا اليوم، في السنة القادمة. ولما جاء الموعد حضَّر الرجل الألف وطلب سفينة ليذهب إليه فلم يجد، ومضت أيام طويلة وهو قلق، بينما صاحبه هناك ينتظر السفينة فلا يأتي أحد، وهذا ينتظر سفينة يركب أو يدفع المال أمانة ليسدد صاحبه، ولما طالت المدة رجع الرجل إلى بيته وأخذ خشبة وحفر داخلها، ووضع الدنانير في حفرتها، وأطبق عليها، وجاء بها إلى البحر، وقال: اللهم أنت كفيلي وهذه وديعتي أوصلها لصاحبها وفك عني ديني، ثم رماها في البحر، ورجع إلى بيته وأخذ يجمع ألفاً ثانية إن تيسرت له سفينة ذهب بها، وكان صاحبه هناك كل يوم يذهب إلى البحر ينتظر السفينة فلم يجد شيئاً، وفي يوم من الأيام رأى خشبة تتلاطمها الأمواج وتقذف بها، حتى جاءت بها على الساحل أمامه، فقال: بدلاً من أن أرجع بلا شيء آخذ هذه الخشبة لعلنا نتدفأ بها، فحملها إلى البيت، ومع ثقل الماء حينما وصل البيت ألقى بها قالت له زوجه: ألقيت صاحبك؟ قال: لم أجده، وجئت بهذه الخشبة، فلما ألقاها في الأرض مع ثقلها بالماء فإذا بها تنكسر وتخرج الدنانير، ومعها الكتاب: اللهم! إن هذه أمانتي وأنت وكيلي فأوصلها إلى من قبل كفالتك. وبعد سنة جاء الرجل بألف أخرى، وأتى إلى التاجر، فحينما لقيه قال: قد وفىّ الله عنك دينك، قال: أوصلتك الرسالة؟ قال: بلى، وصلتني في الخشبة ومعها الخطاب. إذاً كان هذا النوع في السابق: إذا استدان كان وفياً، وإذا عاهد كان أوفى، وإذا اقترض على نية السداد سدد، وكما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث: (ما اقترض إنسان على نية الوفاء إلا كان الله في عونه) وكانت دائماً تقترض، لغير حاجة وتقول: بركة لهذا الحديث، وأنا أريد أن يكون الله في عوني ما دمت مقترضة. نقول: لعل هناك عوامل تمنع من القرض إلى أجل منها: تغير معاملات الناس، وصاحب الدين لا يصل إلى حقه، بل حتى إذا وصل إلى المحكمة تناكرا، ونفى حتى السند الذي وقعه بيده، ويقول: ليس بتوقيعي ولا أعرفه ولا ولا. إلخ. أما إنساناً وثقت فيه وبعته وزدت في الثمن من أجل الأجل وأتاك بالكفيل. إذاً: حقك مضمون، فلماذا تزيد في الثمن من أجل الأجل؟! وهنا النزاع الطويل المتقدم في البيع والربا والصرف، ومنهم من حملها على. حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا إلى غير ذلك. إذاً: البيع الأجل الذي أنيطت به البركة هو البيع إلى أجل بدون زيادة في السعر مقابل الأجل.

بركة المقارضة وانتفاع الناس بعضهم ببعضهم

بركة المقارضة وانتفاع الناس بعضهم ببعضهم [ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة) ] . ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليستدل به على جواز المقارضة، وأنها مشروعة وفيها البركة، وكونها فيها البركة تستلزم أنها حلال ومشروعة، ولا يوجد نص صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحة شركة المضاربة، كما قال ابن حزم رحمه الله ونقل ذلك عنه. وإذا فتشنا في كتب الحديث لا نجد نصاً على عين شركة المضاربة، ولكن هناك ما يعتبر أصلاً، لا حاجة إلى النص وهو: أن الإسلام جاء إلى الأمة وهناك عقود متعددة إجارة بيع أنكحة موالاة رق؛ فنظر الإسلام في تلك العقود فأقر صحيحها وألغى فاسدها، وأصلح ما كان فيها من فاسد، فنهى عن الجمع بين الأختين لأنه فاسد، ونهى عن نكاح زوجة الأب، وقال الله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] ، يعني: زيادة عن الزنا، بينما قال في الزنا: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، ولكن هذا فيه: (ومقتاً) ؛ لأن فيه اعتداء على حق الوالد، فألغه. جاء الإسلام أيضاً فوجد من هو متزوج بعشر نسوة فصحح الزواج في الجملة وألغى الزائد عن الأربعة، كما في الحديث: (اختر منهن أربعاً وطلق سائرهن) ، وهذا كان في قضية غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة، وأما بقية عقود الأنكحة التي جاء الإسلام وهي موجودة فلم يبحث فيها، من الذي عقد لك كيف تزوجت ما نوع الصداق. إلخ. وهكذا كانت الشركة موجودة، وكانت أكثر أنواع المشاركة عند العرب هي المضاربة، ونعلم أن تجارة أبي سفيان كانت مضاربة، كما جاء في الأخبار: (ما من بيت في مكة إلا وله فيها سهم) ، فكانوا يجمعون المال ويعطونه لـ أبي سفيان ليتجر به بين الشام واليمن. إذاً: هذه شركة مضاربة، فلما جاء الإسلام ووجد شركة المضاربة قائمة والناس يتعاملون بها لم ينههم عنها وأقرهم عليها، وهذا توثيق وتشريع بالتقرير على وجودها واستمراريتها، ومع هذا الحال لا نحتاج إلى نصوص؛ لأنها مستمرة في طريقها، وقد أقرها الإسلام على ما هي عليه.

بركة خلط البر بالشعير قوتا لا للبيع

بركة خلط البر بالشعير قوتاً لا للبيع [ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة, وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف] . هذا قيد لابد منه: للبيت لا للبيع. يقول بعض المشايخ: كان إنسان يأتيه كل يوم برطل حليب وهو يقول له: لا تغش الحليب بالماء، قال: والله يا شيخ! أنت كثرت وأنا كنت أخلط لكن الآن تبت، وفي يوم من الأيام كان خادم هذا الشيخ غير موجود، ومن عادته أنه يخفف الحليب بالماء لأجل الدسم الذي فيه، فلما أخذ الحليب قال له: ناولني الماء أضعه على الحليب، قال: يا شيخ! كل يوم تقول لي: لا تخلط الحليب بالماء وأنت الآن تخلطه بنفسك!! قال: أنا أخلطه لأشرب، قال: هذا حقك وأنا هذا حقي، فمثلما تخلط أنت حليبك بالماء أنا أخلط حليبي أيضاً، قال: أنت عندما تبيعه هكذا فهذا غش، قال: لا. أبداً كله سوى. فالقيد هنا للبيت خلط البر بالشعير لا للبيع، ولو كان هنا دكتور من علم الغذاء لشرح لنا غاية الحكمة من البر من حيث هو أصناف قد يصل إلى عشرين صنف، وهو يتفاوت قوة وضعفاً ويسميه العوام عرق، فإن عجينة القمح لو عجنت إلى أقصى وتشبعت بالماء تستطيع أن تصنع منها خيوطاً، هذا الذي يعمل (الكنافة) قال: سبحان الله! (يخلق من العجينة دبارة) ، فهذه لا تصلح تلك الخيوط لا من دقيق الشعير ولا الذرة، لكن تصلح من البر، وطبيعة دقيق البر اليبوسة والقوة. اترك قطعة من عجين البر على شكل عمود فإذا يبست كل اليبوسة تعجز أن تكسرها، وبعضهم كان يصنع كراسي وسرائر للنوم بعجين البر، يشبعه بالماء ثم يلفه حتى التجبيس حتى يصير قوياً. إذاً إذا أكل الإنسان من عجين البر وحده كان فيه قوة وحرارة على المعدة، ولا يصلح لكبار السن، ولا لضعيف المعدة، ولابد لهذه القوة في دقيق البر من تخفيفها، والعوام في بعض البلاد يخففونها بالذرة الشامي؛ لأن الذرة الشامي ليس لها عرق يتفتت مثل الرمل، ولو جعلت منه فطيراً لا يمكن أن تجعله مثل الرقاق، ولا يصلح منه الرقاق أبداً؛ لأنه ليس له عرق قوي، فيدخلون الذرة الشامية مع البر الجيد مناصفة، ورب الأسرة لما يخلطها يجعلها أثلاثاً، الثلثين ذرة والثلث براً، البر ليمسك الذرة، ويكون هناك عرق حتى يخبز ويحتفظ به إلى مدة ما.

فوائد خلط الشعير بالبر

فوائد خلط الشعير بالبر خلط الشعير بالبر لأمور: أولاً: تيسيراً على صاحب العيال؛ لأن قيمة الشعير أرخص من قيمة البر. ثانياً: تسهيلاً على أصحاب المعدة الضعيفة. ثالثاً: مساعدة للشيَّاب والعجائز؛ فإن لهم قدرة على خبز الشعير وليس لهم قدرة على خبز البر. فهنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خلط البر بالشعير فيه بركة. أولاً: زيادة في المئونة، ثانياً: قلة في الثمن والسعر في الشعير، ثالثاً: معالجة للذين من طبيعتهم الإمساك؛ فمن أكل خبز الشعير لا يحصل عنده إمساك قط، ومن داوم على خبز البر يحصل عنده الإمساك اليومين والثلاثة. إذاً: من لطف الله ومن الحكمة النبوية والإعجاز أن يجعل البركة في خلط الشعير مع البر للبيت للأكل لا للبيع؛ لأن في خلطه للبيع تدليس، فصاع البر بعشرة، فإذا كان فيه عشرة في المائة من الشعير فقد زاد تسعة، وصار بإحدى عشر. وعلى هذا يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في خصوص القراض؛ لأنه في باب القراض قال النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عن ربه: (أنا ثالث الشركاء؛ فإن صدقا وبينا كنت بينهما، وإن خان أحدهما الآخر خرجت من بينهما) ؛ وهذا عام في الشراكة، أبدان أعيان وجوه، لكن المؤلف لدقته ساق هذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفاً، لكنه مناسب لهذا الباب، وهو من باب الحث على الإرفاق بالناس في البيع إلى أجل، وفي تيسير المعيشة في خلط البر بالشعير. والله تعالى أعلم.

ما يجوز أن يشترطه رب المال على العامل

ما يجوز أن يشترطه رب المال على العامل قال المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل؛ فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني، ورجاله ثقات] .

عدم جعل المال فيما فيه الضرر والخسارة

عدم جعل المال فيما فيه الضرر والخسارة هذه صور من صور معاملات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فقد كان يشترط على العامل الذي أعطاه المال ليعمل فيه مضاربة هذه الشروط، فيقول: هذا المال الذي أعطيتك عشرة آلاف فلا تجعله في ذي كبد رطبة، ويعنى بها: هنا: الإبل، البقر، الغنم، الخيل، بهيمة الأنعام بشكل عام، فقد يكون من عشاق الطيور، فذو كبد رطب لا تجعل مالي تجارة فيه، حتى وإن كانت التجارة في ذي الكبد الرطب رابحة؛ لأن خطرها شديد؛ لأن كل ذي كبد رطب يحتاج إلى رعاية وعناية خاصة حفاظاً على حياته؛ فإذا سافرت إلى جهة ما وجئت بألف رأس من الغنم، بحسب الواقع هذه الألف كم سوف تصل؟ هل ستصل الألف هي الألف، أو تتوالد وتزيد، أم أنه يحتمل أن تنقص بموت بعضها؟ احتمال النقص فيها قوي، ولكن لو جئت بألف كيس فول سوداني: هل من المحتمل أن ينقص منها شيء؟ بطبيعة حالها: لا. ضعها ونم فوقها على السفينة، إلى أن يقولوا لك هذه جدة، لكن ألف رأس غنم لا تقدر أن تنام عنها بل تقدم لها الماء والعلف، وتنظر التي سقطت تحت أختها، والتي ركبت عليها الثانية، والتي نطحتها. تحتاج إلى رعاية، وإذا قصرت في هذه الرعاية عرضتها للتلف. إذاً: يجوز له أن يشترط عليه أن لا يجعل رأس ماله في ذي كبد رطب مخافةً على رأس المال. وهنا مسألة: لو أن العامل لم يبالِ بهذا الشرط، وقال: إن ذوات الكبد الرطب تربح خمسة أضعاف قيمتها، وأنا لا أريد أن أفوت علي هذه الفرصة، وأتى بها؛ فإن سلمت فلا كلام لأحد عليه، وفي المثل: ما كل مرة تسلم الجرة، لكن إن حصل فيها عطب ومات منها ما يلحق الخسارة، من الذي يتحمل الخسارة؟ الأصل في المضاربة أن الوضيعة من رأس المال، والعامل لا يتحمل أي شيء إلا إذا تعدى أو فرط، وهو هنا ما التزم بشرط صاحب المال وتعدى وفرط، فيكون الضمان على حسابه هو. هذا الشرط لصاحب رأس المال مصلحةً فيه، وكذا إن اشترط شرطاً آخر، وقال: هذا مالي تعمل فيه بشرط أن لا تتعامل مع التاجر الفلاني، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، فتجاوز وتعامل، فهو ضامن، ولماذا يمنعه من شخص بعينه أو مؤسسة بعينها، بعضهم يقول: ليس له حق في ذلك؛ لأن فيه حجر له في التحرك في البيع والشراء، فعندما يحظر عليه أشخاصاً، إذاً الباقي قليل، والباقي قد لا يكون فيهم من الربح مثل هذه النواحي التي منعه منها، وإن كان هو ملتزماً بشرط صاحب رأس المال لماذا؟ لأن صاحب رأس المال يعلم من هذا الشخص الذي منعه التعامل معه أنه رجل لا يتحرى الحلال، ويتعامل بالربا أو بالمحرمات، أو يتعاطى الممنوعات، أو يعمل في الظاهر في مباحات سكر وشاهي وحليب وقشطة ولكن في الخفاء يعمل في الممنوعات، والكل يصب في صندوق واحد، فإذا كان صاحب رأس المال يعلم عن إنسان هذه الحالة فمن حقه أن يمنع شريكه من التعامل معه؛ لأن في هذا إعانة له على الباطل، وكذلك المؤسسات. فإذا اشترط صاحب رأس المال على العامل شروطاً لا تضر بالتجارة فلا بأس؛ بخلاف ما إذا قال له: الصنف الفلاني لا تعمل فيه، وليس فيه مضرة، كأن يعمل في القماش وقال له: صنف الحرير لا تعمل فيه، فيقول: أنا آخذ الحرير وأبيعه على الحريم، وعلى الرجل ليلبسه أهله، وليس حراماً على الرجل أن يقتني الحرير ما لم يستعمله، يقتنيه ليهديه أو ليقدمه إلى زوجه إلى بناته إلى ذوي رحمه لا مانع في ذلك، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه رأى حلة تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ابتع هذه الجبة لتلبسها وتستقبل بها الوفود. أي: زي رسمي كما يقولون. وهذا أمر مشروع. (ماذا على أحدكم لو اتخذ لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، لا مانع أن يكون للإنسان لباس للمجتمعات وللهيئات ويكون ذا هيئة، كما قال البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، فيتحلى بحلة جميلة عند الأجانب، وهذا فيه إظهار عظمة الإسلام، ولهذا أبيح بعض المحرم في أرض المعركة. واتفق العلماء على جواز لبس الحرير بمقدار أربعة أصابع على حافة الجبة، وتحلية السيف بالذهب، مع أن الذهب محرم على الرجال؛ لأن في رؤية العدو لهذه الحلية إشعار بأن خصمه غني، متوافرة عنده الإمكانيات؛ فيعظم في عين الخصم. وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته كان فيهم تجار وفيهم أهل مدافع وقتال، وكانوا يسيرون بقافلة للتجارة، فرأوا من بعيد قطاع طريق قد يعترضونهم، فأوقفوا الإبل، وكانوا على حالة أهل السفر، والشخص في السفر يلبس ما يلاقي به وعثاء السفر وتراب الصحراء، فأناخوا إبلهم وأخرجوا حللاً للقاء الوجهاء حينما يأتون المدن وينزلون الأسواق، فخلعوا ملابس السفر ولبسوا أفخر لباسهم، وحملوا سلاحهم ونظموا أنفسهم ومشوا، فلما دنوا منهم ورأوا عليهم الأبهة والطمأنينة وعدم المبالاة ابتعدوا عن طريقهم، فلما اجتازوهم أناخوا الإبل وأخرجوا من تجاراتهم أشياء ووضعوها على الطريق كأنها هدية لهم. يهمنا في هذا: أن العدو حينما رأى المظهر والهيئة عظم في عينه مكان خصمه. وفي غزوة تبوك جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيس فيه قثاء، فقال: من أين هذا؟ قال: جئت به معي من المدينة، والقثاء دون بقية الفواكه تتحمل مدة طويلة بعد قطفها، فأكل منها صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بغلام لـ أبي طلحة يمشي وعليه ثياب مهلهلة، وهم سيلقون العدو غداً، فقال: أليس لهذا الغلام ثوباً سوى ذلك؟ قال: بلى يا رسول الله! ثوب اشتريته له عند السفر وهو في العيبة، قال: ألبسه إياه، فدعاه وألبسه الثوب فإذا به إنسان آخر، ثم قال له: أليس هذا خير من ذاك، فسمعها الغلام، فقال: هو في سبيل الله يا رسول الله! قال: هو في سبيل الله، فاستشهد في تبوك. نقف هنا ونقول: هذا غلام، سواء لبس اللبس الحسن أو القبيح فمعروف أنه غلام، ومن عادة بعض الغلمان أنه ربما اكتفى بالإزار فقط دون الرداء، أو كما يقولون الآن: باللباس دون فنيلة، وحال السفر هذا حق، لكن ما دمنا سنقبل على العدو غداً فإذا رأى العدو حالنا نمشي مطأطئي الرءوس منحني الظهور، والغلمان كأنهم لا شيء، أو مساكين ليس لديهم ما يلبسو. إذاً: هؤلاء القوم هم هزلاء هلكى فيظهر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين وحتى غلمانهم في الهيئة الحسنة التي تعظم في عين الخصم والعدو. جاء عمر رضي الله تعالى عنه بحلة وجدها تباع عند المسجد، فقال: يا رسول الله! اشتر هذه والبسها لتستقبل فيها الوفود، فنظر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له يا عمر) . هنا عمر اقترح أن يلبس رسول الله حلةً جميلة، ولكن التطبيق العملي وتحقيق المناط لا يصلح في هذه الحالة التي جاء بها عمر، فلو أن عمر جاء بجبة أخرى ذات قماش يلبسه ذو خلاق لكان قبلها رسول الله، وبعد فترة جاء قماش للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي يلبسه من لا خلاق له، فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى عمر، فجاء عمر إلى الرسول -وهذه قضية منطقية- كيف يلبسها من لا خلاق له والرسول يرسل مثلها إلى عمر؟ نتيجة المقدمة المنطقية اجعلها معلقة، لكن عمر فهم هذا؛ فجاء: يا رسول الله! فقال: بالأمس تقول لي: إن هذا يلبسه من لا خلاق له، واليوم تهدي إلي منها، فقال: (يا عمر ما أهديتها لك لتلبسها أنت) فأرسلها عمر إلى أخ له في مكة قبل أن يسلم. وهكذا العامل في مال الغير لو أنه عمل في الحرير بناءً على جوازه، وأن الرجل لن يستعمله لنفسه فلا مانع في ذلك، فإذا شرط عليه رب المال أن لا يعمل في هذا النوع فقد يكون قد حجر عليه في تعاطي الربح في أنواع البيع والشراء. إذاً: اشتراط رب المال على العامل بعض الشروط إن كانت لحفظ المال فهي جائزة كما هو الحال هنا.

عدم وضع المال في مكان يحتمل فيه المضرة

عدم وضع المال في مكان يحتمل فيه المضرة (لا تجعله في ذي كبد رطب ولا تنزل به بطن المسيل) . نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسافر بالليل أن ينزل في بطن الوادي؛ لأن هذا فيه خطر عليه؛ لأن السيول من طبيعتها أن تأتي من محلات بعيدة وتمشي في بطن الوادي إلى أن تصل إلى محلات ما جاءها قطرة مطر واحدة، ولا غابت عنها الشمس، ولا سمعوا فيها رعداً، ولا رأوا فيها سحاباً، ويكون آتٍ عن بعد ربما مائة كيلو، ويكون هؤلاء نيام فيجرفهم، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعرس المسافر في بطن الوادي أو على قارعة الطريق المطروقة نهاراً؛ لأن الهوام في الليل تخرج وتتتبع الطريق المطروقة نهاراً، لعل إنساناً سقط منه شيء، أو ألقى بشيء وهو يمشي من فضلات الطعام، أو أي شيء يصلح لتلك الهوام تأكلها، فهي تطلب هذا في الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً؛ لأنه مظنة أن يسقطوا أو يلقوا شيئاً ربما أكلته هوام الأرض، فينهى إذا لم يكن ذي كبد رطب وكان يابساً، جئت من ينبع مثلاً أو رابغ بفحم أو بأقط أو بشيء من اليابسات، فهذه لا تعرس بها على قارعة الطريق مخافة عليك أنت، وعلى من معك من الغلمان، بل ابتعد عن الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً، وإن فعلت فأنت ضامن.

نفقة عامل المضاربة

نفقة عامل المضاربة مسألة: وهنا في عمل العامل: هل لعامل المضاربة نفقة من مال المضاربة أم أن ونفقته على حسابه هو أم يأخذها من رأس مال الشركة؟ يتفقون على أن نفقته من رأس مال الشركة، ولكن بأي ميزان؟ هل بميزان الترف والسعة، ويضيع رأس المال في مصاريفه ينزل في أفخر (الفنادق) ، ويأكل أفضل الأطعمة، ويتوسع على حساب غيره؟ لا. وكذا هل يجتزئ بالتمر والماء؟ لا. إنما يأخذ النفقة بالمعروف، كما لو كان في سفره هذا لحسابه هو كيف سيعمل؛ سيجتزئ في الصباح بالعيش والفول، وفي الظهر بإدام وكذا ويكون مقتصداً في نفقته، وهكذا إما أن يقدر له رب المال مقداراً معيناً يومياً لنفقته، وإما أن يتركه لأمانته، فلا يسرف ويجحف برأس المال، ولا يبخل فيؤثر على نفسه؛ لأنه يجب أن يكون نشيطاً ويأخذ حقه. وهل يتبع نفقته الكسوة؟ فيكتسي من رأس المال ما دام في سفره؟ البعض يقول: الكسوة خارجة من النفقة، والبعض يقول: الكسوة جزء من النفقة، والبعض يفصل ويقول: إذا كانت سفرته هذه من الطول والزمن بحيث تبلى ثيابه قبل الشركة، فيستعيض عنها بجديد مثلها على حساب الشركة، أما إن كانت السفرة قصيرة ومثلها لا يكون لها أن تبلي الثياب التي يلبسها؛ فليس له كسوة. إذاً: النظر بالمعروف. وحينما تكون البضاعة التي يعمل فيها العامل تحتاج إلى عمال؛ لأنها بالات وأكياس كبيرة والعامل لا يقوى على حملها، أو تحتاج إلى التحميل في السيارة من مكان مشتراها وتنزيل من السيارة في مستودعاتها فأجرة الحمال من عمل العامل أو من رأس المال؟ قالوا: من رأس المال، وكذا إن كانت تحتاج التجارة إلى مستودع تحفظ فيه إلى أن يصرفها؛ فأجرة المستودع هذا من المال وإن كان لرأس المال مستودعاً فيستعمله، وإن لم يكن له استأجر بالمعروف من رأس المال. وإذا كان عند التصريف والبيع السلعة نافقة والزبائن كثر واحتاج إلى من يعمل معه لسرعة إنجاز تصريفها، فيستأجر عمالاً معه، وأجرة العامل عليه هو من حصته أو على مصلحة التجارة، ويكون من رأس المال؟ وإذا جاء العامل ورأى الربح والعمل وقال: أنت جعلت لي الربح مناصفة، ونحن الحمد لله وجدنا خيراً كثيراً، أريد أن تجعل لي شيئاً مقطوعاً خارجاً عن النصف، يعني: يومياً خمسة أو عشرة ريال أو شهرياً ألف ريال مثلاً، قال: وحصتك من الربح النصف، قال: معها. أيجوز له ذلك أو لا يجوز؟ أجمعوا على أنه لا يجوز للعمال أن يشترطوا نقداً معيناً، فإذا اشترط العامل لنفسه نقداً معيناً دون حصته من الربح، قال: أنا ما أدري الربح كم يكون: كثير قليل. ولكن أريد منك مبلغاً يومياً أو شهرياً كذا، فحينئذٍ لا يكون عقد شراكة بل يكون عقد إجارة، ويكون الربح كله لصاحب المال، وللعامل ما اشترطه من المبلغ المقطوع، ولا عليه ربحت أو خسرت. هذه أهم أطراف نواحي شركة المضاربة، وما يجوز فيها من الشروط وما لا يجوز، وهنا حكيم بين لنا العلة في ذلك، وله الحق في ذلك.

حكم ركوب البحر للتجارة في الحاضر والماضي

حكم ركوب البحر للتجارة في الحاضر والماضي [ولا تحمله في بحر] . هنا نظر للمجتهد، ويجب على العلماء اتخاذ الاجتهاد والاستنباط والنظر، هل هذا الشرط يمكن أن يعمل به في الوقت الحاضر أم لا؟ لا تتسرع وتقول: نعم أو لا، يجب على طالب العلم الآن وعلى العلماء والهيئات العلمية التي تعقد الندوات أو المؤتمرات إذا نظرت في مثل هذا أن تكون ذا بصيرة هل استخدام البحر في ذاك الوقت هو عين استخدام البحر في هذا الوقت؟ هناك نصوص سابقة لمن كان ينهى عن ركوب البحر للحج لأنه مجازفة وخطورة، ونحن نقول: إن ركوب البحر ترجع طبيعته إلى الآلة التي تركب، فإنسان يأتي من السودان إلى جدة يعبر البحر عرضاً، بواسطة لنش، أو لنش شراعي، هل هو كمثل من يأتي في باخرة تمخر العباب؟ لا، يمكن هذا اللنش الصغير يأتيه سمك القرش ويأخذه من النصف، لكن من في باخرة كبيرة ينام ويلعب، وحتى لو أراد السباحة فهناك حوض سباحة في الباخرة. مدينة تتحرك، فهل خطورة البحر في ذاك التاريخ مع السفن الشراعية موجودة الآن مع البواخر الآلية التي تمشي بطاقة البخار أو الاحتراق الداخلي بالديزل أو غيرها، وهذا الجرم الكبير كالأعلام، أعتقد أن الخطورة ليست واحدة، والوضع يختلف، فإذا قال: لا تضع مالي في بحر، نقول: إن كنت تخاف عليه من السفينة الشراعية التي يقف عنها الهواء وتغرق، أم من القرصنة في البحار فهذا أمر انتهى. وهذه كانت مهمة البريطانيين، بريطانيا قبل أن تصبح دولة متحضرة كانوا قراصنة في البحار يقطعون الطريق على السفن، فإذا كان الطريق فيه القراصنة يأخذون البواخر قهراً ويسلبون ما فيها. فله حق، وإذا كانت هناك تأمينات بحرية؛ لأن الحاصل الآن: أنه لا تبحر سفينة من ميناء ببضاعة إلا وهي مؤمن عليها، وكيف يؤمن عليها؟ يقولون: أول عقود التأمين في العالم التأمين البحري، يأتي التاجر ويشتري السلعة من لندن، وتريد الجهة المصدرة تصدير البضاعة إلى جدة؛ لأن الشرط في عقد البيع: إما تسليم محلي أو تسليم إلى ميناء المشتري، فتتعهد الجهة البائعة بإيصال السلعة إلى ميناء المشتري، فإذا كان التوصيل على حساب المشتري فشركة التأمين البحري مهمتها أن تأخذ عقد الشراء وتذهب إلى المصنع الذي باع وتتابع تعبئة السلع في الصناديق، وهل هذه التعبئة سليمة أو ليست سليمة، فإن كانت البضاعة من زجاج لابد لها من تغليف ومحافظة. فتقف وتشرف على تعبئتها تعبئةً سليمة، فإذا انتهت من التعبئة وتريد أن تشحنها في الباخرة المبحرة إلى جدة، تنظر أي البواخر التي اختارها المصنع، وهل هي جديدة قوية تعبر المحيطات أم هي مخلخلة ليست قوية معرضة للانفصال أو الانكسار أو الانشطار، فإن كانت صالحة سمحت شركة التأمين بتعبئة البضاعة المعبأة من المصنع فيها، ثم تنظر متى ستبحر؟ وتذهب شركة التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل عن هذا اليوم؛ فإن قالوا: والله عندنا أخبار عن عاصفة قادمة من الجهة الفلانية وسرعتها كذا كما هو في النشرة الإخبارية، وليس كما يظن بعض الناس أن النشرة الجوية تكهنات، لا، بل هي مبنية حقائق ونظريات علمية واقعية. فمثلاً: المرصد الذي في جدة والذي في الهند ودونهما مراصد ما بين دلهي إلى جدة، فالمرصد الذي يلي الهند مباشرة يتلقى من المرصد الهندي أنه مرت بي عاصفة ورياح هوجاء سرعتها في الدقيقة كذا، وإذا استمرت في اتجاهها سوف تصلكم بعد كذا، فتصلهم على حسب التقدير، فيتصل هذا المركز بالذي بعده وهكذا إلى جدة مرت بنا عاصفة كذا سرعتها كذا، وإذا استمرت على هذا النحو سوف تصلكم وقت كذا، وهكذا يتناقلون الأخبار لا سلكياً، وعندما تنتهي إلى ما قبل جدة مركز جدة يعلن عنها. إذاً: النشرة الجوية ليست تكهناً، وإنما هي عبارة تناقل للمعلومات من المراكز بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تحذير للذين يعملون في البحر حركة البحر هائج حالة البحر هادئ والموج فيه كذا، على أي أساس هو في مكتبه من أجل الإخباريات من المراكز التي مرت بها العاصفة وهي في طريقها إليه. فتأتي شركات التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل ماذا عندكم في طريق الإبحار من هنا إلى السعودية، فيعطونهم الأخبار، فإن وجدوا عواصف في هذا اليوم أو في ما بعده لمدة وصولها إلى جدة أوقفوا الرحلة، وإن وجدوا هدوءاً وأماناً أجازوا الرحلة، فتأتي الرحلة بسلامة الله وتأخذ شركة التأمين أجرتها، وكما يقول من كتب في عقود التأمين: أسلم وأول عقود التأمين هو التأمين البحري، كذلك تأمينها من القراصنة؟ هل هي سفينة محصنة قوية أو ضعيفة يمكن للقراصنة أن يأخذوها. إذاً: كل هذا فيما يتعلق بركوب البحر. فإذا قال رجل الآن لا تضع مالي في البحر، قال: البحر اليوم ليس مثل أمس مهلكة، البحر الآن أصبح مأموناً أكثر من البر؛ لأن قراصنة البحر تعجز عن السفينة الكبيرة، وقطاع الطريق في البر لا يعجزون عن القافلة بالإبل. إذاً: لو قال: لا تضع مالي في البحر، وقالها بناءً على ما سبق نقول: النظر يختلف، ونقول: واجب العلماء أن ينظروا في الواقع الماضي والواقع الحاضر. [ (أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني ورجاله ثقات] . إن فعلت شيئاً من ذلك فقد أصبحت ضامناً بفعلك هذا، فإن وقعت هناك خسارة دفعتها، وإن لم تقع خسارة فأنت برضاك ضامن.

اقتسام الشركاء مال المضاربة

اقتسام الشركاء مال المضاربة قال المصنف رحمه الله: [وقال مالك في الموطأ: عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن جده: (إنه عمل في مالٍ لـ عثمان على أن الربح بينهما) ، وهو موقوف صحيح] . هذا الأثر موقوف صحيح على عثمان، وهو خبر واضح، وأوضح من هذا ما يذكره العلماء عن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم. أنهما كانا في الشام وكان أبو موسى الأشعري عامل هناك، وكانا في الثغر، فرغبا العودة إلى المدينة، فمرا بـ أبي موسى؛ ففي رواية أنه قال لهما: عندي مال أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين عمر -أي: لبيت المال- أعطيكم إياه تشترون به تجارة وتبيعونها بالمدينة فتربحون وتسلموا رأس المال لـ عمر: ففعلا، فربحا وجاءا إلى عمر ودفعا إليه المال بالقدر الذي أخذوه من أبي موسى، فقال لهما: ما خبر هذا المال؟ فأخبراه بالخبر، فقال: ما الذي حمل أبو موسى على ذلك، وهل كل الجند أعطاهم مثل ما أعطاكما؟ قالا: لا. قال: إذاً: قال في نفسه أنكما ابنا أمير المؤمنين وصانعكما، ردا المال بربحه، فسكت عبد الله وكان حيياً، وقال عبيد الله: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال: أرأيت لو هلك المال كنت ضمنتنا إياه أم لا؟ قال: بلى، قال: ما دمت كنت تضمننا إياه فالغرم بالغنم. أي: ما دمنا سوف نضمنه لك عند التلف فلنا حق الربح كاملاً. فقال أحد جلساء عمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين! اجعله بينك وبينهما قراضاً، يعني: مضاربة، ففعل وأخذ نصف الربح ورد عليهم نصف الربح. فهذا إقرار من أمير المؤمنين عمر على المضاربة في المال، والمال مع من؟ مع أفراد لبيت مال المسلمين -يعني: مع الدولة- فلو أن بيت مال المسلمين أو جانب وزارة المالية أقرضت مؤسسة أو جماعة مبلغاً من المال يعملون فيه ولهم جزء من الربح فلا مانع في ذلك. وكما أشرنا: إن مباحث شركة المضاربة فيها نواحٍ وجزئيات عديدة، ولعل هذا القدر يكفينا فيما أوردناه وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأقول: إن فقه المعاملات يحتاج -في نظري- كل عشر سنوات إلى ندوة علمية، لينظر في تطوراته وحاجة الناس إلى ما استجد من أنواع التعامل، فمعاملات كثيرة عديدة موجودة في الأسواق لا تأخذ طريقها السليم ولا ينبه عليها أحد، وبالله التوفيق.

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [1]

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [1] من عقود المعاملات في الإسلام: عقد المساقاة والمزارعة، وهو عقد شبيه بعقد القراض من جهة اشتراك طرفي العقد في عمل واحد: أحدهما بماله، والآخر بجهده. والعمدة في ذلك: حديث مساقاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، حيث عاملهم على سقايتها على أن الثمرة بينهما مناصفة، وكان يخرصها عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، على أن يلتزموا هم بكل ما من شأنه إصلاح النخل من سقي وتأبير وقطع للجريد وإصلاح للقنوات وغير ذلك.

أحكام المساقاة

أحكام المساقاة [عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه. وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) . ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) . وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) ، رواه مسلم. وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] . بعد كتاب القراض يأتي المؤلف رحمه الله بكتاب المساقاة؛ لما بين القراض والمساقاة من مشاكلة، وصورتهما تكاد أن تكون واحدة؛ لأن العامل في القراض يأخذ رأس المال من صاحبه، ويعمل فيه على جزء من الربح، وفي المساقاة يأخذ العامل من صاحب الغرس غرسه ويعمل فيه على جزء من الثمرة، فكلاهما مشاركة في عمل، أحدهما برأس مال، والآخر بجهده، والربح أو النتيجة بينهما.

مشروعية المساقاة والمزارعة وما تصح فيه

مشروعية المساقاة والمزارعة وما تصح فيه المساقاة كما ذكر المؤلف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: مأخوذة من السقي. قالوا: لأن أرض الحجاز ماؤها قليل، والسقي ضروري في زرعها، بخلاف أهل الأمصار الأخرى، فقد تكون عندهم الأنهار والعيون، والمياه لديهم متوافرة، فلا تحتاج إلى كلفة في السقي. أما في الحجاز فإن المياه قليلة، وتحتاج الزراعة فيها إلى جهد في سقيها، والسقي أهم كلفة الزراعة في الحجاز، فقد يعجز صاحب النخل أو الشجر أن يقوم عليها بمئونتها حتى تأتي الثمرة، ويكون هناك شخص آخر لديه خبرة واستعداد، فيقوم في هذا النخل أو غيره بالسقي وما يلزمه لإنتاج الثمرة على جزء مما يأتي به الأصل. إذاً: هناك مناسبة قوية بين القراض والمساقاة، فالقراض ربما صاحب المال لا يحسن استثماره، ويكون هناك شخص يحسن الاستثمار وليس عنده رأس ماله، فيتعاونان معاً ويتبادلان المنفعة، وكذلك صاحب الزرع أو الغرس قد لا يكون قادراً على مواصلة العمل فيه، ويوجد شخص آخر لديه خبرة، ويستطيع أن يقوم بالعمل فيه، فيتبادلان المنفعة. والأصل في هذه المعاملة ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر) ، أو هم طلبوا منه أن يقرهم عليها، والثمرة بينهما مناصفة. وفقهاء الأمصار جميعاً يقرون هذا النوع من المعاملة على اختلاف في نوع الشجر، فهناك من يقول: لا تكون المساقاة إلا في النخل. وهذا قول ابن حزم، وهناك من يقول: المساقاة في كل شجر له ثمر، كما قال مالك رحمه الله، كما في الكرْم والرمان والتين والفرسك -الخوخ- والمشمش، والحنابلة يقولون: يصح في كل غرس ثابت الأصل له ثمر. ويختلفون في الشجر الذي لا ثمر له، إلا إذا كان له وسيلة انتفاع من غير الثمر كالورق، فمثلاً شجرة الحناء والتوت، فورق الحناء يستعمل خضاباً، وورق التوت يستعمل غذاء لدود القز، وهكذا إذا كانت هناك فائدة يمكن أن يستفيد منها العامل من جراء سقيه لهذا النوع من الشجر فلا بأس، أما ما لا ثمرة له بالكلية فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن المساقاة عمل على جزء من الثمرة التي تحصل، فإذا كان الشجر لا ثمرة له؛ فحينئذ ليست هناك مساقاة.

فتح خيبر ومعاملة الرسول لأهلها

فتح خيبر ومعاملة الرسول لأهلها يذكر العلماء في موضوع مساقاة خيبر: هل فتحت خيبر عنوة أم صلحاً؟ وهل كانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه افتتحها عنوة واكتسبها، أو كانت صلحاً بينه وبين أهلها؟ يطيل ابن عبد البر رحمه الله الكلام في هذه المسألة في الاستذكار؛ لأن خيبر كانت حصوناً متعددة، فبعض الحصون فتحت عنوة وبالقوة، وبعض الحصون نزل أهلها عنها حقناً لدمائهم. إذاً: منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحاً، ومما فتح عنوة حصن الكتيبة، كان يقال عنه: فيه أربعون ألف عذق -أي: أربعون ألف نخلة- ولأنه فتح عنوة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم امتلكه، حتى قالوا: أهله أصبحوا عبيداً لرسول الله، والأرض أصبحت ملكاً لرسول الله، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث الخارص يخرص عليهم ليأخذ نصف الثمرة على ما صالحهم عليه أو ما أقرهم فيه. وكان فتح خيبر عام سبعة من الهجرة بعد العودة من صلح الحديبية بليال -قيل: عشرون ليلة- ولهذا قسم رسول صلى الله عليه وسلم خيبر -عند من يقول: قسمها- على أهل الحديبية؛ لأن الله قد أعطاهم إياها في الطريق في العودة من الحديبية {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] ، فقالوا: المغانم التي وعدهم الله إياها هي فتح خيبر، وعلى كلٍ فكلُ من حضر الغزوة من الصبيان أو النساء أو العبيد أو ممن ذهب في رفقة الجيش يسترزق فقد قسم له رسول الله. حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ليال، ثم فتحها الله عليه، فلما فتح الله عليه خيبر هنا بدت مدينة فيها أشجار، يكفي أن حصناً منها يتبعه أربعون ألف عذق، فإذاً يحتاج إلى عمل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا متفرغين للفلاحة، وإنما سيوفهم بأيديهم، ففطن اليهود لذلك وقالوا: يا محمد! أبقنا فيها نعملها لك، فأنتم لستم أهل خبرة بالأرض وبطبيعتها وطريقة استثمارها، ولو كانت لكم بها خبرة فليس عندكم الوقت الكافي لزراعتها، أما المهاجرون جاءوا فليسوا أهل زراعة ولا نخيل، ولكن أهل تجارة وقتال، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نقركم فيها -هذا اللفظ متفق عليه- على ما شئنا - وفي رواية: على ما شاء الله-) ، ومشيئة رسول الله لا شك أنها من مشيئة الله، فأقرهم عليها، ومكثوا فيها بقية وجود النبي صلى الله عليه وسلم من سنة سبع وطيلة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفترة من خلافة عمر، حتى أجلاهم عمر عنها سنة سبعة عشر، وكان سبب إجلائهم عنها ما كان قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، وهذه كلمة إن قلت سياسية أو تشريعية فمدلولها واسع جداً، نأتي إليها إن شاء الله بعد الكلام على المساقاة والمزارعة.

حكم الأرض البياض في المساقاة

حكم الأرض البياض في المساقاة لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أرضهم يقومون في غرسها وزرعها، أقرهم على أصولها وبياضها. الأصول: الأشجار المغروسة، والبياض: الأرض التي بين الأصول ليس فيها غرس. وإعطاء الأصول على جزء من الثمر هو المساقاة؛ لأن العمل الرئيسي هو سقي هذه الأصول، وإعطاء الأرض البيضاء التي لا غراس فيها على جزء مما يخرج منها يسمى المزارعة؛ لأن الذي يأخذ الأرض البيضاء يزرع من جديد. ومالك له مباحث في البياض مع الأصول؛ فإذا كانت الأرض فيها نخيل وأشجار يساقى عليها، ويوجد بين هذه الأشجار أرض بيضاء، لمن ثمرة هذه الأرض إذا ساقى صاحب الأصول عليها؟ يقول مالك رحمه الله: إذا كان البياض الثلث فأقل فهو تابع للأصول، وللعامل أن يزرعها لنفسه، وإذا كان البياض أكثر من الثلث، بأن كان الغرس الثلث والبياض الثلثين فهو لصاحب الأرض. وهل يزارع المزارع عليها مع الأصول فتكون مساقاة في الأصول ومزارعة في الأرض البيضاء، أم لا يكون ذلك؟ قال: على حسب الشرط، ما يتفق عليه صاحب الأرض والداخل؛ أي: الذي سوف يعمل في المساقاة أو المزارعة يسمونه الداخل. وإذا أعطاه الأرض البيضاء يعمل فيها مع الأصول، كلفة العمل في الأرض البيضاء كالبذر والحرث وما تحتاجه على صاحب الأرض أو على العامل؟ الجمهور على أنها على العامل. والأئمة الثلاثة رحمهم الله يجيزون المساقاة في كل شيء، وبعضهم يقتصر على النخل فقط؛ قالوا: لأنه الذي جاء فيه الرخصة؛ لأن المساقاة خرجت عن القاعدة العامة؛ لأن فيها غرر على العامل، ولا يدري ماذا سيحصل من تعبه طوال السنة، لكن تسومح فيها لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، والإمام أبو حنيفة رحمه الله منع المساقاة بالكلية، قال: لأنها نسخت بالمزابنة -المدافعة- كل يدفع عن نفسه الغرر. والجمهور يقولون: هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليهود قبلت بالعمل فيها بجزء مما يخرج منها. وخالفه أبو يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة وزفر فيقولان: لا تصح المساقاة؛ لأن فيها الغرر. إذاً: نستطيع أن نقول بجواز المساقاة عند المذاهب الأربعة.

مشروعية الخرص ووقته

مشروعية الخرص ووقته كان رسول صلى الله عليه وسلم يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص التمر على يهود خيبر، وهل الخرص كان للمشاركة: نصف لليهود ونصف للمسلمين، أم أن الخرص كان للزكاة؟ مالك يعارض في قسمة الثمرة على الشجر في المعاوضات، ويجيزها في الزكاة، وكذلك أبو حنيفة لا يرى الخرص في الشجر، ويقول: إن هذا مبني على التخمين وعدم اليقين، فلا حاجة إلى قسم الثمرة على الشجر، بل ينتظر بها إلى الجذاذ وتقسم بالكيل، حتى لا يكون هناك غرر. والجمهور يردون على من يمنع الخرص قائلين: إن الخرص وإن كان تقديراً فإنكم تقرون التقدير في غير الخرص، مثل قيم المتلفات، فإذا أتلف إنسان شيئاً لآخر وليس من المثليات: سيارة، أو بعيراً، ماذا سيلزم على المتلف فيما أتلف؟ يلزمه القيمة، وهل هناك مقياس يحددها؟ لا، فالمثليات في المكيل والموزون يمكن أن يكون مقارباً للحقيقة، صاع تمر أو صاع بر، الصاع يحكم بين الاثنين، أما لو كان بعيراً فلو جئت بمائة بعير لا تجد اثنين يتساويان في كل شيء، ولهذا تجد المائة بعير تختلف قيمها لاختلاف هيكلها، لونها، بدانتها، نحافتها. إذاً: يرجع إلى التقدير، والتقدير من الخرص والاجتهاد، وإذا كنتم تقرونها في بدل المتلفات فلم لا تقرونها في قسمة الشركات؟! ومن منع الخرص بين الشركاء قال: إن ابن رواحة رضي الله عنه إنما كان يذهب ويخرص على اليهود للزكاة -وهي حق للمساكين- وليس للقسمة بين رسول الله وبين اليهود، ولكن إذا جئنا إلى أخبار ابن رواحة نجد أنه كان يخرص للقسمة، كما ذكر مالك رحمه الله في الموطأ: أن ابن رواحة لما أتى اليهود ليخرص عليهم جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا له: هذا لك أنت هدية، وخفف عنا في الخرص. يعني: إن كان المجموع ألف وسق سيلزمنا خمسمائة، فاجعله ثمانمائة ويلزمنا أربعمائة فقط، فهنا قال ابن رواحة كلمته المشهورة: والله يا إخوة الخنازير لأنتم أبغض خلق الله إلي، وقد جئتكم من أحب خلق الله عندي، وما ذلك -يعني: بغضي لكم وحبي لرسول الله- بحاملي أن أحيف بكم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] لا ترتكبوا الجرم وتميلوا وتظلموا لا، بل اعدلوا: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ} [المائدة:8] ، أي: العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ، فقالوا: يا ابن رواحة! بهذا قامت السماوات والأرض. (بهذا) يعني: بالعدل وعدم قبول الرشوة. وفي بعض الروايات قال لهم: وإن هذا سحت لا نأكله، ثم قال لهم وأنصفهم بكلمة الواثق من نفسه: إني خارص؛ فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم. بمعنى: إني خارص؛ فإن قدرتُ قدراً معيناً إما أن تلتزموا بنصفه تؤدونه لرسول الله، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا أضمن لكم نصفه أسلمه إليكم. هل في هذا حيف؟ لا، كأن تقول: يا فلان! أنا أقسم وأنت تختار، أو اقسم أنت وأنا أختار. إذاً ما هناك حيف. فلو أنه كان يخرص للزكاة ما الذي كان يحمله على هذا أو يحملهم هم على ذاك؟ إذاً: فإنما كان يخرص من باب القسمة، وبيان حق الطرفين، ولم ينتظروا جفاف التمر وأن يأتي موعد الجذاذ ليكيلوه؟ قالوا: الخرص سواء في الزكاة أو المساقاة فإنما هو عقد إرفاق بالعامل، وفي الزكاة حفظ لحق المساكين، لذ لا يكون الخرص إلا بعد بدو صلاح الثمرة، ولو تركت حتى الجذاذ ربما العامل أو صاحب النخل يسرف في الأكل أو الهدايا، وربما يبيع رطباً، ثم في النهاية نجد أن الذي وصل إلى حد الجذاذ ربع الثمرة، أين صار حق المساكين؟ فإذا خرص عليه بأن هذا البستان فيه مائة نخلة، والنخل يتفاوت كيلها ما بين كذا وكذا وسقاً أو صاعاً، والمجموع كذا، وأنه يلزمه العشر أو نصف العشر، ويتركه بينه وبينه، إن شاء أكله، وإن شاء جامل به، إن شاء باعه رطباً، يهمنا: أن يقدم لنا العشر أو نصف العشر بحسب تقدير الخارص. والرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة الزارع، قال: (اتركوا الربع أو الثلث؛ لما يسقطه الريح، ولما تسقطه الطيور، وبما يرده الضيف ويكارم به، وبما يأكل به العامل) فالرسول سامح أصحاب البساتين في هذه النواحي الإنسانية أو في غير الطاقة، إذا كان الريح يسقط كل يوم مثلاً عشرة؛ ولأن الطيور تأتي وتنقي وتختار أحسن ثمرة وتأخذ حظها منها وتتركها، ولأن الضيف كذلك يأتي ينظر ونحن نقول له: والله هذا حق المساكين! لا، ولكن نكارم ونعطيه، لا نقلل المروءة في الناس، وهكذا أولاده، يتطلعون إلى الثمر ونحن نمنعهم حتى يأتي وقت الجذاذ من أجل الزكاة؟ لا، بل تخرص عليه، ويعرف ما يجب في زكاتها، ثم يلتزم بذلك ويؤديه في النهاية. إذاً: كان خرص عبد الله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر للقسمة وليس للزكاة، فما دام الأمر كذلك، والرسول ترك النخل لأهل خيبر يعملونه، ثم يرسل من يخرصه عليهم ويستوفي حقه، وثلاث سنوات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتان في خلافة أبي بكر، ومدة من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهم. بعد هذا هل نقول: إن المساقاة منسوخة؟! إن النسخ لا يكون إلا في عهد رسول الله؛ لأن النسخ تشريع جديد، وليس بعد رسول الله وحي ولا تشريع، وليس لأحد بعده أن ينسخ ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: المساقاة ثابتة، وهي على ما اتفق عليه صاحب المال والعامل.

حقوق العامل وواجباته في عقد المساقاة

حقوق العامل وواجباته في عقد المساقاة [عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه. وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا. فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) . ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) ] . عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر عليها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، الزرع للأرض البيضاء بين الأصول، وقد تكون هناك أراض زراعية ليس فيها من الغرس أي شيء، فيزرعونها على حدة، ويسقون النخل على حدة، ويزرعون البياض بين النخل تبعاً للنخل، وكل ذلك عاملهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزء مما يخرج من الثمرة في الأصول، ومن الحبوب في الأرض البيضاء.

الأصول التي تصح فيها المساقاة

الأصول التي تصح فيها المساقاة أي الأصول تصح فيها المساقاة؟ قيل: لا تصح إلا في النخل خاصة. وقيل: في كل شجر له ثمر. وكذلك الأرض البيضاء يزرعونها تبعاً للنخل والأشجار، أو على حدة، وإن كانت البيضاء بين الأصول الثلث فأقل فهي تابعة للأصول، وإن كانت أكثر والغرس ثلث فأقل فالأرض فهي تابع مستقل بذاتها. وأي الزروع التي تصح فيها المزارعة؟ قيل: الحبوب: البر والشعير وما يتبعه. وقيل: كل ما يزرع حتى الخضروات، حتى نص مالك على القثاء وما شاكلها فإنها تدفع للعامل يعمل فيها بالمزارعة، ولكن في غير خيبر إذا دفع صاحب الأرض الأرضَ لمن يعمل فيها زرعاً، قال: لا تكون مزارعة على جزء مما يخرج منها إلا إذا كان صاحب الأرض قد حرث وبذر، وبدأ الزرع ينبت، وعجز صاحبه أن يوالي العمل فيه للنهاية، فله أن يزارع عليه أحد العمل، أما أن يأتيه والأرض بيضاء ويقول له: اعمل فيها على ما يخرج منها، فـ مالك يمنع من هذا، وغيره يجزيه، والذي يمنع يقول: لأنه مجهول، ولا يدري ما الذي سيحصل عليه. فيقال لهم: المساقاة على مجهول ولا يعلم ما الذي سيحصل عليه.

ما يجب على العامل فعله في عقد المساقاة

ما يجب على العامل فعله في عقد المساقاة ويتفقون على أن العامل ملزم بكل عمل من شأنه مصلحة الثمرة، فمثلاً: إذا كان النخيل عليه جدار، فانثلم الجدار في مكان ما، فعلى العامل إصلاحه لا أن يبني جداراً جديداً لم يكن موجوداً على الأرض؛ لأن هذا ملك لصاحب الشجر، وليس لصاحب الشجر مصلحة دائمة بدوام هذا البناء الذي سيبنيه؛ لأنه إن ساقاه سنة أو سنتين فبناء السور يظل عشرات السنين، فيكون صاحب الأرض استفاد من العامل ما ليس له فيه حق. وكذلك على العامل أن ينقي العين -القناة- كما كانت العين في أحد والخيف -خيف السيد، خيف فلان- كانت من جبل أحد إلى الغابة، هذه كلها خيوف ماء يسيل على وجه الأرض يقتسم أهل البساتين الماء بالوجبة على نظام عندهم في ذلك، فإذا احتاج مجرى هذا الخيف إلى ترميم أو إصلاح، أو انصدع الجدار من الجانب، أو نبت من الحشيش ما يسد الماء ويرده، فعلى العامل تنظيف ذلك، وليس عليه إجراء عين جديدة، وليس عليه حفر بئر من جديد، ولكن عليه إصلاح البئر القائمة. لا مانع في ذلك كله. وعلى العامل أن يحضر آلات السقي، إن كان بالسواني فبالسواني، وإن كان بالمكائن -كما هو الآن- فالبمكائن، وإذا كان في البستان عمال أو عبيد أو رقيق ملكاً لصاحبه، وأراد العامل أن يأخذ الرقيق مع الأصول، قالوا: إن كانت النخيل كبيرة وتحتاج إلى مساعدة أخذ، وإن كانت صغيرة لا تحتاج إلا لشخصه هو فليس له أن يأخذ. الذي يهمنا: أن ما فيه مصلحة الثمرة فهي على العامل، فإذا كانت المساقاة سنوات فعليه في أول السنة تأبير النخل، وقطع الجريد، وإصلاح الأحواض للنخلة للماء وللشرب. وغير ذلك، وكذلك الأشجار المثمرة: عليه تقليم شجر العنب؛ لأنه يحتاج إلى تقليم ما يبس منه كل سنة، وكذلك أشجار الفاكهة الأخرى إذا احتاجت إلى تقليم الزوائد فيها لينشط الجذع في تغذية الثمرة الجديدة. ثم إذا جاء وقت الجذاذ فعلى العامل أن يجذ الثمرة، وينزلها البيدر حتى تجف، ثم بعد ذلك يقتسمونها. [وفي رواية لهما: فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر] . الرواية تدور بين كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرهم ابتداءً، وبين أنهم هم الذين طلبوا منه أن يقرهم، وسواء كان ذلك ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استجابة لطلبهم، فالنتيجة واحدة، وهي: أنهم عاملوه على جزء من الثمرة.

مدة عقد المساقاة

مدة عقد المساقاة [فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا] . ما هي هذه المشيئة؟ هل اليهود علموا متى تنتهي تلك المشيئة، أم أنه أجل مجهول؟ مجهول؛ لأن اليهود لا يعلمون متى تكون مشيئته بإخراجهم، وهنا قالوا: هل يتعين في المساقاة تعيين مدة العمل، أو تصح بغير تعيين؟ فمن قال: تصح بغير تعيين أخذ دليله من هذه اللفظة: (ما شئنا) إذ ليس فيها تحديد زمن معين، ولهذا مكثوا فيها إلى جزء من خلافة عمر، فمن الممكن أنهم كانوا يتوقعون كل سنة إجلاءهم، فكان العمل على غير مدة معينة. وهناك من يقول: لابد من تعيين المدة. والواقع أننا لا نستطيع أن نتحكم على ما جاءنا من الروايات، ولا توجد رواية -فيما أعلم- أن الرسول حدد لهم المدة: سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل.

ما يترتب على فسخ عقد المساقاة

ما يترتب على فسخ عقد المساقاة يتفق العلماء على أن صاحب الزرع إذا أعطى العامل غرسه ليعمل فيه فعمل، ثم بدت الثمرة، ولما يحن وقت الخرص، وأبر النخل فقط، ثم جاء صاحب النخل وقال: فسخت عقد العمل بيني وبينك. فمن حقه ذلك، وكذلك من حق العامل أن يأتي في وقت معين ويقول: فسخت العقد بيني وبينك. في هذه الحالة إذا جاء الفسخ من جانب صاحب المال ماذا يكون للعامل فيما مضى من عمله في هذه السنة؟ بدأ العامل العمل من بعد الجذاذ للثمرة التي مضت، أي: من بداية سنة جديدة، فسقى النخل، وقطع الجريد، وأبر النخل ونظف القناة، وأصلح السور. إلخ، كل هذا عمله على أنه سوف يستمر إلى آخر السنة، فجاء صاحب النخل وقطع عليه المشوار، فإذا جاء الفسخ من جانب صاحب النخيل فعليه أن يدفع أجرة العامل فيما عمل من أول السنة من بعد الجذاذ الأخير إلى يوم أن ألغى عقده؛ لأنه يعمل على وجه شرعي، وصاحب المال هو الذي ألغى العقد، إذاً: يتحمل مسئولية ذلك. أما إذا جاء الإلغاء من جانب العامل فهو الذي أبطل حقه، ولا حق له في المطالبة بما عمل، لا حق التأبير ولا قطع الجريد ولا تنظيف النهر ولا تصليح الدولاب ولا ترميم السور كل ما عمله أسقط حقه فيه بتركه العمل اختياراً. حدد المدة في المساقاة فيلتزم الطرفان بها، وإذا أراد أحد الطرفين أن يقطع المدة فيلتزم بالمسئولية، أو كانت المساقاة بغير أجل مسمى فكل على طريقه، فإن جاء صاحب المال وألغى العقد أو أوقف عمل العامل فيتحمل له بما يستحقه كأجير، وإذا ألغى العامل العقد فيتحمل هو مسئولية الإلغاء، ولا يكون له عند صاحب المال شيء؛ لأنه دخل معه على أن له في مقابل العمل جزءاً من الثمرة، والثمرة لم تأت بعد، إذاً: ليس له حق في المطالبة بشيء. والله أعلم.

ما يلزم العامل من النفقة في عقد المساقاة

ما يلزم العامل من النفقة في عقد المساقاة [ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها] . هذه الرواية الأخيرة فيها زيادة: (على أن يعتملوها) ، أي: ما تحتاجه من نفقات وكرى لعمل زائد الأرض البيضاء تحتاج إلى حراثة تحرث العين تحتاج إلى آلة تنظف الدولاب الذي يعمل عليه تعطل ويحتاج إلى تصليح على من تكون نفقة ما يحتاجه الغرس لمواصلة العمل؟ أهي على العامل أم على صاحب المال؟ فالرواية التي لـ مسلم: (أن يعتملوها من أموالهم) ، فإذا تعطل الدولاب يصلحونه، وإذا انطمست العين يحفرونها، وإذا سقط الجدار يقومونه وإذا احتاجت الأرض البيضاء إلى بذر يشترونه، إلى سماد يسمدونها، وإن احتاجت إلى عدة أشخاص يؤبرونها، وهو وحده لا يستطيع أن يؤبر النخل، ولو بقي على عمله هو فقط ربما فات بعض النخل وقت التأبير وفسد؛ لأن الكافور أول ما ينشق يجب أن يؤبر، إذاً لابد من أيدٍ عاملة تتابع ذلك حتى لا يتفتح الكافور وتظل خمسة إلى عشرة أيام ولم يوضع فيها شيء، كالمرأة إذا جاءتها البويضة ولم تجد البويضة ما يلقحها فسدت وخرجت مع الدورة الشهرية، وهكذا طلع النخلة إذا لم يجد التأبير في إبانه فسد ومضى في طريقه (شيص) . إذاً: يعملونها من أموالهم، وأهم الأموال في عملها: البذر في الأرض البيضاء، وكل ما من شأنه إصلاح النخل، يمكن أن يقطع جريد ألف نخلة لسنة قادمة؛ لأن النخلة تزيد كل سنة دوراً من الجريد، وتنمو وهكذا، وفي علم النبات الشجرة الكبيرة والدوحة العظيمة علماء النبات يعرفون عمرها بالدوائر والحلقات التي في عين الجذع، لو قطعت الشجرة وجدت في بطنها دوائر، دائرة خلف دائرة خلف دائرة، ويقولون: كل دائرة لها زمن معين من العمر، وكلما مضى عليها زمن زادت دائرة جديدة، وهكذا يقيسون عمرها بتلك الدوائر، كذلك النخلة يقيسون عمرها بطوابق الجريد التي تظهر فيها. والناس يختلفون في قطع الجريد للنخيل، فبعضهم يقول: ما زاد على حملها. وبعضهم يقول: لا تقطع من النخل جريدة إلا إذا يبست، وما دامت خضراء فهي عامل من عوامل الجذب للماء من تخوم الأرض إلى أعلاها؛ لأن الجذع الذي على وجه الأرض خشب ولا تستطيع أن تكسره بالفأس، وفي رأس النخلة تجد الجمار تأكله بأسنانك، وتجد الماء، وتجد العسل في الرطبة، من أين جاء هذا؟ إنما جاء من الماء الذي في الأرض، وما الذي رفعه وضخه إلى أعلى؟ ذلك الجريد، وكذلك أوراق الشجر الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي (الكلوروفيل) -كما يسمونه- تجذب الماء إلى أعلى مثل (الموتور) الذي يدفع الماء إلى أعلى العمارة، ولهذا أرباب النخيل لا يقطعون الجريد الأخضر. إلا أن بعض النخلات -كما يقولون:- يعتريها الجنون أو سن المراهقة، فيخففون من رأسها بأخذ الجريد دور أو دورين لكي تخف قليلاً وتهدأ، ولهم أحوال كثيرة في هذا، ويكتبون عن النخلة الشيء الذي يعجز الإنسان عن تصوره، يقولون: إنها تفرح وتحزن وتخاف وتطرب، وكل ذلك يثبتونه للنخلة، وبعض النخلات إذا طال الزمن وما أثمرت يأتون بالحطب حولها أو القش ويقولون: إذا لم تثمر نحرقها، ويشعلون النار في القش، هم لا يؤذون النخلة بشيء، ويقولون: في السنة القادمة تخاف وتثمر! هذه حالات الله أعلم بشأنها. فعلى كل أرباب الخبرة كتبوا في النخيل والزراعة كتباً وأشياء عديدة، وأثبتوا النظريات التي قالوها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [2]

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [2] جعل الله الناس بعضهم لبعض سخرياً، ينتفع بعضهم من بعض، فشرع الله عز وجل المؤاجرة على الأعمال، وجعل لها شروطاً على اختلاف أنواعها، ومن أنواع الإجارة إجارة الأراضي، وقد جاء الإسلام فنهى عما فيها من الغرر الذي كان قائماً، وأجاز ما فيها من منفعة حفظاً لحقوق الطرفين، وصيانة للود بين المسلمين.

أحكام الإجارة

أحكام الإجارة [وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم. وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] .

تعريف الإجارة

تعريف الإجارة انتقل المؤلف رحمه الله من بحث المساقاة والمزارعة إلى المؤاجرة، وهو القسم الثاني من عنوان المصنف في هذا الباب، والمؤاجرة تأخذ حيزاً كبيراً في كتب الفقه والموسوعات. يعرفون الإجارة بأنها: بيع المنفعة، بخلاف البيع فهو: بيع العين، فأنت تشتري الدار وتصبح ملكاً لك، تبيعها أو تهبها أو تؤاجرها أو تغلقها أو تهدمها أو تبنيها أنت حر، أما في عقد استئجار عين الدار فأنت لا تملك العين ولكن المنفعة، وما هي المنفعة التي تأتي من الدار؟ المنفعة التي ترجى من الدار هو السكنى، ولذا يقولون: من استأجر عيناً لا يجوز له استعمالها في غير ما وضعت له وإلا كان متعدياً مفرطاً، فلو استأجر داراً للسكنى، ثم حوّلها مدرسة، فلصاحب الدار الحق في أن يلغي العقد؛ لأن مضرة المدرسة بالأطفال أكثر من مضرة الساكن رجل هو زوجته وولدان أو ثلاثة مضرتهم على البيت ليست كمائة طالب، هذا يكسر النوافذ أو يخرب أو يستهلك ماءً أو. إلخ، وهكذا. فإذا استأجرها للسكنى لا يحق له أن يستعملها مستودعات للتجارة؛ لأن المستودعات يضع فيها بضائع ومنها المطعومات، فتنشأ فيها الفئران وتتربع وتسمن وتحفر في الأرض وتخرب، أما إذا استأجرها لسكناه فله الحق في أن يؤاجرها لمثله في استيفاء مثل المنفعة التي استأجر عليها.

أدلة مشروعية الإجارة

أدلة مشروعية الإجارة الإجارة أمر ضروري يقتضيه الشرع والعقل: أما الشرع؛ فقد جاءت النصوص بذلك في قضية نبي الله موسى {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ، ثم قال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، والسنة ليس فيها إلا حجة واحدة {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، وقبل موسى وتم العقد فقال: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] ، وكذلك الظئر تستأجر لترضع الطفل، وأم موسى استرجعت ولدها وصارت ترضعه وتأخذ أجرتها، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم: (عملت في مكة على قراريط) ، وعمل لـ خديجة رضي الله تعالى عنها في مالها. إنسان عنده أرض واسعة ولا يستطيع أن يزرعها، ماذا يفعل؟ يؤاجرها. عنده مزرعة ولا يستطيع أن يقوم عليها؛ يساقي على شجرها، أو يؤاجرها كلها وثمرها بينه وبين المستأجر.

أقسام الأجير عند الفقهاء

أقسام الأجير عند الفقهاء قسم الفقهاء الأجير الذي يعمل للغير إلى قسمين: أجير عام لكل الناس، وأجير خاص لهذا الشخص فقط؛ فالأجير العام: هو الذي يعمل لك ولغيرك على عين العمل دون دخل للزمن فيه، مثل الخيّاط تستأجره على خياطة الثوب، والصائغ تستأجره على صياغة الحلي، والنجار تستأجره على عمل الأبواب أو الدواليب، ويعمل لغيرك بجانبك. والأجير الخاص: هو الذي تستأجره وتملك مدة الإجارة، استأجرته يوماً أو شهراً أو سنة على حسب الاتفاق، فمدته الزمانية ملك لك، إن نومته نام، وإن شغلته اشتغل، تستغل وقته في العقد الذي آجرته عليه. ثم يفصل الفقهاء أحكام كل نوع من الأجراء، فالأجير العام ضامن، وأول من ضَمَّن الأجراء هو علي رضي الله تعالى عنه، فإذا أعطيته قماشاً ليخيط لك ثياباً فالأصل أن القماش عنده أمانة؛ لأنه أجير يعمل فيه لحسابك، فإن تلف هذا القماش أو ضاع أو انحرق، أو. إلخ، فعلى حساب من؟! وكانت تضيع السلع على الناس، فـ علي ضمَّنهم ليحافظوا على سلع الناس، ويؤدون الحقوق كما استلموها. والأجير الخاص ليس بضامن لشيء إلا إذا تعدى؛ لأنه يعمل وأجرتك عليه لجهده اليومي -زمنه- فإن تعدى أو فرط فهو ضامن بتعديه أو تفريطه، لكن إذا تلف على يده شيء بدون قصد فلا ضمان عليه. مثلاً: وضع الشاي في الكأس وهو حار فانكسر الكأس، هو لا يعلم بأن الحرارة تسبب التمدد، والتمدد الداخلي يسبق التمدد الخارجي، فلا يتجاوبان معاً، فتمدد الداخل يكسر الخارج، وهذه نظرية في الزجاج: إذا كان الزجاج سميكاً -اثنين أو ثلاثة مليمترات- وكان بارداً، وصببت الحار فيه، فإن الحار يسبب تمدداً في الزجاج، فالقسم الداخلي يتمدد بسرعة، لكن الحرارة لم تنفذ إلى القسم الخارجي، فهو بطيء التمدد، ومن هنا يكسر من الداخل ليتيح فرصة التمدد، ومن هنا نجد أن ثلاجة الشاي إذا صببت فيها الحار قل أن تنكسر، لماذا؟ لأن التمدد الذي يحدث في الداخل حالاً يحدث في الخارج؛ لرقة سمك الزجاجة، فهي رقيقة كالورقة، فإذا بدأ التمدد في الداخل تجاوب معه الخارج، فليس هناك مضايقة وليس هناك انكسار. المهم عندنا: أن الأجير الخاص إذا لم يتعمد إتلاف الشيء فلا ضمان عليه، وهنا وردت في إيجار الأرض فقط، ولكن سيأتي بعد ذلك ما يوحي بعموم الأجير: (ثلاثة أنا خصمهم ... ) .

شرط الأجير والعين المؤجرة

شرط الأجير والعين المؤجرة في رأيي أن كل نساء كان في هذا الحديث، وكل اختلاف كان في هذا الباب قد انقضى أثره، وذهب تأثيره، وانعقد الإجماع على ما عليه الناس اليوم في الإجارة في الجملة، والمنع إنما يأتي لما فيه غرر على الأجير أو المستأجر، وما سلم من الغرر في عقد الإجارة فهو ماضٍ، وسيأتي التنبيه على من الذي يصح له أن يؤاجر نفسه، وفي أي شيء يكون عقد الإجارة. ويشترطون في الأجير: أن يكون عاقلاً بالغاً، يملك أمر نفسه، بخلاف العبد المملوك لسيده والصبي، فالعبد لا يملك أن يؤاجر نفسه إلا بإذن السيد، والصغير ليس كامل الأهلية على أن يؤاجر نفسه. ويشترطون لصحة العين المؤجرة: أن لا تكون المنفعة محرمة، فإذا كانت المنفعة المستوفاة محرمة لا يصح هذا العقد، كمن أجر داره لتكون محلاً لشرب الخمر، أو محلاً لممنوع أو محرم شرعاً، فلا يجوز ذلك، أو تستأجره على أن يعصر الخمر، هذا العمل محرم، ولا يجوز له أن يعمله، ولو كان يعمله في بيته هو؛ لأن أصل العمل محرم، فكيف يباح له أن يستأجر من يعمله؟!

أحكام إجارة الأراضي

أحكام إجارة الأراضي وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به] . ورافع بن خديج فيما يخبر عن نفسه: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً -أو زرعاً أو نخلاً- فكانت لهم الأراضي الواسعة والبساتين المتعددة، وكانوا يؤاجرون ويستأجرون، فهو أدرى من غيره بهذه الأحكام؛ لأنه يخالط ويباشر ويعامل في ما يتعلق بالموضوع وهو الإجارة؛ ولهذا وجه السؤال إليه، وما وجه لـ أبي هريرة؛ لأن أبا هريرة ما كان عنده من الأراضي والنخيل في بادئ الأمر ما يجعله يكون لصيقاً بأحكامها، بخلاف ما كان فيما بعد من إمارته على البحرين، وكان له بستان مكانه الآن على طريق الهجرة ما بين قباء ومسجد أبيار علي من جهة الجبل.

شرط تعيين الأجرة والمنفعة المطلوبة

شرط تعيين الأجرة والمنفعة المطلوبة قال: سألت رافع عن إجارة الأرض بالذهب والفضة -يعني: بالنقد-. قال: لا بأس. وهنا يتحقق الشرط عند الفقهاء، وهو شرط لصحة عقد الإجارة، وهو معرفة المنفعة المطلوبة، وقيمة الأجرة المطلوبة في هذه المنفعة فتكون الأجرة معروفة محددة بدينار أو بعشرة دراهم، أو بعشرين درهماً؛ فإذا كانت الأجرة معلومة والمنفعة المطلوب استيفاؤها معلومة، فلا بأس بذلك. وهنا أيضاً يقال لمن منعوا المساقاة: الذي يدفع الذهب والفضة في أرض بيضاء، هل يعلم كم سيحصل له من زراعة الأرض؟ لا يعلم، فكيف صححتم عقد الإجارة والمستأجر يدفع المال ولا يعلم ماذا سيحصل عليه؟ كما أن المساقاة عقد غرس قائم، وبحكم العادة ومرور السنين نجد النخل كل سنة ينمو. إذاً: عقد المساقاة أضمن من عقد الإجارة؛ لأن المساقاة في أقل الأحوال الأصول موجودة، والثمار فرع عنها، بخلاف الأرض فهي أرض بيضاء؛ ستحرث ويوضع فيها الحب ويدفن ويسقى الماء ثم على بركة الله، فصاحب النخل أضمن لأجرته من صاحب الأرض البيضاء. فأجاز رافع إجارة الأرض بالذهب والفضة، يعني النقد. فلو جاء بسبيكة ذهب أو فضة لا ندري كم وزنها، ولا قيمتها لم يصح العقد؛ لأنه ربما يطرأ على العقد ما يوجب فسخه، وتصبح الأرض غير مستحقة أو يمنع منها، فيأتي المؤجر ويمنع المستأجر من العمل ويفسخ العقد، مع أن الإجارة عقد لازم، فماذا يكون الحل، نرجع للسبيكة فلا ندري كم وزنها، إذاً لابد من معرفة أجرة الأرض. ومثله لو قال: استأجرها بحفنة من الدراهم، أو بكيس من الدنانير، وهو لا يعلم كم فيه، لم تصح الإجارة.

النهي عن الإجارة على شيء من الزرع في أماكن معينة

النهي عن الإجارة على شيء من الزرع في أماكن معينة [سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع] . رافع يقول: لا بأس بالذهب والفضة؛ لأنه شيء معلوم، وكلا الطرفين يمكنه أن يرجع إليه، وإنما كانت الإجارة أو المؤاجرة المنهي عنها على عهد رسول الله على ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وهي الحياض وما يليها من الزرع الذي يكون على طرف الحوض بجوار الحد الترابي، هذا متوافرة فيه كمية الغذاء والسماد للنبات، فإذا وجد كفايته من الماء يكون الزرع في تلك الجوانب والأطراف أقوى وأكثر ثمرة مما هو في داخل الأحواض؛ لأن الذي في داخل الأحواض يتزاحم بعضه مع بعض، والذي على أطراف الجداول يمر عليه الماء مدة أطول مما هو في آخر الحوض، وأقبال الجداول أيضاً ما كان مما يلي الربيع -على ما سيأتي- يأخذ من الماء أكثر مما هو في آخر الحوض. فكانوا يكرون الأرض على شيء من الزرع في أماكن معينة، وبقية الأحواض تكون للعامل، المستأجر يأخذ الأرض وأجرتها، ما سيحصله من داخل الحوض أو مما سيحدده له المؤجر، فإذا كان الأمر كذلك يقول رافع: ربما صح هذا وهلك ذاك، وربما هلك هذا وصح ذاك، فبعض النباتات لا تحتاج إلى كثرة في الماء، وكثرة الماء قد تفسدها، ويكون داخل الحوض أحسن من خارجه أو طرفه، المهم قد يصيب الزرع بعض الآفات. فعقد الإجارة من أوسع أبواب الفقه، من حيث كيفية المؤاجرة، والعاقدان: المؤجر والمستأجر، والعين المعقود عليها، والإجارة في الفقه: عقد على منفعة العين، أو يقولون: بيع المنفعة أو منفعة الرقبة، فبيع المنفعة لا يتناول الأصل أو العين، وتقدم بيان ذلك: بأن يوجد من يشتري الدار، وآخر يستأجرها، فالذي اشتراها اشترى عينها: بناءها وأرضها وتخومها وهواءها، يتصرف فيها تصرف الملاك، والذي استأجر المنفعة ليس له في عين البناء ولا لبنة، وليس له في العين المؤجرة شيء قط، إنما يستوفي منفعته في الغرض الذي استأجر من أجله. استأجر سيارة للحمل والنقل، وبحسب أيضاً موضوعيتها، هناك سيارة لحمل الثقيل، وسيارة لحمل الآدمي؛ فكل يستعمل أو يستوفى في منفعته التي جعل لها.

مشروعية مؤاجرة الإنسان نفسه

مشروعية مؤاجرة الإنسان نفسه عارض بعض الناس في جواز إيجار الإنسان نفسه، مع أن الكتاب والسنة جاءت بتقرير جواز تأجير الإنسان نفسه، كما جاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع والد زوجته: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى؛ آجر نفسه على عفة فرجه وإطعام فمه) ، فهذه إجارة ثابتة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها على قراريط لأهل مكة -أو: قراريط بمكة-) . والناس يختلفون في كلمة (قراريط) وهي جمع قيراط، والعرف السائد في مجتمعات الناس: أن القيراط جزء من مجموع، وبعضهم يجعل هذا المجموع هو الأربعة والعشرين؛ لأنه العدد الذي يمكن أن يؤخذ منه جميع الأسهم في الفرائض الواردة في كتاب الله: ثمن وسدس وثلث ونصف وثلثين، كل هذه الكسور الاعتيادية يمكن إخراجها من الأربعة والعشرين بدون كسر، فاتفقوا على هذا حتى في الذهب وما يخلط معه من المعادن الأخرى، وهو -كما يقولون- الشبه، وهو نوع من الصِفر يشبه الذهب، يقول: هذا عيار أربعة وعشرين، عيار واحد وعشرين، فإذا كان عيار أربعة وعشرين يكون ذهباً خالصاً ليس فيه خلط، وذهب أربعة وعشرين لا يصلح للصياغة؛ لأن الذهب في أصله لين، ولابد أن يضاف إليه معدن آخر يعطيه نوع صلابة؛ ولهذا لصياغته يضاف إليه قيراطان من النحاس الصلب، فتجد من يقول: عيار واحد وعشرين، يعني: الذهب الخالص في هذا الجرم من الحلي واحد وعشرين قيراط، وباقي الأربعة والعشرين -ثلاثة قراريط- من النحاس، أو عيار اثنين وعشرين، وهي أعلى نسبة في الصياغة. فهنا بعض العلماء يقول: معنى (على قراريط) يعني: على نسبة معينة من الدنانير أو الدراهم. والبعض يقول: لا هذا ولا ذاك، القراريط اسم مكان في مكة. ويجاب عن هذا بأن أهل مكة لا يعرفون بقعة فيها تسمى (قراريط) ، وقائل هذا يقول: إن العرب لم تكن تعرف النسبة بالقيراط. وأعتقد أن هذا القول فيه نظر. فقد جاء الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه قال: من يعمل لي من أول النهار إلى الظهر وله قيراط. فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من الظهر إلى العصر وله قيراط. فعملت النصارى، ثم قال لهذه الأمة: تعملون من بعد العصر إلى غروب الشمس ولكم قيراطان. فغضبت اليهود والنصارى، قالوا: كيف يكون عملنا أكثر وأجرنا أقل؟! قال: وهل أنقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا. قال: هذا فضلي أوتيه من أشاء) ، ولهذا قال العلماء: إن كل ما يحصل عليه العبد من الأجر على عمل الطاعات هو فضل من الله ليس بكسبه بذاته. وهذه حقيقة تحتاج إلى رجوع إلى الوراء والتأمل فيها قليلاً، أنت صمت. بم صمت وذاك مريض لا قدرة له على الصيام؟ وأنت صليت. بم صليت وغيرك منصرف عن الصلاة أو كسلان عنها؟ أنت حججت. بم حججت وغيرك يملك الملايين ولم يحج؟ إذاً: صومك بطاقة الصحة فضل من الله، والله الذي أعطاك الطاقة في بدنك لكي تستطيع أن تصوم، والله الذي منحك الهدى والتوفيق لتؤدي الصلاة والقدرة عليها، والله الذي جعل لك استطاعة على الحج بالمال والبدن. فقوله هنا: (من يعمل لي) يبوب عليه البخاري رحمه الله: باب الأجرة على نصف النهار، رداً على من يقول: لا تصح إجارة الإنسان إلا يوماً كاملاً، ولكن هذا ليس بلازم، فقد تستأجر الإنسان الساعة والساعتين، ويوجد في بعض نظم العمل الأجر بالساعة، وكما يقولون في الأعمال العادية (OVER TIME) يعني: ساعات زيادة على العمل الرسمي، ويحاسب عليها. وجاء أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن شيعها حتى تدفن فله قيراطان، ومن اقتنى كلباً غير كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط) . إذاً: القيراط معروف كجزء من الأجر متداول عند الناس، والرسول يخاطب الناس بما يعلمون، إذاً: (على قراريط) جمع قيراط، وهو الجزء من عدد معين، وتختلف البلدان في هذا العدد من حيث هو، وعند المسلمين والعرب في حساب الفرائض هو أربعة وعشرون. وكما قالت ابنة شعيب: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، إذاً: الأجرة قديمة، وهذا نبي من أنبياء الله يؤاجر نفسه. وعلي رضي الله تعالى عنه لما جاء المدينة مر على تراب ومعه تبن مخلوط، ثم مر عليهم في الغد فإذا هو على ما هو عليه، ومر عليه في الغد فإذا هو على ما هو عليه، فسأل: لمن هذا التراب المخلوط بالتبن؟ قالوا: لفلانة، لم تجد من يمتحُ لها الماء لتعجنه، فقال لها: أنا أمتح لك، كم تعطيني؟ قالت: على الدلو تمرة. فمتح لها ستة دلاء وأخذ ست تمرات. إذاً: المؤاجرة على الأطيان والمساكن والحيوانات والآدمي جائزة.

حكم استئجار غير المسلم

حكم استئجار غير المسلم هنا مسألة يعقد لها البخاري باباً: استئجار المسلم لغير المسلم. فهل يجوز للمسلم أن يستأجر مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً؟ يذكر ابن حجر أن هناك من يمنع من هذا كلية، ولا يجوز التعامل معهم، ويذكر للجمهور القول بالجواز، ويذكر عن مالك الجواز عند الحاجة، وما هي الحاجة؟ إذا لم يجد عنه بديلاً مسلماً في عمل من الأعمال -كما يقولون- الفنية، أو التخصصات النادرة فلا مانع، وساق قصة ابن أريقط الذي استأجره أبو بكر رضي الله تعالى عنه للدلالة على طريق الهجرة، قال: استأجراه -الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - وكان رجلاً خريتاً من بني دؤل مشركاً على دين قومه، وهنا شرف الكلمة، وأمانة الأجير: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، فهذا مشرك على دين قومه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينتقل خفية من قومه، ومع ذلك يأتمنه؛ لما عرف عنه من الأمانة، فأعطاه أبو بكر راحلتين، وواعداه الغار بعد ثلاثة أيام، فجاء على الموعد، فدلهم على الطريق، ويختلف الناس بعد ذلك: هل أسلم أو لم يسلم؟ وابن حجر يرجح أنه أسلم بعد هذا. يهمنا أنه عند العقد كان مشركاً، ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في تفسير قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، يقول: التدبر في آيات كتاب الله والعمل بها تقتضينا أن نأخذ بالصناعات وبالفنون وبالعلوم ولو من غير المسلمين ما دام في ذلك خدمة لديننا، ولا تتعارض مع الدين في شيء، وذكر الطبيب غير المسلم، والفنيين أو أرباب الصناعات أو غير ذلك مما المسلمون بحاجة إليهم. إذاً: الاستئجار يكون للعين من الجمادات: الدور والبساتين، وللحيوانات وما استحدث الآن من السيارات والطيارات، والآن يوجد تاكسي طائرة في أوروبا لأصاحب الأعمال يستأجرونها للتنقل عليها، البواخر. إلى غير ذلك من وسائل النقل الحديثة، وكذلك إجارة الإنسان. والبحث عندنا الآن فيما كانت الإجارة عليه، وهو: الأراضي. والمدينة كانت زراعية، وكانت الإجارة فيها إما مساقاة أو مزارعة أو استئجار البستان بكامله، وكذلك الأرض البيضاء يستأجرها الإنسان ليزرعها، كيف كنتم تصنعون في مزارعكم يا رافع؟ قال: إما استئجارها بقدر معلوم من ذهب وفضة فلا بأس: هذه قطعة أرض مائة في مائة متر، خمسين في خمسين، ألف في ألف، أستأجرها منك بدينار، أو بعشرة، أو بمائة، لا بأس في ذلك، وهو الذي يعنيه الفقهاء بقولهم: لابد من تعيين الأجرة لئلا يكون هناك نزاع فيما لو حصل فسخ للعقد، أو حصل ما يوقف الاستفادة من الأرض، فيكون المستأجر له حق الرجوع على المؤجر بحصته من الأجرة التي دفعها. قال: أما بشيء معلوم ذهب وفضة فلا بأس. إذاً: هذه قاعدة عامة عند جميع المسلمين، تستأجر بيتاً، بستاناً، أرضاً بيضاء، آلة نقل أياً كانت بنقد معين فلا بأس.

إسناد الصحابة الحكم للعهد النبوي

إسناد الصحابة الحكم للعهد النبوي يقول رافع: (أما بالذهب والفضة فلا بأس، وإنما -أداة للحصر- كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكلمة (على عهد رسول الله) ، كأنه يسند ذلك إلى رسول الله، وهل رسول الله حضر العقود، والمزارع؟ لا، إنما رافع يذكر الصورة الواقعة، ولماذا قال: (على عهد رسول الله) ؟ لأن هناك قاعدة: ما كان الله سبحانه وتعالى ليقر الناس على خطأ ورسول الله موجود، فكونه على عهد رسول الله يعني: أقره رسول الله، أو أقره الله في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مسنداً إلى رسول الله، فإسنادهم الفعل لعهد رسول الله إشعار بأن الرسول وافق عليه، وقد تكون هناك أيضاً أشياء هو لم يطلع عليها لكن تسند إليه؛ لأنه لو كان منكراً لنُبه عليه، كما جاء في موضوع من خواص البيوت، وأعمق ما يكون اختفاءً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) والعزل شيء بين الرجل وامرأته، يعزل عنها الماء حتى لا تحمل منه، فعملية العزل هذه من يحضرها؟ حتى الرجل لا يرى هذا بعينه، وإنما هي عملية تلقائية بين الرجل والمرأة، قال: (والقرآن ينزل، فلو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) ، فعدم نهي القرآن لهم عن العزل اعتبروه تقريراً لهذا الفعل. ويأتي بعض العلماء يناقش: وهل علم رسول الله أو لم يعلم؟ ليس بلازم أن يعلم مباشرة، المهم كونهم أقروا على ذلك والقرآن ينزل، وما قال: يا محمد! نبهم ألا يفعلوا ذلك. فاستدلوا على هذا العمل في هذا الوقت على جواز العزل، وأغفلوا النصوص الأخرى؛ لأنه لما أخبر بأنهم يعزلون وكان هذا في بعض الغزوات، وذلك لما طالت عليهم العزوبة، فقالوا: نطأ السبايا ونعزل، قال: (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، وهذا نهي عن العزل، فقوله: (نعزل والقرآن ينزل) إنما هو بالمضمون والمفهوم وباللازم، ولكن هنا بصحيح العبارة (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، إذاً: أي الأمرين يقدم؟ احتمال أنه يعلم ولم ينههم عن ذلك، أو كون القرآن ينزل ولم يأتِ نهي، أم التصريح منه صلى الله عليه وسلم مشافهة: (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، والموءودة الصغرى لا يقرون عليها؟ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] سواء كبرى كانت أو صغرى.

منع الشرع من المؤاجرة على جزء معين من الأرض

منع الشرع من المؤاجرة على جزء معين من الأرض ذكر رافع صور الإجارة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الصور العقل يأباها؛ لأنها غير عادلة وفيها غرر: كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول) . يعني: يؤاجرون ويجعلون أجرة الأرض التي تزرع ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وما معنى هذا؟ قالوا: إذا طاب الزرع جاء المستأجر وحصد ما نبت على الماذيانات وأقبال الجداول وجمعه وقدمه لصاحب الأرض أجرة على أرضه، ويبقى للمستأجر عموم ما داخل الحوض. إذاً الزراعة انقسمت إلى قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم للمستأجر. وهل القسمان متساويان في النبات؟ وهل هما متساويان في الإنتاج والثمرة؟ لا، فيصح هذا ويهلك ذاك يصح ما على الماذيانات وأقبال الجداول، ويهلك ما بداخل الحوض، لأنه يأته ماء كافٍ، وقد يكون العكس: يصح ما بداخل الحوض، ويهلك ما على الماذيانات وأقبال الجداول لكثرة الماء، فالزرع في بعض الأحيان لا يقبل كثرة الماء، ويحتاج إلى ماء بمقدار، وأنواع الزراعات كالذرة والشام مثلاً إذا زرع بعلياً وطلع لابد أن يشرب على عدد إحدى وعشرين يوماً، أما إذا شرب على تسعة عشر أو على اثنين وعشرين ما أفاد، بل لابد أن يشرب على إحدى وعشرين يوماً من يوم أن زرعته ودفنته في التراب، ثم بعد ذلك على عدد معين يسمونها السقية الثانية؟ إذاً: قد يصح هذا ويهلك ذاك، ويهلك هذا ويصح ذاك؛ فحينئذ حينما يقع الهلاك على الماذيانات ورءوس الجداول ماذا استفاد صاحب الأرض، تكون المصلحة كلها للمستأجر، وإذا صح ما على الماذيانات وأقبال الجداول وهلك ما في داخل الأحواض فأين أجر الأجير المسكين؟ لا شيء. لكن حينما نقول: تزرع الأرض على جزء مما يخرج منها: ماذياناتها مع جداولها مع حياضها، حصدنا الجميع دون استثناء وصفيناه، وكان العقد على ربع الثمرة أو ثمن أو ثلث أو نصف الثمرة، إن صح شيء صح للجميع، وإن هلك شيء هلك على حساب الجميع، وهكذا لا يكون في ذلك غرر ولا غبن. [ (ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه) ] . ولهذا زجر عن هذا النوع من الإجارة، فزجر عن إجارة الأرض على جزء معين محدد مما ينبت في أجزاء من الأرض، لا على نسبة مشاعة في جميع الزرع، فلما فيه من الغرر نهى عنه.

فائدة رواية الحديث كاملا

فائدة رواية الحديث كاملاً في بعض الروايات: (أن رافعاً أتى أهل قباء وقال: يا أهل قباء! لقد جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر كانت لكم فيه مصلحة، ولكن طاعة رسول الله أولى، نهى عن المزارعة) ، وذكر هذا الأمر. وجاء عن زيد بن ثابت قال: (رحم الله رافعاً، والله إني لأعلم بالحديث منه، إنما جاء رجلان يختصمان في أرض استأجرها أحدهما من الآخر-وذكر الصورة، فقال: أو تفعلون ذلك! فنهى عن الإجارة حينئذ) . وهنا يقول الصنعاني: رافع اقتصر هنا على جزء من الحديث فأخل بالمقصود، لأنه قال: نهى. فهل نهى ابتداءً أو نهى لسبب المنازعة والخصومة؟ نهى لسبب النزاع والخصومة في تلك الصورة التي لم يكن لهم إجارة إلا هي، وهنا التنبيه على أن طالب العلم لا يأخذ جزءاً من الحديث ويترك الباقي، قد يكون في هذا الجزء ارتباط وثيق قوي بأوله، وقد يكون أول الحديث علة لآخره، أو تمهيداً له، أو سبباً فيه، فلابد من جمع أطراف الحديث كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بالحديث حتى يجمع أطرافه) . ومن هنا كان التأليف في باب (أطراف الحديث) ، والبخاري رحمه الله قد يقطع الحديث في مواطن متعددة، ولكن يأتي بالجملة من الحديث على قدر معنى الباب، وقد يعيد الحديث بعينه ولفظه مراراً لعدة معانٍ فيه، وفي كل مرة يورد الحديث لجزء منه، كما في حديث: (من عمل لي إلى الظهر) ، قال: باب من استأجر إلى نصف النهار. وساق الحديث، ثم عقب عليه: باب من عمل إلى العصر. وساق عين الحديث الأول؛ لأن الحديث يشتمل عليهما. يهمنا في هذا: أن طالب العلم عندما يحدث بجزء من حديث يتعين عليه أن يقف على تمام الحديث؛ ليربط آخره بأوله.

معنى قوله: (فأما شيء معلوم.

معنى قوله: (فأما شيء معلوم ... ) [فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به] . فنهى عن ذلك لأن هذا يفسد وهذا يصح، فهو غرر. (أما شيء معلوم) ، وكلمة: (شيء) كما يقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات، لا يخرج منها شيء، حتى رب العزة، كما قال الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فكلمة (شيء) أعم العمومات في اللغة. (أما شيء معلوم) دينار ذهب درهم فضة فلوس نحاس طعام لباس. أي شيء من هذا كله داخل في: (شيء معلوم) ، فعندما يأتي إنسان ويقول: استأجرت منك الدار عشر سنوات بنخلي. هذا شيء، فهو يملكه النخيل على أن يستأجر منه الدار عشر سنوات، أو استأجرت منك الدار ببعير، بسيارة نوع كذا، تعال انظر واكشف عليها، بشاة. إذاً: أقبال الجداول والماذيانات شيء ولكنه ليس معلوماً، وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن الإجارة بالشيء غير المعلوم، أما شيء معلوم بعينه ومقداره صاع من تمر أو بر، إلا عند مالك: فإذا كانت العين تستأجر لنوع من الطعام، فلا يجوز -عنده- أن تكون الأجرة من عين هذا الطعام. استأجرها ليزرعها ذرة، لا يصح -عند مالك - أن تكون الأجرة ذرة؛ لأن المستأجر يكون قد اشترى ثمرة الزرع الذرة بقدر الأجر الذرة الذي دفعه، فيكون ذرة بذرة مع النسيئة والتفاضل، أما إذا كان سيزرعها قمحاً، والأجرة ذرة أو أرزاً فلا مانع. إذاً: كلمة (شيء) من العمومات، فإذا وقعت الإجارة وليست خاصة هنا بالأرض الزراعية فقط، بل كل عين مؤجرة إذا كانت الأجرة شيئاً معلوماً معيناً فلا بأس، ولا يجوز أن يأتي ويقول: آجرني بعيرك غداً. ويسكت عن الأجرة، بل لابد أن يعين. وكذلك يزيد الفقهاء نوع العمل، وبعضهم يقول: تعيين العمل ليس بلازم والعرف يحدد، فشعيب لما قال لموسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، قال: موافق. هل عين له عين العمل الذي سيعمله؟ المدة عرفناها: ثمان أو عشر، لكن ما نوع العمل؟ سيبني، سيحرث، سيرعى الغنم، سيتجر، ماذا يفعل؟ لم يبين له؛ لكن عرف من الحال أنه لرعي الغنم، ويقوم بمهام شعيب التي كانت تقوم بها بناته، فيكفيه المئونة في ما كانت تعمله بنات شعيب، وبنات شعيب ماذا كن يعملن؟ كن يرعين الغنم: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] ، فيأتي موسى يحل محلهما في رعي الغنم. وقدمنا بأن الأجير على قسمين: أجير خاص لك زمنه، تشغله كيفما شئت في ما يستطيعه ويعرفه، مرة جعلته يستقبل الطلبات من السوق، ينظف البيت، يساعد البنائين في البنيان. ما يستطيع فعله فلك فعله ولك الزمن، بخلاف الأجير العام، الآن يتعاقدون مع الشغالات في البيوت هل يكتبون لها ماذا تعمل؟ تنظيفات أو مطبخ أو كذا؟ أبداً، عمل البيت معروف بالجملة عرفاً، لكنهم لا يكلفوها بأن تخيط؛ لأن الخياطة عمل مستقل، ولا أن تصير ممرضة، فالتمريض عمل مستقل. إذاً: هناك من يقول: تعين للعامل الذي استأجرته نوع العمل، كما تحدد له نوع الأجرة. وبعضهم يقول: تحديد العمل ليس بلازم، إنما يحدده العرف. [وفيه بيان لما أجمل في. ] . يقول المؤلف تعقيباً على الحديث: وفيه بيان لما أجمل من إطلاق النهي عن كراء الأرض؛ لأن الأحاديث جاءت مطلقة تنهى عن كراء الأرض، وجاء هذا الحديث، وهل نهى مطلقاً أو عن صورة معينة؟ عن صورة معينة، وأباحها في صورة معينة، إذاً: الأحاديث الواردة المطلقة في النهي عن كراء الأراضي يخصصها هذا الحديث، ويبين بأن عموم النهي ينصب على عقد الإجارة الذي فيه غرر وجهالة، أما عقد الإجارة على شيء معلوم مضمون فلا بأس، فقد بين هذا الحديث ما أجمل في الأحاديث التي جاءت بالنهي.

صورة المزارعة التي نهى عنها الشارع

صورة المزارعة التي نهى عنها الشارع [وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة) ، رواه مسلم أيضاً] . هذا تأييد لما تقدم من أن إجارة الأرض -على الشرط المتقدم- بشيء معلوم مضمون لا بأس به. أما قوله: (نهى عن المزارعة) ، فهذا مما تقدم الكلام عليه، وحمل هذا على أنهم كانوا في أول الأمر يزارعون ما لا يستطيعون القيام بزرعه، فيقولون؛ جمعاً بين المزارعة في خيبر والمساقاة: كان المراد بذاك النهي الإرفاق: (من كانت عنده أرض فليَزرعها أو يُزرعها غيره) ، لديك أرض زائدة عنك، وعاجز عن زراعتها، أعطها لغيرك يزرعها، وكان ذلك في بادئ الأمر عند مجيء المهاجرين إلى المدينة، فكان فيه حث على مشاركة المهاجرين لمن عنده أرض عاجز عن زراعتها يقول له: أعطها له يزرعها، من باب المواساة، ثم بعد ذلك لما وسع الله على المسلمين أصبحت المزارعة والمؤاجرة والمساقاة سواء.

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [3]

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [3] ما زال هذا الشرع تبدو جوانب كماله وصلاحيته في كل زمان ومكان، ومن تلك الجوانب ما جاء في الحجامة، فهي وإن كانت مسألة طبية محضة إلا أن لها فوائد أقرها الطب الحديث، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم الحجام وأعطاه أجرته وزيادة، فهو وإن كان حجاماً إلا أن حقه يجب أن يؤدى إليه كاملاً غير منقوص، فقد حذر الشرع من مغبة أكل حقوق الأجراء، حيث جعلهم المولى جل وعلا خصوماً له يوم القيامة، وجعلهم هم ومن أعطى بالله ثم غدر، ومن باع حراً وأكل ثمنه في مرتبة واحدة؛ لاستوائهم في جرم الاعتداء على حقوق الآخرين.

أحكام الحجامة

أحكام الحجامة [وعن ابن عباس قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الذي حجمه أجره، ولو كان حراماً لم يعطه) ، رواه البخاري. وعن رافع بن خديج رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) ، رواه مسلم] .

مشروعية الحجامة وخبث كسبها

مشروعية الحجامة وخبث كسبها يلاحظ في هذا الترتيب بين الحديث الأول: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره) إلى هنا الكلام سليم جداً، أما التعقيب عليه: (فلو كان شيئاً حراماً لم يعطه) ما الذي أتى بشبهة الحرام هنا؟ قوله: (كسب الحجام خبيث) أيهما كان أولى بالتقديم: (كسب الحجام خبيث) ثم يأتي ويرد عليه (بأن الرسول احتجم وأعطى الحجام أجرة، ولو كان حراماً لم يعطه) ؟ الأولى: (كسب الحجام ... ) ؛ لأنه يعطي الحكم على كسبه بأنه خبيث، ثم يرد هذا الفهم عندنا بأن الخبث ليس معناه الحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولكن المؤلف غاير في الإيراد.

سبب كون كسب الحجام خبيثا

سبب كون كسب الحجام خبيثاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) ، وهل خبث المال يدل على حرمته، أو يدل على استقذاره؟ ليس حراماً لأن المنافقين كانوا يتصدقون، وكانوا يتيممون الخبيث من أموالهم ينفقونه، فما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المال الخبيث الذي يعطى لأهل الصفة حراماً، بل كان حلالاً يأكلونه، لكن عاب على المنافقين أن أحدهم يتيمم النوع الخبيث من التمر ويأتي به ويعلقه لأهل الصفة، بينما كان كرام الناس والمؤمن بالأجر وبالعوض عند الله يأتي بأحسن أنواع التمور أو الرطب أو غير ذلك ينفقه عليهم، والمنافقون يعتبرون هذه غرامة، فلا يأتي بالجيد. إذاً: معنى قوله: (كسب الحجام خبيث) أي: غير مستطاب، يقول العلماء: لا ينبغي لحر كريم أن يعمل بهذه المهنة، وبعضهم قال: خبثه بسبب ما يتعاطى من الدم، والدم نجس، حيث كان الحجام يعمل بالقرن، فحين ينخلع القرن بطابق منه، يخرمه ويجعله على محل التشريط ويشفط بفمه ليبتز الدم، فلربما زاد في الشفط فغلبه الدم ووصل إلى حلقه دون قصد، فمن هنا كان الخبث، فلما كان الأمر كذلك، وجاء حجام وسأل، قال: (ماذا أفعل فيما أعطى؟ قال: أطعمه الدواب أو أطعمه العبيد) ، فهنا قالوا: سيطعم الدواب حراماً، أو يطعم العبيد الحرام، وهو مكلف بأن يطعمهم من الحلال! إذاً: كسب الحجام خبيث لما فيه من دناءة بالنسبة لبعض الناس. ثم يأتي الحديث الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم. وهذا أولاً يثبت مشروعية الحجامة، ثم أعطى الحجام أجره، بل هناك زيادة في حديث بني بياضة: (أنه استوصاهم به خيراً، ثم أرسل إليهم أن زوجوه) ، فقد أكرم الحجام بأجره وبالوصاية به، فليس هناك أي إهانة له أو ابتذال.

الحجامة من الناحية الطبية

الحجامة من الناحية الطبية هنا بحث العلماء من جانب الطب في الحجامة، وجميع العلماء في السابق كان الطب النبوي معلوماً عندهم، وأعرف شيخاً جاء من باكستان لتدريس صحيح البخاري، وكان يحفظه عن ظهر قلب، وسأله البعض عن حديث في البخاري، قال: بهذا اللفظ الذي تذكره لا أعرفه، ولكنه فيه بلفظ كذا، فصحح له اللفظ، وكان طبيباً، وكان له مطب عربي في باكستان، فكان العلماء سابقاً أطباء، والحجامة من الطب النبوي، وكانت معروفة عند العرب، لكن يذكر ابن القيم رحمه الله في مبحث الحجامة ما ينبغي لكل إنسان أن يقرأه قبل أن يقدم عليها. أولاً: هناك سن قبله لا تجوز الحجامة، وهو عين الموجود في الطب الحديث اليوم، بنك الدم لا يأخذ من شخص دون السابعة عشر من عمره، ولا يأخذ أيضاً من شخص جاوز الستين من عمره، وما بين هذين يمكن أن يأخذ بنك الدم دماً يحتفظ به عنده. ويشترط في من يؤخذ منه أن يكون ما بين المرة والمرة فترة لا تقل عن ستة أشهر. ويذكر ابن القيم تنظيماً آخر في موضوع الحجامة: فهو يمنعها في يوم من الأسبوع لعله يوم الأربعاء أو غيره، ويحث عليها في الصيف؛ لحديث: (لا يتبوغ بكم الدم) ، والحجامة هي الفصد، وتعني أخذ الدم من الجلد بعد تشريطه تشريطاً خفيفاً جداً، ثم يؤتى بآلة ماصة، أو عن طريق تفريغ الهواء أو الشفط، فيبتز الدم من الجلد، أو بالفصد من العرق مباشرة كما يعمل في أخذ الدم من صحيح إلى مريض، عندما توضع الإبرة في العرق، والدم يخرج سائلاً متدفقاً إلى الوعاء، فهذا فصد: أخذ الدم من العرق مباشرة، والحجامة: أخذ الدم من الجلد بطريق الشفط أو بتفريغ الهواء وغيره. وهناك -كما يقال- الكاسات الجافة التي توضع لأخذ الرطوبة، كطريقة الحجامة سواء، ولكن ليس هناك تشريط، ولا خروج دم ولكن امتصاص الرطوبة من وراء الجلد من الجسم، وهذا يستعمل في علاج الرطوبة كالروماتيزم ونحوها. وهنا احتجم صلى الله عليه وسلم، وذكر: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة) ، أي: أن الحجامة أهم ما تكون في الأدوية، وبحثها طبياً على حدة، والذي يهمنا هنا: أن ما قيل عن أجره: خبيث قد دفعه له، ولن يدفع صلى الله عليه وسلم شيئاً خبيثاً لإنسان. وبعضهم يقول: خبث أجر الحجام لأنه مؤاجرة على عمل مجهول، فلا يدري كم سيأخذ من الدم، ولا كم سيستغرق من الزمن، ولا ندري ولا ندري. إلى غير ذلك. وعندهم: كل داء في البدن له موضع معين للحجامة، فقد يحجم عن الضرس في القفا، وعن الصداع في الجانب، وعن كذا في الظهر، وكل هذه أمور طبية تكلم عنها ابن القيم رحمه الله باستفاضة. إذاً: الأعمال التي قد يتمنع عنها بعض الناس أجرها فيه ما فيه، ومن هنا كان العرب يأنفون من الأعمال التي فيها دناءة، ولا تجد إنساناً حراً -مثلاً- عربياً يعمل بكنس الشوارع، ولو جاع، بل قد يحمل نفسه فوق طاقتها ويبني في الشمس في الحجر والطين ولا يعمل المهن التي فيها نوع امتهان للعامل، وهذه من عادات الشعوب، بعض الشعوب ليس عندهم أي نوع من العمل عيب، ولكن العيب في مد اليد، أو الأكل بغير وجه مشروع: السرقة، السلب، النهب. أما العرب فيقطعون الطريق ويسرقون ولا يعملون الأعمال -في نظرهم- الممتهنة. وهذا فيه نظر.

شرح حديث: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)

شرح حديث: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ، رواه مسلم] . يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث بمناسبة الصنف الثالث، وهو ما يتعلق بالأجير وأجره، وهذا الحديث وأمثاله من الأحاديث القدسية، وللعلماء مبحث في التفريق بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، وبين الأحاديث القدسية وبين القرآن الكريم.

سند القرآن الكريم

سند القرآن الكريم الحديث القدسي يأتينا عن رسول الله، فهو الذي ينقل لنا قول الله، والقرآن كلام الله؛ فالحديث القدسي والقرآن يشتركان في النسبة إلى الله تعالى، فما الفرق بين القرآن وهو كلام الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وبين الحديث القدسي والرسول يقول: قال الله؟ أما الفرق بين القرآن والحديث القدسي؛ فإنه من حيث السند، ولفظه وطريقة وصوله إلينا: فالقرآن -كما يقول العلماء- قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو مختلف في ظنيه أو قطعيه، هناك الاشتراك اللفظي وهناك الاشتراك المعنوي، وهناك الناسخ والمنسوخ. إلى غير ذلك. فالقرآن له طرق وحي ثابتة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الذي كان يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه الوحي، ويكون في إغفاءة كالإغماء. إذاً: القرآن قطعي الثبوت عن الله؛ لأن الله قد بين سند القرآن في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ((إنه لقول)) (إنه) ضمير الشأن راجع للقرآن، ((رسول)) الرسول معناها المرسل، والمرسول معناها يحمل رسالة، رسول حمل رسالة، من الذي أرسل الرسول الكريم؟ الله ((ذي قوة)) ، وما الذي نحن نستفيده من قوته، ونحن إنما نريد إبلاغ الرسالة؟ فهو ليس عامل بريد مسكين ضعيف يأتي على الدراجة ويقدم لك الرسالة، فعامل البريد ربما هجم عليه أناس وأخذوا منه الشنطة ويدفعون إليه شنطة مزيفة ويذهب يوزعها على الناس مزيفة، لكن هذا الرسول قوي، لا يستطيع أحد أن يدنو منه ويغير عليه شيء مما أرسل به: (إنه لقول رسول كريم) أولاً: كريم هو بنفسه كريم، ثم (ذي قوة عند ذي العرش مكين) ، متمكن من أداء واجبه. والرسالة أرسلت لصاحبكم: (وما صاحبكم بمجنون) ، عاقل وافر العقل، لا يمكن أن يغير شيئاً مما أرسل إليه. ثم هذا الرسول وإن كان ملكاً لكن قد انكشف أمره لرسول الله، ورآه على حالته الملائكية؟ في الأفق المبين: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:23-24] ، إذاً: تعرف رسول الله على جبريل الذي يأتيه بالرسالة، وهو قوي مطاع في عالم السماء، قوي على رسالته، هذا سند القرآن الكريم.

سند الحديث القدسي

سند الحديث القدسي سند الحديث القدسي ليس كالقرآن، فقد يكون من النوع الذي يكون فيه (نفث في روعي) ، كما جاء: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها) ، والنفث في الروع إحساس، وقد يشترك فيه عامة الناس ممن اصطفاه الله وصفت روحه؛ كقضية الرجل الذي كان مع الرهط ونزلوا على حي وطلبوا القرى، قالوا: اذهبوا، فقد أتيتم من عند هذا الصابئ فليس لكم عندنا شيء، فجلسوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي، فذهبوا يبحثون يمنة ويسرة عمن يداويه من لدغة العقرب فما وجدوا أحداً، ثم قالوا: هلا ذهبتم إلى هؤلاء النفر. فأتوهم: هل فيكم من راق؛ فإن سيد الحي لدغ. قال: لا، طلبنا منكم القرى فامتنعتم، لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً -أجراً- فآجروه على قطيع من الغنم، يقول: فأخذت أقرأ عليه وأنفث، فقام كأنه نشط من عقال، قالوا: ماذا قرأت عليه؟ قال: فاتحة الكتاب (سبع مرات) ، وجاء يسوق الغنم لأصحابه، قالوا: نقسم. قال: لا، حتى نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله: هل لنا حق في أخذ هذه الغنم أم لا؟ وهل نأخذ أجراً على قراءة القرآن؟ فلما جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي) ، الحاسة السادسة كما يقولون، أحسست في نفسي وشعوري، هذا الإحساس وهذا الشعور هو اليقين ونور الإيمان، كما في الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فالله سبحانه وتعالى ألهمه ووجهه بأن يقرأ عليه الفاتحة. إذاً: الحديث القدسي قد يكون شيء ينفث في الروع، وجاء لرسول الله، فكيف وصل إلينا من رسول الله؟ عن فلان عن فلان عن فلان، ومن فلان وفلان وفلان؟ بخلاف القرآن: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ، وحينما يأتي إلى صاحبهم يقول: هلموا يا كتبة الوحي واكتبوا، فحينما ينزل القرآن على رسول الله بهذا السند القوي المتين حالاً يسطر، فحفظ القرآن بذلك، وأما الحديث القدسي فما كانوا يكتبونه، ونحتاج إلى أن ننظر من الذي نقله لنا؛ هذا الحديث أبو هريرة، ومن الذي قبله؟ فهنا الحديث القدسي يتوقف على السند، فقد يكون السند قوياً صحيحاً مهماً، وقد يكون قابلاً للنظر والبحث. القرآن قطعي الثبوت، ومن أنكر حرفاً واحداً منه كفر، والحديث القدسي لو أنكره إنسان بكامله وقال: هذا السند لا يثبت عندي، وإن كان قدسياً. يقال له: نبحث في السند، فإن توصلنا إلى صحة السند التزم به، وإذا لم نتوصل إليه كان إنكاره وجحوده إياه صحيحاً. فهذا فرق بينهم. أما من حيث الموضوع: فقد أمرنا الله أن نتعبد بكتابه تلاوة وعملاً وتطبيقاً. أما الحديث القدسي فما تعبدنا الله بقراءته، ولو قرأت ألف حديث قدسي فإنه لا يساوي: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ؛ لأن القرآن نزل للتعبد، ولا تصح الصلاة بالحديث القدسي وإن كان فيه (قال الله) ، وتصح الصلاة بالقرآن. هذا جوهر الفرق ما بين القرآن والحديث القدسي.

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي الحديث القدسي يأتينا عن طريق السنة النبوية وإن كان مسنداً إلى رب العالمين سبحانه، فيأخذ طريق السنة في إثباتها وتشريعها، وهذا الحديث الذي معنا ما ذكره لنا رسول الله عن الله إلا للتشريع، ويأخذ طريق السنة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، سواء أتانا به من عنده أم مسنداً إلى ربه؟ وإذا كان عن رسول الله مسنداً إلى ربه يكون أقوى وأعظم وأضخم؛ فهنا هذا الحديث من النوع الذي يسميه العلماء: الأحاديث القدسية، ووزارة الأوقاف كانت قد جمعت معظم الأحاديث القدسية، وطبعتها في كتاب ضخم بأسانيدها وأوضاعها، وكثير من العلماء حاول أن يجمعها، ولكن هذا جمع لجنة مكتملة مجتمعة فيكون أقرب إلى الصواب إن شاء الله.

إثبات خصومة الله لأناس على الحقيقة

إثبات خصومة الله لأناس على الحقيقة [يقول أبو هريرة: قال رسول الله: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة] . هل المراد ثلاثة أشخاص بالعدد في الأمة كلها، أو ثلاثة أصناف؟ ثلاثة أصناف، إذ كل من اتصف بصفة من تلك الثلاث فهو واحد منهم. (أنا خصمهم يوم القيامة) الله أكبر! مَن مِن الخلق إنس أو جن أو مَلك يقدر على أن ينصب الخصومة بينه وبين الله؟ كما جاء في الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ، من يستطيع أن يقف في أرض المعركة حرباً مع الله ورسوله؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وتأتي أنت في المعركة تقف أمام رسول الله ورب العالمين؟! وكما يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة خصم كل ظالم، وهو يحكم بالعدل ويحاسب الناس على أعمالهم بالعدالة، لكن تلك خصومة خاصة، واحذر ثم احذر أن تفتح مفتاح عقلك وتقول: كيف يكون خصماً؟ وهل الناس أعداء له؟ هل هم خصومه؟ الخصومة سببها كذا وكذا، وتدخل عقلك في إثبات خصومته وكيف تكون؟ قل لها: لا، صفات المولى لا تخضع إلى قوى العقول، صفات الله فوق مستوى الكيف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، يكفينا الهيكل والتركيب العام: (أنا خصمهم يوم القيامة) ؛ فليأت أصحاب الخصوم والذين يكونون خصماء ويحكم الله بينهم.

من أعطى بالله ثم غدر

من أعطى بالله ثم غدر [ (رجل أعطى بي ثم غدر) ] . رجل كان أو امرأة، وقال: (رجل) للتغليب، وربما لأن الرجال في العادة هم أكثر الذين يغدرون، وكانت العرب تتمدح بالغدر ونقض العهد، ويقولون: إن الذي لا ينقض العهد ولا يغدر بعدوه ضعيف، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، ويتمدحون بالغدر، ففي قول الشاعر: قُبيلة لا يغفرن بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما سمع عمر هذا، وقالوا: الشاعر هجانا وقال فينا كذا. قال: والله إنه لنعم الحال! الظلم ظلمات يوم القيامة، فإذا كانت هذه القبيلة لا تظلم الناس حبة خردل فجزاهم الله خيراً، بل قال أكثر من هذا: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل قال: كفى بالأمر ضياعاً أن تأكل الكلاب لحومهم، ما عليكم أنتم؟! قالوا: لا، بل قال آخر: وما سمي العجلان إلا لقوله: خذ القعب أيها العبد واحلب واعجل فقال: خادم القوم سيدهم. انظر إلى فطنة عمر! وعمر كان سفير قريش عند القبائل في التهنئة والتعزية. بعض الناس يقول: عمر لا يفهم الكلام. مجنون من قال هذا! عمر يقول: (إذا جاءتك كلمة عن صديق لها خمسون محملاً في الشر، ومحمل واحد في الخير، فاحملها على محمل الخير) . والشناقطة يقولون: من باع صديقه بخمسين زلة فقد باعه بيعة رخيصة. يصبر عليه حتى يكملها مائة! نحن الواحد منا إذا أخطأ صديقه أو زل بشيء مرة أو مرتين قلنا: هذا ليس فيه خير، ونقاطعه وينتهي الأمر. وهذا لا ينبغي. هتلر في الحرب الأخيرة لما أراد أن يقاتل الأسبان قالوا له: بيننا وبينهم معاهدة. قال: هي حبر على ورق. يعمل بها في السلم، أما الحرب فلا توجد عنده معاهدات. والذي يحمله على هذا؟ ما كان لديه من قوة. فهنا المولى سبحانه وتعالى خصم لثلاثة؛ أولهم: (رجل أعطى بي) أعطى ماذا؟ قالوا: أعطى العهد، أعاهدك بالله على كذا، فائتمنه لعهد الله. (فغدر) : هذا الغادر هل غدر بصاحبه أو بالعهد الذي أعطاه؟ غدر بصاحب العهد، رجل أعطاك عهده وقبلته منه، وعاملك على ذلك، فأنت غدرته، كأنك لا تبالي بعهدي، ولا بحقي وأنا المنتقم الجبار! وحينما يكون يوم القيامة، ويأتي الطرفان، من الخصم في قضية نقض العهد؟ الله، ومن هنا -أيها الإخوة- وإن كنا في أحكام الفقه، لكن لابد من بيان جانب العقائد في مثل هذه الأحاديث، نقرأ في العقائد: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، نحن نتكاثر هذه، والشرك ظلم عظيم! ابن مسعود يقول: (لأن أحلف بالله كاذباً أهون علي من أن أحلف بغير الله صادقاً) . لأن الحلف بالله كذباً معصية وقد أتوب منها وأستغفر وأتوقف والله يرحمني، لكنه بغير الله شرك. وكيف يكون الحلف بغير الله شركاً؟ هذه مهمة لطالب العلم، فهي ليست مجرد عبارات تسطر لا، أين نقطة الشرك هنا؟ نحن نعلم أنه إذا رفعت القضية إلى القاضي، وأنكر المدعى عليه، طالب القاضي المدعي بالبينة. وهذه هي العدالة، فيأتي المدعي فيقول: هذا صديقي، وأنا ائتمنته، وما ظننت أنه سوف يخونني أو ينكرني، حتى أنني ما رضيت أن آخذ عليه سنداً ولا أشهد عليه شهوداً، بيني وبينه وبين الله. فحينئذ المدعي خلو اليدين، فهل تنتهي القضية على هذا؟ لا، ماذا يقول المدعي؟ يقول: حلفه يمين الله أن دعواي كاذبة، وأني ما أعطيته، فيقول له: تحلف يمين الله أنك ما أخذت منه المبلغ الذي يطالبك به فيقول: نعم، أحلف. فلسفة اليمين هنا: المدعي خلو اليدين من بينة يقيمها على خصمه، ورجع إلى الله، واستشهد بمن لا تخفى عليه خافية، وقال: يا شيخ! شاهدي الوحيد المطلع على ذلك هو الله، فليحلف لي بالله أنه لم يأخذ مني. فحينما يتوجه المدعى عليه ويقول: والله! لم آخذ منه شيئاً. معنى هذا: أنت يا أيها المدعي عجزت عن شهود من الخلق، وجئت بشاهد واحد هو الخالق المطلع على حقيقة الأمر، وحلف بالله أنه لم يأخذ منك شيئاً هنا حكم القاضي ببراءة المدعى عليه وصرف النظر عن دعوى المدعي لعجزه عن الإثبات، وحلف المدعى عليه اليمين. هذا جهد القاضي، ولكن حقيقة القضاء هل تنتهي هنا أم يعاد النظر فيها يوم القيامة؟ يعاد النظر فيها يوم القيامة. وهنا كيف كان الحلف بغير الله شركاً؟ لأن الحلف بالله والله وحده هو الذي يعلم الحقيقة، والله وحده هو الذي يعاقب الكاذب ويقدر على ذلك، لكن لو حلفت بجبريل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة وجميع الرسل هل يعلمون الغيب في هذه القضية؟ هل يعلمون حقيقة الدعوى؟ لا؛ فكأنك حينما تحلف بغير الله جئت بغير الله محل الله، وادعيت أنه يعلم الغيب في القضية. والأمر الآخر: يوم القيامة: هل هؤلاء يستطيعون أن يعاقبوا الكاذب؟ لا يملكون ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ؛ فأنت بحلفك هذا أنزلتهم منزلة الله في عقوبة الكاذب، إذاً أشركت مرتين: في إعطائك المحلوف به علم الغيب، وفي إعطائك إياه حق الانتقام وأخذ الحق لك وهو لا يملك ذلك.

من باع حرا فأكل ثمنه

من باع حراً فأكل ثمنه [ (ورجل باع حراً فأكل ثمنه) ] . قوله: (رجل) هنا إنما هي وصف طردي، وقد يكون أيضاً امرأة؛ لأن التكليف واحد. وكيف يبيع حراً؟ هل يستطيع إنسان أن يأتي على أحد الجالسين ويقول: أنا بعتك؟! يمكن، ويصدق هذا في أحد أمرين: إما بطريق الكتمان والغدر. وإما بطريق السلب والنهب بالقوة. أما طريق الغدر: فيكون بينه وبين العبد أنه أعتقه لوجه الله. فصار حراً، ثم يندم ويقول: أنا لماذا أعتقه؟ لماذا لا أبيعه وآخذ ثمنه خيراً لي؟ فبعد أن تقرر العتق وصار حراً وليس عند العبد شهود إثبات، هل تعرفون عبدي فلان؟ قالوا: نعم. قال: أريد أن أبيعه؟ العبد يقول: أنا حر، أنت أعتقتني. يقول: كذاب. فباعه وأكله ثمنه. أو يظهر قطاع الطريق على أناس يمشون، ثم يأخذونهم ويختطفونهم ويبيعونهم، وكان يقع هذا في بعض البلدان: يحتالون على الشخص حتى يدخلونه في بيت ويقيدونه، وفي الليل يخرجون به ويذهبون إلى جهات أخرى يبيعونه فيها. زيد بن حارثة من أين جاء؟ خرجت به أمه تزاور أخواله إلى الطائف، فخرج عليهم قطاع الطريق وأخذوه، وأنزلوه إلى مكة وباعوه، ووصل إلى خديجة بالثمن، فوهبته لرسول الله يخدمه، وكان أبوه يبكي طوال الليل والنهار ويسأل ويبحث، ثم قيل له: إن ابنك في مكة عند بني هاشم. فجاء وأتى بأخيه معه، وأتى بالمال، واستقصى حتى عرف أنه عند محمد بن عبد الله -قبل البعثة- فقال: يا محمد! سمعت أنك الوفي الأمين، وأنك وأنك. وأن ابني عندك، وقد جئت بفدائه، فاقبل منا الفداء. قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه وأخيره بيني وبينكم، إن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني على أهله. قالوا: أنصفتنا. قال: إذا كان بعد العصر فقوموا في المسجد واطلبوا طلبكم، فجاء زيد وقال: والله لا أختار عليك أحداً أبداً. فقال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على السيادة والحرية؟ قال: وكيف لا! والله مذ صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله. يعني: وجدت عنده من الرحمة والرفق وحسن المعاشرة ما لم أجده عندك أنت. فحينما قال ذلك أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به حول الكعبة وقال: زيد ابني. وصار يقال له: زيد ابن محمد، حتى جاء القرآن وفصل القضية: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] حتى ولا نسائكم {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:5] . ثم جاءت القضية الثانية: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] الزواج بالإجبار، بتكليف من الله، لم؟ هل تنقصه نساء أو زوجات؟ لا، لكنه زواج للتشريع لا لإرضاء الخاطر وإشباع الرغبة كما يقول السفهاء. وفي قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] ، ويأتي هناك سياق القضية بمقدماتها وبأدلتها: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] ، هذه قضية تشريعية، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4] ، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ، تأتي المقدمة بالواقع، لا يوجد واحد عنده قال. وإن كان بعض الصحابة كان يقال له: (أبو قلبين) ؛ لأنه كان جريئاً، لكن خلقة لا يوجد. وكذلك ما جعل الله الزوجة أماً، أمك واحدة التي ولدتك، فيأتي بقضيتين طبيعيتين مسلمتين ليبني عليها، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ؛ لأن الشخص له أب واحد، كيف تكون أنت أبوه وذاك أبوه؟ كما لم يكن للرجل قلبين لا يكون له أبوين، وكذلك لا يكون له أمين.

البلاغة اللغوية في قوله: (وأكل ثمنه)

البلاغة اللغوية في قوله: (وأكل ثمنه) من البلاغة والنوادر في الأسلوب العربي البليغ عند قوله: (باع حراً ... ) أنه لم يقل: وقبض ثمنه، وأخذ ثمنه، مع أن كل هذا يؤدي المعنى، ولكن قال: (فأكل) ، وما خصوص الأكل؟ لماذا لم يقل: ولبس أو وركب؟ يشتري بعيراً أو ناقة أو لباساً لا؛ لأن الأكل من أخص خصائص الإنسان، وإذا لم يأكل يموت، ولكأن الحديث يشير إلى أن عملية بيع الحر ولو كانت لأشد ما يكون في الناس من مخمصة ليأكل حتى لا يموت، لكن أيضاً أنا خصمه، لست خصمه حينما يبيعه للترفيه، أو يبيعه للتمول وتخزين المال فقط، بل خصمه ولو باعه وهو في أشد الحاجة لأن يأكل حتى لا يموت، يعني وهو في حالة الاضطرار أنا أيضاً خصمه.

بيع الحر عند العرب قديما

بيع الحر عند العرب قديماً بيع الحر يقال: إنه كان موجوداً عند بعض القبائل: كان يباع أبناء الرجل في الدين عليه إذا عجز عن سداده، وهو موجود في القانون اليوناني والروماني: إذا بيعت المزرعة بيع معها الغلمان، وإذا استدان الرجل وعجز عن سداد الدين بيع هو أو أولاده في سداد الدين، وكان في بعض القبائل كذلك. وقد يحتال بعض الناس فيما بينهم على أن يبيع أحدهما الآخر، ويأخذون الثمن، ثم يهرب العبد، وجاء في بعض الأسفار عن نعيم، وكان مضحكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صهيب مسئولاً عن الغذاء والتموين، فذهب وقال له: أعطني؛ أنا جائع. قال: اصبر حتى يأتي الجميع. قال: أعطني. فقال له: لا. قال: فتوعده، فعندما نزلوا بمنزلة ومرت قافلة من التجار ونزلوا قريباً منهم، أتاهم وقال: لدي عبد أتعبني، وكلما بعته هرب على المشتري ويقول: أنا حر أنا حر! ويفسد علي البيعة، وأريد أن أبيعه هذا المرة آخر بيعة، هل تريدون شراءه ولا تسمعون كلامه، وتقيدونه وتريحوني منه. قالوا: قبلنا، بكم؟ قال: بنصف القيمة. فباعه وقال لهم: أنا سأريكم إياه من بعيد، وخذوا معكم الحبل، فإذا أتيتموه سيقول لكم: أنا حر أنا حر. فاصنعوا به ما شئتم، ولو هرب أو رجع فلن أرد لكم الثمن. فذهبوا ومعهم الحبل، وقيدوه فصاح: أنا لست عبداً أنا حر. قالوا: نحن نعلم هذا! وأبو بكر رضي الله تعالى عنه كان غائباً، ثم جاء يسأل: أين فلان؟ قالوا: باعه فلان. قال: كيف بعته؟ قال: أطلب منه الأكل فلا يعطني. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتسامح معه لأنه كان يتفكه به، فسأله: بكم بعته؟ قال: بعته بكذا. قال: أعطني المال، فأخذ منه المال وذهب إلى هؤلاء النفر فقال لهم: هذا الرجل الذي باعه لكم إنما هو عيار يمزح، وهذا هو أخونا وهو صاحب رسول الله. فتركوه ومضى به. (ورجل باع حراً) لماذا يكون الله خصمه؟ لماذا لا يكون الشخص بنفسه ويطالب بحقه؟ لأن العبودية حكم من الله، والحرية حق الله أعطاه للعباد، ولا تأتي العبودية إلا في أرض المعركة عقب قتال المشركين للمسلمين، فيؤخذ باسم الدين.

من استأجر أجيرا ولم يعطه أجره

من استأجر أجيراً ولم يعطه أجره [ (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ] . دائماً وأبداً الأجير في حالة ضعف مع المستأجر، فهو يأتي ويعمل مستوثقاً من المستأجر في دفع الأجرة، فعمل وانتهى وقت العمل واستوفى المستأجر العمل، أعطني الأجرة. قال: ليس الآن ليس الآن ليس الآن إلى أن تذهب الأجرة، استوفى حقه في العمل ولم يعطه أجره، فهذا المسكين الضعيف ماذا يصنع؟ هو أجير، والعادة فيه أنه ضعيف، فأنت استغللت ضعف قوته وشخصيته، وهو استعان عليك بالله، فتكون الخصومة بينك وبين الله سبحانه وتعالى في حق هذا الأجير. ونذكر هنا القصة المشهورة في النفر الثلاثة من بني إسرائيل الذين آواهم المبيت إلى الغار، ونزلت عليهم الصخرة وسدت فم الغار، قالوا: الآن لا أحد يعلم بنا -لم يكن هناك لاسلكي ولا (البيجر) ولا اتصالات، أنتم الآن في قبركم أحياء، لا يعلم بكم إلا الله، ولن ينجيكم منه إلا الله -هنا الشدة تمحص الحق- وليس لنا إلا أن نستشفع الله، ونتوسل إليه بصالح أعمالنا أن يكشف عنا. والقصة طويلة فواحد توسل ببر الوالدين، وواحد توسل بالتعفف عن الزنا، وقال الثالث: (اللهم إنه كان لي أجير، فأعطيته أجره صاعاً من شعير فاستقله وذهب وتركه، فأخذته وبعته، واشتريت عناقاً ونميته له حتى صار مالاً في الوادي، فجاءني بعد زمن وقال: أتعرفني؟ قلت: نعم، أنت الأجير فلان. قال: أعطني أجري. قال: قلت: اذهب إلى الوادي وانظر ما فيه من بهيمة الأنعام فخذه، فهو أجرك. قال: أتهزأ بي لأني مسكين؟! قال: لا -والله- إنه أجرك نميته لك حتى صار كذلك. فذهب فأخذ جميع ما وجد، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانكشفت عنهم الصخرة جزءاً) ، وهكذا مع كل واحد توسل بصالح عمله تنكشف الصخرة جزءاً حتى انكشفت وخرجوا يمشون على وجه الأرض. فهذا هو حسن معاملة الأجير، والله سبحانه وتعالى جعل لذلك معلماً: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، تنزاح الصخرة بذاتها، هم الثلاثة لم يقدروا على زعزعتها، لكن انزاحت لما توجهوا إلى الله بصالح أعمالهم. إذاً: هؤلاء الثلاثة لهم حقهم، وواجب على الإنسان أن يعنى به، وإذا ما فرط فيه كان الله خصمه يوم القيامة. نسأل الله السلامة والعافية.

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [4]

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [4] كثيراً ما اختلف أهل العلم وخاضوا معترك مسائل إهداء القربات للموتى، ولكنهم أجمعوا على وصول الأعمال المالية، واختلفوا اختلافاً شديداً في وصول الأعمال البدنية خصوصاً إذا كانت بالأجرة، كما أنهم اختلفوا في أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وكاد أن يستقر رأيهم على جواز ذلك. وفي جانب الإجارة أيضاً حث الشرع على سرعة تسليم الأجرة للأجير، وأن يعلمه عن نوعية العمل المراد منه أن يقوم به، وأن يحدد له أجره اللائق بمثله.

حكم أخذ الأجرة على القرآن ونحوه من القرب

حكم أخذ الأجرة على القرآن ونحوه من القرب [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، أخرجه البخاري] . يعنون علماء الحديث والفقهاء على هذا الحديث بعنوان (باب الأجرة على القُرَب) أي: الأعمال التي أساسها التقرب إلى الله، ويبحثون تحت هذا الحديث الأجرة لتعليم القرآن، قراءة القرآن، إمامة الصلاة، القضاء، الإفتاء، وكل ما الأصل فيه أنه قربة لله. والبحث في هذا يتناول تلك الجوانب على أنها أعمال ينبغي أن يقوم بها صاحبها قربة لله، فقارئ القرآن لنفسه يقرأ لله، ويقرئ غيره ويعلمه لله، الإمام يؤم الناس في الصلاة لله، المعلم يعلم الناس لله، القاضي يقضي والمفتي يفتي لله إلى غير ذلك من الأعمال التي فيها قربة إلى الله باحتسابه الأجر عند الله، فهل تجوز الأجرة على هذه الأعمال التي يقصد صاحبها أجراً وثواباً من الله؟ أي: هل يأخذ أجراً من الله ومن الناس؟ قيل: يأخذ أحد الأجرين: إن اختار الأجر من الناس فلا أجر له عند الله، وإن اختار الأجر من الله فلا أجر له عند الناس، هذا مبدأ البحث، ووجهة نظري الاختلاف في هذه القضية، وأعظم مسألة فيها هو ما يتعلق بالقرآن. (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) أجراً في أي شيء في كتاب الله؟ في قراءته، يستأجر إنسان شخصاً يقرأ القرآن ويعطيه أجرة على قراءته كالذين يستأجرون للقراءة على الموتى، أو: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) في تعليمكم الناس كتاب الله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وهنا يأتي البحث.

حكم إهداء ثواب القراءة للميت

حكم إهداء ثواب القراءة للميت يمكن أن نقول: إن ما يتعلق بالأجرة على القرآن فيه جوانب جائزة بالإجماع، وجوانب ممنوعة بالإجماع، وما بين ذلك وذلك محل البحث: فقراءة القرآن بأجرة للغير من أجل موتاه. هذه لا أصل لها، وقالوا: كيف يهب ثواباً لا يملكه أو لم يحصل عليه؛ لأنه استبدل به الأجرة ممن استأجره، ومن قرأ القرآن على أجرة من أحد فليس له ثواب عند الله، إذاً: ماذا سيهب لميت هذا المستأجر، وليس عنده شيء؟! أما كون هذا الإنسان يقرأ بنفسه ويهب إلى موتاه، فهذا فيه الجمهور على الجواز، وما خالف في ذلك إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها والشافعي رحمه الله، ودليلهم: (أو ولد صالح يدعو له) ، ومن الدعاء له قراءة القرآن، وقد بحث الإمام ابن تيمية هذه المسألة في ما يقرب من عشرين صفحة، وأتى بدلائل شرعية وعقلية، وقال: أنت حينما تصلي الصلاة لك وعد من الله بالأجر عليها، وأنت عندما تدعو الله: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني. هذه المغفرة وهذه الرحمة حق لله أنت سألتها، فيعطيك إياها بدون عوض بمجرد ما سألته، وكذلك لما تقرأ القرآن يكون لك على هذه القراءة أجر عند الله، فتقول: يا رب! أنا قرأت، ووعدني رسولك الكريم بأن لي على كل حرف عشر حسنات، وأنا أطلب منك أن تجعل حسناتي من قراءتي هذه لوالدي لولدي لأخي لصاحبي فلان. فهنا يقول ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الله يعطيك ما لا تملك، كقولك: اللهم اغفر لفلان، اللهم ارحم فلاناً، فمغفرة الله لفلان ليست ملكاً لك، فهو يستجيب لك ويعطيها لفلان، فما بالك إذا كانت القراءة ولك بكل حرف عشر حسنات تسجل لك في كتابك وصحيفتك، فتقول: يا رب! أنا أريد تجعلها في صحيفة فلان، قال: فهذا من باب أولى.

حكم إهداء ثواب القربات المالية

حكم إهداء ثواب القربات المالية ثم إذا نظرنا في ما يتعلق بعمل الغير، نجد إجماع المسلمين على أن الميت يستفيد من عمل غيره المادي؛ فإذا مات وعليه دين وسددته استفاد به، وإذا تصدقت عنه بشيء كان أجر الصدقة له، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصوص خديجة رضي الله تعالى عنها: كان صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة على اسم خديجة، ويفرقها على صويحباتها، حتى غارت عائشة، وقالت: (كل شيء خديجة خديجة!) . وكذلك كانوا في أول الأمر: من مات وقدموه للنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل: أعليه دين؟ إن قالوا: نعم. قال: صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: لا، صلى عليه، حتى أُتي برجل، قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا عليه. فقام علي، وقيل المقداد -أو هما قصتان متعددتان- وقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي. وفي رواية: أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهما في ذمتك يا علي، وبرئت منهما ذمة الميت؟ قال: بلى يا رسول الله. فصلى عليه) ، فهنا سداد دين عن ميت من الغير جائز ويصله الأجر، وأجمعوا على أن جميع الحقوق المالية لو قام بها إنسان عن ميت أجزأه كما لو قام بها عن حي: إنسان مدين ومسجون في دينه، وذهبت ودفعت الدين الذي عليه؛ فإنه يطلق، ومثله كذلك من يطالب بنفقة لأهله فأنفقت عليه. المهم: أن القربات المالية يجوز إهداء ثوابها بالإجماع.

حكم إهداء ثواب القربات البدنية

حكم إهداء ثواب القربات البدنية الصوم والصلاة عبادة بدنية، والحج يجمع بين الأمرين، فجاء في الصوم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وهذا متفق عليه إلا عند المالكية، فهم يقدرون معنى (صام) يعني: أطعم؛ لأن الإطعام بدل الصوم، وهذا بعيد عن صريح عبارة النص. نجد في حج البيت: (إن أمي ماتت ولم تحج، أينفعها أن أحج عنها؟ قال: أرأيتِ لو أن على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى. قال: كذلك دين الله أحق) ،ومن ضمن أعمال الحج ركعتي الطواف، وهي صلاة. حينما تقدم الجنازة: الصلاة على الرجل يرحمكم الله. فكل الموجودين يقومون ولا يعلمون من الذي يصلون عليه، إنما دعوا للميت الحاضر، هذه الصلاة وهذه الأدعية تنفعه أو لا تنفعه؟ قطعاً تنفعه؛ لأنها إذا لم تكن تنفعه كانت عبثاً، ولماذا نصلي إذا كانت لا تنفعه؟ فشرعت صلاة الجنازة من الأحياء للأموات. كذلك -بالإجماع- الدعاء للغير: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وكما يقولون في زيارة المقابر: من مر على مقبرة فدعا للأموات قسمت عليهم الجوائز، فيقولون: ما هذا؟ فيقال لهم: مر بكم فلان فدعا لكم. إذاً: من الأعمال البدنية الدعاء، صلاة الجنازة، الصيام، الحج، وما اختلفوا في شيء من هذا كله إلا في قراءة القرآن.

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن قراءة القرآن للتعليم أو ليهبها إلى غيره: إن كان من نفسه فلا بأس. أما أن يستأجر غيره ويعطيه أجراً من أجل أن يقرأ ويهب فلا يجوز. وهذا الحديث سيق لبيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن القصة في غير التعليم، القصة: أن نفراً من الصحابة نزلوا ليلاً في طريقهم بحي من أحياء العرب كانوا على شركهم، والعرب معروف أنهم يقرون الضيف، فاستضافوهم فامتنعوا من الضيافة، فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله على سيد الحي عقرباً فلدغته، فأخذوا يطلبون له العلاج بكل ما يعرفون فلم ينفعه شيء، فقال قائلهم: اذهبوا إلى هؤلاء الرهط الذين جاءوا من عند هذا -وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم- لعلكم تجدون عندهم رقية، فأتوهم، فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛ فإن سيد الحي قد لدغ؟ فقال رجل منهم: نعم، أنا راقٍ. قالوا: هلم وارق سيد الحي. فقال: قد طلبناكم القرى فأبيتم، فلا أرقيه لكم حتى تجعلوا لي جعلاً. والجعل: هو الأجر المقطوع، مثال ذلك: من نسخ لي صحيفة كذا فله ريال، من بنى لي جداراً فله ألف ريال، أجر مقطوع على هذا العمل. فقاطعوه على عشرين إلى ثلاثين رأساً من الغنم، قال: فذهبت، فأخذت أقرأ وأنفث عليه، فقام وكأنه نشط من عقال، فجئت بالغنم أسوقها لأصحابي، قالوا: هلم نقتسم. قال: لا، حتى نرجع إلى المدينة ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجوز لنا هذه الأغنام أو لا؟ فأمسكوا عن القسمة، ولما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، وقال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي) ، وهذا -كما أشرنا إليه- نوع من الإحساس الصادق؛ (فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم) ، وهل كان حاضراً معهم؟ لا، هو له الحق في كل ما يكتسبه المسلم عن طريق الدين؛ لأن الفاتحة أتتهم عن رسول الله؛ فالحق الأساسي فيها لرسول الله، ولكن يقولون: هذا زيادة توثيق لهم وطمأنينة لأنفسهم؛ لأنهم تورعوا أن يقتسموها قبل أن يعلموا الحكم؛ فأراد أن يزيل آثار هذا الشك بأن يشاركهم في قسمتها، فشاركوه. فهنا لما اقتسموا وقال للرجل: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، يعني: الجعل الذي أخذته أجراً على ما فعلت بالفاتحة أحق الأجر. وفي بعض الروايات: (لئن أكل الناس برقى باطل فقد أكلتم برقيا حق) ، هنا القصة قصة رقيا من لدغة عقرب، وهي تدخل في باب الطب، وباب تعليم القراءة، وباب قراءة القرآن للأجر؛ فقوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) مطلق، لم يقل: في تعليمه قراءته في التطبب به، والمؤلف اقتصر في الباب على رواية البخاري مع وجود نصوص عديدة في هذا الموضوع؛ لأن البخاري يميل إلى جواز أخذ الأجرة على التعليم، ونسبة ذلك عند البخاري لماذا؟ قال: هذا اللديغ استفاد من الراقي أم لا؟ نعم، كأنه نشط من عقال، فيقول استنتاجاً من هذا: حينما يتعلم إنسان القرآن يكون قد استفاد، فحصلت الفائدة للمتعلم نظير ما حصلت الفائدة للديغ الذي تعافى من لدغة العقرب، فإن صحت الأجرة على منفعة المريض بالشفاء فلا مانع من أن تصح الأجرة على من استفاد بالتعليم. وأعتقد أن هذا قياس واضح وقوي جداً.

أدلة المانعين والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن

أدلة المانعين والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن الناس تنقسم في هذه المسألة إلى قسمين: أم المؤمنين عائشة والشافعي يمنعون من ذلك، وهو قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، والجمهور يجيزونه، المانعون بماذا يستدلون؟ والمجيزون بماذا يستدلون؟ أولاً: المجيزون من أقوى أدلتهم هذا الحديث؛ لأنه أقرهم على إفادة الغير بالفاتحة، وأخذوا الجعل وشاركهم في قسمتها، وأيضاً يستدلون بقضية المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي إليك. فشخص بصره وصوبه فيها، ثم سكت، فجلست المرأة تنتظر، فقام رجل وفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا توجد عنده تلك الرغبة ولا ذاك الحماس في هذه المرأة، فقام وقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها رغبة، قال: ما عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي شيء. قال: لابد أن تأخذ بالأسباب وتسعى، ذهب ورجع قال: ما وجدت شيئاً. قال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، اذهب واقطع سلكاً واثنيه واجعله في إصبعك، فذهب ورجع فقال: ما وجدت شيئاً. انظر إلى أي مدى وصلت الحالة، وهو يريد أن يتزوج! قال: هل معك شيء من القرآن؟ -هذه العملة الصعبة التي تمشي في كل مكان وزمان- قال: بلى. لسور سماها، وقبل هذا لما سأله عن أي شيء يعطيها إياه، قال: أعطيها ردائي هذا. قال: إن أعطيتها رداءك جلست ولا رداء لك، اذهب فالتمس، وأخيراً قال له: (زوجتكها على ما معك من كتاب الله) وفي الرواية الأخرى: (زوجتكها؛ فاذهب فعلمها ما عندك من كتاب الله) . ويرد المانعون على قوله: (زوجتك على ما معك) ، بأنه يعني بهذا: أنه إكراماً لك لما معك من القرآن زوجتك، يعني: زوجتك إياها بدون صداق مكارمة لك وجائزة على ما تحفظ من القرآن، وهي ماذا يكون لها؟ وأما الرواية الأخرى: (فعلمها) ، فهي رواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جعل صداقها تعليمها ما عنده من كتاب الله، فقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى التعليم صداقاً للمرأة، وتزوجها الرجل بما عنده من كتاب الله أن يعلمه إياها. وفي بعض الروايات: (قم فعلمها ما معك من كتاب الله) . فالمجيزون استدلوا بحديث الرقية بجامع الانتفاع، وبحديث المرأة بجعل التعليم صداقاً لها. أما المانعون فعارضوا في حديث الرقية وقالوا: الجعل ليس على القراءة ولكن على العلاج، ومن هنا جازت الرقية بكتاب الله أو بأحاديث رسول الله، أو بالأدعية المأثورة، وهو ما يسمونه بالطب الروحاني، يعني: عن طريق الروح: يقرأ، يدعو، يرقي بكتاب أو سنة أو دعاء مأثور، وهذا مجمع عليه. ومالك في الموطأ أطال في هذا الباب، وذكر عدة نماذج في هذا الموضوع. واستدلوا أيضاً بما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: (كنت أعلم رجلاً من أهل الصفة الكتاب والقرآن -الكتاب: يعني الكتابة، الإملاء والخط والحروف، والقرآن: أحفظه إياه- فأعطاني قوساً، فتقلدته وقلت: ليس مالاً أتموله، وإنما قوس أرمي به في سبيل الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال: إن شئت أن ترمي به في النار فخذه) ، وهذا أقوى ما استدل به أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور قالوا: هو قوس وليس مالاً، والرجل بحسن النية، قال: أرمي به في سبيل الله، ومع هذا القصد الحسن ما أباح له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه، حتى قالوا: في الطعام، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن رجلاً كبر في سنه، قال: وكنت أتردد عليه وآكل عنده من الطعام ما لم أجده في أهل المدينة قاطبة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن كانوا يصنعون الطعام لأنفسهم وتأكل معهم فلا بأس، أما إن كانوا يصنعونه من أجلك فلا) ؛ لأنهم كانوا يجعلونه أجراً له على تعليمهم، فقالوا: هذا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآخرون يردون على هذا أيضاً على رجل يقول: عن عمي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان راجعاً -أي: إلى أهله- مر بقوم فيهم مجنون مربوط بالحديد، قالوا: سمعنا أن صاحبكم جاء بخير -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فهل عندك من هذا الخير ما تعالج به هذا المجنون؟ قال: بلى. قال: فقرأت عليه الفاتحة ثلاثة أيام، كل يوم مرتان، فقام من مرضه وانقلب معافى، فأعطوه مائتي شاة - لا عشرين كسيد الحي- يقول: فرجعت وسقتها معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (خذها، لئن أكل الناس برقى الباطل؛ فقد أكلت برقيا حق) ، وهي رقيا الفاتحة. نخلص من هذا كله: أنه انقضى الخلاف سابقاً، وكاد أن ينعقد الإجماع على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

قول آخر في أخذ الأجرة على تعليم القرآن

قول آخر في أخذ الأجرة على تعليم القرآن هناك من يتوسط في المسألة ويقول: لا ينبغي لمعلم القرآن أن يشارط على الأجر، أعلمك جزء عم وتعطيني كذا بل يعلمه، وما أتاه من غير مسألة أخذه، ولكن نحن الآن نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كان عندنا أبناؤنا، وعندنا معلمو قرآن، وقلنا لمعلمي القرآن: علموا أولادنا ولا أجر لكم أنتم تريدون أن تعلموا أولادكم، وأنا أريد أن أطعم أولادي، فأنا أريد أن أسعى وأعمل لأولادي، وأولادكم ليسوا بأولى من أولادي. له حق في هذا أم أنه ملزم أن يترك أولاده يضيعون ويذهب يعلم أولادهم؟! ليس بملزم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فإذا انقطع لأولادهم يعلمهم، فله حق عليهم في إطعام أولاده، أنا أديت واجباً لأولادكم فعليكم أن تؤدوا واجباً لأولادي، وما الواجب الذي سيؤدونه غير الأجرة التي سيدفعونها؟ قالوا: إذاً هناك تبادل منفعة، وهناك تعليم الأولاد واجب، وما لا يتم هذا الواجب إلا به فهو واجب. إذاً: إطعام أولاد معلم القرآن واجب، فهو يؤدي الواجب من عنده لأولادكم، وأنتم تؤدون الواجب من عندكم لأولاده. ثم قال العلماء: هذا كان في السابق لما كان الناس يقدرون ويتعاونون، لكن الآن لو قلنا هذا لا ندري من الذي سيدفع ومن الذي لن يدفع، فإذا جاءت الدولة وجعلت أجراً للمعلمين من بيت مال المسلمين، أو من صندوق الدولة إذا لم يكن هناك بيت مال منتظم، والدولة تأخذ ضرائب من الأفراد على المصالح العامة: المستشفيات، المدارس، تعبيد الطرق، مد الجسور على الأنهار، المحاكم، إذاً: الذي تعطيه الدولة لا لبس فيه، ويدخل في هذا بقية المناصب كما قلنا: الإمام يلتزم للناس بخمس صلوات، القاضي يلتزم للناس بوقت معين ينظر فيه في قضاياهم، المفتي كذلك ينظر في أمور الناس ويفتيهم، وأصبحت جميع أعمال القرب مبنية على ذلك. وعلى هذا: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، لا مانع أن يأخذ على تعليمه الأجر، ولا يمنع أن يحتسب عمله لله، كما جاء في حق الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198] ، يحج ويتاجر، وتجارته لا تمنع حجه، ولكن هناك فرق: بين من ذهب ليتاجر والحج على الرف، ومن ذهب ليحج والتجارة وسيلة؛ فلا مانع في ذلك، كما قالوا في الذي يأخذ الأجر ليحج عن غيره، يحج بأجر أو لا؟ قالوا: إن أخذ ليحج فلا مانع، وإن حج ليأخذ فلا. ما الفرق بينهم؟ الأول: يريد أن يحج عن الغير، لكن ليست عنده استطاعة ليذهب ويحج، فأخذ منك ما يوصله إلى الحج، فهذا جزاه الله خيراً، وله مثل أجره، لكن من ليست عنده رغبة في الحج ولا نية فيه، ولكن سمع من يقول: أريد من يحج بدلاً عني. قال: أنا أحج، ولكن أعطني. فهذا حج ليأخذ، فهذا أخذه فيه نظر. والله تعالى أعلم.

حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء

حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ، رواه ابن ماجه. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف] . كلها ضعاف ولكن ضعيفان يغلبان قوياً، إذا تعددت روايات الحديث الضعيفة يشد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، وهنا مشى الحديث على مقتضى العقل، بمعنى: أنه ما خرج عن الأصل (أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) والمراد من هذا: سرعة دفع الأجرة، وإلا فقد يجف عرقه وهو في محل العمل ويأتيني إلى البيت ليأخذ حقه، أو يأتي من الغد، الغرض في الإطار العام للحديث إنما هو الحث على المبادرة بدفع الأجرة للعامل، والإشارة هنا: (قبل أن يجف عرقه) ، إشعار بأن الأجير بذل جهداً حتى عرق جبينه وجسمه، والعرق هذا يأتي عن مجهود؛ فلا ينبغي أن تستفيد وتأخذ جهده الذي أضناه عرقاً، ثم تتركه الذي بذل هذا الجهد يريد أن يتعشى، فقد ضيع ما عنده في معدته من طعام فيحتاج إلى الأكل، وحقه عندك؛ فلا ينبغي أن يبيت طاوياً جوعاً وحقه في يدك، ليس إنصافاً أن تستوفي حقك ولا توفه حقه، وهذه هي العدالة. أما الذين يماطلون في أجور العمال، ومن يحتال على من استقدمه، ويؤخر راتبه إلى أن يضطر إلى مد يده، أو يتركه في السوق وجد عملاً أو لم يجد، وقد يزيد الطين بلة بأن يفرض عليه إتاوة شهرية، وهل أنا وجدت عملاً! أعطني عملاً لكي أعمل وخذ الذي تريد. يقول: هذا ليس من شأني، اذهب أنت وابحث. هذا من الظلم بمكان، وهذا ينبغي أن ينظر فيه، ويلزم كفيله الذي استقدمه بنفقته وأجرته، وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة، ونصوا على أن ما يأخذه الكفيل سحت، لماذا يأكل من عرق الآخر؟ اتركه يعمل ويأخذ أجره على عمله، وإن كنت تحتاجه دعه يعمل عندك. الذي يهمنا في هذا: أن بعض المؤسسات تستقدم عمالاً لدوائر حكومية -لا حاجة إلى تسميتها- ثم يؤخرون أجورهم الشهرين والثلاثة والستة أشهر، من أين سيأكل هذا العامل؟ ينبغي أن يعلم الجميع أنه سيحتال في المؤسسة التي يعمل فيها ليحصل على طعامه إما برشوة، أو باختلاس، أو بسرقة، أو بغش. بأي شيء، ما دام صاحب المؤسسة منعه الأجر، وفمه ليس مغلقاً، والمعدة ليست مسدودة، لابد أن يمضغ شيئاً، من أين يأتي به؟ يرجع إلى صاحب العمل في مؤسسته. إذاً: ينبغي مراعاة هذا الموضوع، وهذا الحديث يقضي على كل من استقدم إنساناً أو تعاقد مع إنسان أو آجر إنساناً في أي عمل كان فاستوفى عمله أنه لابد أن يوفيه أجره. وهنا ناحية شرعية في باب الفقه والعقود عند قوله: (أعط الأجير أجره -متى؟ - قبل أن يجف عرقه) ، وعرقه يأتي قبل العمل أو بعده؟ إذاً: الأجير يستحق أجره بعد أن يوفي العمل، استأجرته يبني لك بيتاً ينشر لك خشباً يفعل لك ما تريد، ليس له الحق أن يقول: أعطني أجرتي أولاً. لا؛ لأني لم أستوفِ العمل، وما يضمن لي أنك لا تهرب وتترك عملي، وتأخذ فلوسك وتذهب؟ لكن تبقى الأجرة عند المستأجر، ويستحقها الأجير بعد إتمام عمله، فإذا أتم عمله ووفاه هناك يستحق أن يقول: أعطني. وقدمنا قضية النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم واحد صاحب أجير، قدم له أجره صاعاً من شعير فتنقصه وذهب مغضباً، ثم بعد مدة جاء يطلب أجره، فوجد صاع الشعير وادياً من الغنم والإبل والبقر، قال: اذهب لذاك الوادي فما وجدته فخذه فهو أجرك. كان يحسب أنه كيس شعير أو شيء من هذا، فإذا به يجده حقاً، فرجع وقال له: أتهزأ بي لأني فقير! قال: لقد نميت لك أجرك من يوم أن ذهبت عنك فتناسل وتكاثر، فهذا أجرك. فأخذه، وقال في الحديث: (فأخذه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة) ، كل واحد من الثلاثة يدعو وتنفرج عنهم الصخرة قليلاً حتى استطاعوا أن يخرجوا. فهكذا حرصه على أجر الأجير ولو غضب وترك أجره وذهب، لا أقول له: مع السلامة. ثم يقول له: ليس لك عندي أي شيء، أعطيتك وما رضيت لا، ليست هذه مروءة، إنما عليه أن يحتفظ بأجر الأجير ويدفعه إليه، وإن نماه إليه كان فضلاً منه؛ لأن هذا الذي نمَّى صاع الشعير حتى أصبح وادياً من النعم كان من حقه أن يكون شريكاً له على سبيل المضاربة؛ لأنه أخذ مال الأجير الذي هو أجره وعمل فيه ونماه، وشركة المضاربة هي: أن يأخذ إنسان مالاً من إنسان وينميه على النصف من الربح، لكن هذا تعفف ولم يأخذ منه شيئاً، ودفع إليه كامل الأجر بنمائه. والله تعالى أعلم.

حكم الاستئجار بدون تحديد الأجرة أو العمل

حكم الاستئجار بدون تحديد الأجرة أو العمل [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استأجر أجيراً فليسمِ له أجرته) ، رواه عبد الرزاق، وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة] . هذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فهو يصدق الواقع: (من استأجر أجيراً فليسم له أجرته) ، وهو معنى قول الفقهاء: لابد من معرفة الأجر ونوع العمل. تعال اشتغل عندي اليوم. قد يظن أنه سينقل لبناً أو يكسر خشباً، وتقول له: ارفع هذا الرمل إلى السطوح وانزل. والصعود إلى السطوح مرة واحدة يقدر بعمل أربعة أضعاف على الآخر، أو يحمله حجارة: انقل هذه الحجارة إلى المكان الفلاني، والحجر يحتاج إلى نفرين ليأخذوه، فيتكلف فيه، فيظن العمل سهلاً وإذا به صعب، فكذلك الأجرة، كم الأجرة؟ لا عليك، اعمل الآن هذا لا ينبغي. وإن كان بعض العلماء يقول: يجوز استئجار الأجير بدون تحديد الأجرة على العمل، يقولون: فالأجرة يرجع فيها إلى العرف، كم عرف الناس أجرة العامل في اليوم؟ في السابق كانت عشرة ريالات للمعلم وللصبي أو العامل خمسة ريالات، المعلم البنا الذي يبني عشرة ريالات، وكانت تصرف في البيت عشرة أيام، لها قيمة، وقيمة النقد في العالم ليس في رصيده في البنك الدولي العام، ولكن في القيمة الشرائية في بلده، وكان القرص الخبز بقرشين، الآن بكم؟ صار بسبعة قروش، الريال بعشرين قرشاً، أين القرشين من سبعة؟! فقيمة الريال فيه كانت أُقة حمل الجمل بريال واحد. ومن النكت مع بعض إخواننا الشناقطة: جزار ينادي يقول: يا جملٌ بريالٌ. هل سمعتم بهذه الصيغة؟! المنادى ما يضم. قال له: يا أخي! ما هذا اللحن، قل: بريالٍ، الباء تجر. قال: إليك عني. قال: النحو كسرته. قال: لا شأن لي بنحوك، أنا أعمل بنحوي، أخشى أن يظن الزبون لما أقول: بريالٍ أني أقول: بريالين! فإعطاء الأجير حقه في وقته، وكما في الحديث: (قبل أن يجف عرقه) ، ويتعين في الأجير أن يبين له أجره، وكذلك عمله. والذين قالوا: ليس بشرط، قالوا: إن عدم تعيين الأجرة يحددها العرف. وعدم تحديد العمل استدلوا له بقصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، أؤجرك على ماذا؟ ما بين له نوع العمل الذي يستأجره فيه، قال: وما الذي سيكون عندي من عمل؟ المتبادر إلى الذهن هو رعي الغنم بدل البنات، فقالوا: العرف يحدد هذا. والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب إحياء الموات

كتاب البيوع - باب إحياء الموات جعل الله عز وجل الناس خلفاء في الأرض أمرهم بعمارتها وإحيائها، وحفظ حق من أحيا أرضاً ميتة بتحريم الاعتداء عليها. كما أن الله تعالى منع حماية الأراضي التي أحيتها مياه السيول والأمطار إلا ما كان لخيل وإبل الصدقة والجهاد في سبيل الله تعالى، حتى ولو كان الذي يحمي لنفسه سلطان المسلمين؛ لأن في ذلك إضراراً بالمسلمين. ومن مباحث إحياء الموات: التفريق بين تحجير الأراضي للاختصاص وإحيائها للامتلاك، وكذا حكم من حفر بئراً ليحيي الأرض التي حولها، وشروط إقطاع ولي الأمر الأراضي للناس بما لا يتعارض أو يتسبب في ضرر لعامة الناس.

تملك الأرض بالإعمار والإحياء في الإسلام

تملك الأرض بالإعمار والإحياء في الإسلام [عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله وعليه وسلم قال: (من عَمَّرَ أرضاً ليست لأحد؛ فهو أحق بها) ، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته، رواه البخاري] . (من عَمَّرَ أرضاً) ، أي: أحياها بالتعمير؛ لأن التعمير سواءً في السكنى بالبناء، أو في الأراضي الزراعية بالإحاطة، وهذا موجود إلى الآونة الأخيرة في المملكة، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن هذا التشريع معمولٌ به إلى اليوم، ومن سبق إلى أرض ميتة فأحياها أصبحت اختصاصاً له ويتقدم إلى المحكمة ويثبت إحياءه لها، وتنظر قضائياً، ويعطى صك تملك عليها، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى. وتعمير الأرض: هو تغيير وضعها البكر، كما يقولون عن المادة الخام: تغيرها وتطورها، فهذه الملابس التي تلبس ليست مادة خام وإنما مصنعة: أخذ الصوف عن ظهر الشاة، ثم ذهب إلى المغزل، ثم إلى المنسج ونسج، ثم إلى الخياط فهذا تطوير للمادة الخام. وكذلك لقمة الخبز التي تأكلها ليست مادة خام، بل أصلها حبة البر، زرعت، وسقيت، وحصدت، وديست، وطحنت، وعجنت، وخبزت، ثم وصلت إليك خبزاً لتأكله، فهذه التطورات تسمى: تطوير المادة الخام، وكل حركة في هذا التطوير في مقابل؛ إذ هو عمل مشروع والأجر فيه مشروع. وبذلك يرد علماء الاقتصاد على معاملات الربا: بأن المرابي يأخذ كسباً دون مقابل، بخلاف التاجر والصانع والزارع؛ فكل ما يحصل عليه في مقابل عمل داخل في تطوير المادة الخام، فإذا كانت الأرض ميتة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] يحييها بماذا؟ ليس فيها روح لتتكلم، ولكن لكي تعطي ما وجدت من أجله وهو الثمار، فهذه حياتها تعطي ثمارها وزروعها. فتعمير الأرض هو بجعلها تعطي ما وجدت من أجله وهو الزراعة والسكنى إلى غير ذلك، فمن عَمَّرَ أرضاً بالسكنى -وليس بلازم أن تكون عمارة ضخمة بل أقل ما يصدق عليه أمر السكنى- أو أحاطها بحائط ونصب خيمة داخلها، أو سكن داخل الحائط بدون خيمة فهو سكنى ويأخذ عليه حق التملك. وكذلك الأرض الزراعية: إذا حفر البئر وأتى بالماء وحرث الأرض وسقى وزرع فإنما يكون إحياء لها، ولو أنه حفر بئراً دونما زرع ولا حائط ولا غرس ولا شيء فله أربعون ذراعاً نصف قطر الدائرة، حول البئر لبهائمه ومعطناً لحيوانه يشرب ويقيل فيه. إذاً: (من عَمَّرَ) أي: جعلها عامرة، والعامر ضد الخراب، فجعلها صالحة للاستفادة منها. [قال عروة: وقضى به عمر في خلافته] . وهذا منهج يسلكه مالك رحمه الله في الموطأ، وتبعه المؤلف هنا: وهل إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا حاجة في أبي بكر وعمر؟ ليس لنا حاجة، ولكن من حيث التأليف والتمكين والبيان والإيضاح ودفع الشبه يأتي بفعل الخلفاء بعد رسول الله، لأن العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل للنسخ والإحكام، ولكن إذا استمر العمل بهذا الأمر بعد رسول الله هل يمكن أن يدعي أحد نسخه؟ لا؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر يرفع حكم نص متقدم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هناك أحد من حقه أن يورد نصاً ينسخ به حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: الحكم بتمليك الأرض بإعمارها ماض لم ينسخ، عمل به بعد رسول الله في خلافة أبي بكر وامتد العمل به إلى خلافة عمر، فهل يحق لإنسان بعد ذلك أن يقول: لا يحق لإنسان أن يتملك الأرض بالإحياء أو بالتعمير؟ لا، هذا رسول الله حكم به، وهذا العمل ماض في خلافة أبي بكر بعد رسول الله، ويمتد العمل به إلى خلافة عمر. إذاً: انتهينا من أنه حكم مشروع ثابت لم يعتره نسخ. [وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) ، رواه الثلاثة، وحسنه الترمذي وقال: روي مرسلاً، وهو كما قال] . نفس الطريق المتقدم، والمراد بميتة: لم يسبق عليها ملك لأحد. قال: [واختلف في صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، والراجح الأول] . يقول هذا تنبيهاً من ناحية السند، واصطلاح علماء الحديث: أن الحديث المرسل هو الذي لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من رسول الله، وسبق أن قرأنا في البيقونية: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط فالمرسل في اصطلاح علماء الحديث والسند: ما ذكر فيه الرواة إلى التابعي، وهو ولابد أن يكون قد أخذه عن صحابي، لكن من صحابي هذا الحديث الذي سقط من سنده؟ قيل: ابن عمر، قيل: عائشة، قيل: جابر، وهل يضرنا جهالة الصحابي؟ جهالة الصحابي الذي أسقط من السند لا تضر؛ لأن علم السند نتتبع به الرجال الذين أسند إليهم الحديث لننظر: أعدول هم فنقبل الحديث، أم غير عدول فنرده، والصحابة بإجماع المسلمين كلهم عدول ولا يفتش عنهم. إذاً: ذكر الصحابي أو لم يذكر فالأمر سواء، ولكن ما ذكر فيه الصحابي أقوى إسناداً مما لم يذكر فيه، لماذا؟ قالوا: هذا التابعي الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نضمن أن الذي أسقطه صحابي أم تابعي مثله وصحابي؛ لأن التابعي قد يروي عن قرينه تابعي آخر، ونحن الآن عرفنا هذا التابعي الذي وقف عنده الإسناد، ولا ندري التابعي الآخر؛ لأن التابعي داخل في محل البحث والنقد. وعلى كلٍ يقولون: إن المراسيل ضعاف، إلا مراسيل سعيد بن المسيب كما يقول الشافعي رحمه الله: سعيد بن المسيب إذا أرسل الحديث لا يفتش عليه؛ ولقد بحثت في مراسيل سعيد فوجدتها كلها متصلة. عرف الصحابة الذين أسقطهم سعيد بن المسيب في رواياته، إذاً انتهينا من هذا.

حكم حماية الأراضي

حكم حماية الأراضي [وعن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة الليثي أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، رواه البخاري] . الحمى أو الحريم: حماه يحميه إذا دافع عنه، وحرمه يحرمه إذا منعه من غيره؛ لأن الحرام الممنوع. جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام ومن هنا كان الحرام ضد الحلال، وحريم الرجل وأهله يمنعهم عن الآخرين، وحريم البيت يمنعه عن التعدي عليه، فالحريم بمعنى الحرام والمنع. (لا حمى) : كان بعض رؤساء القبائل والفرسان المشهورين يحمون منطقة لا يمكن لأحد أن يذهب ويرعى فيها؛ لأن فلاناً قد حماها، أي: منعها عن الآخرين، وتبقى خاصة بإبله ونعمه، فإذا جاء إنسان وتعدى كان له حق الانتقام منه. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) . إذاً: الله سبحانه وتعالى حمى المحرمات ومنعنا من ارتكابها، والملوك تحمي بعض الأماكن لخاصة نفسها، وكبار الشخصيات قد يحمون شيئاً لأنفسهم ولذويهم، فجاء الإسلام ومنع الأفراد أن يحموا شيئاً لأنفسهم؛ لأنه كما سيأتي في آخر هذا الباب، (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار) . الناس شركاء معك في هذا الكلأ، فلا تحمه لنفسك وتمنعه منهم. (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، وأين سيحمي الله لنفسه؟ الملك كله لله، لكن بمعنى لله لأنه مالك الملك، وحمى الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحمى رسول الله لله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حمى الربذة وغيرها حماها لإبل وخيل الجهاد في سبيل الله، ولإبل الصدقة، لكي تجد المرعى الذي يتوافر لها لتؤدي واجبها على أكمل وجه، وظل الحمى إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، فكان يقول لعامله: (إياي وغنم ابن عوف وفلان، وإياك وذي الصريم -الغنمة والغنيمتين- فإنه إن تهلك غنمه يأتيني ويقول: عيالي وأولادي، والمرعى أهون علي من الذهب والفضة، أعطه إياه من بيت المال، لكن ابن عوف وفلان إذا هلكت ماشيتهم رجعوا إلى تجارة عندهم وأملاك أخرى) ، فهو يحذره أن يرعى في الحمى أحد من الأغنياء؛ لأنهم في غنى عنه، ويتساهل ويسامح في صاحب الشاة والشويهة؛ لأنها رأس ماله فإن هلكت عليه هلك، وجاء لأمير المؤمنين وقال: أعطني من بيت مال المسلمين، فإن غنمي قد هلكت لأنك حميت الأرض. إذاً: كان هناك الحمى للإبل والخيل التي تعد للجهاد في سبيل الله، فإذا جاء إنسان بعد ذلك إلى أرض موات نبت فيها الكلأ عن طريق الأمطار أو السيول أو العيون أو غير ذلك، وحماه لنفسه أو لقبيلته فإن ذلك ممنوع؛ لأنه لا يكون الحمى إلا لله ولرسوله. إذاً: الحق في الحمى لرسول الله، ولكن هل بصفته صاحب النبوة والرسالة أو بصفته مسئولاً عن الأمة؟ بصفته مسئولاً عن الأمة. إذاً: من يأتي بعده ويتحمل مسئولية الأمة فله حق في هذا الحمى؛ ولذا حمى عمر وعثمان وغيرهما ممن له الحق في أن يحمي لذاك الغرض. أما لغرضه الخاص ولتنمية دوابه أو بهيمة أنعامه ويمنع الناس منه فليس ذلك لأحد أياً كان، ولو كان ولي أمر المسلمين بنفسه لكن يحميها لدواب الجهاد وما تعد للقتال في سبيل الله، ليس لنفسه إنما لله ولرسوله، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وعلاقته بالإحياء

شرح حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وعلاقته بالإحياء [وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، رواه أحمد وابن ماجة. وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ وهو مرسل] . هذا الحديث يعتبر أحد أربعة أو خمسة أحاديث يقوم عليها التشريع الإسلامي؛ لأن الشريعة بكاملها جاءت لجلب المنافع ولدفع المضار، وأنا أقول: فيه نصف التشريع؛ لأن الشريعة جاءت بجلب بما فيه نفع للمسلمين، وبدفع الضرر عنهم، ولهذا لا تجد أمراً في الشريعة إلا ويتضمن منفعة للمجتمع فرداً أو جماعة، ولا تجد نهياً إلا وهو يدفع عن الناس ضرراً. إذاً: هذا الحديث يختص بأحد القسمين، ونصف التشريع في هذا الحديث. وللعلماء في هذا الحديث شروح، فمنهم من يقول: لا تضر أحداً مطلقاً ولو كان ضاراً لك؛ لأنك إذا ضررت من ضرك كان ضراراً، وكل يسابق الآخر في مضرة صاحبه، وكل عمل يتضمن ضرراً على الشخص في نفسه أو غيره فهو منفي بالحديث، وكل مضارة بين اثنين انتقاماً لحق أو ابتداءً فهو داخل فيه، إلا أن بعض العلماء يقول: يستثنى من ذلك: الانتقام من المعتدي، لقول الله: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:194] ، مع أن الاعتداء عليه فيه إضرار به، ولكن التحقيق: أن عقوبة المتعدي ليست بضرر، بل هي منفعة له برده عن مضرة الناس، ومنفعة لمن وقع عليه الضرر بكف ضرر هذا عنه. ولا يدخل فيه الحدود: مثل قطع اليد في السرقة، فلا يأت أحد فيقول: كيف تقطع يده وأنت تقول: (لا ضرر ولا ضرار) ، وأي ضرر أكبر من قطع اليد؟ لأن فيه مصلحة؛ لأن إقامة الحد في هذا الباب ستردع الآخرين وتحمي أموالهم، وترد أولئك الظلمة المعتدين على أموال الناس خفية وظلماً. إذاً: فيه منفعة، لكن الضرر المطلق الذي لا حق فيه هو بسرقته الأولى؛ لأنه ضرر ليس في مقابل أي نفع، فالأخذ على يده وقطعها حداً، وإن كانت فيه مضرة تقع عليه لكن يتضمنها منفعة. إذاً: (لا ضرر ولا ضرار) لا يستثنى منه شيء قط، وإن كان البعض يقول: يخصص بما فيه إيلام بوجه شرعي، نقول: إن ما فيه إيلام بوجه شرعي ليس محض ضرر، بل فيه منفعة. وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان يذكر مع هذا الحديث: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه) ، ثم يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) ، قالوا: كيف تضع خشبك على حائط الجار، أليس هذا فيه مضرة، قالوا: لا، ما دام الحائط يحتمل ذلك، أما إن كان لا يحتمل فلا يحق له أن يضعه. إذا جئنا بهذا الحديث إلى الأسواق والبيوت والمعاملات وكل جانب من جوانب الحياة تجده موجوداً هناك، والمؤلف يسوقه هنا ليدلل لك على أنك إذا سبقت إلى أرض موات لتحييها وكانت إمكانياتك محدودة، فأنت تحيي بالتدريج، وقد يأتي إنسان بجوارك له إمكانيات عالية، وأنت لفت نظره إلى هذه الأرض، فيأتي وينزل ويأخذ منها فهذا ضار صاحبه، ولذا في بعض روايات الحديث: (وليس لعرق ظالم حق) وفيها ضعف، وفسره ابن عباس: بأن يأتي إنسان إلى أرض الآخر فيغرس فيها ويستثمر غرسها، فيكون العرق الذي غرسه هذا الشخص قد غرسه ظلماً. إذاً: لا يحق لإنسان أن يحيي ما فيه مضرة على أهل القرية، فلا نأتي إلى ملتقى إبلهم وبمواقف سياراتهم ونحييه، وإلى مجرى السيول وتحييه مضرة على الآخرين، ولا يأتي الإمام الذي يريد أن يحمي حمى إلى ما هو ملك للناس ويحميه، لأن هذا مضرة أيضاً؛ لأنه أخذ لملك الغير بدون حق. إذاً: لا مضرة لا في الحمى ولا في الإحياء. كذلك إذا وجدت أرضاً فضاءً ومواتاً وجاء إنسان وأحياها، وهذه الأرض تحتاج إلى سعة بجوارها تجعل جريناً للحب ونجعل وموضعاً للتمر وللمنافع عامة مجمع للأسمدة أو للتراب أو للخشب أو لجريد النخل، هذه مرافق للبستان، يأتي إنسان وينزل ويبني فيها، فليس له حق؛ لأنها مرافق للأرض والمرافق تبع للأصل (لا ضرر ولا ضرار) . وهذا يأتي أيضاً في باب الجوار، أنت في ملكك وجارك في ملكه والجدار مشترك بينكما، فلا يحق لك أن تحدث في بيتك ما يتضرر به جارك، ولا أن تنصب رحى كبيرة إذا أدرتها هزت الجدران وأضرت بجارك، ولا أن تحفر بئراً في بيتك مقابل بيت جارك يسحب ماءه، أو أن تحفر البيارة مقابل بئره الذي يشرب منه فتفسد عليه ماء البئر، لا يحق لك أن تسيء إليه بدخانك، وهكذا، كل ما يمكن أن يضر به الجار جاره يأتي هذا الحديث ويخاصمه: (لا ضرر ولا ضرار) .

الفرق بين التحجير والإحياء

الفرق بين التحجير والإحياء [وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له) ، رواه أبو داود، وصححه ابن الجارود] . يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث وما بعده ليبين مجمل ما تقدم من حديث الإحياء، وبم تكون حياة الأرض الموات، وكما في رواية مالك في الموطأ: (من عَمَّرَ مواتاًً فهو له) ، فبم تكون عمارة الموات؟ جاء هنا بشيء من التفصيل، فقال: (من أحاط) ، والإحاطة والشمول من الحائط الذي يحيط بالأرض، وهو الجدار الذي يسمى بالسور، فإذا ما أحاط إنسان أرضاً بحائط مبني فقد أحياها. وتحت هذا الحديث يفصل العلماء بين الإحياء والتحجير؛ لأن التحجير كما يقال: بالحجرة، يقال في حجر إسماعيل: إنهم لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، فقصروا البناء على جهة الركنين اليماني والحجر الأسود، وما بقي من مساحة البيت حجروا عليه ببناء حجر إسماعيل حتى لا يضيع في المسجد، ويكون الطواف من وراء الحجر ليشمل شوط البيت كاملاً بناءه وما بقي من أرضه. ولذا لما طلبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، أخذ بيدها وأدخلها حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا؛ فإنه من البيت، والتحقيق عند العلماء: أن الحجر يزيد عن مساحة البيت بأشبار، وأن ذرعة الحجر من جدار الكعبة إلى الجهة الأخرى ستة أذرع. فالإحاطة بناء الحائط عن الأرض سواءً كان للسكنى أو للزراعة. وفرق بين التحجير والإحياء: أن الإحياء يُمَلِّك، والتحجير يخصص، بمعنى: أن من حجر أرضاً فهو يختص بها وأحق بها من غيره، ولكن لا يملَّك بذلك، وبعضهم يقول: يعطى مهلة ثلاث سنوات؛ فإن أحيا تملك وإن لم يحي يقال له: ارفع يدك ليحييه غيرك، ثم يختلفون في نوع التحجير من الإحياء في بناء الحائط، فالبعض يعتبر بناء الحائط من الإحياء، والبعض يقول: التحجير: هو أن يحيط الأرض برصف من الحجارة. والبادية أو أهل الخلاء بعيداً عن المدن يسمون ذلك ظفير، والظفير: هو رص الحجارة مشتبكة بدون بناء بارتفاع نصف متر إلى متر حول الأرض. هذا الظفير يعتبرونه تحجيراً، وهذا في الأراضي التي تسقى بماء المطر، والجمهور الذين يقولون بإحياء الموات لا يعتبرون الأرض التي تسقى بماء المطر وتزرع عليه محياة؛ لأن إحياءها متوقف على نزول المطر وقد يتأخر، ولا يتأتى غرس على ذلك، إنما هي زراعة موسمية، وحينما يأتي المطر وينصرف عن الأرض تكون بعلية، وإذا تشبعت الأرض بالماء يضع البذرة فيها فتنبت على ثرى الأرض المشبعة بالماء، أو تشرب من مجرى السيول. وفي بعض البلاد يسوق الله سبحانه وتعالى السيل للقرية فتسقي أراضيها على سبيل المناوبة، أعالي السيل يسقي ثم ينزل ويفيض على من بأسفلها، ورأيت هذا النظام متقناً في سامطة حيث التربة هناك خصبة، فبعد أن يجف الماء في الأراضي يتركه صاحبها إلى ارتفاع لا يقل عن نصف متر، ثم يفيض إلى من بعده، وهكذا إلى من بعده إلى أن يسقي الجميع، فإذا ما شربت الأرض الماء جاء وأخذ البذر ووضعه في تلك التربة المشبعة بالماء، ويسميه الفلاح زراعة بعلية، وهذا أجود ما يكون إذا كانت التربة خصبة. وقد أخبروني هناك بأن الزراعة البعلية مثل الذرة تحصد مرتين، المرة الأولى التي وضع بذرها تأتي وتحصد، ثم ينبت الشفير وهو النبات الصغير من الجذور التي في الأرض وتؤتي محصولاً ثانياً على إثر ذلك الماء الذي أتى به السيل، هذه الأرض التي تزرع بهذه الحالة لا تُمَلَّك، ولكنهم من قديم الزمان توارثوها، وأخذ كل القطعة التي تحت يده من أب عن جد وتوارثوا على ذلك وتواطئوا عليه، فلا يعتدي أحد على أرض أحد. فهل الحائط إحياء يستوجب التمليك أم أنه تحجير يجعل لصاحبه اختصاصاً على غيره، فلا يحق لأحد أن يعتدي عليه وإلا كان صاحب عرق ظالم، وكما جاء عن مالك فيما نقله عنه ابن عبد البر: أن العرق الظالم هو: إما حفر: يحفر بئراً، أو غرس: يغرس نخلاً أو شجراً، وإما زرع وبناء، فهذا هو الظلم الذي لا حق لعرقه فيه، ويجب عليه أن يزيل ما أنشأ. ويقول ابن عبد البر: يفعلون ذلك ليتملكون الأرض، والحال أنها مملوكه للغير. إذاً: من أحاط أرضاً فهي له بالتحجير أو بالتمليك، على هذا التفصيل. أما من لم ير التحجير إحياء، فقال: هذا تحجير ويعطى المهلة حسب العرف، والبعض يقول: ثلاث سنوات، إن أحيا وزرع وغرس وحفر بئراً يكون ضامناً لسقيها. فهذا إحياء، وإن لم يحفر بئراً ولم يغرس ولم يحي، قيل له: إما أن تحيي ما حجرت أو ترفع يدك ولا تحجر الأرض على غيرك ممن يستطيع أن يحييها. وكما جاء عند ابن عبد البر: (من أحيا أرضاً مواتاً فله أجره) ، يؤجر على ذلك لما قيل: إن الفلاح يؤجر على غرسه وزرعه لما يحدث من ذلك من إطعام جائع ومسكين، وشرب الحيوانات، وأكل الطيور، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والعوادي صدقة) ، يعني: أن ما طرأ على الزرع من اعتداء غير مقصود من بني آدم، وما سقط وأكله الطير أو الوحش الطارف الذي يمر به، أو الضيف كل ذلك صدقة لصاحب الزرع. وهكذا يكون الإحياء مصلحة دنيوية وأخروية؛ لأنه استثمار للأرض الموات، وجلب النفع له ولبني الإنسان والحيوان.

أحكام إحياء الموات بحفر الآبار

أحكام إحياء الموات بحفر الآبار [وعن عبد الله بن مغفل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً عطناً لماشيته) رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف] . إذا كانت إحاطة الأرض إحياء على من يقول بأن الإحاطة إحياء، أو اختصاص على قول من يرى أن التحجير اختصاص، فيأتي بنوع آخر من أنواع الإحياء، وهو: حفر البئر، وبعض الفقهاء يقول: وإجراء النهر، إذا كان هناك مسيل دائم، أو نهر، أو عين فوارة عامة، وجاء واحتفر بئراً من هذا السيل، أو أجرى عيناً إلى أرض موات يزرع عليها، فهذا إحياء؛ لأن مجيء الماء إلى الأرض الموات ليسقيها ويزرع عليه فيه دوام للحياة، بخلاف التي تزرع على الأمطار، والتي تسمى بعلية؛ لأن صاحب البعلية قد يتركها ويأتي فيما بعد ويزرع بعلية أيضاً وهكذا، أما صاحب البئر فلا يتركه. (من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً) الذراع قسمان: ذراع باليد، وذراع اصطلاحي، وهو الذي يسمى الذراع المعماري، والعرف عند الناس أن الذراع المعماري خمسة وسبعون سنتيمتراً، والآخر يعدل اليد من المرفق إلى آخر الأصابع، وقد يستعمل هذا في قياس القماش ونحوه، ويستعمل ذاك في قياس الأراضي والعقار إلى غير ذلك حسب العرف المتبع. (من حفر بئراً) ، أي: واستنبط ماءه، أما إذا حفره ولم يحصل منه على ماء فليس له شيء؛ لأنه يتركه عجزاً عن الوصول إلى الماء، ولو حفر مائتي متر، وقد يوجد في بعض البقاع على بُعد مترين فقط ويحصل على الماء، وهذا بحسب اختلاف التربة، وحسب اختلاف المياه، فالبلاد ذوات الأنهار التي تجري دائماً تكون الأرض فيها مشبعة بالماء بما يتسرب من الأنهار تحت الأرض، إلى غير ذلك من أنواع التربة وقرب الماء وبعده. (من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً) : الأربعون ذراعاً تكون قطر الدائرة للبئرِ. وأحمد رحمه الله يقول: له خمسة وعشرون ذراعاً، وهو يقول بذلك مستنداً إلى رواية أخرى فيها خمسة وعشرون، وهم كلهم متفقون على أن الآبار قسمين: بئر عادية، وبئر محدثة. والبئر العادية: أي: القديمة، نسبة إلى عاد، والعرب تنسب كل قديم إلى عاد؛ لأنها كانت قوية ومضى عليها زمن بعيد؛ فينسب كل ما كان بعيد التاريخ أنه من عاد، وهكذا كما يقولون: عبقري، نسبة إلى وادي عبقر؛ لأن العرب تزعم بأن وادي عبقر هو مسكن الجن، والجن أصحاب الأفكار أو الرؤى البعيدة، فينسبون كل ذكي إلى وادي عبقر، فيقولون: فلان عبقري، فهنا البئر العادية، أي: القديمة. والقديمة هذه ما شأنها؟ تكون موجودة من قديم، ثم إن السيل والهوام وعوامل التعرية طمستها واختفى ماؤها، فيأتي إنسان ويجدد حفرها ويخرج منها الفضلات حتى يصل إلى مائها، فهو أحياها بذلك، فهذه العادية لها خمسون ذراعاً، أما الجديدة المستحدثة -كما يقال: البئر الإسلامية- التي احتفرها أهل الإسلام فهذا الحديث يقول: لها أربعون ذراعاً، لماذا تكون دائرة قطرها أربعون ذراعاً؟ حتى تكون معطناً لإبله، تسرح وتطلب المرعى وتبعد اليوم واليومين وترجع بعد الثلاث والأربعة الأيام ما شربت ثم يوردها صاحبها على بئره هذا، فلابد لها من مكان يجمعها وبروكها وعطنها إلى أن تشرب وتنزح عن البئر. فمن حفر بئراً أحياها، وأعطي أربعون ذراعاً كحريم للأرض، وإن كانت قديمة وجدد إحياءها فلها خمسون ذراعاً؛ لأن العادة في القديمة أن يكون ورادها أكثر، وعلى هذا من حفر بئراً استحق ملكها وملك حريمها معها. أما إذا كان في وسط قرية والأملاك متواصلة ومتحادة ويفصل بعضها عن بعض بما لا يزيد عن ذراع أو نصف ذراع، فحفر بئراً في ملكه فلا يتعدى ملكه شبراً واحداً؛ لأن ما حوله هو أملاك سابقة، فلا يتملك ملك الغير بحفر بئر في أرضه، حتى لو وجدت أرضاً فارغة وسط أراضي القرية وكانت مساحتها عشرة أذرع فقط فليست لك إلا هذه المساحة، ولا يتجاوز الأرض الفضاء ويتعدى بحفر البئر إلى أراضي الآخرين. ومن أنواع الإحياء أيضاً: أن يجري الماء ببئر أو نهر أو عين ثم يغرس على هذا الماء، والغرس الثابت من عوامل الإحياء، يغرس نخلاً أو ليموناً أو عنباً أو أي شجر مثمر فهو إحياء، وهنا في الغرس لا تحديد عليه، لا يقال: أربعون أو خمسون بل بقدر ما يستطيع من غرس الأرض ما لم يتعد ملك الغير، فإذا كانت هناك أراضي محياة ويمتلكها أشخاص آخرون وجاء إنسان ليحيي أرضاً بجوارهم فليس له أن يتعدى عليهم، كما تقدم: (وليس لعرق ظالم حق) ، بأن يجد إنساناً كان متحجراً أرضاً، فبدأ يحيي فأحيا جانباً وبقي جانب آخر، فجاء إنسان ليحيي بجواره، لا يحق له أن يتجاوز أرضه إلى الجزء الباقي في التحجير لغيره؛ لأنه من اختصاص الغير، وهكذا الغرس والزراعة ونحو ذلك ليس فيها تحديد، فإذا عجز عن إحياء ما حجره فعلى الإمام أو ولي الأمر أن ينذره: إما أن تحيي وإما أن ترفع يدك. إذاً: من أنواع الإحياء، بناء الحائط، حفر البئر، غرس الشجر، بناء البيت للسكنى بأقل ما يمكن أن يقال عنه سكن، فلو أنه جاء داخل هذا الحائط وبنى غرفة يمكن أن يسكنها بقدر ذلك ولو لم يوجد فيها مرافق السكن العادية من دورة مياه أو مطبخ، فلا بأس؛ لأن العرب وعامة الناس في البادية لا يألفون ذلك، بل إنهم يأنفون أن يجعلوا دورة المياه معهم في سكناهم. وفي أول الإسلام كان النسوة يخرجن بالليل إلى الخلاء، ويستأنفون أن يجعلوا ذلك في بيوتهم استئنافاً واستقذاراً، ثم بعد أن كثر الناس وشاع أمر خروج النسوة اتخذن بيوت الخلاء في بيوتهن، وألفوا ذلك وتغير الوضع. فإذا بنى في هذا الحائط غرفة واحدة أو ما يصلح لسكناه ويعتبر سكناً وافياً بالنسبة إليه، فيكون ذلك إحياء يتملك به.

إقطاع السلطان للأراضي وشروط ذلك

إقطاع السلطان للأراضي وشروط ذلك [وعن علقمة بن وائل،عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت) رواه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان] . هنا بجانب الإحياء يذكر الإقطاع، والإقطاع هو: أن يمنح السلطان شخصاً من الناس قطعة من الأرض، هذه القطعة التي أقطعها السلطان لفرد من الأمة، هل يكون ذلك تمليكاً أو اختصاصاً؟ الجمهور على أنه تمليك، والآخرون يقولون: اختصاص، فلا يحق له أن يبيعها؛ لأنه أقطعه إياها إرفاقاً به لينتفع بها، والإقطاع على نوعين: النوع الأول: أن يقطعه أرضاً يحييها ويغرسها ويستفيد بها، ويتملكها وتورث عنه. النوع الثاني: يقطعه ثمرة أرض محياة، أو قرية يقطعه زكاتها، فيقول له: أقطعتك زكاة القرية الفلانية فهو لك، فيذهب ويأخذ زكاة زروعهم وأموالهم ويكون له، وهذا عارض فيه كثير من العلماء؛ لأن الزكاة لأصناف معينة؛ فلا يحق للإمام أن يخصها بشخص. وقد وجدنا في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الفقير أو الذي لزمته كفارة أو ما شابه إلى أناس ليأخذ صدقاتهم من باب حاجته إليها، ولكن يقال: هذا في حاجة، وهذا أرسله لفقره أو للحوق الدين به، فهو من مصارف الزكاة، لكن يأتي لشريف من الأشراف، أو لأمير من الأمراء ويقطعه زكاة قرية بكاملها لينتفع بها أو يتملك أو يترفه؛ فهذا ممنوع عليه. وقد نبه الصنعاني في شرح هذا الحديث: أنه كان هناك إقطاع في اليمن تأسف وتحسر عليه؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة. إذاً: للأمير أن يقطع شخصاً، ولكن أين يقطعه؟ يشترط في الأرض التي تقطع للفرد: أن تكون من الموات، ولا يحق له أن يقطعه ما كان من مصلحة المواطن، أو اختصاصه، أو منفعة القرية، وتقدم الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ لأن السلطان إذا أراد أن ينفع إنساناً لا يكون ذلك على حساب مضرة الآخرين، ولا يملكه ملك الآخرين، إنما يقطعه مما يملك. وهناك حديث: (موات الأرض لله، وأنتم عباد الله) ؛ فالرسول الله صلى الله عليه وسلم نبه على أن موات الأرض لله والملك كله لله، وولي الأمر يتصرف باسم الله في ملك الله مع عباد الله، فلا يظلم أحداً من أجل أحد آخر، فلا يحق لولي الأمر أن يقطع إنساناً ما يمنع إحياءه من الآخرين، ولا يحق له أن يقطع مجرى الوادي لأنه مصلحة للأمة، ولا عيناً فوارة تسقي ما حولها، ولا مرافق القرية، ولا ما فيه طريق المسلمين، وهكذا. قاعدة: ما يمنع الفرد من إحيائه يمتنع على ولي الأمر إقطاعه. وقد جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع إنساناً أرضاً كانت يستخرج منها الملح الحجري، فقيل: يا رسول الله! أتدري ماذا أقطعت؟ قال: لا، قال: أقطعته ما فيه إرفاق بالمسلمين) ، فاسترجعه من صاحبه؛ لأنه لا يحق لولي الأمر أن يقطع ما فيه مصلحة أو منفعة عامة لجميع الناس فيخص بها إنساناً. وكذلك مواضع المعادن: إذا كان هناك معدن من ذهب أو فضة أو كبريت أو ملح أو غير ذلك فهو حق للأمة، لا يجوز إقطاعه لفرد.

سنة النبي في إقطاع الأراضي

سنة النبي في إقطاع الأراضي [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه حيث بلغ السوط) رواه أبو داود، وفيه ضعف] . الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير، والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أجلا بني قريظة أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه، يعني: الفرس يأخذ شوطاً للنزهة، فلما أقام الفرس وفق ما اكتفى بهذا رمى بسوطه، (لو أن لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى الثاني) ، لو أن له حضر فرس لتمنى فرساً آخر، لكن حرص الإنسان سجية فطر عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوه حيث بلغ السوط) ، ليس عند موقف الفرس، لا؛ لأن هذا تابع لذاك. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع أرضاً معروفة إلى الآن بأرض الزبير، وهي: ما وراء بئر عثمان رضي الله تعالى عنه. إذاً: هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يجوز لأحد بعد النبي أن يقطع أحداً؟ قالوا: نعم، لولي الأمر أن يقطع من يراه صالحاً لذلك وفيه مورد للمسلمين، يعني: مساعدة إليهم، فإذا كان الأمر كذلك فعلى ما تقدم، ويكون ولي الأمر بعد رسول الله له أن يقطع بعض المسلمين بعض الأراضي، لكني ما وقفت على إقطاع لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا لغيره كما فعل صلى الله عليه وسلم، كما وقفنا على ما صدر من عمر أنه حمى لإبل الصدقة، واعتذر للناس وقال: (والله لولا إبل الصدقة ما حميت على الناس شبراً؛ لأنهم يرونها أرضهم كانت بأيديهم قبل الإسلام وقاتلوا عليها وأسلموا عليها، فيرونني قد اغتصبتها، ووالله لولا إبل الصدقة ما حميت عليهم شبراً واحداً) . إذاً: الحمى لإبل الصدقة من شأن ولي الأمر، والإقطاع لبعض الأفراد من شأن ولي الأمر، والله تعالى أعلم.

اشتراك الناس في الماء والكلأ والأرض المباحة

اشتراك الناس في الماء والكلأ والأرض المباحة [وعن رجل من الصحابة رضي الله عنه قال: غدوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنار) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات] . (وعن رجل) رجل هذه نكرة، وأي الرجال؟ فإنه كما يقولون: النكرة تعم بالبدل، هذا رجل، هذا رجل، وهكذا تطلق على كل ذكر من بني الإنسان، (رجل من) خصص عموم رجل من بني الإنسان بصحابي بهذا الوصف، فهذا الوصف قيد في النكرة يخصصه عمومها. بقي من هو من الصحابة؟ لا علينا إذا لم نعرف من هو ولا اسمه؛ لأنه ما دامت ثبتت له الصحبة فهو مأمون ولا نبحث عنه؛ لأن الصحابة ليسوا خاضعين للنقد وللتفتيش وللتجريح والتوثيق؛ فهم موثقون عدول بطبيعة الصحبة. قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: الناس) والناس من ناس ينوس إذا تحرك، يشمل كل إنسان، (شركاء في ثلاثة) شركاء بدون تخصيص أو تمييز، وهي: (الماء، والكلأ، والنار) . يقول بعض العلماء: هذه الثلاث هي أصل قوام الحياة؛ لأن الماء: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ، والكلأ للدواب ورعيها، والإنسان لا يستغني عن بهيمة الأنعام، والنار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، لا تمكن حياة بدون نار، لا نضج طعام ولا حتى صناعة؛ لأن إذابة الحديد وتصنيع المعادن لابد لها من النار. هذه الأمور الثلاثة هي قوام الحياة، ولكن أي المياه وأي الكلأ وأي النيران التي تكون فيها الشراكة.

توضيح كيفية اشتراك الناس في الكلأ والماء والنار

توضيح كيفية اشتراك الناس في الكلأ والماء والنار أولاً: الكلأ: هل هو ما تنبته الأرض وكان رطباً، والخلاء ما كان يابساً، والعشب يجمع بين الأمرين، أو غير ذلك، وتدور بين العشب والكلأ والخلاء فيشمل الرطب واليابس؟ وما هو المراد بالنار: حقيقة النار المشتعلة أو وقود النار من حطب ونحوه؟ وما المراد بالماء: الماء في القربة، أو في المسيل أو في النهر؟ بعض الناس استغل هذا الحديث بما أساء إلى المجتمعات، وجعله دليلاً على الاشتراكية، واستدل به على تشريك من لا يملك شيئاً منها لمن يملك من ذلك، والغرض في هذا الحديث: أن التشريك إنما يكون في العام الذي لا خصوصية لأحد فيه، فالمراد بالماء هنا الماء في النهر الجاري، الماء في مجرى السيول، العين الفوارة التي لا تختص بأحد، فكل إنسان شريك فيه يأتي إلى النهر فيأخذ ما يريد، يأتي إلى مجرى السيل فيأخذ ما يحتاج، وهكذا ماء العين. أما إذا ذهب إنسان وملأ قربته أو خزانه بالماء في الوقت الحاضر، فليس لأحد شراكة في هذا الماء الذي حازه بعض الأشخاص، أخذت الماء إلى بيتك هل يدخل جارك ويأخذ من هذا الماء ويقول: نحن شركاء فيه؟ لا، لأنك حزته. اذهب وخذ حيث أخذت أنا وغيري، فإذا حازه إنسان إلى نفسه فقد أصبح ملكاً له وليس لأحد شراكة فيه. وأما الكلأ فهو النبات الذي ينبت في الأرض الموات وليس في أرض مملوكة لإنسان، فما كان في أرض مملوكة لإنسان فصاحب الأرض أحق به، ولا يجوز لأحد أن يحتشه إلا بإذنه، أو يدخل ملك غيره يرعى بغنمه إلا بإذنه، أما الذي في بطون الأودية، وظهور الصحاري، والأراضي الموات، فكل مشترك فيه، يذهب الكل ويرعى بغنمه أو يحتش ويأخذ لما عنده في بيته من بهيمة الأنعام. والنار قيل: المراد بلهبها يستضيء به كل إنسان، أو يستدفئ عليه، أو يأخذ قبساً منها ليوقد ناره، لا أن يأتي لإنسان جمع حطباً وأوقد ناراً لينضج عجينه خبزاً أو إدامه طعاماً، فيزيل قدره عنه ويأخذ قسماً من النار إلى نفسه، ويقول: أنا شريكك في النار، فيقال: لا. وقيل: شركاء في أصل النار وهو الحطب وقوداً لها، فالناس يحتطبون الحطب من الجبال وسفوحها، ومن الخلاء والصحاري وهم شركاء، يخرج الحطابون كلاً بفأسه وحبله، ومن يسبق إلى شجر يابس فيقطع ويجمع فهو له، لكن بعد أن حزم الحطب وجمعه وذهب به إلى بيته هل يأتي جاره ويقول: أنا شريكك في هذا الحطب؟ لا. لأنه اختص به بعمله وبجهده.

نقض مذهب الاشتراكية

نقض مذهب الاشتراكية في سنة من السنوات في موسم الحج، كان شخص له ضلع كبير جداً في عمل الاشتراكية، وحصلت هناك بعض المناقشات وتساءلت من يكون؟! وكانت هناك أمور كما يقال شخصية أو سياسية، وكان الرجل فيه عنصر خير، فذهب وجاء بشيء من الخبز والملح والماء، وقال: أريد أن تأكل معي ليكون بيننا ارتباط بالعيش والملح، فقلت: كلنا إن شاء الله عندنا ارتباط بالإسلام قبل العيش والملح، ماذا عندك؟ قال: سألتك بالله -تأملوا هذا يا إخوان- الاشتراكية من الإسلام أو ليست منه؟ قلت له: ما ثقافتك أولاً وما عملك؟ فعرفت أن له ضلعاً كبيراً في عمل الاشتراكيات ودرس حقوق، قلت له: أنت رجل عاقل ومتعلم، وسترجع إلى بلدك سل جميع العلماء: كلمة (اشتراكية) هل توجد في مصدر من مصادر الشريعة، حديث فقه تفسير أم لا؟ لا، لن تجدها في كتب التفاسير، ولا في كتب شراح الحديث، ولا في كتب الفقه، فضرب صدغيه، وقال: ومن أين جاءوا بها؟ قلت: سلهم وأنت أعلم، ثم قلت له: لعلك درست التاريخ والقانون الوضعي، ومن أصول القانون الوضعي: أنه إذا لم يوجد في القانون نص على مسألة أخذ حكمها من الشريعة الإسلامية، فهل وجدت في القانون مصدراً إسلامياً عن الاشتراكية؟ قال: لا، قلت: اذهب واسأل؛ فإذا أخبرك واحد عن موضع ومرجع واحد فأخبرني، ولك ما سميت من الجائزة. فأخذ الرجل يبكي وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما بال العلماء يسكتون؟ قلت له: من المشانق التي نصبتموها، ثم كانت أشياء كثيرة بيني وبينه، فقال: أعاهدك، قلت: على ماذا؟ قال: أني إذا رجعت سآخذ المصحف معي من المدينة، قلت: المصاحف تأتينا من بلادكم، فخذها من هناك، قلت: ولماذا؟ قال: لأحفظ أبنائي كتاب الله، فلقد حفظتهم كتاب الميثاق، وسوف أحفظهم كتاب الله من المصحف كما حفظتهم الميثاق، وقال: جزاك الله خيراً. ثم قلت له: أنت درست التاريخ الإسلامي كمادة، فهل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان بن عفان جهز جيش العسرة؟ وأن عبد الرحمن بن عوف تصدق بقافلة بما تحمل من مواد التجارة وما فيها من عبيد وإبل في سبيل الله؟ وكان هناك أبو هريرة يصرع من الجوع في المسجد، وقال: كنتم تشتغلون بالصفقات والزراعة، وأتبع رسول الله على ملء بطني، فهل أخذ رسول الله من عثمان شيئاً يعطيه لـ أبي هريرة ليقيم صلبه؟ قال: لا. بل الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل من الدنيا بكاملها ودرعه مرهونة عند يهودي في آصع من شعير، فهل أخذ من ابن عوف أو عثمان أو غيره لنفسه ولبيته؟ قال: لا، قلت: إذاً: ما لم يكن في ذلك الصدر وفي ذلك التاريخ المبارك النير هل يكون في هذا الوقت؟! ما كان لنا أن نتكلم في هذا الموضوع وقد انتهت الشيوعية وتقوضت أركانها بحمد الله، وعرف الناس الحق، وهم يرجعون الآن عن الباطل تدريجياً إلا لمرور هذا الحديث، لأنه كان عدتهم. ثم قلت له: أنتم تناقضون مبدأكم الآن، قال: لماذا؟ قلت: الماء الذي تدخلونه في العمارات الناس فيه شركاء، وأنتم تضعون عداداً باللتر أو المتر المكعب وتأخذونها وتبيعونها عليهم، تيار الكهرباء الذي يدخل البيوت ويشغل الأجهزة، أليست هذه نار وطاقة أو هل جعلتموهم شركاء فيها أو جعلتم عدادات تعد بالإمبير وتأخذون القيمة؟ إذاً: ناقضتم أنفسكم. إذاً: يا إخوان نحن وللأسف تعرضنا لهذه النواحي وإن كانت قد انتهت، لكن لنبين زيف ما كانوا يتمسكون به، ولنبين لإخواننا الذين يغترون بمقالات الآخرين بأن الشركة في هذه الثلاث إنما هي حينما تكون عامة، أما بعد الاختصاص فلا دخل لأحد فيما عند الآخر، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الوقف

كتاب البيوع - باب الوقف هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من خصال بينتها الشريعة؛ ليحرص الناس عليها، ومن ذلك الوقف، وفيه أحكام كثيرة، ومسائل عديدة، ينبغي الإلمام بها.

شرح حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله.

شرح حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله ... )

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) . رواه مسلم] . أنبه الإخوان إلى نماذج نعيش في كنفها وظلها، إذا نظرنا إلى السيوطي، والسخاوي وغيرهما من العلماء، نجد مؤلفاتهم بالمئات، فهم انتقلوا إلى رحمة الله، والناس يستفيدون من علومهم إلى الآن، وهذا النووي له شرح مسلم والمجموع وغيرهما، وكأنه يعيش معنا، وابن حجر ألف هذا الكتاب، ونحن نعيش معه في تأليفه خطوة خطوة، ووالدنا الشيخ الأمين له أضواء البيان، وأصبح يتداول عالمياً، ويطبع عدة مرات شرعية وغير شريعة بغير إذن أولاده ومستحقيه، وهذا يدل فعلاً على مكانة العلم وانتفاع صاحبه به إلى اليوم. مالك رحمه الله إمام دار الهجرة أتاه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، وقال: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ومنك، أما أنا فشغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وتجنب عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس، قال: فعلمني التأليف ذلك الوقت، فألف الموطأ ثم قرأه عليه، واستمعه منه، وقيل: إنه هارون الرشيد، فقال: يا مالك! ائذن لي أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأنسخ منه نسخاً أبعثها إلى الأمصار ليأخذوا به، ويتركوا كل ما عداه، يعني: نوحد العالم الإسلامي على الموطأ. فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟! قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وأخذ كل قطر بما جاءه من الصحابة الذين وفدوا إليه، فعملوا بما وصلهم عن أولئك الصحابة الكرام، والصحابة قد يختلفون في روايات الحديث، فتحويل الناس عما هم عليه صعب، أي: ما داموا قد أخذوا عن أصحاب رسول الله، وأصحاب رسول الله أخذوا عن رسول الله، فهم على حق، وتغييرك مذهبهم ولو إلى حق مثله صعب. ونحن نتساءل الآن: أين خلافة أبي جعفر؟ ذهبت في أدراج السياسة، أما مالك فموطأه يعمر العالم، ويتدارسه العالم، ويستفيد منه العالم، فما أعظم العلم الذي ينتفع به من الموطأ، وبالمقارنة بينه وبين خليفة المسلمين نجد الفارق عظيماً جداً، الخلافة انتهت بموت الخليفة، وقد يقتل في سبيلها عند تغير الأحداث، ولكن العالم علمه ينتشر، ويكون كالطائر الذي يحلق مدى الحياة، وكمطلع الشمس ومغربها، فبقي الموطأ في أيدي المسلمين، يستفيدون منه، ويسابقون إلى دراسته وتعلمه، ولا شك أن هذا الأثر من العلم الذي ينتفع به، فيستمر ثوابه يصل إلى مالك إلى ما شاء الله.

معنى قوله: (ولد صالح يدعو له)

معنى قوله: (ولد صالح يدعو له) قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، الولد في اللغة يشمل الذكر والأنثى، والابن يختص بالذكر ويقابله البنت، قال الله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، ثم بيّن الأولاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فشمل الأولاد الذكور والإناث. إذاً: ابن صالح أو بنت صالحة يدعوان له، وقالوا: الولد الصالح جزء من كسب الرجل، فالذين ينفون وصول عمل الغير للميت يقولون: الولد امتداد لحياة أبيه؛ لأنه جزءٌ منه، ولكن قوله: (ولد صالح) لتقرير الحال والأولوية، وإلا فكل مسلم يدعو لأي مسلم فإن دعاءه نافع له، ويشرع أن نصلي على الجنائز وإن لم نعرف أصحابها، وأُمرنا أن ندعو لهم؛ لأن صلاة الجنازة إنما هي دعاء، فقوله: (ولد صالح) هو لبيان الأقرب والأولى، ولكنه يشمل جميع المسلمين، فيشرع أن يدعو بعضهم لبعض، ومن أفضل الأعمال دعاؤك لأخيك بظهر الغيب.

صلاح الأولاد

صلاح الأولاد صلاح الولد هبة من الله، وليس بحزم أو عزم الوالد، ولكن هذا سبب، فهذا نوح عليه السلام مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يهتد ولده: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43] ، فما استطاع نوح أن يهدي ولده ليكون معه في السفينة، فلا والد يهدي ولده، ولا ولد يهدي والده، هذا إبراهيم عليه السلام كم قال لأبيه: (يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ) ، (يَا أَبَتِ) فقال له: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] . وهكذا امرأة نوح وامرأة لوط، زوجها نبي وما أغنى عن زوجته شيئاً. فالصلاح هبة من الله، والإنسان مكلف بالتأديب والقيام بالواجب، أما خلق الهدى والتوفيق في قلب الولد فهذا بيد الله، وقد قال الله في سيد الخلق: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ، وأما قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فقالوا: إن إثبات الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هو هداية البيان، كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، يعني علمناهم وبينا لهم، ولكنهم تركوا ما بينا، وذهبوا إلى غيره. والرسول صلى الله عليه وسلم أنذر أبا جهل وأنذر عمر بن الخطاب، وكان يقول: (اللهم! أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك) فهدى الله عمر إلى الهداية القلبية والاستقامة الحقيقية، ولم يهد أبا جهل، وكلاهما كان يسمع القرآن، والرسول كان يدعو الجميع، وليس عمر بأعقل من أبي جهل، وقد كان يقال له: أبو الحكم، فعقولهما متساوية، وأفهامهما متعادلة، ولكن التوفيق بيد الله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، فالأمر بيد الله، ونحن لا نملك في صلاح الأولاد إلا التأديب والرعاية إلى أن يبلغ سن التكليف، ثم ترفع يدك عنه، ولا تملك إلا خالص الدعاء، فإن استجاب الله فالحمد لله، وإن لم يستجب فهذا حكمه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . والولد هبة ونعمة، قال الله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى:49-50] ، وكون الولد صالحاً هبة أخرى، ونجد أن الخضر عليه السلام قتل الولد حفظاً على صلاح الأبوين، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81] . إذاً: صلاح الأولاد هبة من الله، والأمور الظاهرية التي كلفنا بها هي الرعاية والتأديب، ويشترك في تربية الأولاد والتأثير عليهم مع الأبوين: المجتمع والمدرسة والمسجد ثم بعد ذلك السلطان؛ لأنه هو الذي له الولاية على الولد إذا دخل في سن التكليف. فمن رزق بولد فليحمد الله، وليسأل الله أن يجعله صالحاً، فإذا صلح الولد كان نعمة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، وإلحاق الذرية بالآباء يوم القيامة هبة من الله، وهو مما يستدل به على استفادة الميت بعمل غيره؛ لأن الذرية ما عملت شيئاً بعد الموت، وألحقها الله بآبائهم لتقر عين الآباء، إكراماً للآباء، وليس من أجل الأبناء، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ، أي: ما أنقصنا عمل الآباء مقابل مجيء الأولاد عندهم، فإلحاق الذرية بالآباء فضل من الله مع بقاء أجر الآباء كاملاً. نسأل الله أن يصلح أولادنا وأولاد المسلمين! ونسأل الله أن يأخذ بنواصيهم إلى الحق! ونسأل الله أن يوفقهم وأن يهديهم، وأن يصلحهم في أمر الدنيا والآخرة! هذا، وإن من صلاح الولد أن يدعو لأبيه، فإذا لم يكن صالحاً فإنه لا يدعو له، بل قد يدعو عليه!

الخلق الحسن سبب للدعاء لصاحبه بعد موته

الخلق الحسن سبب للدعاء لصاحبه بعد موته الدعاء ينفع الميت من أخ صالح، أو من زوج صالح، أو من صديق صالح، ومن أي مسلم كان سواء كانت له صلة بالميت أو لا صلة له به إلا بالإسلام، وفي الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه) ، فدعاء الولد لوالده من كسبه، فماذا عن الآخرين؟ إذا مات شخص فإنه كان في الدنيا مع الناس على أحد رجلين: إما أنه كان محسناً معه إليه، فإنه سيدعو له بعد موته لإحسانه إليه في الدنيا، وما الموجب الذي سيجعله يدعو له؟ إحسانه إليه، وقد يموت إنسان فيدعو عليه آخر، فما السبب؟ إساءة معاملته، كما أن الذي يدعو له إنما هو بسبب حسن معاملته. إذاً: حسن معاملة الناس تستجلب دعاء الناس له بالخير، فحسن المعاملة للناس هي من كسبه في حياته، وقد ورّثت له دعوات صالحة ممن كان يحسن إليهم، فحسِّن معاملتك مع الناس لتستجلب منهم دعوات الخير بعد وفاتك، ولا تعاملهم بالإساءة والسوء. إذاً: هذا الحديث يضع لنا منهجاً في السلوك، وهو أن تعامل الناس بالحسنى، وأقل ما يعود عليك من حسن معاملتك للناس أنهم يدعون لك بعد موتك، وهذا يدخل في الصدقة الجارية، وكما تنتفع من الولد الذي من صلبك وهو من كسبك، فكذلك تنتفع بدعاء الناس لك بعد موتك، وذلك بسبب حسن معاملتك لهم، وهذا من كسبك أيضاً. إذاً: لينظر كل إنسان في معاملاته مع الناس عامة، ومع الرؤساء والمدراء خاصة، فينبغي لمن تحتهم أن يعاملهم بالحسنى، وبالكلمة الطيبة، فإذا لم ينجز له عمله فليسمعه كلمة طيبة، وليعده وعداً حسناً، لا أن يخاطبه بجفاء ويقول: مالك عندنا شيء أو لا أعرف شيئاً! فالمسألة ليست شخصية، والله سبحانه وتعالى أوصلك إلى هذا المكان لتخدم الناس، لا لتستخدمهم أو لتحجب حقوقهم عنهم، وهذا العمل ليس من شأنك ولا من رأس مالك ولا من كسبك، وإنما وليت عليه لتنفع الناس. وهذا الحديث شغل بالي فيه سبب انتفاع الميت بدعاء عامة أفراد المسلمين، فظهر لي -والله تعالى أعلم- أن دعوات عامة المسلمين للميت إنما هي من كسب الميت في حياته، بسبب حسن التعامل مع الناس.

شرح حديث: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)

شرح حديث: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) قال رحمه الله: [وعن ابن عمر قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) . متفق عليه، واللفظ لـ مسلم، وفي رواية للبخاري: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره) . ] .

فضل عمر رضي الله عنه

فضل عمر رضي الله عنه قوله: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، عمر له عدة أبناء ستة أو سبعة، لكن إذا أطلق هذا اللفظ انصرف إلى عبد الله، وله أخ اسمه عبيد الله، وآخر اسمه عاصم وغيرهما، وعبد الله هو المشهور بالرواية. قال: (أصاب عمر) ، ولماذا لم يقل: أصاب أبي؟ ليبرز لنا صاحب الحديث لو قال: أصاب أبي، فمن يكون أبوه غير عمر؟ لكن قال: أصاب عمر ليُبرز شخصية عمر، وهو من الخلفاء الراشدين، وسنته متبعة، ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هي، وكذلك عقليته وفقهه، قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر) وفي بعض الروايات الضعيفة: (لو لم أرسل إليكم لأرسل عمر) . وفي الحديث: (ان الشيطان ليفرق منك يا عمر!) ، وأنزل القرآن موافقاً لرأيه في ستة مواطن، ومع هذا كله لما أصاب أرضاً بخيبر جاء يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض، يعني: يطلب أمره، ويستأذنه، ويستشيره، وما عوّل على ما عنده من خلال الخير والفطنة والمعرفة، وهذه -والله- هي السعادة الكبرى، أن يكون صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يسألونه في الصغيرة والكبيرة، ويصدرون عن رأيه، ويستأمرونه فيما يخصهم، ملك أرضاً وله أن يتصرف فيها كيفما يشاء، وفي المثل: من تحكّم في ماله ما ظلم، ولكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيذهب يستشيره. وقوله: (أصاب أرضاً بخيبر) ، هل خيبر فتحت عنوة أم صلحاً؟ عنوة، فلو كانت صلحاً لم يصب منها شيئاً، فهي فتحت عنوة، وقد فتحت حصناً حصناً، ولما أظفر الله سبحانه وتعالى المسلمين بهم، عقد الصلح على أن يعمل اليهود فيها، ويكون لهم نصف الثمرة والزرع، وكانوا أشد خبرة بالغرس والزرع، وكان المسلمون مشغولين بالجهاد، فأصبحت ملكاً للمسلمين؛ لأنها فتحت عنوة. والأرض التي تُفتح عنوة تقسم على المجاهدين، فكانت حصة عمر من خيبر كما قال: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، أي: من هذا الجزء الذي أصبته من خيبر.

السخاء والكرم

السخاء والكرم هذه القصة تدعو إلى سخاء النفس، والحث على التطلع إلى ما عند الله، والاستظلال بقوله سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، ليس مما تكرهون أو تكونون زاهدين فيه، وما له غرض عندكم، أو ما له قيمة، بل تنفق الشيء النفيس الذي تحبه، كما قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] ، ويختلفون في ضمير (حبه) هل يرجع للطعام أم المعنى على حب الله؟ يقول والدنا الشيخ الأمين: أحياناً يأتي في الآية ما يدل على رجحان أحد القولين من أقوال العلماء، وهنا فيها قرينة تدل على أن ضمير (حبه) راجع للطعام، لأن ذكر الله يأتي في الآية بعدها: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:8-9] ، فقوله: {نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} يدل على أن (حبه) يرجع للطعام، فمع حبهم للطعام يطعمونه. جاء ضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلوات الله وسلامه عليه إلى بيوت زوجاته التسع يطلبهن عشاءً للضيف فلم يجد، فقال: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟!) ، فذهب صحابي به إلى أهله، وقال لها: هذا ضيف رسول الله، فأكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندي إلا عشاء الأولاد، فقال: علليهم حتى يناموا، واعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأدلي بيدي وأرفعها خالية لأوهمه أني آكل معه؛ لأوفر له الطعام الذي يشبعه. انظر الحيل! حيلة لوجه الله، فيقابل بالبشرى العظيمة، فحينما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصباح قال له: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة!) ، فعلاً حيلة تضحك! وبعض الناس يحتال على المحرم ليصل إليه، وهذا يحتال على الحلال ليصل إلى رضوان الله، وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا عمر يقول: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، وأبو طلحة لما نزلت الآية جاء إلى رسول الله وقال: (إن الله يأمرنا أن ننفق مما نحب من المال، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ، وبيرحاء كانت شمالي المسجد، وكانت موجودة قبل هذه العمارة الأخيرة لخادم الحرمين، وكانت بئرها موجودة، وحولها آثار بستان وبعض النخيل، ولا نقول: إنه من ذاك الوقت، لكن البيئة بيئة مزرعة، قال: (فضعه حيث شئت يا رسول الله!) فقال: (اجعله في الأقربين) ، والشاهد عندنا قوله: (أحب مالي إلي بيرحاء) ، وهكذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، أي: هو أنفس مال عنده، فنصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقفها.

معنى قوله: (إن شئت حبست أصلها)

معنى قوله: (إن شئت حبست أصلها) (إن شئت) ، يدل على أنه ليس بإلزام، بخلاف الزكاة فليس فيها مشيئة المزكي، فهي حق للسائل والمحروم، أما هنا فتبرع وصدقة، فقال: (إن شئت حبست أصلها) ، وهذه من صيغة الوقف: حبَّستُ، أوقفتُ، وقَّفتُ، سبَّلتُ، كل هذه صيغ يحصل بها الوقف، ويختلفون في كلمة تصدقت؛ لأنها تصدق على الصدقة بتمرة، وعلى الصدقة لجهة ما، وتصدق على الوقف؛ لأنه صدقة جارية، لكن إذا جاءت قرينة تدل على أنه أراد بكلمة (تصدقت) معنى أوقفت؛ فلا إشكال. وقوله: (إن شئت حبست أصلها) ، يدل على أن الوقف لا يكون إلا لما له أصل يبقى، وتؤخذ منه منفعة، فالطعام لا يكون وقفاً بل صدقة؛ لأنه ليس له أصل يوقف، وتؤخذ منه منفعة كل سنة بل يذهب، والغرس المثمر يصح وقفه، والغرس غير المثمر لا يصح وقفه؛ لأنه لا فائدة فيه للموقوف عليهم، إلا إذا قلنا: ينتفع بها بأن يؤخذ منها حطب، ويباع وينبت غيره، كما كان الحال في المدينة، يؤخذ الخشب من شجر الطرفاء، وكانت الطرفاء وجذوع النخل هي أدوات البناء والسقف. إذاً: يؤخذ من قوله: (حبّست أصلها، وتصدقت بها) ، أن الذي يصح وقفه ما اشتمل على الأمرين: الأصل والثمرة، فيحبِّس الأصل ويسبل الثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، والتصرفات التي تنقل ملكية العين لا تجوز في الوقف، وألحق الفقهاء بها الرهن؛ لأن الغرض من الرهن توثيق الدين، فإن وفّى المدين دينه فالحمد لله، وإذا لم يوف دينه بيع الرهن، والحال أنه وقف، والوقف لا يباع، إذاً: لا يرهن. فمعنى قوله: (حبّستَ) : أن يبقى في محله محبوساً عن التصرفات التي تعتري الأملاك، فلا ينتقل إلى أحد ببيع، أو بهبة أو بميراث، وكذلك لا يرهن؛ لأن المرهون معرض للبيع وفاءً للدين. وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، رد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر لـ عمر ليتصدق هو؛ لأنه المالك، فتصدق بها عمر على أن الأصول لا تباع ولا تورث ولا توهب. (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) . الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف التبرر لعمل البر، والوقف الأهلي الذي يوقفه على أشخاص معينين، فيقول: هذا وقف على فلان، ويسميه باسمه، ومن بعده إلى أخيه فلان، ومن بعده إلى عمه فلان، فهذا وقف أهلي. والوقف الخيري يجري لمن عين له بالوصف، والوقف الأهلي إذا وصلت ثمرته إلى من هو موقوف عليه تعامل معها معاملة المالك، فلو وقّف هذه النخيل على ثلاثة أشخاص، فلما جاءت الثمرة قسمناها على الموقوف عليهم، وكانت حصة كل واحد منهم نصاب زكاة (خمسة أوسق فأكثر) فعليه أن يزكيها، لكن وقف التبرر على المساكين أو على ذوي القرابة أو على ابن السبيل، لو أن الصنف الموجود ناله من الوقف بقدر نصاب زكاة؛ فلا زكاة عليه؛ لأنها صدقة عليه، بخلاف الوقف الأهلي. ونسمع عن بعض الدول أنها غيّرت وبدلت في الوقف، فألغت الوقف الخيري، وبعضها ألغى الوقف الأهلي، وكنا نسمع أن حكومة بلد من البلاد الإسلامية العربية أرادت أن تلغي الوقف الأهلي، ثم إن رئيس تلك الدولة أوقف عشرة أفدنة على ولده، فتوقف المشروع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يبطلوا وقف رئيس الدولة، وكانت بعض الحكومات تحارب الوقف في الماضي، وكذلك في الوقت الحاضر بعض الدول ألغت الوقف فعلاً، ولم يعد هناك ما يسمى وقف، فأعادوا الأوقاف إلى أهلها، فإن كان الموقف حياً رجع إليه ملكه، وإن لم يكن موجوداً رجع إلى الورثة بحسب الميراث الشرعي. وعمر رضي الله تعالى عنه وقّف أرضه وقف تبرر وقفاً أهلياً، وسنشرح ذلك جملة جملة.

الوقف على الفقراء

الوقف على الفقراء قوله: (فتصدق بها في الفقراء) ، الفقراء ليسوا مخصوصين بأشخاصهم، ولكنهم طائفة يعرفون بصفاتهم، والفقير هو الذي لا يجد ما ينفقه، بخلاف المسكين فهو يجد أقل ما ينفق، فكسبه أقل مما يحتاجه في النفقة، فكسبه لا يكفي حاجته، وقالوا: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير، وقالوا: إن الفقير مأخوذ من فقار الظهر، وبالعمود الفقري يتحرك الإنسان، فإذا تعطلت فقرة من فقار العمود الفقري في الإنسان فإنه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسمه، ويكون ملازماً للأرض ساكناً لا حركة عنده، بخلاف المسكين فهو ساكن، وفرق بين من أخلد إلى الأرض كرهاً ومن سكن اختياراً؛ ولذا جاء في حق المساكين: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، فهم مساكين ومعهم سفينة، والسفينة مال، فمن كان عنده سيارة كبيرة يعمل عليها، وما عنده غيرها، قد يكون فقيراً، وأما الفقير فليس عنده شيء، حتى ولا كرسي. فالصنف الأول للفقراء، وإذا وقف للفقراء، وكان للموقف قرابة أو أبناء اتصفوا بالفقر، فإنهم يستحقون من الوقف مع الفقراء؛ بوصفهم بالفقر لا بكونهم أبناء الموقف، ومن استغنى منهم لا يعطى من الوقف.

الوقف على ذوي القربى وفي الرقاب

الوقف على ذوي القربى وفي الرقاب قوله: (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب) ، القربى: ذوو الرحم، وليسوا الورثة فقط، بل مثل خاله وخالته، وابن خاله وابن خالته، وعمته، وابن عمته، فهؤلاء كلهم من ذوي الرحم، فجعل لهم نصيباً، والرقاب جمع رقبة، وما المراد بالرقاب هنا؟ هناك عبدٌ قِنٌ، أي: ليس فيه شائبة حرية، ومبعَّض، أي: بعضه حر، وبعضه مملوك، وهو من أعتق بعضه، ومدبَّر، وهو الآن مملوك، ولكن حريته مدبرة بعد وفاة مالكه، ففي اللحظة التي يموت فيها سيده يملك حريته، ومُكاتب، وهو: الذي شارط سيده على مبلغ يؤديه إليه، فلو أن السيد أراد أن يبيعه لشخص آخر، فيقول له: أنا أشتري نفسي، ويكاتبه على مبلغ يتفقان عليه، وينجمه عليه تنجيماً، ويستحب له أن يسقط القسط الأخير مساعدة له، وهذا إذا علم فيه خيراً، لا أن يكون مفسداً شريراً، فيملك نفسه، ويفسد في الأرض، لكن يكاتبه إذا آنس منه الصلاح والاستقامة والقدرة على أداء مبلغ الكتابة، فإنه إذا تحرر نفع الناس، وكان صالحاً في المجتمع. فأي نوع من أنواع الرقاب المراد هنا؟ بعضهم يقول: الرقاب الذين يحتاجون إلى المال، وهم المكاتبون؛ لأن المكاتب عليه أن يسدد بخلاف القِن ما عليه شيء، والمبعّض ما عليه شيء، والمدبَّر ينتظر موت سيده بفارغ الصبر؛ ولهذا كره تدبير العبد كما كرهت الرُّقبى. فيعطى المكاتب ما يتحرر به، وبعضهم يقول: (وفي الرقاب) أن تشتري المملوك القن وتعتقه. إذاً: هي دائرة في هذا الصنف من الناس، سواءً اشتريته وأعتقته أو ساعدته على وفاء دين كتابته. والإسلام يتشوف إلى تحرير الرقاب، وقد يكون العبد قريباً لـ عمر؛ لأن العبد هو من أُخذ أسيراً في المعركة وهو يقاتل المسلمين، لا من خطف من الطريق. فلا يسترق مسلم أبداً إلا إذا أسلم بعد أن أخذ أسيراً، وقسم على الغانمين، وبعد ذلك يسلم فهذا فضل الله. وقال الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} ، المسلمون فيهم مساكين، {وَيَتِيمًا} ، والمسلمون فيهم أيتام، ((وَأَسِيرًا)) [الإنسان:8] ، لا يكون مسلم بيد المسلمين أسيراً؛ لأنه لا يحق لمسلم أن يأسر أخاه ولو تقاتل معه، والسلف عندما تقاتلوا لم يسترق بعضهم بعضاً، ولما قال القوم لـ علي: أقسم بيننا الأسارى، قال: لا يوجد أسارى في الإسلام، أيكم يرضى أن تكون عائشة في سهمه؟! ولهذا لا يذفف على جريحهم، ولا تسلب أموالهم؛ لأن القتال غالباً لا يكون بين طوائف المسلمين إلا بسبب اختلاف وجهة نظر دينية.

ترغيب الشرع في تحرير الرقاب

ترغيب الشرع في تحرير الرقاب في قوله: (وفي الرقاب) ، ترغيب لتحرير الرقاب، وقد أشرنا مراراً أن الرق في الإسلام يتميز عن جميع طوائف العالم، وأشرنا أن قانون الرق في أوروبا كان ينص على منع السيد من عتق رقيقه إلا بإذن الحاكم، وكان يستوجب أسر الأفراد لأوهى الأسباب، أما الإسلام فلم يجز استرقاق الإنسان إلا في أرض المعركة حينما يحاد الله ورسوله، ويقف سداً منيعاً أمام زحف الإسلام إلى الناس فيؤخذ أسيراً، ثم باب الأسر واحد، أو كما يقال: باب الورود واحد فقط، وهو أرض المعركة، بينما أبواب الخروج متعددة، فإذا كان الورود من باب واحد والخروج من أبواب متعددة فهل يبقى في البيت أحد؟ لا يبقى أحد بخلاف العكس، لو كان أبواب الورود متعددة والخروج من باب واحد، فسيحصل زحام وأزمة، أو كما يقولون: خطر سوء التفريغ، ولذا فمن أول حساب الهندسة المعمارية عند بناء المسجد أو المعهد أو الكلية، أنه لابد أن يعمل حساب الأبواب للخروج، حتى لو حصلت أزمة مفاجئة استطاع الموجودون الخروج بسرعة، أما إذا كان هناك باب واحد، وهناك ألف نفر، فمتى يخرجون؟ سيقتل بعضهم بعضاً في الزحام، لكن لو عمل خمسون باباً فسيخلو المكان بسرعة. فنجد جميع الكفارات فيها عتق، مثل كفارة اليمين، والظهار، والوطء في رمضان، وقتل الخطأ، وتبدأ الكفارة -سواءً كانت على الترتيب أو التخيير- بعتق رقبة. ثم نجد الترغيب في عتق نفسه من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) ، بل قد يكون العتق إجبارياً على الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شقصاً من عبد مملوك، فخلاصه عليه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه) ، يعني: قوم عليه الشقص الثاني، وقيل له: ادفعه لشريكك، ويصبح العبد حراً، فإن قال: أنا أعتقت النصف فقط، فيقال له: مادام قد أعتقت النصف فقد فتحت الباب، فأكمل، ويُجبر على عتقه كاملاً. ومن لطم عبده فكفارته أن يعتقه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فعظم ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلا أعتقها؟ قال: (ائتني بها. قال: فجئته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة) . فالشريعة تتلمس الأسباب للعتق، بخلاف القوانين الأخرى، فإنه يشمئز الإنسان أن يوردها، كانوا يبيحون لأنفسهم إطلاق السباع الجارحة المفترسة على العبد في ميدانٍ ليتفرجوا كيف يفترسه الأسد! ولا أحد يمنعهم من ذلك، والقانون يبيح لهم ذلك! وهذا لطمها في حالة غضب أسفاً على الشاة التي أكلها الذئب، فيتأسف ويسأل عن عتقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (اعتقها) . وهذا عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير، أخذ أسيراً يوم بدر، ولما قدموا به إلى المدينة، مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (استوصوا بالأسارى خيراً) ، قال: فكانوا يقدمون إلي الخبز، ويجتزئون هم بالتمر، حتى كنت أستحي منهم فأردها عليهم فيردونها عليّ. فأي إكرام؟ وأي معاملة بالحسنى إلى هذا الحد؟ ومر عليه مصعب أخوه، فقال: شدوا وثاقه فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم، فنظر إليه وقال: هذه وصايتك بي يا أخي! قال: لست أخي، إنما إخوتي هؤلاء المسلمون. والذي يهمنا أنهم كانوا يقدمون له الخبز، وهم يأكلون التمر عملاً بوصية رسول الله: (استوصوا بالأسارى خيراً) . وعمر رضي الله تعالى عنه جعل حصة من وقفه للرقاب.

الوقف في سبيل الله

الوقف في سبيل الله بعض الناس يقول: إذا أطلق سبيل الله انصرف إلى الجهاد، والبعض يقول: كل عمل خير فهو في سبيل الله، ولكن الأول هو الأصح؛ لأنه لو كان معنى (في سبيل الله) أعمال الخير كلها، فلا حاجة إلى أن أقول: فقراء، رقاب، أيتام؛ لأنها كلها في سبيل الله، لكن العرف يعيِّن أن في سبيل الله هو الجهاد. فما الذي يفعل في حصة (سبيل الله) التي أوقفها عمر؟ إذا كان هناك غاز ليس عنده جهاز ولا مئونة ولا زاد، ووجد أن له حقاً في وقف عمر، فإنه يأخذ منه، مثل إنسان يريد أن يغزو، وعنده طعامه لكن ما عنده سلاح، فيأخذ من الوقف ما يشتري له به سلاحاً؛ لأنه في سبيل الله.

الوقف على ابن السبيل

الوقف على ابن السبيل وقوله: (وابن السبيل) ، السبيل: هو الطريق، والغريب يطلق عليه ابن السبيل، والشاب الغريب ابن كما يقولون: البنوة نسبة، فتقول: ابني وابن فلان، فينسب إلى أبيه الذي جاء منه. فما علاقة السبيل بآدمي يمشي على وجه الأرض؟ قالوا: لأننا لا نعلم عن هذا الغريب شيئاً، ولكن السبيل هو الذي جاءنا به، فلولا السبيل أو الطريق لما رأيناه، فنحن وجدناه على الطريق، فهو ابن الطريق، كما يجد إنسان إنساناً في غابة فنقول عنه: ابن الغابة؛ لأنه وجد فيها، وهكذا. فابن السبيل يراد به المسافر المنقطع الذي يريد ما يبلغه إلى بلده، ويبحث العلماء فيما يأخذه ابن السبيل، وفيما يأخذه الغارم الذي سعى بين الناس بالصلح، فهل ما يأخذاه تملك أو استحقاق لغاية؟ فإن كان تملك، قدرنا له ما يوصله إلى غايته، فإن أعطيناه ألفاً ثم هو قتر على نفسه، وأنفق نصف الألف فقط، فهل يرد الباقي أم يكون في ملكه؟ إن قلنا: يأخذ ما يبلغه فقط، فإنه يرد الباقي، وإن قلنا: يتملك ما قدرناه له، وما وفّره فهو ملك له؛ لأنه وفره على حظ نفسه، وقد يكون حرم نفسه من بعض الأشياء، ووفر بعض قيمتها فيكون ما أخذه ملكاً له.

الوقف على الضيف

الوقف على الضيف وقوله: (والضيف) ، المراد ضيف الوالي على الوقف، وهو الناظر، مثلاً: الناظر مقيم في النخل، فورد عليه ضيف، فللضيف حق الأكل من هذا الوقف؛ لأن الضيف مثل ابن السبيل، وقد يكون استضاف صديقه أو قريبه. وقد حث الإسلام على إكرام الضيف والضيافة، لها أحكامها الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه،. فليقل خيراً،. فليكرم جاره) . وإكرام الضيف من مكارم الأخلاق، وهو من بقايا شيم العرب، وتعرفون أخبار حاتم في الكرم، وقصة الحطيئة لما أكرم ضيفه وقال له: يا أبت اذبحني وهيئ له طعماً والقصيدة طويلة، فكان العرب يعنون بإكرام الضيف، وكانوا يتغنون بذلك، وكما قال الآخر: وبات على النار الندى والمحلق والمحلق هذا كان عنده عدة بنات، وما جاءه خاطب لهن، فقدم بعض الشعراء ونزل عنده، فما اهتم له كثيراً، فقيل له: هذا الشاعر فلان، فحالاً أكرمه بزق من الخمر، وبشاة مشوية، فقام يمتدحه بقصيدة فيها: وبات على النار الندى والمحلق والندى: يعني الكرم، فشاعت القصيدة في العرب، وبعد مدة خطبت بناته كلهن. يهمنا الكرم وأثره، والضيف له حق، كما في الحديث، وقال بعض المتأخرين: إن الضيف له حق ثلاثة أيام، فاليوم الأول فرض، والثاني مندوب، والثالث كذا، وما عدا ذلك فهو صدقة. وعمر رضي الله تعالى عنه لما فتح بيت المقدس شرط على الرهبان، وعلى أصحاب الصوامع: أن يضيفوا من مر عليهم من أبناء السبيل، وبعض المتأخرين يقول: انتهى أمر الضيافة؛ لأنها كانت عندما كان الغريب لا يجد ما يأكل وما يشرب، وبعضهم يقول: لا، من كان مقيماً في صحراء، وعنده سعة؛ فالضيافة عليه واجبة، وإن كان في مدينة من المدن، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم؛ فلا تجب الضيافة على أحد؛ لأنه إن لم يستضفه أحد سيجد في الفندق والمطعم ما يسد به حاجته، وفي ذاك الوقت لم يكن هناك فنادق ولا مطاعم ولا مخابز، ولا غيرها مما يسد الغريب حاجته فيها بما في يده، وقد يكون معه الثمن لكن لا يجد من يبيعه، فتجب حينئذ ضيافته، فالأماكن التي لا يجد الغريب فيها حاجته بالثمن، فالضيافة واجبة على أهلها. ونعلم بقصة الرهط الذين نزلوا عند حي، فأبوا أن يضيفوهم، وسلط الله العقرب على سيد ذاك الحي، وقضية الخضر عندما أقام الجدار في القرية التي أبى أهلها أن يضيفوهما، فهذا عيب عليهم من ذاك التاريخ، وهذا يدل على أن الضيافة ثابتة في الأمم جميعاً. فإذا كان الغريب لا يجد ما يطعمه وما يأويه تعينت الضيافة، وإذا كان يجد ذلك بالنقد أو بالمروءة ما يطعم ويأوي فلا حق في الضيافة بالفرض على أحد.

أجرة ناظر الوقف

أجرة ناظر الوقف قوله: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف) ، (لا جناح) أي: لا إثم ولا ذنب ولا مؤاخذة على من وليها، والذي يليها هم النظار، فللناظر أن يأكل بالمعروف، وما هو المعروف؟ قيل: ما يسد رمقه، والبعض يقول: بحسب متوسط المعيشة، والحنابلة يقول: له الأقل من أجرة المثل ونفقته الشخصية، فمثلاً هذا العمل لو استأجرنا إنساناً يقوم عليه فإنه يستحق في الشهر ألف ريال مثلاً، وهذا العامل لو كان ينفق على نفسه فإنه يكفيه ستمائة ريال، فيستحق في الوقف أقل الأمرين: نفقته الخاصة أو أجرة المثل. ولو كانت نفقته ألف ريال، وأجرة مثله خمسمائة ريال، فإنا نعطيه أجرة المثل وهي الأقل؛ لأن هذا حماية للوقف، وكذلك الأمر فيمن ولي مال اليتيم.

أمانة ناظر الوقف

أمانة ناظر الوقف وقوله: (ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) ، لو مر عليه صديق، وقدّم له من الرطب أو قدم له شيئاً من الفاكهة، فلا بأس أن يطعمه، ولكن بشرط (غير متمول مالاً) . فهذا الذي يليها يأكل بالمعروف غير متمول مالاً، وهذا الصديق يأكل بالمعروف، وهذا الضيف يضيفه بالمعروف لا أن يتمول من هذا الوقف مالاً، بأن يقتطع جزءاً من الوقف لنفسه، فهذا لا يجوز، ومرت علينا قضايا في المحكمة تضحك وتبكي من أعمال نظار الوقف، وكذلك لا يتمول بأن يجمع من ثمار الوقف ما يبيعه ويختزن ثمنه حتى يتمول مالاً من وراء الوقف. وقد ورد الإذن لابن السبيل إذا مر على حائط، أن يسد جوعه غير متخذ خبنة، فلا يحمل معه من الثمرة ويذهب، بل كل ما يشبعك في مكانك، ولا تحمل معك شيئاً. قال رحمه الله: [وفي رواية للبخاري: (تصدَّقَ بأصلها: لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره) ] ينفق ثمره على من تقدم من تلك الأصناف. وفي قضية عمر هذه، يقولون: إنه ولاها ابنته حفصة، وكانت هي ناظرة هذا الوقف تقوم عليه، وهل يشترط في الوقف قبض الموقوف عليه أو من يليه باعتبار معنوي أم لا؟ فالذين يشترطون ذلك يقولون: عمر أخرجها من ذمته، وولى عليها حفصة، وهي تولّت القبول باسم الفقراء وباسم ابن السبيل، لأن هؤلاء الأصناف لا يتأتى منهم قبول لعدم إمكان حصرهم. والآخرون يقولون: ليس بلازم، وهو مذهب الحنابلة. ومباحث الوقف عديدة ومتوسعة، وما أكثر ما يكون فيها من مشاكل وإشكالات في الجهات الموقوف عليها، مثل أن يقف ويقول: على أولادي وأولاد أولادي، أو على أولاد الظهور دون أولاد البطون، وهذا من الخطأ الذي يرتكبه بعض الناس، أو أن يوقف المال مضارّة للورثة، عنده مال، فيوقف نصف المال ليحرم الورثة ميراثهم بهذا الوقف، فإذا فعل ذلك مضارّة بطل الوقف، وبعضهم يشترط فيه شروطاً لا تصح، مثل أنه يحق له أن يرجع في وقفه، ويحق له البيع والشراء، وأن يستبدل طائفة عن طائفة، والجمهور أن تلك الشروط باطلة. ويشترط في الوقف اتصال البداية واتصال النهاية، اتصال البداية مثل أن يقول: وقفت على بني فلان وهم موجودون، ولو قال: وقفت على أولادهم وذرياتهم وأعقابهم، فلم تتصل النهاية، فيكون باطلاً، لكن يقول: وقفت على كذا وعلى كذا وعلى كذا، فإذا انقرضوا فعلى المساكين أو فعلى طلبة العلم، فطلبة العلم والمساكين لا ينقطعون؛ لأنهم موجودون دائماً.

شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة.

شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ... ) قال رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة الحديث وفيه: (فأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) . متفق عليه] يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث ليبين أن العتاد والمحبّس في سبيل الله لا زكاة عليه، والحديث يورد في باب الزكاة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ومعه آخر على الصدقة، فلما رجع قال: يا رسول الله! منع الصدقة خالد وابن جميل والعباس، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها. ثم قال: يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنوه أبيه؟) . هكذا الحديث مطولاً، ويورده العلماء في باب الزكاة على هذا الأصل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تظلمون خالداً) ، أي: تنسبون إليه منع الزكاة والصدقة وحاشاه من ذلك؛ لأنه يعلم أن الزكاة فرض، ولن يمنع خالد فرضاً، وبعض العلماء يقول: إن هذه الصدقة كانت صدقة تطوع، ولكن جمهور العلماء يرد ذلك؛ لأن صدقة التطوع ما كان صلى الله عليه وسلم يبعث أحداً ليجمعها، وإنما كان يبعث لجمع الزكاة المفروضة.

معنى قوله: (فهي علي ومثلها معها)

معنى قوله: (فهي عليّ ومثلها معها) تتمة للحديث: (أما العباس فهي عليّ ومثلها معها) ، قالوا: تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العباس زكاة ماله تلك السنة، و (مثلها) أي: السنة التي بعدها. وبعضهم يقول: ليست هناك حمالة، بل إن العباس رضي الله تعالى عنه كان قد دفع زكاة ماله لعامين مستقبلين، قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت له حاجة فطلب من العباس أن يعجل زكاة سنته، وكان ذلك قبل أن يتم الحول، ومثلها معها. ومن هنا يذكر العلماء هذا الحديث بعينه في موضوع جواز تقديم الزكاة قبل موعدها، أي: قبل ثبوت وجوبها ببلوغ الحول. وقوله: (عم الرجل صنو أبيه) الصنو: معروف عند أصحاب النخيل، تكون نخلتان أصلهما في الأرض واحد، فالأصل واحد، وتتشعب كل نخلة منهما إلى جهة مقابل الأخرى، فيتفرع الأصل إلى فرعين، وهكذا العم بالنسبة إلى الأب، فإن أصلهما واحد وهو الجد، فالجد لأب هو الأصل، ثم انفصل عنه وتفرّع عنه أبو المتكلم وعمه؛ لاجتماعهما في أصل واحد وهو الجد، ويعني: أن العم والأب يتساويان. والشاهد هنا: أن خالداً رضي الله تعالى عنه احتبس أعتاده في سبيل الله، و (احتبس) يحتمل أن يكون المعنى: أوقف، ويحتمل أن يكون أعد، أي: أعد أدراعه وأعتاده، والأعتاد أو العتاد: هي الخيل، والأدراع: نسج من الحديد يلبس وقت القتال، قالوا: هذا يدل على صحة وقف العروض كالدروع وآلات الحرب من سيوف ورماح وغير ذلك، وكذلك صحة وقف الحيوان؛ لأن الحيوان يدخل في عموم قوله: (وأعتاده) . فمن هنا أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث، وكأنه يشير إلى خلاف الفقهاء فيما يجوز وقفه وما لا يجوز؛ لأن البعض قد عارض في جواز وقف المنقولات، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عدم صحة وقف المنقولات؛ لأنها تتغير وتتلف ويعتريها طوارئ الأحوال، بخلاف العقار الثابت، والوقف إنما يجعل على التأبيد، والمنقول ليس فيه ضمان للتأبيد فهو معرض للتلف، ومعرض للضياع؛ فلا يتم فيه الوقف.

هل يزكى مال الوقف؟

هل يزكى مال الوقف؟ خالد رضي الله تعالى عنه أوقف ما يملك، ومن هنا قالوا: إن الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف أهلي، ووقف تبرر، فالوقف الأهلي هو: أن يوقف العين على أهله، أو على أولاده وذويهم وذرياتهم، أي: على أشخاص إما معينين بالشخص مثل: (ولدي فلان) أو معينين بوصف مثل: (أولادي من صلبي) ، فهؤلاء محصورون ومعينون، ثم قد ينقله إلى أولاد أخيه أو إلى جيرانه أو إلى جماعة معينة، أو ينقله إلى عموم مثل: إلى بني فلان وهم قبيلة عامة، وهذه لا يمكن حصر أفرادها ولكن مجموعها، أو وقف على أهل وصف مثل طلبة العلم ثم إلى وصف آخر كذا وكذا، فيكون حينئذٍ وقف على أعيان وأشخاص لهم صلاحية القبول والتملك، فهذا الوقف بالنسبة للزكاة إنما هو هبة وصدقة، فلا يطالب الموقوف عليه بالزكاة، ولكن الوقف على معيَّن ينظر: كم حصته من الوقف هذا العام؟ ويعامل معاملة من وجبت عليهم زكاة الأموال، فإن كان الوقف زرعاً أو ثمرة فجد، وكان نصيبه من الثمرة ما يجب في مثله الزكاة؛ زكّاه حالاً، ونصاب الزكاة في التمر والحبوب خمسة أوسق، فإذا أصاب أحد الموقوف عليهم خمسة أوسق فما فوق؛ زكاه عند استلامه، كما قال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] ، وإن نقص الفرد المستحق عن هذا المقدار فلا زكاة عليه، كما لو كان المال من نخله وبستانه وملكه. أما إذا كان الوقف على خير وعلى بر، كأن يقول: أوقفت هذا النخيل على طلبة العلم، فهو متصدق به على أشخاص غير معيّنين، ولا يمكن حصرهم، فمن حضر منهم في بلده استحق الوقف، فحينئذٍ يأخذه الطالب باسم الصدقة، وهو أوقفه وأخرجه عن ملكه باسم الصدقة، فإذا كانت عين الثمرة بكاملها صدقة لا نطلب الصدقة من صدقة على الآخرين، فهؤلاء الذين أخذوا بوصف العلم أو بوصف الفقر والمسكنة لا زكاة عليهم فيما أخذوه. يقول صلى الله عليه وسلم في حق خالد رضي الله تعالى عنه: (احتبس) . وجاء في الخيل حديث: (الخيل لثلاثة: فهي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر) ، وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (فأما الذي هي له أجر فالذي يحتبسها في سبيل الله) ، أي: أعدها في سبيل الله ولم يخرجها عن يده وقفاً إنما أعدها لتكون مهيأة وجاهزة للقتال في سبيل الله، فالشخص الواحد يعد ويهيئ عتاده من سيف ورمح وخوذة على رأسه أو درع يلبسه أو أو إلى آخره. وفرساً يعده للجهاد، فهذه لم تخرج عن ماله، فإذا أراد الزكاة قومها وقدرها؛ لأنها ممتلكاته، وليست من عروض التجارة، فهي للقنية، لكن يطلق عليه أنه أعدّها في سبيل الله، فقالوا في قضية خالد: إنه حبس أدراعه، فحبس بمعنى: حبّس وأوقف فلا زكاة فيها، أو حبس بمعنى أعد؛ ولذا ليس لكم طريق إلى مطالبته، وهو يعرف ما يجب عليه من حق الله في الزكاة. لكن المؤلف يسوق هذا الحديث هنا ليبين أمرين: الأمر الأول: صحة الوقف في المنقول. الأمر الثاني: عدم وجوب الزكاة فيما أوقفه صاحبه تبرراً لوجه الله، والله تعالى أعلم.

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1]

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1] لقد أمر الشارع بالعدل بين الأولاد في العطية، وحرم المفاضلة فيها، واشترط أهل العلم في رجوع الوالد عن عطية ولده شروطاً معلومة، وهذه المسألة مستثناة من عموم النهي عن الرجوع في الهبة والعطية.

شرح حديث النعمان بن بشير في وجوب العدل بين الأولاد في العطية

شرح حديث النعمان بن بشير في وجوب العدل بين الأولاد في العطية باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجعه) ، وفي لفظ: (فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم قال: (فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن) ] . هذا الذي ساقه المؤلف من خبر النعمان بن بشير جزء من حديث طويل، وهو: أن أباه تزوج امرأة وهي أخت عبد الله بن رواحة، ثم طلبته أن يهب لولدها منه شيئاً يخصه به، قال: فمطلها سنة، وقيل: مطلها سنتين، ثم إنه أعطاه بستاناً نخيلاً، ثم بعد فترة ارتجعه، ثم رجعت وألحت عليه أن يمنح ولدها شيئاً من ماله، فمنحه هذا الغلام، فحينئذ خشيت أن يرجع في الغلام كما رجع في البستان، فقالت: لا أقبل - أي: لا أقبل هذا العطاء في الغلام - حتى تذهب وتشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتضمن عدم رجوعه فيه كما رجع سابقاً في البستان. هكذا يذكر بعض العلماء؛ لأنه جاءت بعض الروايات أنه قال: (إن أبي قد منحني شيئاً من ماله) ، وبعض الروايات: (منحني غلاماً) ، فقالوا: يجمع بين هذا: أنها أولاً ألحت على زوجها فأعطاه بعد المماطلة بستاناً، ثم إنه رجع فيه، وهنا يأتي الكلام في الرجوع في الهبة، وسيأتي تفصيل ذلك في أحاديث متقدمة.

العطية لا يثبت تملكها إلا بالقبض

العطية لا يثبت تملكها إلا بالقبض وهنا: اتفق العلماء على أن الهبة والصدقة والعطية لا يثبت تملكها لمن وهبت إليه أو منحها إلا بعد القبض. وبعض العلماء يقول: الهبة تصح ويقع التمليك لها بمجرد العقد، وعند الحنابلة التفصيل بين المنقول من مكيل وموزون وحيوان، وبين الثابت من عقار وغيره، فقالوا: لا تثبت الهدية في المنقولات إلا بالقبض، وما عداها تثبت بالتخلية، وقالوا: إن الصغير يقبض عنه وليه؛ لأن الصغير ليس أهلاً للقبض، وكذلك القبول، قالوا: ويشترط في صحة الهبة قبول الموهوب إليه وقبض الهبة التي وهبت له. واستدلوا في صحة الهدية بالقبض بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بأن أباها كان قد منحها جذاذ خمسين وسقاً، فلما لم تحزه، ومرض مرض الموت قال: (يا ابنتي! والله لا أحد أعز علي فقراً من بعدي منكِ، ولا أحد أحب إلي غنىً من بعدي منكِ، وكنت قد نحلتك جذاذ خمسين وسقاً ولو كنت حزتيه لملكتيه) ، وفي رواية: (ولو كنت حرثتيه لملكتيه) فعلى رواية: (حزتيه) يكون الفرض جذاذ خمسين وسقاً من تمر جاف بذاته، وعلى رواية: (حرثتيه) يكون قد منحها نخلاً يؤتي ثمرة مقدار خمسين وسقاً، وعلى كلا الحالتين لما لم تقبض ما منحته -سواء كان تمراً موثقاً أو نخلاً يأتي بهذا القدر من الأوسق- فإنها لا تملكه. ثم قال: (وهو الآن مال وارث فاقتسموه أنت وأخواك وأختاك) ، أي: أسماء وبنت أخرى من امرأة كان تزوجها بالمدينة، وكان يسكن معها في السنح، قالت: (أي أختين يا أبي وليس لي إلا أخت واحدة؟ قال: ابنت زيد بن فلان، إنها حامل وأراها حامل بأنثى) فجاءت كما قال رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يشترط القبض في الهدية والهبة لنفذت هبة أبي بكر لابنته عائشة، ولما لم تقبضها رجعت الهبة إلى مال الواهب وأصبح مال وارث. فهنا بشير لما منح ولده أولاً البستان يقولون: الوالد لا يقبض عن ولده إلا إذا كان في النقدين، فإذا كانت الهبة من النقدين الذهب والفضة، قال مالك: لا يصح للوالد أن يقبض لولده هبة الذهب والفضة، ولو حتى عزلها وختمها وأبعدها عن ماله مميزة عنه، ولكن يشترط أن يخرجها من تحت يده، ويجعلها تحت يد رجل أمين تكون عنده؛ مخافة فيما بعد: فلو مات الواهب-والحال أنه كان قد وهب ولده جزءاً من المال وبقي المال تحت يده في صندوقه مع عموم ماله- لربما ادعى الورثة أنه مال أبيهم، وأنه في التركة، لكن عندما يخرجه إلى يد غيره لا يمكن أن يدعوا ذلك. إذاً: لابد من اشتراط القبض في الهبة، والقبض كما يقال: إن كان مكيلاً أو موزوناً أو منقولاً فبنقله عن مكانه، وإن كان ثابتاً فبالتخلية بينه وبين الموهوب له. وهنا عمرة بنت رواحة لما قالت: لا أقبل، سبب ذلك أنه كان قد سبق من زوجها أن منح ولدها النعمان ثم رجع في منحته، ويقولون: إنه وإن كان يقبض عن الصغير إلا أن للوالد أن يرتجع في هبته لولده، وليس هذا لغير الوالد من جد أو أخ أو عم أو غير ذلك. واختلف في الأم هل لها أن ترجع في هبتها لولده؟ فالحنابلة عندهم رواية عن أحمد رحمه الله: أنها لها ذلك لقوله: (اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم) والأم والدة. وعند المالكية أن الأم لا تملك حق الرجوع في الهبة؛ لأن الوالد له ولاية على الولد، وهذه ليست موجودة للأم عليه، وجاء النص: (أنت ومالك لأبيك) وهل تلحق الأم بذلك أم لا؟ قالوا: وإن لحقت به في الأخذ من مال ولدها لحاجتها، فلا تلحق به في حق استرجاعه مما أعطى ولده.

حكم العطية بين الزوجين

حكم العطية بين الزوجين ثم يأتون إلى العطية بين الزوجين، فقالوا: إذا أعطى الزوج زوجته عطية فلا يحق له أن يرتجعها، والقبض والإذن في ذلك حاصل لأنهما معاً في البيت. والمرأة إذا وهبت لزوجها هبة، قالوا: من حقها أن ترجع ومن حقها أن تمضي؛ لما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (النسوة يهبن رغبة ورهبة) رغبة: تستجلب محبة الزوج، ورهبة: من أن يوقع بها ما يسوءها، ومخافة أن يتزوج عليها، أو أن يسيء عشرتها، أو أن يقصر معها فيما يفعل مع زوجاته الأخريات. قالوا: لها أن ترجع؛ لأنه يتوجه إليها الرغبة والرهبة. إذاً: الهبة بين الزوجين: فالزوج إذا وهب لا يرجع في هبته، والزوجة إذا وهبت لها أن ترجع في هبتها؛ لأن عندها علة ليست موجودة عند الزوج، وهنا عمرة طلبت من زوجها أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحته زوجها لولدها. يقول ابن حجر نقلاً عن بعض العلماء: هذا من شؤم التشدد والتنطع، فلو أنها قبلت عطاء زوجها لولدها لمضى الغلام في عطية الوالد، لكنها تعنتت وتشددت وطلبت أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟) هذا كما يقولون: وجوب الاستفصال من المفتي. إذا استفتاك إنسان وكان الموقف فيه احتمالات بين جواز الأمر أو منعه، فعليك أن تستفصل، فهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟ قال: نعم، قال: أكل ولدك منحته ذلك؟ قال: لا. قال: ارتجعه) . وقال: (لا أشهد على جور) . وقال: (أشهد عليه غيري) كل هذه الألفاظ جاءت. والذين يقولون: ليس للوالد الرجوع بالكلية في أي حالة من الحالات أجابوا عن هذه الألفاظ وهذه الروايات في هذا الحديث بأجوبة: أما عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري) يقول الشافعي: إن الرسول لم يعلمه بأن الهدية باطلة، ولكنه قال: أنا بصفتي رسولاً لا أشهد على مثلها، ويقولون: إنه كحاكم وقاض لا يكون شاهداً، وكما جاء عن عمر رضي الله عنه جاء رجل يحتكم إليه ويشتكي خصماً له، قال: ائتني بشهود، قال: أنت أحد الشهود، قال: أنا لا أكون شاهداً وقاضياً، إن أردتني شاهداً فتقاضى إلى غيري أشهد عنده، وإن أردتني قاضياً فأتني بشهود. أي: أن الإنسان لا يكون في وقت واحد شاهداً وقاضياً. وبعضهم يقول: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري، فإني لا أشهد على جور) يبدو والله أعلم لولا مجيء قوله: (لا أشهد على جور) ، وقوله: (أشهد عليه غيري) فيكون هناك توجيه لما هو الأفضل والأكمل؛ لأنه ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه، سأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: لا. صلى، وإن قالوا: نعم. قال: صلوا أنتم، وهنا امتناعه عن الصلاة على المدين لا يكون ذلك في الحكم على الميت، ولكن في حكم الدين الذي هو عليه، ويكون حثاً على أداء الديون قبل الوفاة، فإن توفي وعليه ديون فعلى ورثته المبادرة بسداد ديونه، وهذا أيضاً فيه مفاضلة كونه يصلي على هذا ولا يصلي على ذاك، فكذلك هنا يشهد على هذا أو لا يشهد على ذاك، ليس ما يشهد عليه في الصراحة والإباحة كالذي لا يشهد عليه. إذاً: أقل مراتبه الكراهية. أما لما جاء فقال له: (فإني لا أشهد على جور) والجور: الظلم، فهنا اشتد الأمر، والإجابة عليه ليست وافية، فإنهم قالوا: يكون للكراهية، ولكن الأسلوب من حيث هو يدل على النهي والنفي. وهنا عطاء أحد الأولاد بعض المال، فهل هذا يصح أم لابد من التسوية بين الأبناء؟ سيأتي للمؤلف رحمه الله بعض النصوص في ذلك ويهمنا في حديث النعمان بن بشير أنه كان صغيراً؛ جاء في بعض الروايات ذكرها ابن عبد البر، قال: (فانطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله) وفي بعض الروايات: (يمشي بي) وجمعوا بأنه لصغره تارة يمشي وتارة يحمله كما يفعل الأب مع ولده الصغير، يحمله شيئاً ثم ينزله ويمشي معه شيئاً آخر، إذاً: أبوه كان قد استلم مكانه، وقبض الهبة من نفسه وهذا كما يقولون بالولاية. ولو أن أجنبياً أهدى لطفل وأبوه موجود فأبوه يقبض عنه، أو كان يتيماً وله وصي فوصيه يقبض عنه؛ لأن الصغير دون البلوغ ليست له صلاحية القبض ولا القبول، فوليه يقبل الهدية ويقول: قبلتها لفلان، ويقبضها عنه ويحوزها لديه. وتقدم الإشارة إلى كلام مالك رحمه الله تعالى بأن القبض يكون جائزاً إلا في النقدين، فلابد أن يعزل الهبة النقدية ويجعلها في يد أمين بعيدة عنه، مخافة أن يأتي الورثة فيما بعد ويقولون: هذا مال أبينا وهو تركة عنه.

شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب.

شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب ... ) يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) متفق عليه، وفي رواية للبخاري: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه) ] . هذا الحديث أيضاً يتناوله العلماء باختلاف: (العائد في هبته كالكلب يأكل ثم يقيء ثم يعود يلعق من قيئه) هذه الصورة نجد أن بعض الناس يقول: يجوز أن يعود في هبته، طيب والكلب يعود؟ قال: الكلب ما عليه لا حلال ولا حرام، فإنه لما يقيء ثم يرجع ويلعق من قيئه ليس حراماً عليه. إذاً: لا مانع أن يعود الإنسان مع التقبيح والكراهة. والآخرون قالوا: لا، جاء اللفظ: (ليس لنا مثل السوء) فالرسول عندما يضرب المثل بكلب يقيء. انظر الصورة! ليس بكلب يأكل ثم يترك ثم يعود لما كان يأكله، يعود لفريسته مرة أخرى، لا، وإنما يقيء، فكأن الذي وهب ما كانت هبته خالصة ولكن كأنها استخرجت منه بشدة، كالشخص الذي يقيء رغماً عن أنفه، فيكون حينئذ أخرجها بغير اختياره، أو أخذت منه كرهاً عليه، فحينئذ يتطلع إليها، وسيأتي في قضية فرس عمر رضي الله تعالى عنه: (لا تبتعه ولو بدرهم) . وهنا الذي يعود في هبته عام في جميع أنواع الهبات، وفي كل من يهب شيئاً، حتى الواهب يهب ولده، فإذا رجع فيها شمله هذا الحديث. والذين يجيزون عودة الأب في هبة الولد لأنه ملكه، قالوا: عودة الأب كحديث النعمان، قال النعمان: (فرجع أبي فارتجع تلك الصدقة) ، كان قد وهبه وأعطاه، فهذا مخصص لعموم من وهب، كأنه يقول: من وهب ثم رجع إلا الوالد إذا وهب لولده فرجع عن هبته فلا مانع. والبعض يقول: لا، بشير لم يكن أمضى الهبة، بل كان عرض على عمرة أن يهب للنعمان غلاماً، وهي إلى الآن ما قبلت ولا أمضت الهبة، بل قالت: (لا أقبل حتى تشهد رسول الله) . إذاً: عقد الهبة إلى الآن لم ينعقد، فكون بشير يرجع في هبته لولده غلاماً فإنه رجع قبل انعقاد عقد الهبة. إذاً: فهذا الحديث يعم، وإنه ما كان قد أنفذ الهبة ولا كان قد قبضها باسم ولده؛ لأنه من حقه أن يقبض لولده الصغير، فقالوا: رجوعه ليس كالكلب يعود في قيئه؛ لأنه لم يكن قد أتم وأمضى الهبة بدليل أن زوجه عمرة قالت: لا أقبل. إذاً ما تم القبول، هو أعطى وتولى القبض والقبول، قالت: (لا. حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) . إذاً: إلى الآن الهبة معلقة حتى يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك تخصيص للحديث، ويكون هذا الحديث عاماً في كل هبة والدا ًكان أو أخاً أو أختاً (فرجع في هبته) . وبعضهم يقول: إنما هو في الصدقة التبرر والتطوع؛ لأن المتصدق أخرجها لوجه الله رغبة في الأجر عند الله، فلا ينبغي له أن يبطل نيته تلك وأن يفسخ عقده مع الله في تلك الصدقة، بخلاف الهبة للبشر، فإن له أن يعود فيها، ويكون الحديث على رأيهم خاص بمن تصدق بصدقة لفقير أو مسكين لوجه الله. وتقدم لنا الفرق بين الهبة والصدقة؛ فإن الصدقة تعامل مع الله، ينتظر فيها ثواب الله، والهبة تعامل مع الإنسان ينتظر مثوبتها عند الإنسان بمجاملة أو مودة بمصانعة بتمهيد لصداقة لقضاء حاجة، هذه هي الهبة التي تدور في فلك الإنسان، من إنسان إلى آخر، ولكن الصدقة تخرج من فلك الإنسان إلى رب العزة فيتعامل مع الله.

شرح حديث: (لا يحل لمسلم يعطي العطية ثم يرجع فيها.

شرح حديث: (لا يحل لمسلم يعطي العطية ثم يرجع فيها ... ) يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] . لا يصح لأحد أن يعطي العطية، نحن قلنا: العطية والهدية والهبة والنحلة كلها أسماء لمسمى واحد، ولا يختلف ذلك إلا مع الصدقة؛ لأن الصدقة تعامل مع الله، يرجو فيها ثواب الله، ولهذا يخفيها ولا يريد أن يطلع عليها أحد، بخلاف الهبة فإنه قد يرائي فيها ويظهر المصانعة مع الآخرين. ولا يحق لإنسان أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، كالحديث الأول ثم قال: (إلا) وهذا نص بالاستثناء، فهو يستثني نصاً صريحاً: (إلا الوالد إذا أعطى ولده له أن يرتجع) ، يرتجع لأي شيء؟ هل يرتجع عن أصل الهدية ويقف عنها ويلغيها، أم يرتجع ليسوي بين هذا الشخص وبين بقية إخوته؟ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ بشير: (اتقوا الله وسووا بين أولادكم) يقول العلماء: إما أن يعطي بقية الأولاد كما أعطى هذا الولد، وإن كان لا يوجد عنده ما يكفي لعطاء جميع الأولاد كهذا الولد ارتجع مما أعطاه لهذا الولد وكمل به ما معه ليعم العطاء لجميع الأولاد. إذاً: الوالد قد يضطر إلى الرجوع فيما أعطى الولد؛ لتتم التسوية في عطاء الأولاد، وماعدا الوالد لا حق له في ذلك حتى الجد والأم ليس لهم الرجوع في العطية.

شروط الرجوع في عطية الولد

شروط الرجوع في عطية الولد تقدمت الإشارة إلى أنه إذا لم يكن هناك أولاد، وكان عطاء من الوالد لولده الواحد، فإن رجوعه فيما أعطى الولد يشترط له بعض الشروط: أن تكون العين باقية في ملك الولد، ولو أن الولد وهبها أو باعها، أو عبداً أعتقه، أو جارية أولدها، فإنه في هذه الحالات لا يملك إرجاعها؛ لأنها انتقلت من ملك الولد إلى ملك الغير، وكذلك الجارية: إذا وهب ابنه جارية فاستمتع بها وحملت منه أصبحت أم ولد، وأم الولد لا يملك سيدها أن ينقل ملكها إلى غيره؛ لأنها تعتق عند موته. وجاء الخلاف عند الحنابلة، ونص المغني شكل، ونص كشاف القناع شكل آخر، فالمغني يقول: مالم تتعلق بالعطاء رغبة الآخرين، وأشرنا إلى هذا المعنى بأنه لما أعطى ولده العطاء رغب الناس في التعامل مع الولد؛ لأنه أصبح له مال، خطب زُوج، والفتاة تخطب من أجل ما أعطاها أبوها: (تنكح لمالها) فإذا ما تزوج الولد، وتعامل مع الناس فداينوه، وتزوجت الفتاة، فإذا بالوالد يأتي فيرجع فيما أعطى ولده، كأنه أضر بالآخرين. الطرف الثالث الذي وجد: وهو من داين الولد من أجل عطية أبيه، ومن زوج الولد من أجل عطية أبيه، ومن تزوج البنت من أجل عطية أبيها، هؤلاء يتضررون إذا رجع الوالد في عطائه لولده، والأصل: (لا ضرر ولا ضرار) . هذا الوجه يذكره ابن قدامة في المغني قولاً واحداً، وكشاف القناع يذكر الروايتين: ولو تعلقت به رغبة الآخرين، بهذا النص. ولو رهنه ينتظر الوالد حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن لا ينقل ملكية العين عن مالكها، فهو حدث يمنع التصرف في المال، والراهن بنفسه لا يحق له أن يبيع الرهن، ولا يحق له أن يعتقه إن كان عبداً أو أمة؛ لأنه متعلق بالدين الذي في ذمته، فهو رهن لوفاء الدين، فإذا باعه انتفى مقصود الرهن، فإذا كان الولد قد رهن ما أعطاه أبوه في دين عليه. قال في الكشاف في الرواية الأخرى: ينتظر الوالد فك الرهن ثم يرتجع المرهون، ولكن المغني قدم عدم الرجوع قولاً واحداً. ثم من شروط رجوع الوالد: أن لا يزيد العطاء في يد الولد، والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة منفصلة وزيادة متصلة، فالزيادة المنفصلة كأن وهبه ناقة ثم لقحت الناقة فأنتجت وأصبح لها فصيل، وأراد الأب أن يرتجعها، قالوا: له أن يرتجع الأصل والنماء للولد؛ لأنه نماء وقع في ملكه. أما الزيادة المتصلة التي لا يمكن فصلها، بأن كانت الناقة عجفاء، فعلفها حتى سمنت، أو كان الغلام جاهلاً عامياً فعلمه القراءة والكتابة، أو علمه صنعة، فهذه زيادة متصلة بالشخص لا يمكن فصلها عنه كفصل النتاج عن الناقة؛ فحينئذ لا يحق للأب أن يرتجع هذه الهبة؛ لأن الولد صارت له شراكة في هذه العين بقدر الزيادة التي زادت واتصلت. كذلك من شروط رجوع الوالد في حق ولده: ألا تكون العين قد تلفت، أما إذا كانت نقصت بأن كان سميناً ثم هزل عنده فهو بالخيار؛ لأنه رضي بهذا النقص، فله أن يرتجع هبته إن أحب، وهذا كله تفصيل في رجوع الوالد فيما أعطاه لولده. أما تملك الوالد من مال الولد ابتداء فيزاد فيه شرط آخر: وهو ألا يأخذ مال الولد هذا ليعطيه للولد ذاك؛ فالحديث بين أنه فيما أخذه لنفسه: (أنت ومالك لأبيك) ما قال: لأخيك، فإذا أخذ الوالد من مال ولده ودفعه لولد آخر فيكون قد أعطى مال الولد لأخيه وهذا لا يصح له.

شرح حديث: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية.

شرح حديث: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ... ) يقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: نعم) رواه أحمد وصححه ابن حبان] . قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) . الهدية بالثواب في حكم البيع، إن رضي المهدي لما عوض عنها مضت وإلا ارتجعها، ولهذا الأعرابي لما أعطى لرسول الله، قال له: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، لأن البيع عن تراض، وهذا ما رضي. وقالوا: إن الهبة للثواب جائزة عند الجميع إلا من رسول الله، لا يحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب هبة ينتظر ثوابها؛ لأنه في غنى عن الخلق، ولا يطمع في زيادة من أحد؛ لأن هذا ليس من مكارم الأخلاق، أما أن يقبل ويثيب هو فهذه مكارم أخلاق. والعادة أن الواهب مع الموهوب له ثلاث حالات: إما أن يكون مساوياً له، يعني: وهب لنظير مساوياً له، أو يكون دونه وأقل منه، أو يكون وهب لمن هو أعلى وأغنى منه، وكل هذا جائز في الهبة، فإذا كان قد وهب لمساويه، إن كان يقول: هذه هبة ثواب تعينت، وعلى الموهوب له أن يثيبه عليها وإلا ارتجع هبته، وإذا لم يسم ثواباً فهي هبة للمودة وليست للثواب؛ فالقرائن هي التي تبين ذلك. وإن كان قد وهب لمن هو دونه، فليس من المعقول أن يهب لشخص أقل منه مالاً وجاهاً وينتظر منه أن يثيبه ويعطيه. لكن إذا وهب لمن هو أعلى منه: يأتي إنسان لأمير من الأمراء أو تاجر من التجار أو ولي أمر أو كذا أو كذا ويهدي إليه أعواداً من الأراك، السواك موجود ومتوفر، لكن هل هو أراد أن يهاديه ليتودد إليه أو يصانعه من أجل الثواب عند الله؟ لا. إنما تطلع لما يثيبه عليه من أهدي إليه، وجرت العادة أن من كان أعلى من المهدي لا يعاوضه مثل قيمتها وإلا ما الفائدة؟ سيذهب بها عند الآخرين. العادة من مكارم الأخلاق أن ذوي اليسار إذا أهدى إليه إنسان فقير أن يضاعف له قيمة الهدية؛ لأن هذا هو المقصود، ولما جاء الأعرابي وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، قال: أعطوه، فأعطوه ثلاثاً، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، ثم أعطوه ثلاثة أخرى، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: أعطوه، فزادوه ثلاثة أخرى، فأصبح عددها تسعة، قال: رضيت؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت ألا أقبل هدية ثواب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي) لماذا؟ لأنهم لا يعاملونه مثل هذه المعاملة. إذاً: الهدية للثواب حكمها حكم البيع، وتفصيل ذلك: إنسان جاء وأهدى سيارة لمن هو أعلى منه بقصد المثوبة، فجاء وأعطاه سيارة أو وناقة، الذي أخذ السيارة جاء ليشغلها فإذا بها عيب، هل يلزمه أخذها بعيبها أم له حق الرد للعيب الموجود؟ له حق الرد؛ لأنه دفع قيمتها، فهبة الثواب يجري فيها أحكام البيع، كذلك الذي وهب السيارة وجد العطل الذي مع سيارته غير صالح، له حق أن يرجع ويرده، ويقول: أنت أعطيتني شيئاً غير صالح وعليه أن يعوضه عن هذه السيارة. ويقولون: المعاوضة في هبة الثواب أقل حد فيها القيمة، ولكن يقولون: ليست من عادة ذوي المروءة أن يعامل المهدي الأقل كمعاملة السوق، يريد قيمتها، ما هي الفائدة إذاً؟ كونه يتعنى أن يهدي إليك بالذات ويعطيك هذه الهدية، هو يريد أكثر منها، لكن يقولون: لا يجوز أن يثيبه عليها أقل من قيمتها، والشافعي رحمه الله في الجديد عنه قال: لا تصح هبة مثوبة؛ لأنها معاوضة على مجهول، والذي يهدي لا يعلم ماذا سيعطيه المهدى إليه، فكان هناك مبايعة على غير بيع؛ ولذا نفى الشافعي رحمه الله الهبة للثواب، وقال: هذا بيع فيه جهالة في الثمن، فلا تصح، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)

شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له) يقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له) متفق عليه، ولـ مسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه) وفي لفظ: (إنما العمرى التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) ولـ أبي داود والنسائي: (لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقد شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته) ] . بعدما أتى المؤلف بإجمال مواضيع الهبة والعطية والنحلة على ما تقدم في تفصيلها، وحكم الرجوع فيها، والتسوية بين الأبناء، جاء بأحكام العمرى، وقبل أن نخرج إلى العمرى، تذكرون أن سائلاً بالأمس سأل: هل يجب على الوالد أن يساوي بين أولاده بالنفقة أم لا؟ موضوع المساواة بين الأبناء إنما هو في العطاء، (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟) أعطيتهم مثل هذا، أما النفقة فليست عطاء. النفقة أداء واجب، وأداء الواجب يكون بقدر ما يؤدى به هذا الواجب، إذا كان عنده ولد طالب في الجامعة، وعنده ولد طالب في الابتدائي، هذا الطالب الذي في الابتدائي هل يحتاج من النفقة والمصاريف ولوازم الدراسة بقدر ما يحتاج طالب الجامعة؟ لا يحتاج. فهل نقول: نعطي الصغير بقدر ما نعطي الكبير لأجل المساواة؟ لا، فالمساواة هنا إيفاء كل ذي حق حقه، فلا يقصر مع الطالب الجامعي لكثرة نفقته، ولا يغدق على الطالب الابتدائي لقلة مئونته، بل يعطيه، اليوم بدأت الدراسة، يريد حقيبة، يريد دفاتر، يريد كتباً، يريد مسطرة، هذه الأشياء يحضرها له، لكن طالب الجامعة يريد مواصلات، وربما احتاج إلى سكنى، وإلى ملابس فطلباته أكثر وأوفر، وكذلك البنات: البنت الصغيرة في سنة أولى والبنت الكبيرة في الجامعة، فكل من الأولاد له حق، وحقه إعطاؤه ما يفي مطالبه، فلا يقصر مع الكبير ولا يسرف مع الصغير؛ لأن الصغير في طريقه إلى ما وصل إليه الكبير، وسيأخذ كما أخذ الكبير. بقي هنا مسألة وإن لم يأت السؤال فيها فهي تفرض نفسها، فيما إذا كان للوالد خمسة أولاد: ثلاثة ذكور وبنتان، فزوج من الأولاد ولدين وبقي ولد، وزوج من البنات بنتاً وبقيت بنت، اللذان زوجهما أبوهما بقي الثالث، هل من حقه أن يفرد هذا الولد الثالث بشيء يساعده على الزواج كما زوج الولدين؟ وهل يعطي البنت التي لم تتزوج ما يساعدها في زواجها كما زوج الأولى؟ تقدمت القاعدة العامة: هل يجوز للوالد أن يفاضل بين أولاده لوصف قائم؟ جاءت النصوص عند الحنابلة أيضاً بأن الوالد له أن يفاضل بين أولاده خاصة لوصف قائم بأحدهم، وأشرنا إلى ذلك سابقاً بأن كان ذا عائلة أو كان مريضاً زمناً لا يقوى على العمل بأن كان متفرغاً لطلب العلم، فللوالد أن يميزه عن بعض إخوانه في العطاء، إذا أعطى إخوانه عشرة يعطي واحداً من هؤلاء عشريناً. ثم هناك من يقول: التسوية في الحالة العادية، لو أعطى الولد عطاءً زائداً ثم أراد أن يسوي بين الآخرين، على أي قياس؟ فبعضهم يقول: على قياس قسمة التركة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، والبعض يقول: لا، هذا كميراث حق الله، وهذا عطاء من الوالد، فالبنت والولد في ذلك سواء، وجاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا وسووا، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء على الرجال) والآخرون يضعفون هذا الأثر ويقولون: الولد أحق بالمفاضلة من البنت؛ لأن الولد سيلحقه غرم في الزواج فسيدفع صداقاً للزوجة، وسينفق عليها وعلى أولاده منها، أما أخته -أي: البنت- فلا تطالب بشيء من ذلك، تأخذ حصتها من الميراث وتتزوج وتأخذ صداقاً، وتجد من ينفق عليها، ولا تكلف بشيء من ذلك. إذاً: قسمة الميراث راعت حق الولد أو الذكر لما يتبعه من تبعات في الحياة. إذاً: لو كان أحد الأولاد به صفة يحتاج بها إلى مفاضلة فإنه لا مانع في ذلك، وإن كانت الرواية الأخرى في الكشاف عند الحنابلة: مهما كان وصفه لا يفاضل به، ولكن الحاجة تعطى، حتى ذكر لو أنه زوج ابنته فجهزها فأعطاها عليه أن يعطي أولاده مثلما أعطاها، وهذا ذاهب للعروس ليس لنا دخل فيه، ولكن يعطيها لكونها انتقلت من بيته إلى بيت آخر، لكونها تبتعد عنه، فلابد أن يسوي بهذا العطاء بقية إخوانها، وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [2]

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [2] لقد نهى الشرع عن الرجوع في الهبة أو الهدية أو الصدقة؛ لأنها ليست من الصفات المحمودة، ولما يترتب على إنفاذ الهدية أو الهبة من مصالح محمودة، فهي تزرع المحبة والمودة وتسل السخيمة والبغضاء من النفوس.

شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه.

شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه ... ) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن عمر قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم) الحديث متفق عليه] . هذا الحديث أعتقد أنه كان ترتيبه الطبيعي مع أحاديث الباب قبل قضية العمرى والرقبى، ولكن له علاقة بالعمرى والرقبى التي كانت موجودة في استرجاعها، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (حملت على فرس في سبيل الله) بمعنى: أنه وجد إنساناً رغب في الجهاد، ولم يجد ما يبلغه أو ما يركبه فيساعده على القتال، فأعطاه فرساً من عنده يحمله عليه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:92] ما عندهم شيء يوصلهم، ونعلم قلة الظهر في السابق في غزوة بدر كان الثلاثة والأربعة يتعاقبون على بعير واحد، فلو كانت متوفرة لكان كل واحد ببعيره، فالمسافة ما يقارب مائة وخمسين كيلو، فـ عمر رضي الله عنه فعل ذلك من باب الجهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال، ثم نظر إلى فرسه عند من كان حمله عليه، (فأضاعه) ، وكلمة الضياع تطلق على التلاشي، تقول: ضاع الكتاب ضاع القلم ضاع الدفتر يعني: ليس عندك، فيكون في يدك وتقول: ضاع، يقولون: (ضاع) تصرف إلى معنى: أهمله كأنه ضيعه، أي: قلّت الاستفادة منه بسبب إهماله، والفرس يضيّع؟ نعم، مئونة الفرس للجهاد في سبيل الله مئونة شاقة، كما قالت أسماء رضي الله عنها عندما لحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من طريق الغابة، وهي تحمل النوى على رأسها، فلما عرفها أشفق عليها وأناخ راحلته ليردفها خلفه، تقول: تذكرت غيرة الزبير، فاستحييت وامتنعت، فأخذ مني قفة النوى وحملها عني، ثم قالت: والله ما أرهقني إلا فرس الزبير. خدمته وعلفه وسقيه، والآن نجد بعض الهواة للخيل يجعلون له خادماً وسايساً ومنظفاً. يعني: يمكن ثلاثة أشخاص يخدمون الفرس، وهذا للعناية به، والفرس حساس نظيف، يحب النظافة والأناقة والطرب، فيحتاج إلى خدمة، فإذا ما قصر صاحبه فيه أضاعه، والفرس لا يألف المكان غير النظيف، ولا يألف على طول المدة دون أن يغتسل ويغسل، وهكذا كما يقولون: أرقى النباتات النخلة، وأرقى الحيوانات الفرس، فهو أرقى الحيوانات وأذكاها. نأتي إلى قول عمر: (فأضاعه) لا شك أن عمر لديه الإمكانيات لعلف الفرس ولخدمته، ولما يتناسب مع مهمته، فلما حمل عليه شخصاً الأصل أنه فقير لا يجد ما يركب عليه، إذا أعطي فرساً أصيلة مخدومة ليس بإمكانياته أن يوفيها حقها. إذاً: ضاعت فعز على عمر أن يرى فرسه المدلل، أو يرى فرسه المخدوم المعلوف المتميز مهملاً مضيعاً ولا يؤدي مهمته، والعرب كانت تعنى بالخيل قبيل المعارك بالتضمير. أي: يضمرها، كما عندنا في السباق: (سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحفياء، وبين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق) فالمضمرة شيء وغير المضمرة شيء آخر، وتضمير الخيل: هو أن يعطى العلف متى ما شاء، دائماً يأكل حتى يشبع ببطر، ثم قبل المعركة يؤخذ هذا الفرس ويجلل بالثياب المتينة الصوف، ثم يوضع في غرفة قليلة التهوية؛ ليعرق بلباسه عليه وضيق الغرفة، فيخرج من ضخامة بدنه السيولة، كما يقولون: الماء من داخل الجسم في العرق الذي يخرج ويفرزه، فيحتفظ بقوة عضلاته، ويتخلى عن فضلات جسمه فيما يخرج من أملاح ومياه في العرق. فهذه خيل مضمرة. يعني: صارت ضامرة بعدما كانت سمينة متينة. أي: صارت نحيفة مع الاحتفاظ بقوتها، فأهل الخيل يعتنون بها إلى حد بعيد، حتى في بعض ضواحي الشرقية، عندهم للفرس الحرة سجل تاريخ، كشهادة ميلاد الإنسان، متى ولدت؟ ومتى لقحت؟ ومن الذي لقحها؟ خيل من عند مِن؟ وأمها من؟ وهكذا يؤرخون للفرس تأريخهم للولد، بل الأولاد في البادية ليس عندهم شهادة ميلاد، لكن يحفظون تاريخ ميلاد أولادهم، أما الفرس فيكتبون؛ حتى إذا أرادوا بيعها ينتقل معها سجلها. وهكذا عناية العرب بالخيل، فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يتدارك فرسه الذي يعرف أصالته، ولكن هذه الخصيصة التي أكرم بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم مدرسة لنا ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام في الصغيرة والكبيرة، هذا عمر يريد أن يشتري فرساً، وما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ قال: لا. لابد أن أذهب فأسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أني كنت قد حملت عليها في سبيل الله، هل في شرائي إياها بعد ذلك فيه شيء؟ وهذه النعمة الكبرى التي امتن الله بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قضية النعمان وأمه وأبيه بشير بن سعد في المنحة، قالت: لا. اذهب وأشهد عليه رسول الله، وهكذا كانوا يدخلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشورة في الاستئذان في الفتوى، وكان بين ظهرانيهم يجيبهم عن كل ما سألوه عنه، وتجمع ذلك كله وانتقل إلينا تشريعاً للأمة، وأصبح كل من منح ولده دون بقية الأولاد هو بعينه بشير، وأصبح كل من تصدق بشيء ثم رآه مضيعاً وأراد أن يشتريه هو عمر بن الخطاب في فرسه، وتصبح هذه قواعد عامة وتشريعات للأمة في تلك الأحداث الصغيرة. لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له؟ قال: (لا. تبتعه) وباع وابتاع وشرى واشترى، كلها ألفاظ تأتي بمعنى البيع والشراء. (باع) بمعنى: أعطى السلعة، ابتاع بمعنى: أخذها، شرى كذلك، واشترى، كلاهما بمعنى الإعطاء والأخذ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] أي: باعوه. اشتراه: يعني: أخذه، (لا تأخذه لا تشتره لا تسترده وإن أعطاكه بدرهم) ، وما هذا يا رسول الله؟ هل هناك من يبيع فرساً بدرهم؟ ممكن هذا؟ عمر عظم في نفسه ضياع فرسه الذي يعرف أصالته فنفسه متعلقة به. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أعطاكه بدرهم) أي: ولو باعك إياه بأقل الأثمان، ليحط من تعلق عمر به، فيقابل شدة تعلق عمر بفرسه بقلة الثمن الذي يمكن أن يبيعه به صاحبه، وهذا أسلوب نبوي كريم يقابل المبالغة بنظيرها، (لا يفل الحديد إلا الحديد) . وهنا لعل إنساناً يكون عنده فضول ويتساءل: هو ما قال له: أعطني الفرس الذي أعطيتك إياه فضيعته، وإنما قال: أشتريه، وذاك الذي أعطي الفرس وضيعه من حقه أن يبيعه في السوق لأي إنسان؛ لأنه ملكه، فإذا كان من حقه أن يبيعه، ومن حق أي إنسان أن يشتريه، فما الذي يمنع عمر وهو صاحبه الأول بأن يكون هو المشتري إذا جئنا إلى المعادلة العقلية؟ نجد أنه لا فرق بين عمر في كونه يشتريه ممن هو في يده وبين غيره؛ لأنه بيع وشراء، قالوا: لا، هناك فرق؛ كون عمر هو الذي أعطى هذا الشخص وحمله عليه، سيجد صاحب الفرس الجديد أن لـ عمر عليه فضل، فعندما يقول صاحب الفرس الذي بيده: بمائة، فيقول عمر: لا، بخمسين، ماذا يقول الذي بيده الفرس؟ يماكس مع عمر، أما لسان حال عمر: أنا ما برحت أعطيتك إياه، فيضطر عند البيع أن يجامل عمر، وأن يتنازل عن بعض حقه، وهذا ليس من الإنصاف، لكن لو جاء إنسان آخر وقال: بتسعة وتسعين، قال: لا. فله الحق في ذلك؛ لأن الذي يسوم ليس له علاقة في هذه العين التي تباع. الشيء الثاني وهو الأهم: أن هذا الشخص لو باع الفرس لزيد، وأراد عمر أن يشتريه من زيد قيل له: لا. لأن الأصل أنه منك، والمعنى الأساسي في هذا الموضوع: ما الذي جعل عمر يتأسف على ضياع الفرس؟ ارتباطه به في الماضي. إذاً: حينما حمل عليه، هل انقطعت علاقته حساً ومعنى ورغبة ورهبة عن الفرس أم حمله وعينه تتطلع فيه؟ حمله وكل ما مر به نظر إليه، حمل عليه وكلما تذكره تذكر ماضيه. إذاً: تعلق نفس عمر بالفرس، وهذا يشير كونه تصدق به؛ لأن المتصدق يتصدق لوجه الله، فينبغي أن يخرج الصدقة من يده ومن قلبه وماله، ولا تكون لها أي علاقة بالمتصدق، فيكون أخرجها من ملكه، وفكره، وحسبانه. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقطع على عمر خط الرجعة في أن يفكر أنه كان له فرس لتمضي الهبة لوجه الله خالصة، ويجب أن تنقطع العلائق كلها من هذه الصدقة التي تصدق بها لوجه الله، وبقية الحديث هو الذي جاء فيه: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب) إلى آخر الحديث. وهنا يسأل بعض العلماء يقول: (العائد) وهل عمر عاد في هبته أم اشتراها؟ اشتراها، ونتيجة الشراء، فإنه لو اشترى الفرس سيكون عاد إليه بأي وسيلة، حتى لو جاء يهديه إليك هدية لا تقبلها؛ لأنه خرج من ذمتك ويدك، اللهم إلا الأمور التي ليست عن طلب ولا عن رغبة، وجرت عادة الناس فيها، كما يذكرون في باب الزكاة والصدقات، جاء رمضان وجاء وقت زكاة الفطرة وأخرجت زكاة فطرتك لجارك، ثم جئت يوم العيد تزور جارك، فقدم لك حسب العادة وحسب ما يقدم للآخرين (الدلة) والتمر، فجئت أنت وصب لك القهوة وقدم إليك التمر، فإذا به تمر زكاتك الذي أعطيته بالأمس، هل تأكل منه بحكم الضيافة أو تقول: لا، العائد في هبته؟ تأكل منه، وهل عندما تأكل منه يكون هذا عود في صدقتك أم قبول إكرام جارك إليك، سواء كان بتمرك أم بتمر غيرك، فحينئذ لا تكون عائداً في صدقتك.

شرح حديث: (تهادوا تحابوا)

شرح حديث: (تهادوا تحابوا) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن] . الأدب المفرد هو للبخاري، وهو من أنفس الكتب في الآداب، يورد أحاديث بر الوالدين وحكم الجوار، والرفق بالضعيف، وأشياء كثيرة في الآداب والأخلاق، كما فعل مالك رحمه الله في الكتاب الجامع في آخر الموطأ، وهكذا بعض العلماء إذا انتهى من تأليفه في باب الفقه والأحكام -حلال وحرام- يأتي بمجموعة من الآداب والذكر، حتى في كتابنا هذا بلوغ المرام، في آخره يأتي باب الذكر والدعاء، ليرقق النفس ويهذبها، ويربط الإنسان بربه في دعائه وفي حاجته، وكذلك البخاري رحمه الله جعل هذا الكتاب في مكارم الأخلاق والآداب، الذي هو الأدب المفرد.

الهدية سبب في زرع المودة

الهدية سبب في زرع المودة وفي هذا الحديث: (تهادوا تحابوا) الهدية من حيث هي سلاح المودة، ومراسيل التعاطف والتقارب والتآلف، وأعتقد أن كلنا يعلم ما فعلت بلقيس مع نبينا سليمان: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] جماعتها يقولون: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33] فنحن مستعدون! قالت: لا، هذا السلاح للمعركة، في وقت الشدة، ولكن الهدية سلاح الحرب الباردة، وسلاح التعاطف والمودة -نجس النبض- وكانت الأمم قديماً في العادات والتقاليد، إذا أرادت أسرة أن تناسب أسرة أخرى وتخطب منها قبل ما تتقدم بالخطبة ويعتذرون بالدراسة، لكنها أعذار جحا كما يقال، ويتعللون بعلل! كانوا قبل ما يقدمون على ذلك ويرسلون المراسيل لخطبة الفتاة يرسلون أولاً بهدية إليهم، يقول الكاتب: ولو حزمة ثوم، فهي مجرد هدية، وهم يعلمون أنه ما في هدايا فيما بينهم، فإن قبلوا هديتهم ولو على قلتها معناها تفضلوا أهلاً وسهلاً، فيتقدمون للخطبة، وإذا ردوها وقالوا: نحن عندنا ما نحتاج معناه: كونوا بعيداً لا تقتربوا. فكانت الهدية هي عنوان التقارب.

الهدية إلى الكافر وقبولها منه

الهدية إلى الكافر وقبولها منه الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الرسل بالكتب، وجاء حاطب إلى المقوقس بالإسكندرية رحب به وحصل معه محادثة لطيفة، من ضمن ما كلمه، قال: ألست تقول أن محمداً رسول الله وهو في عنايته وكذا وكذا؟ قال: بلى، قال: كيف يكون حبيب الله ورسول الله ويتركه لأهل مكة يخرجونه هارباً ليلاً؟ يعني: لماذا لم يحمه ولم يدافع عنه؟ قال له: أيها الملك! ألست تؤمن بالنصرانية؟ قال: بلى، قال: ألست تقول بأن عيسى ابن الله؟ قال: بلى، قال: كيف أن أباه تركه لليهود يصلبونه ولم يدافع عنه؟ فقال: حكيم جاء من عند حكيم، وهذه الأجوبة المسكتة، والعامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً. فـ المقوقس أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وحللٍ للبس، وخفاف، وشيئاً من الطيب، وبغلة، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا تجد الفقهاء يعتنون بمسألة: الإهداء إلى ومن الكافر: أتهدي إلى الكافر؟ نعم، أتقبل هدية الكافر؟ نعم. وقد جاء في الإهداء إلى الكافر: عمر رضي الله عنه لما رأى حلة تباع وأعجبته وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اشترها لتلبسها للوفود، فنظر فيها وردها ثم قال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) يعني: قماشها فيه شيء من الحرير، ثم بعد فترة أرسل رسول الله إلى عمر حلة من نفس ذلك القماش، فجاء عمر يجري، فيقول: قلت يا رسول الله: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) وترسل لي بها! معناه: أنا لا خلاق لي، قال: لا يا عمر، أنت أخطأت في المقدمات، ليس معنى إرسالي إياها إليك لتلبسها، ولكن لتتملكها، وألبسها من شئت، فأرسل بها إلى أخيه بمكة وهو على دين قومه. وهكذا في بعض سفراته صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً وجاء أعرابي يسوق غنماً، فقال له صلى الله عليه وسلم: هدية أم بيعاً؟ قال: لا. بل بيع، فاشترى منه شاة، وسأل أصحابه من عنده طعام، وكذا وكذا، وصنعوا طعاماً وأكلوا جميعاً وبقي الباقي في القصعة. يهمنا قبول الهدية من المشرك والإهداء إليه ما لم يكن حربياً؛ لعموم قوله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] وخاصة إذا كان ذا رحم فلا مانع. فالهدية من قديم موجودة متداولة بين الملوك وبين الأشخاص العاديين، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم مهمة الهدية بين الناس، وإذا تأملنا جميع التشريعات في الإسلام كالعبادات والتبرعات نجد أن لكل عمل مهمة، مثل الفيتمينات، كل فيتمين له غرض خاص , كذلك هنا الصلاة تنهى عن الفحشاء، والزكاة تطهر وتزكي العبد والمال، والصيام يزيد من التقوى، والحج فيه منافع لهم، وكل هذه العبادات فيها منافع للأمة، وكذلك الهدية. وعلمنا بأن قانون الحياة معاوضة، والهدية عوضها إما أن ينتظر مصانعةً، والرسول بين لنا فقال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تورث المحبة؛ وجبلت النفوس على حب من يحسن إليها، والهدية من الإحسان، وهذا جزء من حديث: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) ثم بين صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) . والهدية -كما يقولون- تكون بمناسبة وبغير مناسبة، والعامة يقولون: الهدية على قدر مهديها، غترة تلبسها، زميلك في الدراسة سافر في العطلة، وعندما أتى أهدى لك غترة، أو مدير الجامعة سر بنشاطك، وأعجب باستقامتك ومثاليتك في الطلاب، فقدم إليك غترة، فهل غترة زميلك التي جاء بها كغترة مدير الجامعة؟ هي هي! نفس القيمة والمقاس! لكن هذه حق مدير الجامعة! هذه والله أنا ما اشتريتها، بل أهداها لي مدير الجامعة!! إذاً: على قدر مهديها؛ لأنه عندما تذكرك في غيبتك وفكر في أن يهدي إليك. إذاً: أنت حاضر في خاطره، ما غبت عنه، ذكرك بالخير في الغيبة. إذاً: هذا يورث المحبة (تهادوا تحابو) .

شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة.

شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة) رواه البزار بإسناد ضعيف] . الهدية تسل السخيمة، والضغينة كلها وحر في الصدر، حقد حسد كراهية نفرة، موجودة بين إنسان وإنسان، فإذا فوجئت بهدية من شخص تكرهه وفي صدرك منه شيء، فوجئت به يقدم لك عود الأراك، ويقول: تفضل هذا سواك جديد، تجد أن هذا العود اليابس الذي تنظف فيه فاك له أثر في نفسك، يخفف من غليان الصدر وحقده، فإذا به غداً يعطيك قارورة عطر، والله هذه مسحت الماضي وعطرت المكان، وهكذا كلما تداول الناس الهدايا فيما بينهم كانت أدعى لسلامة الصدر، والبادئ هو الأكرم.

شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)

شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه] . : (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) الفرسن: ما بين الظلفين، والبعض يقول: رجل الغنمة، والآن هي تباع في السوق الواحدة بريالين أو بريال لكنها مستوية كاملة، فإذا كنت تريدين الإهداء إلى جارتك وما عندك شيء إلا فرسن شاة فلا تحتقرينه، وفي بعض الروايات: (ولو ظلفأً محرقاً) الذي هو مقدم الشاة تحرقه من أجل الصوف الذي فيه أو الظلف الغروي الموجود على الحافر ينزل ويبقى اللحم، وهذه من محقرات الأمور، يبين صلى الله عليه وسلم أن على الجارة أن لا تحتقر شيئاً تقدمه لجارتها. معناه: أنت أيها الإنسان! إذا أردت أن تهدي لا تحتقر ما عندك، وقدم ما بيدك فإن الكل صغيراً كان أو كبيراً داخل في جنس الهدية. ونحن نعلم قصة عائشة في حبة العنب، مرت امرأة مسكينة وهي تأكل حبات عنب، فأعطتها حبة، فأخذتها وظلت تطالع فيها تتعجب من الموازين المادية، فقالت: أتعجبين من هذا! كم فيها من ذرة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] وكذلك التمرة التي شقتها الأم وأعطتها لطفلتيها، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) لا أحد يتصدق بتمرة إلا إذا كان ما عنده شيء. إذاً: لا يحتقر الإنسان شيئاً يقدمه لصديقه، وبالتالي لا يحتقرن الصديق شيئاً أهدي إليه من صديقه، طالت غيبته ثم جاء على عود أراك، فلا تنظر إلى هذا العود، بل انظر إلى الدوافع، حينما أتى إلى بائع الأراك واشترى باسمك أليست هذه تكفيك؟! كونه عود صغير أو كبير، هذا شيء آخر. إذاً: لا تحقرن جارة لجارتها، ولا جارة من جارتها، ولذا جاء في الحديث: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) تطبخين دجاجة أو وصلة لحم املئي القدر ووزعي على الجيران مرقاً. على كل: كلما كانت الحياة مبسطة كانت أمورها بسيطة، وكنا نحن من قبل نقدم صحناً أو صحنين ويأكل الإنسان ويشبع والحمد لله، واليوم الحمد لله من أصناف الطعام لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، الموالح أصناف والحمضيات أصناف، والخضروات أصناف، وكل هذا، أصبح الإنسان يقدم فخذاً من حيوان أو شاة أو غيرها، ويستقلها! ولكن حينما كانوا يبحثون عن التمرة فلا يجدونها، لو أهدي لأحدهم فرسن شاة لفرح به، وليس المقصود فرسن الشاة بعينه، ولكنه ضرب المثل فلا تحتقر من المعروف شيئاً بأن تقدمه لأخيك. يقولون: إن بعض الأمراء أرسل إلى بعض التجار لكي يستلف منه مبلغاً، فذهب إليه الرسول، فقال: نعم، لنذهب إلى البيت فهذا التاجر المطلوب منه مشى ووجد جلدة شاة مرمية في الأرض على طريقه، فأخذها ونتف منها الصوف وهو ماشٍ ثم أخذ الجلد في جيبه، فجعل يغزل هذا الصوف الذي نتفه حتى صنع منه خيطاً طويلاً ووضعه في جيبه، والرسول يتعجب، هذا الذي بعثني إليه الأمير بكذا كذا دينار وهو يلتقط هذه الأشياء في الطريق؟! فلما وصلا البيت قال: أمعك كيس؟ قال: بلى، قال: هاته، فنظر فإذا الكيس مخروق، فأخذ تلك الجلدة ووضعها على هذا الخرق، وأخذ ذلك الصوف الذي غزله وأتى بالمسلة وخيطها، فعجبت حينئذ كيف جمع المال، استفاد منها. فهكذا الإنسان لا يحتقر الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد شاة ميمونة يجرونها قال: (هلا انتفعتم بإهابها) فلابد من الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه. وفي خلافة عمر رضي الله عنه أقام مأدبة للناس في المسجد بطعام من عنده، وأثناء تناولهم للطعام، جاء مرسول من كردستان أو كذا، فجاء وقال: أين أمير المؤمنين عمر؟ قالوا: هذا هو، جاءه فسأله عن البلاد، قال: أرضهم وعرة وليست بسهلة، ماؤها وشل، وعدوها بطل، قال: أنا أسألك أم تسجع لي؟ قال: أخبرني عنها، قال له بأن الله فتحها على المسلمين وأرسلوني بصفاياها إليك - الصفي والمرباع يكون لرئيس القبيلة أو لقائد الجيش، أو له أن يصطفي من عموم الغنيمة ما طاب له دون القسمة، فأرسلوا له ببعض التحف من الغنائم، فقال: أمسكه معك، وبعد العصر نلتقي، ثم قال له: اجلس كل مع الناس، قال: أكلت، ووالله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما أمامهم، ثم قال: هلم إلى البيت، فذهب ونادى زوجه أن تأتيه بغدائه، ما كان أكل مع الناس، فجاءته بطعام، فقال له: اجلس فكل، فقال: والله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما قدم إليك. ماذا نقول في هذا المستوى؟ إنسان مسافر، والزاد الذي في المزودة للسفر أفضل من الطعام الذي يقدم في بيت أمير المؤمنين، وهو صانع مأدبة للناس في المسجد. إذاً: تفاوت في الحياة في هذه الأمور، قد تجعل في النظرة للهدية فوارق، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة لعدم تقدير الهدية، ولا يكون مدعاة لردها لحقارتها، بل يجب أن تكون النفس عالية، والنظر إلى مهديها وظروف الإهداء، وأن يكون لها وقع عند صاحبها. ويذكر مالك في الموطأ: أنه كانت امرأة في ذي الحليفة، كل يوم أربعاء تأخذ السُلت وتطبخه في قدر وتأتي بالشعير وتخبزه لطلبة العلم. يقول: كنا نعد لذلك اليوم، تعد لماذا؟ أهي وليمة الملك؟ السُلت أقل من الشعير، وخبز من الشعير، يوضع عليه قليل من هذا السلت، ويقول: كنا نعد لهذا اليوم، ولكنهم كانوا راضين بحياتهم ومقتنعين. فهذه بعض نماذج وأمثلة لما كان عليه بعض السلف، وفي بعض الحالات لعلنا نخفف من هذا التغالي والتنافس في أنواع الموائد والأطعمة، ونسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، وأن يديمها لنا، إنه سميع مجيب!

شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها.

شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وهب هبة فهو أحق بها مالم يثب عليها) رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله] .

الهدية المقرونة بالعوض والثواب

الهدية المقرونة بالعوض والثواب هذه هبة الثواب: (من وهب هبة) عامة في كل ما تقدم (ما لم يثب) خصصت نوع الهبة (فهو أحق بها مالم يثب عليها) . إذا قدمها لمن هو أعلى منه وينتظر منه المثوبة عليها، فإذا خاب ظنه ما أعطاه شيئاً، يقول: أرجعها وهو أحق بها؛ لأنه قدمها كسلعة تثمن وكسلعة يعوض عليها أكثر من قيمتها، وهذا هو مبدؤه، وعلى هذا دفعها برضاه، فإذا لم يحصل على الثواب، تكون أخذت منه بغير طيب نفس، والإسلام حرم مال الأخ على أخيه إلا بطيب نفس. (والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله) . إما من كلام عمر أو من قوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك من باب التشريع، وعمر ممن أمرنا أن نأخذ عنهم رضوان الله تعالى عليه. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب اللقطة

كتاب البيوع - باب اللقطة لقد عالج الشرع الكثير من الجوانب الاجتماعية بين الناس، ومن تلك الجوانب: اللقطة التي تضيع من الإنسان بسبب الزحام أو الذهول عنها لأمر ما، وقد قنن الشرع لتلك الحوادث أحكاماً، منها: جواز أخذ الحقير منها، وما لا تتبعه همة من أضاعه، وأما في الأمور العظيمة فقد ألزم الملتقط بأمور منها: أن يعرف أماراتها من عفاص ووكاء ونحوه، ثم يعرفها سنة، ويشهد ذوي عدل على أماراتها، وأما في ضالة الحيوان فقد قسمها إلى قسمين: قسم يعتدي عليها الذئاب فأجاز أخذها، وقسم تدافع عن نفسها، وتصبر على جوعها وعطشها فأمر بتركها، ومن أهم ما ينهى عنه من اللقطة: لقطة الحاج والمعاهد، فهي سواء في حكمها مع لقطة المسافر، ولا يجوز أخذها.

شرح حديث: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق.

شرح حديث: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق ... ) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أنس قال: (مر النبي الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه] .

حكم لقطة الأشياء المحتقرة

حكم لقطة الأشياء المحتقرة المؤلف رحمه الله صدَّر هذا الباب بحديث التمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق) . أي: الطريق المعهود، وليست في خلاء ولا خراب، وقولنا: (في الطريق المعهود) . أي: مظنة أنها وقعت من إنسان مر بهذا الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) . بدأ المؤلف بهذا الحديث ليبين: أن الشيء التافه لا يدخل في حكم اللقطة في تعريفها وتملكها وغير ذلك، وأن التمرة لو سقطت من إنسان لن يعود ليبحث عنها، فهي تمرة من ضمن التمر، وهذا أمر بسيط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول معللاً ذلك بأمر خارجي: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ، لماذا؟ لأن الصدقة محرمة عليه، فتورعاً وتخفظاً من المحرم عليه امتنع من أكلها، ولو علم أنها ليست صدقة لأكلها. وكيف يأكلها وهي ملك للغير؟ قالوا: يلتقطها؛ لأنها أمر تافه. إذاً: التافه ليس من باب اللقطة، ولا يحتاج إلى تعريف. ويذكرون عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها وجدت تمرة في الطريق، فأخذتها فأكلتها وقالت: (إن الله لا يحب الفساد) ، يعني: لو تركتها لفسدت، ووطئها الناس، وجاء عليها الغبار وتلفت ولم يُستفد منها أحد، وهي لا تحرم عليها الصدقة. ومن ناحية أخرى: كونه صلى الله عليه وسلم يلتقط تمرة ويمتنع من أن يأكلها، فأين يذهب بها؟ قالوا: كما جرت العادة في أصغر طفل أو إنسان يواجهه -ممن لا تحرم عليه الصدقة- يعطيه إياها، كما كانوا في المدينة من عادتهم إذا جاءت باكورة الثمرة في أول مجيء الصيف ظهرت كالتين؛ والحماط نضجت حبة منه، يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بوجودها، علماً منهم أنه يفرح بفرحهم، وليدعو لهم، وحينما يعطوه إياها هل يستأثر بها لنفسه؟ لا. أو يردها على من أتى بها؟ لا. بل ينظر إلى أصغر الموجودين في المجلس فيقدمها إليه. وكنت قد وقفت منذ زمن على خبر مثل هذا: (أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى تمرة في الأرض فالتقطها ليأكلها) . وهذا شيء طبيعي؛ لأن الطفل لا يعرف إلا ما ألقت يده إلى فمه، سواء كان نافعاً أو غير نافع، (فأدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيه، وهو يقول: كخ كخ- لأن هذه لغة الطفل- ويخرج التمرة من فيه ويقول: أخشى أن تكون من تمر الصدقة) . إذاً: الصغير لا يقره وليه على التقاط ما لا يجوز أكله، أو على أكل ما لا يجوز له في حكمه شرعاً، وإن كان صغيراً ليس عليه تكليف، لأن وليه مسئول عنه. ومن هنا قالوا: من وجد شيئاً تافهاً لا تتبعه همة أصحابه فأخذه فلا مانع، وجاءت روايات بعض الأحاديث: (لقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، وفي الحبل، وفي الشسع) ، شسع النعل: هو الخيط الذي يأتي في مقدمة النعل، ويأتي في القدم بين أصبع الإبهام والتي تليها، ويربط على وسط الرجل، فهذا الشسع من التوافه، ومما لا يلتفت إليه. وكل زمن له مقاييسه، فإذا وجدنا من مستحدثات الأمور وتوابع الحياة أشياء لا يتبعها صاحبها ويرجع إذا افتقدها ليبحث عنها، اعتبرناها لقطة؛ مثلاً: الطلاب في المدارس يخرجون، يسقط منهم مرسام، يسقط منه ورقة، المساحة، فهو لا يرجع يبحث عنها؛ لأن أباه سوف يشتري له غيرها بدون عناء، فمثل هذه في عرف الطلاب لا يبحث عليها، لكن لو ضاع منه قلم (باركل) سيرجع إلى المدرسة ليفتش عنه؛ لأن قيمته غير المرسام، وكذلك لو سقط منه كشكول كبير؛ بخلاف ما إذا كانت ورقة عادية. إذاً: الأمور بالعادات وبحسب الوقت والعرف؛ فننظر في أي زمان ومكان وجد هذا الشيء، وما قيمته؛ فإن كان مما لا تتبعه همة الناس فيأخذه، وإن كان مما له قيمته وتتبعه همة الناس وتبحث عنه فهو في حكم اللقطة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة.

شرح حديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن خالد الجهني قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة؟ فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة) ] . [ (جاء رجل) ] .

أحكام اللقطة

أحكام اللقطة من هذا الرجل؟ مجهول، ولكن من هذا المجهول؟ صحابي؛ لأنه يسأل رسول الله. إذاً: ثبتت له الصحبة وثبتت له تبعاً الثقة والأمانة، فلا نحتاج إلى أن نعرف عينه ما دمنا قد عرفنا جنسه، والصحابة كلهم عدول، ولسنا في حاجة إلى أن نبحث عن اسم هذا الرجل، كما يقول بعض العلماء: بحثت عن اسمه فلم أجده، ويجيء الثاني ويقول: ظفرت باسمه بحمد الله في موضع كذا وكذا. [ (جاء رجل) ] . كان السائل رجلاً، وهذا كما يقال: قضية عين؛ ووصف طردي، ليس له أي أثر. [قال الرجل: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة) ] . كلمة اللقطة معناها شيء يلتقط منقول وليس من بهيمة الأنعام.

وجوب معرفة وكاءها وعفاصها

وجوب معرفة وكاءها وعفاصها [ (قال: اعرف عفاصها) ] . العفاص هو كما هو معروف عند بعض الناس ممن يهتمون بالغترة والمكوى، يمسكها شخص يقول: عفصتها، يعني: ثنيتها، فكذلك العفاص: هو الوعاء الذي ينثني على ما بداخله، فالعفاص مقابل الكيس والخرقة، ولكن سمي بوصفه الذي يئول إليه؛ لأنه إن عفص على ما فيه حفظه، فعفاصها: كيسها، خرقتها، نوع قماشها ولونه وحجمه. [ (ووكاءها) ] . الوكاء: هو الرباط؛ كما جاء في الحديث: (إن البلاء لينزل ليلة في السنة، فأوكئوا السقاء، وأطفئوا السراج، وخمروا الإناء، ولو لم يجد أحدكم إلا عوداً يجعله بعرضه عليه ويسمي الله كفاه، وأطفئوا السراج؛ فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم) . الفويسقة: الفأر، ذكراً كان أو أنثى. وكيف تضرم -أي: تحرق- على الناس بيوتهم؟ كانوا يستضيئون بالزيت، مثل القناديل التي كانت معلقة في المسجد كان يوضع فيها القنديل بالزيت، وهو إناء مثل الكأس يوضع فيه الزيت، ويوضع فيه فتيل من القطن؛ يسمى: السحيل، فيوضع هذا الإناء في الكأس، ويجعل طرفه على حافة الكأس من خارج، ويشعل بالكبريت، فالشعلة التي تجيء في هذا الفتيل تضيء، وكلما كان الزيت نقياً كان الضوء أصفى، قال الله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] فتأتي الفأرة من أجل أن تشرب هذا الزيت، وتخاف من الشعلة فتجيء بذنبها وترفع الشعلة عن الكأس بالكلية، ولما تطرحه تطرحه على أرض الغرفة على الفراش، فتضرم على الناس بيوتهم. قوله: (أوكئوا السقاء) ، لماذا؟ لأنك إذا تركت القربة مفتوحة الفم -خاصة في المناطق الحارة- فإن هوام الأرض تتتبع الرطوبات، فقد تأتي إلى القربة وتدور وتبحث فتجد هذا المأوى في فمها لرطوبته، فتدخل فتؤذي أصحابها، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب الإنسان من فم القربة، ولكن يصب الماء في إناء ويشرب منه؛ لأنه لو كان في فم القربة شيء من تلك الهوام سينزل في الإناء وتراه، وإذا كان سليماً، فالحمد لله. فالوكاء هو الخيط أو الحبل أو السلك الذي يربط به العفاص، وقد تكون مخيطة وليس عليها وكاء، لكن أيضاً خيطها الذي خيطت به قد يكون متميزاً. وفي بعض الروايات: (وعددها) كيف (وعددها) وهي مربوطة بخيط وأنا ما فككتها؟! ولذا بعض العلماء يسقط كلمة العدد، والذين يثبتونها قالوا: أتى بصفات العفاص والوكاء فككناها وعددنا، هل اتحد العدد مع ما يقول أم لا؟ وبعضهم يقول: الإنسان قد ينسى عدد الدراهم التي في العفاص. لو قلت لك الآن: أخرج محفظتك، وكم فيها من ريال فقد لا تضبط ذلك الضبط الكافي، لكن يمكنك أن تعرف ما فيها من حيث الجملة. إذاً: قالوا: العدد ليس بشرط، وكونه يعرف عفاصها ووكاءها عبارة عن أمارات وشواهد على أن اللقطة له هو؛ لأنها لو لم تكن له ما عرفها. إذاً: (اعرف عفاصها ووكاءها) لتكون علامات وأمارات لمن يأتي ويصف، ويكون هذا الوصف قرينة وبينة على أنها له، وهل يأتي ببينة على أنها له؟ وهل يحلف اليمين بأنها له؟ كل هذا وارد، ولكن سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله.

وجوب تعريف الضالة سنة

وجوب تعريف الضالة سنة [ (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة) ] . إذا لم تكن في صرة، كشنطة أو خُرج، أو شيء من هذه الأشياء التي جرت العادة أن توضع فيها الأمتعة، فالحجم قد يكون متفقاً، أو حتى أنهم في بعض حوادث الإجرام يأتون بشنطة مثل الشنطة ويحصل تبادل في الزحام، ويذهبون بالشنطة الحقيقة ويورطونه في شنطة أخرى، والشكل واحد، ممكن أن يقال في هذا: ما دام أن الشنطة لها أرقام، يقال له: بأي رقم تفتح؟ وهذه لا تكون بالتخمين، ولا يذكره إلا من هو عارف وحافظ، حتى إذا عرف أن أحداً عرف هذا الرقم قد يغيره. إذاً: الغرض من هذا: التأكد من معرفة اللقطة بأوصافها، بحيث لو جاء إنسان وادعاها، صار هنا مدع، وهناك من يقول: عليه البينة، وهناك من يقول: وصف العفاص والوكاء هو بينة، ويؤكد هذا ابن القيم في الطرق الحكمية، فيقول: ليست البينة معناها شاهدي عدل، بل البينة فيعلة من البيان، وكل ما بين الحقيقة فهو بينة، ويستشهد لهذا: بما كان في السابق من بعض أصحاب البيوت التي تكون متجاورة، فصاحب البيت يجعل في جداره من الداخل طاقة في نفس الجدار، يعني: أن البناء كان على طوبة، وعند الطابق الأعلى على نصف الطوبة، ونصف الطوبة صار طاقة- المشكاة- فيأتي جاره ويبني بجواره ويكتفي بجدار جاره عن أن يقيم جداراً خاصاً له، وأن تطاول الزمان جاء الأولاد، وهدم بيت الجار الثاني، فادعى في الجدار القائم أنه له، قال الآخر: لا. هذا لي،؛ فينظر الطاقة في جهة من؟ من المعروف أن الباني يجعل الطاقة في جهته من داخل الغرفة لا يجعلها من الخارج، فإذا كانت الطاقة جهة اليمين داخل الغرفة فهي لمن هي في جهته، ويكون الثاني ليس له في الجدار شيء، فتكون قرينة ودلالة وبينة على أن الجدار للجار الذي تفتح الطاقة إلى جهته، ويذكرون أمثلة عديدة في هذا. فالغرض من تعريف العفاص والوكاء، وإذا قيل العدد، والشكل واللون كل ذلك من باب التأكيد على أن من جاء وادعاها فهذه البينة دليل على أنه صاحبها. [ (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة) ] . جاء في بعض الروايات: (سنتين، ثلاث، خمس) ، وفي حديث أُبي: أنه لما وجد كيساً فيه مائة دينار، فقال له: (عرفها حولاً، قال: عرفت حولاً فما جاءني أحد؟ فأتيت الرسول فقال: عرفها حولاً) إذاً: (عرفها سنة) هذا الحد الأدنى، وهو المعمول به عند الجميع، فقالوا: إن قضية أبي أو غيره سنتين أو ثلاث أو خمس لها حكم شيء آخر. وبعضهم يقول في المحقرات: إذا أردت أن تعرفها فتعريفها يكون ثلاثة أيام. وكيفية تعريفها بماذا تحصل؟ قالوا: أولاً: يعرفها في المكان الذي وجدها فيه إن كان آهلاً بالناس؛ كمن وجدها في السوق، فعليه أن يعرفها في محل ما وجدها، ويذكر لأصحاب المحلات التي حول المكان أنه وجد لقطة هنا، ومن سألكم عن شيء ضائع له فهو عندي، ولا تقل: لقطة فيها كذا أو صفتها كذا، بل تذكر فقط أنك وجدت لقطة، فإذا كانت عزيزة على صاحبها وتتبعها همته، فسيأتي ويسأل، فتسأله: ما نوعها؟ فإن ذكر الأوصاف كما تقدم، فهي له، وإن ذكر البعض، فقالوا: البعض لا يكفي؛ لأنه قد يكون من باب الصدفة. ثانياً: في المجتمعات للناس كالأسواق، ثم على أبواب المساجد، ولا يكون داخل المسجد؛ لما ورد في الحديث: (إذا سمعتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك) ، يعني: يعامل بنقيض قصده؛ لأنه ينشدها من أجل أن يحصل عليها، ولأن المساجد لم تبن لذلك، إنما بنيت لذكر الله وما والاه، لكن يطوف على باب المسجد: وجدت لقطة في اليوم الفلاني، من سأل عنها فهي عندي. ثم قالوا: عرفها مبدئياً: يومياً لأسبوع، ثم يوم في الأسبوع، ثم يوم في الشهر، ثم كل ثلاثة أشهر مرة، إلى أن تنتهي السنة.

حكم اللقطة بعد تعريفها حولا كاملا

حكم اللقطة بعد تعريفها حولاً كاملاً قال: (ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ] . إن جاء صاحبها في السنة وعرفها واطمأننت إلى أنها ملكاً له، والأوصاف التي جاء بها مقنعة؛ دفعتها إليه، فإذا لم يأت من يعرفها في غضون السنة، فهناك من يقول: يتصدق بها باسم صاحبها، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله. والجمهور يقولون: شأنك بها، يعني: أصبحت ملكاً لك تفعل فيها ما تشاء. والجمهور أيضاً يقولون: إن شئت تصدقت بها على ذمة صاحبها، فإن جاء أخبرته أنك تصدقت بها عليه؛ فإن شاء قبل وكان أجر الصدقة له، وإن شاء لم يقبل، وكان أجر الصدقة لك، وتعطيه عوضها؛ لما في بعض الروايات: (وهي أمانة عندك) أو: (أنت ضامنها) ، إلى آخر ما جاء في هذه المسألة. مسألة: بعض الأشياء لا تحتمل أن يحتفظ بها سنة، مثلاً: حقيبة فيها طماطم ولحم وخضار، هل تحتفظ بها سنة تعرفها؟ لا؛ لأن هذه لا تحتمل المدة والبقاء، حالاً تعرفها بأوزانها وكمياتها، ثم بعد ذلك تصدقت أو أطعمت أو أخذتها أنت وأكلت، وعرفت القيمة، فإن جاء صاحبها وتعرف عليها، قلت: إن هذه تفسد إذا ما أنفقتها، لذا تصدقت بها -أو أكلتها- وهذه قيمتها.

حكم ضالة الغنم

حكم ضالة الغنم [ (قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ] . ما قال: (فلقطة الغنم) ، بل: (فضالة الغنم) ، إذاً: يقال في الحيوان: ضالة، وفي المال والمتاع: لقطة. فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم بين له مصيرها: (هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) قدمه أولاً على غيره؛ لأن يده عليها، (أو لأخيك) ، يعني: غيرك، سواء كان صاحبها الذي ترجع إليه أو ملتقط آخر، فإذا كان ملتقط آخر فأنا أولى بها؛ لأني أنا السابق إليها. وهذا الأسلوب نفهم منه أننا نأخذها ونعرفها، لأننا إن تركناها تركناها للذئب. يعني: كأن الذئب له فيها، وهل نرضى أن نترك أموالنا للذئاب؟ لا. ومما يذكر في السير عام الوفود سنة تسع: مجيء ذئب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وأصحابه فأخذ يحرك ذنبه إلى أن اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فأومأ بما أومأ به، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذا وافد الذئاب إليكم، ماذا تنزلون له من أغنامكم؟ قالوا: والله ما ننزل له بشيء، فقال له: هه هه- يعني: اختلس الذي تقدر عليه-) ، هنا الذئب أيضاً جعل الرسول له حق. وقالوا: كون الذئب ثالث ثلاثة فالأولى أن يأخذها السابق إليها، ولو كنت أضمن أن أخي سيأخذها قد أتركها له، ولكني لا أضمن؛ لأنها مترددة بين أخي والذئب. إذاً: آخذها أولى، ويقول مالك: لا ضمان عليه، والجمهور يقولون: إن جاء صاحبها بعد أكلها ضمنها. ومالك لم لم يضمنه؟ قال: لو أخذها الذئب؛ فلا ضمان عليه وهذا مثله؛ لأن الثلاثة سواء. والآخرون يقولون: اللام هنا ليست للتمليك، ولكنها أمانة في يده، فإذا أكلها ضمنها، بدلالة: أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها، ما ملكها الملتقط، لكن على قول مالك: اللام للتمليك، فإذا ذبحها فأكلها فلا غرامة عليه مثل الذئب، وما قول مالك إذا جاء صاحبها قبل أن يذبحها، يدفعها إليه أم يقول له: ما لك شيء عندي؟ قالوا: إذا كان يلزمه أن يدفعها إليه قبل ذبحها، فهي لا زالت في ملك صاحبها. إذاً: إذا ذبحها ذبحها وهي في ملك صاحبها. إذاً: رأي الجمهور في هذا أقوى وأسلم، والذئب لا يدخل معنا في التشريع.

حكم ضالة الإبل

حكم ضالة الإبل [ (قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها؟) ] . الإبل: اسم جنس يصدق على الناقة وعلى البعير. وفي بعض الروايات: (فتمعر وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: ما لك ولها؟) . [ (معها سقاؤها وحذاؤها) ] . سقاؤها، أي: أنها تحمل الماء الذي يكفيها الأيام العديدة، وخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما عزم أن يأتي من العراق إلى الشام نجدة لـ أبي عبيدة قال: من يدلنا على طريق قريب؟ فقال له شيخ كبير: إن الطريق صفته كذا وكذا، وهو نصف المسافة، ولكن ليس هناك ماء في الطريق إلا مسيرة عشرة أيام، فخاطر ومشى، ولكن ماذا فعل؟ عطش الإبل عدة أيام، ثم ورد بها إلى الماء فشربت وملأت بطونها، ثم جاء على العجاف من الإبل التي لا تحمل المتاع، ولا هي ذات لحم كثير، وربط أشفارها حتى لا تجتر، فكان كل يوم أو يومين ينحر من هذه الإبل العجاف ويتلقى الماء الذي حملته في كرشها، فيسقي الخيل، فكان كأنه اصطحب معه صهاريج من الماء تمشي، وكانت هذه الإبل انتهت عند موعد الماء الوحيد. والرجل كبير السن هذا كان قد كف بصره، قال: انظروا في منحى الجبل، فنظروا فلا في شيء، قال: ويحكم! إن لم تجدوها هلكتم، ليس هناك ماء إلا بعد ثمانية أيام، ثم رجعوا أخرى يبحثوا، قالوا: في المنحى نجد أغصان شجرة تحت الرمل، قال: اكشفوا عنها، فكشفوا عنها، فإذا بالعين تحت تلك الشجرة، فشربوا. (فمعها سقاؤها) في قصة خالد سقاؤها وسقاء غيرها؛ لأن الإبل تصبر على العطش وتحمل من الماء ما يكفيها ثلاثة وأربعة وخمسة أيام لا ترد الماء. [ (وحذاؤها) ] نحن نعلم أن الحذاء لباس الإنسان، ولكن الإبل لديها أيضاً أحذية؟ وهذا من الاستعارة، أي: تشبيه الخف بالحذاء في المعنى العام، وهو وقاية القدم في الوطء، ولهذا الإبل تطأ الشوك والحجارة؛ لأن خفها أقوى من النعل في رجل الإنسان. إذاً: معها مقومات الحياة والسلامة: إذا لم تجد ماء فمعها سقاؤها لا تعطش. والمشي معها نعالها -حذاؤها- تمشي مكان ما تريد، وتأكل من ورق الشجر. إذاً: لا خوف عليها من الذئب، فتركها في مكانها أقرب إلى وجود صاحبها إياها، أما أن تأخذها يتبعك صاحبها؟ فقالوا: ترك هذه واجب ولا يحق له التقاطها.

إلحاق الفقهاء ضالة البقر ونحوها بالإبل

إلحاق الفقهاء ضالة البقر ونحوها بالإبل الفقهاء رحمهم الله ما سكتوا عندما ذكر في هذا الحديث الإبل، ولكن كما هي عادة الفقهاء: الاستنباط، وإلحاق المسكوت بالمنطوق: البقر، الخيل، البغال، الحمير، هل تلحق بالشاة أو بالإبل؟ وفي الأثر عن فلان بن جعفر: أنه كان في العراق ببقر له فنظر فإذا بقرة غير بقره، فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: تبعت البقر، فردها، وقال: (من آوى ضالة فهو ضال) . إذاً: البقرة تتبع الإبل أم الغنم؟ فقالوا: كل من يحمي نفسه من صغار السباع فهو تبع للإبل؛ لأن كبار السباع الإبل لا يحمي نفسه منها، كما يذكر في أفريقيا أن الأسد إذا جاء والبعير منوخ وضربه بيده على دماغه أطاح به في الحال. إذاً: كل حيوان يحمي نفسه من صغار الوحوش، كما قالوا: ولد الأسد، والذئب، وابن آوى، والثعلب، هذه لا يقوى على افتراس البعير والبقر. وقالوا: مثل ذلك في الخيل والبغال، إذا وجدها فهي ملحقة بحكم الإبل، فهي تستطيع أن تمشي أو تصبر إلى أن تجد صاحبها. [ (قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربها) متفق عليه] .

قاعدة: (كل شيء يحمي نفسه لا يلتقط)

قاعدة: (كل شيء يحمي نفسه لا يلتقط) نجد الفقهاء رحمهم الله قالوا: كل شيء يحمي نفسه لا يلتقط، فقالوا: الرحى الكبيرة، أو حجر الطاحون، أو الخشبة الكبيرة الضخمة، هذه تحمي نفسها، ولا يقدر على أخذها أحد، وقد وجدنا في نجران طاحوناً أو رحى؛ حجم القاعدة: متر ونصف، والسمك ثلاثين (سم) ، فتصور قطعة حجر واحدة متر ونصف في متر ونصف بارتفاع ثلاثين (سم) ، والطبق الذي فوقه مثله ما عدا عشرة (سم) من الجهات كلها، فمن سيأخذ هذه؟ وشاهدنا (هاوند) ؛ عبارة عن قطعة حجر يمكن أن يقعد إنسان فيه، واليد التي تطحن بها فيه بسمك فخذ الرجل، بطول، وزايدة عن ارتفاعه حوالي ذراع. إذاً: تتركها، بمعنى: لو أنك مررت على مكان كان فيه سكان رحلوا عنه، ووجدت في مكانهم متاع، لا تقل: هذه لقطة آخذها؛ لأنهم سوف يرجعون إليها، إلا إذا علم الإنسان أن صاحبها تركها رغبة عنها، فلو وجد ناقة، وعلم من حالها أن صاحبها تركها عنوة رغبة عنها؛ تعب من علفها، ومن كونها عجفاء، وغير قادرة من أن تساير الإبل، فتركها تخففاً منها ومن مئونتها، فله أن يأخذها؛ لأن صاحبها قد عافت نفسه إياها؛ وتركها قصداً، وما دام أنه تركها قصداً فأنت إذا أخذتها كأنك أحييت أرضاً مواتاً، فهي لك بأخذك إياها. قالوا: وكذلك الأواني الكبيرة مثل القدور. والقاعدة العامة: كل ما كان يحمي نفسه من الغير لا يكون لقطة، ولا يحق لك أن تأخذه، وما لا يحمي نفسه من صغار السباع كما ذكروا في البقر والخيل والبغال، واختلفوا في الحمير في المذهب الحنبلي، وغيرهم يلحقها بها، فإذا كان الأمر كذلك فهي تابعة لضالة الإبل.

شرح حديث: (من آوى ضالة فهو ضال.

شرح حديث: (من آوى ضالة فهو ضال ... ) [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) رواه مسلم] .

حكم كتمان الضالة

حكم كتمان الضالة هذا الحديث تحذير لمن يجد ضالة فيأويها ويسكت عنها، سواء عرف مصدرها أو لم يعرف، جاءته إلى بيته كبقرة أو ناقة أو شاة، وسكت عنها ولم يعرف، يقول: أنا ما أخذتها، هي جاءتني. [ (فهو ضال) ] . الضلال ضد الهدى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فهو ضال بإيواء الضالة، وهذا من المجانسة، وهذا كما أشرت في أثر الرجل الذي رأى بقرة في بقرة فقال: من أين هذه البقرة؟ قالوا: تبعت البقر، فطردها وأبعدها حتى غابت، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من آوى ضالة، فهو ضال) .

شرح حديث: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل.

شرح حديث: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ... ) [وعن عياض بن حمار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان] . تقدم الكلام على عموم اللقطة، وعلى شيء من الكلام على الضوال، ثم هنا يأتي المؤلف بهذا الحديث، وفيه عدة نقاط تستوقف الدارس عندها، نأخذ ذلك جزءاً جزءاً:

الإشهاد: حكمه وفائدته في اللقطة

الإشهاد: حكمه وفائدته في اللقطة قال: [وعن عياض بن حمار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل) ] . النقطة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل) . كل الأحاديث التي تقدمت فيما يتعلق باللقطة أو الضوال ليس فيها تعرض للإشهاد، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليشهد ذوي عدل) : فبعض العلماء قال: في جميع اللقط يشهد ذوي عدل، من باب حمل المطلق على المقيد. والآخرون يقولون: لا. إن الأمر فيه تفصيل؛ لأن ملتقط اللقطة أحد رجلين؛ إما أن يكون واثقاً من أمانة نفسه على اللقطة، فهذا لا حاجة إلى إشهاده؛ لأن أمانته ستحمله على حفظها وردها إلى صاحبها إذا جاء، وإذا كان يخشى أن تضعف نفسه أمام اللقطة، وتراوده على أن يمتلكها دونما تعريف، أو يتصرف في بعضها أو شيء من ذلك، فليشهد؛ ليكون إشهاده عليها ذوي عدل مانعاً له من أن يضعف أمام نوازع نفسه في اللقطة، وهذا ضمان للقطة فيما لو مات هذا الملتقط قبل مضي الحول، فإذا التقطها وأخذ يعرفها إلى تمام الحول وفي أثناء الحول مات، من فربما لا يعلم عنها أحد، لكن حينما يشهد ويأتي إنسان ينشد ضالة أو لقطة، سيجد من يشهد بأن فلاناً أشهدنا على أنه التقط لقطة. إذاً: الإشهاد على اللقطة يرجع إلى حال الملتقط، ما بين الأمانة والضعف أمام نوازع النفس فيها. [وليحفظ عفاصها ووكاءها] . بعض العلماء يزيد ويقول: يدخل تحت الإشهاد إذا كان الملتقط فاسقاً، يخشى عليه من اللقطة، ولكن الفاسق لن يشهد، وسيكتمها، ولذا جاء في آخر الحديث: (ولا يكتم) ، فالأمران متقابلان؛ لأن من يطمع في اللقطة يكتمها، فإذا ما أوقع الشهادة عليها سلم من ذلك وامتنع. [ (وليحفظ عفاصها ووكاءها) ] . هذا لفظ مشترك في الأحاديث المتقدمة.

النهي عن كتمان اللقطة

النهي عن كتمان اللقطة [ (ثم لا يكتم ولا يغيب) ] . لا يكتم من صفاتها التي يعرفها، ولا يغيبها عمن جاء ينشدها، فإذا التزم بهذين الأمرين، ثم أتي منشد ينشد فسيذكر عفاصها ووكاءها. فإن قال: لا. هذا ليس عفاصها ولا وكاؤها؛ لأنه ما اطلع أحد عليها، فلو جاء صاحبها الحقيقي ووصف صفاتها الكاملة كتمها. إذاً: أولاً ألزمه أن يشهد، ثم نهاه أن يكتم، أو يغيب، يغيب اللقطة مرة واحدة ويجحد، يغيب من صفاتها شيئاً فيدخل في (يكتم) . إذاً: هذا تحذير للملتقط من أن يقصر في تعريفها، أو يطمع في أخذها لضعف أمانته وائتمانه عليها، بأي حالة من الحالات التي تحول بين اللقطة وصاحبها. [فإن جاء ربها فهو أحق بها] . أولاً: يشهد حفظاً لها، ولا يكتم ولا يغيب، ضماناً لها عنده، فإذا جاء صاحبها فهو أحق بها، ولا تطمع فيها، فهو أحق بها منك وإن كنت أنت لقطتها بعد سقوطها أو ضياعها منه. وهنا قالوا: اللقطة في يد الملتقط على ملك صاحبها؛ لأنه إذا جاء فهو أحق بها، بالملك السابق قبل الالتقاط.

معنى قوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)

معنى قوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) [ (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ] . (وإلا) أي: بعد التعريف، فلم يأته أحد ولم يكتم، وانتظر سنة فلم يأت أحد فهي مال الله. جميع المال لله! {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، كل ما في يد الإنسان مسلم أو كافر فهو من مال الله، ولكن هنا إذا أطلق بصفة عامة يكون مال الله ما ليس بأيدي الناس، وفي الحقيقة المبدئية: الملك كله لله، ونفس اللاقط والملقوط له أنه أيضاً عبد لله، والمال في يد الناس عوارٍ مسترجعة، لكن حينما يقول: هو مال الله؛ يعني: رجع إلى الأصل، ليست هناك يد مخصصة من خلق الله لها عليه تملك، فيرجع إلى الأصل وهو لله سبحانه وتعالى. [ (مال الله يؤتيه من يشاء) ] أي: مال الله يؤتيه من يشاء بعمل وكسب، بهبة، بلقطة، بأي وجه من وجوه التمليك التي تئول إلى عبد من عباد الله، فهو مال الله يؤتيه من يشاء.

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج)

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) رواه مسلم]

أحكام لقطة الحرم المكي

أحكام لقطة الحرم المكي هذا جزء في باب اللقطة، وهو في الواقع محير. (نهى صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج) ، وفي بعض الروايات: (عن لقطة الحرم) والمعني بذلك: حرم مكة، فبعضهم يقول: لقطة الحرم تشمل الحاج والمكي المقيم، وقد توجد بعض العلامات على اللقطة تميزها، إن كانت لحاج أو لمكي، فإن تبين أنها لمكي فحكمها حكم لقطة أي بلد كان، وإن كانت أماراتها وعلاماتها تدل على أنها لقطة حاج فهي محل السؤال. وبعض العلماء يعمم لقطة الحاج في جميع مواطن الحجاج، فيشمل لقطة عرفة، ومزدلفة، ومنى. وبعضهم يقول: والمدينة؛ لأنها المواطن التي يتواجد فيها الحاج. ولكن النص هنا: (نهى عن لقطة الحاج) . وفي بعض الأحاديث في فتح مكة وحرمتها: (لا يختلى خلاؤها، ولا تلقط لقطتها، إلا لمنشدها) فكذلك في هذا الحديث: (نهى عن لقطة الحاج) ، إلا لمنشدها. جميع اللقط ستنشد، فما الذي خص مكة بهذا؟ لم كانت لها خصوصية في هذا زيادة عن لقطة جدة أو الطائف أو الرياض؟ قالوا: الغرض من هذا هو: المبالغة في الإنشاد عليها أو تعريفها، ولا تحدد ملكيتها بسنة أو سنتين أو أكثر، ولكن إن عجز وغلب الظن. وخصت لقطة الحاج؛ لأن من يريد أن يعرف اللقطة يتوقع مجيء صاحبها ويعرفها، والحاج قد سقطت منه اللقطة، وربما سافر إلى بلاده، فهو لا يدري عن تعريفها، ولا يدري متى سيعود. فقالوا: يعرفها عند أهل قطرها إن كانت معروفة، لأن اللقطة تميز أحياناً إن كانت لبعض الحجاج في بعض الأقطار؛ فهذه سلعة لحجاج هنود، أو شاميين أو مصريين، إن كانت متميزة تعمد تعريفها عند الوفود القادمة من تلك البلاد، لربما يكون صاحبها قد أوصى الوافدين أن ينشدوا عنها. إذاً: (نهى عن لقطة الحاج إلا لمنشدها) ، ومعلوم أن كل لقطة سينشدها لاقطها، ولكن قالوا: هذا زيادة في تعريفها وإنشادها. ثم قالوا: كل لقطة في أي قرية أو في أي مكان يلتقطها الملتقط، فقد يلتقطها على نية التملك إن لم يجد صاحبها بعد الحول، لكن لقطة الحاج لا يلتقطها على نية أنه سيتملكها بعد تعريفها الحول، ولكن يلتقطها على نية التعريف المؤبد. وإذا لم يوجد لها من يعرفها، والبعض يقول: يسلمها للسلطان، والبعض يقول: هي مال الله، كما تقدم. هل هذه المكاتب المقامة لأخذ لقطة الحاج تجزئ؟ نقول: إنه ينبغي ترتيب وتنظيم ما يقال له: محل الضائعات، نعلم أن مكة بعض المراكز المخصصة محل للضائعات أو الضائعين عن مخيماتهم أو حجاجهم، والعاملين في الحكومة جزاهم الله خيراً يجعلون لهم مخيماً ويقومون عليهم حتى يوصلونهم إلى عرفات، والمناسك، ثم يقولون: ثم ينادى على رءوس الأشهاد: يوجد حاج صفته كذا وكذا، من عرفه يأتي يأخذه، هذا الحاج الضائع ليس بلقطة. فكذلك بعض الأماكن للضائعات؛ إنسان ضاعت له شنطة، أو كيس، أو أي شيء يروح في محل الضائعات، ويبحث، إن وجد ضالته أو ساقطته أخذها، وتنظيم مثل هذا المحل للضائعات يريح اللاقط. وبعضهم يقول: لا يلتقطها، ويتركها. والآخرون كما يؤكد ابن عبد البر: وإن لم يتعرض لقطة الحاج، إلا أنه قال في عموم أخذ اللقطة أو تركها: الأولى أخذها، حفظاً لمال أخيه المسلم. إذاً: لقطة الحاج تتميز عن لقطة غير الحاج: بأنه مظنة السفر عنها، ولربما في عام مقبل يأتي من جانبه من ينشد عنها، فإذا لم يأت هذه السنة يأت السنة التي بعدها. وتقدم بأن يكون في حالة ما إذا كانت مما يقبل البقاء كدراهم ودنانير، أو ملابس أو شيء من هذا. أما إذا كان طعاماً أو شراباً أو مما يسري إليه التلف فلا ينبغي أن يبقيها حتى تتلف في محلها، بل يستنفدها، أو يتصدق بها، ويحتفظ بقيمتها، إن أكلها قدّرها واحتفظ بالقيمة وعرّف، ومن جاء أخذ القيمة، وإن تصدق عرف قيمتها قبل أن يتصدق بها، فإذا جاء صاحبها أخبره، فإن شاء نزل على الصدقة، وتكون باسمه، وإن شاء لم ينزل عليها، وطلب حقها يعطيه إياها.

شرح حديث: (ألا لا يحل ذو ناب.

شرح حديث: (ألا لا يحل ذو ناب. ولا اللقطة من مال معاهد ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن المقدام بن معد كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها) رواه أبو داود] .

حكم لقطة الذمي والمعاهد

حكم لقطة الذمي والمعاهد يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين: أن لقطة المعاهد ولقطة المسلم سواء، لا تتملك بلقطتها، بل عليه أن يعرفها كما يعرف لقطة المسلم. والمعاهد بخلاف الحربي فلو وجدت لقطة حربي تملكتها في الحال، بل الحربي بذاته لو وجد وقدر عليه أن استؤسر وكان أسيراً؛ لأنه حرباً على المسلمين، فإذا كان معاهِداً أو مُعاهَداً -أي: له عهد عند ولي أمر المسلمين- فماله وعرضه وكل ما يمتلكه حرام، ولا يجوز لمسلم أن يخفر ذمة ولي الأمر فيه، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله وإن كان انفرد بهذا القول: (من قتل معاهداً قتل به) . والجمهور يقولون: لا يقتل مسلم بكافر. ولكنه يقول: هو أصبح في الأحكام الذاتية والمالية كحكم المسلم؛ لأن ولي أمر المسلمين أعطاه أماناً، وعاهده على الأمن والحفظ، فأصبح في ذمة ولي أمر المسلمين، فمن اعتدى على معاهد يكون قد خفر ذمة ولي أمر المسلمين. وأعتقد أننا في هذه الآونة ليس عندنا حربي ومعاهد، والعرف العام عند جميع الدول: من دخل دولة بتصريح من ولي أمرها فهو معاهد. والمسلم الآن يذهب إلى بلاد غير المسلمين، ولا يمكن أن يدخل في مطار أو ميناء إلا بتأشيرة من سفارة تلك البلدة أنه مأذون له في الدخول، وبالإذن له بالدخول لزم أمران: الأول: لزم عليه أن يلتزم بنظم تلك الدولة؛ لأنه دخل إليها ملتزماً بنظمها، ولهذا مدة وجوده فيها تسري عليه أحكام قوانينها. الثاني: هو مؤمن بتلك التأشيرة على ماله ونفسه وعرضه؛ لأنه دخل بإذن، فهذا الإذن يعتبر بمثابة المعاهدة، فكذلك الحال في البلاد الإسلامية، أي: شخص أوروبي أو آسيوي حصل على تأشيرة لدخوله بلدة إسلامية عريبة، فتلك التأشيرة بمثابة العهد، وأصبح في ذمة المسلمين عن طريق ولي الأمر عهد بالبقاء مدة هذا الإذن في تلك التأشيرة. إذاً: يعامل في بيعه وشرائه وهبته والهدية منه وإليه، يعامل في اللقطة كما يعامل المسلم، وما ذكر مع هذا إنما جاء طردياً مع ذكر المعاهد؛ (لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي) وفي الحديث الآخر: (ولا ذو مخلب من الطير) ، وكل هذه أكلها من المحرمات، ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه توسع في بحث هذه المحرمات عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. } [الأنعام:145] ، وقال: لا أجد وقت نزول تلك الآية، ولا يمنع أن يتجدد فيجد أحكام أشياء أخرى؛ منها: تحريم كل ذي ناب، وتحريم كل ذي ظفر -أي: من الطيور الجوارح-، والحمر الأهلية حرمت عام خيبر كما جاء في بعض النصوص، والبحث في تحريم الحمر الأهلية دون الحمر الوحشية بحث مطول، وإن كان جنس الحمار واحد، ولكن هذا يعيش عالة على الآدميين مستأنساً عندهم، وذاك يعيش مستقلاً بذاته مع الوحوش يدفع عن نفسه، وكل منهما له خصائص ذاتية. والحمد لله رب العالمين.

كتاب البيوع - باب الفرائض [1]

كتاب البيوع - باب الفرائض [1] قسم الله تعالى المواريث بين أقارب الميت قسمة عادلة تناسب الأعباء التي يتحملها الوارث، وتتوقف على مقدار القرابة من الميت، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تبين بعض أحكام الفرائض والعصبات، وقد شرحها العلماء شرحاً منهجياً يساعد المسلم على فهم أحكام الميراث.

شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها)

شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها) قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ، متفق عليه] . هذا الحديث مبدأ أساسي في علم الفرائض والمواريث، ولا يمكن أن يخلو باب من أبواب المواريث عن هذا الحديث؛ إذ هو القاعدة الأساسية، وهو مشتمل على ثلاث نقاط: الأولى: (ألحقوا) ، من الذي سيلحق: العامي أم المتعلم؟ المتعلم، فطالب العلم هو الذي يلحق. الثانية: الملحوق، وهو (الفرائض) . الثالثة: هذه الفرائض التي نريد أن نلحقها هل يتعين معرفتها أو تلحق جزافاً؟ يتعين معرفتها. إذاً عندنا ملُحِق: وهو طالب العلم، وفرائض: يجب أن يعرفها الملحق مع أهلها وأصحابها و (الفرائض) ، وهي جمع فريضة، (بأهلها) أي: بأصحابها المستحقين لها كل بحسبه.

أنواع الفروض وأقسامها

أنواع الفروض وأقسامها وهل الفرائض في الميراث محدودة ومحصورة أم مطلقة لكل جماعة؟ محصورة، وكما في متن الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب ستة لا فرض في الإرث سواها البتة إذاً: الفرائض في علم الميراث ستة أنصبة لا سابع لها، ولا أحد يستطيع أن ينقص واحداً، والفروض في كتاب الله هي حسب قاعدة تنازلية أو تصاعدية، إن أردت قاعدة تنازلية: تأخذ الثلثين ونصفهما ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه، وإن أردت تصاعدياً قلت: السدس، وضعفه، وضعف ضعفه. والثمن، وضعفه، وضعف ضعفه فالتنازلية تكون: الثلثان، ونصف الثلثين ثلث، ونصف الثلث السدس. هذه ثلاثة جاءت عن طريق الفرض، وتأتي إلى النصف، ونصف النصف ربع، ونصف الربع ثمن، فصارت ستة فروض، وهي الفروض الموجودة في علم الميراث، ويتعين على كل مسلم معرفتها؛ لأنه في وقت من الأوقات سيكون وارثاً أو موروثاً، فإذا كان وارثاً يعلم ما له، وإذا كان موروثاً علم ما عليه. إذاً: الفرائض في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ست، وبعضهم يحاول أن يضيف ثلث الباقي. وثلث الباقي هذا تغطية أتوا بها على الأم وضحكوا عليها ومشت، وما خرجت عن كلمة ثلث، سواء كان ثلث الباقي أو ثلث رأس المال كله، لا يوجد مسمى سبع، ولا تسع، ولا عشر هذه هي مسميات الفرائض. (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) دع قوله: (رجل ذكر) ، فلا يوجد رجل أنثى، والحديث يعطينا قاعدة في تقسيم هذه الفرائض، فالفرائض تلحق بأهلها، والباقي لأولى رجل؛ لكن على أي أساس؟ عرفنا بأن الفرائض أنصبة محدودة، لا يوجد فيها زيادة ولا نقص {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11] ، إذاً كما قال صاحب الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما.

توريث العصبات مع أصحاب الفروض

توريث العصبات مع أصحاب الفروض إذاً: (ألحقوا الفرائض بأهلها) خاص بالفروض الستة، والتعصيب: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وعلى هذا يكون تقسيم الفرائض على قسمين؛ فإذا جاء الورثة قيل لهم: أنتم من أي الأصناف؟ قالوا: نحن من أصحاب الفروض. فيقال: فما هي فروضكم؟ فتحدد فروضهم ثم يقال: خذوا فروضكم، فإن استغرق فروض الموجودين من الورثة تركة الميت أخرجنا العصبة. وإن لم تستغرق الفروض كل التركة وبقي شيء، فإنا نعطي الباقي للعصبة. ومثال ذلك: إذا وجدت بنت وبنت ابن فقط، قلنا: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس لأنها ليست كابنة الصلب، فتعطى السدس تكملة الثلثين، بقي من التركة الثلث فأين نذهب به؟ إن وجدت عصبة فذلك الثلث لها، لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) .

توريث ذوي العصبات إذا اجتمعوا

توريث ذوي العصبات إذا اجتمعوا قوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فإذا وجد عدة أشخاص كلهم عصبة، فهل ينفرد أحدهم أو تقسم عليهم، فالابن عصبة، وابن الابن عصبة، والأب عصبة وصاحب فرض، والجد صاحب فرض وعصبة، والعم، وابن العم، والأخ، وابن الأخ؛ كل هؤلاء عصبة، فلو وجد إخوة أشقاء ذكور في المسألة السابقة، فالبنت مع بنت الابن أخذتا الثلثين، وبقي الثلث، فإن كان هناك إخوة أشقاء أو لأب متساوين في الدرجة قسم عليهم، وإذا وجد أخ شقيق وأخ لأب، فإننا ننظر: فهما في الأخوة سواء، ولكن في القوة ليسا سواء، فالأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، فيأخذ الثلث الباقي دون الأخ الأب. ويدخل أيضاً باب الحجب والتعصيب تحت هذا الحديث. إذاً: هذا الحديث هو القاعدة الأساسية لعلم الفرائض، وما وجد منه فألحقوه بأهلها الموجودين، وإذا لم يوجد صاحب فرض ووجد العصبة فالعصبة لهم ما أبقت الفرائض، وإذا لم توجد فرائض فلهم جميع المال. إذاً: هذا الحديث كما يشير العلماء بأنه الأصل والمبدأ في علم الفرائض بقسميه: أصحاب الأنصبة المفروضة أو العصبة، والعصبة قد تتساوى في الجهة وتتفاوت في القوة، فإذا كان إخوة أشقاء وإخوة لأب، وأعمام أشقاء وأعمام لأب، فالجهة واحدة وهي الأخوة، لكن يختلفون في القوة فالأشقاء أقوى. وقد تتفاوت الدرجة: كالأولاد وأولاد الأولاد، فأولاد الأولاد عصبة، لكن الأولاد أقرب منهم، فيقدمون عليهم في العصوبة لقربهم من الميت وإن اتحدت الجهة. والجهات كما يقولون بنوة فأبوة فأخوة فعمومة، وعلى هذا فإن أقرب الجهات إلى الميت هي البنوة، فإذا وجد ابن وعشرون أخ، فإن الابن يحجب الإخوة بكاملهم، وولد الولد تابع في جهة الولد، فابن ابن وعشرون أخ شقيق يحجبهم، لأن الجهة الأقرب للميت هي جهة البنوه، إذاً: ابن الابن يطرد العشرين الأخ الشقيق. إذاً: جهات العصبة إذا تفاوتت قرباً وبعداً قدمنا الأقرب والأولى. أولاد الأولاد في حالة عدم وجود الأولاد عصبة، وجهة البنوة تشملهم، وجهة البنوة تشمل الابن وابن الابن مهما نزل، فابن عشرين بطن ابن، وإذا وجد فهو أولى من الأخ الشقيق؛ لأن جهة البنوة مقدمة على جهة الأخوة، وكذا إن وجد أخ شقيق وعشرون عم، أي الجهتين أقرب: الأخوة أو العمومة؟ الأخوة. إذاً: الأخ الواحد يحجب الأعمام، فإذا وجد من كان من جهة قربى وآخر من بعدى كانت القربى أحق. وقفنا عند الجهة: هل الجهة متعادلة في القوة من حيث الصلة بالميت أو متفاوتة؟ جهة البنوة ليس فيها تفاوت، فكلهم أبناؤه، لكن جهة الأخوة تتفاوت قوة وضعفاً، فمن يدلي بالأب والأم معاً أقوى ممن يدلي بواحد منهما، أي: بالأب وحده أو يدلي بالأم وحدها، ولضعف الأخ لأم جعل له فرض مقطوع، فإذا وجدت جهة الأخوة نظرنا في هذه الجهة: هل كلهم متساوون في القوة بالإدلاء إلى الميت أو متفاوتون، فإن كانوا متفاوتين في القوة قدمنا الأقوى. وإذا اجتمع إخوة وأعمام، أي الجهتين أقرب؟ الإخوة.

معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر)

معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر) قوله: (فلأولى رجل ذكر) يخرج أولى أنثى، فبنت الابن هي وارثة، ولكن أنثى، لو أعطينا أصحاب الفروض فروضهم، هل ما بقي نعطيه لبنت الابن؟ لا؛ لأنها ليست برجل. وهكذا لو وجد أبناء الأخ مع بنات الأخ، فالجهة واحدة وهي جهة الأخوة، وبنت الأخ تساوي ابن الأخ في الدرجة مستوية، ولكنها ليست رجلاً ذكراً، فلا تدخل في الأولوية فيما بقي بعد أصحاب الفرائض. والمناقشة الطويلة التي تجدونها في المطولات وخاصة فتح الباري وغيره لقوله: (أولى رجل ذكر) يقولون: ما حاجة كلمة: (ذكر) ، مع (رجل) ؟ لأنه إن كان (ذكر) نعتاً لرجل، فماذا زادتنا وماذا أعطتنا من فائدة؟ يقول صاحب سبل السلام: وقد تكلموا فيها، وذكر بعض كلامهم، ولكن بفائدة قليلة، وابن حجر في فتح الباري يورد آراءً عديدة، ثم يفند بعضها ويترك بعضها بلا تفنيد، وأنا في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لا حاجة لهذا كله، وليس هناك إشكال في وصف الرجل بكونه ذكراً، فكلمة (الذكر) ليست نعتاً لرجل، ولكنه وصف كاشف لعلة استحقاق الرجل لما بقي. ولو مات عن زوجة وولد، فالزوجة لها الثمن والسبعة الأثمان للولد، فيأتي قائل ويقول: لماذا يأخذ الولد سبعة أثمان، ولماذا لا يزاد في نصيب الزوجة قليلاً؟ فيقال له: لأنه ذكر. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، لِمَ لم يقل: للولد؟ السياق (في أولادكم) والمادة معنا ولد، ولماذا لم يقل: (يوصيكم لله في أولادكم للولد مثل حظ البنتين) ، لو تأملنا أساليب اللغة العربية لوجدنا هذا الوصف مستعملاً في القرآن الكريم، فهنا أبرز الرجل بصفة الذكورة لأنها مناط الحكم والمسئولية، وأبرز البنت بوصف الأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] . ومن حيث البلاغة والإعجاز والمعنى في غير كلام الله نقول: هما متساويان، ولكن نحن في كلام الله لا نستطيع أن نتحكم أو نعترض، لكن في أداء المعنى يوجد التساوي. إذاً: أبرز معنى الذكورة في الرجل؛ لأنه ميزه على البنت، ونقص البنت بوصف الأنوثة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] . والأنثى نقصت هنا في ماذا؟ قال: لأن الذكر يبحث له عن أنثى، والأنثى يأتيها ذكر يأخذها، فالذكر تحمل مسئولية أنثى تعيش بجانبه، وعليه نفقتها وصداقها، والأنثى محجبة مكرمة معززة في بيت أبيها، فيأتي الذكر ويدفع صداقها ويأخذها، فما غرمت درهماً واحداً، فنصيب الذكر وزع على الإناث، ونصيب الأنثى توفر لها كاملاً. إذاً: وصف الرجل بكونه ذكراً نعت للرجل وبيان لحقيقته، فنصف العاقل وربع المجنون يعرف بأن الرجل ذكر، ولكن لماذا تبرز وصف الذكورة؟ ونحن نجد نظير ذلك في كتاب الله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، وهل ستخرج الكلمة من غير الفم؛ من العين أو من الأذن؟ لا، لكن أبرز موطن خروجها لأنها كلمة جوفاء لا قيمة لها، وما تجاوزت في مدلولها غير الفم، فهي ليست عن عقل أو عن تفكير، أو عن تردد الفكر والاستذكار، أو تأمل حقائق الواقع، إنما هي كلمة طائشة، كما أنك تأتي لغرسه على وجه الأرض فترفعها بإصبعيك فتقلعها، لكن الشجرة المتمكنة عروقها من تخوم الأرض لا تستطيع أن تنتزعها. إذاً: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، ونحن نعرف بأن الكلمة لن تخرج إلا من الأفواه، فلماذا ذكر الأفواه مع أن الكلمة ومدلولها ولازمها أنها من الأفواه؟ ليبين أنها لا أصل لها تعتمد عليه. كذلك: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، معلوم أن الطائر في الجو لن يطير بأرجله بل سيطير بجناحيه، فلماذا أبرز جناحيه؟ ليبين -والله تعالى أعلم- أن هذا الطائر مهما حلق في الجو فليس ذلك بقوة الجناحين {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] ، والحدأة خاصة تمد جناحيها وتتقلب يميناً ويساراً وتحوم دون أن تحرك جناحها مرة، وهل امتداد الجناح عنده القوة في أن يمسكها إلى هذا الحد؟ لا، ولذلك قال: (ويقبضن) قد نقول: حينما تمد جناحيها تعلقت بالجناحين في الهواء؛ لأن حركة الطيران قبض وانتشار، فحينما تقبض جناحيها من الذي يمسكها؟ ولماذا لا تسقط؟ إنه يريد أن يبين أن الجناحين عبارة عن وسيلة وأخذ بسبب، وحقيقة طيرانها بقدرة الله سبحانه. وبعضهم يقول: وصف الرجل بالذكورة لبيان القوة، وهناك من يقول: ذلك احتياط من أن يذهب الذهن إلى امرأة كما قالوا: (مزقتم ثياب فتاة الحي والرجلة) . قد تطلق كلمة (الرجلة) على الأنثى، ولكن هذا نادر وشاذ، والعرب لا تعتمد عليه. فجاء الوصف بالذكورية ليبين موجب العلة والحكم، ومناط الحكم في هذه القضية كما جاء هناك {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فهو يبين موجب استحقاق تمييز الرجل عن المرأة بذكورته، وأنه بذكوريته سيصبح أباً وجداً وينفق على عياله.

أحكام الميراث بين المسلمين وغيرهم

أحكام الميراث بين المسلمين وغيرهم قال المصنف رحمه الله: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) متفق عليه] . هذا مما يتفق عليه الجمهور، إلا في صورة تستثنى، الكفار معروفون في ذلك الوقت، لكن هناك طوائف أخرى لم تدخل في دين سماوي كالبوذية وأمثالهم. وهل هناك توارث بين الصابئة واليهود والنصارى؟ وإذا قيل: لا يرث الكافر المسلم أو المسلم الكافر. فما حكم الكفار فيما بينهم؟ فالحكم ظاهر بين المسلم وبين كل من اليهود والنصارى والمشركين الوثنيين، ولكن اليهودي والنصراني، كلاهما كافر، واختلفت ملتاهما: هذه يهودية وهذه نصرانية، ولذا فحديث: (لا توارث بين أهل ملتين) يجمع الجميع. هناك ناحية ربما استثناها الحنابلة ومن وافقهم، وهي حينما يموت الوالد وله أولاد، منهم المسلم ومنهم الكافر، على مقتضى هذا الحديث أن الميراث كله لأولاده المسلمين، فلو أن الولد الكافر أسلم بعد موت أبيه قبل قسمة التركة، استحق الميراث، مع أنه كان في لحظة موت أبيه كافراً. قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فهو عند موت مورثه لا يستحق الميراث. التركة موجودة ولم يقتسمها الأولاد المسلمون، وهو قد أسلم؛ فهل نتجاوز عن الفترة التي سبقت ونورثه مع إخوته أو نقول: أنت لم تكن عند موت المورث مستحقاً للميراث؟ من نظر إلى تأليف القلوب، ومساعدة الآخرين على الإسلام في مثل هذه الحالة -أي: قبل أن تقسم التركة- قالوا: نشركه مع إخوانه بإسلامه، ونتجاوز عن فترة ما بين موته وإسلامه، ونجعله كأنه أسلم في حياة أبيه. نحن في باب الميراث نكتفي بهذا، وهذا الذي يهمنا في هذا العلم، ولكن لا توجد زاوية من الزوايا نقف عليها: هذا ولده، وذاك ابن عمه، فلما كان ولده كافراً لا يرثه، وابن ابن ابن ابن عم لأب لكنه مسلم يأتي ويرث؛ لماذا؟ من الحكم الإلهية أن تقوم الأمة الإسلامية على مبدأ غير الدم والعصب، والرحم والنسب، ولكن على الأخوة الإسلامية، ولهذا كان أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس لما قدم المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ومن العجب! أنني قرأت أنه كان هناك ثلاثة أبناء عمومة للنبي صلى الله عليه وسلم، أبناء المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولما قدموا وهاجروا آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين كل واحد منهم وواحد من الأنصار فهؤلاء ثلاثة إخوة جاءوا جميعاً، فلماذا لا يؤاخي فيما بينهم؟ لأن أخوة النسب موجودة، وستكون عبارة عن تحصيل حاصل، وهو يريد توثيق الروابط بوصف الإيمان؛ ولنعلم أن رابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب والدم. ومن هنا كان المسلم أحق بالمسلم ولو كان بعيد النسب عنه، والكافر بعيد عن نسبه الأساسي بسبب الكفر، ومثال ذلك أيضاً: مصعب بن عمير في عودته من بدر وجد أخاه أسيراً في أيدي بعض الأنصار، فقال لهم: شدوا وثاقه؛ فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم بمال. فنظر إليه وقال: أهذه وصيتك بي يا أخي؟ قال: لست أخاً لي، هؤلاء إخواني أما أنت فلا. هو أخوه من أم وأب، وهؤلاء من الأنصار بعيدون كل البعد عنه، لكن الإسلام قرب البعيد، والكفر أبعد القريب، وعلى هذا كان لا توارث بين المسلمين والكفار ليوجد العزلة لتتميز الأمة الإسلامية عمن عداها؛ لتكون بذاتها ذات كيان خالص إسلامي، ولهذا نهى أن يساكن المسلم غير المسلمين ويخالطهم إلا للضرورة، حتى قال: (لا يتراءى نار كل منهما للآخر) . ولما سئل في حديث أبي ثعلبة الخشني: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم -وفي رواية: وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر-؟ قال: لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، فقوله: (لا) ، لئلا يكون هناك تبادل الإعارة، يعقب ذلك التعاطف والتواد والهدايا فتخلط العادات بالسنة. إذاً: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، ويتبع ذلك أنه لا توارث بين ملتين؛ فاليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكلاهما لا يرث البوذي وأمثاله. والله تعالى أعلم.

قضاء النبي في البنت مع ابنة الابن والأخت

قضاء النبي في البنت مع ابنة الابن والأخت قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (في بنت وبنت ابن وأخت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت) ، رواه البخاري] . في هذه المسألة ثلاثة مناهج: منهج أهل الحديث، أو منهاج الرحبية، أو منهج الفقهاء، وأيسرها وأوضحها عند طالب العلم منهج الرحبية، وقد تقدم بحمد الله المرور عليها فيما قبل، ولكن نحن الآن سنأخذ ما يورده المؤلف، والرحبية أشرطة مسجلة في مكتبة الحرم. فمنهج الرحبية هو الإتيان بالفروض متتابعة: إذا قلنا بأن النصف هو الفرض، فإننا ننظر من الذي يرث النصف؛ ثم نأتي بالورثة من الرجال، والوارثات من النساء، ويحدد بحيث لا تستطيع أن تدخل واحداً أو تخرج آخر، لأنهم عدد محصور محدود، والمؤلف هنا جاءنا بمسائل فردية وصورة وقعت. هذه صورة يسوقها لنا بهذا الشكل، وتقدم بحثها في غير هذا الموضع، ابن مسعود يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أُتي بمسألة فرضية: بنت، وبنت ابن، وأخت. هنا لم يذكر لنا أي أنواع الأخوات كانت، نحن نعرف جهة الأخوة، ولكن نعلم بأن جهة الأخوة تتفاوت، هل هي أخت شقيقة، أو لأب، أو لأم؟ لكن التقسيم يدلنا على أنها ليست لأم، إما شقيقة أو أخت لأب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى البنت نصف التركة، وأعطى بنت الابن السدس مع البنت، وإذا ضممنا السدس إلى النصف كان الثلثين، والباقي أعطاه للأخت، إذاً هذه الأخت ليست لأم؛ لأن الأخت لأم نصيبها السدس، وهذا ثلث، فهو ضعف ما تستحقه التي لأم، إذاً: هي إما شقيقة وإما لأب. وكون بنت الابن تأخذ السدس؛ لأن البنات إذا كانتا اثنتين فأكثر يكون لهن الثلثان، فإذا وجد ثلاث بنات وبنت ابن سيكون البنات لهن الثلثان، وبنت الابن لا شيء لها؛ لاستغراق البنات للثلثين. وهذا فيه تنصيص على أن الأخت مع البنت عاصبة لها: والأخوات إن تكن بنات فهن معهن معصبات الأخوات إن كن بنات، أي: إذا وجد بنات للميت وأخوات، فالبنات من أصحاب الفروض، والأخوات ينتقلن من الفروض إلى التعصيب مع الغير -مع البنات- فيأخذن ما بقي. لو كانت بنت صلبية وأخت شقيقة فللبنت النصف، وبقي النصف للأخت الشقيقة تعصيباً؛ لأنها عصبة مع البنت، فإذا وجد بنات وأخذن الثلثين فإن الباقي للشقائق، ولو وجد مع البنات أم وزوجة، فالأم تأخذ السدس، والزوجة الثمن والبنات الثلثين، وما بقي من التركة فهو للأخت. وأنصح الإخوة مرة أخرى أن يرجعوا إلى كتب الفرائض التي اختصت بهذا الفن، والأصل في هذا الرحبية وأمثالها، والشروح القديمة عليها ميسرة وسهلة، ويستطيع أن يتعاون مع بعض إخوانه الذين درسوها سابقاً، أو الذين يستطيعون أن يحللوا ألفاظ الكتاب ويستفيدون منه؛ لأن الفرائض في كتب الحديث لا تكفي، إنما هي أصول كما أشرنا: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، إذ كل مباحث الفرائض جاءت في هذا الحديث، لكن ما كل العقول تستطيع أن تستوعبها أو تستنتجها، فيجد في كتب الفرائض الشرح المبسط لهذا الباب.

اختلاف العلماء في كون الكفر ملة واحدة

اختلاف العلماء في كون الكفر ملة واحدة قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين) رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة، وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ] . تقدم في الحديث السابق: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، وهذا فيه نوع من الإجمال، وكان حري بالمؤلف أن يأتي بهذا الحديث بجواره، ولكنه جاءنا بحديث بيان ميراث البنت وبنت الابن والأخت معهما، وهنا: (لا يتوارث أهل ملتين) ، الملة: هي المعتقد والدين، وإذا نظرنا إلى ملتين وجئنا إلى كلام العلماء: هل الكفر كله ملة واحدة أو ملل شتى. إن كان الكفر كله ملة واحدة؛ فهذا بمعنى الحديث الأول: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، أياً كان نوع كفره، وإذا كان الكفر مللاً شتى فيكون هناك جانبان: علاقة المسلم بغيره، وعلاقة أصحاب الملل بعضهم ببعض. وهنا نجد من العلماء من يقول: الكفر كله ملة واحدة. وهناك من يقول: الكفر ملل. ويستدل كل بما لديه. ومن أدلة كون الكفر مللاً شتى أن هناك اليهود والنصارى، وكل منهما يحارب الأخرى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] ، فكل منهما يحارب الأخرى في ملتها وعقيدتها. مالك رحمه الله يقول: الكفر ثلاث ملل: يهودية، ونصرانية بنص الكتاب (وقالت اليهود) (وقالت النصارى) وما عدا اليهود والنصارى يجتمعون تحت مسمى ملة واحدة، فالمجوس والصابئة وعبدة الأوثان. كل هؤلاء عند مالك ملة واحدة. وهناك من يقول: كل مسمى من هذه المسميات ملة مستقلة. وهناك من يقول: كل هذه الأصناف ملة واحدة. وعلى هذا فالمسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني، ولا أجناس الملل الأخرى، وعند مالك: اليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكل منهما لا يرث الملل الأخرى من الصابئة والمجوس وعبدة النجوم. إلخ. إذاً: (لا يتوارث أهل ملتين) ، أي: مختلفتين في المعتقد والمنهج، والبعض يقول: إن المجوس ملة مستقلة، وكان لها كتاب ثم نسخ، والذي يهمنا الخلاف في ميراث المسلم من غيره، سواء كان غير الإسلام ملة واحدة فلا ميراث أو مللاً شتى أيضاً فلا ميراث بينها وبين المسلمين، أما هم فيما بينهم فسيرجع إلى التفصيل المتقدم، إن قلنا: بملل شتى فلا يهودي يرث نصرانياً، ولا نصراني يرث يهودياً، ولا واحد منهما يرث مجوسياً ولا بوذياً ولا وثنياً.

ميراث الجد مع الإخوة

ميراث الجد مع الإخوة قال المصنف رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس. فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه، فقال: إن السدس الآخر طعمة) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن عمران، وقيل: إنه لم يسمع منه] . هذا شروع أو بيان لما جاء في ميراث الجد، والجد -كما قال بعض السلف- لا حياه الله ولا بياه، أي: اضطربت الروايات في حقه، فهناك من يجعله كالوالد سواء لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، فقالوا: الجد من جهة الأب كالأب، ويجمعون على أن الجد من جهة الأم لا مدخل له في الميراث، وكل جد من أدلى إلى الميت بواسطة أنثى فلا ميراث له، والجد الصحيح عندهم: هو الذي أدلى إلى الميت بمحض طريق الذكورة أبوه، أبو أبيه، أبو أبي أبيه، أبو أبي أبي. أبيه، فهؤلاء كلهم جدود للميت، وكلهم له حق في الميراث ما لم يكن هناك من يحجبه، فهذا الجد الذي جاء وقال: (إن ابن ابني) هو جد لأب، والجد لأم لا يخطر على بالنا، إلا إن كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام لهم منهج مستقل. قال: (إن ابن ابني مات، فماذا لي من ميراثه) ، هنا القضية الواقعية بالفعل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لك السدس. ثم ولى فدعاه، قال: لك سدس آخر. فلما أخذ السدس الآخر ولى فدعاه، قال: السدس الآخر طعمة) يعني: ليس بفرض، وهنا الحكمة في التعليم وعدم اللبس؛ لأنه لو قال: لك الثلث -وهو مجموع السدسين- لربما ظن الجد أن فرضه من ولد ولده الثلث، ولكن الحال ليس كذلك، فالجد له السدس فرضاً، والباقي تعصيباً، فنجد من هذا حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والإرشاد، وعدم إيجاد اللبس على السائل، فأعطاه حقاً أولاً بالفريضة حتى ولى وانفصل بهذا الحق وانقطعت علاقته، فدعاه، وقال: لك سدس آخر، فأخذه وذهب، ثم دعاه وقال: السدس الثاني هذا ليس كالأول، الأول فريضة والثاني طعمة. على هذا التفصيل يأتي الكلام في الجد، وكما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد التفصيل فيها رجع إلى كتب المواريث. ومما ذكر عن ميراث الجد في عهد الصحابة ما يقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه مر بـ عثمان وهو جالس في الطريق، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فأخذ في نفسه، وأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر! سل عثمان ما لي أسلم عليه فلا يرد علي السلام؟! دخلنا في الخصومة، ودخلنا في الظنيات والتقديرات، ونبني على الحبة قبة، فلم ينته عمر من كلامه إلا ودخل عثمان فقال: السلام عليكم. فقال له أبو بكر: ما لك يا عثمان لا ترد السلام على عمر؟ وهذا هو الموقف الصحيح؛ أن نسأله ما عنده؟ قال: ومتى سلمت يا عمر؟ قال: حينما كنت جالساً في المكان الفلاني. قال: والله ما شعرت به ماراً ولا سمعته حين سلم. إذاً: قد كان عنده عذر، هناك فتش عمر عما يشغل بال أخيه عثمان عنه؛ لأن مثل هذه الحالة لا تكون إلا في إنسان لا يشعر بمن حوله، وهذه قد تحدث. قال عمر: فيم كنت تفكر؟ قال: كنت أفكر في ميراث الجد، وكنت أقول: ليتنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطانا فيه علماً شافياً، فقال عمر: والله ما أخرجني من بيتي الآن إلا قضية الجد. إذاً عمر كان في بيته يفكر في الجد، وعثمان كان مشغول البال في الجد، إذاً: الجد شغلهم؛ لأنه لم يأت فيه نص صريح في حكمه في الميراث. هذا الحديث على ما في سنده، إلا أنه لا بأس به، وهو يعطينا: أن الجد له حالتان -هذا مبدئياً-: حالة يرث بالفرض فله السدس، فلو أن الفروض استغرقت جميع التركة وعالت وفيها جد، فإننا نعطيه السدس ليأخذ حقه فرضاً، وتارة يرث بالتعصيب، كهذا السدس الثاني الذي هو طعمة، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم، وبقي شيء زيادة عن السدس أخذه تعصيباً. أي أنه إذا بقي السدس أخذه فرضاً، وإذا بقي أقل من السدس يفرض له السدس ويكمل له وتعول المسألة من أجله. والفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا في الجد منهم من قال: الجد أب. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والمعمول به حتى الآن، فيحجب الإخوة، وغير الأحناف يقولون: الجد والإخوة يرثون جميعاً لكونهم معه سواء في مدى قرب الجد والإخوة من الميت. كم بين الجد والميت من واسطة؟ واحد وهو الأب، وكم بين الأخ لأب وبين الميت؟ واحد وهو الأب، إذاً قرب الجد من الميت كقرب الأخ من الميت، فقالوا: الجد يقاسم الإخوة. وإذا لم تبق الفروض شيئاً ماذا يفعل؟ قالوا: إذا لم تبق الفروض شيئاً للجد فيفرض له السدس، وتعول له المسألة، ويسقط الإخوة. الخلاصة: الجد مع غير الإخوة له ثلاث حالات، فيرث: إما فرضاً وإما تعصيباً، وإما فرضاً وتعصيباً معاً كهذا الحديث. فإذا وجد الإخوة فهو بالأحظ من ثلاث حالات؛ الحالة الأولى: يفرض له السدس إن لم تبق الفروض شيئاً، فبدلاً من أن نقول: هو عاصب، والعاصب ليس له شيء. نقول: يدخل الجد في خط أصحاب الفروض، فنفرض له السدس. وإذا كانت الفروض أخذت نصف التركة، وبقي النصف، فهنا الباقي يقتسمه الجد مع الإخوة بحسب الأحض من ثلاث حالات: إما أن يأخذ ثلث الباقي إذا كان ثلث الباقي أحظ له من سدس الجميع، أو يقاسم الإخوة كواحد منهم، أو يأخذ سدس المال إذا كان أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي. هذا مذهب الجمهور على أنه مع الإخوة يخير، ويعامل بما هو الأحظ من أمور ثلاثة كما تقدم ولو كانوا خمسة إخوة وهو السادس فأيهما أحسن: أن يأخذ ثلث الباقي أو يقاسم ويأخذ سدس الباقي؟ إذا قاسم سيكون نصيبه واحداً من ستة مما أبقت الفروض، وإذا قال: لا أريد مقاسمة وآخذ ثلث الباقي فهو أحسن له، وإذا كان الباقي سدس المال، كأن تكون الفروض استغرقت التركة وما بقي إلا السدس فهل يأتي الإخوة ويقاسمونه في هذا السدس؟ لا، بل يقال: هذا السدس فرضه وليس للإخوة شيء. ونرجع ونقول كما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد الاستيعاب والتوسع فليرجع إلى كتب الفن. وأحسن ما بين أيدينا من الكتب كتاب العذب الفائض، وهو من الكتب القديمة، أما الكتب الجديدة فهي -كما يقال- قطرة من بحر، لن يأتوا بشيء من صناديقهم، ولكن أخذوا من تلك الموسوعات القديمة الموجودة عن سلف الأمة. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الفرائض [2]

كتاب البيوع - باب الفرائض [2] اتفق الفقهاء على توريث أصحاب الفروض، إلا أنهم اختلفوا في توريث الجدة على ثلاثة أقوال، ثم اختلفوا في ميراث الخال، وكذلك ميراث القاتل عمداً، وكذلك ميراث الحمل، وما يتخرج عليه من مسائل عصرية كأطفال الأنابيب، وللعلماء تفصيلات وأدلة يبينون فيها سبب اختيارهم لما رجحوه من الأقوال.

ميراث الجدات

ميراث الجدات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إن لم يكن دونها أم) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقواه ابن عدي] . من مشاكل الميراث ميراث الجدة، والجدة هي أم الأم أو أم الأب، يقولون: إن الجدة جاءت لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقالت: أعطني ميراثي في قضية الجد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس وتساءل العلماء: من كان مع الجد حتى أعطي السدس؟ وعمر رضي الله تعالى عنه لما أتاه سائل في الجد قال: من عنده علم فليأتنا؟ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن رجلاً أتى النبي فأعطاه السدس، ثم دعاه فأعطاه السدس طعمة. فقال عمر: مع من ورثه؟ قال: لا أدري. قال: لا حياك ولا بياك، ما أغنيت شيئاً. العلماء يتساءلون مَن مِن الورثة أصحاب الفروض الذين يبقى بعدهم الثلث حتى يحصل الجد على سدسين؟ فقالوا: المتوقع في هذا: أن يكون الميت ترك بنتين، فالبنتان لهما الثلثان، فبقي الثلث فأخذه الجد فرضاً وطعمة، أو ترك بنتاً وبنت ابن، فالبنت لها النصف، وبنت الابن لها السدس تكملة الثلثين، وبقي الثلث بعدهما للجد فرضاً وطعمة، هذا تتمة لمن كان مع الجد حينما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطاه فيما تقدم. هنا الجدة أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم السدس، هل الجدة من ذوي الفرائض في كتاب الله؟ ليست مذكورة، إذاً: هذا عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم للجدة، بشرط ألا تكون الأم موجودة، فالرسول إنما أعطى الجدة سدس الأم، إذاً: أصل السدس الذي تأخذه الجدة هو للأم، فإذا لم توجد الأم انتقل إلى أمها، وعلى هذا كان عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم. ومبحث العلماء في الجدة والجدات من جهتين: جهة الجهات التي ترث منها الجدة والجدات، وجهة توريث المجتمعات من الجدات. فـ مالك رحمه الله يورث من جهتين: أم الأم وأم الأب فقط. وأحمد رحمه الله يزيد جدة ثالثة، وهي: أم أب الأب، يعني جدة الأب. وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يورثان كل جدات وجدن متساويات قال في الرحبية: وإن تساوى نسب الجدات وكن وارثات فالسدس بينهن بالسوية. وكن كلهن وارثات، أي: ولا توجد واحدة محجوبة بمن قبلها. وعلى هذا: فإن السدس ميراث الجدة إن انفردت من جهة الأم أو من جهة الأب إن لم توجد الأم. ومالك يورث اثنتين، وأحمد يزيد واحدة، والشافعي وأبو حنيفة: يورثان كل من وجد من الجدات متساويات سواء كن أربعاً أو خمساً أو أكثر أو أقل. ولنعلم بأن الجدة لا تكون من جهة الأم إلا واحدة: أم الأم، وأم أم الأم، وهكذا، فخط الأم هذا كله جدة واحدة، لكن أم أب الأم ساقطة؛ لأنها أدلت إلى الوارث بذكر وهو أب الأم، إذاً الجدة الوارثة من جهة الأم لا توجد إلا من طريق واحد. ومن جهة الأب عند مالك أم الأب، وهي أم الأب الأدنى وأمهاتها، وسلسلتها تتعادل مع أم الأم. ويزيد أحمد أم أب الأب يعني: جدة أبي الميت أم أبي أبيه، وأمهاتها، وإذا توسعنا أكثر من هذا فأم أبي أبي الأب لا تدخل عند أحمد ولا عند مالك، ولكن تدخل عند الشافعي وأبي حنيفة. لم تكن الأم موجودة؛ لأن الأم تحجب الجدة لأن الأصل لها، سواء كانت من جدة من جهة الأب أو الأم. ومتى يتساوى ثلاث جدات أو أربع أو خمس؟ هذه مشكلة، ولا عمر نوح عليه السلام! إذا قلنا: أم الأم وأم الأب متساويات وقريبات، فيمكن أن توجد هذه الجدة وتلك معاً، لكن إذا صعدنا درجة أم أم الأم وأم أم الأب فهن متساويات، في الدرجة التي تأتي عند أحمد: أم الجد، فصار بينها وبين الميت الأب والجد وصارت هي في الدرجة الثالثة، فإذا تساوى الجدات الثلاث في الدرجة، فعند أحمد الثلاث يرثن، وعند مالك لا يرث إلا اثنتان، وعند الشافعي وأبو حنيفة ترث ولو كانت أم أبي أبي أبي الأب، وجدة جدة جدة جد الجد، ولن يعيشوا إلى هذا الوقت! وهذه مسألة نظرية، وفي اعتقادي أنها ما وقعت ولن تقع، إذا قلنا: الجدة في الطبقة الخامسة، فبينها وبين المائة شيء يسير، ستعيش إلى ذلك الوقت، وهل هذا كما يقولون: من التصوير الفقهي، والمسائل المفترضة؛ لأنه متمش مع القاعدة الفقهية في الميراث؟ هنا ناحية بعد هذا (وكن كلهن وارثات) ، إذا وجدت أم الأم، وأم أم الأم، فهناك قربى وبعدى، فأم الأم هي القريبة، أما أم أمها فبعيدة، إذاً: السدس يكون للقريبة، فكل من كانت أقرب للميت سواء من جهة واحدة أو من جهات أخرى، فإن القربى المنفردة في طريقها تحجب البعدى على التحقيق، وإذا كان الطريق متعدداً، وعندنا أم أم أم أم أم أم، يعني: جدة رقم ستة للأم، وعندنا جدة رقم سبعة للأب، تفاوت القرب والبعد، فالذي يرث منهما القربى، ولو عكسنا وجعلنا السادسة من جهة الأب، والسابعة من جهة الأم، فهناك من يقول: القربى تحجب البعدى ولو كانت البعدى من جهة الأم، فالجدة رقم ستة من جهة الأب تحجب الجدة رقم سبعة من جهة الأم، وهذا قول للإمام أبي حنيفة رحمه الله. والآخرون يقولون: إذا كان أصل السدس للأم، فجدة الأم هي الأصل، فإن بعدت ووجد معها أقرب منها من جهة الأب، فإن قوة الأصل في كون السدس للجدة للأم يدنيها؛ لأنها هي الأصل، فتشارك الجدة من الأب وإن كانت التي لأم بعدى، فتنزل وتشارك التي لأب وإن كانت التي لأب قربى؛ لأن الأصل مع التي لأم، فيقوي ضعف بعدها. وإذا كان العكس: القربى للأم، والبعدي للأب؟ فالتي للأب لا تنزل وتشارك التي لأم، بل تسقط؛ لأن التي لأم جمعت قوتين: قوة القرب وقوة الأصالة. فاختصت عند قربها بالسدس، ولعل في هذا القدر كفاية من جهة الجدات.

اختلاف العلماء في ميراث الخال

اختلاف العلماء في ميراث الخال قال المصنف رحمه الله: [وعن المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخال وارث من لا وارث له) أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي، وحسنه أبو زرعة الرازي، وصححه الحاكم وابن حبان] . الخال أخو الأم، والعم أخو الأب، فهذا العم -أخو الأب- وارث، والخال -أخو الأم- أيضاً لابد أن يرث، والعجيب: أن الجمهور لا يقولون بهذا، يقولون: الخال ليس بوارث، لأنه إن كان وارثاً بفرض فأين فرضه، وإن كان بتعصيب فهناك حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وإذا ورثتم الخال فلماذا لا تورثون الخالة، والعمة مع العم؟ إذاً: أوقفوا العمل بهذا الحديث إلا بعض من هو خارج عن المذاهب الأربعة، ونحن لا نستطيع أن نتتبع هذه الشواذ، إلا أن المعروف عن طوائف من الشيعة أنهم يورثون الخال، ويجعلون له ميراثاً لا على الحديث فقط، فقوله: (الخال وارث من لا وارث له) معناه: إذا وجد وراثٌ للميت مع وجود الخال فإن الخال لا شيء له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الخال وارث من لا وارث له) . قال بعضهم: الخال هنا بمعنى بيت المال. وهذه بعيدة جداً، وردوا عليهم وقالوا: لو كان يريد ذلك لقال: (أنا وارث من لا وارث له) . يهمنا في قضية الخال: أن الجمهور تركوا العمل بهذا الحديث للحديث المتقدم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ، وليس الخال صاحب فرض لا في الثمن ولا الربع ولا النصف ولا الثلثين ولا الثلث ولا السدس، إذاً: ليس له فرض. قوله: (من لا وارث له) ، ما حكم العصبة؟ إذا وجد أصحاب الفرائض ما هو موقف الخال، والشيعة لما ورثوه أنزلوه منزلة الأم كما ينص الحلي في كتابه الشرائع: لو مات عن خال وعم، فللخال الثلث، وللعم الثلثان؛ لأنه لو وجدت الأم مع العم يكون لها الثلث؛ لعدم الفرع الوارث ولعدم وجود جمع من الإخوة، فلها الثلث، قالوا: فيأتي الخال وينزل منزلتها، ويأخذ حقها. إذا: هذا الحديث لم يعمل به الجمهور لمعارضته لما هو أقوى منه، ولمخالفته لمدلول قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، وما بقي فلأولى رجل ذكر) . بقي أن يقال: الخال والخالة والعمة من ذوي الأرحام، وبنت البنت وابن البنت، وكل الأقرباء الذين لا ميراث لهم فهم من ذوي الأرحام، والخلاف في توريث ذوي الأرحام موجود عند الفقهاء، فمنهم من يورث، ومنهم من يقول: بيت المال أولى منهم إن انتظم، أي: إن كان موجوداً ويتقبل ميراث من ليس له وارث، ويتولى الإنفاق على مصالح المسلمين.

ولاية رسول الله على المؤمنين

ولاية رسول الله على المؤمنين قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له) رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان] . هذا الخبر عن عمر رضي الله عنه يؤيد الخبر الذي قبله، إذاً: عمر يرى ميراث الخال، لكن على أي حالة؟ وما نصيبه في الميراث؟ لا ندري ما نعطيه، وليس عندنا فيه شيء. قوله: (الله ورسوله مولى من لا مولى له) . هذه واضحة بأن من مات ولا وارث له ولا مولى له يواليه، والمولى هنا عام لغةً، وليس المولى الخاص بالعبد الذي أعتقه ومولاه. فالرسول صلى الله عليه وسلم ولي من لا ولي له، والقاضي ولي من لا ولي له نيابة عن ولي الأمر، فإذا كانت امرأة وليس لها عاصب أو ولي أمر يزوجها فالقاضي وليها يزوجها، وهكذا ولي الأمر له هذه الولاية، ولذا تجدون الفقهاء يقولون في بعض القضايا: هل حكم فيها الرسول بالولاية أو بالتشريع؟! فهنا الولاية عامة، وقد جاء ما يوضح هذا في أول الإسلام؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدمت إليه جنازة للصلاة عليها سأل: هل عليه دين؟ إن قالوا: نعم. قال: صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: لا. صلى عليه، ثم بعد أن فتح الله الفتوح، وصار عند المسلمين المال قال: (من ترك غنماً فغنمه لورثته، ومن ترك غرماً فغرمه علي) ، وكلمة: (علي) ، يعني: علي ولي الأمر، وولي الأمر لا يدفع من عنده شخصياً، ولكن من بيت مال المسلمين. وهذا تحقيق -كما يقال- لكفالة الإسلام للمعدمين، وهذا له طرقه، ويكون التصرف مع بيت مال المسلمين عن طريق الحاكم، حتى لا ينتحل كل إنسان استحقاقاً بأي وجه من الوجوه فينفد مال المسلمين ويأخذ ومن لا يستحق الأخذ. وعلى هذا إذا انتظم بيت مال المسلمين، وكان فرد من أفراد الأمة الإسلامية عليه حقوق نظر فيها: إن كانت هذه الحقوق ثابتة بوجه شرعي، ولحقته من جانب مشروع؛ تولى وليه وهو صاحب الأمر من بيت مال المسلمين أمر دينه وقضاه، وإن كان غير ذلك فالله تعالى أعلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] . بمعنى أعم: يقضي صلى الله عليه وسلم في أمر المسلمين بما يراه بالولاية، فيحجر على السفيه ويحفظ ماله، ويطالب بحقه إذا لم يكن له قدرة على المطالبة، فلو قتل أبو قاصر صغير من الذي يتولى حقوق هذا الطفل في المطالبة وحفظ حقوقه؟ ولي أمر المسلمين، إما بنفسه أو يقيم عليه قيماً أو وصياً يتولى ذلك، فإن كان يستحق الدية طالب بها وحفظها حتى يكبر ويرشد، وإن كان يستحق دماً قصاصاً، فهناك من يقول: بنظر الولي ينفذ، وهناك من يقول: المطالبة بالدم من حق صاحب الدم العاصب، فينتظر بهذا الصغير حتى يبلغ ويرشد ويطالب بالقصاص، فيعطى طلبه. المرأة التي لا ولي لها، يزوجها الوالي بالولاية، القاصر المعتوه يقيم عليه قيماً نيابة عنه يرعى شئونه ومصالحه، وعلى هذا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] ؛ لأن ولاية رسول الله على المسلمين ولاية جازمة ومنفذة وقائمة، وهو أولى بهم من أنفسهم.

ميراث الحمل

ميراث الحمل قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استهل المولود ورث) ، رواه أبو داود، وصححه ابن حبان] . هذا الحديث فيما يتعلق بصحة ميراث الحمل إذا وُلد، ويتفرع عليه بعض المسائل في الرق وأم الولد. يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا استهل) الاستهلال والإهلال والتهليل مأخوذ من الهلال، أصل وضع الكلمة للهلال حينما يظهر في أول الشهر؛ لأن الناس يترقبونه، فإذا رآه أحدهم هلل، أي: رفع صوته وقال: هذا الهلال. ثم استعملت الكلمة بعد ذلك في كل تهليل، أي: في كل رفع الصوت، وتستعمل من باب النحت التهليل قول القائل: لا إله إلا الله. كما قيل: التسبيح من قول القائل: سبحان الله. الحوقلة من قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله. واستهلال الصبي إنما هو ظهور الصوت بالبكاء والصراخ عند ولادته؛ لأن هذه الحالة هي أصدق علامة على حياتها؛ لأن الميراث لا يكون إلا للحي، فإذا لم يستهل ولم يصرخ ولم تثبت حياته فلا ميراث له، والأصل في باب الحمل في الميراث أنه واسع؛ وذلك أن الميت إذا مات وترك ورثة أحياء، وترك زوجه حاملاً، هذا الحمل إن ثبت وجوده في الرحم كائناً حياً فهو من أهل الورثة، ويستحق الميراث باستهلاله صارخاً. أما إذا جاء وقت الولادة فنزل ميتاً فلا ميراث له، وإن كان الأصل فيه عند موت مورثه الحياة، لكنه لما جاء إلى الدنيا جاء إليها ميتاً، والميت لا يرث شيئاً.

اختلاف الفقهاء في التوريث التقديري وتوقيف القسمة عند وجود حمل

اختلاف الفقهاء في التوريث التقديري وتوقيف القسمة عند وجود حمل والفرضيون حينما يعملون المسألة الفرضية التي فيها الحمل ينقسمون إلى قسمين: هناك من يوقف التركة فلا يقسم منها شيئاً، ويقول: ننتظر حتى يأتي الحمل لننظر أهو ذكر أم أنثى أو توأم ذكور أو إناث، أو ذكر وأنثى؟ هذا على أقل التقدير في التوأم، وقد يكون التوأم أربعة وخمسة وستة وسبعة، وقد سمعت قصص كثيرة في الآونة الأخيرة عن المرأة التي ولدت سبعة في المستشفى، وكانوا يأخذونهم واحداً واحداً للتطعيم أو للتطهير أوكذا، وكانت نائمة، فاستيقظت فوجدت ستة، فصرخت فأفزعت المستشفى كله، قالوا: ما بك؟ قالت: أين السابع؟ قالوا: هل يكفيك الستة؟ قالت: واحد مثل الستة. والقصة التي يذكرها الشافعي رحمه الله: عن المرأة التي ألقت كيساً في صنعاء فظنته ديدان، فألقته في الشمس، فجاءهم الدفء فتحركوا فإذا هم أولاد صغار، أربعون طفلاً في كيس، وأخبار تذكر ويذكرها السلف، سواء كانت الحقيقة أو قريباً من الحقيقة، لقد لامسنا أو شاهدنا أو سمعنا وقرأنا عن الستة والسبعة، فماذا يفعل قاسم التركة في نصيب الحمل؟ الشافعي رحمه الله ليس عنده ميراث بالتقدير، فيوقف التركة حتى يتبين الوارث: فالخنثى المشكل يوقف التركة حتى نعرف هل هو ذكر أو أنثى، وفي الغرقى والهدمى نوقف التركة حتى نعرف من الأسبق، وفي الحمل نوقف حتى يأتي ونتبين كم هو. والأئمة الثلاثة رحمهم الله يعملون بالتقدير، فمثلاً تركة فيها خنثى مشكل، فيقولون: نقدر المسألة مرتين، مرة على أنه ذكر، ومرة على أنه أنثى، ثم نعطي الورثة الأقل من أنصبتهم في التقديرين، ونحفظ له الأكثر، فإذا جاء على أكثر التقدير أخذه، وإذا جاء أقل من التقدير رددناه على بقية الورثة، وكذلك الحمل، إلا أنهم في الحمل يقدرون المسألة خمس مرات، ويعمل له خمسة جداول لتقسيم تركة، ويؤتى بالجامعة للمسائل الخمس، ويعرف جزء السهم، ويعطى الموجودون الأقل من حصتهم في الجداول الخمسة، ويوقف الباقي لحساب الحمل.

يشترط في توريث الحمل وجوده عند موت مورثه

يشترط في توريث الحمل وجوده عند موت مورثه يشترط في الحمل أن يكون عند موت مورثه موجوداً بالفعل، وكيف نعرف؟ ما عندنا أشعة، قالوا: نعمل بالحساب. فإذا جاء بعد موت مورثه لأقل من ستة أشهر عرفنا أنه استوفى كامل الستة موجوداً في رحم أمه قبل موت مورثه؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فلو أنه ولد بعد مورثه بخمسة أشهر، فهو موجود في الرحم، إذاً: ثبت وجوده في الرحم عند موت مورثه. فإذا مات المورث واعتدت الزوجة للوفاة، وبعد ستة أشهر قالت: أحس بحمل. فننتظر حتى كمال تسعة أشهر حسب العادة عشرة أشهر، سنة وسنتين وثلاث، ماذا تقولين؟ قالت: الحمل موجود، أنا أحس به. إلى أربع سنوات، فإذا جاء لأربع سنوات فأقل بأسبوع واحد قلنا: هو من الميت، واستكمل الأسبوع الناقص في حياة مورثه، هذا ما لم تتزوج. فعلى كل: الفقهاء والفرضيون لهم حساب في إثبات الحمل عند موت مورثه. وفي إثبات حياته ليستحق ما جعل له.

علامات حياة الحمل عند الولادة

علامات حياة الحمل عند الولادة وكون الاستهلال هو علامة على الحياة هو العلامة الفارقة الأولى الواضحة التي يفهمها الجميع. الفقهاء يزيدون على ذلك ما يسمى: بتحقيق المناط، وهو كل علامة تحقق أن المولود ولد حياً، فلو نزل ساكتاً وما صاح ولا شيء، لكنه أعطي الثدي فامتصه، فهل هو حي أو ميت؟ حي. وضعناه في إناء فيه ماء، فإذا به يغطس بيديه ورجليه، فهل هو حي أو ميت؟ حي؛ لكن -كما يقول الفقهاء- لا حركة المضغوط، لو أنه حينما نزل من أمه تحركت يد أو رجل وسكن بعد ذلك، فهل تلك الحركة التي حصلت عند الولادة تدل على الحياة؟ قالوا: لا؛ لأنه كان مضغوطاً في الرحم، وخرج من مكان ضيق، واليد والرجل إذا كانت مضغوطة إذا ذهب عنها الضغط حصلت لهما حركة؛ فهذه حركة المضغوط. لو أخذت هذا الثياب وضغطته بقوة ثم تركته فإنه سيتحرك، هل هذه حركة حياة أو حركة المضغوط؟ فإذا تحرك حركة تثبت حياته فالحمد لله، أما حركة المضغوط فلا. ما تحرك، ولا مص الثدي، ولا صاح، لكن عطس، فالعطاس يدل على حياة، وهكذا بما يسمى تحقيق المناط في أنه نزل حياً. لو مات بعد عشر دقائق أو خمس دقائق، فإذاً: هذا موت جديد حادث يثبت له ميراثه، وينتقل عنه إلى من يرثه من إخوانه وأمه. إلى آخره. فهنا: متى يستحق الحمل ميراثه، سواء أوقفنا قسمة التركة أو قسمنا الأقل على الحاضرين حتى لا يتضرروا، والذي أوقفناه لحسابه موجود، إن جاء ما يثبت حياته قلنا: تفضل هذا حقك إن كان يستحقه كله أو بعضه على حسب التقديرات، فهذا الحديث يدل على إثبات الحياة للوارث قبل موت مورثه أو إثبات وجوده. وهنا أم الولد إذا كان الأصل فيها الرق، متى تتحرر في حياته أو بعد مماته؟ نقطة الصفر التي يموت فيها سيدها هي نقطة الصفر التي تتحرر فيها، إذاً: لم تجتمع مع سيدها في الحياة بحرية؛ لأن الحرية جاءتها بوفاة سيدها، إذاً: لا ترث؛ لأنها لم تشارك سيدها في الحياة بالحرية ولو لحظة.

توريث أطفال الأنابيب

توريث أطفال الأنابيب نحن عندنا مشاكل اليوم: طفل الأنابيب، كيف نثبت حياته عند موت مورثه ونثبت له حكم الحياة في النهاية؟ مهما كانت ظروفه وأوضاعه؛ لأنهم -على ما سمعنا من المختصين- يأخذون البويضة من الزوجة، ويأخذون الماء من الزوج، ويلقحون البويضة بماء زوجها، ثم يضعونها في أنبوب فيه سائل يتعادل مع حرارة الرحم، أو أن الزوجة بعد أن تلقح البويضة في رحمها -أو أنبوب فالوب كما يسمونه- وثبت تلقيح البويضة في داخل رحم الأم، لكن الأم لا يستطيع رحمها أن يواصل بالحمل وحينها تسقط، فيلجئون إلى إخراج البويضة الملقحة من المرأة، ويضعونها في جهاز يسمونه الأنبوب أو غير ذلك، فيواصل نموه داخل هذا الوعاء، فهو من الناحية القانونية والعرفية والشرعية ابن لهذين الزوجين، بخلاف ما يقع في بعض الجرائم حيث تلقح بويضات بعض النسوة بماء غير الزوج، فإذا كانت البويضة قد لقحت في حياة الزوج، وأخذت في النمو إلى أن تشكل هيئة إنسان، لا إن كان دماً جامداً مضغة أو علقة، بل ظهر فيه تخطيط الإنسان تأكيداً؛ لأن النمو مستمر في حياة الجنين، فإذا ظهر في خلقة الإنسان فإنه حينئذ ثبتت حياته في الأنبوب حين حياة أبيه، بعد هذا مات أبوه والجنين في الأنبوب حي على هيئة الإنسان، أي: ظهر فيه تخطيط الإنسان، وجزمنا بأنه طفل ماض في نموه إلى حالة الولادة. إذاً: جاء الشرط الأول وهو ثبوت حياة الجنين في حال حياة أبيه، فأخذ طفل الأنبوب في طريقه إلى أن استكمل ستة وثلاثين أسبوعاً -التسعة الأشهر- فأخرج من الأنبوب إنساناً يصيح ويطلب الثدي، فإذا جاء مولود مكتمل، فحينئذ له ميراثه؛ لأنه ثبتت حياته عند استكمال مدة التلقيح أو الحضانة في هذا الجهاز.

أحكام قتل الوارث لمورثه

أحكام قتل الوارث لمورثه قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للقاتل من الميراث شيء) رواه النسائي والدارقطني، وقواه ابن عبد البر، وأعله النسائي، والصواب: وقفه على عمرو] . يقولون في هذه القضية: إن القاتل يعامل بنقيض قصده؛ لأن غالب حالات قتل الوارث مورثه استعجالاً للميراث، ويلحق به قتل الموصي لمن أوصى إليه، كأن أوصى رجل لإنسان بعد موته ببيت، فطالت حياة الموصي، والموصى إليه ينتظر وفاته ليأخذ البيت، فلما استطال المدة قتله ليأخذ البيت، فمادام أن قصده بالقتل الحصول على الوصية فليحرم عليه أخذها. ولا يرث من قتل من أجل الميراث لماذا؟ لأنه يعلم إذا قتل أنه لا يرث، فهو حريص على الميراث، إذاً سيحافظ عليه، ويبعد كل تهمة أو شبهة عنه في قتله حتى يصح له الميراث؛ لأنه حريص عليه، وكذلك الموصى إليه يبعد كل البعد عن قتل الموصي حتى تسلم له الوصية، فالمعاملة بنقيض القصد في القاتل وفي الموصي. ولكن الفقهاء فصلوا في القتل، فقالوا: هو عمد، وخطأ، وشبه عمد، وشبه خطأ، فالعمد وشبهه يتفق الجمهور على أنه لا يرث؛ لأنه متعمد، إلا إذا كان متعمداً بحق بأن كان له عليه قصاص لابن عمه، بأن كان قد قتل أباه فجاء وهو العاصب فقتل قاتل أبيه والحال أنه عاصبه، فالأئمة الثلاثة يقولون: يرث؛ لأنه لم يقتل متعمداً من أجل ميراث، لكن قتله بحق ألا وهو القصاص. والشافعي يقول: لا يرث، ولو كان قتله بحق. الخطأ الشافعي يقول: إذا شارك في قتل الخطأ ولو بالشهادة عليه التي تثبت القصاص فلا ميراث له، ولو كان قاضياً وحكم بمقتضى البينة بقتله، وكان القاضي وارثاً لهذا فلا يرث منه مع أنه نفذ حكم الله بالقصاص! قال: لأنه شارك؛ فيحرم من الميراث سداً للباب بالكلية. وما عدا الشافعي رحمه الله فإن مالكاً يقول: القاتل خطأ يرث من رأس المال قبل القتل، ولا يرث من الدية. والخلاف في هذا موجود عند الأئمة رحمهم الله، والقصد فيه حرمان القاتل من الميراث لئلا يتعجل قتل مورثه من أجل أن يأخذ الميراث، ونظير ذلك من تزوج امرأة في عدتها، وهو يعلم أنها لا زالت في العدة، فإنه يفرق بينهما إلى الأبد، ولا يتزوجها بعد ذلك قط، حتى ولو تزوجت بعده برجل آخر؛ لأنه تعجل زواجها قبل انقضاء العدة؛ فيعامل بنقيض قصده، أي: حرصك عليها ضيعها منك، وكان الواجب الانتظار حتى تنتهي العدة وتصبح خاطباً من الخطاب، أو أن تحصل لك وعداً، أما أن تتزوجها وأنت تعلم فهذا يمنع منها إلى الأبد. وهل يقام عليه الحد؟ منهم من يدرأ عنه الحد لشبهة العقد، ومنهم من يقول: يستحق الحد ويقام عليه.

أحكام ميراث الولاء

أحكام ميراث الولاء قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وصححه ابن المديني، وابن عبد البر] . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب) رواه الحاكم من طريق الشافعي، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، وصححه ابن حبان وأعله البيهقي] . هذان الحديثان يكمل بعضهما بعضاً، الأول: (ما أحرز الولد فهو لعصبته من كان) وأين أصحاب الفروض؟ قالوا: هذا ليس له دخل في الفروض، هذا جزء من الحديث الذي بعده، هذا فيما يتعلق بغير المال والميراث، مثل الحقوق العامة، والشفعة، ورد العيب، وبالأخص هنا في باب الميراث، فلعصبته ما كانوا. الذي يختص بالعصبة في الميراث، ولا يدخل فيه صاحب فرض هو الولاء، فالولاء لحمة لا يوهب ولا يورث، إذاً ما أحرز الوالد والولد في الولاء فهو لعصبته من كان، ولا دخل لأصحاب الفروض في الولاء، والولاء لحمة كلحمة النسب لا يوهب ولا يورث ولا يباع، لا ينقل بعوض، ولا يتحكم فيه وارث. وقوله في الحديث الأول: (لعصبته من كان) ، فيه قضية يذكرها الفرضيون، وأثناء الطلب أتعبتنا جداً، ولا ميراث لعصبة عصبة المعتق إلا إذا كانا عصبة للمعتق، وهو محل هذا الحديث. يمثل له الفرضيون بصورتين: صورة يتحقق فيها عصبة المعتق، وصورة تنتفي فيها عصبة المعتق. وذكر صاحب العذب الفائض في بعض فروعها يقول: غلط فيها من القضاة (ت) والتاء في حساب حروف الجمل أربعمائة (أبجد هوز) أربعمائة قاض غلطوا فيها، عصبة عصبة المعتق: رجل تزوج بامرأة من قبيلة تميم، والمرأة ليس لها عاصب في قبيلتها وقد أنجبت ولداً، وأعتقت عبداً، ثم توفيت فولاء العبد الذي أعتقته لابنها؛ لأنه عاصبها وأقرب عصبة لها، وإذا كان هذا الولد بعد أن حاز الولاء إليه توفي، وترك عمه أو ابن عمه وهم عصبة له، لكن هل هم عصبة للمرأة؟ لا، وعندئذ إذا حاز الولد الولاء بعصبته لأمه فعصبة عصبة المعتقة لا يرثون الولاء؛ لأنهم ليسوا عصبة للمعتقة الأساسية. نعيد القضية بطريقة أخرى: مصري تزوج سودانية، فكان لهما ولد، والسودانية أعتقت عبداً، ثم ماتت عن ولاء العبد وعندها ولدها، فولاء من أعتقت لولدها من زوجها المصري. فإذا مات الولد وفي حوزته الولاء الذي ورثه عن أمه، ويوجد عم للولد -مصري بلا شك- وابن عم عمه، فعمه وابن عمه عصبة له يرثان عنه المال، لكن هل يرثان عنه الولاء بالعصبة؟ لا، لماذا؟ لأنهما ليسا عصبة للسودانية. مثال حينما يكون عصبة عصبة الميت عصبة للمعتق: امرأة تزوجت بابن عمها، هناك صلة؛ فالأسرة واحدة والجد واحد، وهذه المرأة أعتقت عبداً، وكان لها ولاؤه، ثم جاءت بولد حاز الولاء عن أمه، ثم مات الولد، وورثته أخته أو بنته أو عمه ممن هم عصبة له، أما ميراث المال فمستحق، وكذا العم عاصب في المال أيضاً. بقي الولاء. فعم الولد هل هو عاصب للمرأة التي أعتقت أم لا؟ عاصب؛ لأنها متزوجة بابن عمها، وعم الولد ابن عمها أيضاً، فهو عاصب لها في الأصل، إذاً: يحق له أن يرث الولاء. هذا معنى قوله: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان) . أما الحديث الآخر: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، لا يوهب) ، ولا يورث. إلخ. هنا مسألة: فالولاء وصف معنوي يستحقه المعتق على من أعتقه؛ لأنه بمثابة من أخرجه من العدم إلى الحياة، كان ميتاً معنوياً، تحت حكم سيده لا يتولى المناصب الشرعية كالقضاء والولايات وغيرها، فلما أعتق صار كبقية الأحرار في حقوقهم الخاصة، فإذا مات المعتَق فولاؤه للمعتِق، ماذا ينفعه هذا الولاء للمعتق؟ يرث به ميراث العصبة، ولكن متى؟ قالوا: درجات انتقال التركة إلى الغير تبدأ بالفروض لقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ، فأول شيء نعطي أصحاب الفروض فروضهم. المرتبة الثانية: العصبة لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) . فإذا بقيت سهام ولم يوجد عاصب نرد على الورثة بنسبة ميراثهم، وهو نظام ما يسمى بنظام الرد، أو أننا ندخل ذوي الأرحام بعد العصبة النسبية، وهم يختلفون أيهما يقدم: الرد، أم إدخال ذوي الرحم ليأخذوا الباقي على نظام توريث ذوي الرحم بالتنزيل أو القرابة، ثم بعد ذلك العصبة بالسبب، والعصبة بالسبب هي الولاء، فالولاء هو آخر من يأتي إلى الميراث. مسألة: عتق إنسان عبداً، وأصبح له الولاء عليه، فبالولاء إذا مات العبد وكان له أولاد أو ذوي فروض أعطينا ورثة العبد مما يملك على الترتيب السابق: ذوي الفروض، ثم العصبات، ثم الرد أو ذوي الرحم، ثم المعتق بالولاء. مسألة: أعتق عبداً ومات السيد قبل العبد، ولم يكن للسيد من يرثه، أو عنده أصحاب فروض، فما بقي بعد الفروض هل العبد الأدنى -يسمى العبد الأدنى أو الولاء الأدنى والولاء الأعلى، أو المولى الأدنى أو المولى الأعلى- يرث سيده؟ لا يرث، ويصير حقه إلى بيت المال، فأيها أقرب وأولى بالمنفعة: هذا العبد الذي كان يخدم طوال عمره في حياة سيده، أو بيت المال الذي كل إنسان يأخذ منه خمسه؟ هو أقرب. ويذكرون عن عثمان رضي الله عنه -ورواية عن أحمد - أن الولاء يورث به من الطرفين كالزوجية، أي كما أن كلاً من الزوجين يرث الآخر، فهو سبب مزدوج. ولكن الجمهور على أن الولاء لطرف واحد، وهو للمولى الأعلى يرث بولائه عتيقه. والله تعالى أعلم.

تخصصات الصحابة في العلوم الشرعية

تخصصات الصحابة في العلوم الشرعية قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد بن ثابت) أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وأعل بالإرسال] . لو جئنا إلى العرف الحاضر في الدراسة كان لدينا ثانوية عامة، وقد يكون فيها نوع تخصص: أدبي، علمي، إذا جئنا إلى شهادة البكالوريوس وجدنا الكليات المتعددة ما بين طب وهندسة وزراعة وميكانيكا وأشياء ومتعددة، ثم بعد البكالوريوس تأتي شهادة الماجستير، ثم بعد هذا يختار بحثاً آخر في الدكتوراه، وبهذا بلغ القمة في منهج الدراسة النظامي، وهو في حياته العملية يستفيد من تجاربه ربما أكثر من دراسته، فإذا جئنا الآن إلى الطب بصفة عامة، تخرج من كلية الطب، انصرف إلى الماجستير، ما موضوعه؟ اختار جهازاً في الجسم، وتخصص فيه بشهادة ماجستير، نفس القسم الذي اختاره فيه جزئيات، فعمل شهادة دكتوراه في جزئية من تلك الجزئيات؛ مثلاً: جراح، تخرج بكالوريوس جراحة، ثم في الجراحة هناك جراحة المخ، والعظام، والغضروف. إلخ، فتخصص في نوع من أنواع الجراحة، حينما نعمل (كونسلت) طبي على مريض في عملية جراحية، هل نأتي بطبيب العيون والأسنان والجلد ليكتبوا تقريراً على هذا المريض؟ أم نأتي بالمختصين في موضوعه الجراحي المطلوب؟ نأتي بالمختصين، ولا دخل لطبيب الأسنان ولا العيون ولا لطب الجلديات ولا المسالك البولية في عملية جراحية للمخ مثلاً؛ لأن المختصين في هذه المادة أعرف، ويتعاونون فيما بينهم. إذا كان الشخص مريضاً بالقلب ومر عليه طبيب أسنان وأعطى تقريراً عنه، هل يسمع منه؟ ليس له دخل في هذا، نعم يحترم ولكن لا يعمل به في شيء، فإذا جاء المتخصص في القلب اعتبرنا قوله. وهكذا أيها الإخوة كان التخصص العلمي موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم، فقوله: (أفرضكم) ، أصبح زيد هنا من خاصة العلماء، فإذا كان جميع العلماء من سلف الأمة وخلفها يعرفون الفرائض، يدرسونها، ويقسمون التركات، والقضاة يحكمون فيها، ولكن عند النزاع في مسألة لا نأخذ فيها رأي شخص عادي حتى لو كان أبا بكر وعمر، ولكن رأي زيد؛ لأن الرسول خصه بأنه أفرض -أفعل تفضيل- وما استثنى أبا بكر ولا عمر، فعلى هذا: إذا اختلف السلف أو الخلف في قضية فرضية وظهر رأي لـ زيد، كان هذا ترجيحاً لهذه المسألة. وجاء عن ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فإذا تنازعوا في تأويل آية، وكان لـ ابن عباس رأي فيها كان رأي ابن عباس مقدماً على غيره. (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذا اختلفوا في مسألة أحلال أم حرام، وكان هناك رأي لـ معاذ كان رأي معاذ هو الأرجح، وكذلك (أمين هذه الأمة أبو عبيدة) . وعلى هذا: فالجمهور يعتبرون رأي زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مرجحاً في مسائل الخلاف في موضوع الفرائض. والله سبحانه وتعالى أعلم، ونوصي الإخوة -مرة أخرى- بالعناية بالفرائض؛ لأنها كما قيل فيها في الصحيح: (أول علم يفقد في الأرض) . والفرائض قسمان: هذا القسم الذي درسناه فقه الفرائض، بقي: الحساب في الفرائض، والحساب كما يقولون رياضة عقلية لا تخطئ، والعقل هو الذي يخطئ فيها، فبأي طريقة أو منهج استطعت أن توصل حق كل ذي حق اتخذها، سواء كان بالنسب الأربع عند الفرضيين: تداخل، توافق، تباين، تماثل، أو بالحساب العصري الحديث العوامل الأربعة، أو بالجبر -كما يقولون- أو بأي صفة استطعت أن تقسم التركة على أهلها. وبالله تعالى التوفيق.

كتاب البيوع - باب الوصايا

كتاب البيوع - باب الوصايا جعل الله عز وجل للإنسان قبل موته أموراً يستطيع أن يستدرك بها ما فرط فيه وما فاته في حياته، ومن هذه الأمور: الوصية، والوصية تشملها الأحكام الخمسة، ولهذا على المرء أن يوصي بما عليه من حقوق للآخرين، وعليه أيضاً أن يوصي بصدقة في حدود ما أذن له الشرع حتى ينتفع بأجرها بعد موته.

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به.

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه] . (ما حق امرئ مسلم) كذلك ولا امرأة؛ لأن المرأة مثل الرجل في التكاليف، إلا ما اختص به الرجل دونها، (ما حق) أي: لا يجوز، ولا يجب، (ما حق) ما نافيه، وحق اسمها وخبرها يأتي فيما بعد، (امرئ) مذكر امرأة، وامرأة مؤنث امرئٍ. (له شيء) أي: حق والحق هنا يكون مالي واعتباري: كحق في الشفعة، أو حق في القصاص، أو حق في الدية، أو حق من حقوق الجوار، فكل تلك الحقوق داخلة في عموم (له شيء) .

الوصية وأحكامها

الوصية وأحكامها قوله: (يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) أو حق يريد أن يوصي، (حق يريد) رد كتابة الوصية لإرادة الموصي، ومن هنا قال الجمهور: الوصية جائزة وليست واجبة؛ لأنه قال: (يريد أن يوصي) وإذا لم يرد أن يوصي فلا شيء عليه. والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا المبحث هو مبحث حكم الوصية. الوصية تعتريها الأحكام الخمسة. وقوله: (ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟ قالوا: يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه، ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا: ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي، فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟ قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق. ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب: (عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته. وقد تكون الوصية تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم. إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع) ، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير. إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم) . وإذا كان عنده مال محدود وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب: هم في حاجة إليه. فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك فلك بها أجر) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) فدع الثلث لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر الكبائر. وقد جاء حديث: (إن الرجل أو المرأة يعيش أحدهما ستين سنةً يعمل الخير، فإذا جاء عند الموت ضار بوصيته -عياله في حاجة وأوصى وصية مضارة لهم- فيختم له بعمله هذا فيكون من أهل النار، والرجل والمرأة يعمل أحدهما بالشر ستين سنةً ويعدل عند الموت في وصيته فيختم له بالخير فيدخل الجنة) . إذاً: الوصية تعتريها الأحكام الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله. إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة: (يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير من بعده. (يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً. أي: في جانب الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.

فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا

فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) فلو قيل: إن رسول الله صلى الله عليك وسلم قد قال: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) فمن أين جاءت الكتابة الآن؟ وهل في قوله: (إلا ووصيته مكتوبة) تقرير للكتابة أو إهمال لها؟ الجواب: فيه تقرير لها. إذاً: ما كان لا يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: {اقْرَأْ} [العلق:1] ، سبحان الله! وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب. فإقرار الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر. إذاً: هو يكرم ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة. وإنما منع الله رسوله من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟ قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون. فإذا كانوا قد اتهموه بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة بالشعر؟! فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ، فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس بشاعر. وكذلك لما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ، قال الله رداً عليهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] أي: فليس بينهما صلة. إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة، وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر، فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل. إذاً: (إلا ووصيته مكتوبة) : الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء: هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون: إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة، فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد عليها، ويعمل بها. واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون: إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى، قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى رسول الله؟ قال: بلى. قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال: بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه. يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز: أنه أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها، فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا. فقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من الصحابة.

حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها

حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها يقولون: لا يشترط في كتابة الوصية التي يبيت وهي مكتوبة تحت رأسه إشهاد الشهود. وقوله: (إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه) ، تحت رأسه، هل يتركه للأولاد يلعبون بها؟ وهل يتركها تذهب وتجيء مع الفراش وتضيع؟ الجواب: لا. وإنما الغرض شدة الحرص على كتابة الوصية قبل أن يصبح، وقالوا: ليس الغرض بالليلة أو الليلتين التحديد ولا مفهوم لها، فتصح ولو بعد أسبوع ولكن الحديث جاء للحث والتأكيد على الإسراع بالوصية. ويلحق العلماء هنا حكم الأمر بكتابة الوصية، فلو أنه أشهد جماعة من الناس في مكان من العادة أنهم يجتمعون فيه، في ناديهم، أو في مسجدهم، أو في مجلسهم الذي هو محل اجتماعهم فقال: أشهدكم أن فلاناً له عندي دين قدره كذا، أو أشهدكم أن فلاناً له عندي أمانة بكذا، أو أشهدكم أني أوصي بالنخل الفلاني صدقة جارية بعد موتي، فيصح، يعني: أنه يجزئ عن الكتابة إعلانه بما يريد أن يكتبه على جماعته أو على أحد من رهطه الذين في محلته، حتى إذا فاجأه الموت وجاء صاحب الأمانة يطلبها وجد من يشهد له بها، أو جاء صاحب الدين يطلبه جاء من سمعه المدين فشهد له بدينه وهكذا، والغرض من ذلك حفظ الحقوق. وبهذا يبين لنا المصنف رحمه الله تعالى حكم الوصية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأ مسلم ... ) الحديث، ويؤيد هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] . وقد أشرنا إلى الأحكام التي تعتري الوصية من الوجوب إلى الندب إلى الكراهية إلى الإباحة إلى التحريم، فلو أوصى لكنسية أو لكتب بدعة فهي وصية محرمة ولا تنفذ.

حكم الرجوع عن الوصية أو تبديلها

حكم الرجوع عن الوصية أو تبديلها ومن أحكام الوصية: أن له أن يرجع فيها قبل الموت، وله أن يغير فيها ويبدل؛ لأن العبرة في نفاذها إنما هو بعد موته ولهذا يقال: ثلث المال الذي تتعلق به الوصية هل يكون عند كتابتها ولو طال به الأجل عشر سنوات، أم يكون عند موته؟ فلو كتبها وعنده مليون وعند الموت كان عنده مائة ألف فقط، فهل العبرة بوقت الكتابة أم بوقت الموت؟ الجمهور على أنها بوقت الموت.

شرح حديث: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير.

شرح حديث: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره قال: لا. قلت: أفأتصدق بثلثه، قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، متفق عليه] . حديث سعد رضي الله تعالى عنه هذا هو أصل في مقدار الوصية. قوله: (مرض سعد) قيل في عام الفتح، وقيل في حجة الوداع، (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده) ، وهذا من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يعود أصحابه إذا مرضوا، ويشيعهم إذا ماتوا، (فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما تراه، وعندي مال كثير وليس يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: بنصفه؟ قال: لا، قال: بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير) ، وفي رواية عند مسلم: (كبير) ، (لأن تذر) تذر -كما يقولون- فعل الأمر فيها ذر (لأن تذر ورثتك) وهو يقول: ما عندي ورثة إلا بنت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ورثتك، فهل ورثتك جمع أم فرد؟ الجواب: جمع، وهو يقول: عندي بنت واحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لأن تذر أو تدع ورثتك أغنياء -بمالك- خير من أن تدعهم يتكففون الناس السؤال) . إذا أوصيت بثلثي المال وبقي الثلث، وبطريق الإيحاء والإلهام سيكون لك ورثة ولهذا قال: (لأن تذر ورثتك أغنياء) ، ولم يقل: وريثتك هذه البنت، بل قال: ورثتك، وفي بعض الروايات: (أخلف بعد أصحابي يا رسول الله! قال:. ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون ... ) إلى آخره. وقالوا: قد ولد له بعد ذلك فمنهم من قال: أربعة، ومنهم من قال: ستة، ومنهم من قال: ثمانية من الأولاد ذكوراً وإناثاً، ومنهم من قال: أقل، ومنهم من قال: أكثر من ذلك، وهنا كون سعد يقول: أوصي بثلثي مالي، وجاءت رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فقال: أوصيت؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بجميع مالي فقال: (لأن تدع ورثتك ... ) إلى أخره، فقال: بكم أوصي؟ قال: بالعشر، ولا زال يقول وأقول: يعني هو يزيد قليلاً وأنا أنقص قليلاً حتى قال: (الثلث والثلث كثير) . والثلث كثير. يعني: انقص منه، والثلث كثير فيه الخير والبركة وفيه الكثرة التي أنت تريدها، فيكون على هذا الثلث هو الحد الأقصى فيما يمكن أن يوصى به. وقالوا: إن هذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أخبر سعداً وهو مريض بأنه سيعيش وسيأتي له الأولاد ويكون له الورثة العديدون، وقد كان كما قال صلى الله عليه وسلم. إذاً: الوصية لا تجوز أن تزيد عن الثلث، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لو غض الناس عن الثلث لكان خيراً) ، وكان يقول: (أحب إليَّ أن يكون الربع) ، والربع فيه الخير.

حكم الوصية بأكثر من الثلث

حكم الوصية بأكثر من الثلث من أوصى بأكثر من ثلث ماله نظرنا فإن كان لأجنبي سألنا الورثة: أتجيزون الزائد عن الثلث أم تسترجعونه؟ فإن قالوا: أجزنا وصية ميتنا، قلنا: على بركة الله، وإن قالوا: لا نجيزها، رد الزائد عن الثلث، وإن قال البعض: نجيز والبعض قالوا: لا نجيز، رددناها في حق من لم يجز وأجزناها في حق من أجاز. وهنا قد يحصل فعل الخير؛ لأن الإنسان عند موته يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده، وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فهل نتركه تحت تأثير الرغبة والرهبة أو ننصحه؟ الجواب: ننصحه، ونبين له الصواب، ونخرجه من تحت وطأة هذا التأثر، وفي قضية الشخصين الذين اختصما في مواريث بينهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إنكما تحتكمان إليّ وأنا بشر فأقضي لبعضكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقتطع له قطعه من النار) ، فكل منهما قال: حقي لصاحبي، لا أريد شيئاً، فما الدافع الذي جعله يقول: حقي لصاحبي، وهو يتخاصم معه ويقول: أريد حقي منه، والآن يقول حقي لصاحبي! ما الدافع لذلك؟ الجواب: الخوف من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقطع له قطعة من النار) . إذاً: كل واحد منهما وقع تحت تأثير الخوف من النار، فهل قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا وائتوا بالمال نفرقه على المساكين؟ لم يقل لهما ذلك، وإنما قال: (أما وقد قلتما ذلك فارجعا فاقتسما وتحريا في القسمة، واستهما وليبح كل منكما صاحبه) . وماذا بعد هذا من الاحتياطات؟! قال: (اقتسما وتحريا القسمة) ، أي: لا تتساهلا، ولا تقولا: نحن متسامحان، بل تحريا؛ لأن -كما يقولون- بعد السكر صحوة، فأنتما الآن تحت تأثير الخوف من النار قد تتسامحان، وبعد هذه المدة تنسيان النار ويطالع كل منكما في نصيبه مع الآخر، فإن كانا قد تحريا في القسمة قال: لا، مالي شيء عنده، وإن كانا قد تساهلا، قال: نعم، والله! لقد تساهلت معه، فالفرس الفلاني مقابل كذا هذا فيه غبن علي أو أو. إلخ. فلم يتركهما صلى الله عليه وسلم تحت تأثير مخافة النار، وإنما وجههما لما ينبغي أن يكون بينهما، عملاً للمستقبل نفسياً، وهنا إذا كان الإنسان يموت فإنه يريد أن يترك الدنيا، ولا يهمه من الذي يريد، ولا من الذي يشحت، صلى الله عليه وسلم: (أن تدع ورثتك أغنياء ... ) الحديث، وهكذا تكون التربية النفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، ومصلحة الأولاد فيما بعد، ولئلا يضارهم في الوصية كما سيأتي إن شاء الله. وهنا قال: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون -أي: يمدون أكفهم إلى الناس- الناس) والله سبحانه وتعالى أعلم. لهذا يا إخوان! أنبه على أنه ينبغي على القضاة -كما هي السنة- أن القاضي يعظ كلاً من الخصمين بالحق، ويخوفهما من قضاء يوم القيامة، فإذا وجد إنساناً وقد وقع تحت تأثير الموعظة فلا يأخذه بذلك، بل يبين له حقيقة حقه وبيان أمره، فقد يقول: تنازلت، أو تركت الدعوى، أو أصالحه؛ لأنه قد وقع تحت تأثير ما، فلا يأخذه في تلك الحالة النفسية الاضطرارية، ولكن ينبهه على حقه ليكون على بينة، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إن أمي افتلتت نفسها ولم توص.

شرح حديث: (إن أمي افتلتت نفسها ولم توص ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] . في حديث عائشة رضي الله عنها هذا عدة جوانب من المباحث الفقهية: قولها رضي الله تعالى عنها: (أن رجلاً) ورجل: نكره لم يعرف من هذا الحديث من هو؟ ومعلوم عند علماء الحديث أن النكرة غير المعرفة، ولا يؤخذ بحديث الرواي حتى يعرف من هو؟ وهل هو عدل، ثقة، ضابط أم لا؟ ولكن كون الرجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، دل على أنه صحابي، والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة، لا يفتش عن أحد منهم، فسواء عرف بشخصه وبذاته، أو جهلت شخصيته وذاته، فما دام أنه قد ثبتت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف هذا الرجل من روايات أخرى أنه سعد بن أبي وقاص فقد جاء: (أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم غازياً، ثم ماتت أمه في غيبته) الحديث، وجاء في رواية: (أنه قيل لها: أوصي؟ قالت: بمَ أوصي والمال مال سعد؟ أي: ليس لي) . وهنا يقول: (إن أمي افتلتت نفسها) . أي: ماتت فجأة دون أن تعطى فرصة للتصدق، وقال: (إنها لو تكلمت) أي: في آخر حياتها لتصدقت. أي: لأوصت بالصدقة، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقره على أنها لو أوصت لصحت وصيتها. ثم يتساءل (وأظنها) لما يعلم من رغبتها في الخير في حياتها، (أنها لو تكلمت لتصدقت) ، بمعنى: لأوصت بالصدقة؛ لأنها في تلك الحالة ليست في حالة إخراج صدقة فعلاً؛ لأنها مريضة وقد افتلتت نفسها، فليس هناك إمكانية لإجراء الصدقة بالفعل، فأقره صلى الله عليه وسلم على أن لها ذلك وأن الوصية عند الموت جائزة، كما تقدم وكما سيأتي، وحدود ما شرع الله هو الثلث كما تقدم في قضية سعد أنه قال: (يا رسول الله! أنا ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، بشطر مالي؟ قال: لا، بثلث مالي، قال: نعم، والثلث كثير) ، وجاء في الروايات الأخرى: (تصدق بالعشر، فلا زال يتكلم وأتكلم حتى قلت الثلث؟ قال: والثلث كثير) وحدود وصية أو تصرف المريض مرض الموت في ماله محصورة في الثلث. هذا جانب من جوانب الحديث.

انتفاع الميت بعمل الحي

انتفاع الميت بعمل الحي الجانب الثاني من هذا الحديث: بعد صحة الوصية من المريض في مرض موته، تأني قضية انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأنه قال: (أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) ، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم للولد أن يتصدق عن أمه، ويؤيد هذا الحديث؛ الحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: -ومنهم- ولد صالح يدعو له) ، وجاء في الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما أكل الرجل من كسبه أو من عمله وإن ولد الرجل من كسبه) أي: أن كسب الولد ينسب لأبيه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ، وقد تقدمت الإشارة والتنبيه إلى أن هناك بعض النصوص ظاهرها التعارض مع هذا مثل قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وهذه التي افتلتت نفسها قد انتهت عند سعيها السابق قبل افتلات النفس، وهنا السؤال هل ينفعها عمل ولدها بعد أن انتقلت إلى مولاها؟ فقال: نعم، ينفعها، وجاءت أحاديث أخرى منها: أن العاص بن وائل أوصى في الجاهلية أن يعتق عنه مائة بدنة، فقام أحد أبنائه وأعتق خمسين في الجاهلية، وأسلم بعض أبنائه فسأل رسول الله: (أفأعتق عنه؟ فقال: لو كان مسلماً فأعتقت عنه لنفعه ذلك) . إذاً: العمل من الولد للوالد بإجماع المسلمين، وقد تقدم تقسيم العلماء الأعمال الخيرة التي يرجوها الإنسان لغيره أو يعملها ويهبها لغيره وقالوا: إن أعمال القرب تنقسم إلى قسمين: قسم بدني محض: كالصلاة، والصيام، والدعاء، وتلاوة القرآن. وقسم مالي محض: كسداد الديون، والصدقة عنه، وأداء الكفارات. وهناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين: كالحج ففيه نفقة، وفيه حركة البدن فهو حل وارتحال، فأجمعوا: على أن كل قربة مالية من الولد لوالده أنها تصله وينتفع بها، ثم وسعوا الدائرة وقالوا: كل صدقة مالية من أي مسلم لمسلم آخر تنفعه ولو لم يكن ولده، كما جاء في قضية شبرمة، عند أن قال رجل: لبيك اللهم! عن شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ومن يكون؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ولم يقل له: لست بولد له، أو لا تنفعه حجتك عنه، بل أقره على ذلك، وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم عن خديجة فقد كان يتصدق عنها بعد ما هاجر إلى المدينة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها ربما أثارتها الغيرة لكثرة ما وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدق عن خديجة. وأما القسم البدني المحض، فممن ذكر هذا المبحث الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا المبحث موجود في عدد من صفحات كتاب المجموع، وذكر: أن الصحيح أن عمل الإنسان البدني للميت ينفعه وذكر فرداً فرداً عن الصلاة، واستدل بحديث الرجل الذي جاء وقال: (كنت أبر أبي في حياته فكيف أبره بعد موته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: تصلي له مع صلاتك وتدعو له مع دعائك) فقال: هذه صلاة من الولد للوالد، فله أن يصلي ركعتين ويقول: أجرها وثوابها لوالدي. ومثل هذا أيضاً: ركعتي الطواف في الحج، وإن كانت تبعاً لكنها صلاة أجزأت عن ميت، وكذلك الصوم قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، ثم قال: بقي بعد ذلك الدعاء وتلاوة القرآن قال: والدعاء هو كما جاء في الشرع تكليف للأمة بكاملها، والدعاء للميت قد جاء في عمل من جحده فقد كفر وهو الصلاة على الجنازة، فإننا في التكبيرة الثالثة ندعو للميت بما يسر الله سبحانه وتعالى، فقال: هذا عمل مشروع وهو من حق الميت على الحي، وهو فرض كفائي، ثم بعد ذلك له أن يدعو له بظهر الغيب، وكذلك الاستغفار، ثم بحث المسألة من الجانب العقلي، وقرر ثبوت ذلك وجوازه. وهنا قال: (وأظنها -أي: ظن يقين- لو تكلمت تصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) . والغرض من إيراد هذا الحديث هنا هو بيان صحة الوصية في مرض الموت، هذا مع أن المريض مرض الموت لا يحق له أن يتصرف في ماله؛ لأن المال أصبح مال الورثة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه لأم المؤمنين عائشة: (والله! يا ابنتي! ما أحد أحب إلي غناً منك، ولا أحد أعز علي فقراً منك، وقد كنت نحلتك جذاد خمسين وسقاً، فلو كنت حزتيه لأخذتيه، ولكنه الآن مال وارث) ؛ لأنه أحس في مرضه هذا الذي هو فيه أنه مرض الموت. فإذا وصل الإنسان إلى مرض الموت وتأكد الأمر في ذلك فليس له حق التصرف في ماله، وكذلك في الحالات التي هي مظنة الوفاة كالمرأة في حالة النفاس، لا يحق لها أن تتصرف في مالها، وكذلك الرجل إذا وقف بين الصفين في القتال؛ لأن نفاس المرأة مظنة الوفاة، لما تجد من معاناة وشدة، وكذلك الإنسان إذا كان في أرض المعركة أمام العدو فإنه يحتمل إحدى الحسنيين، فهذه الأحوال أو تلك الحالات تمنع الإنسان من أن يتصرف في ماله، إلا إذا كانت وصية وفي حدود الثلث على ما تقدم وعلى ما سيأتي إن شاء الله.

شرح حديث: (لا وصية لوارث)

شرح حديث: (لا وصية لوارث) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) ، رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنة أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حيث ابن عباس رضي الله عنهما وزاد في آخره: (إلا أن يشاء الورثة) ، وإسناده حسن] . هذا الحديث تكلم عنه المؤلف، وتكلم عنه الشارح أيضاً، وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لقد وصل إلى حد التواتر، وإن الأمة قاطبة تعمل به. إذاً: إذا وصل إلى هذا الحد فلا حاجة إلى البحث في رواياته مادام أنه قد جاء عن مثل هذا الإمام الجليل رحمه الله ورضي الله تعالى عنه القول بأنه قد وصل إلى حد التواتر، والمتواتر لا يبحث في سنده، حتى لو كان فيه غير عدول لقبلت أقوالهم مع الآخرين تأييداً للواقع. والمتواتر هو: ما جاء من طرق متعددة يرويه جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون نهاية استنادهم الحس، وليس الظن والاجتهاد وإنما الرؤيا أو السماع، فمثلاً: لو حدثت حادثة في الحج كأن نزل مطر وفيه برد، ويقولون: قد نزل البرد في عرفات حتى تمزقت بعض الخيام وو و، فالذي هو في المدينة أو في مصر أو في الشام أو في المغرب إذا رجع الحجاج وكل على انفراده أخبر بما وقع يوم عرفات فإن هذا العدد من الناس يستحيل أن يتواطئوا وأن يجتمعوا في مكان ويقولون: لنخبر أهل المدينة أنه وقع برد، ولم يكن قد وقع، فإذا استحال اجتماعهم وتواطؤهم على الخبر وكان مستند إخبارهم الحس، فقد رأوا، وشاهدوا، وجاءهم البرد على رءوسهم، فكل هذه استنادها على شيء محسوس فيقبل، وأما مقدار هذا العدد فالأصوليون يقولون: من ثلاثة إلى خمسة، وعلماء الحديث يقولون: بعدد لا يمكن حصره، فإذا وصل الحديث إلى حد التواتر كان العمل به لازماً ما لم يعارضه شيء آخر. وهنا في هذا الحديث: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، لأن الوارث قد أخذ حقه، فلو أعطيناه زيادة على حقه الذي أعطاه الله فإننا، نكون قد غيرنا في أعطيات الله للناس في الميراث، ويكون في ذلك مضارة على غيره من الورثة، وهنا قالوا: إن هذا الحديث نسخ آية الوصية، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] لمن؟ {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] . يقولون: قبل أن تنزل آيات المواريث، كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين. أي: وصية بما جادت به نفسه، والمال من حيث هو كثر أو قل للولد، ثم أنزل الله الفرائض وجعل للذكر من الأولاد ضعف الأنثى، كما قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، وكذلك الإخوة والأخوات، وجعل للأبوين مع وجود الولد لكل واحدٍ منهما السدس، وجعل للزوجة ما بين الربع والثمن، وللزوج مابين النصف والربع، فأعطى كل ذي حق حقه.

نسخ القرآن بالحديث

نسخ القرآن بالحديث البعض يقول: إن الحديث مهما كان فرداً من الآحاد فهو لم يتحقق قطعاً أنه متواتر، ولا ينسخ القرآن بالآحاد وهذا متفق عليه، وهل ينسخ القرآن بالمتواتر؟ وقد بحث هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرته وقال: من نظر الخلاف الموجود عند العلماء فإن الصحيح قول من يقول: المتواتر هو سنة -فعلية، أو قولية- جاءت عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فهي وحي، كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] . وإذا كان القرآن وحي وهذا المتواتر وحي فإن الوحي ينسخ بعضه بعضاً، وقال قوم: مهما كان فإن كان السنة أنزل رتبةً؛ لأن القرآن قطعي الثبوت، والسنة ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة محققة، فلا ينسخ قرآن بسنة ولو متواترة، والآخرون قالوا: النسخ جائز، فالشيخ رحمه الله قال في ذلك: التحقيق في ذلك أنه جائز شرعاً ولم يقع فعلاً. يقول: من حيث النظر الأصولي والتشريعي هو جائز. أي: من حيث العقل، والقواعد العلمية، يجوز أن ينسخ الحديث المتواتر آية من كتاب الله، ولكنه لم يقع بالفعل، فلم يقع نسخ في كتاب الله بحديث متواتر. إذاً: عملياً النسخ بالمتواتر لم يقع وأصبحت المسألة نظرية علمية، وقد أجمعوا على أن الحديث النبوي ولو كان آحاداً فإنه يخصص عموم الكتاب، كما جاء في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) الحديث، فخصص من عموم الميتة: الجراد والحوت، ومن عموم الدم: الكبد والطحال، فهذا تخصيص لعموم آية في كتاب الله بالحديث الآحاد. وكذلك قد تضيف السنة تشريعاً كاملاً مستقلاً إلى كتاب الله كما جاء في قوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، هذا نص في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح، فجاءت السنة وألحقت بهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا بنت أخيها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على بنت أختها) ، فهذه زيادة على تحريم الجمع بين الأختين، وهذا مما تلقي بالقبول والإجماع أنه لا يجوز. إذاً: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) أي: أن الوصية كانت مشروعةً لمن كانوا ورثة قبل مجيء آيات المواريث، وفي هذا الحديث بيان على أنه لا وصية لمن دخل في نطاق الورثة، وقد نبه أيضاً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وقال: القرآن في آيات الوصية نسخ بقرآن وهو ما جاء في آيات الفرائض، وهذا الحديث إنما هو دال على موقع النسخ وليس هو الناسخ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه) ، أي: أعطاه في آيات المواريث. إذاً: أعطى أصحاب الوصية في المواريث حقهم فلا وصية لهم، والحديث دليل على موضع النسخ والناسخ هو آيات المواريث ضمناً، فقال رحمة الله تعالى علينا وعليه: إن الحديث لم ينسخ القرآن، ولكنه دل على موضع الناسخ من القرآن للقرآن.

حكم إجازة الورثة وصية المورث لبعض الورثة

حكم إجازة الورثة وصية المورث لبعض الورثة وهنا ذكر المصنف بعض الروايات والطرق الكثيرة التي جاءت في هذا الحديث ومنها: الزيادة التي اختلف فيها: (إلا أن يشاء الورثة) اختلف في هذه الزيادة، ولكن أقرت عقلاً وشرعاً. شرعاً بهذه الزيادة المقبولة الثابتة، وعقلاً بأن أصل الميراث هو حق للورثة، فإذا أوصى الميت لبعض الورثة ببعض المال فجاء الورثة الذين يستحقون كل المال وقالوا: لا مانع من أن ننفذ وصية مورثنا، ونحن نجيز هذا القدر الزائد علينا، تنفيذاً لوصيته، فيقولون: أصحاب الحق قد تنازلوا عن حقهم، وأقروا المورث في وصيته لواحد منهم. إذاً: الحق لا يعدوهم، فإن أجازوا فقد أجازوا من حقهم، وإن منعوا فقد منعوا في حقهم؛ لأن لهم أن يمنعوا. إذاً: لو أوصى الموصي لأحد الورثة بشيء زائد عن حصته فلا بأس إن أجاز الورثة، وبعضهم يناقش في هذه المسألة ويقول: ينظر لماذا نفل هذا الوارث دون بقية الورثة؟ وهل هناك موجب لذلك؟ وأكثرهم يتكلمون عما يكون من هذا بين الزوجين، فقد يوصي الزوج لزوجته بحصة من المال أو بشيء من المتاع، كما جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يوصون: لا يكشف عما في غرفة فلانة من المال، أو لا تفتش، أو ولا تكلف، أو ولا تطالب، أو ما في غرفتها فهو لها -أي: زيادة عن ميراثها-. والمالكية يقولون: ننظر كيف كانت المعاملة بين هذين الزوجين، فإن كان يحبها في حياته وكان يقدمها على غيرها فهذه وصية مضارة بغيرها، وتنفيل لها بدون موجب، وإن لم تكن له زوجة أخرى وكانت الحياة متبادلة فيما بينهما فلعل بينهما حقوقاً أراد أن يعوضها عن تلك الحقوق بهذا الزائد من مالها الفعلي في بيته. وكذلك قالوا: إذا كان الوارث الذي وصي له بشيء زائد عن ميراثه في حالة فاقة، وفي حالة احتياج إلى مساعدة من إخوانه وشركائه في الميراث ولو لم يكن ميراث فإذا راعاه المورث وأوصى له بشيء، فلا مانع إذا أقرت الورثة هذه الوصية. وهناك من يقول: لا وصية لوارث أجاز الورثة أو لم يجيزوا، وهذا مذهب الظاهرية، فإنهم منعوا الميت أن يوصي الوارث أياً كان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، ولم يجيزوا تلك الزيادة حتى ولو رضي بقية الورثة، قالوا: لأن الشرع قد أنهى الموضوع: (فلا وصية لوارث) ، فلا يحق لأحد أن يوصي لوارث بشيء، ولكن مذهب الجمهور: أن الوارث إذا كان له صفة قائمة به تستدعي التعاطف معه وأجاز ذلك الورثة فإن الوصية تصح له. والله تعالى أعلم.

حكم رجوع بعض الورثة في إجازته لوصية مورثه لبعض الورثة

حكم رجوع بعض الورثة في إجازته لوصية مورثه لبعض الورثة وفي هذا الموضوع يبحث العلماء مسألة دقيقة وهي: لو أن الميت عند موته جمع الورثة وقال: أنا أريد أن أوصي لأخيكم، أو لأختكم، أو لأمكم أو لزوجة أبيكم، بكذا وصية خاصة، فهل تجيزونها أو تمنعونها؟ إن قالوا جميعاً: نجيزها، أو قالوا جميعاً: لا نجيزها، فالعمل بما قالوا وهذا بالإجماع متفق عليه، وإن قال البعض: نعم نجيز، وقال البعض: لا نجيز أجيزت في حق من أجاز. فإذا أوصى بالثلث، فيؤخذ ثلث الورثة الذين أجازوا ويعطى للموصى إليه بإجازتهم. ولكن النقطة الحساسة في هذا هي: لو أنهم كلهم قالوا: نعم أجزنا، وبعد موت المورث وعند التنفيذ قام البعض وقال: أنا رجعت عن إجازتي، أو أنا لا أجيز تلك الوصية، فهل له حق في هذا الرجوع أو ليس له حق؟ يرى بعض المالكية أنه ليس له حق؛ لأن إجازته الأولى هي بمثابة الصدقة، والهبة، والهدية، فكأنه وهب لهذا الوارث ما أوصى به المورث، فإذا رجع في ذلك رجعنا إلى الكلام في العائد في هبته، وبعضهم قالوا: له أن يرجع؛ لأنه قد يكون إنما أجاز تكريماً لمورثهم، وبعض المالكية أيضاً قالوا: إذا كان هذا الذي رجع عن إجازته يعيش في كنف الموصي في حياته وخشي إن هو قال: لا أوافق أن تحصل عليه ضيقة في معيشته في كنف المورث، أو خشي أن يضيق عليه بسبب عدم موافقته، فوافق لتبقى حياته في كنف مورثه إلى النهاية، ولما أمن الأمر وتوفي الموصي رجع إلى حقه فقال: أنا لا أجيز، قالوا: يقبل رجوعه إن كان معللاً بهذه العلة أو بما يشبهها، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم.

شرح حديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ... ) قال المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم) رواه الدارقطني، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء، وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضاً. والله أعلم] .

الحث على الوصية بالخير عند الموت

الحث على الوصية بالخير عند الموت قوله: (إن الله تصدق عليكم، بثلث أموالكم، عند وفاتكم، زيادة في حسناتكم، أو زيادة في أجوركم) هذا الحديث على ما فيه من ضعف في السند، يقول العلماء: في هذا تفضل من الله على العبد بأن أكرمه الله بهذا في آخر حياته، ليُعمل به بعد وفاته فيكون فيه زيادة في أجره وهو ميت. وقوله: (إن الله تصدق) ما قال: أعطى، أو سمح، وإنما قال: (تصدق) . والصدقة في عرف اللغة والشرع هي: تمليك الغني للفقير بدون عوض. فما وجه الشبه بين الصدقة وبين السماح للميت بالوصية في حدود الثلث عند موته؟ الذي يظهر من الجو العام والسياق النبوي الكريم هو: أن محل الصدقة هنا أنها صدقة من الله، فهو سبحانه تصدق عليكم بأموالكم التي في أيديكم، فإن قيل: كيف يتصدق علينا بما في أيدينا؟ قلنا: نعم. من جهتين: الجهة الأولى: أن المريض إذا وصل إلى مرض الموت منع من التصرف في ماله، وأصبح المال مال وراث، فلما لم يصبح له ملك في المال، وجاءه ثلث ماله، كان هذا الثلث بمثابة الصدقة؛ لأنه قد منع من التصرف فيه، وأصبح غير ملك له، ومنع من أن يتصرف في أي جزئية منه، لكن الله سمح له بالثلث، فكأنه تصدق عليه بالثلث بعد أن منع منه. الجانب الثاني: المال في أيدي الناس حقيقة هو مال الله، يعطيه من يشاء، ويحرمه من يشاء، قال سبحانه وتعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] . إذاً: حقيقة الأموال التي في أيدي الناس سواء كانت نقداً أو متاعاً أو طعاماً أو لباساً أو مساكن أو مزارع، كلها لله، فهو يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وبيده الخير سبحانه. إذاً: هو المالك لمالك الذي في يدك، وإنما أنت متصرف فيه بما شرع لك، فلما كفت يدك وكان المال هو مال الله، قال: خذ ثلث مالك وتصدق به عن نفسك زيادةً في أجرك الذي عملته قبل الموت. إذاً: الثلث هذا هل هو عمل قبل الموت أم بعد الموت؟ الجواب: عمل بعد الموت؛ زيادة في أجوركم، فمهما عملت في حياتك من أعمال الخير، البدنية والمالية، والمشتركة بينهما وفعلت وفعلت فإن كل ذلك مسجل لك في صحيفتك، وعندما يأتي الموت تختم الصحيفة فيقال لك: لا. افتح اعتماداً جديداً صدقة عليك، فيكون تصريفك لهذا الثلث زيادة في أجرك -أجر عملك الذي علمته قبل أن يأتيك الموت- ويستمر أجر هذا الثلث الذي أنفقته بعد وفاتك. إذاً (زيادة لكم في أجوركم) هذا كما في الحديث الآخر (إذا مات الإنسان انقطع عمله. صدقة جارية) . والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيوع - باب الوديعة

كتاب البيوع - باب الوديعة إن من أصول الإسلام التعاون على البر والتقوى، ومما يدخل في هذا الأصل العظيم: حفظ الودائع، وهو من الأخلاق العالية والقيم النبيلة، وقد كان هذا الخلق محموداً عند الناس في الجاهلية فكان من محاسنهم التي أقرها الإسلام واستحبها لمن كان قادراً على القيام بأمر الوديعة، ولو تلفت الوديعة في يد المودع عنده فإنه غير ضامن؛ لأنه مؤتمن، ما لم يفرط أو يتعد، وللوديعة مباحث كثيرة يذكرها العلماء في كتب الفقه، وغالبها مباحث اجتهادية.

شرح حديث: (من أودع وديعة فليس عليه ضمان)

شرح حديث: (من أودع وديعة فليس عليه ضمان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُودع وديعة فليس عليه ضمان) أخرجه ابن ماجة، وفي إسناده ضعف] .

تعريف الوديعة لغة واصطلاحا

تعريف الوديعة لغة واصطلاحاً نأتي إلى موضوع الوديعة. الوديعة في اللغة: من ودع الشيء. بمعنى: ترك، {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أي: ما تركك، يقول: دع عنك كذا، أي: اتركه عنك، وقالوا: إن الودعية متروكة عند المودع، وقيل: من الوداعة، والوداعة: السكون، (فأتوها وعليكم السكينة والوداعة والوقار) فإما أن تكون من الاستقرار والسكون عن التقليد والحركة بإيداعها عند المودع، وإما أن تكون من الترك، بأن تركها صاحبها مستقرة عند المودع، ومهما يكن أصلها في اصطلاح أهل اللغة فإن أصل الوديعة في الشرع: أن يجعل إنسان مالاً له عند غيره يحفظه له، ويقولون: إن عقد الوديعة عقد جائز، ولكل من الطرفين إنهاؤه متى شاء.

الأدلة على مشروعية الوديعة

الأدلة على مشروعية الوديعة وقالوا: إن الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. أولاً: الكتاب: فقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] والوديعة أمانة. ثانياً: السنة: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ويدخل فيه الاستعارة والإجارة والوديعة: ثالثاً: والإجماع: أجمعت الأمة على ذلك. وهي مشهورة عبر التاريخ في الجاهلية والإسلام، فأما في الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع إيداع أهل مكة. يقولون: ما كان لإنسان شيء يخاف عليه إلا وأودعه عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لأمانته، ولما أراد الهجرة خلف علياً رضي الله تعالى عنه لأمرين: الأمر الأول: التعمية على العدو، بأن المسجى تحت البردة هو محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم؛ فينتظرونه. الثاني: الأمانات، فلما أراد الهجرة صلى الله عليه وسلم أودع تلك الودائع عند أم أيمن، وكلف علياً أن يردها لأصحابها بعد أن يخرج؛ لأنه لو ردها قبل الخروج للفت الأنظار إليه، وكان من أهم عوامل نجاح الهجرة الكتمان. وأما في الجاهلية: ففي قصة السموءل مع امرئ القيس، حينما أتى امرؤ القيس إلى السموءل وأودعه سلاحه، وذهب يجمع رجالاً وسلاحاً لقتال أعدائه، فشعر أعداؤه بذلك، فجاءوا إلى السموءل لأخذ سلاح امرئ القيس فامتنع، وقال: إنها وديعة وأمانة ولا أخفر الأمانة والوديعة. وكان محصناً في حصنه، فعجزوا أن يصلوا إليه، فوجدوا ولده خارج الحصن، فهددوه بقتل ولده إن لم يسلم سلاح امرئ القيس فامتنع، وقتل ولده على نظره وعينه ولم يسلم الوديعة والأمانة!

حكم الوديعة

حكم الوديعة لعظم مكانة الأمانة قالوا: إنها تستحب، وقد تجب إذا علم المودع أنه إذا لم يقبلها ضاعت، وهو أمين عليها، أما إذا وجد من يستقبلها غيره، أو رأى من نفسه الضعف، فخشي أن يفرط فيها إما بضياع، أو طمع فيها بأن تضعف نفسه أمامها؛ فلا يحق له أن يقبلها. إذاً: الوديعة أمانة، والوديعة: مال الغير يحفظه غيره، ويكون أميناً في ذلك. والحديث يتكلم عن جانب واحد من جوانب الوديعة: بأن المضمَّن لا يضمن؛ لأن يده عليها يد أمانة، والأمين لا يضمن، ولأنه أمسكها لحظ صاحبها لا لحظ نفسه، فهو غير متهم. وهناك جوانب أخرى متعددة في الوديعة، وابن قدامة رحمه الله أورد في المغني في مباحثها ما يقارب من خمس وثلاثين صفحة، كلها تدور حول تحقيق المناط في الضمانة، والضمان، وعدم الضمان، والأصل في ذلك: أن المودع لا يضمن ما لم يأتِ موجب الضمان: من تفريط أو تعدٍ، وسبق أن قلنا: إن موجبات الضمان في القوانين الوضعية وفي الأحكام الشرعية أحد الأمرين: التفريط أو التعدي، والفرق بين القتل الخطأ والعمد: أن الخطأ بسبب التفريط، والعمد بسبب التعدي العامد والعدوان، وهكذا كل من فرط في حق الغير ضمن، وكل من تعدى على حق الغير ضمن؛ لأنه فعل ما ليس له أن يفعله، فعلى الإنسان أن يحرص، وأن يأتي بالعمل على وجهه الكامل.

تعدد مباحث الوديعة

تعدد مباحث الوديعة مباحث الوديعة طال بحثها عند الفقهاء: من الذي يحق له أن يودع، ومن الذي يستحق أن يستودع ويقبل الوديعة، صفة حفظ الوديعة عند المودع بين حفظها ومستوى حرزها، وإذا كانت تحتاج إلى إنفاق والمودِع ليس موجوداً فماذا يفعل؟! وإذا أراد السفر وخشي عليها، ولم يجد صاحبها ولا وكيلها فماذا يفعل؟! أيحملها معه في السفر وهو مظنة الإتلاف؟! أم يودعها عند غيره؟! وهل يضمن بإيداعها عند غيره أم لا؟! وإذا خلطها بماله وكان من جنسها: دارهم مع دراهم، دنانير مع دنانير، تمر مع تمر، زيت مع زيت؟! وإذا خلطها مع غير جنسها: بر مع شعير، وهكذا أيضمن في هذه الحالات أو لا يضمن؟ وإذا كانت في حرز، مثل: كيس أو صندوق ونحوه ففك رباط الكيس أو الصندوق، ولو لم يخرج منها شيء أيضمن أم لا يضمن؟ وكل هذه المباحث موثقة أو مفصلة في كتب الفقه كما أشرنا ذلك عن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى. وأهم ما ينبغي التنبيه عليه: أن الصناع سابقاً لم يكونوا يضمنوا؛ لأن الصنعة في أيديهم أمانة، ولكن في زمن علي رضي الله تعالى عنه لما كثر ادعاء الصناعة وتلف السلع ضمنهم، وقال: سداً للباب، وسداً للذريعة، فإذا علم الصانع أن موضوع الصنعة في ذهب أو نحاس أو خشب أو خياطه أو غير ذلك إذا تلف لا يضمن فرط، وإذا علم أنه يضمن بأي حال من الأحوال أتقن.

تلف الوديعة

تلف الوديعة لو ادعى المودع أن الوديعة تلفت بحدث عام كغرق أو حرق أو سرقة أو نحو ذلك، وادعى بأن الوديعة تلفت في هذه الأحداث! فينظر هل لديه بينة على وجود هذا الحدث من حيث هو، بصرف النظر عما تلف فيه، فإن أقام البينة على وجود ذلك الحدث برئ، فإذا قال: إن بيته قد أحرق -عياذاً بالله- وأحرقت الوديعة مع متاعه وماله، فلا يكلف البينة على أن الوديعة أحرقت بعينها، ولكن يكلف البينة على وجود الحريق في بيته؛ لأن هذه الأمور العامة لا تكاد تخفى، فيشهدها الجيران وغيرهم، وكذلك ما كان بعيداً عن الجيران، ويشيع أمرها في القرية، فإذا ادعى تلفاً بحدث عام كلف البينة على إثبات ذلك الحدث. وإذا ادعى أن الوديعة سرقت وماله لم يسرق ضمن؛ لأنه أحد أمرين: إما لا سرقة أصلاً، أو تفريط في وضعها في غير حرزها، ولماذا لم يسرق ماله معها؟! أما إذا ادعى بأنه وضعها في حرز ماله هو، بأن كان لديه صندوق في البيت يؤمن فيه أمواله فوضعها معها، فادعى أن الصندوق قد سرق، أو كسر وأخذ ما فيه، فحينئذ يقبل قوله، ويكون لا ضمان عليه.

جحود الوديعة

جحود الوديعة عند رد الوديعة هل يشهد على الرد أو لا يشهد؟! وإذا جاء صاحب الوديعة يطلبها فقال: لا شيء لك عندي، ولم تودعني شيئاً، ولم آخذ منك شيئاً. فلما ضيق عليه قال: هاه! نعم صحيح، أنت أودعتني ورددتها عليك. ضُمِّن؛ لأنه بقوله: رددتها عليك كذب نفسه في قوله: لم تودعني شيئاً. فأصبح خائناً كذاباً، والمؤتمن ليس بكذاب. أما إذا قال: وديعتي عندك. فقال: ليس لك عندي شيء، ثم قال: أنا أودعتك. قال: نعم أودعتني ولكن ليس عندي لك شيء؛ لأني رددتها عليك في الوقت الفلاني. فكلمة (ليس لك عندي شيء) تحتمل عدم الوديعة بالكلية، وتحتمل ردها إليه بعد الإيداع، فإذا قال ابتداءً: ما أودعتني، ثم رجع واعترف يكون ضامناً. ولو أنه أخذ الوديعة وتصرف فيها، ثم بعد زمن ردها إلى محلها، فهو ضامن إن تلفت، وتبرأ ذمته بردها إن أعادها في موضعها أو إلى صاحبها.

سفر المودع عنده

سفر المودَع عنده إذا أراد السفر ووديعته عنده ماذا يفعل؟! عليه أن يبحث عن صاحبها أو وكيل له يسلمها إليه، سواء كان هذا السفر ضرورياً أو غير ضروري؛ لأنه له حق في ذلك، فإذا لم يجد صاحبها ولا وكيله جاء إلى الحاكم، وقال: عندي وديعة كذا، وأريد السفر، ولا آمن تركها في البيت، فيردها للحاكم، والحاكم مأمون على ذلك ويضعها حيث ما يحفظها. وإذا لم يجد الحاكم، أو كان الحاكم بعيداً عنه، فماذا يفعل؟! قالوا: إن نظر إلى أمين آخر يمكن أن يأمنه على ماله هو فأودعه إياها، فتلفت عند المودع الثاني، قالوا: لا ضمان عليه؛ لأنه في حالة ضرورة، وأودعها عند مؤتمن هو يأتمنه على ماله، فليس مفرطاً ولا متعدياً. أما إذا أودعها عند شخص عادي ليس معروفاً بالأمانة فتلفت، فهو ضامن؛ لأن صاحبها ارتضاه هو ولم يرتضِ هذا المودع الجديد؛ لأنه لا يعرف عنه شيئاً. إذاً: فالمباحث عديدة وواسعة في ما يتعلق بالوديعة.

غالب مباحث الوديعة اجتهادية

غالب مباحث الوديعة اجتهادية النصوص في أمر الوديعة قليلة، وكل أبحاثها اجتهادية، ومردها إلى هذا الحديث وإلى غيره من العمومات كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وحديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهذه نصوص جانبية يؤتى بها في مباحث الوديعة، في ضمانها وفي ردها إلى صاحبها.

من دقائق مباحث الوديعة

من دقائق مباحث الوديعة ومن الدقائق في هذا الباب: ما يذكره الفقهاء: مِن أن مَنْ أودع وديعة فجاء صاحبها يطلبها، فقال: نعم، ولكني الآن جائع، وأريد أن آكل، فله المهلة، أو قال: نعم، ولكني الآن متعب وأريد أن أستريح؛ فله الراحة، أو قال: أنا الآن أكلت وامتلأت بطني، وأريد المهلة حتى ينهضم الطعام، وأستطيع أن أتحرك براحة، فيعطى المهلة وهكذا؛ لما له فيه مصلحة. أما إذا طلبها منه بعيداً عن موطنها، فمثلاً: أودعه بالمدينة ولقيه بمكة، وقال: ائتني بوديعتي، فليس له حق في تكلفته في هذا الوقت، وللمودَع عنده أن يقول: وديعتك حيث أودعتني بالمدينة. وإذا قال: إذا رجعت إلى المدينة فابعث بها إلي، فعليه أن يدفع مؤنة ردها وإرسالها؛ لأن مئونة إرسالها تابعة لها، وهي على صاحبها، ولا يكلف المودع بأجرة نقلها، قليلة كانت الأجرة أو كثيرة. وبهذا القدر نكتفي، ومن أراد الزيادة والتفصيل فليرجع إلى كتب الفقه، وهذا الذي نبهنا عليه وننبه عليه دائماً: أن على طالب العلم أن يجمع بين مراجع الفقه ومراجع الحديث، فالحديث أصل يرجع إليه في تطبيق القواعد، والفقه تفصيل الجزئيات فيما يطرأ على الموضوع أو يظن به. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.

§1/1