شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية

ناصر العقل

[1]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [1] إن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول هو الإيمان بالله ورسوله، فقد فطر الله عباده على الاعتراف بوجوده، وجعل طريقهم إلى ما يرضيه باتباع شرعه ومتابعة نبيه، ومما يدل على أن هذا الأصل هو أعظم المطلوبات وأجل الواجبات أن من أخل به أو لم يأت به ابتداء قوتل عليه.

أول واجب على العباد

أول واجب على العباد بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فسنشرع في هذا الدرس من المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ويبدأ فيه بمسألة مهمة في توحيد الربوبية، وأحب أن أتكلم عنها قليلاً قبل أن نبدأ بها؛ لأنها من المسائل الكلامية التي فيها شيء من الغموض والتعقيد أحياناً، وهي مسألة أول الواجبات، ما هو أول واجب على العباد؟ هذه مسألة بدهية فطرية، لكن مع ذلك بعد دخول الأهواء على الأمة، وبعد وجود الافتراء، وبعد أن مالت كثير من الفرق إلى مناهج الفلاسفة في تقرير الدين، ومناهج أهل الكتاب، ومناهج الصابئة، ومناهج المجوس، ومناهج غيرهم من الأمم الأخرى، دخلت مفاهيم غريبة وبعيدة كل البعد عن مقتضى الفطرة والشرع، فصارت مسالك لأقوام منهم علماء، والسبب الذهول عن الحقيقة الفطرية البدهية، وهي أن أول واجب على العباد جميعاً الإيمان بالله عز وجل، لكن ليس مجرد الاعتراف بوجود الله، إنما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لأن مسألة الإيمان بالله لا تعني مجرد الإقرار؛ لأن الإقرار فقط ليس هو الموصل إلى ما يرضي الله عز وجل ويسعد البشر، لا سيما وأن الإقرار فطري عند جميع الناس، ليس هناك أمة من الأمم تنكر مبدأ وجود الله أو وحدانية الله بالخلق والربوبية، ليس هناك أمة تنكر ذلك وإن وجدت بعض النزعات النادرة. إذاً: القضية في أول واجب هو: ما المطلوب من العباد؟ المطلوب من العباد هو عبادة الله المتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك صار مفتاح الدخول في الإسلام الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وبذلك نقول: إن أول واجب هو الإقرار بالشهادتين، أول واجب هو تحقيق التوحيد، أول واجب هو تحقيق الإيمان، أول واجب تحقيق الإسلام وذلك يكون بأركان الإسلام. هذا ما سيبينه الشيخ ويرد على المخالفين، والمخالفون لهم أقوال كثيرة في أول واجب، وسيأتي الكلام عنها الآن وسترون فعلاً مدى بعد المتكلمين عن المنهج الحق في تقرير التوحيد وبيانه.

أول العلم الإلهي ومبدؤه ودليله الأول عند الرسول وعند المؤمنين

أول العلم الإلهي ومبدؤه ودليله الأول عند الرسول وعند المؤمنين قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدّس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. قاعدة أولية: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله، وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه، كما قال خاتم الأنبياء: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وقال الله تعالى له: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]. وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]. وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، فأخبر أنه كان قبله من الغافلين. وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. وفي صحيح البخاري في خطبة عمر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كلام معناه: أن الله هدى نبيكم بهذا القرآن فاستمسكوا به فإنكم]. في السنن وردت هذه العبارة عن عمر بصيغ كثيرة، اخترت منها ما ورد في البخاري، وهو أن عمر رضي الله عنه قال: قد جعل الله بين أظهركم نوراً تهتدون به، بما هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات بعد قوله: إن الله هدى نبيكم بهذا القرآن أو نحو هذا اللفظ قال: فخذوا به واهتدوا، بدل فإنكم وهناك عبارات أخرى، فالقصد أنه يتم الاستدلال بهذا الشاهد الذي أورده شيخ الإسلام بهذا اللفظ وبما يرادفه من الألفاظ الأخرى. هنا وقفات موجزة عند كلام الشيخ منذ أن بدأ. أراد الشيخ أن يبين تقرير أول الواجبات، وأنه الإيمان بالله عز وجل، الذي هو التوحيد والهدى واتباع المرسلين، قعّد لذلك بقاعدة وهي: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله إذاً: هذا هو أول واجب؛ لأن هذا هو مبدأ العلم الإلهي، وهو أصله ومبعثه ومنشؤه وغايته في الجملة الإيمان بالله ورسوله. قال: (وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه) يقصد أن الرسل جميعاً هم الوسائط بين الله وبين خلقه، فالواجب على الرسل التلقي عن الله، وأن العلم الإلهي هو من وحي الله عز وجل، وأن الرسل إنما يطلبون الهدى من الله، والرسل هم مبلّغون للأمم فيكون الواجب على أتباع الرسل وعلى الذين آمنوا الإيمان بالله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد فرّق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتأتى منه أن يطيع نفسه إنما يطيع الله، فالرسول مطيع لله عز وجل، والأمة مطلوب منهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمرهم بذلك. ثم ذكر ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أول مطلوب من العباد، وأنهم إذا أخلوا بهذا المطلوب قوتلوا، وهذا يدل على أن هذا أعظم المطلوبات؛ لأنه لا يكون القتال إلا على أعظم الواجبات، وأول الواجبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر القتال ذكر أول ما يقاتل عليه الناس هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنهم إذا شهدوا بهما والتزموا بلوازمهما عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فيكون هذا دليلاً قاطعاً على أن أول واجب من العباد يُلامون ويؤاخذون ويقاتلون إذا تركوه هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لا كما يقول المتكلمون الذين زعموا أن أول واجب هو النظر والقصد إلى النظر، أو هو التفكير، أو هو التوصل إلى معرفة الله من خلال الألفاظ والمصطلحات المحدثة، والمقاييس العقلانية المعقدة، كل هذا ليس مطلوباً من العباد؛ لأن الله عز وجل كفاهم، بأن فطر عباده على الاعتراف بوجوده، لكنهم لا يعرفون الطريق إلى ما يرضي الله عز وجل إلا بالعبادة على ما شرع الله وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الأدلة الفرعية على هذا، منها: قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] في هذه الآية دلالة على أن الفارق بين الضلالة وعدمها هو اتباع الوحي؛ لأن الوحي هو الطريق إلى الهدى، الذي هو أول واجب، فأول واجب على العباد أن يهتدوا بهدي الله، أن يهتدوا بالحق الذي جاء به الرسل، وهذا إنما يتم بما أوحى الله إلى رسوله. وكذلك في هذه الآية د

تقرير الحجة في القرآن ببعث الرسل

تقرير الحجة في القرآن ببعث الرسل قال رحمه الله تعالى: [وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير، كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه:134]. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص:59] الآية. وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8]. وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر:71] الآية. وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأنعام:130] الآية]. وجه الاستدلال بهذه الآيات واضحة، وهو أنه لو كان الناس يستقلون بعقولهم لإدراك ما يرضي الله عز وجل لما احتجوا بأنهم يحتاجون إلى بعث الرسل، ولما كان بعث الرسل هو الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل، ولذلك فإن أول واجب على العباد لا يمكن أن يدركوه بعقولهم، أي: البداية لا يمكن أن تدرك بمجرد العقول، لا تدرك إلا من خلال الرسل الذين بعثهم الله لهداية العباد، لذلك أخبر الله عز وجل أنه لو لم يبعث الرسل لاحتجت الأمم بذلك، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فلو كان الناس يدركون الواجب ويدركون ما يرضي الله بعقولهم لما قرر الله عز وجل هذه الحجة، وجعلها حجة قائمة لو لم يبعث الله الرسل، فهذا دليل على أن الناس لا يدركون الواجبات بعقولهم، ولا يقررون الدين بعقولهم، ولا يعرفون العقيدة تفصيلاً بعقولهم، ولا يتوصلون إلى ما يرضي الله عز وجل على جهة التشريع بعقولهم؛ فلذلك كان بعث الرسل حجة، والله عز وجل لو لم يبعث رسلاً لما عذّب العباد، ولكان في ذلك احتجاج من الأمم جميعاً فيما يقضيه الله عز وجل بينهم يوم القيامة. والمقصود بالآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأنعام:130] هي الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، هذا هو الظاهر وهذا مقتضى السياق؛ لأن القصد بعث الرسل، ولذلك استنبط بعض أهل العلم من هذه الآية الدلالة على أن الرسل كلهم بعثوا في الإنس، وبعضهم استنبط منها العكس.

ابتداء طائفة من المصنفين بأصل العلم والإيمان عند تصنيفهم في العلم

ابتداء طائفة من المصنفين بأصل العلم والإيمان عند تصنيفهم في العلم قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم ابتدءوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله؛ فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي. وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب المسند ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفاً صالحاً، وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم والترمذي ونحوهما؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظّم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولاً وفروعاً]. أشار الشيخ في المقطع السابق إلى منهجية مهمة جداً ينبغي أن يفهمها طلاب العلم، وما أكثر الأصول المنهجية التي ذكرها شيخ الإسلام عن السلف، لكن هذه مهمة جداً في هذا الوقت الذي كثر فيه التصنيف والتأليف، وكثر فيه الاستطراد وتشقيق الكلام وحشو العلم، ينبغي أن ننبه على ضرورة التزام منهج السلف في تقرير العقيدة وبيانها، وهو أنهم يبدءون بما بدأ الله به، ويبدءون بما هو الأصل في تقرير مسائل الدين، يبدءون بالأهم فالأهم، وهذا منهج للتأليف ومنهج للدعوة أيضاً، ينبغي أن يبدأ المسلم وطالب العلم والعالم في أي أمر بتقرير الدين وبتقرير التوحيد، ابتداء من بدء الوحي ومصادر الدين ومنهج التلقي، ثم بيان أصول الإيمان وما يحقق توحيد الله من قبل العباد، ولا يعني ذلك إغفال الجوانب الأخرى، لكنها تأتي ضمناً، فتقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله جاء للوصول إلى عبادته، وتقرير الربوبية جاء للوصول إلى عبادة الله عز وجل، فلا يصح أن يبدأ بأمور فرعية؛ لأن ذلك يؤدي غالباً إلى إبعاد القلوب والعقول عن تقبل الهدى. فمنهج السلف في تصنيف العقائد وتقرير العقيدة يبدأ بتقرير ما يتعلق بتوحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيد الربوبية والإلهيات دون فصل واحد عن الآخر؛ لأن هذا هو المطلوب من العباد، وهو الذي يحتاجونه، وهو الذي لا بد فيه من شرع مفصّل، وهذا عكس منهج المتكلمين والفلاسفة، فالمتكلمون والفلاسفة أول ما يبدءون في تقرير الدين بمسألة وجود الله، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، ثم يعرّجون على مسألة وحدانية الله، وهذا أيضاً مما لا يخالف فيه أحد، ثم يعرّجون على مسألة تقرير الصفات بقواعد عقلية وفلسفية، أيضاً لو أنهم بدءوا بتقرير الصفات على منهج السلف لكان الأمر يسيراً وسهلاً، ولكان منهجهم قريباً من المنهج الحق، لكنهم يعرّجون على تقرير الصفات لله عز وجل بمناهجهم الكلامية التي ينفون بها صفات الله، أو يؤولونها على مختلف رؤيتهم. ثم بعد ذلك أيضاً لو أنهم توصلوا بهذه الأساليب إلى توحيد الإلهية لكان الأمر فيه فائدة، وإن كانت فائدة عسيرة لا تتم إلا عبر الدخول في الشبهات والشكوك التي تمرض القلوب، كذلك لو أنهم ختموا مناهجهم وطرائقهم وأسلوبهم في تقرير التوحيد بتوحيد الإلهية لكان الأمر مقارباً، لكنهم ما عرّجوا على توحيد الألوهية، توحيد الألوهية لم يرد في كتبهم إلا نادراً، وهذا دليل فساد المسلك والمنهج، وأنهم تكلموا في قضايا فطرية ليست محل خلاف عند البشر، وإن خالف فيها بعض النزّاع من البشر، لكن ليست محل خلاف عند جماهير الأمم، ثم إنهم قرروها على مبادئ فلسفية تؤدي إلى شرك أكثر مما تؤدي إلى اليقين، ولذلك كان الواحد منهم لا يسلم من الشبهات والاعتراض عليها، وافتراض الشبهات والاعتراض عليها، فلا يصل بذلك إلى نتيجة، وأعظم من هذا كله أنهم صرفوا الناس عن الجد والعبادة إلى الجدل والمراء والمناظرات؛ بسبب سلوكهم هذا المنهج كما سيأتي بيانه. الخلاصة وهو ما أردت أن نتوقف عنده: هو أن منهج السلف تقرير التوحيد المطلوب من العباد، والتوصل إليه بتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية لا حرج، لكن لا لتقرير البدهيات؛ لأنها واضحة، لكن منهج المتكلمين عكس ذلك، فهم يقفون عند مسائل بدهية ويتوهمون أن أمامهم خصوماً وإنما هم معترضون، والأمر لا يعدو أن تكون هناك شياطين في رءوسهم أوحت لهم ووسوست لهم وشككتهم، فظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعاً.

ذكر هداية الخلق بالرسالة في القرآن الكريم

ذكر هداية الخلق بالرسالة في القرآن الكريم قال رحمة الله تعالى: [ولما كان أصل العلم والهدى هو: الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة، كان ذكره طريق الهداية بالرسالة التي هي القرآن، وما جاءت به الرسل كثيراً جداً، كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. وقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]. وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]. وقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} [آل عمران:3 - 4]. وقوله: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]. وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53]. وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران:101] فيُعلم أن آيات الله والرسول تمنع الكفر، وهذا كثير]. يشير الشيخ بهذا إلى أمر مهم جداً، يحسن استصحابه في الكلام القادم، وهو أن أصل العلم الهدى، أي: أن أول واجب على العباد هو تحقيق التوحيد، فهذا هو أصل العلم والهدى، ويتحقق بالإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة. والعبد إذا عمل بأول واجب وهو مبدأ الإيمان بالله عز وجل والإيمان برسوله، ورضي العلم والهدى الذي تضمنه الكتاب والسنة فإن ما فيهما يرشد إلى كل ما زعمه المتكلمون من تحقيق وجود الله، وتحقيق وحدانية الله عز وجل، وتحقيق تعظيم الله عز وجل بأسمائه وصفاته كما يزعم المتكلمون ويسعون إليه، كل هذا إنما يحصل بالاهتداء بالكتاب والسنة؛ لأن هذه الأصول أرشد إليها القرآن والسنة، بل أول ما دعا إليها، فلا يمكن أن تتحقق عبادة الله التي هي أعظم الغايات إلا بتحقيق ما يحتاجه العباد من أسماء الله وصفاته وأفعاله وربوبيته؛ ولذلك فالله عز وجل حينما أقام الحجة على المشركين في تحقيق عبادته أقامها عليهم بإقرارهم بالربوبية. فإذاً: ليست الربوبية محل نزاع إنما جعل إقرارهم بالربوبية وسيلة إلى إلزامهم بالمطلوب، وهو ألا يعبدوا غير الله، جعل الربوبية المعلومة عند جميع الأمم حتى عند المشركين وسيلة إلى تحقيق عبادة الله وحده لا شريك له. فالشيخ كأنه يقول: إذا قلنا: إن أول واجب هو الاهتداء بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الهدى تضمن كل ما سعى إليه المتكلمون، وزعموا أنهم يريدون أن يحصلوه بزعمهم أن أول واجب هو التفكير والنظر العقلي إلى آخره، قال: هذه الأمور أرشد إليها القرآن بطرق سليمة فطرية صحيحة، لا على مناهجكم المعقّدة.

ذكر حصول الهداية والفلاح للمؤمنين وذكر أهل الجنة والنار وأعمالهم ومآلهم

ذكر حصول الهداية والفلاح للمؤمنين وذكر أهل الجنة والنار وأعمالهم ومآلهم قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ذكره حصول الهداية والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن، كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3] الآية، ثم ذم الذين كفروا والذين نافقوا. وقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1 - 3]. وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:5 - 6]. فحكم على النوع كله والأمة الإنسانية جميعها بالخسارة والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين. وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر، فيما شاء الله من الآيات، حتى صار ذلك معلوماً علماً شائعاً متواتراً اضطرارياً من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، عند كل من بلغته رسالته. وربط السعادة مع إصلاح العمل به، في مثل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]. وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]. وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم:18]. وقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران:117] الآية. وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ونحو ذلك كثير. وذكر حال جميع الأمم المهدية أنهم كذلك، في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة:62] الآية. ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر والتفكير والتذكر والعقل والفهم، وإلى الاستماع والإبصار والإصغاء، والتأثر بالوجل، والبكاء وغير ذلك، وهذا باب واسع. ولما كان الإقرار بالصانع فطرياً كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) الحديث، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو الذي يُعرف ويُعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع]. بدأ الشيخ يشير إلى منهج المتكلمين، وهو أنهم يسلكون في تحقيق التوحيد مسلك الإقناع بالإقرار بوجود الخالق، الشيخ عبّر بالصانع وأرى أننا نلتزم اللفظ الشرعي: الخالق؛ لأن شيخ الإسلام يرد على المتكلمين بمصطلحهم، وإلا فالأصل التزام الألفاظ الشرعية، ولذلك كان ينبغي أن يقول: ولما كان الإقرار بالخالق فطرياً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة). إذاً: أراد بهذا الرد على زعمهم أن أول واجب من أجل إثبات وجود الخالق: النظر، يقول: هذا أمر فطري، فليس بصحيح أنه أول الواجبات، وليس صحيحاً أنه هو المنهج السليم في تحقيق التوحيد؛ لأن الإقرار بالخالق أمر بدهي فطري أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله عز وجل، يعني بربوبيته، والإنابة إليه، يعني بالعبودية، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا قلنا: لا معبود إلا الله، فكيف يُعبد وهو لم يُعرف؟ هذا أمر مستحيل، إذاً: فالإله هو الذي يُعرف ويُعبد، فلا يُعبد إلا وقد عُرف، ولذلك حينما وجّه الله العباد وأمرهم بعبادته دل هذا بالضرورة أنهم ليسوا بحاجة إلى التعريف بوجوده؛ لأنه أمر فطري، إنما هم بحاجة إلى التعريف بعبادته، كيف يعبدونه، وإلى الأمر بأن يعبدوه، لا بأن يقروا بأنه الخالق، فإن هذا أمر تقتضيه الفطر، فالناس كأنهم مجمعون على الإقرار بالله، وما بعد هذا الإقرار هو المطلوب منهم، أما الإقرار فقد كفاهم الله إياه حيث فطرهم عليه، وهو مقتضى فطرة كل إنسان، وإن شذ بعض المختلّين في عقولهم فلا عبرة بهم؛ لأن النادر لا حكم له.

المقصود بدعوة المرسلين إيصال العباد إلى عبادة الله الحقة

المقصود بدعوة المرسلين إيصال العباد إلى عبادة الله الحقة قال رحمه الله تعالى: [وكان المقصود بالدعوة: وصول العباد إلى ما خُلقوا له من عبادة ربهم وحده لا شريك له، والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح]. يقصد بهذا أن العبادة أصلها عبادة القلب لا العقل ولا الفكر، ولذلك الذين يعبدون الله بالتفكير أو العقول من الفلاسفة وغلاة الجهمية هؤلاء ما وصلوا إلى الحق، وهم أصحاب المذاهب الوثنية الآن، فتجد مثلاً في الديانات الهندية والديانات اليونانية القديمة أن هؤلاء الأقوام ضلوا الطريق مع أنهم اعترفوا بالرسل ويقرون بوجود الله ويرون الحاجة إلى عبادته، لكنهم يعبدونه بعبادة عقلية بالتأمل والنظر والتفكّر، أو عبادة فكرية بمجرد التأمل في آلاء الله عز وجل، يسمون هذا عبادة، ويستميتون لهذا الفكر ويقاتلون عليه، وهذا خطأ وضلال؛ لأنهم ما وصلوا إلى ما يريده الله عز وجل. فإذاً: لا بد من تقرير بأن المقصود بدعوة المرسلين ودعوة المصلحين في كل زمان إيصال العباد إلى عبادة الله التي خُلقوا من أجلها، فقد خُلقوا كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما قال: ليقروا بي أو لينظروا أو ليتفكروا؛ لأن النظر والتفكر إنما يكون بعد الخضوع والعبادة على منهج، تنظر وتفكر كما أرشدك الله إلى أصول النظر والتفكر. قال: (والعبادة أصلها عبادة القلب) يعني: يعبد الله بالمحبة والخوف والرجاء والتوكل، وسائر أنواع العبادة التي تنبثق عنها أعمال الجوارح.

الرد على المتكلمين في تقرير الربوبية والنبوة وإغفال توحيد الألوهية

الرد على المتكلمين في تقرير الربوبية والنبوة وإغفال توحيد الألوهية قال رحمه الله تعالى: [والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح، فإن القلب هو الملك والأعضاء جنوده، وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، وإنما ذلك بعلمه وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله بمعرفته ومحبته، هو أصل الدعوة في القرآن، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال في صدر البقرة بعد أن صنف الخلق ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق، فقال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وذكر آلاءه التي تتضمن نعمته وقدرته، ثم أتبع ذلك بتقريره النبوة، بقوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]. والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات. أولاً: من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة والكرامية والكلابية والأشعرية، ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع، أولاً: بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجمل]. نقف عند هذا؛ لأنه سيبدأ في موضوع جديد، ختم الشيخ هذا المقطع بالإشارة إلى منهج المتكلمين وخطر هذا المنهج وخطئه؛ لأن الشيخ قال حين ذكر قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ذكر أن المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف؛ لأن الله عز وجل ذكر آلاءه ونعمه في قوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] إلى آخر الآيات التي يقرر فيها النعم، ثم يقرر فيها التحدي لهؤلاء العباد؛ لأنهم إن كانوا في ريب مما نزل على عبده فليأتوا بسورة من مثله أو نحو ذلك. فهو يقول: إن المتكلمين يعجبهم هذا المنهج، لكنه خلاف ما قصدوا من أنه يبدأ بذكر الآلاء والنعم ثم ذكر النبوة، لكنهم نسوا أن الله عز وجل صدّر الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] بعد تقرير توحيد العبادة لفتهم إلى نعمه وآلائه، وإلى النبوة وتقريرها، وأشار إلى أنه يتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فهم ذُهلوا عن أصل القضية وهو الدعوة إلى عبادة الله، فقال: (المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف) أي: ذكر الخلق أولاً، ثم النعم، ثم الرسالة والنبوة، ثم يعرّج بعد ذلك على ما ذكره الشيخ من تقرير الربوبية وتقرير النبوة والسمعيات، ثم الكلام في الصفات إلى آخره، وأن هذا منهج معوّج من حيث الأصل، وكل قضية يبدأ أصلها خطأ تكون نتائجها خطأً، لذلك هم قد يوافقون الحق في بعض الأمور، لكن على أصل خاطئ، فتقريرهم للنبوة بحد ذاته صحيح، وينبغي أن يقرر مبدأ صحة النبوة وصدق الأنبياء، وتقريرهم لذكر نعم الله وخلقه للوصول إلى صحة وجود الخالق صحيح أيضاً، لكن النتيجة التي هي مطلوبة من العباد لم يصلوا إليها، ولذلك عندما ذكر الشيخ منهجهم هذا الإثبات بالقياس العقلي وما بينهم من اختلاف في مناهجهم الكلامية قال: (غاية ما يصلون إليه هو هذه الأمور) كأنه يقول: ومع ذلك فإنهم لا يعرّجون على توحيد العبادة الذي هو الغاية الكبرى وهو المطلوب ابتداء وانتهاء. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول الناظم: (قالوا بم عرف المكلف ربه قلت بالنظر الصحيح المرشد)

معنى قول الناظم: (قالوا بم عرف المكلف ربه قلت بالنظر الصحيح المرشد) Q قال الكلوذاني في منظومة عقيدة أهل السنة: قالوا بم عرف المكلف ربه قلت بالنظر الصحيح المرشد؟ A نعم، ليس هذا على إطلاقه، إن قصد النظر الصحيح تحقيق العبادة فصحيح، لكن ظاهر البيت أنه يوافق المتكلمين وهذا خطأ في المنهج. على أي حال هذا البيت يبدو أن له احتمالين: إن قصد المعرفة التي هي معرفة وجود الله فهذا صحيح، وإن قصد بالمعرفة التوحيد فغير صحيح.

تعريف الإسلام

تعريف الإسلام Q ما رأيكم بهذا التعريف للإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله؟ A زيادة (أهله) ليس لها لزوم؛ لأن من خلص من الشرك فأهله تبع، فالتعريف ينبغي أن يوجز إلى أقصى حد ممكن، فالعبارة التي تغني عن غيرها يوقف عندها ولا يؤتى بالفروع والاحترازات، والتعريف إذا كان جامعاً شاملاً مانعاً أولى من أن يفرّع عنه، فأقول: إن الخلوص من الشرك تكفي عن زيادة عبارة (وأهله) كما ذكر السائل. والبراءة هو الخلوص، وكلها عبارات صحيحة، والقصد الوصول إلى المعنى الصحيح، الخلوص قد تكون ليست واضحة عند بعض الناس فيقال: والبراءة من الشرك، وليس بينهما فرق، لكن لفظ البراءة أدق على معنى والخلوص له معنى آخر، والخلوص أشمل من البراءة.

ثناء شيخ الإسلام على الدارمي ومسنده

ثناء شيخ الإسلام على الدارمي ومسنده Q ذكر الشيخ مسند الدارمي وعظمه فهل يرى أنه يقدّم على صحيح مسلم؟ A لا أظن.

حكم الجهاد ضد اليهود وغيرهم

حكم الجهاد ضد اليهود وغيرهم Q هل الجهاد فرض عين ضد اليهود؟ A هذه مسألة من المسائل التي تتعلق بمصالح الأمة العظمى، لا بد من الرجوع فيها إلى أهل الحل والعقد من العلماء الكبار؛ لأن هذه فيها مزلة وفيها أيضاً افتئات على الشرع والدين والعلم، والفتاوى المتسرعة فيها سواء كانت بالمنع أو بالمشروعية، كل ذلك قد يؤدي إلى نتائج وخيمة إذا صدر من أناس لم يتدارسوا هذا الأمر مع أهل العلم الكبار، ففرضية العين لها شروط وضوابط، أنا أظنها لا تتحقق في هذا الظرف الذي نعيشه، نعم الواجب تجاه إخواننا المسلمين في كل مكان الذين يستضعفون ويقاتلون النصرة لهم بما نملك من الوسائل المتاحة والمشروعة أيضاً، لكن ليس بالعواطف والأعمال المتهورة أو الفتاوى المتعجّلة، أو إيقاع الأمة والناس في حرج قد يكون الذي يفتي جالساً على أريكته، ويوقع شباب المسلمين في أمور قد تكون نتائجها غير مشروعة ومحرجة، وليست على وجه شرعي صحيح. أنا لا أفتي في كون الجهاد على اليهود الآن فرض عين أو غيره، هذا يرجع فيه إلى أهل العلم، لكن فيما يبدو لي ولست بهذا أفتي، إنما أوجه المسألة توجيهاً يمهّد للفتوى وهو أنه قد لا يتأتى فرض العين في الواقع الذي تعيشه الأمة الآن. ثم كيف السبيل إليه؟ الراية راية من؟ لا يجوز الجهاد إلا تحت راية شرعية، أما التصرف الفردي فهذا تهوّر لا يجوز أن يسلكه المسلم، وحتى التسرع شبه الفردي، أن تتجمع مجموعات أو طوائف محدودة وتقوم بعمل انتحاري ونحو ذلك، فهذا في تقديري أنه ليس بمشروع على هذا النحو، فالجهاد يكون براية، والراية لها شروط وضوابط، لكن لابد من نصرة إخواننا في كل مكان، والناس أيضاً أحياناً تثيرهم قضية المسجد الأقصى، نعم هذا صحيح المسجد الأقصى لا شك أنه من مساجد المسلمين ومن المساجد الثلاثة، لكن ما السبيل إلى تحريره؟ ما السبيل إلى الجهاد؟ هذا أمر يحتاج إلى أناة ودراسة مشروعة، فالمسلمون أنفسهم هل هم مهيئون للجهاد؟ يحتاج الأمر إلى مناقشة شرعية مؤصّلة، نسأل الله أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويعز الإسلام والمسلمين في كل مكان.

[2]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [2] لقد سلك المتكلمون مناهج منحرفة في تقرير أصول الدين، وهم يظنون أنهم موافقون للقرآن، وأنى لهم ذلك وقد خالفوا نهج الكتاب والسنة في ذلك، فقد حكموا عقولهم القاصرة في النصوص المتعلقة بالعقائد فردوها أو تأولوها، ومثل ذلك فعلوا فيما يتعلق بالأحكام العملية بحجة أنها تخالف عقولهم.

منهج المتكلمين في تقرير الدين والعقيدة

منهج المتكلمين في تقرير الدين والعقيدة الملقي: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه: هو تلك القضايا التي يسمونها العقليات وهي أصول دينهم، وقد بنوها على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة]. الشيخ هنا قعّد قاعدة ذهبية جيدة عظيمة رد بها على المتكلمين، فقد ذكر أن عمدة الكلام عند أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يقررون التوحيد بالمصطلحات الفلسفية والعقلانية الكلامية قال: (عمدتهم في ذلك قضايا يسمونها العقلية) يعني: هذه القضايا هي أوهام وتخرصات، ومع ذلك سموها عقلية. ثم قال: (وهي أصول دينهم) يعني: هم يعتمدون في أصول دينهم على مسألة المصطلحات الفلسفية، وذلك بالبدء بالحديث عن الأعراض والجواهر وما تستلزمه من معان عندهم، وهذه الأصول والقضايا بنوها على مقاييس وهمية، ونحن لا نذم على الإطلاق استعمال العقليات، بل لابد من توظيف العقل لفهم كلام الله عز وجل، والعقل نعمة من الله عز وجل، وهو وسيلة لفهم الشرع، ووسيلة إدراك نعمة الله وتعظيم الله عز وجل، لكن العقل له مدارك محدودة، فالعقل لا يدرك الغيب، وكل ما تحدث به المتكلمون في مسائل العقيدة، في تقرير التوحيد، في وجود الله ووحدانيته وخلقه وربوبيته وأسمائه وصفاته سبحانه، كل ما تكلموا به خلاف ما جاء في الكتاب والسنة، فإنما هي أوهام وتخرصات؛ لأنها غيب، وأنى لهم أن يطّلعوا على الغيب، فمن هنا ذكر الشيخ أن أصول دينهم إنما هي قضايا يسمونها العقليات وبنوها على مقاييس عقلانية ووهمية؛ لأنها غيبية تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، وهذا هو الذي حصل حينما قاسوا الله بخلقه، تعالى الله عما يزعمون، اضطروا أن ينكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، ولأضرب لذلك مثالاً: أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية أنكروا استواء الله على عرشه، ليس عندهم ما يقولونه إلا شبهة وهي أن الاستواء يستلزم حاجة الله عز وجل إلى العرش واتكاءه عليه، واعتماده عليه، من أين هذا؟ هذا من قياس الخالق على المخلوق، وإلا من أين أتوا بأن الله لا يمكن أن يستوي على العرش إلا إذا كان محتاجاً إليه؟ لولا القياس لما جاءوا بهذا الأمر، لا يمكن أبداً أن يأتوا بهذه الشبهات إلا بقياس. إذاً: هم اعتمدوا على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة. قال رحمه الله تعالى: [وهم قسمان: قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية دون العملية كالأشعرية، وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية كالمعتزلة]. الأمور العلمية هي الاعتقادية، والأمور العملية هي الأحكام. قال رحمه الله تعالى: [حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين الله وبين عباده، فما حسن من الله حسن من العبد، وما قبح من العبد قبح من الله؛ ولهذا سماهم الناس: مشبهة الأفعال]. أي: المعتزلة في صفات الله عز وجل في مسألة أفعال الله، ومسألة التحسين والتقبيح قالوا بكلام تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع السليمة، لو قيل هذا الكلام الذي قالوه في حق الله سبحانه حتى عند العوام لاشمأزت نفوسهم منه، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويلزم من الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل، ويلزمه ألا يفعل، من أين هذا؟ من باب قياس الخالق على المخلوق، ولذلك أنكروا أفعال الله عز وجل، بل أنكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الخالق سبحانه على المخلوق، فلما قاسوا وقعوا في معضلة، فبدل أن يسلموا لله عز وجل بالكمال المطلق ويتركوا القياس بناء على قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، بدلاً من ذلك وقعوا في إنكار كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو تأويله. قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن هؤلاء هم المتكلمة المذمومون عند السلف؛ لكثرة بنائهم الدين على القياس الفاسد الكلامي، وردهم لما جاء به الكتاب والسنة]. يعني: الجهمية والمعتزلة. قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم]. الآخرون هم الأشاعرة والماتريدية والكلابية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم. قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم في بعض ذلك لحقهم من الذم والعيب بقدر ما وافقوهم فيه، وهو موافقتهم في كثير من دلائلهم؛ التي يزعمون أنهم يقررون بها أصول الدين والإيمان، وفي طائفة من مسائلهم التي يخالفون بها السنن والآثار وما عليه أهل العقل والدين. وليس الغرض هنا تفصيل أحوالهم فإنا قد كتبنا فيه أشياء في غير هذا الموضع]. من أكثر ما كتب الشيخ في هذا الموضوع في (درء التعارض) وفي (تلبيس الجهمية) وفي (منهاج السنة).

كمال طريقة القرآن في عرض أصول الدين وفروعه بخلاف طريقة المتكلمين

كمال طريقة القرآن في عرض أصول الدين وفروعه بخلاف طريقة المتكلمين قال رحمه الله تعالى: [وإنما الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج. والمتكلم يظن أنه بطريقته التي انفرد بها قد وافق طريقة القرآن: تارة في إثبات الربوبية، وتارة في إثبات الوحدانية، وتارة في إثبات النبوة، وتارة في إثبات المعاد، وهو مخطئ في كثير من ذلك أو أكثره مثل هذا الموضع]. سيذكر الشيخ هذه الطرائق فلا نستعجلها، يعني ما سلكه المتكلمون في الطرائق التي ظنوا أنهم وافقوا بها القرآن، وهم أخطئوا في هذا، سيبدأ فيه الشيخ بعد قليل. قال رحمه الله تعالى: [فإنه قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه: منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتياج إلى قياس كلي، يقال فيه: وكل محدث فلا بد له من محدث، أو كل ممكن فلا بد له من مرجح، أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية]. هنا سيدخل الشيخ في موضوع يحتاج إلى التمهيد، يقول: إن إثبات الخالق عز وجل وإثبات ربوبية الله وإلهيته ما جاءت بطرق فلسفية معقدة، جاءت بالاستدلال بنفس الآيات، فالله عز وجل لفت أنظار العباد إلى خلقه؛ ليستدلوا بذلك على أمرين: الأمر الأول بدهي لا يحتاج إلى تكلف: وهو أنه الخالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وقوله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] فالله عز وجل في استدلاله على ربوبيته وإلهيته ما استعمل المقدمات المعقدة التي أتى بها أهل الكلام، كمسألة المُحدِث والمُحدَث، لابد للمحدث من محدث، ولابد لكل ممكن من واجب، وهذه أمور تشطح بالفطرة والعقل السليم إلى معان غامضة، فالله عز وجل استعمل البراهين مباشرة دون مقدمات؛ لأن المقدمات تحتاج إلى إعمال عقلي صعب، والإعمال العقلي الصعب غالب الناس لا يدركونه ولا يستطيعونه، والذين يستطيعونه أيضاً يحتاجون إلى كد للذهن، والذهن إذا كُد في إدراك بدهية اهتزت قناعته في البدهيات، يعني: مثل: لو قلت لإنسان: والشمس في رابعة النهار: أيش رأيك الشمس طالعة؟ فهو بهذا السؤال سيفاجأ؛ إما أنه لا يصدق أنك جاد بسؤالك هذا، فيحتاج إلى أن يتعب ذهنه هل تلغّز وتخدعه؟ هل تريد أن تضحك عليه وتقصد معنى آخر؟ هل تقصد شمساً أم بشراً؟ لأن الشمس طالعة، وهي تدنو وتكاد تدمغ رأسك، فكذلك استعمال المقدمات العقلية عند المتكلمين في إثبات وجود الله ووحدانيته من هذا النوع، من صرف الناس عن البدهيات إلى التشكيك، ولذلك قال الله عز وجل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:10] ثم قال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] فالله عز وجل من أساليبه التي ذكرها في إثبات وجوده أنه يذكر الاستدلال على ذلك بنفس آياته: السماوات، والنجوم، والشجر، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والحر، والبرد إلى آخره، آياته التي خلقها في عباده هي الدليل، من غير أن نستعمل مقدمات معقدة أو ألفاظاً تبعد الذهن عن مجال البدهيات. والأمر الثاني سيذكره الشيخ فيما بعد، لكن لابد أن أقرنه بهذا؛ لأنه هو الثمرة التي نريد أن نفرق بها بين منهج السلف ومناهج المتكلمين المفاليس، نسأل الله العافية: وهو أن الله عز وجل حينما استدل بالدلالة الفطرية المباشرة دون مقدمات على ربوبيته ووجوده وخلقه إنما أراد بذلك أن يلزم العباد بعبادته، ولذلك كلما ذكر آية من آيات الربوبية، قال: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95] {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] يعني: عن عبادة الله، كيف تصرفون إلى الشرك؟ كيف تُصرفون عن توحيد الله، فهذه هي الغائية، المتكلمون لم يوفقوا لهذه الغاية، وهذه عقوبة لهم حينما استعملوا طريقة غير مشروعة على تقرير التوحيد، تاهوا ولم يصلوا إلى الغاية الكبرى التي بعث الله بها النبيين، والتي خلق الله من أجلها الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ذُهلوا عنها، وهذه عقوية نسأل الله السلامة، وكل من نهج نهجاً بدعياً فإنه لا يوفق للهدى عن طريق البدعة، وهذه قاعدة: كل من نهج نهجاً بدعياً في تقرير الدين في الجزئيات أو الكليات فإنه لا يوفق للهداية عن طريق البدعة، بل العكس البدعة تجره إلى بدعة وتجره إلى ضلالة، وتعميه عن الحق، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل الأهواء بأنهم تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، يعني: مرض يجر إلى مرض، ثم يأخذ أوصال جسمه وصلة وصلة حتى يهلك الجسم كله، نسأل الله السلامة. قال رحمه الله تعالى: [أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال: سبب الافتقار إلى الصانع هل هـ

ذكر الدليل العقلي الفطري على وجود الخالق سبحانه وغناه وافتقار المخلوقات إليه

ذكر الدليل العقلي الفطري على وجود الخالق سبحانه وغناه وافتقار المخلوقات إليه قال رحمه الله تعالى: [وعلى هذا جاء قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]]. يعني: هذه الحقائق تغني عن كل فلسفة المتفلسفين في أن الله عز وجل هو الخالق، وأن الخلق لا بد له من خالق، فهي دليل على وجود الخالق سبحانه ووحدانيته بالضرورة، كما أنها دليل على كمال الخالق وغناه سبحانه، ثم إنها دليل على حدوث المخلوقات وفقرها إليه عز وجل، فقوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] إذا استعمل الإنسان ذهنه وجد أن الجواب بدهي، لا يمكن أن يخلقوا من غير شيء، الافتراض الآخر: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] أي: لأنفسهم؟ هذه مردودة تصادم العقل السليم والفطرة، فهم لا يمكن أن يخلقوا أنفسهم؛ لأن هذا يؤدي إلى الدور، بمعنى أنه لا بد للخلق من خالق. فمن هنا ننتهي إلى الحقيقة الشرعية الفطرية بدون مقدماتهم التي لجئوا إليها. قال رحمه الله تعالى: [قال جبير بن مطعم: لما سمعتها أحسست بفؤادي قد تصدع. وهو استفهام إنكار يقول: أؤجدوا من غير مبدع؟ فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكوّن، ويعلمون أنهم لم يكونوا نفوسهم، وعلمهم بحكم أنفسهم معلوم بالفطرة بنفسه، لا يحتاج أن يستدل عليه بأن كل كائن محدث]. فقد كان خطباء الجاهلية أفقه من المتكلمين، وقد كانوا على غير شرع؛ أما الحنيفية فقد اندثرت ملة إبراهيم، لكن كانت الفطرة موجودة عند أهل الجاهلية، وكان بعضهم يتكلم ويخطب في أمور بدهية، كقول أحدهم: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج. ثم ذكر أدلة على وجود الله عز وجل: أن الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير إلى آخره، ثم قال: ألا يدل ذلك على العليم الخبير؟ وهو في الجاهلية يخطب بها في ذي المجاز أو عكاظ أو في أحد أسواق الجاهلية، يعني: كان هذا الإنسان في الجاهلية أفقه بكثير من المتكلمين الذين عقّدوا عقول الناس، وشتتوا المسلمين وفرقوهم الآن إلى أشاعرة وماتريدية وجهمية ومعتزلة، وكل واحد يقول: هذا هو الدين الحق أما الآخر فباطل، إلى أن وصل الأمر عند بعض العلماء الفضلاء بأن زعموا أن هذه المناهج المعقّدة واجبة على كل إنسان، قالوا: يجب على كل إنسان النظر، فإن لم ينظر فهو خارج من الملة لا يدخل في الإسلام، يعني: النظر بهذه الطريقة، سبحان الله! إذاً: ما بقي من المسلمين إلا هم، وهم حينما نظروا هل وصلوا إلى نتيجة؟ وهل اتفقوا على شيء؟ ما وصلوا إلى نتيجة، ولا اتفقوا على شيء. فإذاً: هذه المسالك هي خلاف الفطرة، حتى الناس الذين كانوا في مجتمعات شركية وجاهلية كانوا يقررون توحيد الربوبية بمبادئ فطرية عقلية بدهية، بعيدة عن هذه التعقيدات الكلامية والفلسفية، بل هذه المسالك التي سلكها المتكلمون هي مسالك الملاحدة خصوم الأنبياء. قال رحمه الله تعالى: [أو كل ممكن لا يوجد بنفسه ولا يوجد من غير موجد، وإن كانت هذه القضية العامة النوعية صادقة، لكن العلم بتلك المعينة الخاصة، إن لم يكن سابقاً لها فليس متأخراً عنها، ولا دونها في الجلاء. وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكرت دعوة الأنبياء عليهم السلام، أنه جاء بالطريق الفطرية، كقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]. وقول موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102]. وقوله في القرآن: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:21 - 22] بيّن أن نفس هذه الذوات آية لله، كما أشرنا إليه أولاً من غير حاجة إلى ذينك المقامين، ولما وبخهم بين حاجتهم إلى الخالق بنفوسهم، من غير أن تحتاج إلى مقدمة كلية هم فيها وسائر أفرادها سواء، بل هم أوضح، وهذا المعنى قررته مبسوطاً في غير هذا]. يعني: أن الله عز وجل عندما قرر توحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء على إقرارهم بقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] إلى نحو هذا مما يعرفونها، أراد به ما ذكره في أول الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] فجعل هذه الأمور للإلزام بالعبادة، لا لأنهم ينكرونها، لكن لتذكيرهم بها؛ لأنهم يعترفون بها، فألزمهم بواسطة الاعتراف بها بعبادة الله، وهذا هو الغاية من الاستدلال بنعم الله وخلقه، أي: الغاية من ذلك أن يعبد الناس الله وحده، أما الربوبية فإنهم مقرون بها، فهو تحصيل حاصل أن نطلب من الناس أن يقروا بالربوبية.

مفارقة الطريقة القرآنية للطرق الكلامية

مفارقة الطريقة القرآنية للطرق الكلامية قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية، أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية، فلا وافقوا لا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه. وأما المقاصد فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية: الحسية والحركية، الإرادية الإدراكية والاعتمادية: القولية والعملية، حيث قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] فالعبادة لا بد فيها من معرفته، والإنابة إليه والتذلل له والافتقار إليه، وهذا هو المقصود، والطريقة الكلامية، إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده. وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالاً على صاحبه وشقاء له، كما جاء في الحديث: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه) كإبليس اللعين، فإنه معترف بربه مقر بوجوده، لكن لما لم يعبده كان رأس الأشقياء، وكل من شقي فباتباعه له، كما قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]]. يعني: أن توحيد الربوبية يقر به جميع الناس، حتى إبليس الذي طرده الله وجعله أصل كل شر، وجعله هو القائد إلى جهنم نسأل الله العافية، هو مقر بالربوبية، بل أحياناً عنده ما هو أعظم من ذلك، أحياناً عنده شيء من الخوف من الله عز وجل لا خوف العبادة بل خوف المعرفة، ولذلك لما تراءى الجمعان نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم، ثم قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48] فلذلك هذا الكائن الذي جعله الله أصل الشر عنده نوع من الإقرار، بل هو مقر بربوبية الله ومدرك لعظمة الله، ولذلك يخاف الله لا خوف العبادة إنما خوف المعرفة، يعرف الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [فلا بد أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه، مع أنه معترف بالرب مقر بوجوده، وإنما أبى واستكبر عن الطاعة والعبادة، والقوة العلمية مع العملية بمنزلة الفاعل والغاية؛ ولهذا قيل: العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمراد بالعمل هنا عمل القلب الذي هو إنابته إلى الله وخشيته له، حتى يكون عابداً له. فالرسل والكتب المنزلة أمرت بهذا وأوجبته، بل هو رأس الدعوة ومقصودها وأصلها، والطريقة السماعية العملية الصوتية المنحرفة توافق على المقصود العملي، لكن لا بعلم، بل بصوت مجرد، أو بشعر مهيج، أو بوصف حب مجمل، فكما أن الطريقة الكلامية فيها علم ناقص بلا عمل، فهذه الطريقة فيها عمل ناقص بلا علم، والطريقة النبوية القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين. ففاتحة دعوة الرسل: الأمر بالعبادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، وذلك يتضمن الإقرار به وعبادته وحده، فإن الإله هو المعبود، ولم يقل: حتى يشهدوا أن لا رب إلا الله؛ فإن اسم الله أدل على مقصود العبادة له، التي لها خلق الخلق، وبها أمروا. وكذلك قوله لـ معاذ: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) وقال نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، وكذلك الرسل في سورة الأعراف وغيرها. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال للرسل جميعاً: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]. وقال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1 - 4]. وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91]. وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3]. وقال في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإكثار من الحديث عن الإعجاز القرآني

حكم الإكثار من الحديث عن الإعجاز القرآني Q ما حكم الإكثار من الحديث عن الإعجاز القرآني؟ A يجوز، لكن بقدر، وأيضاً أكثر ما يتحدث به الناس عن الإعجاز ليس على وجه سليم؛ لأنهم بالغوا في مسألة الإعجاز، حتى إنهم دخلوا إلى الرموز الباطنية والإشارات الصوفية ومسألة الأرقام، أو التكهن بالأحداث من خلال ربط الآيات بعضها ببعض، فبالغ الناس في هذه المسألة إلى حد يخرج عن الأصل الشرعي، وكل شيء ينبغي أن يأخذ قدره في البيان، ومسألة الإعجاز لا شك أنها من أعظم مسائل الدين، لكن لا تكون غاية من الغايات التي لا بد أن يبلغ فيها كل مسلم.

الحكم على جماعة التبليغ

الحكم على جماعة التبليغ Q ما رأيك في جماعة التبليغ؟ A الكلام عن الجماعات ينبغي ألا يكون إلا عند الضرورة، فجماعة التبليغ جماعة من جماعات المسلمين، لها ما لها وعليها ما عليها. وبمناسبة الكلام على جماعة التبليغ، أقول: ليتنا ننصرف إلى الجد في مثل هذه الأمور، بدل ما يكون همنا الكلام في الجماعات، مع أني أعلم أن بعض الناس قد يحتاج أن يسأل؛ لأنه قد يخرج مع الجماعة، لكن الأولى أن يسأل طالب علم أو عالم بدون أن تكون هذه الأسئلة مثارة عند العوام، لكن مع ذلك ليت أكثر من يتكلمون في هذه الجماعات أن يأخذوا ببعض خصالها في نفع الإسلام والمسلمين.

حكم تدريس الكتب المتعلقة بتوحيد الربوبية في أوساط المسلمين

حكم تدريس الكتب المتعلقة بتوحيد الربوبية في أوساط المسلمين Q إذا وجد في بعض بلاد المسلمين تشكيك في التوحيد والعقيدة، بل وفي وجود الله عز وجل، كما حصل في بعض البلدان الإسلامية، فألف بعض المؤلفين مؤلفات في توحيد الربوبية وإثبات وجود الله عز وجل، فصار يدرس الطلبة في المدارس؟ A التعمق في إثبات الربوبية وإثبات وجود الله في المدارس هذا خطأ، إلا الإجمال الذي به يدرك الطالب الدلالة العقلية المجملة، ويتحصن من شبهات الآخرين هذا لا بأس به، لكن التعمق التفصيلي الذي قصده شيخ الإسلام هذا غير مطلوب في عامة المسلمين وأبنائهم. أما إذا احتاج المسلم لأن يرد على طائفة من الذين -كما ذكر السائل- يشككون في التوحيد والعقيدة؛ فينبغي أن يوجه لهم الكلام، لا يوجه لعموم المسلمين، ويبين في عنوان الكتاب وفي ثناياه ما يدل على أنه خاص بهذه الفئة، وأنه لا يقرأ، ولا تحسن قراءته عند عامة المسلمين.

كيفية التعامل مع مثيري الأسئلة غير اللائقة بالله عز وجل

كيفية التعامل مع مثيري الأسئلة غير اللائقة بالله عز وجل Q في مجال التدريس للطلاب نجد بعض الطلاب يثير أسئلة مثل السؤال الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يأتي أحدكم) إلى أن يقول كلاماً عظيماً في الله عز وجل كأن يقول: من خلق الله؟ A نعم، هذا السؤال قد يرد من طالب من باب ما يعرض له من خواطر، فلا بأس أن يجاب عليه، ويكون الجواب حكيماً، ولا يعنف الطالب على مثل هذا القول، لكن يوجه الطلاب في العموم أن مثل هذه الأسئلة لا تليق، وأن الإنسان إذا سئل مثل هذا السؤال فينبغي أن يجيب عليه منفرداً. إذاً: يوجه الطلاب ويعطون الآداب، ولا ينبغي للمدرس أن يضيق بمثل هذا السؤال إذا حدث، لكن يعالجه بالحكمة.

[3]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [3] إن المنهج النبوي الإيماني في العلم بالله والعمل له هو المنهج الذي تصلح به قلوب الناس وأعمالهم، ودنياهم وأخراهم، وهو منهج أهل السنة والجماعة، أما من خالفهم من المتكلمين والفلاسفة فإن منهجهم لا يفضي إلى صلاح في دنيا ولا آخرة؛ لأنه منهج منحرف في العقيدة، ومنحرف في العبادة، ومخالف لسبيل الأنبياء وسننهم.

الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني والمنهاج الصابئ الفلسفي الكلامي

الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني والمنهاج الصابئ الفلسفي الكلامي بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه: [فصل في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل. وذلك ببيان وتحرير أصل العلم والإيمان، كما قد كتبته أولاً في بيان أصل العلم الإلهي والذي أكتبه هنا: بيان الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني العلمي الصلاحي، والمنهاج الصابئ الفلسفي، وما تشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي المخالف لسبيل الأنبياء وسنتهم]. يلاحظ أن الشيخ بدأ بالتفريق بين المنهجين في التعبير عنهما، تلاحظون قوله: (بيان الفرق بين المنهاج النبوي الإيماني)، على هذا فإن منهاج المخالفين ليس إيمانياً، ولم يصفه بأنه إيماني، فعلاً هو ليس إيماناً؛ لأن الإيمان هو استنارة القلب بنور الوحي، هذا هو الإيمان، وما عداه فليس بإيمان، فسمى المنهج الرباني الإلهي منهج النبوة، منهج السلف الصالح: المنهاج النبوي الإيماني. فقوله: (بيان الفرق بين المنهاج النبوي) يعني: منهاج أهل السنة هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهداية الله عز وجل التي أرسلها إلى عباده، وهو هذا الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المتمثل بالكتاب والسنة، فسماه نبوياً، بينما منهج المتكلمين ليس نبوياً، وسماه إيمانياً. والإيمان هو هداية القلب، وهداية القلب لا تحصل بالمنهج الفلسفي، إنما تحصل بالوحي. ثم سماه: العلمي، أي: ما جاء به القرآن والسنة هو العلم الذي مدحه الله عز وجل، ومدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من يسلكه، هو العلم الشرعي المستمد من الكتاب والسنة، بينما منهج المتكلمين ليس علمياً على المصطلح الشرعي، فلا هو من علوم الدنيا الصحيحة، ولا من علوم الدين الصحيحة، منهج المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات ليس بعلم؛ لأنه لا يسمى علماً إلا إذا كان علماً شرعياً، وقد يسمى علماً مقيداً لو كان علماً دنيوياًَ، مثل: علم الرياضيات، كما سيتكلم الشيخ عنه فيما بعد. فالرياضيات مثلاً علم، لكنه علم استقرائي تطبيقي نظري صحيح، مثل أن نقول: هذا لا شك أنه علم، لكنه علم مستنبط من الدلالة العقلية، وكذلك علم الحس. بينما علم الفلاسفة والمتكلمين ليس بعلم لا على النحو الشرعي ولا على النحو الدنيوي والاستقراء. ثم سماه الصلاحي، أي: الذي تصلح به قلوب الناس وأعمالهم ودنياهم وآخرتهم، وهو منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقيدة، أما منهج المتكلمين فلا يحصل به صلاح لا للقلب ولا للعمل ولا للسان، ولا صلاح في الدنيا ولا في الآخرة. ولذلك نجد الفلاسفة عموماً يظهر هذا على تصرفاتهم وسلوكهم، لا تجد فيلسوفاً مغرقاً في الفلسفة، أو متكلماً مغرقاً في علم الكلام، لا تجده ناجحاً في دنياه، فضلاً عن دينه وآخرته، أغلب الفلاسفة لا يجيد التصرف في الدنيا، ولا يجيد المعاملة مع الناس، تأملوا هذا في تاريخ الفلاسفة، اقرءوا سيرهم، لا يجيد التعامل في أمور الدنيا؛ لأنه مثالي، لا يبني أسرة مستقرة، ولا يبني عملاً دنيوياً مستقراً، ولا يبني ديناً، فلا هم أهل دنيا ولا أهل دين، هذا هو الغالب عليهم، تأملوا أحوالهم وستجدون ذلك، وهذا هو معنى قول الشيخ: (الصلاحي) أي: أن المنهج الحق صلاحي، تصلح به أحوال الأفراد والأمة والأسر والجماعة والقلوب والأعمال، وتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة. ثم قال: (والمنهاج الصابئ الفلسفي) يعني: يشير بذلك إلى منهاج المتكلمين، وأنه ليس منهجاً نبوياً ولا إيمانياً وإنما هو منهج الصابئة المشركين والفلاسفة الدهرية أو غير الدهرية، الفلاسفة المشركة الذين ليس عندهم علم صحيح ولا دين ولا عقيدة مستقيمة. والفلسفة التي تأثر بها المسلمون الغالب أنها فلسفة الصابئة. ثم قال: (وتشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي)، (الكلامي) يعني: العقدي، (والعبادي) يعني: منهج العبادة، فمنهج العقيدة عند أهل المنهاج النبوي: هو المنهج السليم الصالح المفيد، وكذلك منهج العبادة عند أصحاب المنهج النبوي: هو المنهج المفيد الموصل إلى رضا الله عز وجل، الذي يتحقق به صلاح القلوب، وصلاح الأحوال للعباد. بينما منهج هؤلاء الصابئية الفلاسفة أهل الكلام منهج منحرف في العقيدة، ومنحرف في العبادة ومخالف لسبيل الأنبياء وسننهم.

دعوة الأنبياء إلى عبادة الله بالقلب واللسان

دعوة الأنبياء إلى عبادة الله بالقلب واللسان قال رحمه الله تعالى: [وذلك أن الأنبياء عليهم السلام دعوا الناس إلى عبادة الله أولاً بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته وذكره]. هذه القاعدة الأولى، وهي قاعدة ذهبية ومعلومة بالضرورة وبدهية جداً، وهي: أن الأنبياء عليهم السلام بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعوا الناس إلى عبادة الله، وهؤلاء الفلاسفة والمتكلمون ما دعوا الناس إلا إلى أمور نظرية فلسفية معقدة لا أصل لها، وتنفر منها الفطرة والعقل السليم، غاية دعوتهم أن يؤمن الناس بوجود الله، والناس ليس عندهم مشكلة في هذا الأمر، وأن الله واحد، وأن الله هو الرب، وليس عند الناس مشكلة في هذا الأمر. ولا يعرجون على توحيد العبادة، ومن شاء فليقرأ كتبهم؛ حتى لا يظن أنا نفتري أو نفتئت عليهم، فمن شاء فليقرأ أي نموذج من نماذج كتب المتكلمين خاصة، فإنه سيجد فيها إعراضاً عن دعوة الأنبياء إلى عبادة الله، ولا يعرج على هذه المسألة إلا عندما يتكلم عما يسميه التصوف، أو عن أمور عارضة ليست هي الأصل عنده، أما ما يرى أنه واجب فإنما هو توحيد الربوبية فقط، ونحن نقرُّ بأن هذا واجب، لكن نعلم أن الله عز وجل كفانا أمرهم بفطر العقول على ذلك والنفوس والقلوب، وبتقرير ذلك أيضاً في الكتاب والسنة دون عناء ولا كلفة. ثم قال: (أولاً بالقلب) يعني: عبادة الله بإصلاح القلوب، وإصلاح الألسن الذي ينتج عنه صلاح الأعمال كما سيأتي.

أصل علم الأنبياء وعملهم

أصل علم الأنبياء وعملهم قال رحمه الله تعالى: [فأصل علمهم وعملهم: هو العلم بالله، والعمل لله، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع في موضعين أو ثلاثة]. هذه القاعدة الثانية: أن أصل علم الأنبياء وعملهم: أولاً: العلم بالله عز وجل، وذلك بمعرفة أسمائه وصفاته وحقوقه، وما يجب له من المحبة والتعظيم والعبادة، والسعي إلى رضاه عز وجل إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه العباد. ثانياً: العمل بذلك لله، وذلك بالتوجه بالعبادات والفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم لله وحده لا شريك له.

أصل العلم الإلهي فطري ضروري

أصل العلم الإلهي فطري ضروري قال رحمه الله تعالى: [وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي؛ كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي؛ كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة، وبسط هذا له موضع غير هذا]. القاعدة الثالثة: قوله: (وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري)، يعني: العلم بالله وكماله على جهة الإجمال فطري وضروري، لا يقصد بذلك على جهة التفصيل، ولا يقصد بذلك تفصيل الشرائع؛ فإن هذا أمر لا يستغني فيه الإنسان عن الشرع والوحي، لكن يقصد الأصل الذي تكلم فيه أهل الكلام، الأصل الذي ضيعوا أوقاتهم وأشغلوا أنفسهم، وأشغلوا المسلمين عن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمناظرات وجدل وشقاق، مع أنه أمر إلهي وفطري وضروري، أي: العلم بالله وكماله، ولا يقصد بذلك التشريع التفصيلي، أما التفصيل فلابد فيه من الوحي. فتوحيد الربوبية أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي، كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ هذه بدهيات، يعني: أن ما يسعون إليه ويتعبون أنفسهم فيه هو مثل هذه القضايا الرياضية والعلمية المحسوسة، التي لا يمكن أن يتنازع عليها العقلاء، ورغم أن هذه بدهيات، إلا أنه مع ذلك لا يفطن لها كثير من الناس؛ لأنه ليس بحاجة إليها. كذلك البدهية في توحيد الربوبية هي فطرية، قد لا يستحضرها المسلم دائماً عند عبادته؛ لأنها بدهية، مثلما نكون في النهار والشمس طالعة فلا نحتاج أن يأتي شخص ويرفع صوته ويعلن وينذر ويقول لنا: الشمس طالعة؛ لأننا لا نصل بذلك إلى نتيجة، بل بالعكس قد يكون عند هذا الشخص اضطراب بسبب هذا الإعلان. فإذاً: هذه العلوم الضرورية فيما يتعلق بالله عز وجل أمر مركوز في الفطر، لا حاجة إلى أن نذكر الناس به بهذه الطريقة الفلسفية التي سلكها المتكلمون، والتي تنفر منها الطباع والعقول السليمة.

العلم بالله وذكره والعمل له أصل كل الأمور وجامعها

العلم بالله وذكره والعمل له أصل كل الأمور وجامعها قال رحمه الله تعالى: [وإنما الغرض هنا أن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات، فهو الأصل الجامع؛ فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه. وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، وإذا حصل لهم ذلك؛ فما سواه إما فضل نافع، وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر]. أي: أن الله عز وجل هو الذي خلق الكائنات، وهو الذي تصير إليه الحادثات، والعلم بالله عز وجل على الوجه الشرعي هو الأصل الجامع، العلم بالله بأسمائه وصفاته وأفعاله وبحقه عز وجل، والعلم بما يجب له من العبادة والإذعان والطاعة، هذا هو الأصل الجامع، وهو أصل كل علم، ثم فرع هذا الأصل وأنه ينقسم إلى علم وعمل من ناحية، ومن ناحية أخرى: أنه هو العلم الفاضل، وغيره مفضول، أو فضلة: إما نافع وهو العلوم الدنيوية التي تصلح بها أحوال الناس، وإما غير نافعة وهي العلوم التي لا تؤدي مصلحة للعباد في دنياهم، وليست من مطالب دينهم؛ مثل ما يشتغل به علماء الكلام من الأمور البدهية الفطرية في تحقيق الربوبية، والمبالغة في ذلك من فضول العلم؛ لأنه مضر للخلق، والذي لا يضر منه لا ينفع. قال رحمه الله تعالى: [ثم من العلم به]. يعني: من العلم بالله عز وجل وحقوقه وما يجب له تتشعب أنواع العلوم الأخرى. قال رحمه الله تعالى: [ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والإيمان، وإما في السلامة عن الجهل والكفر. وبهذا جاءت النصوص الإلهية في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن -وهو المقر بربه علماً وعملاً- بالحي، والبصير، والسميع، والنور، والظل. وضرب مثل الكافر بالميت، والأعمى، والأصم، والظلمة، والحرور. وقالوا في الوسواس الخناس: هو الذي إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس. فتبين بذلك أن ذكر الله أصل لدفع الوسواس، الذي هو مبدأ كل كفر وجهل وفسق وظلم]. المقصود بالوسواس هنا: كل عمل الشيطان، الوسواس بمفهومه الشامل، لا يظن أن الوسواس هو وسواس الطهارة أو العبادة، لا، هذا جزء من الوسواس، وليس هو الوسواس الأخطر، إنما الوسواس الأخطر هو ما يتعلق بالعقيدة أولاً، ومن الوساوس تلك الأوهام والتخرصات التي أحدثها الفلاسفة والمتكلمون، وأدخلوها على المسلمين وصاروا يتكلمون فيها على أنها هي المنهج الأمثل لتقرير التوحيد، وجاءوا بقضايا العرض، والجوهر، والمباينة، والمفاصلة، وعرضوا أسماء الله عز وجل وأفعاله على مدارك عقولهم القاصرة، وعرضوا الغيبيات على مدارك عقولهم القاصرة؛ كل هؤلاء أصحاب وسواس، ليست وساوس العبادات التي تصرف الناس عن بعض أحكام الطهارة ونحوها، بل وسواس الشبهات، وسواس العقائد الذي يصرف الناس إما عن الدين بالكلية، وإما عن السنة إلى البدع، وهذا ما أراده الشيخ. وكأنه يشير إشارة واضحة إلى أن كل مناهج الفلاسفة والمتكلمين التي خرجوا بها عن مقتضى السنة كلها من باب الوسواس، وهذا مما لا شك فيه.

حكمة تسمية الله عز وجل بالدليل

حكمة تسمية الله عز وجل بالدليل قال رحمه الله تعالى: [وقال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99]، وقال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]، ونحو ذلك من النصوص. وفي الدعاء الذي علمه الإمام أحمد لبعض أصحابه: يا دليل الحيارى! دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين؛ ولهذا كان عامة أهل السنة من أصحابنا وغيرهم على أن الله يسمى دليلاً]. ليس المقصود أن من أسماء الله (الدليل)، ينبغي أن نفهم هذا جيداً؛ لأن السلف لهم في مسألة الأسماء اصطلاحات، فأحياناً في مثل هذا السياق لا يقصد السلف -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية - التسمية هنا بمعنى أنه اسم لله، لكن قصدهم وصف الله عز وجل من باب الخبر أو الدعاء ونحو ذلك. هذا ينبغي أن يفهم جيداً؛ لأني لاحظت في بعض أسئلة طلاب العلم عندما يسمع من يقول من السلف: إن هذا يسمى به الله، أو هذا مما يسمى به أفعال الله أو نحو ذلك، أو هذه التسمية أو نحو ذلك مما يطلق على سبيل التجوز، تجده يستغرب، فنقول: هنا قصد الشيخ الوصف لله في مثل هذا الدعاء: يا دليل الحائرين، وهذا كثير، مثل: يا ناصر المظلومين، وليس من أسماء الله الناصر، ومع ذلك يقال: إنه اسم لله، حتى في التسمية عند التعبيد لله، فيقال: عبد الناصر مثلاً، هذه من الأمور التي اختلف فيها أهل العلم، لكن ومع ذلك ما قالوا: إنها من أسماء الله، إنما هي من أوصاف الله، والأوصاف أحياناً إذا أخذت رسم الاسم جاز نسبة التعبيد لله بها، وإن كان محل خلاف، لكن الراجح أنه جائز. قال رحمه الله تعالى: [ومنع ابن عقيل وكثير من أصحاب الأشعري أن يسمى دليلاً؛ لاعتقادهم أن الدليل هو ما يستدل به، وأن الله هو الدال، وهذا الذي قالوه بحسب ما غلب في عرف استعمالهم من الفرق بين الدالِّ والدليل. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الدليل معدول عن الدالِّ؛ وهو ما يؤكد فيه صفة الدلالة، فكل دليل دال وليس كل دال دليلاً، وليس هو من أسماء الآلات التي يُفعل بها، فإن فعيلاً ليس من أبنية الآلات كمفعل ومفعال]. كأن الشيخ يقول: إن وصف الله عز وجل بالدليل هنا لا يعني به أن استخدام اسم الجلالة كاستخدام الآلات، ولا استخدام هذا الدليل كاستخدامنا للأدلة الشرعية مثلاً، أو الأدلة المادية، إنما المقصود بالدليل هنا الهادي، فالله عز وجل هادي الخلق بما فعله من أسباب الهداية، فالله عز وجل هنا وصف بالدليل من باب أنه الهادي والمعين، من باب أنه عز وجل الذي هيأ للعباد الدلالة، لا أنه دليل يستخدم للدلالة كما تستخدم الأدوات أو تستخدم الأدلة، هذا مفهوم كلام الشيخ. وقوله: (إن الدليل معدول عن الدالِّ) يعني: أن الدليل عدل به عن دلالة الدال الفاعل المستخدم عند الخلق إلى معنى دلالة الدال الذي هو بمعنى الهادي والموفق. والدلالة بين الخالق الخلق لا تكون إلا باستخدام واحد لآخر، بينما بين الخالق والخلق لا يكون ذلك إلا من باب توفيق الله وهدايته لأوجه الدلالة بالأسباب وبغير الأسباب، بما يهيئه الله عز وجل للعبد. ثم فرق أيضاً بين الدليل والدالِّ، فالدليل هو الموصل جزماً لليقين، بينما الدال قد يوصل وقد لا يوصل، بمعنى أن الدالَّ لا يسمى دليلاً إلا إذا صدقت دلالته، فإذا لم تصدق دلالته لا يسمى دليلاً. قال رحمه الله تعالى: [وإنما سمي ما يستدل به من الأقوال والأفعال والأجسام أدلة؛ باعتبار أنها تدل من يستدل بها، كما يخبر عنها بأنها تهدي وترشد وتعرف وتعلم وتقول وتجيب وتحكم وتفتي وتقص وتشهد، وإن لم يكن لها في ذلك قصد وإرادة، ولا حس وإدراك، كما هو مشهور في الكلام العربي وغيره. فما ذكروه من الفرق والتخصيص لا أصل له في كلام العرب. الثاني: أنه لو كان الدليل من أسماء الآلات التي يفعل بها، فقد قال الله تعالى فيما روى عنه نبيه في عبده المحبوب: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يسعى)، والمسلم يقول: استعنت بالله واعتصمت به. وإذا كان ما سوى الله من الموجودات: الأعيان، والصفات، يستدل بها، سواء كانت حيةً أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، على أن الذي في الدعاء المأثور: يا دليل الحيارى! دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين، يقتضي أن تسميته دليلاً باعتبار أنه دال لعباده، لا بمجرد أنه يستدل به، كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية من الأعيان والأقوال والأفعال. ومن أسمائه: الهادي، وقد جاء أيضاً: البرهان؛ ولهذا يذكر عن بعضهم أنه قال: عرفت الأشياء بربي، ولم أعرف ربي بالأشياء. وقال بعضهم: هو الدليل لي على كل شيء، وإن كان كل شيء -لئلا يعذبني- عليه دليلاً. وقيل لـ ابن عباس

طرق الفلاسفة والمتكلمين وأصولهم التي يفرعون عليها وبيان ما في أدلتهم من الفساد في الوسائل والمقاصد

طرق الفلاسفة والمتكلمين وأصولهم التي يفرعون عليها وبيان ما في أدلتهم من الفساد في الوسائل والمقاصد قال رحمه الله تعالى: [وأما الطريقة الفلسفية الكلامية: فإنهم ابتدءوا بنفوسهم، فجعلوها هي الأصل الذي يفرِّعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، فتكلموا في إدراكهم للعلم أنه تارة يكون بالحس، وتارة بالعقل، وتارة بهما]. هذا إشارة إلى منهج من أخطر المناهج الكلامية، وأخطر أصول المتكلمين التي اصطبغت بها علوم الأمة الإسلامية عموماً، إلا من عصمه الله وهم أهل السنة والجماعة. وهذا المنهج تأثرت به مناهج كثيرة بين المسلمين، فإنهم يعولون في تقرير الدين وفي تقرير الأصول العامة على مدركات عقولهم، وهي مدركات محدودة، وهذا خلاف منهج الحق، فإن المسلمات وأصول الدين وما يتعلق بالله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه، وما يتعلق بقضايا الشرع؛ كل ذلك لا يجوز للمسلم أن يبتدئ تقريره من هواه أو موازينه أو أصوله ومناهجه التي ينتمي إليها، ولا من مداركه الخاصة: إدراكاته العقلية، ومواهبه من ذكاء وغيرها. فلا يجوز أن يعتمد في تقرير دينه على هذا الأصل، وهذا الاعتماد الخاطئ هو الذي يسلكه العقلانيون الآن، يسلكون في تقرير الدين والحكم على الأشياء الشرعية، بل وحتى على مصائر الأمة ومصالحها العظمى على مقررات عقولهم، ثم يأتون بالدليل ليعضد قولهم، ويردون ما لا يعضد قولهم أو يؤولونه، هذا منهج سائد عند جميع أهل الأهواء، يتفق فيه المتقدمون والمتأخرون، وهو أنهم يعتمدون في طرائقهم على أن يبتدئوا في الاعتماد في تقرير الدين ومصالح العباد: من أنفسهم، من عقولهم، من مقررات أفكار البشر، من مبادئ البشر؛ ولذلك تجدهم يتحاكمون إلى مبادئ البشر، ويجعلون واقع البشرية هو الحجة. فأنت عندما تناقش متكلماً أو متفلسفاً أو متحذلقاً من هؤلاء المتحذلقين الآن -كفانا الله شرهم- في كثير من القضايا يضرب لك مثلاً من الواقع، والواقع ليس دليلاً، نعم الإسلام يعالج الواقع، لكن يجب ألا أجعل الواقع هو الحجة، بل الدليل هو الحجة، ولن أعدم من دليل يعالج واقع المسلمين أبداً. فأحكام الإسلام عامة على الأصل، وهناك ضرورات، فلا أجعل واقع الأمة وواقع البشرية وواقع الناس حتى واقع المسلمين هو الذي يرغمني بأن أطوع بفكري وبعقلي القاصر الأدلة الشرعية والدين؛ ليتماشى مع أحوال الناس ويبررها. وهذا كما أنه يكون في أمور العقائد يكون في أمور الأحكام والمواقف؛ ولذلك نجدهم يجعلون مثلهم الأعلى الحياة الغربية، ومن تأمل الحياة الغربية يجد أنها حياة تعيسة، هي من خارجها ديكور منمق، لكنها تنطوي على كل معاني الفساد والرذيلة والكفر، والدمار للنفس البشرية وللمجتمع البشري كله، تنطوي على كل معاني الانهيار والفساد والبعد عن منهج الله عز وجل، وتنطوي على معاني الشقاء، وهي في ظاهرها كالآلة، تجد فيها أشكالاً تعجب الناس الذين همهم الظواهر فقط؛ ولذلك أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين والمتأخرين لا يتكلمون عن الآخرة، وليست على بالهم، نجاة المسلمين في الآخرة ليست على بالهم، يهمهم واقع المسلمين في دنياهم، فتجدهم يطنطنون ويجعجعون حول ضرورة النهوض بالمسلمين اقتصادياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً، وما علموا أن ذلك لا يكون إلا باستقامة قلوب الناس على دين الله عز وجل، وبتعبيد الناس لله وحده، وأنهم إذا استقامت قلوبهم وعبدوا الله وحده هيأ الله عز وجل الدنيا لهم وأتتهم وهي راغمة. إذاً: التعويل على النفس والاعتماد على العقل والرأي الشخصي وتقرير الدين من خلاله هو الفارق بين أهل السنة وبين الذي يسلكون هذا المسلك، أهل السنة بحمد الله يبحثون عن الدليل، وماذا يوجه إليه الشرع؟ وماذا يريد الله عز وجل من العباد؟ وماذا وجهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال قوله أو فعله أو تقريره؟ ثم إذا عرفنا ماذا وجهنا الشرع؛ أخذنا أمورنا ومشاكلنا ومسائل الدنيا فطبقناها على هذا الأصل. فلا نعتمد في تقرير الدين على النفس والعقل كما يفعل الكثير اليوم، وهذا أمر مهم جداً في الفارق بين أهل الأهواء والبدع والافتراق وعلى رأسهم أهل الكلام، وبين أهل السنة الذين يعتمدون على شرع الله عز وجل. أما ما قاله الشيخ إسماعيل الكوراني للمتكلم: أنتم تقولون: إن الله يعرف بالدليل، وقول شيخ الإسلام بعده: (فيه إشارة إلى الطريقة العبادية) فقصده أن هذه القاعدة التي تقوم بها العبادة عند المتصوفة: أنهم يجعلون مرتكز العبادة المعرفة بالله عز وجل التي يصلون إليها برياضة النفوس والرياضة التعبدية، فالشيخ يقول: إن هذه الطريقة ليست سليمة على كل حال. فالطريقة العبادية وسيلة من الوسائل الشرعية، ولكنها إذا خلت من التزام الشرع فقد يكون فيها نوع من الانحراف. فالمقصود بالعبادية: التعبدية، والطريقة التعبدية إذا قصرناها على المعرفة الذاتية فهذا لا يجوز، أي: معرفة الواردة على النفوس هذا لا ينبغي، لكن لو جمعنا في الطريقة العبادية بين الاهتداء بالشرع مع تعبيد القلوب لله وما يهدي النفوس من مقتضى الفطرة من هنا تكتمل العبادة المطلوبة على ما يرضي الله عز وجل. قال رحمه ال

الأسئلة

الأسئلة

حكم تسمية الله تعالى باسم النور

حكم تسمية الله تعالى باسم النور Q هل النور اسم من أسماء الله تعالى؟ A هذا محل خلاف، وليس هناك دليل مرجح، حتى شيخ الإسلام على قوة تحقيقه رحمه الله لما تكلم على آية سورة النور تكلم بكلام طويل جداً وذكر أقوالاً ولم يرجع منها قولاً.

تقييم كتاب: (قصة الإيمان)

تقييم كتاب: (قصة الإيمان) Q هل من تعليق على كتاب (قصة الإيمان)؟ A كتاب (قصة الإيمان) أنا قرأته قديماً قبل أكثر من عشرين سنة، فأقول: إن الكتاب سلك مسلك المتكلمين، ولا يؤيد على طريقته في الجملة، وإن كان وصل إلى بعض النتائج الطيبة، وأيضاً اختلف عن مسلك المتكلمين بأنه أحياناً يلامس القلوب بالموعظة، وهذا الجيد فيه، لكنه سلك مسلك المتكلمين في تقرير التوحيد، وهذا خطأ.

وجه مخالفة أهل الأهواء في كون الفطرة على الخالق

وجه مخالفة أهل الأهواء في كون الفطرة على الخالق Q هل نازع أهل الأهواء أن الفطرة تدل على الخالق؟ وكيف الرد عليهم؟ A هم مبدئياً لا ينازعون، لكنهم عند التفصيل يخرجون عن مقتضى هذا الأصل؛ لأنهم يفسرون الفطرة بتفسيرات خاطئة، ويجعلون دلالة العقل من الفطرة، وهذا لا شك أنه يحتاج إلى تفصيل، ليست كل الدلالات العقلية من الفطرة، دلالات العقل التي ترجع إلى الأمور الضرورية البدهية فعلاً هي من الفطرة، أما دلالة العقل في الأمور الفلسفية غير اليقينية التي لا توجد ضرورة في النفس؛ فإنها ليست على مقتضى الفطرة، فالعقل قد ينحرف عن الفطرة.

[4]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [4] لقد اتفق أهل الحق وأهل الباطل في العلوم الحسية والبدهية، بينما قام الخلاف على أشده بينهم في الإلهيات والغيبيات والأخلاقيات، وسبب ذلك هو المناهج الفاسدة التي انتهجها الفلاسفة والمتكلمون لتقرير العقيدة، فالوحي عندهم محكوم بالمقررات العقلية، والدلالات الوحيدة على النبوة هي المعجزات، فحدث عندهم من الاضطراب في تقرير الدين ما جعلهم في حيرة من أمرهم، لا يهتدون سبيلاً.

طرق المخالفين لأهل السنة في تقرير الدين

طرق المخالفين لأهل السنة في تقرير الدين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقبل أن نبدأ أحب أن أنبه إلى أن الشيخ ذكر أنواع العلوم والفنون التي اتفق عليها والتي اختلف فيها، فذكر أن العلوم الحسية والبدهية متفق فيها بين أهل الحق وأهل الباطل؛ لأنها علوم تجريبية تقوم على العلم الطبيعي الذي لا يكابر فيه أحد، لكن الخلاف في علوم أخرى والتي منها: الأخلاقيات والإلهيات والغيبيات، وإن كانت الغيبيات تدخل في الإلهيات. إذاً: فمواطن الخلاف ليست العلوم الحسية والبدهية؛ لأن هذين العلمين ليسا وسيلة لفهم العلوم الغيبية. كما أن العلوم الحسية والبدهية ليسا أيضاً الطريق إلى الاستدلال بالأمور الشرعية، إنما هي أدلة عاضدة لا يمكن أن تخالف الشرع، وما صار علماً من التجريبيات والحسيات والبدهيات فهو حق، لكن لا يمكن عن طريقه فهم الغيبيات ولا إدراك الغيبيات، ولا يمكن أن يكون عن طريقه أيضاً فهم الشرائع والتوحيد. إذاً: الخلاف يكون في الأصول الأخلاقية وفي الإلهيات وفي الغيبيات كما قرر الشيخ فيما سيأتي. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما الأخلاق مثل: استحسان العلم والعدل والعفة والشجاعة؛ فجمهور الفلاسفة والمتكلمين يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع التي تفتقر إلى دليل؛ وهو قول غالب المتكلمة المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف أمراً قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية. ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان]. سيذكر الشيخ منهج أهل السنة والجماعة متأخراً، لكن أشير إليه هنا من أجل أن نستصحب في أذهاننا الميزان الشرعي، فالشيخ سيذكر طوائف الناس في تقرير الدين: فأولاً: طريقة أهل السنة والجماعة في تقرير الدين هي الاعتماد على الوحي؛ لأن الدين دين الله عز وجل، والله هو المشرع، والدين ينبني على ما يرضي الله عز وجل، وما يحقق للبشر السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وهذا مما لا يمكن أن تحيط به مدارك البشر على الكمال، لا يدركه إلا الله عز وجل، فلذلك أهل السنة والجماعة يقررون الحق، وهو أن الطريق لتقرير الدين جملة وتفصيلاً هو الوحي. والآن سيذكر الشيخ طرائق المخالفين. قال رحمه الله تعالى: [أما المتكلمة المتبعون للنبوات فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة تلقوا منها السمعيات: وهي الكتاب والسنة والإجماع وفروع ذلك]. يعني: أن أهل الكلام من متكلمة الأشاعرة والماتريدية وكذلك المعتزلة وبعض الجهمية يقوم منهجهم على استخدام الأدلة العقلية لصدق الوحي، فإذا توصلوا بذلك إلى صدق الوحي؛ بدءوا هناك يقررون الوحي، لكنه محكوم عندهم بالمقررات العقلية، وأول ذلك عند غالبهم إثبات الخالق عز وجل بالمقدمات العقلية. ثم الصفات التي تثبت بها النبوة على طريقتهم، وهذه الصفات ترجع إلى إثبات المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي، ويزعمون أن المعجزات هي الدلالة الوحيدة على النبوة، وهذا خطأ كما تعلمون؛ ولذلك بعضهم لما تناقضت عنده أدلة النبوة، خاصة عندما عجزوا عن تحديد معنى المعجزة، واختلطت عندهم المعجزة بالكرامة وخوارق العادات، وبخوارق الكهان والدجالين، لما اختلط عندهم الأمر صار عندهم ريب واضطراب في تقرير الدين؛ لأنه بُني على هذا الأصل المضطرب عندهم، وحصروا دلالة النبوة في المعجزات. قال رحمه الله تعالى: [وأما المتفلسفة فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها. ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود وإلى العقول والنفوس. ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداءً من جهة أن الوجود لا بد فيه من واجب]. يعبر الفلاسفة عن وجود الله عز وجل بكلمة: (واجب الوجود) وهذه كلمة فلسفية، وليس كل الفلاسفة يقصدون بها وجود الله على المعنى الشرعي الاصطلاحي المعهود عندنا، بل غاية ما عندهم هو إثبات الخالق؛ ولذلك يقولون: الصانع. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سايرهم في هذه العبارة ربما لإقامة الحجة عليهم، والله أعلم، وإلا فالأولى ألا تقال كلمة الصانع مجاملة لهم، ولا واجب الوجود، لكن لا يمكن لهم أن يفهموا خطابنا، والشيخ أحياناً يكتب لهم، ويقصدهم بالكتابة، أو يقصد تسليح بعض المسلمين المتمكنين من مناقشة هؤلاء باستخدام هذه المصطلحات. فهم كثيراً ما ينزعون إلى إثبات وجود الله عز وجل تحت مسمى واجب الوجود أو الصانع أو نحو ذلك، لكن مع ذلك من منهم أثبت وجود الله عز وجل بعقله، ووقف على هذه الضرورة الفطرية؟ إنهم لا يصفون الله عز وجل بما يجب له من الكمال والجلال، بل إنهم لا يعظمون الله حق التعظيم، ويسلبونه حتى الربوبية، فإذا أقروا بوجود واجب الوجود أو الصانع كما يعبرون عنه؛ جعلوا تدبير الكون للعقول وال

سمات مناهج المخالفين لأهل السنة من الفلاسفة والمتكلمين وفسادها

سمات مناهج المخالفين لأهل السنة من الفلاسفة والمتكلمين وفسادها قال رحمه الله تعالى: [وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد: أما المقاصد فإن حاصلها بعد التعب الكثير]. قبل أن نتمادى في الفقرات أحب أن نضع لها عنواناً وهو: سمات مناهج المخالفين من الفلاسفة والمتكلمين، وسمات هذه المناهج تميز مناهجهم الفاسدة عن مناهج أهل السنة الصالحة. وقد وضع الشيخ أكثر من عشر سمات: الأولى: قوله: (هذه الطرق فيها فساد كبير من جهة الوسائل) هذه السمة الأولى. السمة الثانية: فسادها من جهة المقاصد، قال: (والمقاصد) يعني: الوسائل والطرق التي استخدموها في الوصول إلى هذه القناعات الموجودة عندهم، فمن سماتهم فساد الوسائل، وهو الاعتماد على العقل والمصطلحات الفلسفية في الوصول إلى الغاية. ثم الغاية عندهم فاسدة، وهي التي عبر الشيخ عنها هنا بالمقاصد؛ لأن المقاصد عندهم لا توصلهم إلى عبادة الله عز وجل، ولا إلى تعظيم الله حق التعظيم، ولا توصلهم إلى الأخذ بطريق الهدى، المقاصد فقط توقفهم على الإيمان بمجرد وجود الله، ثم وصفه بأوصاف لا تليق، والحيدة عن عبادته. قال رحمه الله تعالى: [هذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد، أما المقاصد فإن حاصلها بعد التعب الكثير والسلامة خير قليل، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل]. هذه كلمة عظيمة في الحقيقة، من أعظم الكلمات التي وصف بها الشيخ مناهج المتكلمين وسمات أعمالهم. يقول: إنهم قد يحصلون خيراً قليلاً؛ لأنهم من أهل الاعتراف بوجود الله، ولا شك أن الاعتراف بوحدانية الله أنه خير، لكنه قليل الفائدة؛ لأنه لا يؤدي المطلوب من العباد، وهو عبادة الله، فهو قليل بالنظر إلى المطلوب من العباد، بالنظر إلى الغاية من خلق الناس، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه الغاية العظمى ما وصلوا إليها؛ فلذلك هم وصلوا إلى خير قليل. ثم قال: هذه الوسائل والمقاصد التي وصلوا إليها مثل لحم جمل غث، يعني: ليس بطيب وتعافه النفس، على رأس جبل وعر، فالارتقاء إليه لا يؤدي إلى نتيجة، ويكون صعباً جداً، فالإنسان قد يتعب ويلهث وأخيراً يجد لحماً غير صالح للأكل، فهو لم يصل إلى الغاية، قال: (لا سهل فيرتقى) يعني: الجبل، (ولا سمين) يعني: لحم الجمل فينتقل. قال رحمه الله تعالى: [ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا]. هذه هي السمة الرابعة. الأولى: وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل. الثانية: من جهة المقاصد. الثالثة: أن الخير فيها قليل. الرابعة: أنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط. قال رحمه الله تعالى: [وأما الوسائل: فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات]. هذه السمة الخامسة. قال رحمه الله تعالى: [ينقطع السالكون فيها كثيرًا قبل الوصول]. هذه السمة السادسة. قال رحمه الله تعالى: [ومقدماتها في الغالب إما مشتبهة يقع النزاع فيها]. هذه السمة السابعة. قال رحمه الله تعالى: [وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء]. هذه السمة الثامنة. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لا يتفق]. هذه السمة التاسعة من سمات مناهج أهل الأهواء: أنهم لا يتفقون، وهذه من أبرز سماتهم لكل متأمل. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادراً، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يعرف إلا بطريقته، وإن كان جمهور أهل الملة بل عامة السلف يخالفونه فيها. مثال ذلك: أن غالب المتكلمين يعتقدون أن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم، ثم الاستدلال بذلك على محدثه، ثم لهم في إثبات حدوثه طرق، فأكثرهم يستدلون بحدوث الأعراض؛ وهي صفات الأجسام. ثم القدرية من المعتزلة وغيرهم يعتقدون أن إثبات الصانع والنبوة لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل ونحو ذلك من الأصول التي يخالفهم فيها جمهور المسلمين. وجمهور هؤلاء المتكلمين المستدلين على حدوث الأجسام بحدوث الحركات يجعلون هذا هو الدليل على نفي ما دل عليه ظاهر السمعيات، من أن الله يجيء وينزل ونحو ذلك. والمعتزلة وغيرهم يجعلون هذا هو الدليل على أن الله ليس له صفة: لا علم، ولا قدرة، ولا عزة، ولا رحمة ولا غير ذلك؛ لأن ذلك بزعمهم أعراض تدل على حدوث الموصوف]. هذه هي الطرق التي ذكر الشيخ منها ما سبق، ثم سيذكر طريق السنة والجماعة بعد قليل، ثم طريق المتكلمين، ثم طريق المتفلسفة، ويقصد عامة الفلاسفة، وهنا ذكر طريق المصنفين من الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، أعني: المنتسبين إلى الإسلام وليسوا من الإسلام في شيء، وهذا مما ابتلينا به حقيقة من دفاع الناس عن ابن سينا وأمثاله، هل هم مسلمون أم غير مسلمين؟ وهذا في الحقيقة نزاع عديم الجدوى، ثم هم ليسوا من الإسلام ف

أول دعوة الرسل وطريقة أهل السنة في تقرير الدين

أول دعوة الرسل وطريقة أهل السنة في تقرير الدين قال رحمه الله تعالى: [فأما الأنبياء فأول دعوتهم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اعترف الغزالي بأن طريق الصوفية هو الغاية؛ لأنهم يطهرون قلوبهم مما سوى الله، ويملئونها بذكر الله، وهذا مبدأ دعوة الرسول؛ لكن الصوفي الذي ليس معه الأثارة النبوية مفصلة يستفيد بها إيماناً مجملاً، بخلاف صاحب الأثارة النبوية، فإن المعرفة عنده مفصلة. فتدبر طرق العلم والعمل؛ ليتميز لك طريق أهل السنة والإيمان من طريق أهل البدعة والنفاق، وطريق العلم والعرفان من طريق الجهل والنكران]. هنا أشار الشيخ إلى منهج المتصوفة، وألحقه بالمنهج الشرعي، ألحقه من حيث الابتداء، والمتصوفة يقوم مبدؤهم على الاعتراف بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنها هي المبتدأ، وهي المنهج، لكنهم يقولون ذلك على سبيل الإجمال، فإذا قرروا عقائدهم ودينهم على جهة التفصيل حادوا عن الحق، بل ربما أخذوا بمسالك الفلاسفة في التعبد، وبمسالك الأمم الأخرى الضالة. إذاً: هو يشير إلى أن الصوفية يبدءون معنا في أول الطريق في تقرير الدين على قاعدة أن الأصل هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك تتفرق بهم السبل، ويحيدون عن الاستمرار في هذا الطريق؛ ولذلك أشار إلى طريقة الغزالي؛ لأنه يمثل منهج الصوفية في تقريره لهذا الأصل، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قنوت النوازل دون إذن الإمام وحكم الدعاء التفصيلي على الكفار

حكم قنوت النوازل دون إذن الإمام وحكم الدعاء التفصيلي على الكفار Q هل قنوت النوازل يحتاج إلى إذن الإمام؟ وهل الدعاء على الكفار كقول: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً جائز؟ A هذا سؤال جيد، وللمشايخ حفظهم الله فتاوى في هذا كثيرة، وفيها إجابة نصية على مثل هذه الأسئلة؛ فأرجو الرجوع إليها. ومعلوم ابتداءً أن القنوت في النوازل أنواع وأصناف، والنوازل على درجات أيضاً. وكذلك الإذن من الإمام هو محل خلاف، لكن ينبغي أن نعود أنفسنا في مثل هذه الأمور ألا نخرج عن توجيه مشايخنا وعلمائنا إذا وجهوا بشيء، حتى لو كان هناك رأي لإمام أو قول لبعض الأئمة، إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة الأمة الكبرى، أو بأحوال مجموع طلاب العلم، أو بموقف يحسب على العلماء والمشايخ؛ فينبغي الرجوع إلى المشايخ، ويلتزم قولهم، وتلتزم فتواهم؛ لأنهم يعالجون الأمر على ما تقتضيه النصوص الشرعية، ويجتهدون أيضاً في تطبيق قواعد الشرع ودرء المفاسد وجلب المصالح. والنوازل أصناف، فهناك نوازل تكون في البلد نفسه، في نفس المدينة أو القرية، فإذا نزلت بهذه الصورة، مثل: الوباء الذي نزل على إخواننا في جيزان فهنا يشرع لهم أن يدعو دعاء القنوت، ولا أحد من أهل العلم يعارضهم، ولا يلزم إذن الإمام في مثل هذا الحال؛ لأن الأمر صار يمس البلد نفسها، ولا بد من تعويد الناس اللجوء إلى الله عز وجل، ولفت نظرهم إلى مشروعية القنوت في مثل هذه الأحوال. أما إذا كان بعيداً عن البلد فيختلف في مدى البعد، وما نوع النازلة، وعلى هذا أقول: ينبغي لطلاب العلم أن يتثبتوا في هذه الأمور ولا يستعجلوا ولا تأخذهم العواطف. وأما الدعاء على الكفار فينبغي دائماً للمسلم أن يدعو بالمجملات، ولا يلجأ إلى التفصيلات والاعتداء في الدعاء، الذي هو الدخول في الجزئيات والعبارات الدقيقة إلا عندما يقتضي الأمر ذلك، وليس على سبيل الدوام، فقول: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، لا ينبغي أن يكون دعاءً دائماً؛ لأنه من الدعاء المجزأ، والله عز وجل بصير بعباده، أنت ادع عليهم بدعاء مجمل، والله عز وجل يفعل ما يشاء، ليس بشرط أن يعاقبهم على هذه الصورة، التي هي إحصاء العدد والقتل البدد وألا يغادر منهم أحداً، ما يلزم، يمكن أن يعاقبهم الله عز وجل بأي صورة، وعلى أي وجه يراه ويقدره سبحانه، فلا ينبغي لنا أن نعود ألسنتنا على مثل هذه الأدعية المخصصة، التي الإكثار منها تنفر منها الطباع والفطر السليمة، لكن إذا طرأ على الإنسان أمر موجب؛ فله أن يستعمل مثل هذا الدعاء عند الموجب وليس دائماً.

حكم الخوارج عند شيخ الإسلام رحمه الله

حكم الخوارج عند شيخ الإسلام رحمه الله Q في تبويب شيخ الإسلام في فضل السلامة من البدعة والشرك والكبائر، ثم ذكر الخوارج، فهل يرى الشيخ تكفيرهم؟ A ما يلزم أنه يرى تكفيرهم، بل الذي أعرف أن الشيخ لا يرى تكفيرهم عموماً، الخوارج ليسوا كفاراً، ولكنهم من أهل البدع، ولا يلزم من قتال المبتدع أن يكون كافراً، ولذلك قاتلهم الصحابة وعلى رأس الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما سئل عنهم قال: هم إخواننا بغوا علينا، ثم لما قيل له: هم كفار؛ قال: لا والله من الكفر فروا. فينبغي أن نفهم أنه لا يلزم من القتال الكفر، فقتال أهل البغي والخارجين عن الإمام، أحياناً يكون من الصالحين، لكن يقاتلون متأولين، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في مسلم وغيره أنه من خرج على الإمام المسلم الذي له بيعة وعهد وعلى الجماعة فإنه يقاتل كائناً من كان. وأهل الذنوب الذين تقتضي ذنوبهم قتلهم، مثل الزاني إذا استحق الرجم، هذا ما يخرج من الملة، مع أنه يقتل قتلة فيها نوع من التعزير الشديد، لكن لله في ذلك حكمة، فالمهم أنه لا يلزم من قول الشيخ في سياق حديثه عن الخوارج وقتالهم أنه يرى كفرهم. المهم أن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج لم يقاتلوهم حتى بدءوا هم، وهذا اجتهاده وبعض الصحابة، لكن بعض الجيش مع علي رضي الله عنه من المسلمين المجتهدين كانوا يرون أن يقاتلوا قبل أن يبدءوا، علي رضي الله عنه إمام المسلمين في ذلك الوقت كان لا يرى قتالهم حتى يحدثوا وحتى يقاتلوا. يعني: أنه يقصد أنا لا نتحقق من بدعتهم حتى يعملوا بمقتضاها، فلا نستطيع أن نلزمهم بأنهم ارتكبوا بدعة التكفير، فربما يكون قول بعضهم، أو لهم في التكفير أعذار من جهل أو نحو ذلك. فلما قاتلوا تبين إصرارهم على بدعة التكفير، واستباحتهم للدم دليل على أن هذه البدعة تعمقت، وأنها ليست مجرد عوارض، وأنها ليست قول البعض، بل أجمعوا واتفقوا عليها، فمن هنا استباح علي رضي الله عنه قتالهم؛ لأن بدعتهم ظهرت وتأكدت من خلال تصرفهم. أما الأحاديث فهي مطلقة، وردت في الخوارج القدامى، ووردت في الخوارج المتأخرين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري وغيره: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية)، ثم سرد صفاتهم والقول فيهم إلى أن قال: (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن لمن قتلهم الجنة). هذا فيما جاء في سياق الحديث عن الخوارج الذين يخرجون في آخر الزمان، والراجح من كلام كثير من المحققين من أهل العلم أنهم غير الخوارج الأولين؛ لأن هؤلاء جاء فيهم نصوص وهؤلاء جاء فيهم نصوص، وكلهم خوارج. إذاً: فقتل الخوارج لا يلزم منه خروجهم من الملة، ولا أن بدعتهم بدعة مكفرة.

[5]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [5] لقد ظهرت حقيقة ابن عربي الصوفي من خلال أشعاره ومقالاته ومؤلفاته، فهو يقول بوحدة الوجود، والقائل بهذا القول أكفر من الجهمية الذين يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك، وقد كفر السلف الجهمية، فتكفير أصحاب وحدة الوجود من باب أولى؛ لشناعة ما تنطوي عليه مقالاتهم، وما تؤدي إليه من الانتقاص لله سبحانه وتعالى، تقدس وتنزه وتعالى عما يقوله الظالمون الأفاكون المفترون علواً كبيراً.

معنى قول ابن عربي: الرب حق والعبد حق

معنى قول ابن عربي: الرب حق والعبد حق بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا الدرس الذي بين يدينا درس مفيد، وإن كان فيه بعض الكلاميات وبعض المعاني التي تشمئز منها النفس، وبعض الأمور لا وجود لها في بلدنا ولا بيئتنا، لكنها مسالك سلكها أناس من بني جلدتنا الآن، فالحداثيون وكثير من الأدباء واقعون فيما سيتكلم عنه الشيخ الآن في مسألة أقول ابن عربي وإلحادياته، وأصبحوا يمجدونه في الصحف بأسلوب خبيث، فهم يستعملون التقية في استخدامهم تحت ما يسمى الشعر الحرّ، والمقالات الحداثية، فهم يرمزون إلى معان سيأتي الكلام عنها وأشير إليها في مواطنها، ولذلك أحببت أن نقرأ هذا المقطع، ونقف عند بعض الجوانب فيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المسئول من إحسان شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أثابه الله الجنة أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل: الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف فقال أحد الرجلين: هذا القول كفر؛ فإن القائل جعل الرب والعبد حقاً واحداً ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف. فقال له الرجل الثاني: ما فهمت المعنى، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده؛ فإن القائل قال: الرب حق والعبد حق، أي: الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبداً ولا العبد رباً كما زعمت. ثم قال: يا ليت شعري من المكلف؟ مع علمه أن التكليف حق؛ فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت، والميت ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد -وإن كان حياً- فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقو العبد على القيام بالتكليف؛ لما قدر على ذلك، فالفعل لله حقيقة وللعبد مجازاً، ودليل ذلك قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله]. لا تزال المسألة بين شخصين، كل واحد له شبهة، وهذا له حجة وهذا له شبهة، لكن قبل أن نتجاوز هذا الكلام يتطلب أموراً تأصيلية إذا استحضرناها، فإنه سيسهل علينا فهم كلام شيخ الإسلام عندما يجيب، وهذا موطن التعليق عليها. فالشخص الآخر الذي ينزع إلى نزعة وحدة الوجود لهذا الشخص الذي يقول: إن الشخص مع ربه كالميت مع الغاسل، وأن الفعل لله حقيقة وللعبد مجاز، هذا القول هو قول الجبرية الجهمية، حتى قبل أن يظهر ابن عربي، ودخل على المتصوفة، وصار مذهب غالب المتصوفة في القرن الرابع والخامس والسادس، ثم لما جاء القرن السادس والسابع بلوره ابن عربي على مذهب فلسفي إلحادي صريح. فمعنى هذا أن مذهب ابن عربي له أصول، وأن كلام الجهمية كما تصور السلف وتوقعوا وتفرسوا أن القول بالجبر سيؤدي بأناس إلى الإلحاد، هذا قاله السلف أيام الجهم وبعد الجهم، فما قالوه هو الذي صار، فهؤلاء الصوفية فلسفوه وجعلوا له قواعد ومناهج، وهو زعمهم أن الإنسان لا إرادة له، وأنه مجبور، وأنه كالريشة في مهب الهواء، وأنه كالميت أمام مغسله، وأنه لا حول له ولا قوة، وأن فعل العبد مجاز لا حقيقة له. هذا المذهب الباطل صار نهجاً له أصول وله فلسفات وله قواعد وله شبهات وله مناظرات ودفاعات عن أهله، ثم انتهى إلى القول بوحدة الوجود، وهذا هو محل النقاش بين هذين الشخصين، والأبيات التي مرت هي من أبيات أصحاب وحدة الوجود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد عُلم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق؛ فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال، وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق؟]. سيجيب الشيخ على هذا السؤال الذي يتضمن مناقشة بين شخصين، لكن هذا الكلام تضمن حكمة مفيدة جداً لنا في هذا الوقت، فطلاب العلم الآن ابتلوا بكثرة الشبهات التي انتشرت في المجتمع، وفتكت بعقول أجيالنا فتكاً ذريعاً، بدأت مظاهره تخرج لولا بحمد الله أن السنة لا تزال قوية، والعلم لا زال مهيمناً، والسلطان فيه قوة ضد الباطل المعلن، لولا ذلك لرأيتم عجباً. فمن خلال الركام والشرار الذي نراه تحت الرماد تظهر لنا مظاهر من انجراف كثير من شبابنا في الأفكار الخطيرة المكفرة بشكل عجيب جداً؛ بسبب الفضائيات والإنترنت، وبسبب طائفة من المنافقين بين ظهرانينا، حيث بدءوا يفتنون الناس عن السنة، ويوقعونهم في البدعة، وإلا من يصدق أنه يوجد شباب الآن اقتنعوا بمذهب المعتزلة، يوجد شباب الآن انجرفوا مع مذهب الحداثة الإلحادي الباطني، شباب من أبناء جلدتنا ومن أبناء مجتمعنا وليسوا قلة وهم يكثرون، لكن الحمد لله لا تزال للسنة هيبة، ومع ذلك لا بد من الاحتياط وسد الذريعة وأخذ الأهبة، فكل منكم

حقيقة قول ابن عربي في وحدة الوجود

حقيقة قول ابن عربي في وحدة الوجود قال رحمه الله تعالى: [فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه، فقال: الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله. فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد، وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن]. قولهم: (الوجود الواجب) يعبرون به عن الله عز وجل، و (الوجود الممكن) يعبرون به عن الخلق فهم يقولون: إن الخلق والخالق والمخلوق واحد لا فرق بينهم، هذه وحدة الوجود، وهذا عين الكفر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وليس هناك أكفر من هذا القول؛ لأنه يؤدي إلى الإلحاد المطلق الكامل، الإلحاد المقنن المفلسف، كما أنه يؤدي أيضاً إلى أعظم الإساءة إلى الله عز وجل، يعني: إلى حد أن أصحاب وحدة الوجود إذا سمع أحدهم حيواناً سبح له كما يسبح لله، هذا أمر شنيع لا يتصور لكنه هو نتيجة مذهب وحدة الوجود. إذاً: معنى قول الشيخ واجب الوجود يعني: الله، وممكن الوجود يعني: المخلوقات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مقصود في غير هذا الموضع]. قوله: (والقول بأن المعدوم شيء) هذا قول كثير من الفلاسفة، وقد يقول بعضكم: ما لنا ومال هذا القول؟ نقول: لا بد من رد هذا القول؛ لأنهم لما افترضوا أن المعدوم شيء بنوا عليه أحكاماً وعقائد وأوهاماً وتصورات، حتى في أمور الدنيا لما زعموا أن المعدوم شيء بنوا على المعدوم أحكاماً، وهذا باطل انبنى على باطل، فهل المعدوم ينبني عليه أحكام؟! وهذا من مذهب ابن عربي، ومذهب ابن عربي أن أعيان المعدومات ثابتة في العدم يعود إلى الأول، يعني: لما قالوا: إن المعدومات أعيان، يعني: ذوات، كيف يكون هذا المعدوم عيناً، هذا أمر لا يصح عقلاً ولا يمكن أن يرد في الذهن، لكنهم أحياناً يجعلون الأوهام أشياء؛ فلذلك قالوا: إن أعيان المعدومات ثابتة في العدم، كأنهم يقولون: الأشياء قبل الوجود لها وجود، لكن كانت على وضع غير وضع الموجودات. ولذلك كل أمر يتصورونه يعتقدونه، بناء على أن المعدوم شيء، وأن المعدومات ثابتة في العدم، وهذا هروب من إثبات وجود الله؛ لأنهم يزعمون أن هذه الموجودات كان لها وجود في الأعيان، ويثبت لها حق الوجودية وتثبت لها أحكام الوجود، وهذه فلسفة، لكن لماذا نقولها؟ ولماذا صار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية؟ كما سترون في دروس قادمة أنهم خلطوا هذه الفلسفة بعقائد المسلمين، التي ادعوا أنهم أصحابها، وهذا التصور هو سبب كثير من الغلط من المتكلمين، وهو سبب القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد إلى غير ذلك. ثم قال: (ووجود الحق فاض عليها) الفيض: نظرية فلسفية، يقصدون به تأثيراً معنوياً، هذا التأثير المعنوي ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، أو من المؤثر إلى المؤثر فيه، فينتج عن ذلك أثر مادي، والعملية بين الفائض والمفوض عليه عملية ذهنية لا حقيقة لها، لكنهم يتصورونها، ولذلك زعموا أن الدين كله والوحي خيال ليس له حقيقة مستقلة، إنما هو فيض، فوجود كل شيء عين وجود الحق عندهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، كما هو في الرد على فصوص الحكم لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ابن عربي يصدق قول فرعون: (أنا ربكم الأعلى)

ابن عربي يصدق قول فرعون: (أنا ربكم الأعلى) قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لما قال: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي، لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك، فقالوا له: اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، والدولة لك، فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وإن كان عين الحق]. هذا كلام ابن عربي، نعوذ بالله، والعجيب أن هذا التلبيس مع وضوحه قد انطلى على طوائف ممن انقلبت فطرهم، وفسدت قلوبهم من أهل الأهواء والبدع، خاصة الذين ينتسبون للتصوف الآن، وتوجد طوائف من الذين لم ينتسبوا للتصوف يميلون إلى تصحيح هذا القول الباطل، الذي يصادم الحق مصادمة ظاهرة وعنيفة، لكن هؤلاء يلبسون على الجهال وعلى المفتونين، وتأملوا العبارة قال: (ولهذا لما قال -يعني: ابن عربي -: ولما كان فرعون في مصر في منصب التحكم صاحب الوقت) انظروا كيف يستجلب عواطف الفرق التي تنتظر إما ولياً وإما إماماً، فالصوفية ينتظرون ولياً ويظنون أنه صاحب الوقت، ويزعمون أنه يدبر الكون، وكذلك الرافضة والباطنية ينتظرون أيضاً إماماً، يزعمون أنه يخرج في آخر الزمان، فهو تكلم بما يوافق مصطلحاتهم؛ ليجذب عقولهم إلى الباطل على ما هم فيه من الباطل، ولهذا فهو يزعم أن فرعون ولي لله؛ ولذلك له رسالة اسمها (إيمان فرعون) قال فيها مثل هذا الكلام، ثم قال: (وإنه الخليفة في السيف، وإن جار في العرف الناموسي) يعني: أن هناك فرقاً بين العرف الظاهر وبين العرف الباطن، ففرعون ولي لله في الباطن، لكنه في الظاهر جبار، فهو خليفة بالسيف. قوله: (لذلك قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما) رجع إلى مذهبه أيضاً مرة أخرى، فزعم أن جميع المخلوقات أرباب، لكن فرعون أعلاهم، انظروا كيف التلبيس، وأنا لا أعجب من ظهور مثل هذا الإلحاد من إنسان معروف بالإلحاد، وإنما أعجب كيف يصدق هذا الكلام؟ أو كيف يلتبس على أناس يدعون الإسلام؟ ولو شئت لذكرت لكم أسماء أناس من البارزين الآن يؤمنون بمثل هذا الكلام جداً، نسأل الله السلامة والعافية. ثم زعم أن فرعون حينما قال: (فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم) زعم أن السحرة علموا أن فرعون هو المستحق للربوبية، والعكس هو الصحيح، أن السحرة تبرءوا من ربوبيته وإلهيته، وأعلنوا خلاف مذهبه، ولذلك فرعون قتلهم، لكن أراد ابن عربي أن يعكس القضية تماماً ويجعل الحق باطلاً والباطل حقاً. ولذلك قال: (لم ينكروه) زعم أن السحرة لم ينكروا ربوبية فرعون، وأنهم أقروا له بذلك، وأنهم حينما أقروا له بالربوبية سلموا رقابهم له، وقالوا: اقض ما أنت قاض، انظروا هل بعد هذا التلبيس تلبيس؟ ثم قالوا: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، والدولة لك فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهو يزعم أن قول فرعون هو الصحيح. ثم استمر في هذيانه مما يجب أن يكون في عافية منه، لكن ربما يقول قائل: لماذا نقرأ مثل هذا الكلام؟ أقول: لن نقرأه كله، المجلد كله في هذا الموضوع، لكن سنقرأ نماذج تكفي لتصوركم لهذا المذهب الباطل؛ لأن هذا المذهب بدأ الآن يروج، وله دعاته عبر الفضائيات وعبر الإنترنت وعبر الإعلام، وبدأ يقتنع به طوائف، إضافة إلى طوائف الصوفية، وجمهور المتصوفة يصعب عليهم أن تقول لهم: إن ابن عربي ملحد رغم أن هذا كلامه، ولم يتراجع عنه في يوم من الأيام، والدليل أنه ما تراجع عنه، فقد كتبه في كتب مستقلة، ثم لما كتب مجموعة آرائهم في الكتب الكبيرة كفصوص الحكم أعاد هذا الكلام مرة وأكده ونظمه ورتبه، وجعله أكثر صراحة في الإلحاد والكفر، أقول: لولا الابتلاء بهذا الأمر، وأن جماهير من المسلمين تعد بالملايين يعتقدون هذا الكلام أنه حق، ويتأولون له، ويزعمون أن له باطناً، ولا يرضى أحدهم أن يقال: إن ابن عربي زنديق ملحد رغم وضوح الزندقة والإلحاد، لولا وجود مثل هذه الظواهر بين المسلمين لما احتاجنا أن نقرأ هذا الكلام، لكن أنتم بمثابة طلاب علم متخصصين، فلو كان هذا الدرس للعامة لما قرأنا مثل هذا، بل لو كان أيضاً عند طلاب علم صغار ما قرأنا مثل هذا. وهؤلاء الملاحدة الخلص يقرءون الآيات ويتأولونها، فمثلاً: ابن عربي يسمي الأنبياء وأتباعهم: العوام، ويقول عن النبوات والرسالات: (هذه مجرد سياسات إلهية لضبط الناس في سلوكهم في الدنيا، وإلا فالنار في الآخرة ما هي إلا غاية النعيم) مثل هذا ماذا تصنع به، يرى أن الوعيد الذي على فرعون هو قمة النعيم، والوعيد إنما سمي وعيداً وسميت النار ناراً من أجل ضبط سلوك العامة في الدنيا؛ حتى يكون عندهم رادع خوف، ف

ذكر من قال بوحدة الوجود من أهل الإلحاد ومعنى قول ابن عربي: يا ليت شعري من المكلف؟

ذكر من قال بوحدة الوجود من أهل الإلحاد ومعنى قول ابن عربي: يا ليت شعري من المكلف؟ قال رحمه الله تعالى: [فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضاً، وهذا الأصل وهو القول بوحدة الوجود قوله وقول ابن سبعين وصاحبه الششتري والتلمساني والصدر القونوي وسعيد الفرغاني وعبد الله البلياني وابن الفارض صاحب نظم السلوك وغير هؤلاء من أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد. وأما مدلول هذا الشعر، فإن قوله: يا ليت شعري من المكلف؟ استفهام إنكار للمكلف. ثم قال: إن قلت عبد فذاك ميت. وفي موضع آخر قال: فذاك نفي. وكلاهما باطل؛ فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجوداً ثابتاً، وهذا هو دين المسلمين أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود بجعل الله له وجوداً، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم موجوداً حياً ناطقاً فاعلاً مريداً قادراً، بل هذا كله لا يمنع ثبوت ذواتها وصفاتها وأفعالها]. يعني: أن كون المخلوق يوصف بمثل هذه الصفات من الوجود والحياة والنطق والفاعلية والإرادة هذا وإن كان هذا وصفاً لله عز وجل على وجه الكمال، فالله موجود حي متكلم فاعل مريد، لكن هذه الخصائص والصفات هي للخالق على ما يليق بكماله، وهي في المخلوق على ما يليق بنقصه، ولا يمنع أن تكون المخلوقات الموصوفة بهذه الصفات لها ذوات غير ذات الله عز وجل، وأنها موجودة بذواتها وصفاتها وأفعالها لوجود غير وجود الله، هذا معنى الكلام فيما يظهر وإن كان فيه سقط.

إنكار ابن عربي خلق الله لأفعال العباد

إنكار ابن عربي خلق الله لأفعال العباد قال رحمه الله تعالى: [فهو سبحانه هو الذي جعل الحي حياً، بل هو الذي جعل المسلم مسلماً والمصلي مصلياً، كما قال الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]. وهذه مسألة خلق أفعال العبيد وهي مذهب أهل السنة والجماعة مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي مثاب معاقب موعود متوعد، وهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيضاً والأسود أسوداً، والطويل طويلاً والقصير قصيراً، والمتحرك متحركاً والساكن ساكناً، والرطب رطباً واليابس يابساً، والذكر ذكراً والأنثى أنثى، والحلو حلواً والمر مراً. ومع هذا فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها؟! ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق؟ فإذا قال القائل: الرب حق والعبد حق. فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف، وإن أراد أن العبد حق مخلوق خلقه الخالق فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق ممكناً للمخلوق، كما أنه خالق له. وقوله: إن قلت: عبد فذاك ميت. كذب؛ فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28]، والله لا يكلف الميت وإنما يكلف الحي، وإذا قيل: إنه أراد بقوله: ميت. أنه باعتبار نفسه لا حياة له، قيل: تفسير مراده بهذا فاسد لفظاً ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف. فإذا كان ميتاً لولا إحياء الله وقد أحياه الله، فقد صار حياً بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حياً لم يكلف ميتاً، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال: ليت شعري من المكلف؟ مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت. والميت ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء. وكذلك العبد وإن كان حياً فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله، فيقال لهم: هذا العذر باطل من وجوه]. قبل أن أستعرض الوجوه، أو ربما نستغني عن استعراض الوجوه؛ لأن الشيخ هنا أراد أن يقرر أنه من نعم الله عز وجل أن أعطى العبد شيئاً من القدرة والاختيار، وأيضاً الله عز وجل هو خالق العبد وأفعاله، لكن ذلك لابد أن يرد بعضه إلى بعض، بمعنى أننا حين نقول بأن الإنسان أعطاه الله قدرة خاصة وأعطاه حرية واختياراً، فإن ذلك محكوم ومربوط بعموم مشيئة الله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والله عز وجل خالق العباد وخالق أفعالهم، لكن عندهم شيء من القدرة والحرية تحت إذن الله ومشيئته، هذا ما أراد أن يقرره الشيخ. أما أن يقال: إن الإنسان كالميت بين يدي المغسل فهذا الجبر، ليس صحيحاً أنه كالميت مطلقاً، فهو حي يريد إنقاذه، كذلك العكس من زعم أن الإنسان يقدر أشياء لا يقدرها الله عز وجل، ويفعل أشياء لا يقدرها الله عز وجل فهذا باطل، وهو مذهب القدر المذموم، فالأمر الحق بين هذين الأمرين سيذكره الشيخ ونقرؤه؛ لأنه قليل.

قول أهل السنة في أفعال العبد

قول أهل السنة في أفعال العبد قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله ولا يتصف بها؛ فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد وهي مفعولة للرب. لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية؛ فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة والله أعلم].

الأسئلة

الأسئلة

القول في صفتي القدم والرجل لله تعالى

القول في صفتي القدم والرجل لله تعالى Q ورد إثبات صفة القدم والرجل من صفات الله عز وجل، هل هناك فرق بين هاتين الصفتين إذا كان هناك فرق بينهما؟ A لا ليس هناك فرق، الظاهر والله أعلم أنها من الألفاظ المترادفة، لذلك وردت على معنى واحد، فمثلاً: في وضع قدم الباري عز وجل على جهنم ورد رجله وورد قدمه، مما يدل على أن اللفظين مترادفان.

حكم تكفير المعين

حكم تكفير المعين Q ما رأيكم في قول من يقول: لا يجوز أن تحكم على فرعون بأنه كافر؟ A فرعون يضرب به المثل في الجزم بالكفر، نحن لا نجزم بكفر أحد إلا من كفره الله عز وجل أو كفره الرسول صلى الله عليه وسلم، كفرعون وأبي لهب وأبي جهل، فالمسألة ما تحتاج إلى مثل هذا الجدال، وربما المنكر لذلك يتأول؛ لأن السائل عقب وقال: لولا أن الله أخبرنا بكفره لما جاز أن نحكم بكفره، وكذلك الذين قتلوا في بدر مع المشركين قد يكون الواحد منهم مكرهاً إلى آخره؟ نقول: هذا خلط بين مسألة الحكم على المعين المسلم والحكم على المعين الكافر، ولاشك أن بينهما شيء من التشابه، الحكم على المعين أغلب ما ورد فيه عند أهل السنة المقصود بهم المعين من المسلمين، لكن مع ذلك أيضاً كلامهم يحكم غير المسلمين، فنحن نقول: إن الكافر الأصلي لا نشك في كفره وأنه من أهل النار، هذا حكم قاطع، اليهودي، النصراني، المشرك، المرتد، نحكم حكماً قاطعاً بأنه من أهل النار، هذا الحكم هو حكم الله ليس حكم أحد، بقي المعين الذي مات على الكفر ولم يرد عنه شيء بعينه لا في الكتاب ولا السنة، فهذا في الحقيقة نقول: الأصل فيه أنه كافر، لكن لا نجزم؛ لأننا لا ندري ما ختم الله له، فلا نجزم، لكن نحكم حكماً عاماً.

تكفير اليهود والنصارى

تكفير اليهود والنصارى Q ما صحة قول من يقول: إن اليهود والنصارى كفار من حيث الجملة، أما من حيث التعيين، فإن أهل العلم يقولون: لا يجوز التعيين إلا إذا مات اليهودي على الكفر، حينها يجوز تعيين اليهودي إذا مات على الكفر إلى آخره، فكيف نعلم بأن هذا اليهودي مات على الكفر أو غيره؟ A الحقيقة هناك فرق بين الحكم العام وبين الحكم الخاص هذا أمر. الأمر الثاني: هناك فرق بين الحكم العام وبين الجزم. الأمر الثالث: أننا لم نتعبد بإعلان الأحكام على الأفراد، والخوض في ذلك أظنه من البدع، لكن لو قلنا: اليهودي كافر والكافر إلى النار، والنصراني كافر والكافر إلى النار فجائز، أما أن نتجادل في إنسان بعينه باسمه فهذا من التكلف في الدين والتنطع، والقول على الله بغير علم، ومما لا يجوز أن تتعلق به همة المسلم أصلاً، فيجب أن يصرف المسلمون عن الكلام في مثل هذه الأمور، ومن أصر على ذلك أرى أنه يبدع؛ لأننا لم نكلف بالحكم على مصائر العباد على التعيين، إنما كلفنا بالحكم بحكم الله عز وجل، وليس لنا إلا الظاهر، والله أعلم.

شبهة أهل التعطيل للصفات أو للأسماء والصفات والرد عليها

شبهة أهل التعطيل للصفات أو للأسماء والصفات والرد عليها Q ما حجة أهل التعطيل عندما قالوا في أسماء الله وصفاته: إنه سميع بلا سمع، عليم بلا علم؟ A هذا كلام المعتزلة؛ لأنهم قالوا: إذا قلنا: لله سمع وعلم إلى آخره، فهذا يعني: تعدد الصفات، وتعدد الصفات عندهم يدل على تعدد الموصوف، لكن هذه قاعدة مريحة لشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بعض الناس يتكلف في رد أصول أهل الباطل ظناً منه أن لها أصلاً، مع أن أصول أهل الباطل لا تعقل، فلا داعي أن نتكلف لردها؛ لأنك لو نظرت إليها بداهة لا يمكن أن يقرها العقل، لكن هؤلاء عقولهم غير سليمة، فلما كانت عقولهم غير سليمة بنوا أحكاماً غير سليمة؛ لو تأملناها لقلنا: كيف توصلت عقولهم التي يعتزون بها إلى هذا المقام من الخروج عن البدهيات ومصادمة العقل السليم والفطرة؟ فقول المعتزلة: إن تعدد الصفات يدل على تعدد الموصوف هل هذه قاعدة صحيحة؟ تأملوا، هل إذا تعددت الصفات صار الموصوف متعدداً، حتى في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- الإنسان كم له من صفة؟! الجماد كم له من صفة؟! كل هذا بسبب أن نظرتهم لله نظرة تجريدية ليست حقيقية، فهم وقعوا في معضلة: إذا وصفوا الله بالصفات فلا بد أن تنطبق الصفات على ذلك، وهم يهربون من إثبات الذات، وعبروا عن هذا بمسألة تعدد الموصوف؛ لأنهم يقولون: لا بد أن تتجزأ الذات والله غير متجزئ، تعالى الله عما يقولون، هذه فلسفات وأوهام، فمن هنا أهل التعطيل ليس لهم من الحجج إلا الشبهات الواهية التي لا يقرها العقل، وأهم شيء عندهم وقاعدتهم في التعطيل: أن الصفات لا بد أن تدل على موصوف، وإذا تعددت الصفات تعددت الموصوفات، وهذا لا يجوز في حق الله، هذا بالنسبة للمعتزلة. أما الجهمية فهم ينكرون ذات الله عز وجل، ولذلك أنكروا الأسماء والصفات، فقد قالوا: إن الاسم لا بد أن يدل على مسمى، والمسمى لا بد أن يكون له حقيقة ذاتية؛ ونظراً لأنه ليس لله عندهم حقيقة ذاتية فقد نفوا الأسماء والصفات بكل سهولة، يعني: المسألة ما فيها تعقيد في أولياتها، إنما التعقيد فيما يسلكونه من مسالك إلى مثل هذه الأمور التي تصادم البدهيات، نسأل الله العافية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[6]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [6] من خلال القراءة في كتب ابن عربي وأتباعه تتضح حقيقة مذهبهم، وما فيه من المخالفة للنصوص الشرعية، والمصادمة للفطرة السوية، فتجد التلبيس والتمويه والتحريف والقلب للحقائق التي لا تقبل الشك، من ذلك ثناؤهم على عبدة الأصنام، واعتقادهم إيمان فرعون مع تصريح الله بأنهم أكفر الكافرين، ومع هذا كله تجد من العوام والطغام من يصدق هؤلاء الزنادقة ويدافع عنهم، ويعتقد ولايتهم.

مقدمة بين يدي الكلام عن كتب ابن عربي الإلحادية

مقدمة بين يدي الكلام عن كتب ابن عربي الإلحادية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فسنقرأ المقطع الذي يتعلق بمذهب وحدة الوجود، وقبل أن نقرأ أحب أن أنبه إلى ما نبهت إليه سابقاً من أن في هذا المجلد بالذات سنكتفي بنماذج مما ذكره شيخ الإسلام عن أصحاب وحدة الوجود خاصة الرءوس الكبار، ونترك الباقي لأسباب من أهمها: أن الكلام مكروه، وأن سماعه في حد ذاته يؤلم ويدمي القلوب ويشوش؛ لأن الشيخ أراد بهذا الكلام الرد على طوائف معينة، ولا أرى بذلك أن يقرأ جميع المسلمين هذه الأمور ولا جميع طلاب العلم، إنما أراد الشيخ أن يبين حقيقة هؤلاء الزنادقة أصحاب وحدة الوجود والاتحاد والحلول، وأن يحذر الناس منهم، خاصة الذين اغتروا بهم، وأن يرد على مذاهبهم التي كانت موجودة في عصره رحمه الله، والآن نراها تنبعث من جديد، ولذلك سنقرأ هذا المقطع كأنموذج لمنهج ابن عربي، ثم نختار مقاطع أخرى لأئمة الضلال والزندقة الآخرين: التلمساني، ابن الفارض، القونوي، ابن سبعين، السهروردي المقتول، ونختار نماذج من مذاهبهم دون أن نتوقف عندها كثيراً، ثم نتجاوز هذا المجلد إلى مجلد آخر، وعلى هذا النحو نسير؛ لأنه ليس المقصود الاستقصاء، المقصود معرفة أصول هذه البدع والضلالات، وأحسن وسيلة للرد عليها هو كشفها، ثم نتجاوز ما فيه تكرار أو تعمق لا نحتاجه، بل ضرره أكثر من نفعه، فعلى هذا سنقرأ هذا المقطع لبيان أمور أنبهكم على ثلاثة منها: الأول: لتلاحظوا مدى التلبيس والخداع في مناهج هؤلاء الزنادقة وأساليبهم، كيف يلبسون الحق بالباطل، ويموهون على غير أهل العلم وعلى من لم يتمكنوا في العقيدة، يصورون الباطل المحض على أنه هو الحق. الثاني: أننا إذا تأملنا هذه العبارات التي سنقرؤها نجد فيها عبرة وعظة، لنحمد الله عز وجل على نعمة التوحيد والعقيدة، ولنعرف ضرورة النصح للأمة وتحذيرها من مثل هذه الأفكار، فإن في قراءة هذه الأفكار أو نماذج منها عبرة، ثم لنعرف مدى ضلال العقول إذا خذلها الله عز وجل. الثالث: أن هذه الأمور تخالف بدهيات يعرفها أبسط عوام الناس مخالفة صارخة، ومع ذلك يظنون أنها الهدى، وهذا دليل على أن من حجب الله الحق عن قلبه وطبع على قلبه أنه لا ينتفع بالهدى ولا بالنور الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، رغم أنه يستشهد بآيات وأحاديث، ويتقلب بين المسلمين ويسمع وتقام عليه الحجة، ومع ذلك يحجب الله قلبه عن الحق وكأنه لم يشاهد ولم يسمع ولم ير. هذه نماذج لمذهب رجل واحد هو ابن عربي، يعتبر صاحب مدرسة وحدوية، فُتِنَ بها كثير من الناس، بل اشتبه أمر هذا الرجل -وهذا من العجائب نسأل الله السلامة والعافية- على بعض فضلاء أهل العلم.

الحكم على كتاب فصوص الحكم لابن عربي وذكر نماذج إلحادية فيه

الحكم على كتاب فصوص الحكم لابن عربي وذكر نماذج إلحادية فيه يقول رحمه الله تعالى: [ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين في كتاب بين أظهر الناس، زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في منام زعم أنه رآه، وأكثر كتابه ضد لما أنزله، الله من كتبه المنزلة وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة]. هذا الوصف ينطبق على أغلب كتب ابن عربي، لكن زعم في كتابين من كتبه أنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، الأول: كتاب (الوصاية) لـ ابن عربي، كتاب كبير زعم أنه روى مقاطع كبيرة منه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيه هذيان من الكفر والضلال، نسأل الله العافية، ويزعم أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استمده منه. والكتاب الثاني: (فصوص الحكم) (فصوص الحكم) يعتبر خلاصة كتب ابن عربي الإلحادية الشركية، وله كتب كثيرة كلها مليئة بالباطل. قال رحمه الله تعالى: [فمما قال فيه: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنساناً؛ لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر. وقال في موضع آخر: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه]. يعني: الحق المنزه هو الله عز وجل. يقول: (هو الحق المشبه) يعني: المخلوق، انظروا إلى الكفر الصريح بدون التواء، بعبارة واضحة: الحق هو الخلق، هذا معنى كلامه، يعني: لا فرق بين الحق والخلق، ولذلك كما سيأتي جعل عبادة الأوثان هي حقيقة التوحيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في قوم نوح عليه السلام: إنهم لو تركوا عبادتهم لود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء]. يعني: من الأشياء التي يمدح بها هؤلاء الوثنيون أنهم ما تركوا عبادة هذه الأصنام، فهو يثني عليهم بعبادة الأصنام، بل في (فصوص الحكم) صرح بذلك وزعم أن عباد الأوثان، والذين أنكروا الله عز وجل مثل: فرعون، والذين تعالوا على الله عز وجل، والذين تكبروا وتجبروا هم أصحاب الحق، وأنهم أقرب إلى الحق من الأنبياء وأتباعهم، فهو يسمي الأنبياء وأتباعهم العامة والعوام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: فإن للحق في كل معبود وجهاً، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة. ثم قال في قوم هود عليه السلام: بأنهم حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق، مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا على صراط الرب المستقيم. ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد، فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا، أو يرضى به منه أم لا؟ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلاً بالغاً ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا؟ أفتونا بالوضوح والبيان، كما أخذ الميثاق للتبيان، فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال، وبالله المستعان وعليه الاتكال، أن يعجل بالملحدين النكال؛ لصلاح الحال، وحسم مادة الضلال]. يعني: السائل يسأل بحرقة؛ لأنه عبر عن أمر موجود بين من ينتسبون للعلم، وكأن التاريخ يعيد نفسه، اليوم بين المنتسبين للعلم من يغتر بمثل هذا الكفر، ويجعل له تأولات، ويقول: يمكن له وجه صحيح، أو يقول هذه وجهة نظر أو نحو ذلك من الأمور. فقد وجد حتى في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية من يصدق مثل هذا الكلام أو لا ينكره، أو يبحث ويسعى إلى المعاذير لهؤلاء الملاحدة الزنادقة، وهذا -نسأل الله العافية- من الضلال المبين، وهذه الأمور سيتكلم عنها الشيخ الآن بوضوح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأجاب: الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة المنكورة، كل كلمة منها هي من الكفر الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فضلاً عن كونه كفراً في شريعة الإسلام]. هذا الاستهلال في الرد منهج شرعي أصيل ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم اليوم، لما كثر التميع والخذلان للحق من قبل أهل الحق، فينبغي لطالب العلم في مثل هذه الأمور الواضحة الخطأ الباطلة، ينبغي عند الرد أن يستهل الكلام بالألفاظ التي تنفر القارئ من الباطل، وذلك بألا نستعمل الأساليب التي استعملها بعض المعاصرين وسموها: أساليب التجرد، ويزعمون أن على الإنسان أن ينقل هذه المقولات ويحكيها كما يحكيها أصحابها، وكأنه يدعو إليها، هذا لا يجوز، بل الباطل البين والخطأ البين عندما نرد عليه سواء بكلام شفوي أو مكتوب لا بد أن يتضمن الرد التنفير من الباطل والترغيب في الحق، وكشف الباطل والدفاع عن الحق، فالشيخ قال: (هذه الكلمات المذكورة المنكورة كل كلمة منها) هذا كلام مجمل أراد به قبل أن يفصل أن يحصن القارئ من أن تدخل في قلبه هذه الشبهات، وهذا هو الأسلوب الشرعي، لا كما يفعله بعض المثقفين والمعاصرين وبعض الكتاب الإسلاميين من نقل كلام المخالف على عواهنه؛ خشية غضب أهل الباطل، أو يخشون من أن يكون للقارئ موقف، لا، بالعكس في الأمر ا

حقيقة مذهب ابن عربي والقونوي والتلمساني وابن سبعين وابن الفارض والششتري وأتباعهم

حقيقة مذهب ابن عربي والقونوي والتلمساني وابن سبعين وابن الفارض والششتري وأتباعهم قال رحمه الله تعالى: [فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو (فصوص الحكم) وأمثاله مثل صاحبه القونوي والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلاً، بل عندهم ما ثم غير أصلاً للخالق، ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله، فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير؛ ولهذا جعلوا قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] بمعنى: قدر ربك ألا تعبدوا إلا إياه؛ إذ ليس عندهم غيره تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عبد الله]. يعني: أنهم فسروا (قضى) بمعنى قدر، وتلاحظون الفرق بين القضاء والقدر؛ لأن قضى معناها في كتاب الله عز وجل: شرع وأمضى ألا تعبدوا إلا إياه، لكن من البشر من عمل بمقتضى هذا الأمر ومنهم من لم يعمل، فهم فسروها بتفسير آخر، قالوا: إن الله قدر، يعني: إن الله كوناً وقدراً قدر ألا تعبدوا إلا إياه، فلذلك من عبد الأصنام فهو عابد لله؛ لأن ذلك كله من تخطيط الله، فعكسوا القضية تماماً وفسروا القضاء بمعنى القضاء الكوني القدري الذي لا يرد، فعلى هذا المعنى يكون الذين عبدوا غير الله إنما عبدوا الله بقضائه وقدره، وهذا لاشك أنه فهم منكوس، نسأل الله السلامة.

عقيدة ابن عربي وأتباعه في عبدة الأصنام وفرعون

عقيدة ابن عربي وأتباعه في عبدة الأصنام وفرعون قال رحمه الله تعالى: [ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب عباد العجل مصيبين، وذكر أن موسى عليه السلام أنكر على هارون عليه السلام إنكاره عليهم عبادة العجل. وقال: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبدوا إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتباعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء. ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين المحققين، وأنه كان مصيباً في دعواه الربوبية، كما قال في هذا الكتاب: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي لذلك، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما فأنا الأعلى منهم؛ بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم. ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، فالدولة لك، فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وأنه كان عين الحق. ويكفيك معرفة بكفرهم: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمناً، بريئاً من الذنوب كما قال، وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان، الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئاً من الآثام، والإسلام يجب ما قبله]. المتأمل لهذا الكلام يعجب ليس فقط من قول ابن عربي فيه؛ لأن قوله مخالف لصريح النصوص، وليس فيه لبس ولا ريب ولا اشتباه، لكن العجب كيف ينطلي هذا الكلام على أناس يعدون من عقلاء البشر، فضلاً عن أن يكونوا من المسلمين؟ وكيف يكون لهذا الكلام أنصار؟ نسأل الله السلامة والعافية، يعني: كلام فيه قلب كامل للحقائق، لا نعرف أكفر من فرعون في البشرية جمعاء، ومع ذلك يقول هذا الكلام فيه. بل له رسالة طبعها بعض المحتسبين في سبيل الشيطان، رسالة موجودة الآن مطبوعة اسمها: (إيمان فرعون) نسأل الله السلامة، يقرر هذا الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. فإذاً: ليس العجب من قائل هذا القول، لكن العجب أن ينطلي هذا الكلام الكفري على طوائف من المسلمين، يعني: لو اجتمع كثير من أهل البيان واللغة والفصاحة ليعبروا عن الكفر بأوضح من هذا التعبير ما استطاعوا، يعني: ليس فيه لا التباس ولا التواء يعني: قلب للحقائق وعكس للأمر تماماً بلسان عربي ظاهر بين ليس فيه شيء من العجمة أو الركاكة، بل أسلوبه أخاذ وعنده عربية جيدة، فيعبر بها عن الباطل تعبيراً ظاهراً لا يلتبس بالحق فهو باطل خالص.

بيان من يدخل في لفظ: آل

بيان من يدخل في لفظ: آل قال رحمه الله تعالى: [وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق بالله، بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون، ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره وطغيانه وعلوه أعظم مما ذكر عن فرعون. وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب، فإن لفظ آل فرعون كلفظ آل إبراهيم وآل لوط وآل داود وآل أبي أوفى، يدخل فيها المضاف باتفاق الناس، فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس، أو من هو من أعظم أعدائه فجعلوه مصيباً محقًا فيما كفره الله به، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟! وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته].

تكفير السلف للجهمية فضلا عن أصحاب وحدة الوجود

تكفير السلف للجهمية فضلاً عن أصحاب وحدة الوجود قال رحمه الله تعالى: [والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا: إنه في كل مكان، وكان مما أنكروه عليهم أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك، فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟ واتفق سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن هؤلاء غاية كفرهم أن يجعلوه مثل المخلوقات، لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات، وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بهما كل كافر، وكل فاجر، وكل شيطان، وكل سبع، وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، وسبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. والله تعالى ينتقم لنفسه ولدينه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم. وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم، حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17]، فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله، وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء. ولما قرءوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم، قال له قائل: هذا الكتاب يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا هذا. يعني: أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له القائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذاً؟ قال: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم. وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم: إنها كفر، لم يفهم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم، ولهذا قيل لرئيسهم: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني، وكان عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهؤلاء شر من أولئك الجهمية؛ فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان، وهؤلاء قولهم: إنه وجود كل مكان، ما عندهم موجودان، أحدهما حال والآخر محل].

قول أصحاب وحدة الوجود في آدم وعبدة الأصنام والرد عليهم

قول أصحاب وحدة الوجود في آدم وعبدة الأصنام والرد عليهم قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قالوا: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين، وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المرسلين: أن من قال عن أحد من البشر إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل إذ النصارى لم تقل هذا، وإن كان قولها من أعظم الكفر، لم يقل أحد: إن عين المخلوقات هي جزء الخالق، ولا أن الخالق هو المخلوق، ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه. وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها. هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. وقال الخليل عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]. وقال الخليل وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، واتفق أهل الملل على تعظيمه، لقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79]، وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من اليهود والنصارى فضلاً عن المسلمين من أن يحتاج أن يستشهد عليه بنص خاص، فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلاً من الحق بقدر ما ترك منها؟ مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط، كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وقال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]. وكانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وخالق الأصنام، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]. وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، ثم يعبدون غيره، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28]].

كفر أصحاب وحدة الوجود أعظم من كفر عباد الأصنام

كفر أصحاب وحدة الوجود أعظم من كفر عباد الأصنام قال رحمه الله تعالى: [وهؤلاء أعظم كفراً من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابداً لله لا عابداً لغيره، وأن الأصنام من الله بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، وبمنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة، ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسماوات والأرض رباً غيرهما خلقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض وسائر المخلوقات رب مغاير للسماوات والأرض وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق. ولهذا جعل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم، وجعلهم في عين القرب، وجعل أهل النار يتمتعون في النار، كما يتمتع أهل الجنة في الجنة. وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم فهو أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه. وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء، وبيان كفرهم وإلحادهم؛ فإنهم من جنس القرامطة الباطنية والإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى. وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل، كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري لما اجتمع بـ ابن عربي صاحب هذا الكتاب، فقال: رأيته شيخاً نجساً، يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله. وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام لما قدم القاهرة وسألوه عنه، قال: هو شيخ سوء كذاب مقبوح؛ يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجاً. فقوله: يقول بقدم العالم؛ لأن هذا قوله، وهذا كفر معروف، فكفره الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله، وإن العالم صورة الله، وهوية الله، فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم، الذين يثبتون واجب الوجود، ويقولون: إنه صدر عنه الوجود الممكن. وقال عنه من عاينه من الشيوخ: إنه كان كذاباً مفترياً، وفي كتبه مثل: (الفتوحات المكية) وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب، هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين ومن القونوي والتلمساني وأمثاله من أتباعه، فإذا كان الأقرب بهذا الكفر الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام؟ ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر. ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم، غير عالمين بباطن كفرهم؛ ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقاً منافقاً، وإما جاهلاً ضالاً]. هذا واقع الباطنية إلى اليوم، فالباطنية في جميع بقاع العالم الآن لهم أتباع من الدهماء والشعوب التي تعيش حولهم والقبائل، كما يحدث الآن من المكارمة، فالمكارمة الآن تنضوي تحت مذهبهم الباطل قبائل من قبائل العرب التي كانت على السنة والفطرة، لكنها جاهلة، وسبب اغترارهم بهم ما ذكره الشيخ: أولاً: أنهم لا يعرفونهم بحقائق عقيدتهم الصحيحة. ثانياً: أنهم انتسبوا للتشيع وإلى آل البيت وأظهروا الغيرة على آل البيت. ثالثاً: أنهم يستدرونهم بالعطاء والأساليب المغرية.

حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم

حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم قال رحمه الله تعالى: [وهكذا هؤلاء الاتحادية فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة؛ فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولة التتار، ويختارون انتصارهم على المسلمين، إلا من كان عامياً من شيعهم وأتباعهم؛ فإنه لا يكون عارفاً بحقيقة أمرهم. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر، ومن كان محسناً للظن بهم وادعى أنه لم يعرف حالهم عرف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم. وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رءوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكياً فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقداً لهذا باطناً وظاهراً فهو أكفر من النصارى، فمن لم يكفر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد. والله أعلم]. نسأل الله العافية والسلامة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى التجرد عند الأدباء المعاصرين وبيان أنواعه

معنى التجرد عند الأدباء المعاصرين وبيان أنواعه Q يوجد عند بعض الأدباء استدراكات في أي نص أدبي، بحجة أن على الأديب أن يتجرد من جميع العواطف حتى يكون موضوعياً، فما حكم ذلك؟ A التجرد الذي يدعو إليه الأدباء على نوعين: غالبهم يقصدون بالتجرد التجرد من كل شيء حتى من الحق ومن العقيدة، ألا يكون لك عقيدة ولا رأي، ولا تستند على الوحي، وعليك أن تنظر إلى النص نظرة من موازين أدبية أو عرفية عندهم، وهذا يصل إلى الكفر، وأحياناً يقصدون بالتجرد التجرد من أن يكون لك موقف شخصي تجاه القضية، وهذا حق. وأغلب الأدباء الكفار الذين ليس لهم دين ولا عقيدة، والذين ما عندهم موازين الحق، يتجردون حتى من عقائدهم الباطلة، فهذا طبيعي. أما المسلم فلا يجوز له أن يتجرد من دينه وعقيدته. إذاً: دعوة الأدباء أغلبها دعوة باطلة وليست على وجهها الصحيح.

الحكم على الحداثيين

الحكم على الحداثيين Q هل يعتبر الحداثيون في هذا العصر من أتباع أهل وحدة الوجود؟ A نعم، كبار الحداثيين مؤسسي الحداثة في العصر الحديث الأحياء منهم وكذلك الذين هلكوا من أشكال ابن عربي وأمثاله ينتسبون للباطنية انتساباً وديناً، كذلك كبار الحداثيين الذين تصدروا الحداثة في العصر الحديث هم من هذا الصنف، أما بقية الحداثيين الذين يعيشون بين ظهرانينا إما مقلدة وجهال، وإما ممن يطبلون وراء هذه المذاهب الباطلة وهم يعلمون أنها باطلة، وما يذهب مع الحداثيين إلا إنسان ليس في قلبه إسلام صحيح، هذا الذي يظهر لي من خلال استقراء أحوالهم، ويظهر من قرائن أحواله وكتاباته أنه منافق، اللهم إلا القليل ممن قد يتناولون الحداثة من جانب أدبي، لكنهم ينغمسون في الإلحاد ولا يشعرون أنه إلحاد، فما أدري هذا الصنف ماذا أحكم عليه؟ وكيف نتصرف معه أو نصنف حاله؟ لأن أمره عجيب، يعني: يوجد من الأدباء الصغار ممن يدور حول هؤلاء الحداثيين الزنادقة وهو معجب بهم، لكن قد لا يكون عنده كفريات مثلهم، فهذا أمره يحير؛ لأنك تجده يقرأ نصاً كفرياً ويدندن حوله، ويمدح ويثني على أسلوب الكاتب، والمعاني التي وراء هذه العبارات ونحو ذلك، فأمر هذا الصنف في الحقيقة وإن كان قليلاً عجيب جداً، وقد قلوا في الآونة الأخيرة، أما البقية فهم من الحداثيين الأصليين الذين ينتمون إلى هذه المذاهب الخبيثة.

طلب الهداية من الله

طلب الهداية من الله أحب أن أختم الموضوع الذي قرأناه قبل قليل بالتنبيه على أمر أشرت إليه في أول الحديث، والمناسب أن نختم به، وهو أن مسألة ظهور هذا الباطل ووجود من يغتر به أو أن يوجد له أتباع ممن ينتسبون للإسلام هذا أمر ليس بغريب، إذا عرفنا أن مسألة الهداية والتوفيق لا دخل للعقول بها، وأن الله عز وجل إذا كتب الضلال على إنسان فلن تجد له ولياً مرشداً، مهما كان قوة عقله وإدراكه وعلمه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يسأل الله العافية، وأن يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وألا يغتر بعقله ولا بعلمه، إنما يلجأ إلى الله عز وجل، ومثال ذلك مثال واضح: أن الله عز وجل عندما يبعث الناس يوم القيامة ويشهدون مشاهد القيامة المرعبة الرهيبة ثم يدخل أهل النار النار نسأل الله العافية، يتمنى الواحد منهم أن يرد إلى الدنيا، لماذا؟ ليعمل صالحاً، ومع ذلك قال الله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، كيف بإنسان عاش أهوال القيامة ألف عام في المحشر، ثم رأى ما رأى من انقلاب الأمور الكونية، ثم النار الشديدة العذاب، ويتمنى أن يرجع ليعمل صالحاً ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] بهذا تدرك أن الأمور كلها بيد الله وحده، وأنك لابد أن تعتصم بالله سبحانه، وأن الهداية بيد الله، لا دخل لقدرة البشر ولا عقولهم ولا علمهم ولا إمكاناتهم بذلك. ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[7]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [7] لقد تصدى علماء السلف لمقولات المبتدعة المخالفة للعقيدة الصحيحة، فقد تصدى شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لتفنيد مقولات ابن عربي وأتباعه الإلحادية، التي تفضي إلى وحدة الوجود، فهم لا يرون الخالق متميزاً عن المخلوق، وأصحاب وحدة الوجود فلاسفة دهرية، وقد أثرت مقولاتهم على عوام الناس، وتأثروا بأصحابها، واعتقدوهم أولياء لله تعالى وهم أولياء للشيطان، فكان لزاماً على العلماء أن يقوموا بواجب البيان لما عليه هؤلاء الزنادقة من الإلحاد والاتحاد، حتى يحذر المسلم من الوقوع في الكفر والزندقة.

الرد على مقالة ابن عربي وغيره أن المعدوم شيء ثابت في العدم

الرد على مقالة ابن عربي وغيره أن المعدوم شيء ثابت في العدم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فدرس اليوم سيكون فيما يتعلق برد شيخ الإسلام على أهل الإلحاد والحلول والاتحاد، وسنجد أنه كرر كثيراً من المسائل، وأحياناً يستطرد استطرادات في مسائل أجمل فيها في مواضع أخرى، فمن هنا سننتقي من خلال هذا المجلد مواضيع معينة تتعلق بأهم مناهج أهل الحلول والاتحاد، وأهم أشخاصهم الذين تأثرت بهم طوائف من هذه الأمة، وعلى رأسهم ابن عربي، وقرأنا في الدرس الماضي جملة مما قاله ابن عربي، واليوم أيضاً نعرج على جزء آخر مما عرضه شيخ الإسلام ابن تيمية من مقالة ابن عربي، ثم ننتقل بعد ذلك إلى آخرين، ما سنبدأ به هذه المقالة من مقالات ابن عربي والرد عليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المقالة الأولى: مقالة ابن عربي صاحب (فصوص الحكم). وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير؛ ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه فإن مقالته مبنية على أصلين. أحدهما: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة]. سيكرر الشيخ مسألة: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، وهذه المسألة من الناحية العقلية والبدهية غير معقولة وغير سائغة؛ لأن العدم ما سمي عدماً إلا لأنه لا يقبل الوصف في الوجود أصلاً، والثبوت لا يوصف به العدم، فقولهم: إن المعدوم شيء ثابت في العدم. راجع إلى أنهم يعتقدون أن الوجود كله إنما يكون من عناصر أولية، وهذه العناصر الأولية يعبرون عنها بالعدم، ومع أن هذا من الناحية العقلية غير معقول لكن هذه مقولتهم؛ لأنهم لا يعتقدون لله عز وجل تميزاً عن المخلوقات، أو زعموا أن المعدوم شيء ثابت في العدم وهو العناصر الأولية للوجود؛ لأنهم لا يؤمنون بأن الله يخلق من اللا شيء شيئاً؛ لأن هذا يؤدي إلى تميز المخلوق عن الخالق وهم لا يرون التميز، ولذا لا يرون الخالق متميزاً عن المخلوق، فهم دهرية، لكنهم أرادوا أن يحموا أنفسهم من نتائج الإلحاد في وقت عز الإسلام والمسلمين، فتلونوا بهذا التلون، وإلا فهم فلاسفة دهرية أصحاب وحدة وجود لا يرون للخالق تميّزاً، فإنهم لو قالوا: إن هناك شيئاً اسمه عدم، للزم أن يكون الله عز وجل خلق من العدم أو من اللا شيء، ولزم أن الخالق غير المخلوق وأن المخلوق غير الخالق، وهم لا يقولون بذلك، يقولون: ما الخلق إلا مظهر من مظاهر الخالق، فعلى هذا أنكروا أن يكون المعدوم عدماً، إنما قالوا: هو ثابت في العدم. قال رحمه الله تعالى: [وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون: إن كل معدوم يمكن وجوده، فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم]. يعني: هم يرون أن عناصر الخلق موجودة قبل ظهور الخلق، لم يوجدها الله من لا شيء، فهي عناصر موجودة، وهذا هو المذهب الذي يقوم عليه أغلب النظريات الغربية اليوم، لذلك أصحاب العلم الحديث قامت أكثر نظرياتهم على إنكار الغيب، ولا يرون أن الموجودات وجدت من العدم، وأن جميع الموجودات ما وجد منها وما سيوجد عناصره موجودة أصلاً في الكون، وليس لله فضل ولا لخلقه ميزة في إيجاده للخلق، إنما الخلق وجد بموجب عناصر معينة بها تكونت المخلوقات. وهذا مذهب فلسفي قامت عليه الوثنية اليونانية والرومانية القديمة، وارتكزت عليه أيضاً العلمانية الحديثة، التي قامت على إثرها النهضة المدنية الحديثة في الغرب، ولذلك تجدون أن المدنية الحديثة غير متوازنة؛ لأنها قامت على إشباع المادة دون الروح، وقامت على إنكار الوحي وإنكار الحق، واستعلت وبطرت وظنت أنها انتصرت على الحق؛ لأنها قامت على جهودهم العلوم التجريبية الحديثة، فظنوا أن أسس هذا العلم إنما هي مادية بحتة وليس وراءها أي أمر من أمور الغيب. قال رحمه الله تعالى: [لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت. لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، وقد كفّرهم بها طوائف من متكلمة السنة، فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون: إن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها، وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه. وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث. وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت ف

الرد على مقالة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وأن الوجود صفة للموجود

الرد على مقالة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وأن الوجود صفة للموجود قال رحمه الله تعالى: [وإن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون: الوجود صفة للموجود. وهذا القول وإن كان فيه شبه بقول القائلين بقدم العالم، أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فليس هو إياه]. يعني: هذا قول الفلاسفة، ولذلك ندرك جيداً وبدون أي تكلف أن مذاهب هؤلاء كـ ابن عربي والتلمساني والقونوي وابن سبعين والسهروردي المقتول وكل هؤلاء ما جاءوا بجديد، مذاهبهم موجودة عند فلاسفة اليونان والرومان والصابئة، وفلاسفة المجوس، وفلاسفة الهنود، وإنما هؤلاء أعطوها صفة الألفاظ والمعاني الشرعية، ونسبوها إلى الإسلام فقط، وإلا فهم لم يأتوا بجديد. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان بينهما قدر مشترك؛ فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوانات والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن. وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السماوات والاستحالات القائمة بالعناصر، من حركات الكواكب، والشمس، والقمر، والسحاب، والمطر، والرعد، والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم؛ فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم، أو بأن مادته قديمة، يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون: إن مواد جميع العالم قديمة دون صوره. واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً؛ فإن هذا لا يكون إلا للحق]. هذه قاعدة عظيمة لمن تأملها، وهذا الأمر هو الذي يجعل الباطل يلتبس على عامة العقلاء إذا لم يوفقهم الله عز وجل لبصيرة نافذة وللاهتداء بهدى الله عز وجل، وهذه الأمور مع أنها تصادم البديهة فإنها تلبس؛ لأنه لا يتصور أن عاقلاً يقول بهذا القول، فيظن أن لقوله وجهاً آخر فيلتبس عليه الأمر، وإلا هل يعقل أن مواد جميع العالم أزلية تماثل الله عز وجل؟ هذا مستحيل؛ لأنه لا يمكن أن يكون الموجود إلا عن خالق أزلي لا بداية له كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه الأول الذي ليس قبله شيء. إذاً: هذه قاعدة في أكثر أمور الباطل، يقول: (واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً) لماذا؟ لأنك كيف تستطيع أن تتصور الباطل وهو باطل؟ لا تستطيع أن تتصور الباطل الذي لا حقيقة له تصويراً ينبئ عنه إلا بضده؛ فلذلك لا يتصور الباطل إلا بتصور الحق، فإذا ثبت الحق في قلب الإنسان عرف الباطل؛ لأن الباطل لا يُعقل ولا يُعقل إلا الحق، إنما يتوهم الباطل توهماً. إذاً: الباطل أوهام، سواء في نفس القائلين به أو في نفس السامعين له، أو فيمن يريد أن يعبّر عن الباطل حتى ولو كان من أصحاب الحق لا بد أن يعبّر أنه أوهام؛ لأن الباطل وهم، هذه الفلسفة وإن كانت صعبة، لكنها بدهية لمن تأملها على سعة؛ ولذلك مثل هذه العبارة يجب أن تأملوها على سعة من وقتكم. فقوله: (واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه) يعني: أحياناً يكون الأمر فيه التباس، فالالتباس يوجد عند الإنسان، فهو يرى الحق من جهة، ويلتبس عليه الباطل من جهة أخرى، لكن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يمكن الناقد له، بل حتى المتكلم به أو المعبّر عنه أن ينقله على وجه يتصور تصور حقيقاً إلا على وجه الخيال والتوهم؛ لأن الباطل كله وهم، وليس له حقيقة، وليست الحقيقة إلا للحق.

منشأ اشتباه الباطل على أهل الباطل

منشأ اشتباه الباطل على أهل الباطل قال رحمه الله تعالى: [فأما القول الباطل فإذا بُيّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد؟ ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات، وأنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]، وأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعقلون، وأنهم في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، وأنهم في ريبهم يترددون، وأنهم يعمهون، وإنما نشأ والله أعلم الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه أو {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته؛ فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة، وليس الأمر كذلك]. من الأمور التي ينبغي أن نفهمها من مثل هذه المقالات، وهي متقررة في الكتاب والسنة أنه يجب أن نفرق في فهم الحق بين الحقائق العلمية المشاهدة والمعلومة بالتجربة وبالحواس، وبين الحقائق الغيبية، فالحقائق العلمية التجريبية سواء في سلوك الإنسان، أو في العلم التجريبي، أو في أي أمر من أمور الشهادة وسيلتها مدارك الإنسان، سواء كان مسلماً أو كافراً، فكل إنسان يدرك بعقله أن (1+1=2) هذه مسألة لا تحتاج أن يتميز بها المهتدي عن الضال، وكل إنسان يدرك أن هناك فرقاً بين اللون الأبيض واللون الأسود، إذا كانت عنده الحاسة التي يدرك بها. وإذا كانت عنده حاسة الشم فإنه يستطيع أن يدرك المشموم الطيب من المشموم الخبيث، ولا أحد ينازعه في ذلك وهكذا. فالمدركات التي تخضع للحواس حقائقها تدرك بوسائلها التي أعطاها الله للبشر، لكن المدركات الغيبية ليس لها إلا طريق واحد، وهذا الطريق لا يمكن أن يصل إليه الإنسان إلا بتوفيق الله عز وجل والتزام الوحي، بهداية من الله، وإذا حجبه الله عن الهداية ولم يلتزم بالوحي فمهما أوتي من العقل والذكاء والقدرات العلمية والعلوم التجريبية فلن يصل إلى حقيقة غيبية أبداً، لا يثبتها ولا ينفيها، لا يستطيع بهذه الوسائل مهما كانت جبّارة عند الإنسان، لو اجتمعت قوى البشر كلهم لا يمكن أن ينفوا حقيقة من حقائق الغيب، ولا أن يثبتوها بدون الوحي، وهذا هو الفارق بين الحقائق. إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يعجب من وقوع هؤلاء في مخالفة البدهيات؛ لأنهم أضلهم الله، بل عليه أن يسأل ربه العافية والهداية والتوفيق؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم المحفوظ بحفظ الله يقول: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك). فالإنسان إذا انقلب قلبه عن الهدى إلى الباطل لا يدرك البدهيات الغيبية أبداً، حتى وإن كانت بدهية، حتى فيما يتعلق بالله عز وجل وبوجوده قد يوجد من الناس من ينقلب فكره وعقله وتفكيره حتى ينكر ربما ذاته هو، فقد وجد من الفلاسفة المشائين من أحدثوا فلسفة يعتقد فيها بعضهم أن وجودك أنت فيه شك، وهذا المذهب وجد عند الغربيين، فعندهم أنك يا من تعبر عن نفسك أن تفترض أن وجودك فيه شك، هذه مخالفة للبدهيات. فإذاً يجب على المسلم دائماً وطالب العلم بخاصة أن يستحضر هذا الأمر، وهو أنه لا يعجب من وجود أناس قد ينتسبون للحق، وقد يقولون بأنهم مسلمون، وقد يقولون بأنهم أهل علم وفقه ودراية، ومع ذلك يذهلون عن البدهيات الشرعية؛ لأن إدراكها إنما يكون بتوفيق الله عز وجل، لا بمدارك الإنسان، فإذا رأى مثل هذه الأمور فيجب على المسلم أن يستحضر سؤال ربه العافية، وأن يسأل الله الثبات على الحق والهدى. قال رحمه الله تعالى: [وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن]. يعني: نحن لا نعلم الموجود كله، إنما نعلم معنى كلمة الوجود، الواحد منا يعلم معنى الوجود، أو معنى الموجود ومعنى المعدوم، يعني: التصور الذهني، فإذا عرفنا أن لغة أي إنسان مؤدية إلى التعبير عن المفاهيم، فإنا نعلم أن التعبير عن المعدوم المقصود به عكس الموجود، وهو اللا شيء، وهو العدم المحض؛ لأنه لا يسمى المعدوم معدوماً إلا إذا كان غير موجود. قال رحمه الله تعالى: [والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل]. هذا على حسب المدارك العقلية. قال رحمه الله تعالى: [ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب]. قوله: (يعلم) هنا بمعنى أنه يتصور، وليس بمعنى أنه يعلم بدون تعليم، نحن ما علمنا آدم والأنبياء، ولا علمنا القيامة والحساب إلا بما علمنا الله عز وجل عن طريق كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: قصد الشيخ هنا بقوله: (يعلم) بمعنى أنه يتخيل ويتصور ما ورد في الخطاب الشرعي، فلما جاءنا في الخطاب الشرعي خبر عن آدم علمنا بوجود آدم، وتخيلنا لآدم صورة، وكل منا الآن في ذهنه صورة عن آدم، وهي تقرب إلى الحقيقة، الصورة الإجمالية أما الصورة التفصيلية لا تكون إلا لمن رأى ونحن لم نر، إنما آمنا بالغيب، ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك.

بطلان حديث: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)

بطلان حديث: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) قال رحمه الله تعالى: [وأما ما يرويه هؤلاء الجهال كـ ابن عربي في الفصوص وغيره من جهّال العامة: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين، كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين) فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل؛ فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً، وأيبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولو قيل: بين الماء والتراب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها، وإنما قال: (بين الروح والجسد)، وقال: (وإن آدم لمنجدل في طينته)؛ لأن جسد آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] الآية. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ} [الحجر:28] الآيتين. وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] الآيتين. وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] الآية. والأحاديث في خلق آدم ونفخ الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً، أي: كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد، وهذا -والله أعلم- لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدّر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه]. نخلص من هذا بنتيجة هي الفارق بين فهم أهل الحق وبين فهم كثير من الباطنية والفلاسفة والصوفية في مسألة النبوة، فهؤلاء الذين اعتقدوا الباطل في النبوة زعموا أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلة فعلاً قبل خلق آدم، وأخذوا بظواهر هذه النصوص، وبنصوص أخرى ضعيفة ومكذوبة، وما علموا أن مسألة تقدير الله عز وجل للأشياء غير مسألة الحصول، بما في ذلك نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا نصوص أخرى، فإنه فرق بين تقدير النبوة وبين حصولها، أما التقدير والكتابة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كغيرها من المقادير، قدره الله عز وجل قبل خلق آدم، لكن حصولها لم يحدث إلا بعدما قدر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون نبياً، واصطفاه بعد أن بلغ أربعين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لم يكن نبياً، نعم قدر الله في القدر السابق أنه سيكون نبياً إذا جاء وقت نبوته، ولذلك يجب أن نفرّق، وهذا في كثير من التوهمات التي عند الصوفية خاصة في الولاية والنبوة والوحي وأشياء كثيرة، لذلك اعتقدوا للمشركين الولاية؛ لأنهم يعتقدون أن سلسلة النبوة تسلسلت بالوراثة والولادة من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وحكموا على كل هذه السلسلة بأنهم لا بد أن يكونوا من أهل الجنة وأن يكونون أولياء، بل يكونون أنبياء، بل إن الرافضة وحتى الصوفية جعلوا النبوة تورث حتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم على وجه آخر، هؤلاء يسموها الإمامة، وهؤلاء يسموها الولاية، بناء على فلسفة كل طائفة، وأن القداسة موروثة لا بد أن تورث، فجاء هذا المذهب ودخل على الأدباء ودخل على الفلاسفة، ودخل على الفرق، ودخل على الصوفية، ودخل على كثير ممن ينتسبون للإسلام من فرق المسلمين، وذلك أنهم لم يفرقوا بين التقدير السابق وبين حصول القدر، التقدير السابق أن الله عز وجل قدّر للنبي صلى الله عليه وسلم النبوة كما قدّر جميع أقدار الخلق قبل خلق آدم، لكن حصول النبوة لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم إلا حينما اصطفاه الله عز وجل، ولذلك الله عز وجل وصف النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بصفات: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] يعني: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فلو كان مشتملاً على النبوة لعلم، لكن ما اشتمل على النبوة إلا بعدما اصطفاه الله عز وجل وكذلك بقية الأنبياء. إذاً: يجب أن نفرق بين تقدير النبوة قدراً، وبين حصولها فعلاً كسائر المقدرات في أقدار الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق، وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول، وأجمعوا على تصديقها، وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيق

حقيقة المعدومات

حقيقة المعدومات قال رحمه الله تعالى: [وهذه المعدومات الممتنعة ليست شيئاً باتفاق العقلاء مع ثبوتها في العلم، فظهر أنه قد ثبت في العلم ما لا يوجد وما يمتنع أن يوجد؛ إذ العلم واسع، فإذا توسع المتوسع وقال: المعدوم شيء في العلم، أو موجود في العلم، أو ثابت في العلم فهذا صحيح، أما أنه في نفسه شيء فهذا باطل، وبهذا تزول الشبهة الحاصلة في هذه المسألة]. نعود إلى معنى العلم هنا؛ لأن كلام الشيخ في الحقيقة مشكل، لو أُخذ على ظاهره لقلنا: هذا باطل، لكن السياق يدل على قصد الشيخ، فمثلاً قوله: (وهذه المعدومات) إلى آخره، ثم قوله في السطر الثاني صفحة (146): (ويعلم أحدنا ما لم يكن لو كان كيف سيكون) هذا معناه علم الخيال وليس علم الحقيقة، فنحن لا نعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، أو أن في العبارة خللاً وسقطاً؛ لأن هذا التعبير يقال في حق الله عز وجل، الله هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فإما أن يكون في العبارة سقط، أو أن الشيخ قصد العلم التخيلي، ونقارنه بنفس الصفحة التي نحن فيها (155). وقوله: (إذا توسع المتوسع وقال: المعدوم شيء في العلم) يعني: في التخيل، فأنت عندما تقول كلمة في تعبيرك عن المعدوم تدل على مفهوم معيّن، هذا المفهوم سماه الشيخ علماً لا حقيقة، يعني: علم خيالي، أن تتخيل ما معنى كلمة معدوم وما معنى كلمة موجود؛ لأنها عبارات تعبّر عنها، ويؤيد هذا قوله: (أما أنه في نفسه شيء) يعني: المعدوم (فهذا باطل). وأما كونك تعلم معنى كلمة معدوم ومعنى كلمة موجود فلا شك أنك ما عبّرت عنها إلا لأن في ذهنك عنها خيالاً، وتعلم عنها مفهوماً، فالشيخ يقصد المفهوم لا الحقيقة، والمفاهيم لا حجر لها، فالإنسان إذا تكلم عن الخيالات فهم لها مفاهيم خيالية في ذهنه، فهذه تسمى تخيلات أو تسمى تصورات، لكن ليست حقائق إلا إذا كانت تنطبق على معلوم بالحواس أو معلوم بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الأمثلة التي أوردها بعد ذلك في الآيات فقصده أنه سيعلم أن هناك مآلاً، مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] نحن نعلم أن الكفار لو ردوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى كفرهم. إذاً: السياق يدل على معنى كلام الشيخ، لكن لو أخذنا العبارة بدون السياق ففيها إشكال، يعني: كيف نقول: إن أحداً يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون؟ يعني بمعنى أنه يعلم خبر الله عز وجل؟ لكن هذا بالخبر ليس بعلمنا نحن، وهو راجع إلى خبر الله ليس إلى علمنا، فالموضوع فيه لبس؛ ولذلك أنا وضعت كلمة (معنى) (فيعلم معنى ما لم يكن لو كان كيف يكون) من هنا تستقيم العبارة، والاستدلال لها يدل على مقصود الشيخ، فالشيخ كأنه يقول: إنه ما لم يكن إذا تخيلناه علمنا كيف يكون، إما بما يتعلق بخيالاتنا، وإما بما أُخبرنا عنه من أمور المستقبل وأمور الماضي، مما ورد فيه، فإنا نتخيل كيف يكون، لكن لا نعلم الكيفية. فالمقصود الحقيقة المتخيلة أو الحقيقة المتصورة، فإن كان مما نعبّر نحن عنه في خيالنا فهذا خيال، وإن كان مما نفهمه من كلام الله عز وجل في أمر الغيب فهذا تصور للحقيقة، أما كيفية الحقيقة فلا نعلمها إلا إذا صارت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيء، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] فأخبر أنه لم يك شيئاً. وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:67]. وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم؛ ولهذا قال جبير بن مطعم رضي الله عنه: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع. ولو كان المعدوم شيئاً لم يتم الإنكار، إذا جاز أن يقال: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئاً معدوماً، وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]، ولو كان المعدوم شيئاً لكان التقدير: لا يظلمون موجوداً ولا معدوماً، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه، فإنه ليس لهم. وأما قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] فهو إخبار عن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم، ليس إخباراً عن الزلزلة في هذه الحال؛ ولهذا قال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2]، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير. وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَ

[8]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [8] مذهب الاتحادية من شر المذاهب التي طرأت، فهو نتاج لتزاوج عدد من الطوائف فيما ضلوا فيه من العقائد، فنتج عن هذا التزاوج تركيبة فاسدة تزكم لها الأنوف وتشمئز لها النفوس، فقد اجتمع فيها ما عند الجهمية من السلب والتعطيل، وما عند الصوفية من مجملات متشابهات، وما عند زنادقة المتفلسفة من الكلام في الوجود المطلق والوجوب والإمكان وغيرها من الأباطيل.

فصل فيما خالف فيه الصدر الفخر الرومي شيخه ابن عربي

فصل فيما خالف فيه الصدر الفخر الرومي شيخه ابن عربي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فحينما تعمق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسائل المشكلة والمعضلة إنما أراد في وقته أن يرد على مذاهب باطلة، ابتلي بها كثير من الناس من عامة المسلمين وخاصتهم، ولا أظن أنه كتب مثل هذه الكتابات ليقرأها عامة طلاب العلم، فلذلك كما قلت سنقف عند بعض المواضع التي أرى أنها مفيدة، وفيها مواطن للعبرة والعظة، وفيها أيضاً تسلّح لطالب العلم بالضروريات في محاربة هذه الاتجاهات وحماية النفس والأمة منها. هنا إشارة إلى قول رأس من رءوس الإلحاد نسأل الله العافية والاتحاد وحدة الوجود، وهو الفخر الرومي، فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي هذه المقاطع سنمر على إشارات أشير إليها في مواطنها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الفصل: [وأما صاحبه -أي: صاحب ابن عربي - الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه] أي: أنه أكثر ولوغاً [لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ، ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر، فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود ولا بد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين]. ثم ذكر شيخ الإسلام خلاصة مذهبه فقال: [فعنده أن الله عز وجل هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز] تعالى الله عمّا يزعمون [وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها]. هذا القول نتيجة للتعطيل الذي قال به الجهم بن صفوان وأتباعه، فإنهم لما نفوا عن الله عز وجل الذات والصفات والأفعال، ما بقي في أذهانهم وفي تصورهم عن الله إلا مجرد الوجود المطلق في الأذهان، والوجود المطلق خلاف الواقع، وخلاف الوجود الفعلي، الوجود المطلق هو مجرد ما تتوهمه العقول، ومجرد ما تتصوره الأذهان، وعلى هذا فإن الأمر يرجع إلى الإلحاد، ثم إلى وحدة الوجود، فإن هذا الرجل حينما قال بالوجود المطلق، قال: إن الوجود المطلق لا يتعين ولا يتميز، وهذا في الجملة ينطبق على الأوهام، فالأوهام لا تتعين ولا تتميز، ثم قال: (وأنه إذا تعين أو تميز فهو الخلق) يعني: حكم بأن الله عز وجل هو هذا الخلق. وأما النوع الثاني: وهو الوجود المطلق، ما دام لم يتميز بوجود، فإنه مجرد الخيال، فالله عنده على تصورين: أن يكون خيالاً، وهذا أمر تنفيه العقول والفطر، أو أن يكون هو هذا الوجود، هذه خلاصة مذهب الفخر الرومي، نسأل الله العافية، ثم بعد ذلك رد الشيخ على هذه المقالة. أقول: ليس المقصود هنا أن نتعرف على هذه الزبالات من أوهام البشر، نسأل الله السلامة والعافية، إنما المقصود أن نعرف حقيقة هؤلاء؛ لأنهم فُتن بهم عدد كبير من المسلمين قديماً وحديثاً؛ ولأن أصحاب رايات الاتجاهات الحديثة من العصرانيين والعقلانيين وأهل الأهواء الذين تشبّثوا بما يسمى بالحداثة والأدب وغير ذلك، وكذلك كثير من المتصوفة لا يزالون يتعلقون بهؤلاء الملاحدة، ويعطونهم صفات الولاية والتعظيم، ويصفونهم بأنهم فلاسفة الإسلام، ويعلّقون أذهان شباب الأمة بهم، وعلى أنهم القدوة، وأنهم يعتبرون من مفكري المسلمين إلى آخر مما تعرفونه من صفات التبجيل والتعظيم والتعلق بأفكارهم، لا سيما عند الحداثيين، وما أدراكم ما الحداثيون، فإنما هم الآن شجىً في حلق الأمة، وأصبح كلامهم وأدبهم ومقالاتهم تسير بها الركبان عبر وسائل الإعلام، وعبر الكتب والمؤلفات والمؤسسات الأدبية، ولذلك افتتن بهم عدد كبير من أبناءنا وأجيالنا؛ فلذلك احتجنا أن نقف عند حقيقة هؤلاء؛ ليتبصر طالب العلم ويعرف حقيقة مذاهبهم التي هي الكفر والباطل المحض كما سترون.

عدم تفريق التلمساني بين ماهية ووجود ومطلق ومعين

عدم تفريق التلمساني بين ماهية ووجود ومطلق ومعين أما التلمساني ونحوه ففلسفته إلحادية، لكنه قد يختلف في التعبير عن غيره كأي واحد منهم، كل واحد له في التعبير عن الإلحاد أسلوب خاص به، قال شيخ الإسلام: [وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ليس هناك سوى ولا غير بوجه من الوجوه] أي: أنه ليس هناك في الوجود المطلق إلا الله، فهو يوافق ابن عربي، لكن بتعبير آخر، قال: [وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له -تعالى الله عما يزعم- بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت] إلى آخره، ثم ذكر الشيخ شعراً لهم في ذلك. إذاً: هؤلاء يتسابقون في الإلحاد، فكل واحد منهم يحاول أن يمعن أكثر من صاحبه في التعبير عن الإلحاد، بما يملك من قوة البيان والقدرة، نسأل الله السلامة، بل يتسابقون إلى التصريح بالإلحاد والفوضى في العقيدة.

حقيقة مقالات ابن عربي وأصحابه وبيان وقت ظهورها ومدى شناعتها

حقيقة مقالات ابن عربي وأصحابه وبيان وقت ظهورها ومدى شناعتها قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه] يعني: هذه المقالات في شناعتها وإلحادها وكفرها لا تعرف لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ثم استدرك وقال: [ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: إن الوجود واحد ورد ذلك] أرسطو مع أنه فيلسوف وثني ملحد رد هذه المقولة؛ لأنها لا تعقل، مقولة: أن الوجود هو الله، قال: [وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين] يقصد أرسطو، ثم قال: [وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار] ثم ذكر أنواع الحلول وليس لنا مصلحة منها؛ لأنها مقالات مجردة، وكلها تئول إلى الكفر.

تركيب مذهب الاتحادية من سلب الجهمية ومجملات الصوفية والزندقة الفلسفية

تركيب مذهب الاتحادية من سلب الجهمية ومجملات الصوفية والزندقة الفلسفية يقول رحمه الله تعالى: [فصل مذهب هؤلاء الاتحادية كـ ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني مركب من ثلاثة مواد] المقصود أصول هؤلاء الفلاسفة تقوم على ثلاثة أصول كلها باطلة: أولاً: [سلب الجهمية وتعطيلهم]. سلب الجهمية تصريح بنفي الذات والأسماء والصفات لله عز وجل، والأفعال، والنفي المطلق لذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله من ضرورياته الإلحاد المطلق؛ لأن الذي ليس له وجود ولا أسماء ولا صفات ولا أفعال هذا إنما هو وهم في الأذهان لا حقيقة له، وكل حقيقة لا بد أن تقبل الوصف، بل كل موجود لا بد أن يقبل الصفات، ولو لم يأت بالوصف الموجود إلا صفة الوجود لكانت هذه كافية بأن تثبت لله صفة واسماً، لكنهم مع ذلك أنكروا جميع ذلك. إذاً: (سلب الجهمية وتعطيلهم) أي: إنكارهم وإلحادهم أدى إلى فتح الباب لهذه المقالات الإلحادية التي قال بها ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني والسهروردي المقتول ومن سلك سبيلهم. ثانياً: [مجملات الصوفية] أي: تعبيرهم بالتعبيرات الفضفاضة المجملة التي تحتمل الحق والباطل، تحتمل إلحاداً ويقلبونها إلى الحق بزعمهم. [مجملات الصوفية: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضاً كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال السكر] وهذه في الحقيقة تحتاج إلى وقفة في وقتها إن شاء الله، عندما نصل إلى الكلام عن العباد الأوائل الذين ارتكزت عليهم الصوفية، ومن خلال تتبع بعض مذاهب العبّاد في القرن الثاني والثالث قبل أن تسمى هذه المذاهب صوفية، نجد أن هؤلاء العبّاد المتهمون في عقيدتهم تظهر على ألسنتهم عبارات إلحادية مقننة، ترجع إلى مذاهب إلحادية، وليست عبارات ساذجة، فهذه هي التي سماها الشيخ: كلمات المغلوبين على عقلهم؛ لأنه عندما ذكر إلحادياتهم قال: لعلهم قالوا ذلك بسبب كثرة الجوع والسهر حتى أصابهم خلل في العقول، ومعروف أن الإنسان إذا قتر على نفسه في الأكل والشرب ثم سهر كثيراً، فإنه يصاب بشيء مما نسميه في عصرنا الهستريا، فهي تؤدي إلى أن الإنسان أحياناً يخبط في الكلام بما لا يعلم، ويتخيل أشياء، ويكون عنده نوع من الخروج عما تقتضيه العقول، فهؤلاء القوم أثناء وقوعهم في هذه الحالة الهسترة تحصل منهم أفعال وأقوال إلحادية كفرية، فهذه التصرفات والأقوال الإلحادية الكفرية، بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية حملها على أنهم أتوا بها بسبب الخلل في عقولهم وبسبب الحالات العارضة، وأنهم غير محاسبين، وآخرون من السلف قالوا: لا، هؤلاء لو قالوا مجرد كلمات مثل هذيان الناس لقلنا ربما نعذرهم، لكنهم أتوا بكلمات إلحادية مقننة، ولو قلنا: إنها من اللا شعور كما يقولون، فكيف جاءت؟ فالإنسان إذا هذى لا يهذي إلا بما يعلم أو بأمور لا تنطبق، ما تحمل قواعد ولا تحمل أصولاً فلسفية، مثل قول رابعة العدوية: والله لا أعبدك حباً لجنتك، ولا خوفاً من نارك. فهذه فلسفة ليست مجرد أنها أصيبت بالهستريا. كذلك قول أحدهم: لماذا تخافون من النار؟ ما هو إلا أن أضع عليها خيمتي فتنطفئ هذه فلسفة ليست مجرد كلمة ثابتة. كذلك قول أحدهم عن نفسه: سبحاني ما أجل شأني. يقصد نفسه. ثم ذكر بعد ذلك المقطع الثالث قال: [ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم]. ذكر سلب الجهمية والتعطيل، ثم مجملات الصوفية، ثم الزندقة الفلسفية، يعني: ما أخذ على الفلاسفة، قال: [التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان وما في ذلك من حق وباطل]. وقد اختلطت هذه الزندقة الفلسفية في كثير من أصول المتكلمين، حتى متكلمة الأشاعرة والماتريدية، حينما تكلموا عن العقول والنفوس والوحي والوجود والإمكان خبطوا وخلطوا، وجاءوا بما يخالف أهل السنة والجماعة. ثم قال رحمه الله تعالى: [فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي] يعني: مجملات الصوفية أغلب على ابن عربي، والزندقة الفلسفية هي الأغلب على ابن سبعين والقونوي.

بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه الكفري الإلحادي

بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه الكفري الإلحادي ذكر الشيخ فلسفة لـ ابن عربي تدل على مدى خبثه وإلحاده نسأل الله العافية، فقد ذكر معنى من المعاني التي قال بها ابن عربي في (الفصوص) وهي من المعاني الإلحادية، قلب فيها الحق بالباطل، وهذا مما فتح لعباد القبور وعباد الأوثان والأصنام في الأمة الذين يعبدون غير الله، أو يلجئون إلى غير الله من الموتى، والأحياء، وما يسمونهم أولياء، والأشخاص، والأحجار، والأشجار، والوزارات، والمشاهد، والآثار وغير ذلك كل ذلك يرجع إلى مثل قول ابن عربي قال: [وذكر -أي ابن عربي - أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص] هذا كلام مجمل مبهم، يشرحه ما بعده، [وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل] انظروا إلى قلب الحقائق، فقد جعل التوحيد شركاً والشرك توحيداً، وجعل إنكار موسى لهارون كأنه قال لهارون: لماذا لم تتركهم يعبدون العجل؟ وهذا مخالفة صريحة لصريح القرآن، فهل بعد ذلك متأول لمثل هذا الرجل؟ سبحان الله! [وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل؛ لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله] تعالى الله عما يزعمون، يعني: حينما عبدوا العجل ما عبدوا إلا الله، هذا مذهب ابن عربي؛ لأنه يرى أن الله هو كل هذه الموجودات بما فيها العجل، بل صرّح -نسأل الله العافية- بأن ربه يتمثل في حيوانات خسيسة ذكرها في شعره، ولم يتورع عن ذلك، إلى آخر كلامه. هذا أصل من أصول ابن عربي، وهو من الأصول التي سهّلت الشرك عند غلاة الصوفية وعباد القبور والأوثان. ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، فزعم ابن عربي أن الباقي من الحائط ثنتان من اللبن وليست واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أدرك هذه الحقيقة، وأن اللبنة الأولى هي محمد صلى الله عليه وسلم، واللبنة الثانية خاتم الأولياء وهو بعد ذلك زعم لنفسه أنه هو خاتم الأولياء. انظروا كيف أراد أن يقر الناس أنه خاتم الأولياء، فقال: الصحيح أن الباقي لبنتان وليست واحدة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآها إلا واحدة؛ لأنه ما رأى إلا الظاهر، أما اللبنة الثانية فهي باطنة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك ذلك، واللبنة الثانية هي خاتم الأولياء. ثم بنى على هذه الخيالات والأوهام أحكاماً كثيرة، زعم أن الولي أفضل من النبي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ عن جبريل، والولي أخذ ممن أخذ عنه جبريل، هكذا زعم، فمما قال عن خاتم الأولياء: [فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم] أي: أن الولي وخاتم الأولياء لا يحتاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى جبريل أيضاً، هكذا زعم، وهذا ما جعله يصنف كتبه على أنها وحي وأنها بمثابة القرآن. ثم ذكر أنه كان ولياً وآدم بين الماء والطين، قال: [وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية، من الأخلاق الإلهية والاتصاف بها، من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد]. ثم زعم وقال: [وخاتم الأولياء الولي الوارث، الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب، وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم] بعد قليل سيتنازل عن هذا ويرى أن الولي فوق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي هو نفسه حسنة من حسنات الولي، وهذا من التخليط واستدراج القراء، قال: [مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة، فعين بشفاعته حالاً خاصاً ما عمم؛ وفي هذه الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية]. ولاحظوا هنا الجرأة على الله عز وجل، يقول: [فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص] جعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته والشفاعة مطلقاً أعظم من اسم الله عز وجل الرحمن. ثم قال: [فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام]. ثم رد عليه شيخ الإسلام برد واف، رد عليه بالنصوص الشرعية، وبالمحاجة العقلية من وجوه كثيرة، وكل وجه يكفي لرد هذا الكلام. ثم أخيراً: نقف على كلام للشيخ رحمه الله ذكر فيه وجوه كفرهم، فمن أراد أن يستفيد ولا أنصحه بأن يدخل في هذه المتاهات، فليرجع إلى الردود، لكن يمكن للواحد أن ينظر إلى أصول الردود الأول والثاني إلى آخره دون أن يتمعّن أو يتعمق، فلا أنصح بالتعمق في مثل هذه المسائل بأكثر من أخذ الأصول والمناهج ومواطن العبرة، نسأل الله السلامة والعافية.

الأسئلة

الأسئلة

القول الفصل في ابن سينا وحكم تسمية مسجد باسمه

القول الفصل في ابن سينا وحكم تسمية مسجد باسمه Q ما الموقف الحق من ابن سينا، ومن يسمي مسجداً باسمه؟ A ابن سينا باطني ملحد إسماعيلي، وهو يذكر ذلك عن نفسه، وأنا أتعجب من جهل الناس بمثل هذه الحقائق مع أنها واضحة، فـ ابن سينا فيلسوف ملحد باطني إسماعيلي لا نحتاج أن نتناقش في أمره، وليس من المسلمين، بل هو من هذه الطائفة المعروفة بالكفر باتفاق المسلمين الذين يعرفون أحواله. أما من سمى مسجداً باسمه فينبغي أن ينصح بأن يغير هذا الاسم، لا يسمى المسجد ولا غير المسجد باسمه، حتى المدارس ينبغي أن تُنصح الجهات المسئولة، والمؤسسات التي تسمى باسم ابن سينا يجب أن تنصح وتبلّغ بالأمر، يقال لهم: ابن سينا كافر ملحد؛ بموجب ما صدر عنه. وبعض الناس يقول: إنه تاب، والله أعلم بتوبته، والذي أعرف أنه تاب من الفجور الذي اشتهر عنه، لما أُصيب بأمراض معضلة ما استطاع أن يمارس فجوره، فقيل: إنه تاب، أما أنه تاب عن أفكاره فأنا ما أعرف هذا، وقد قرأت كثيراً ممن كتبوا عن توبة ابن سينا ما قصدوا التوبة من أفكاره، بل هؤلاء الذين قالوا بتوبته لا يرون أن هناك من أفكاره وعقائده ما يتوب منها، إنما اشتهر عنه الفسق والفجور وشرب الخمر وأمور معروفة حتى إنه ذكرها عن نفسه، فحينما كبرت سنه وضعفت قواه ومرض تركها، فقالوا: تاب، ولعله تاب، ونحن لا نحول بينه وبين التوبة إن تاب، لكن الكلام عن تعلق الناس بأفكاره وفلسفته، لا بنفسه، هذا إن كان تاب من عقيدته الفاسدة، والله أعلم بحاله. فإذاً: مثل هؤلاء حتى وإن تابوا ما ينبغي أن تعلق الناس بأشخاصهم؛ لأنه لا يعرف عن ابن سينا إلا كتبه وأفكاره وقصائده التي فيها الإلحاد والكفر وغير ذلك مما هو مشهور عنه.

[9]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [9] لقد التزم أهل السنة والجماعة ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله فيما يخص صفات الله تعالى الذاتية والفعلية، بينما خالفهم في ذلك المتكلمة الذين نفوا عن الله عز وجل صفاته الفعلية، ولجئوا في سبيل ذلك إلى تأويل النصوص الشرعية بتأويلات باطلة، ولم يتوقفوا عند ذلك حتى أتوا بنصوص من عند أنفسهم دعماً لمنهجهم، وترويجاً لباطلهم وضلالهم.

من أعظم الأصول التي يعتمدها الاتحادية (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان)

من أعظم الأصول التي يعتمدها الاتحادية (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية الملاحدة المدعون للتحقيق والعرفان ما يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان)، وهذه الزيادة وهو قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية، فتلقاها منهم هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد، ولكن أولئك قد يقولون: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء: (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان) وقد اعترف بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي، فقال في كتاب (ما لا بد للمريد منه): وكذلك جاء في السنة: (كان الله ولا شيء معه) قال: وزاد العلماء: وهو الآن على ما عليه كان، فلم يرجع إليه من خلقه العالم وصف لم يكن عليه، ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما تعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه. وهذا الذي قاله هو قول كثير من متكلمي أهل القبلة]. قوله: (وهذا الذي قاله هو قول كثير من متكلمي أهل القبلة). أي: أن هذه النزعة أثّرت حتى في المتكلمين الذين ليسوا من الملاحدة ولا من الفلاسفة، كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية، أثّرت فيهم هذه النزعة الفلسفية كما هو ظاهر عند أبي المعالي الجويني قبل أن يرجع إلى السنة، وكما هو ظاهر أيضاً عند الغزالي، وظاهر جداً عند الرازي بن الخطيب ومن سلك سبيلهم، فهذه النزعة، يعني: نزعة نفي المكان والزمان مطلقاً بدون تفصيل، أدت إلى إنكار الصفات الفعلية وتأويلها، وإلى إنكار الصفات الذاتية وتأويلها، وإن لم يشاركوا أصحاب الاتحاد والحلول ووحدة الوجود الملاحدة في إنكار ذات الله عز وجل والقول بالحلول أو الاتحاد، ما شاركوهم في هذا الحد، لكن شاركوهم في نفي ما هو من الصفات الذاتية والفعلية لله عز وجل؛ زعماً منهم أن ذلك يقتضي الحدوث والزمان والمكان، قالوا: إذا قلنا: إن الله مستو على عرشه اقتضى ذلك المكان، أخذاً بالشبهة الفلسفية، والتي قالوا فيها الحديث الموضوع هذا: (وهو الآن على ما عليه كان) وأيضاً زعموا أن إثبات العلو يقتضي المكان، وزعموا أيضاً أن بعض أفعال الله عز وجل تقتضي الزمانية والمكانية، مثل: النزول وغير ذلك. فأقول: إن الشيخ أشار إشارة إلى مسألة منهجية مهمة جداً، تدل على التداخل العقدي بين الفرق، وأن كل فرقة من فرق أهل الكلام ابتداء من الغلاة الفلاسفة الملاحدة كهؤلاء الذين ذكرهم الشيخ، وانتهاء بمن هم من فرق أهل القبلة وهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، وعندهم قدر مشترك يشتركون فيه، وهو الخوض في هذه المسائل ما بين تعطيل مطلق، وما بين تأويل، وما بين اضطراب في ذلك، كل ذلك تحت شبهة الزمانية والمكانية والحدوث؛ لأنهم أيضاً يقولون: الزمان والمكان حادث، فأدخلوا هذه القضايا كلها تحت ما يسمى بالزمانية والمكانية والحدوث، فمن هنا وقفوا تلك المواقف تجاه ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله المتباينة ما بين معطّل ملحد، وما بين مؤول، كل ذلك راجع إلى هذه الشبهة.

زعم الملاحدة أن قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) فيه نفي لحدوث التغير والتحول في صفات الله الفعلية

زعم الملاحدة أن قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) فيه نفي لحدوث التغير والتحول في صفات الله الفعلية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره، لكنه متناقض؛ ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد. وإنما الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض). وهذه الزيادة الإلحادية وهو قولهم: (وهو الآن على ما عليه كان) قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا: كان في الأزل ليس مستوياً على العرش وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش، لما يقتضي ذلك من التحول والتغير]. من هنا ندرك الخطأ المنهجي الكبير الذي خالفت فيه الفرق الكلامية أهل السنة والجماعة، فهذا من الفوارق بين أهل السنة والجماعة وبين الفرق المتكلمة الذي وقعت فيه جميع الفرق ما بين مقل ومكثر، وهو أن أهل السنة والجماعة التزموا ما جاء في الكتاب والسنة في صفات الله عز وجل الذاتية منها والفعلية، أي: ما كان متعلقاً بذات الله عز وجل أو بأفعاله، كما جاء في الكتاب والسنة دون التزام لهذه المستلزمات التي إنما هي تحكم من الخلق، وهي ما تسمى بالزمانية والمكانية والحدوث. ومن هنا ندرك وجه الخطأ المنهجي الكبير الذي وقعت فيه الكلابية وورثتها ومن سلك سبيلها من الأشاعرة والماتريدية في نفي الصفات الفعلية عن الله عز وجل، وإنما فعلوا ذلك بقبولهم بهذا الأصل، واعتمادهم له في تقرير الصفات، ولجأ إليه هؤلاء حينما خرجوا عن الحد الشرعي في جدال الفرق الفلسفية والتزموا لوازم باطلة.

الجواب الأول لأهل السنة على المتكلمين فيما يتعلق بصفات الله الفعلية

الجواب الأول لأهل السنة على المتكلمين فيما يتعلق بصفات الله الفعلية قال رحمه الله تعالى: [ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين: أحدهما: أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية، ويسميها ابن عقيل: الأحوال]. هذه المسألة تعتبر من أكبر المسائل وأقواها حجة عند السلف ضد المخالفين فيما يتعلق بصفات الله الفعلية، وهو أن المتجدد يعني: أفعال الله عز وجل، ويمكن أن نقول: إن الله يفعل متى شاء، ونقول: إن الله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، وهذا حق وهذا كمال لله، وأنه ينزل متى شاء وكيف شاء، كما ورد في النصوص، وأنه ينادي عباده متى شاء، وقد نادى قبل ذلك، وسينادي يوم القيامة وهكذا، وأن صفاته سبحانه الفعلية متعلقة بالمشيئة، وأصول هذه الأفعال من صفات الله عز وجل الثابتة، وكذلك مفرداتها من صفات الله عز وجل، فالأصل في صفة الكلام أنها ثابتة لله عز وجل بذاتها، وأن الله يتكلم كلاماً يليق بجلاله، في أفرادها ومفرداتها، أيضاً الله عز وجل يتكلم متى شاء، وهذا التكلم المربوط بالمشيئة سماه أهل الكلام حادثات، وقالوا: إنا إذا قلنا بأن الله يتكلم متى شاء. فهذا يعني أن الله تحدث له حوادث، هكذا يتحكمون من عندهم، فزعموا أن الله تكون له قدرة لم تكن، وتنشأ عنده إرادة لم تكن إلى آخره! كل هذه من لوازم التزموها بناء على قياس الخالق عز وجل بالمخلوق، وعلى الخضوع لهذه القاعدة الفاسدة: أن الله كان، وأنه لم يتجدد له شيء بعد أن كان، أو كان الله ولم يكن قبله شيء، ثم هو أيضاً على ما كان لا زمان ولا مكان كما زعموا، فزعموا أن تجدد الحادثات يقتضي الزمانية والمكانية في حق الله، وأنه يقتضي الحدوث في أفعال الله، وهذه فلسفة كلها تخرصات وتوهمات وقياسات للخالق والمخلوق، وليس أمام العبد المسلم إلا أن يسلّم بما جاء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في صفات الله وأفعاله، والمستلزمات التي يراها في ذهنه ليست لازمة، والحق منها يلزم والباطل منها لا يلزم. فمن هنا أقول: قال السلف: (إن المتجدد -أي: من هذه الصفات الفعلية- نسبة إضافية بينه وبين العرش) لقد حصر الشيخ التجدد فيما يتعلق بالعلو والاستواء والنزول والمجيء؛ لأن أكثر أفعال الله عز وجل من هذا النوع؛ وذلك لأن العرش أعظم الخلق، فنسبة أفعال الله عز وجل جاء ذكرها في الكتاب والسنة مرتبطة بالعرش من حيث سياق نصوص القرآن والسنة، فالاستواء ربط بالعرش والعرش مخلوق، وما دون العرش داخل في العرش بالضرورة، الكرسي داخل في العرش، وكذلك بقية المخلوقات. فالعرش هو أعظم الخلق، كثير من الصفات لله عز وجل ربطت في النص الشرعي بالعرش؛ لأجل أن يتصور الإنسان عظمة الله عز وجل؛ ولأن ذلك دال على أن العرش مخلوق لله، ومع ذلك فإن الله عز وجل ذكر استواءه على العرش على ما يليق بجلاله، والعلو مرتبط بالعرش، والعلو كذلك مرتبط بالمخلوقات، علو الله عز وجل على المخلوقات ونحو ذلك. أيضاً سيأتي من وجه آخر ما يدل على أن عند السلف عمقاً في التفكير، لكنهم لا يتمادون في التفلسف، وإذا قلنا: إن الصفات الفعلية كلها أو أغلبها مرتبط ببعض المخلوقات، فنزول الله عز وجل نزولاً يليق بجلاله لا نفهم كيف يكون، لكن النزول مرتبط بالعلو وبالفوقية لا شك، لكن حقيقة الارتباط أمر لا ندركه إطلاقاً، فعلى هذا لا يمكن أن يفهم الإنسان معاني العلو والفوقية والاستواء والنزول والمجيء إلا إذا عرف الفرق بين الخالق والمخلوق؛ إذا عرف أن العرش وما دونه غير الله عز وجل، والمغايرة بين الخالق والمخلوقات هي أكبر رد عقلي وشرعي على أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؛ لأنهم حينما زعموا أن الله هو المخلوقات، قيل لهم: ما معنى الاستواء؟ وما معنى الفوقية؟ وما معنى العلو؟ وهذا ما سيشير إليه الشيخ. نقف عند قول الشيخ: (أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش) أي: بين الله عز وجل وبين العرش؛ لأن العرش أعظم الخلق، فالعلو والنزول والمجيء والاستواء إنما نفهم حقيقتها من خلال ما فهمنا من وجود العرش، وبربط هذه المخلوقات بأفعال الله عز وجل كالاستواء والنزول والمجيء وغيرها. قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية، ويسميها ابن عقيل: الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم؛ إذ لا يقتضي ذلك تغيراً ولا استحالة]. يشير الشيخ إلى ما ورد في النصوص، فهو لا يشير إلى اجتهاد من عنده، أن لما ذكر الله عز وجل خلق السماوات والأرض ذكر الاستواء، قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فهذا له مفهومان: مفهوم يتعلق بالله عز وجل، ومفهوم يتعلق بتصورنا نحن عن فعل الله، وأفعال الله على نوعين: أفعال تتعلق بصفاته، فهذه أزلية. وأفعال تتعلق بآثار فعله في خلقه، فهذه تتجدد. فالله عز وجل ذكر لنا أن الاستواء متجدد، والنزول والمجيء يتجددان، والتجدد لا يعني أنه تحدث لله قدرة لم تكن أو فعل لم يكن من صفاته، لا، وإنما آحاد التجدد وأفراده تكون بعد أن لم

الجواب الثاني لأهل السنة على المتكلمين فيما يتعلق بصفات الله الفعلية

الجواب الثاني لأهل السنة على المتكلمين فيما يتعلق بصفات الله الفعلية قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن ذلك وإن اقتضى تحولاً من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل: مجيئه وإتيانه ونزوله وتكليمه لموسى، وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، وقال به أكثر أهل السنة والحديث، وكثير من أهل الكلام، وهو لازم لسائر الفرق]. يعني: الثاني مما يرد به السلف على أهل البدع والأهواء: أن أفعال الله عز وجل وإن سماها أهل الكلام تحولاً من حال إلى حال فإن ذلك دليل الكمال؛ لأن هذا لا يعني النقص، والنقص منفي عن الله جزماً، ثم التحول من حال إلى حال إذا كان نقصاً عند المخلوقات، فليس هذا لازماً في حق الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنحن نعلم يقيناً أن كثيراً من أحوال العباد التي يكون فيها قدرة على التحول من حال إلى حال أنها إلى الكمال أقرب، فلماذا لا يكون الله عز وجل أولى بالكمال، وعلى سبيل المثال: أليس الإنسان الذي يقدر أن يتكلم متى شاء أكمل وأقدر من الذي لا يستطيع أن يتكلم أبداً، أو أحياناً يتعثر في الكلام؟ فلماذا تنسب الكمال للمخلوق وتنفيه عن الله عز وجل، وهذه التعبيرات الأحوال وغيرها تعبيرات يجب أن نتفاداها، لكن لما وقعوا فيها نلزمهم بها؛ نلزمهم بالقواعد العقلية، نقول: الأحوال إذا كانت تدل على كمال واتفقت مع نصوص الكتاب والسنة، فلا شك أن وصف الله بها عز وجل هو الحق بدون تأويل، فالاستواء على العرش كمال، والقدرة على النزول والمجيء أكمل من عدم القدرة عليه، والقدرة على الكلام أكمل، وكون القادر على الكلام يتكلم متى شاء أكمل ممن يقدر، لكن لا يستطيع أن يتكلم إلا أحياناً وهكذا. فإذاً: وصف الله عز وجل بالصفات الفعلية وإن اقتضى تحولاً من حال إلى حال ومن شيء إلى شيء، فإنه كمال وليس نقصاً، لكن نثبته لله كما يليق بجلاله، واللوازم التي تلزم في التحولات عند المخلوقات لا تلزم في حق الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ولأن له الكمال المطلق سبحانه، وكذلك اللوازم التي تلزم من الصفات الفعلية، من بعض الجوانب التي يعتبرونها نقصاً، مثل: الحدوث بعد العدم وهكذا، هذه أمور أيضاً بالنسبة لله تدل على الكمال لا على النقص، لكن إذا كانت للمخلوق نقصاً، فالجانب الذي فيه نقص ينفى عن الله، ولا ينفى أصل الصفة التي هي كمال كما يتوهمه هذا المتوهم، يعني: جوانب النقص ينفى عن الله، ولا تنفى عن الله الصفة بذاتها، فالمجيء والإتيان والنزول والتكليم إلى آخره، هذه كلها شئون لله عز وجل، والله هو كل يوم في شأن، والذي يكون كل يوم في شأن أكمل ممن تنقطع الشئون في حالة من الأحوال. قوله: (وهو لازم لسائر الفرق): هذه مسألة مهمة، وهو أن كل فرقة لابد أن تقر بجانب من هذه الجوانب فتلزم به، وببقية الأمور الأخرى. فنبدأ بأخف الفرق: الأشاعرة والماتريدية التزموا إثبات سبع صفات لله عز وجل، منها: السمع، والبصر لله سبحانه وهذا حق، بالنسبة لله عز وجل يتعلق بالسمع والبصر المطلق الذي هو الكمال، ويتعلق أيضاً بالمسموعات والمبصرات، والمسموعات والمبصرات تتجدد. فهم أثبتوا السمع والبصر وفيه الأحوال والشئون والتجدد، فلما جاءوا إلى الاستواء والنزول والمجيء نفوه بدعوى أن هذا يقتضي التجدد والحدوث، نقول: أيضاً السمع والبصر يستلزم التجدد والحدوث، قد يكون السمع والبصر له صفاته المعينة، فنقول: حتى الإرادة، إرادة الله عز وجل إرادة مطلقة وإرادة خاصة بالمرادات وهي المخلوقات، فالله عز وجل إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، كذلك الأشياء تتجدد، والله عز وجل يتجدد له من الشئون في خلقه ما لا يحصى. إذاً: الإرادة تتجدد لله، تتجدد في مفرداتها لا في كونها صفة لله، في كونها صفة هذه لازمة، لكن متعلقها بالمرادات يتجدد، فلماذا نفيتم تعلق مشيئة الله بالمجيء والاستواء والنزول والصفات الفعلية والكلام لله عز وجل ونحو ذلك، ثم أثبتموها في الصفات الأخرى؟ وهكذا بقية الفرق كالجهمية الذين لا يثبتون لله عز وجل إلا مجرد الوجود، نجد عندهم ما يلزمهم بأن الوجود في حد ذاته يلزم منه أن الموجود لابد أن يكون حياً وقادراً وإلى آخره، أما وجود بدون صفات فيكون عدماً، ويكون نقصاً، فحتى الجهمية الذين لا يقرون إلا بالوجود، نلزمهم من خلال إثبات الوجود، فنقول: أليس من الكمال للموجود أن يكون كذا وكذا وكذا؟ الموجود الحي أكمل من الموجود الميت، أليس كذلك؟! إذاً: إذا اعترفوا بأنه موجود بأنه حي، فالحي من كماله أن يكون قادراً، والقادر من كماله أن يكون مريداً، والمريد من كماله أن يكون سميعاً وبصيراً وهكذا. قال رحمه الله تعالى: [وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك في قاعدة الفرق بين الصفات والمخلوقات، والصفات الفعلية. وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر لا أزلاً ولا أبداً؛ بل هو عين الموجودات ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور. وهم دائماً يهذ

أدلة بطلان قول الاتحادية: (وهو الآن على ما عليه كان)

أدلة بطلان قول الاتحادية: (وهو الآن على ما عليه كان) قال رحمه الله تعالى: [فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه العماء، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] وفي ذلك آثار معروفة. والدليل على أن هذا الكلام -وهو قولهم: (وهو الآن على ما عليه كان) - كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار من وجوه: أحدها: أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب عموماً وخصوصاً، مثل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. وقال: ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ))، في موضعين. وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة:12]. {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا)، فلو كان الخلق عموماً وخصوصاً ليسوا غيره ولا هم معه، بل ما معه شيء آخر، امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته، فإن المعية توجب شيئين: كون أحدهما مع الآخر، فلما أخبر الله أنه مع هؤلاء علم بطلان قولهم: (هو الآن على ما عليه كان) لا شيء معه، بل هو عين المخلوقات. وأيضاً فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة، فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه ولا يكون لهم وجود معه ولا حقيقة أصلاً، بل هم هو]. هذه الحقيقة بدهية، لكن أحياناً في مثل هذه المقالات الشاذة والموغلة في الضلال ينبغي التنبيه على البدهيات، وإن كان التنبيه على البدهيات أحياناً يؤدي إلى إشكال، لكن لا بد منه مادام هذا المذهب وجد ووجد له أتباع ودعاة، والآن دعاة هذا المذهب بدءوا يخرجون أعناق هذه البدعة من حداثيين، وبعض الكتاب الذين يعجبون بهذه المذاهب يسمونها: مذاهب فلسفية، فالشيخ يقرر بدهياً أنه مادام أن الله عز وجل ذكر أنه مع خلقه ومع بعض خلقه، فهذا دليل على أنه مغاير لخلقه، ولله المثل الأعلى لو كان على ما يزعمون أن الله هو الخلق والخلق هو الله، فعلى هذا يكون خطاب الله لنفسه، ولو رأينا شخصاً يخاطب نفسه على أنه غيره لقلنا: إن هذا مجنون، فكذلك هم حكموا على الله عز وجل بمثل هذه الصورة الشنيعة في حق الله، كما كانت اليهود تفعل، الله عز وجل يقول: {إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة:12]، ويخاطب عباده على أنه معهم جملة ومع بعضهم في المعية الخاصة، ثم يقولون: هم هو، أين عقولهم؟ إذا كان الله عز وجل قد أعمى بصائرهم عن تدبر آيات الله، فأين العقول التي تميز بين الواضحات والبدهيات؟ فهؤلاء تجاوزوا البدهيات العقلية، ما كأن عندهم عقولاً، بل استخدموا عقولهم لدفع هذه البدهيات. قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: أن الله قال في كتابه: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]. وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]. وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلهاً آخر ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقاً، أو يقول: إن معه عبداً مملوكاً أو مربوباً فقيراً، أو معه شيئاً موجوداً خلقه، كما قال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88]، ولم يقل: لا موجود إلا هو، أو لا هو إلا هو، أو لا شيء معه إلا هو؛ بمعنى: أنه نفس الموجودات وعينها]. من هنا ندرك مدى خطأ المتكلمين من الأشاعرة الماتريدية الذين فسروا لا إله إلا الله: بأنه لا موجود إلا الله، ولا إله في الوجود إلا الله، نحن نقول: لا إله، أي: لا معبود بحق، فتفسيرهم لا إله إلا الله، بمعنى: لا موجود، أو لا إله في الوجود إلا الله. هذا خطأ. قال رحمه الله تعالى: [وهذا كما قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163]، فأثبت وحدانيته في الألوهية، ولم يقل: إن الموجودات واحد، فهذا التوحيد الذي في

[10]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [10] لقد أثر عن بعض السلف من العباد والصالحين بعض المصطلحات والعبارات التي تتعلق بمعنى الحلول والاتحاد والكشف ونحوها من العبارات التي تستعمل في التعبير عن الأحوال القلبية السليمة، وبما أن هذه التعبيرات تشبه ألفاظ المبطلين الذين استعملوها على وجه أرادوا به الكفر والزندقة، فالأولى ترك هذه التعبيرات والاستغناء عنها بالألفاظ الشرعية الواضحة السليمة.

ما جاء عن بعض أهل العلم والإيمان مما يشبه الحلول والاتحاد الباطل

ما جاء عن بعض أهل العلم والإيمان مما يشبه الحلول والاتحاد الباطل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: ففي الفصل الذي سنقرؤه الآن وقفة من شيخ الإسلام ابن تيمية جيدة، تزيل اللبس عند بعض الذين التبست عليهم بعض ألفاظ ومصطلحات السلف، التي تشبه ألفاظ ومصطلحات أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من الفلاسفة والزنادقة، والتي تشبه أيضاً مصطلحات الصوفية، وذلك فيما أثر عن بعض السلف وعن بعض العباد وعن بعض الصالحين، وإن لم يكونوا على نهج سليم مرضي من كل وجه، لكنهم ليسوا من أهل البدع المغلظة ولا الانحرافات الكبرى، وهؤلاء أثر عنهم عبارات ومصطلحات استعملوها على وجه قد يسوغ شرعاً مع التكلف، وهي تشبه مصطلحات الملاحدة والزنادقة وغلاة الصوفية، ومن ذلك ما يتعلق بمعنى الحلول ومعنى الاتحاد ومعنى الكشف ونحو ذلك من المعاني، التي قد تستعمل في التعبيرات عن الأحوال القلبية السليمة، وهي تشبه ألفاظ أولئك المبطلين الذين استعملوها على وجه أرادوا به الكفر والزندقة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل، وهو حق، وإن سمي حلولاً أو اتحاداً]. يعني: أنه قد يرد عن بعض السلف استعمال بعض هذه العبارات على مصطلحات شرعية، لكن هذه حالات نادرة، وليست هي النهج السليم، لكن الذين أطلقوها لكلامهم تأول قد نعذرهم، لكنا لا نسلك هذا الطريق؛ لأن استعمال بعض المصطلحات الشرعية بما يشبه المصطلحات البدعية هذا طريق لا يجوز، لكن إن حدث من بعض الصالحين على وجه يريد به حقاً، فإنا نقبل هذا الحق بغير لفظه. قال رحمه الله تعالى: [وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف؛ بدلالة الكتاب والسنة. أما الحلول]. الآن سيبدأ بنماذج للألفاظ التي قد تستعمل أحياناً على وجه مخالف، فكلمة الحلول بعدما اشتهرت إذا أطلقت فأول ما يتبادر إلى الذهن إلى الحلول البدعي، وهذا هو الأصل، لكن مع ذلك فإنه قد تطلق الحلول على المعنى الجائز كما سيأتي بيانه.

مستقر الإيمان في القلب

مستقر الإيمان في القلب قال رحمه الله تعالى: [أما الحلول فلا ريب أن من علم شيئاً فلا بد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول؛ فإن المستعلي إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول؛ بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان]. لا يزال يبدو لي أن الكلام فيه غموض، لكن سيشرحه الشيخ بعد كلام طويل قد ينفصل المعنى في ذهن القارئ. فالشاهد أن الشيخ ذكر أن الحلول أحياناً يستعمل استعمالاً بعيداً، بمعنى حلول المعاني الشرعية في قلب المسلم، وحلول الأحوال القلبية في قلب المسلم، حلول العلم، اليقين، الصدق، والتصورات التي تنتج عن العلم هذه أمور يقال: إنها حلت في قلب المسلم، لكن ليس معنى هذا أننا نقر كلمة حلول على إطلاقها، إنما نقول: إذا قصد بالحلول هذا المعنى، فهو وإن كان معنى غير مستعمل فإنه يرجع إلى قصد القائل، وبعض السلف قد يستعمل هذه المعاني بمعنى حلول الأحوال القلبية في القلب، حلول الإيمان، حلول اليقين، حلول الصدق ونحو ذلك، فهذا قد يسمى حلولاً من باب التجوز، أو يستعمله بعض السلف على هذا المعنى لا على المعنى البدعي الذي هو الحلول الإلهي، أو حلول الرب في خلقه تعالى الله عما يزعمون. قال رحمه الله تعالى: [فإذا ذكره بلسانه كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه كان ذلك أعظم وأعظم]. يتبين هذا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح، قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) إلى آخر هذه المعاني، فهذا قد يعبر عنه بعض السلف بأنه حلول، لكن ليس حلول الله، وإنما حلول توفيق الله عز وجل للعبد، بمعنى أنه يحل الإيمان واليقين الذي ينتج عنه العون من الله عز وجل والحفظ والرعاية والتوفيق من الله لعبده إذا تقرب بالنوافل، على هذا النحو الذي ذكره في الحديث القدسي، فهذا قد يعبر عنه بأنه حلول التوفيق؛ حلول الأحوال القلبية التي يمتلئ بها القلب باليقين بالله عز وجل، والإنسان إذا امتلأ قلبه باليقين بالله، وامتلأ قلبه بالإنابة والاعتماد والتوكل على الله كان ذلك بمثابة أن الله عز وجل يسدده التسديد الكامل، ويوفقه إلى كل خير، فهذا ليس حلولاً ذاتياً، ولا حلول الروح بالروح، ومع ذلك فإنا نقول: إن تسمية هذا النوع من التوفيق من الله عز وجل لعبده حلول لا تجوز، بعد وجود استعمال هذه الكلمة على معنى باطل، لوجود اللبس، إنما قد يطلقها بعض السلف ويقصد المعنى الصحيح، فمن هنا ندافع عن هذا الرجل وندفع استدلال أهل الباطل بقوله أو كلامه بأنه أراد المعنى الحق ولم يرد المعنى الباطل. قال رحمه الله تعالى: [وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرك ومدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة كعبادة الله وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة كمحب الإخوان والولدان والنسوان والأوطان وغير ذلك من الأكوان. فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلا بد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله. والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحاً]. ورود المعاني من العلم والتصديق واليقين والإيمان، ثم ما ينتج عن هذه المعاني من الأحوال القلبية الأخرى، هذا يسمى حلولاً بالمعنى اللغوي، أي: أن هذه المعاني حلت في القلب ونتج عنها العمل، هذه تسمية لغوية لا ينبغي أن تختلط بالحلول البدعي الذي يقصده أهل الأهواء، مثل ما يسمونه: حلول النور الموروث، أو ما يسمونه: حلول الروح، وأعظم من ذلك وأشنع: الحلول الكفري الذي هو حلول الرب بذاته في المخلوقات أو نحو ذلك مما قالوا، تعالى الله عما يزعمون. قال رحمه الله تعالى: [قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم، ولهذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعاً؛ علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان و

ما قيل في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) وقوله: (من يكفر بالإيمان) وقوله: (ليس كمثله شيء)

ما قيل في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) وقوله: (من يكفر بالإيمان) وقوله: (ليس كمثله شيء) قال رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] الآية، قال أبي بن كعب رضي الله عنه: مثل نوره في قلب المؤمن. فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين. وقد قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات فهو كافر؛ إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب]. يعني: انعكاس أثر هذه الأشياء على المخلوقات، فالعلم ينعكس أثره في العالم، والحب ينعكس أثره على المحبوب وعلى المحب، وقد يقصد الشيخ معنى التناسب، لكن هذا سيأتي التعبير عنه في مقام آخر بعد قليل، فالذي يظهر لي هنا أن مقصود الشيخ انعكاس المعاني التي تدخل القلب من العلم والحب ونحو ذلك على الشخص، وهذا الانعكاس أحياناً يسمى حلولاً وأحياناً يسمى تأثراً، وأحياناً يسمى تناسباً، ويسمى بأسماء كثيرة، قد يراد بها الحق، وقد يراد بها الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب. والتحقيق: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلاً، وإنما لما كان العلم مطابقاً للمعلوم وموافقاً له غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطابَق والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعاً اشتراك ما واشتباه ما. وقد قيل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27] أنه هذا. ]. ذكر الشيخ هذا المعنى في ردوده على الذين نفوا أسماء الله وصفاته أو بعضها بدعوى أنها تقتضي التشابه، فكأنه يقول: إن قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، يعني: المماثلة في الكيفية لا في المعاني والألفاظ المشتركة؛ لأن قوله عز وجل: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، يعني: أن كل أمر مشترك لفظي بين العباد في أمور الكمال فالله عز وجل له أعلى الوصف في مثل هذه الألفاظ المشتركة، فإذا قلنا مثلاً: الله عز وجل موصوف بالعلم، وبعض العباد أيضاً موصوفون بالعلم، فالعلم لفظ مشترك، والله عز وجل ليس كمثله شيء في علمه، لكن مع ذلك له المثل الأعلى في العلم، ولا يتنافى هذا مع نفي الممثالة؛ لأن الألفاظ المشتركة والمعاني المشتركة تبقى في الأذهان، ولذلك فإن كل معنى مشترك فيه كمال لله عز وجل يطلق على الله، لكن له فيه الكمال المطلق وفي غيره محدود وناقص، وكل كمال فالله أحق وأولى أن يوصف به؛ لكن نظراً لأن الكمالات التي وردت بألفاظ الشرع، وردت بألفاظ تشمل أفضل المعاني وأعظمها في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنا ننكر ما يبتدعه الناس من الألفاظ لا المعاني، فالألفاظ التي عبر بها الناس عن كمال الله إن كانت وردت في الكتاب والسنة أثبتناها، وإن لم ترد في الكتاب والسنة أثبتنا معانيها الحق ورددنا الألفاظ؛ لأن في ألفاظ كلام الله عز وجل الجامعة المحكمة ما يكفي، وفي ألفاظ كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في إثبات الكمال لله. إذاً: هذا معنى أن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، له تقييد في قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27]، لكن ليس تقييداً بمعنى: أنه يستثنى أن هناك مماثلة، إنما يستثنى معنى من معاني المثل في اللفظ المطلق أو في اللفظ المشترك، لا في إطلاق الألفاظ على الأعيان، أما إذا أطلقت الألفاظ على الأعيان فلا يجوز أن يطلق على الله عز وجل أي وصف مما تتصف به الأعيان، أي: المخلوقات.

تفاوت الألوهية واليقين والإيمان في القلوب

تفاوت الألوهية واليقين والإيمان في القلوب قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث مأثور: (ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين)، ويقال: القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال: إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه؟ فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه]. هذا مثال جيد على مسألة حلول المعاني الشرعية في قلب المؤمن، فإن المؤمن يحل في قلبه حب الله عز وجل، ويحل في قلبه خشية الله ورجاؤه، والتوكل عليه والإنابة إليه سبحانه، وهذه كلها معان متعبد بها لله عز وجل، وهي تحل في قلب المؤمن حلولاً معنوياً وحلولاً إيمانياً، ولا يعني ذلك أن الله عز وجل بذاته يحل كما يزعمون؛ لأن أصحاب الحلول الباطل استدلوا بمثل هذه النصوص المجملة، وما عرفوا أن هذا تمثيل جزئي وليس معنى كلياً، مثل الله عز وجل امتلاء قلوب عباده الصالحين بالإيمان به والتصديق والرجاء والخوف بنوع من المثل، وأطلق عليها هذا الإطلاق لا من باب أنه حلول ذاتي أو حلول كلي، لكنه حلول شيء من المعاني المتعلقة بعلاقة العبد بربه. قال رحمه الله تعالى: [وروي مرفوعاً من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، رواه أبو يعلى الموصلي وابن أبي الدنيا في كتاب (الذكر)؛ ولهذا قال أبناء يعقوب عليهم السلام: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتاً لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)]. يعني: هذا يدل على تفاوت المعاني في القلب، وفي الأعمال، وكذلك المعاني الشرعية، فإنها تتفاوت تفاوتاً عظيماً إلى حد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً في رجلين كليهما من المسلمين ومن أهل الخير، لكن قال: (هذا خير) فهو صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً بين إنسانين، هذا يساوي ملء الأرض من مثل هذا، عدد لا يكاد يحصى، فهذا تفاوت بين إنسان وآخر، وهو يدل على أن حلول الأعمال والأحوال القلبية في قلوب العباد تتفاوت. قال رحمه الله تعالى: [فصار واحد من الآدميين خيراً من ملء الأرض من بني جنسه؛ وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان. وإلى هذا المعنى أشار من قال: ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، وهو اليقين والإيمان. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان). وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الصديق رضي الله عنه: (أيها الناس! سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيراً من العافية) رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه. وقال رقبة بن مصقلة للشعبي: رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه. وفي كتاب الزهد للإمام أحمد رحمه الله أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أين أجدك؟ قال: يا موسى عند المنكسرة قلوبهم من أجلي؛ أقترب إليها كل يوم شبراً؛ ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم. وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله]. هذه العبارات مثال لما ذكره شيخ الإسلام من أن الصالحين وبعض العباد قد يطلقون العبارات الموهمة، وهم يريدون معنى صحيحاً، ولا أظنه يقر بمثل هذه المعاني، لكنه يرى أنها ما دامت أطلقت من أناس قصدوا بها مقاصد حسنة، فإنها تفسر بالتفسير الذي قصدوه، لا أنها أخرى، فكلمة: (ما في قلبي إلا الله) أثرت عن بعض العباد والنساك، لكن ما يقصد الحلول، يقصد أنه لم يعد له هم إلا ما يرضي الله عز وجل، ولم يعد له تفكير إلا فيما يرضي الله عز وجل، فقلبه امتلأ بالصدق واليقين والرجاء والخوف، وامتلأ بالإقبال على الله عز وجل، فهذا التعبير الموهم لا يقصد به الحلول البدعي إنما يقصد كمال اليقين والتوكل. وكذلك كلمة (ما عندي إلا الله) يعني: لا أشعر بحاجة إلى العباد من حولي من قوة اليقين، فهذه معان صحيحة، لكن التعبير موهم، وأظنها والله أعلم عندما أطلقت في القرن الأول من بعض العباد لم تكن تشكل عند الناس؛ لأنهم يعلمون أن مقاصد أولئك الأوائل كانت حسنة، وإن لم يوافقوه على ذلك، لكن بعدما بدأت هذه العبارات تستعمل على معنى بدعي في آخر القرن الثالث في عهد الحلاج ومن جاء بعده، فإنهم بعد ذلك صاروا يتحسسون من هذه العبار

التوسع في العبارات المتعلقة بالقرب من الله كالكشف والتجلي وغيرهما والمقصود منها

التوسع في العبارات المتعلقة بالقرب من الله كالكشف والتجلي وغيرهما والمقصود منها قال رحمه الله تعالى: [وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل: (أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده). ويقال: ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره ويقال: مثالك في عيني وذكراك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب وهذا القدر يقوى قوة عظيمة حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء]. هنا أيضاً الشيخ أشار إلى كلمة استعملت في الحق واستعملت في الباطل، وهي كلمة (التجلي) و (الكشف) فبعض العباد استعمل كلمة (التجلي) يقصد قوة صلة القلب بالله عز وجل حتى يعبد الله كأنه يراه، فيسمون هذا تجلياً، ولا يقصدون أنه يتجلى الله عز وجل بذاته لخلقه، إنما قصدهم أنه يتجلى الله للقلب حتى كأنه يراه، فسموا هذا تجلياً، وسموه كشفاً أيضاً؛ لأنه ينكشف للقلب من حقيقة الإيمان والإحسان حتى يتصور أنه يرى الله، من قوة يقينه بالله وامتلاء قلبه بالأحوال القلبية، فهذا سماه بعض الأوائل من العباد كشفاً وسموه تجلياً، لكن فيما بعد أطلقت الصوفية الغالية هذه العبارات على معان بدعية، فزعموا أن الله عز وجل يتجلى لهم بذاته، وزعموا أنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أنه يتجلى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته في اليقظة، وأنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أن الغيب ينكشف لهم بالتجلي والكشف، وتنكشف لهم أحوال الآخرة، وتنكشف لهم أحوال العباد، وينكشف لهم من التشريع ما يحلون به ما حرم الله ويحرمون به ما أحله الله، ويزعمون أن ذلك كشف، فتوسعوا في باب الكشف، لكن الشيخ هنا أراد أن يقول بأنه قد يعبر بعض الصالحين عن قوة صلة القلب بالله عز وجل واليقين والإحسان بالتجلي، بمعنى: أنه يصل قلب المؤمن إلى أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا سموه تجلياً وسموه كشفاً، لكن بعد استعمال العبارة على نحو باطل يجب تجنبها. قال رحمه الله تعالى: [وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى الله أو إلى بعض الأماكن؟ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته؛ كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]. وأما حركة روحه إلى مثل السماوات وغيرها من الأمكنة فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاءون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقر بها أهل الفطرة وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام. وأما القرب من الله إلى عبده هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب؟ هذا فيه كلام ليس هذا موضعه. ومن لم يثبت إلا الأول فهم في قرب الرب على قولين: أحدهما: أنه تجليه وظهوره له. والثاني: أنه مع ذلك دنو العبد منه واقترابه الذي هو بعمله وحركته. وللقرب معنى آخر: وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال: هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه]. الراجح والله أعلم من خلال النصوص أن كل هذه المعاني الشرعية واردة حتى على الكلمة الواحدة من القرب، فالله عز وجل ذكر أنه قريب من عباده، وذكر أنه معهم، ذكر المعية والقرب من عباده، وذكرها للعبد الواحد: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، وذكرها للمؤمنين، وذكرها لعموم العباد: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فهذا القرب يشمل هذه المعاني كلها والله أعلم. كذلك تجليه كما في نزول الباري عز وجل، الذي ورد في أحوال وأوقات وأزمان محددة، فهو قرب على جميع المعاني اللائقة بالله عز وجل، وكذلك قرب العبد نفسه، العبد يقرب من الله بالعبادة، وهو قرب معنوي وقرب حسي أيضاً؛ قرب حسي على نحو لا نعلم كيفيته؛ لأن الله عز وجل أمر عباده بأن يستجيبوا لندائه حتى في الأمور الحسية، مثل الاستجابة لندائه في الحج، كما أمر إبراهيم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قرب في عبادة الله عز وجل يشمل أن الله يتجلى لعباده في هذه الأمور والشعائر والمواسم، وأن العباد يتقربون إليه، وتقرب منه ذواتهم وأعمالهم على نحو يليق بالله سبحانه. أقول: كل هذه المعاني الشرعية التي أثبتها أهل الحق هي معان متقاربة، وربما تتحقق كلها على الوجه الشرعي اللائق بالله عز وجل، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة انكشاف شيء من الغيب للعبد القريب من ربه

حقيقة انكشاف شيء من الغيب للعبد القريب من ربه Q في قرب العبد من ربه، هل ينكشف للإنسان شيء من الغيب؟ A نعم، قد ينكشف له شيء من الغيب، لكن ما يكون له متى أراد، الله عز وجل قد يكرم المؤمن بأن يكشف له شيئاً من الغيب، لا الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. والغيوب أنواع: منها: غيوب تتعلق بأحوال العباد يعلمها بعض المخلوقين ولا يعلمها الآخر، فهناك غيوب تعلمها الملائكة ويعلمها الجن وتعلمها مخلوقات أخرى، أمور غيبية قد يطلع الله عليها بعض عباده من الإنس لكرامة يكرمه الله بها، لكن هذا الغيب إنما هو في أمر محدود على وجه الكرامة، كأن يكون بفراسة المؤمن، أو بكرامة خارقة، أو بالرؤيا الصادقة، فقد يطلع الله المؤمن لصلاحه وإيمانه ودعائه على شيء من الغيب بهذه الضوابط لا الغيب المطلق، مما ينتفع به الإنسان، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تحليل حرام ولا تحريم حلال، ولا تشريع، ولا إقرار بدعة، ولا إقرار منكر. إذاً: قد يؤيد العبد المؤمن بالغيب من الله عز وجل على نحو محدود، فيما فيه مصلحة للعباد، لكن لا الغيب الأكبر، فمثلاً: لا يمكن أن يرى أحد من المؤمنين ربه في الدنيا ولا من غير المؤمنين، ومن ادعى أن الله أكرمه بشيء من ذلك فقد كذب، أيضاً لا يمكن لأحد أن يطلع بعينه على أمر من أمور الآخرة إلا على سبيل الرؤى، وكذلك لا يمكن لأحد أن يطلع على الغيب البعيد الذي لم يتعلق بمصالح العباد؛ لأن الغيب كما هو معلوم على نوعين: الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهذا لا يطلع عليه من عباده أحد بعد النبيين، والنبيون أطلعوا على شيء منه وليس على كله، كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أحوال أهل الجنة، وعلى أحوال أهل النار، وغيب يغيب عن بعض المخلوقات ولا يغيب عن آخرين، فالملائكة عندها من القدرات في إدراك ملكوت السماوات والأرض أكثر مما عند البشر، وعند الجن أكثر مما عند الإنس، فهذا النوع من الغيب قد يطلع الله بعض عباده المؤمنين عليه، إذا كان لهم في ذلك مصالح من باب الإكرام.

معنى قول الشيخ: (وأما حركة روحه إلى السماوات والأرض وغيرها من الأماكن فأقر به جمهور أهل الإسلام)

معنى قول الشيخ: (وأما حركة روحه إلى السماوات والأرض وغيرها من الأماكن فأقر به جمهور أهل الإسلام) Q ما معنى قول الشيخ: (وأما حركة روحه إلى السماوات والأرض وغيرها من الأماكن فأقر به جمهور أهل الإسلام)؟ A حركة الروح: هي صعود الروح ونزولها، خاصة فيما يتعلق بأحوال الميت، فقد ثبت أن الإنسان إذا مات تصعد روحه، فإن كان من أهل الخير ومن أهل الصلاح فتحت لها أبواب السماء، وإن لم تكن كذلك ردت إلى أسفل سافلين، هذا معنى من المعاني الذي يقر به جمهور أهل الإسلام، فما ورد في حركة الروح وصعودها ونزولها نؤمن به، وهذا هو المعنى الذي قصده الشيخ هنا فيما يظهر لي، والله أعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما انتهى إليه بصره من خلقه)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) Q قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، ما معنى: (ما انتهى إليه بصره من خلقه)؟ A هذا المعنى لا تحيط به عقولنا، نسلم به كما جاء، ونعلم أن المقصود به أن من صفات الكمال لله البصر، وأن خلق الله محدود، وبصره غير محدود، فمعنى ذلك: لو أن الله عز وجل كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه جميع خلقه، هذا الظاهر من سياق النص؛ لأن هذا معنى قوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه)، ولا يعني هذا: أن لبصر الله نهاية، لكن لخلق الله نهاية تنتهي إليه، وهذه الصفة لله عز وجل لا تنتهي به؛ فإن صفة الله لا تنتهي أبداً، وهذا ظاهر من السياق، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[11]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [11] يتفاوت المؤمنون فيما بينهم في القرب من الله سبحانه وتعالى، وهذا القرب ناتج عن مقدار موافقة الواحد منهم لله عز وجل، وأكثر الناس موافقة لله هم الأنبياء، وفوق ذلك المرسلون، وفوق ذلك أولو العزم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى وذلك فوق كل مقام.

فصل في اتحاد الأحكام والأسباب في العين واتحاد الأسماء والصفات في النوع

فصل في اتحاد الأحكام والأسباب في العين واتحاد الأسماء والصفات في النوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. وأما ما يشبه الاتحاد فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى، ولا عين صفتها بعين صفتها، إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة، كاتحاد الماء واللبن، فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث وليس ماء محضاً ولا لبنا محضاً]. نحتاج أن نضع قاعدة أو مدخلاً لهذا الفصل؛ من أجل أن تنتظم المسائل في الذهن؛ لأن الشيخ استطرد استطرادات تفصيلية، فالتفريق بين معنى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وبين ما يشابهها من ألفاظ شرعية، قد يفهم منها من خلال النصوص والأحاديث أو من خلال كلام السلف بألفاظ مجملة، قد يفهم منها المعنى البدعي أو الكفري عند البعض، فأراد الشيخ أن يفصل بين المصطلحات الشرعية التي تشتبه على أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ومن شايعهم، وبين المعنى البدعي، فهناك ألفاظ شرعية مجملة جاءت في النصوص الشرعية، مثل حديث: (مرضت فلم تعدني)، فهذه تسمى ألفاظاً مجملة، وهي في ظاهرها قد تشعر عند من لم يكن عنده عقيدة سليمة وبنى عقيدته على الضلال تشعر بمعنى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، فقد يستدل بها المبطلون ويوجهونها على توجيه باطل، لكن الشيخ سيبين أن توجيه هذه النصوص ينبغي أن يكون على الأدوات التي يفهم بها مقاصد الشرع، وهي منهج الاستدلال ومنهج التلقي الذي عليه سلف الأمة، والذي يمثل نهج النبي صلى الله عليه وسلم ونهج الصحابة رضي الله عنهم في بيان الدين وتطبيقه، ونهج السلف الصالح كذلك في تفسير الدين والعمل به، هذا المنهج لا يمكن أن يستغنى عنه، خاصة في تفسير الألفاظ المشتبهة والمجملة، لا يمكن أن نلغي استصحاب منهج الاستدلال الذي يقوم على تفسير النصوص بالنصوص، بحيث ترد مثل هذه النصوص إلى نصوص أخرى تفسرها، وسيقوم الشيخ بعد ذلك بهذا من خلال رد معنى الحديث إلى حديث آخر، فالحديث الذي اشتمل على ألفاظ توهم وحدة الوجود والاتحاد والحلول فسرها الشيخ على المنهج السليم بنصوص أخرى. إذاً: النصوص تفسر بمنهج الاستدلال السليم الذي يقتضي العمل بقواعد الشرع، ومقتضيات الدين وقواعد الدين التي لابد أن يرجع إليها عند فهم الدين، وخاصة النصوص المشتبهة المجملة التي سيذكر الشيخ بعد قليل نماذج منها. قال رحمه الله تعالى: [وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال، ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه، فإن استحالته محال؛ وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع]. يعني: أن الله عز وجل عند أهل الحلول والاتحاد يستحيل في خلقه على أي وجه، سواء قالوا: روح أو عقل، أو كما قال أصحاب وحدة الوجود: تتحد المادة اتحاداً مادياً وروحياً، يعني: يتحول إلى أن يكون عنصراً متحداً بالمخلوقات، تعالى الله عما يتصورون ويزعمون. قال رحمه الله تعالى: [وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع مثل المتحابين المتخالين اللذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويتنعم بما يتنعم به، ويتألم بما يتألم به]. يشير الشيخ إلى بعض معاني الاتحاد أو الوحدة، يعني: أن هذه الألفاظ المجملة أحياناً تعني الشيء الجزئي، كما تقول: فلان لا يرى إلا من خلال صديقه، كأن العبارة تشعر بأنه حل فيه، يعني: أنه سلم له وخضع لقوله، فلذلك الشيخ عندما قال: (وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين) فرق بين الأسباب والأحكام، فاتحاد الأسباب: هو التأثر والتأثير المادي، مثل اتحاد الماء مع النبات، فإن الماء سبب للنبات، فهذا مادي يعود إلى خصائص المخلوقات، والنوع الثاني في الأحكام والعين: التأثير المعنوي، فهذا الأمر قد يكون كلياً وقد يكون نسبياً، والنسبي منه أمر اعتباري، قد يكون فيما يتعلق بصلة صفات الله عز وجل بخلقه، فإن صفات الله عز وجل لها أثر في خلقه، فالرحمة والإرادة والقدرة والخلق صفات لها تأثير، فهل هذا التأثير يعني: الاتحاد؟ لا، إنما يعني: وجود نوع من العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهذه العلاقة لا تعني الاتحاد، فهذا في باب الأسباب والأحكام، فكيف في الأسماء والصفات؟! قال رحمه الله تعالى: [وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط؛ فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد. وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما، التي هي -مثلاً- المحبوب والمكروه هو واحد بالعين، كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين، فهم متحدون في محبته، بمعنى أن محبوبهم واحد، ومحبة هذا من نوع محبته هذا، لا أنها عينها. فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض، وهي الأخوة والخلة الإيمانية، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) أخرجاه في الصحيحين، فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو

درجات الناس في الموافقة لله عز وجل

درجات الناس في الموافقة لله عز وجل قال رحمه الله تعالى: [وهم في ذلك على درجات: فإن كان نبياً كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره، والمرسلون فوق ذلك، وأولو العزم أعظم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى في كل مقام. فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ، سواء كان واجباً أو مستحباً]. وصل الشيخ إلى النتيجة التي يريد، وهي قرب المؤمنين من ربهم مع تفاوتهم، فأقربهم الأنبياء، وهذا نوع من الاتحاد، وليس اتحاداً كلياً، لا، بل قرب القلوب من الله عز وجل، فقرب القلوب من الله عز وجل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الإحسان: (هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا لا شك أنه قرب القلب المؤمن من الله عز وجل بقدر أعماله وأحواله القلبية والعملية، فإذا قويت أحواله القلبية وقويت أعمال الجوارح بخصال الإيمان قرب من ربه، وإذا شعر بنوع من الاتحاد الذاتي والاتحاد العقلي والروحي فإنما هو اتحاد القرب من الله عز وجل، فهذا نوع تقتضيه معاني اللغة وهو الاتحاد السائغ، أما المعنى البدعي والكفري الذي يقتضي الاتحاد الذاتي، ويقتضي الاندماج والمخالطة بين الخالق والمخلوق بأي نوع من أنواع المخالطة، فلا شك أن هذا إساءة إلى الله عز وجل، وسوء أدب مع الله وسوء تصور مبني على توهمات وعقائد باطلة، توارثها هؤلاء الاتحادية والوحدوية وغيرهم، توارثوها من الفلاسفة التالفة عقائدهم ومن الأمم الضائعة في عقائدها، ومن الاتجاهات الشركية والبدعية عند الأمم الأخرى، فإنها هي التي تعتقد هذه الاعتقادات الباطلة في معنى الحلول والاتحاد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]]. يعني: أهل الاتحاد ووحدة الوجود كـ ابن عربي وغيره ساقوا هذا النص على أنه دليل على مذهبهم؛ لأنهم ما فطنوا المعنى الشرعي، ولأنهم زاغت قلوبهم ومالت إلى المعنى البدعي، مع أنه لا شك عند المخاطب أن بيعة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم لا تعني المصافحة المباشرة بينهم وبين الله عز وجل، إنما تعني المعاني الأخرى، أي: أنهم سلموا قلوبهم وأمرهم لدين الله، وخضعوا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الخضوع -والذي شعاره البيعة- بمثابة المبايعة المباشرة لله عز وجل، لكن لا بعينها، فإن الله عز وجل أعظم وأجل من أن يختلط بخلقه على النحو الذي يتصوره هؤلاء المبطلون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:57]. وقال تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24]. وقال تعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]. ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام -إن ثبت هذا اللفظ عنه-: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) ونحو ذلك]. هذه اللفظة مشكلة في الحقيقة، يعني: التعبير عن الله عز وجل بالأب هذا يؤيد النصارى في اعتقادهم بالأبوة والبنوة بين عيسى وبين الله عز وجل، تعالى الله عما يزعمون، والله عز وجل أنكر ذلك، ولا شك أن هذا مما تنكره البدائه والعقول والفطر السليمة، فضلاً عن أن الله حكم بأنه شرك، فهذا المعنى عندما تأملته وجدت أنه راجع إلى الترجمات الطويلة التي تعرض لها الإنجيل والتوراة، وتعرضت لها النصوص المأثورة عن بني إسرائيل، والترجمات يعتريها النقص والانحراف المقصود، فإنه لما دخل قسطنطين ملك اليونان والرومان دين النصرانية فرض عليهم الشرك، فتحولت معاني النصوص الشرعية عندهم والآثار الشرعية إلى الألفاظ الشركية، قصداً وعمداً. أيضاً هناك سبب آخر قد لا يكون مقصوداً عند بعض المترجمين، وهو أن المترجمين من لغة إلى لغة، لما أرادوا أن يحولوا كلمة الرب من لغة إلى لغة، فهموا منها جانباً من جوانب الربوبية، وهو أن من معاني الربوبية لله عز وجل أنه المربي، ففهم بعضهم كلمة (مربي) أباً؛ لأن أصل المربي هو الأب، فتحولت في أذهانهم مع الجهل ومع تراكمات الخرافات إلى جزء من المعاني اللغوية، وأخذوا الجانب الباطل من هذه التفسيرات. إذاً: فالذي يوافق ما كان عليه المتأخرون من نصارى من اعتقاد البنوة والأبوة بين الله عز وجل وبين عيسى عليه السلام، أنهم ترجموا الرب إلى الأب؛ لوجود معنى من المعاني المشتركة، وهو أن من معاني الرب عز وجل أنه المربي، وأيضاً من صفات الأب أنه مربي، فأخذوا هذه اللفظة اللغوية الجزئية فجعلوها هي الأصل، فترجموا الرب بمعنى الأب. وهناك أسباب أخرى أيضاً يطول فيها الكلام، لكن هذه في نظري أبرز الأسب

ما جاء في أولياء الله من نوع هذا الاتحاد

ما جاء في أولياء الله من نوع هذا الاتحاد قال رحمه الله تعالى: [فصل. وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا، فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه)].

شرح حديث: (من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة)

شرح حديث: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) قال رحمه الله تعالى: [فأول ما في الحديث قوله: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين، ولكن ليس الله هو عين عبده، ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع]. يعني: اتفقا في حال من الأحوال وليس في جميع الأحوال هذا أمر، الأمر الآخر: اتفقا في النوع لا في الذات؛ فليس هناك تحابب ذاتي أو عقلي أو روحي كما يقولون، إنما هو نوع من اتفاق الحال، وهذا يرد في أسماء الله وصفاته كما وصف الله عز وجل نفسه بأنه الرحيم، ووصف بعض عباده بأنه رحيم، ووصف نفسه بالعلم، ووصف بعض عباده بالعلم ووصف نفسه بالحكمة ووصف بعض عباده بالحكمة، فهذا اتفاق في النوع لا في الذات. وهذا النوع أيضاً لا بد من إثبات التفاوت فيه، فهو في حق الله عز وجل على الكمال والجلال والعظمة التي لا تحدها حدود، وفي حق المخلوق على ما يليق بالمخلوق من النقص والضعف والمحدودية ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ثم قال: (فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله)، وفي رواية في غير الصحيح: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فقوله: (بي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، بين معنى قوله: (كنت سمعه وبصره ويده ورجله)، لا أنه يكون نفس الحدقة والشحمة والعصب والقدم، وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق، ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة، فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية، فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة]. قوله: (وإنما للمحبوب) لها عدة احتمالات: الاحتمال الأول: أن يكون المحبوب له الحق الذي أوجبه الله عز وجل على نفسه، أي: الحق من الحق. والثاني: أن المحبوب حقه من الحق الذي فرضه الله للعباد، يعني: الحق الجزئي من الحق الكلي، فهذه كلها معان محتملة، وأظن العبارة أقرب إلى هذا السياق، بمعنى أن كلمة الحق ليست مكررة وأنها على ما هي. والآن اقرنوا في أذهانكم تفسير المعاني الأولى في حديث (من عادى لي ولياً فقد بارزته بالحرب)، بما فسر به الحديث نفسه هنا، من أن المقصود هو المقصود الشرعي، يعني: الحديث نفسه الذي سيأتي في صحيح مسلم عن أبي هريرة فسر بعضه بعضاً، فسر المعاني المجملة التي يتكئ عليها أصحاب الحلول والاتحاد بالمعاني التي تميز الخالق عن المخلوق، كما سيأتي في النص نفسه، وأشير إليه أثناء أو بعد سياق الحديث.

شرح حديث: (يقول الله تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني)

شرح حديث: (يقول الله تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني) قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض؟ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي)، ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين وفسرهما]. أحب أن أشير إلى المعاني المجملة التي أراد الشيخ أن يفسر النص بالنص وهذا ما ذكرته لكم في أول القاعدة: أنه إذا وردت هذه الألفاظ المجملة فإنا نفسرها بالألفاظ الأخرى الواردة في الأحاديث الأخرى، وأحياناً يأتي التفسير في الحديث نفسه، فهذا الحديث هو تفسير نصي قاطع على أن المقصود بهذه المعاني المجملة هو المعنى الذي يميز الخالق عن المخلوق، ولذلك لما توهم الإشكال في قول الله عز وجل في الحديث القدسي: (عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟) فوجد التوهم عند المخاطب، فلما وجد فسر في الحديث نفسه، فيقول: (أما علمت أن عبدي فلاناً مرض) لكن يبقى الإشكال عند أهل الحلول والاتحاد على أنه اعتبر نفسه هو عبده، وهذا أيضاً يفسره الحديث فقال: (فلو عدته لوجدتني عنده)، العندية عقلاً وشرعاً ولغة تعني: التمايز، فلا أحد يقول عن نفسه: أنا عند نفسي لا عنده غير. إذاً: العندية تعني التمايز ولا شك؛ فلذلك قال: (فلو عدته لوجدتني عنده)، وهل معنى هذا أن الله عز وجل بذاته يوجد عند المخلوق؟ لا، هذا منفي عقلاً وشرعاً، ومنفي بمقتضى النصوص وبداهة العقول، فيبقى ما معنى كون الله عنده؟ فسره بعد ذلك بأن عبده فلاناً مرض وفلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك، عندي، أي: لو أطعمته لوجدت أجر ذلك عندي، هذا معنى كون العندية لعبده تعني العندية الخاصة والقرب الخاص، والرعاية الخاصة من الله عز وجل لعباده الخلص، فلا شك أن المقصود أجر ذلك وثوابه وجزاء العمل؛ لأن العمل وجد. فإذاً: الحديث فسر بعضه بعضاً على ثلاث درجات: أولاً: جعل العبد غير الرب سبحانه. ومقتضى الحديث الثاني: أنه فسر المعنى على التمييز بين الله عز وجل وبين عبده. ثالثاً: أنه فسر المعنى بالعندية (لوجدتني عنده) ثم فسر العندية بالجزاء فقال: (فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) فانتفى المعنى البدعي الضال والمعنى الشركي الذي عليه أهل الأهواء والبدع من المتصوفة والاتحادية والحلولية وأصحاب وحدة الوجود وغيرهم، ممن مال إلى الباطل، واشتغل بهذه المتشابهات؛ ليصرف الناس عن الحق، وهذه المعاني المتشابهة هي التي جعلها الله عز وجل فتنة للذين في قلوبهم زيغ، كما قال عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، هذا المتشابه الغيبي، والمتشابه غير الغيبي الذي هو في مقدور البشر، قال الله فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]؛ لأن القراءة الصحيحة في القرآن بمثابة النص، يعني: كل قراءة كأنها آية، فمثلاً: الآية التي فيها ثلاث قراءات هي عبارة عن تفهم معنى ثلاث آيات، لكنها آية واحدة، وهذا من إعجاز القرآن، يعني: كل قراءة تحمل معنى غير الآخر، ولفظ القرآن واحد، لكن يكون على الوقف والوصل ونحو ذلك. فالوقف يعني معنى، والوصل يعني معنى آخر، ولا تضاد بين المعنيين، وكلاهما نص مستقل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقوله: (جعت ومرضت) لفظ اتحاد يثبت الحق. وقوله: (لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي) نفي للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد. وقوله: (لوجدتني عنده) لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات]. هذه النصوص لا بد من الجمع بينها؛ لتعطي المعنى الفطري اليقيني الذي ينبني عليه التوحيد والإيمان، ولذلك لا يمكن أن تصفو عقيدة المسلم، ولا يكون عنده القدر اليقيني الصافي الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح إليه القلب، إلا إذا جمع بين نصوص الشرع على نحو ما كان يفعل أئمة السنة رحمهم الله، وبذلك يجد العقيدة الصافية، ولو إنه اشتغل بغير هذا المنهج وضرب آيات الله بعضها ببعض لوجد عنده التشويش، ووجد عنده عدم اليقين. وبعض الناس يقع في هذا الخطأ فيضطرب قلبه، وقد لا يفصح عن ذلك، ويكون سبب اضطراب القلب هو اتباع المتشابه، يعني: تأتيه هذه النصوص فيأخذها على ظاهرها، وقد لا يجيد القدرة على الجمع بين النصوص، أو لا يحفظ النصوص التي بعضها يرد إلى بعض، فلا يرجع إلى أهل الذكر الذين قال الله فيهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الن

الأسئلة

الأسئلة

المعنى المشترك بين المعية والعندية

المعنى المشترك بين المعية والعندية Q ما هو المعنى المشترك بين المعية والعندية؟ A يعني: المعية تعني العندية في كثير من الأحوال. مداخلة: هل يمكن أن يقال: إن العندية يقصد بها المعية؟ الشيخ: بلى، العندية هي نوع من أنواع المعية، فيجوز أن تفسر بها في بعض النصوص حسب السياق، فالعندية والقرب والمعية بينها ترادف من وجوه كثيرة.

تنزه عيسى عليه السلام مما نسب إليه من ادعاء النبوة

تنزه عيسى عليه السلام مما نسب إليه من ادعاء النبوة Q أراك سلمت بمقولة المسيح: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) وقد وردت في الكتاب، وإن جاء هذا اللفظ عنه فيحتمل كذب نسبتها إليه؟ A نعم، صحيح، وأنا في الحقيقة ما كان في بالي الاحتراز، لكن أظنه واضح من سياق شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم هذا الكلام ما ورد بالإسناد، وأيضاً هو يدخل في أحاديث بني إسرائيل، فأقول: على أي الاعتبارات هذه الكلمة لابد أن نقف عندها، حتى لو كانت في أحاديث مكذوبة، فهم يجعلونها من أدلتهم على البنوة، تعالى الله عما يزعمون.

التعريف بالتأصيل العلمي الشرعي وغيره وطرق تحصيله

التعريف بالتأصيل العلمي الشرعي وغيره وطرق تحصيله Q ما المقصود بالتأصيل العلمي؟ وما كيفية تحصيله؟ A التأصيل العلمي: هو استخراج القواعد والأصول والمناهج والأحكام الشرعية على ضوء المنهج الشرعي الصحيح السليم، وذلك باستخلاص هذه الأمور في التلقي والاستدلال وسلامة المقاصد، وأيضاً استخلاص الفوائد، وأن ترجع الأمور إلى الأصالة الشرعية، سواء كانت في باب العقائد أو في باب الأحكام والمفردات والأصول والمناهج، فالتأصيل هو إرجاعها إلى أصل شرعي قوي يعتمد على الشرع تطمئن إليه النفس، هذا بالنسبة للتأصيل الشرعي. أما التأصيل غير الشرعي فيرجع إلى أصحاب الاختصاص، والتثبت من المعلومة بالطرق العلمية المعتبرة.

حكم إطلاق صفة الولي على من يوثق بدينه وصلاحه

حكم إطلاق صفة الولي على من يوثق بدينه وصلاحه Q هل يصح إطلاق لفظ (ولي) في وقتنا الحاضر على من يوثق بدينه وصلاحه؟ A ليس هناك مانع؛ فقد وردت ألفاظ الولي والأولياء في القرآن والسنة، فإذا توافرت في الإنسان صفات الصلاح والاستقامة فيمكن أن يقال: هذا إن شاء الله ولي من أولياء الله، على اعتبار الرجاء من الله لا على اعتبار الجزم.

[12]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [12] قلب العبد المؤمن لابد أن تتحقق فيه المعرفة والمحبة لله عز وجل، وهذا فرض لا يعذر فيه أحد، بخلاف الأعمال فإنه لا يجب على العبد منها إلا ما يطيقه، والعباد فيه متفاوتون، ولا يأتي بكمالها إلا السابقون المقربون، الذين تقربوا إلى الله بما يحب من الفرائض، ثم أتبعوها بما يحب الله من النوافل.

فصل في كون الله في قلب العبد بالمعرفة وموافقته لربه فيما يحبه

فصل في كون الله في قلب العبد بالمعرفة وموافقته لربه فيما يحبه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. فهذان المعنيان صحيحان ثابتان، بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان. أما الأول: وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة، فهذا فرض على كل أحد، ولا بد لكل مؤمن منه، فإن أدى واجبه فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه، وإن تركه كله فهو كافر بربه]. يعني: هذا فيما يتعلق بالأحوال القلبية التي أساسها المعرفة بالله عز وجل والمحبة لله، والمحبة لا بد أن ينتج عنها الرجاء والخوف والخشية وسائر الأحوال القلبية، فهو يقول: إن قلب العبد لا بد أن تتحقق فيه المعرفة والمحبة لله عز وجل، وهذا فرض لا يعذر به أحد؛ لأن الواجب على الإنسان أن يعمل ما يستطيعه من الأعمال المفروضة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذا بالنسبة للأعمال، أما بالنسبة للأمور القلبية فهي أحوال لا يعذر بها أحد؛ لأنها أمور لا تحتاج إلى جهد، إنما هي ما يقر في القلب من الإيمان الذي أساسه المحبة والخشية والرجاء، فلا أحد يعذر في أن يكون في قلبه المحبة الكاملة لله عز وجل، وهذا فرض على كل أحد، ولا بد لكل مؤمن منه، فإن أدى واجبه في محبة الله فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه تجاه محبة الله عز وجل فهو ظالم لنفسه، وإن ترك ذلك كله فهو كافر، إذا لم يكن في قلبه أدنى ذرة من الإيمان، أو لم يكن في قلبه أدنى ذرة من المعرفة والمحبة لله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه، ويرضاه ويسخطه، فهذا على الإطلاق إنما هو للسابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بالنوافل التي يحبها ولم يفرضها، بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها، ويعذب تاركها]. يعني: الأول يتعلق بالأحوال القلبية، والثاني يتعلق بما ينبعث من الأحوال والأعمال القلبية من أعمال الجوارح، والتسليم لله عز وجل والطاعة.

الثواب على نية عمل الخير

الثواب على نية عمل الخير قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان هؤلاء لما أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، المنتظمة للمعارف والأحوال والأعمال، أحبهم الله تعالى، فقال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل، مناسب له مناسبة المعلول لعلته. ولا يتوهم أن المراد بذلك: أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله، فإن هذا ممتنع، وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة، والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب). وقال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر). وقال صلى الله عليه وسلم: (فهما في الأجر سواء) في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه، الذي قال: (لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل)، فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)]. خلاصة هذا الفصل: أن الشيخ أراد أن يقرر أن المعنى الشرعي المطلوب من العباد في المحبة لله والمعرفة واليقين: هو التدين بما شرعه الله عز وجل من الدين واليقين والإيمان، الذي هو أحوال القلب في التوجه إلى الله عز وجل بالمحبة والرجاء والخوف وسائر الأعمال القلبية، وأحوال الجوارح بالعمل بما شرع الله عز وجل، هذا هو غاية الدين؛ لينفي بذلك ما ادعاه المبطلون من أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من أن الغرض هو التنصل من التوحيد والشرائع، والوصول إلى ما يزعمون أنه الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وهذه المعاني التي ادعاها هؤلاء باطلة ليست هي المعاني الشرعية المقصودة، إنما المعاني الشرعية هي ما يتحقق بها الدين واليقين والإيمان كما شرع الله عز وجل وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم.

بيان عذر من يغيب عقله ويقع في نوع من الحلول والاتحاد

بيان عذر من يغيب عقله ويقع في نوع من الحلول والاتحاد قال رحمه الله تعالى: [فصل. وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل، لكن لما ورد عليه ما غيب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه، كان معذوراً غير معاقب عليه ما دام غير عاقل، فإن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وإن كان مخطئاً في ذلك كان داخلاً في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5]]. هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام هنا يرد كثيراً في كتبه، خاصة في الأجزاء التي تكلم فيها عن السلوك والتصوف، وكذلك في كتبه التي تكلم فيها عن المسالك الصوفية، مثل: (الاستقامة) و (الرد على البكري) وغيرها. في هذه الكتب نجد أن الشيخ في حكمه على شطحات الصوفية الأوائل يقول مثل هذا الكلام، وهو موقف عجيب من شيخ الإسلام رحمه الله، خاصة إذا طبقناه على الأمثلة التي ذكرها الشيخ، هنا يشير إلى ما ورد من أوائل الحلولية والاتحادية في القرن الأول والثاني والثالث الهجري، وأكثر ما كان ذلك في القرن الثاني والثالث. كانت مجرد شطحات بسيطة في القرن الأول، لكن في القرن الثاني والثالث قبل ظهور الطرق الصوفية ظهرت من أوائل العباد عبارات إلحادية صريحة في الإلحاد، وهؤلاء كثير، منهم: (رابعة العدوية، وذو النون المصري، وابن أبي الحواري، والتستري، والبسطامي، والنوري، والشبلي، حتى توج هذا الاتجاه الخبيث الحلاج في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، توجه بالتصريح بالإلحاد، كان يصرح بالإلحاد حتى عندما ناقشه العلماء، وعندما استتيب ولم يتب، أما قبله فكانت أحوالاً وقع فيها بعض هؤلاء وأمثالهم، فيصرحون بالإلحاد أحياناً، في لحظات يظهر الواحد منهم أنه غير سوي، مثلاً: يكون مغشياً عليه، أو صعق لمفاجأة أتته، أو يكون في حال من الضعف الجسماني بعد السهر والجوع والعطش، فتحصل لهم حالات تشبه ما يسمى في عصرنا بالهستيريا، أثناء هذه الحالات التي تعتريهم يتلفظ كثير منهم فيها بالإلحاد، واحد يقول عن نفسه: سبحاني، وواحد يقول مثلاً للديك والكلب: لبيك لبيك، نسأل الله السلامة، وثالث يقول: ما في الجبة إلا الله. هذا قبل الحلاج، ورابع يحلق لحيته، ويترك صلاة الجماعة، وتحصل منه تصرفات حتى يدخل مستشفى المجانين، وآخر يقول: لماذا تخافون من النار؟ ما هي إلا أن أنصب عليها خيمتي فتنطفئ. وغيره يضرب صدره مقابل اليهود ويقول: هؤلاء في ذمتي. هذه كلمات إلحادية ليست مجرد عبارات مخبولين ولا عبارات مجانين، بل هذه مذاهب. فـ شيخ الإسلام يقصد ما قبل الطرقية، أما الطرقية فللشيخ كلام آخر. يقول عن هؤلاء: إن هؤلاء تعتريهم حالات من السهر والجوع والعطش، وبسبب جهلهم وضعفهم تعتريهم حالات يتكلمون بهذه الكلمات، ثم يقول: فلعلهم يعذرون في مثل هذا الكلام؛ لأنهم ليسوا عقلاء. وهذا عجيب من شيخ الإسلام. ولذلك ينبغي أن يتوقف طالب العلم في هذه المسألة؛ لأنه إن فرضنا أنهم تكلموا بغير إرادتهم أو من غير شعور كما نقول، لكن هل يعقل أن تأتي هذه الإلحاديات المقننة التي هي امتداد لمذاهب قديمة إلا في حال الجنون أو الخبال أو السكر أو نحو ذلك؟ يحتمل أن يكون أراد أن يتستر بهذه الحالات من أجل ألا يؤاخذ ولا يقتل أو يرجم من العوام؛ لأن مثل هذه الكلمات لا يتركها الناس، فبمجرد ما يسمعها العوام من هؤلاء يرجمونهم بالحجارة أو يطردونهم من القرى التي هم فيها، لكن مع ذلك هؤلاء لم يتخذ إزاءهم أي إجراء، حتى إن بعض العلماء احتسب على هؤلاء، وكانوا مجموعة منهم: التستري، والبسطامي، والنوري، والشبلي، فقام العلماء المحتسبون ورفعوا بهؤلاء إلى الحاكم فأتوا بهم إلى أحد القضاة، فلما اجتمعوا وسألهم وجد أن عندهم المذاهب الخبيثة التي اتهموا بها، فحكم بقتلهم، فلما جهزت وسائل القتل انبرى أحدهم -وأظنه النوري - فقدم نفسه قبلهم، فرق القاضي لهم وعفا عنهم، وقال كلاماً يدل على أنهم لبس عليهم الأمر. لكن مثل هذه الكلمات لو كانت غير منتظمة وغير مقننة، ولا تحمل صور المذاهب القديمة المعروفة في الأمم لقلنا: إنها عفوية أو نتيجة جنون، لكنها كلمات إلحادية أصبحت مذاهب فيما بعد، فأقول: ربما أنهم يلجئون إلى الادعاء بأنهم ليسوا أسوياء؛ من أجل أن يسلموا من القتل والمطاردة، ثم إن عندهم تعارضاً حاداً، فهؤلاء الذين أثر عنهم مثل هذه الكلمات الإلحادية أثر عنهم التصريح بوجوب الأخذ بالعقيدة السليمة والتوحيد والسنة، وأن كل أعمالهم يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، وما خالفهما يرد. وهذا

توهم أهل الحلول أنهم يرون الله في الدنيا رأي عين

توهم أهل الحلول أنهم يرون الله في الدنيا رأي عين قال رحمه الله تعالى: [فأما إذا كان السبب محظوراً، لم يكن السكران معذوراً. وأما أهل الحلول فمنهم من يغلب عليه شهود القلب وتجليه، حتى يتوهم أنه رأى الله بعيني رأسه، ولهذا ذكر ذلك طائفة من العباد الأصحاء، غلطاً منهم]. هذه القاعدة جيدة: (إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً) يعني: هؤلاء الذين يعتذر عنهم أحياناً شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم قالوا هذه الكفريات في حال العوارض، وحال غياب العقل، والسبب في غياب عقولهم هو نزوعهم إلى كثرة العبادة والسهر والعطش والجوع، فهل هذا مشروع؟ هل يشرع للمسلم أن يوقع نفسه في هذا الحد، من أنه يسهر ويعطش ويجوع حتى يفقد عقله؟ إذاً: هم وقعوا في سبب غير مشروع، وإذا كان وقوعهم في السكر وما يعملونه من الأوراد والسماعات والأغاني التي هي أسباب لحضور الشياطين حتى تطيش عقولهم ويقعون في الرقص والهذيان والسكر فهذا أيضاً سبب غير مشروع. قال رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال، ودعواه الربوبية، قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى متعددة حسنة في حديث الدجال. فإنه لما ادعى الربوبية، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فرقانين ظاهرين لكل أحد. أحدهما: أنه أعور والله ليس بأعور. الثاني: أن أحداً منا لن يرى ربه حتى يموت، وهذا إنما ذكره في الدجال مع كونه كافراً؛ لأنه يظهر عليه من الخوارق التي تقوي الشبهة في قلوب العامة].

فصل في الاتحاد المطلق

فصل في الاتحاد المطلق قال رحمه الله تعالى: [فصل. فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد الذي فيه نوع حق تبين أيضاً ما في المطلق من ذلك. فنقول: لا ريب أن الله رب العالمين، رب السماوات والأرضين وما بينهما، ورب العرش العظيم، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، ربكم ورب آبائكم الأولين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى. وهو رب كل شيء ومليكه، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الرحمن على العرش استوى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم. قلوب العباد ونواصيهم بيده، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذي أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وينزل من السماء ماءً، فيحيي به الأرض بعد موتها. ويبث فيها من كل دابة. وهو الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون، وهو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القاسم بالقسط، القائم على كل نفس بما كسبت، الخالق البارئ المصور، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وما شاء الله لا قوة إلا بالله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. فهذه المعاني وما أشبهها من معاني ربوبيته وملكه، وخلقه ورزقه، وهدايته ونصره، وإحسانه وبره، وتدبيره وصنعه، ثم ما يتصل بذلك من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، يبصر دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء. فهذا كله حق، وهو محض توحيد الربوبية، وهو مع هذا قد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. وهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء، والخير كله بيديه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله، لله أرحم بعباده من هذه الوالدة بولدها)، إلى نحو هذه المعاني التي تقتضي شمول حكمته وإتقانه، وإحسانه خلق كل شيء، وسعة رحمته وعظمتها، وأنها سبقت غضبه، كل هذا حق. فهذان الأصلان: عموم خلقه وربوبيته، وعموم إحسانه وحكمته، أصلان عظيمان، وإن كان من الناس من يكفر ببعض الأول، كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه، ويضيفونها إلى محض فعل ذي الاختيار، أو الطبعية الذين يقطعون إضافة الفعل إلى الله سبحانه، ويضيفونه إما إلى الطبع، أو إلى جسم فيه طبع، أو إلى فلك، أو إلى نفس أو غير ذلك مما هو من مخلوقاته العاجزة عن إقامة نفسها، فهي عن إقامة غيرها أعجز. ومن الناس من يجحد بعض الثاني أو يعرض عنه، متوهماً خلو شيء من مخلوقاته عن إحسان خلقه وإتقانه، وعن حكمته، ويظن قصور رحمته وعجزها، من القدرية الإبليسية، أو المجوسية وغيرهم]. كل هذه المذاهب موجودة في طوائف الفرق، الصنف الأول الذين أخلوا بالأصل الأول: عموم الخلق والربوبية: هم القدرية، والذين أشار إليهم الشيخ هنا المجوسية والقدرية، وهم القدرية الأولى والثانية، والقدرية الأولى: القدرية المعبدية والغيلانية، الذين نفوا تقدير الله عز وجل لجميع أفعال العباد، بل نفوا جميع مراتب القدر، وأن الله عز وجل لم يعلم ولم يكتب، ولم يقدر أفعال العباد، ثم بعد ذلك لما صدم بالنصوص، وكفر السلف من أنكر العلم، وقفوا عند إنكار التقدير، وزعموا أن الله عز وجل لم يقدر بعض أفعال العباد، وهذا هو الذي عليه القدرية الثانية قدرية المعتزلة. فهؤلاء أخلوا بالأصل الأول وهو عموم خلق الله وربوبيته، فجعلوا خلق الله ليس عاماً، إنما جعلوا معه خالقاً من دونه سبحانه، كما فعلت المجوسية، فزعموا أن الإنسان خالق أفعاله، وبعضهم لم يصرح بالخلق، لكنه يلزمه؛ لأنهم زعموا أن أفعال العباد أو بعضها ليست من تقدير الله، تعالى الله عما يزعمون وهذا شرك في الربوبية ولا شك. إذاً: تكون من تقدير من؟ لا بد أن تضاف إلى مقدر، فزعموا أن الإنسان هو الذي يقدر، فهؤلاء جعلوا الإنسان خالقاً مع الله، تعالى الله عما يزعمون، هذا الصنف الأول. أما الصنف الثاني: فهم الذين أخلوا بعقيدة عموم الإحسان من الله والحكمة، وهم طائفة من المتكلمين، ومنهم متكلمة الأشاعرة، فإنهم نفوا الحكمة والتعليل في أفعال الله عز وجل، وترتب على هذا -وإن كان ليس

الأسئلة

الأسئلة

النهي عن التكلف في تفسير النصوص وحملها على غير ظاهرها

النهي عن التكلف في تفسير النصوص وحملها على غير ظاهرها Q أليس الأصل أن النصوص تؤخذ على ظاهرها ما لم يصرفها صارف من قرينة أو غيرها، ولكن الذي نراه أن هناك تفسيراً لبعض النصوص على غير ظاهرها، نحو قوله سبحانه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41]، حيث فسرها بعضهم بأن معنى الأهون ليس الأضعف، وكذلك تفسير بعض طلبة العلم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)، فسرها بأن المقصود ألا يطيل الصلاة وإنما يتأنى في الصلاة ولو أطال الخطبة؟ A هذه التفسيرات لا دخل لها بالمجاز، وأرجو من الكاتب أن يرجع إلى التفسيرات الصحيحة لهذه النصوص، أما تفسير الحديث فهو ظاهر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن من فقه الرجل أن يطيل الصلاة في حدود السنة أيضاً، أما إذا صلى الإنسان لنفسه فله أن يطيل ما شاء، لكن إذا صلى بغيره يطيل إطالة نسبية ليست كصلاته لنفسه، وقصر الخطبة لا شك أنها من علامات فقه الرجل، بدون تأويلات وبدون تفسيرات، ولا اللجوء إلى ما ذكره الكاتب عن بعض الناس أنهم قالوا كذا، أو قالوا كذا فهذا الحديث نصه ظاهر ومعناه ظاهر ولا إشكال فيه، فهذه التأويلات ليست محسوبة على المنهج العام للسلف في تفسير النصوص.

المنهج الحق في التعامل مع أهل السنة وأهل الأهواء والتعريف بهم

المنهج الحق في التعامل مع أهل السنة وأهل الأهواء والتعريف بهم Q لو تكرمت أن تكتب للناس رسالة عن الأشخاص قديماً وحديثاً ممن يظن أنهم من أهل السنة والجماعة حتى يعلم بهم الناس؟ A ما أدري هل قصده أهل الخير أو أهل السنة أو قصده أهل الأهواء؟ لكن ما أرى أن تتوجه همة أحد من طلاب العلم إلى مثل هذا بخصوصه، يعني: لا ينبغي لطالب العلم أن يكون همه أن يشهر بأحد بهذه الطريقة. أئمة أهل السنة والجماعة رفع الله عز وجل قدرهم، ووضع في قلوب العباد حبهم واعتبارهم، من غير أن نسلك الأساليب التي عليها الأحزاب والفرق وغيرها، ممن يسلكون مسلك الدعاية في لغة المعاصرين، فطالب العلم إذا ما كانت سمعته بعلمه وبانتفاع الأمة منه فلا ينبغي أن نصنع له هالة إعلامية نتصنعها بتكلف، فهذا أسلوب غير شرعي؛ فالمعهود عقلاً وشرعاً خاصة عند أهل السنة أن من كان فيه خير ونفع للأمة والإسلام والمسلمين في تقرير السنة فإن الله يرفع قدره بدون ما نتكلف له ذلك، وكذلك العكس كوننا نتصيد أو نتقصد أهل الأهواء والبدع بأسمائهم ثم نشهر بهم بطريقة تخالف المنهج الشرعي، فإن هذا سيؤدي إلى التعاطف معهم ولاستفزازهم، وليس هذا بمنهج شرعي، وما دمنا نستطيع أن نعالج أخطاء الذين يقعون في الأخطاء بغير التشهير بأسمائهم فهذا أولى وأسلم، إلا في حالات يقدرها العلماء الكبار.

وجه كون صاحب البدعة غالبا لا يوفق للتوبة

وجه كون صاحب البدعة غالباً لا يوفق للتوبة Q ذكرت بأن صاحب البدعة غالباً لا يوفق للتوبة، وإن تاب تبقى عنده رواسب من أفكاره التي كان عليها؟ فهل نعتبر هذه قاعدة عامة؟ A القاعدة العامة: أن صاحب البدعة غالباً لا يوفق للتوبة إذا أصر على بدعته وقامت عليه الحجة وبان له الدليل، وذكرت في ذلك أسباباً كثيرة، لكن السبب البين الظاهر: أن صاحب البدعة يحسن له الشيطان بدعته، ويظن أنها الحق، فهل تتوقعون من إنسان يظن أنه على الحق أن يتوب من الحق الذي يزعمه، فلذلك ما يوفق، هذا شيء. السبب الآخر: أننا نتكلم عن صاحب البدعة المؤصل لها والمقيم والمصر عليها، أما المبتدع التابع العامي المبتدع الجاهل فقد يتوب؛ لأنه جاهل لا يدري أنه ابتدع، فإذا عرف أنه ابتدع قد يتوب. إذاً: صاحب البدعة الذي يصر على بدعته ويعلنها فإنه قل أن يوفق للتوبة، وهذه قاعدة حتى بالاستقراء التاريخي هل سمعتم بفرقة مبتدعة رجعت إلى السنة، ما أعرف فرقة مبتدعة في تاريخ الأمة إلى يومنا هذا رجعت إلى السنة. أما الأشخاص فنعم قد يكون منهم من يرجع إلى السنة، لكن نادر وقليل، ولذلك الذين تابوا من البدعة أعداد قليلة جداً على مدار التاريخ ممن سمعنا بهم، أو سطر أسماءهم التاريخ. أما قوله: إن تاب تبقى عنده رواسب من أفكاره التي كان عليها هذا هو الغالب؛ لأن ممن كانوا على بدع ثم تابوا منها فلا أعرف أن أحداً منهم سلم من أوضار البدعة التي كان عليها، إلا البدع الصغار البدع الجزئية، أما بدع المناهج كبدعة المعتزلة والخوارج والمرجئة والجهمية والأشاعرة والماتريدية، والذين كانوا على مناهج أهل البدع ثم رجعوا إلى السنة، يندر أن يكون منهم من يسلم من غوائل الخلفيات السابقة إلا القليل، لكن كما يقال: النادر لا حكم له، تبقى القاعدة على العموم، وكل قاعدة لها استثناءات، حتى القواعد الكونية التي جعلها الله عز وجل سنناً كونية، فالله عز وجل أحياناً بخرقها بمعجزات وغير ذلك.

رؤية الله في المنام

رؤية الله في المنام Q في حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، هل يشمل هذا الرؤيا المنامية؟ A لا يشمل الرؤية المنامية؛ لأن الله عز وجل لا يرى على الحقيقة في المنام؛ لأن الأحلام في المنام هي أشبه بالخيالات، فكما يتخيل الإنسان أحياناً إذا سمع بأسماء الله وصفاته يتخيل صفات الرب عز وجل، فكذلك في المنام قد يتخيل أنه رأى ربه، فإذا قال أحد: إني رأيت ربي في المنام، فهو رأى شيئاً يظنه ربه، وليس هو الرب سبحانه على الحقيقة، وقد يرى الإنسان في منامه أنه رأى الله، وهذا صحيح، وقد تكون أضغاث أحلام، وقد تكون الرؤى صادقة، بمعنى أنها أمثالاً ضربت للإنسان لفائدة له، لعله يتعظ ويزداد خيراً إن كان على خير، أو يكف عن شر إن كان على شر. ولذلك إذا رأى أحد ربه فليعلم أن هذه موعظة ثم يتنبه لنفسه، ويتفقد حاله، كثير من الناس يبدو لهم أنهم رأوا ربهم في المنام، وأنا رأيت مرة كأني رأيت ربي، وبمجرد أن قمت من النوم عرفت أني لم أر ربي على الحقيقة، رأيت شيئاً في المنام، لكن ليس هو الله عز وجل، تعالى الله، بل هي خيالات وأوهام. وهذه المسألة يكثر فيها الخوض بين طلاب العلم، بعضهم يقول: أبداً لا يمكن لأحد أن يرى ربه في المنام، نقول: هذه مسألة ليس لها علاقة بالرؤية العينية أبداً، رؤية المنام أحلام، والأحلام لا حجر لها؛ لأن الروح ترى الخيال والخبال والحق والباطل، لكنها لا يمكن أن تكون رؤية حقيقة لله عز وجل أبداً، حتى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ورؤى الأنبياء حق، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي البارحة على أحسن صورة) يعني: مثل له على أحسن صورة، لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى الحق لربه من رؤية الناس. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[13]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [13] من الأمور التي تميز بين الخالق والمخلوق كون الخالق غنياً والمخلوق فقيراً يحتاج إلى من يقضي حاجته، وكون الخالق مسئولاً والمخلوق سائلاً، فالمخلوق مفتقر في كل أموره إلى خالقه سبحانه، هذه البدهيات جاء الزنادقة من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ولبسوا على الناس فيها، فكان لزاماً على العلماء أن يبينوا للناس ما لبس عليهم في هذه الأمور، وأن يحذروهم من الانجرار وراء أهل الزندقة والإلحاد.

بيان مظاهر ألوهية الله وربوبيته وحكمته ورحمته وتدبيره العالم المحيط

بيان مظاهر ألوهية الله وربوبيته وحكمته ورحمته وتدبيره العالم المحيط الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا اليوم في الفتاوى، وبعض المقاطع التي سنقرؤها طويلة وليس فيها تعليقات والشيخ في هذا الفصل أراد أن يرد على أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وذلك بتقرير الفرق الفطري والعقلي والشرعي المسلم به لدى جميع العقلاء بين الخالق عز وجل وبين المخلوقين بين الرب وبين المربوبين، وذلك أن الرب سبحانه هو الخالق البارئ المصور سبحانه، وهو الغني وهو المعبود وله المثل الأعلى في كل شيء، وله الكمال المطلق، وله الجلال والجمال سبحانه، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد السماوات والأرض بيده ملكوت كل شيء، وأما المخلوق المربوب فهو ضعيف فقير مفتقر إلى الله عز وجل في كل شيء، ومحدود في الزمان والمكان، وهذا الفرق سيقرره الشيخ على نحو القواعد التي تتضمن الرد على فلسفة أصحاب الحلول ووحدة الوجود والاتحاد، لكن على منحى شرعي يستند ويرتكز على الدليل الشرعي المتضمن للدليل العقلي، على نحو ما ستلاحظون من خلال استقراء وسرد الآيات التي تدل على هذه الأمور، وإن كانت دلالتها بدهية كما ذكرت في دروس سابقة؛ لكن نظراً لأن هؤلاء المبطلين شككوا في البدهيات فلا بد من تقرير الحق، لاسيما وأنهم ضللوا وخدعوا ولبسوا على طوائف من المسلمين، فكان لا بد من تمييز الحق من الباطل، والدفاع عن الحق ورد الباطل بالقواعد الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. وهو كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته، فكذلك يشهد إلهيته العامة، فإنه الذي في السماء إله وفي الأرض إله، إله في السماء، وإله في الأرض: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] الآية، على أحد القولين: على وقف من يقف عند قوله ((وَفِي الأَرْضِ)) فإن المعنى: هو في السماوات الله، وفي الأرض الله، ليس فيهما من هو الله غيره. وهذا وإن كان مشابهاً لقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهو أبلغ منه. ونظيره قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]. وقد قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27]. وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]. وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]. وقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:26 - 27]. وقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1]. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1]. ونحو ذلك من معاني ألوهيته، وخضوع الكائنات وإسلامها له، وافتقارها إليه، وسؤالها إياه، ودعاء الخلق إياه، إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، وإما دعاؤهما جميعاً، ومن أعرض عنه وقت الاختيار: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، ونشهد أن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فإنه باطل إلا وجهه الكريم، كما نشهد أنها كلها مفتقرة إليه في مبدئها، نشهد أنها مفتقرة إليه في منتهاها، وإلا كانت باطلة. فهذه المعاني التي فيها تأله الكائنات إياه، وتعلقها به، والمعاني الأول التي فيها ربوبيته إياهم وخلقه لهم، يوجب أن يعلم أنه رب الناس ملك الناس، إله الناس وأنه رب العالمين لا إله إلا هو، والكائنات ليس لها من نفسها شيء، بل هي عدم م

الفرق بين وجود الخالق ووجود المخلوق

الفرق بين وجود الخالق ووجود المخلوق ثم قرر الشيخ بعد ذلك هذا بقاعدة: أن هذه الكائنات الناقصة الحادثة الفانية موجودة، وهناك وجود آخر وهو وجود الحق عز وجل الخالق البارئ المصور الذي ليس قبله شيء، حيث قال: فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا فيه دلالة ظاهرة على أن هناك أولاً، فالأول الذي ليس قبله شيء هو الله عز وجل، الذي وجوده أزلي، وهناك في الوجود حادث مخلوق لا يقابل الأول؛ لأنه سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، ومن هنا يتجلى مدى كمال الله عز وجل وتصور ذلك في الأذهان، وهو إحكام الكمال المطلق لله بقولنا: هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وبين الأولية والآخرية وجود مفتقر حادث ليس هو الأول المطلق ولا الآخر المطلق وهو المخلوقات؛ لذلك قوله: (ليس قبله شيء) دليل على أن المخلوقات حادثة، (وليس بعده شيء) دليل على أن الدوام لله عز وجل، وما يدوم شيء إلا بقدرة الله سبحانه، فدوام المخلوقات مثل: الجنة والنار هذا دوام من تقدير الله وخلقه، مفتقر في دوامه إلى الله وتقديره، فلو لم يقدر الله دوام هذه الشئون لما كان لها دوام، ودوامها أيضاً لا يمكن أن يعبر عنه بأنه الذي ليس بعده شيء؛ هذا لا يجوز إلا لله. إذاً: هناك فرق بين من ليس قبله شيء وهو الله عز وجل، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وبين ما هو مفتقر في وجوده وبقائه وفنائه وبعثه إلى الله عز وجل، وتقدير جميع أحواله.

تنوع معية الله لخلقه وتفاوتهم في درجاتها

تنوع معية الله لخلقه وتفاوتهم في درجاتها ثم أشار إلى المعية في هذه الفقرة، قال: [ونعلم أن معيته مع عباده على أنواع وهم فيها درجات]، يعني: المعية دليل على التميز بين الخالق والمخلوق. وهذا فيه رد ظاهر على أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، فإن المعية تدل على الاختلاف، لا يقال للشيء نفسه: إنه مع نفسه، لا يقال للشيء الواحد: إنه مع نفسه، إنما إذا قيل: الشيء الفلاني مع الشيء الفلاني فبينهما فرق ذاتي ومعنوي. فإذاً: تحقيق المعية لله عز وجل وكونه مع عباده المعية العامة، ومع عباده الصالحين وعباده المؤمنين المعية الخاصة، أن هذه المعية تدل على المفارقة بين وجود الله عز وجل وبين وجود المخلوق، وأن لله عز وجل وجوداً يخصه وكمالاً لا يمكن أن يكون لأحد من خلقه، والخلق الذي له وجود يفتقر ويفنى وينتهي. وهذه المعية معية محدودة، وتدل على الفرق بين الله عز وجل وبين خلقه، وهكذا بقية الأمور، وهذا مما قد لا يدرك إلا بمثل هذا الفقه الذي وفق الله إليه شيخ الإسلام رحمه الله.

فصل في بيان الباطل المحض في الحلول والاتحاد

فصل في بيان الباطل المحض في الحلول والاتحاد

الفرق بين ما يمنحه الله من آثار ربوبيته لعباده الصالحين وبين ما يمنحه من هذه الآثار لغيرهم

الفرق بين ما يمنحه الله من آثار ربوبيته لعباده الصالحين وبين ما يمنحه من هذه الآثار لغيرهم قال رحمه الله تعالى: [فصل. فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين، كنبي أو رجل صالح ونحو ذلك. قد بينا ما فيه من الحق المحض، وما فيه من الحق الملبوس بباطل، وسنبيّن إن شاء الله ما فيه من الباطل المحض]. ولذلك أحب أن أنبه إلى ما يشير إليه الشيخ هنا، فقوله: (يشبه الاتحاد أو الحلول في معين كنبي أو رجل صالح أو نحو ذلك) يعني: أن الاتحاد والحلول في المعين له وجه حق ووجه باطل على ضوء ما سبق، وجه الحق في حلول معاني الربوبية والألوهية في قلوب الصالحين، وجه الحق في كونهم امتلأت قلوبهم بخشية الله عز وجل وتقواه ومحبته، في كونهم حلّت عظمة الله في قلوبهم، وأن الله ربهم ومعبودهم وإلههم، وامتلأت قلوبهم بالمعاني الإيمانية والإنابة إلى الله عز وجل، والاستجابة لله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، فهذا قد يسمى لغة: حلولاً، لكن ليس حلول الإله، وإنما حلول تعظيم الإله في قلوب العباد. ثم ذكر ما ينافيه من الحق المحض، وما فيه من الحق الملبوس بباطل، وهو ما وجد عند بعض العُبّاد الذين عبدوا الله أولاً على طريق صحيح، لكن تجاوزوا في العبادة إلى حد ادعوا فيه الاستغناء عن عبادة الله عز وجل، فهذه عبادة فيها جانب من الحق وهو توجههم إلى الله بقلوبهم، وجانب من الباطل وهو زعمهم أنهم بتحقيقهم للربوبية استغنوا عن الإلهيات، وهذه سيبينها الشيخ كما في فصل قادم. قال رحمه الله تعالى: [وهذا القسم إنما يقع فيمن يعبد الله سبحانه ويتولاه، أو يُظن به ذلك، فإنه بذلك تظهر ألوهية الله في عبده، وتظهر إنابة العبد إلى ربه، وموافقته له في محبته ورضاه]. هذا المعنى الذي أشار إليه الشيخ قد يسمى لغة: حلولاً، لكن ليس حلول الله، ولا جزءاً من الله، ولا شيئاً من خصائص الله عز وجل في المخلوقين، ولا حتى في أفضل الخلق، لا يمكن، إنما المقصود أن هؤلاء الصالحين حلت ألوهية الله وربوبيته في قلوبهم، وامتلأت بها حتى تمثلت في عقيدتهم، وفي أعمالهم والتزامهم بدين الله وأمره ونهيه. قال رحمه الله تعالى: [وتظهر إنابة العبد إلى ربه، وموافقته له في محبته ورضاه وأمره ونهيه. وقد يشتبه بهذا قسم آخر؛ وهو ما يظهره الرب من آثار ربوبيته في بعض عباده، وإن كان ذلك ليس مأموراً به ولا هو عبادة له، مثل ما يعطيه من ملكه وسلطانه بعض الملوك المسلطين، ممن قد يكون مسلماً وقد لا يكون، كفرعون وجنكيز خان ونحوهما، وما يهبه من الرزق والمال لبعض عباده، وما يقسمه من الجمال لبعض عباده من الرجال والنساء]. أي: أن الله عز وجل قد يظهر من آثار ربوبيته في بعض العباد وإن لم يكونوا حققوا الألوهية والعبادة، وذلك أن الله عز وجل ضمن لجميع الخلق الرزق، وآتى الملك من يشاء من العباد، وآتى الدنيا من يشاء، يؤتي الملك من يشاء سبحانه، فهذا أمر متعلق بالربوبية، وتحقيق تقدير الله للعباد بالرزق والتوفيق والملك والسلطان في الدنيا، لا يلزم أن يكون دليلاً على رضاه سبحانه، بل هذا أمر يعطيه المؤمن وغير المؤمن. فإذاً: تحقيق هذه الأمور لبعض العباد وإن لم يكونوا من الصالحين ولا من المؤمنين، ليس دليلاً على التوفيق ولا على أنهم حققوا الإلهية. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ما يهبه من العلوم والمعارف، أو يهبه من الأحوال، أو يعطيه من خوارق العادات من أنواع المكاشفات والتأثيرات، سواء كان هؤلاء مؤمنين أو كفاراً مثل: الأعور الدجال ونحوه]. الخوارق هي من الربوبية ومن أقدار الله عز وجل، ولا يلزم أن يكون تحقيقها للعباد الصالحين فحسب، فالله عز وجل قد يهب الخوارق للكافر وللمسلم، للصالح والفاسق، لكن الخوارق والمكاشفات والتأثيرات التي تتم للأنبياء والصالحين والمؤمنين من باب الكرامات، وإذا تمت لغير المؤمنين فهي من الفتنة والاستدراج، وهذه الخوارق والأشياء التي يحققها الله عز وجل بربوبيته وقدره لعباده، إن تمت على يد رجل صالح على السنة فهي كرامة، وإن تمت على يد رجل مسلم لكن على البدعة فهي فتنة. قال رحمه الله تعالى: [فإنه في هذا القسم يقوم في العبد المعيّن من آثار الربوبية وأحكام القدرة أكثر مما يقوم بغيره، كما يقوم بالقسم الأول من آثار الألوهية وأحكام الشرع أكثر مما يقوم بغيره، وقد يجتمع القسمان في عبد، كما يجتمع في الملائكة والأنبياء والأولياء، مثل: نبينا صلى الله عليه وسلم، والمسيح ابن مريم عليه السلام وغيرهما]. يعني: تحقق في مثل هؤلاء من عباد الله، ومنهم أفضل الخلق، تحقق فيهم المعنيان: الربوبية، والألوهية، وآثار الربوبية، وآثار الألوهية، فهؤلاء الأنبياء حققوا بقلوبهم وجوارحهم ما أراده الله عز وجل منهم، بأن آمنوا بالقدر، وعبدوا الله عز وجل على ما شرع، فتحققت لهم آثار الربوبية والألوهية على نحو لم يكن عند غيرهم، فمن آثار ذلك الاستقامة، ثم بما أكرمهم الله به من المعجزات، ولا شك أن الله عز وجل أكرم النبيين والمرسلين عموماً، وأكرم عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص من آثار الربوبية والإلهية ما لم يكن لغير

الفرق بين كلمات الله وإرادته الكونية والشرعية

الفرق بين كلمات الله وإرادته الكونية والشرعية قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني]. الأول: تمييز الألوهية عن الربوبية، الذي ينبثق عنه تمييز الرب عن الخلق، والربوبية هي أفعال الله عز وجل، والألوهية عبادة العباد لله، وفرق بين الفاعل هنا والفاعل هنا، وبين العابد والمعبود، هذا من وجه، وكذلك من وجه آخر التفريق بين هذا وهذا من حيث الاعتقاد والعمل. قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني، فإن الله سبحانه خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته. وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم؛ فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته. وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق. ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية]. التمييز بين الفئتين ظاهر، الأولى: القدرية المجوسية الذين ينكرون قدر الله أو بعض قدر الله، وهم قدرية المعتزلة التي هي امتداد للقدرية الأولى القدرية المعبدية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، فالقدرية الأولى أنكرت جميع تقدير الله عز وجل في أفعال العباد، ثم بعد ذلك خففت الأمر وجعلت بعض أقدار الله أو بعض مراحل مراتب القدر ليست من تقدير الله، فزعموا أن أفعال العباد ليست من تقدير الله، ثم بعد ذلك وصلوا إلى مرحلة أضيق أو أخف وإن كانت شراً أيضاً، وهو أن بعضهم زعم أنا لا نخرج من أقدار الله إلا أفعال الشر، زعموا أن أفعال الإنسان التي يفعلها في الشر ليست من تقدير الله، وهذا يجعل بالضرورة أن هناك مقدراً مع الله، أي: خالقاً مع الله، فهؤلاء يسمون: القدرية المجوسية، لماذا يسمون بالمجوسية؟ لأن المجوسية تعبد إلهين، وفلسفتهم في عبادة الإلهين أنهم يقولون: الإله الأصل وهو الله عز وجل هو إله الخير، لكنه لم يقدر الشر بزعمهم، فلما أخرجوا تقدير الشر عن الله، أسندوه إلى الشيطان، فزعموا أن الشيطان هو الذي خلق الشر، فلما زعموا ذلك عبدوه مع الله، فعبدوا إلهين، والقدرية في الإسلام على هذا المنهج، لكنه منهج أخذ أسلوب أهل الأهواء، أخذ مصطلحات شرعية وإسلامية واستدلالات فيها تلبيس، فهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأخذوا المتشابهات وجعلوها مسلكاً، فزعموا أن الإنسان مقدر أفعاله، وبعضهم صرّح أن الإنسان خالق أفعاله، إذاً: أثبتوا خالقاً مع الله، كما أثبتت المجوسية إلهاً غير الله، فسموا بالقدرية، وهذا المذهب موجود إلى الآن في أتباع المعتزلة، بعض الناس يظنه قد انقرض، أبداً لا يزال أناس من كبار المفكرين الموجودين الآن يقررون هذا، بل إنهم زادوا أمراً عجيباً ما تكلمت به أكثر المعتزلة، فأكثر المعتزلة ما يجرءون أن يقولوا: إن الإنسان خالق مع الله، بهذا اللفظ، وإنما يقولون: الإنسان يقدر أفعاله، الإنسان مسئول عن أفعاله، الله لم يقدر أفعال الإنسان، أكثر المعتزلة على ذلك، أما المعتزلة المعاصرون فقد قرأت لعدد منهم يقولون: إن الإنسان خالق أفعاله، تعالى الله عما يزعمون، هذه قدرية موجودة، فكثير من العصرانيين العقلانيين على هذا المذهب، ليس إلزاماً لهم، لا، بل صرّحوا به، فهم ما بين مصرح بهذا اللفظ، وما بين من تابع المعتزلة بإجمال، ومنهم من تابع المعتزلة بالتفصيل، ومنهم من تابع المعتزلة وزاد عليها، فيظهر لي أن المعتزلة رغم انحرافهم، ورغم ما ظهر منهم من الابتداع وأقيمت عليهم الحجة فلم يرجعوا، إلا أنهم مع ذلك أكثر مداراة للعقيدة السليمة وللمسلمين من المعتزلة المعاصرة، أولئك عندهم شيء من الخوف أو نوع من ترويج المقولة، فليس عندهم تصريح بهذا المذهب من القول بأن الإنسان خالق أفعاله، أو القول بأن الله لم يخلق أفعال العباد، فهم لم يصرحوا بأن الإنسان خالق أفعاله كما صرحت المعتزلة الجديدة. الفئة الثانية عكس هؤلاء تماماً: وهم القدرية المشركية، فهؤلاء هم الجبرية، وهم عكس القدرية. الجبرية: هم الذين زعموا أن الإنسان ليس له أي إرادة ولا حرية، فهو مسيّر تسيير كامل، ولذلك لا عليه أن يعمل أي شيء، حتى إنهم لا يؤاخذون الكافر على كفره، ولا المنافق على نفاقه، ولا يؤاخذون المشرك على شركه، فضلاً عن أن يؤاخذوا الفاجر على فجوره، ويقولون: ما دام أن الإنسان عرف الله فيكفيه ذلك؛ لأنه إن عمل شراً فذلك راجع إلى أن الله قدّر عليه ذلك، فهو مجبور وليس محاسباً ولا مؤاخذاً، وهؤلاء هم جبرية الجهمية التي انتهت إلى الصوفية الطرقية. ومذهب القدرية المشركية هو الذي عليه أكثر الطرقية الصوفية، خاصة الغلاة الكب

مرتبة القدرية المشركية في الكفر وعداوتهم للعقل

مرتبة القدرية المشركية في الكفر وعداوتهم للعقل قال رحمه الله تعالى: [ثم إنه قابلهم قوم شر منهم وهم القدرية المشركية الذين رأوا الأفعال واقعة بمشيئته وقدرته، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، ولو كره الله شيئاً لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر وجعلوا العبد مجبوراً، والمجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه، فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه كفراً لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية؛ فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية وبالآيات والسياسات العقلية. وأما الأولون ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه]. الأولون هم القدرية المعبدية والغيلانية، وقدرية المعتزلة، والتفصيل الذي أشار إليه الشيخ يمكن تلخيصه في مسألتين: المسألة الأولى: أن بعض القدرية الأولى أنكروا جميع مراتب القدر، فأنكروا علم الله عز وجل وكتابته ومشيئته وخلقه لأفعال العباد، فهؤلاء كفار لا شك. الصنف الثاني: الذين زعموا أن الله عز وجل لم يقدّر بعض أفعال العباد؛ لالتباس في أذهانهم، وما وفقوا للهدى، فهؤلاء في تكفيرهم نظر، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

العلاقة بين الرافضة والصوفية

العلاقة بين الرافضة والصوفية Q هل هناك علاقة بين الرافضة والصوفية؟ A نعم، هناك علاقة كبيرة، لكنها ليست علاقة انتماء، إنما علاقة منهج، أغلب الصوفية لا تنتمي للرفض، وأغلب الرافضة لا تنتمي للصوفية العامة، لكن الرافضة فيهم صوفية كثيرون، بل أصل الرفض قائم على التصوف، سواء كان تصوفاً طرقياً أو غير طرقي، الرفض في عبادته يقوم على التصوف، وإن كان في مناهج العقيدة أسبق من التصوف، لكن لا يمكن أن يكون هناك رافضي بلا تصوف بمعناه المنهجي، بمعنى ما من رافضي إلا وهو من القبوريين، وليس هناك رافضي ليس من عبّاد المشاهد، وليس هناك رافضي ليس عنده بدع في الأوراد، لا يمكن، إلا في النادر، والنادر لا حكم له. فإذاً: الصوفية متوغلة في الرفض، ولا تستغني الرافضة عن التصوف، لكن فيهم طرقيون وفيهم غير طرقيين، أما المتصوفة العامة الطرقية التي في سائر العالم الإسلامي فبعضها عندها تشيع شديد، وبعضها تشارك الشيعة الرافضة في بعض المبادئ، مثل: تقديس الأشخاص، ومثل: التعلق بالأوراد البدعية والسماعات، ومثل: التعلق بالقبور والمشاهد والآثار، وهذه قواسم مشتركة، وهي أصول وليست مجرد صفات عرضية، إنما هي أصول عند الصوفية تشترك فيها مع الرافضة.

علاقة الرافضي بالتصوف

علاقة الرافضي بالتصوف Q هل هناك رافضي لا يمكن أن يكون صوفياً؟ A لا أظن، إلا النادر، والنادر لا حكم له، قد يوجد خاصة في البلاد التي فيها السنة ظاهرة ومهيمنة، مثل هذه البلاد الحمد لله لا يظهرون حتى تصوفهم، بل قد يوجد من شبابهم المثقفين من لا يمارس العبادات أصلاً لا صوفية ولا شيعية ولا غيرها، هذا مثل المعرضين عن الدين من أهل السنة لا يحسب، لكن المتدينون منهم لا يمكن أن يخرجوا من نزعة التصوف.

المقصود بالكلمات الكونية والكلمات الدينية

المقصود بالكلمات الكونية والكلمات الدينية Q ما المقصود مما ذكرته سابقاً الكلمات الكونية والدينية؟ A الكلمات الكونية هي أقدار الله عز وجل التي تتم بكلماته التامة سبحانه، أما الكلمات الدينية فهي الشرائع التي مصدرها الوحي، الذي هو كلام الله أو وحيه للرسل، الكلمات الكونية هي كلمة (كن)، وأيضاً أقدار الله عز وجل التي فيها أقدار العباد وأقدار الخلق كلها، كل هذه تسمى كلمات كونية، والكلمات الشرعية هي الوحي والشرائع.

أنواع المعية ودرجاتها

أنواع المعية ودرجاتها Q ذكر شيخ الإسلام أن المعية مع العباد أنواع، فهل يقصد المعية الخاصة والعامة؟ A نعم، يقصد المعية الخاصة والعامة، حتى المعية الخاصة درجات، أما المعية العامة فهي على درجة واحدة؛ لأنها معية كلية لا يتخلف عنها شيء من الأقدار؛ فأقدار العباد كلهم وأقدار أي مخلوق كلها داخلة في المعية العامة، سواء معية الله بعلمه أو بربوبيته، أما المعية الخاصة فهي تتفاوت.

حكم تغسيل ثياب الميت بالماء والشرب من ذلك الماء الخارج من الثياب

حكم تغسيل ثياب الميت بالماء والشرب من ذلك الماء الخارج من الثياب Q قبل أسبوع توفي أحد أقاربي الكبار في السن، وقد قام بعض أهل البيت بعمل غريب، وهو أنهم قاموا بغسل ملابس الميت، ثم أخذوا الماء الخارج من الملابس، وقاموا بشربه وأمروا الحضور بشربه، علماً بأن الغسيل يكون بالماء فقط؟ A سواء بالماء فقط أو بالماء والصابون أو بأي وسيلة كل هذا بدعة، وهذه بدعة غريبة في الحقيقة ينبغي التنبه لها، وهناك ظاهرة ينبغي التنبه لها، خاصة من طلاب العلم والدعاة، وهذه الظاهرة: هي أن الناس اليوم يتسارعون جداً إلى البدع في المآتم، بدع عند غسل الجنائز، وصلاة الميت، وتشييع الجنازة، والبدع حول المقابر والتعازي، فمن ينظر إلى المسألة بدقة يجد أنه تظهر علينا سنوياً بدع جديدة، حتى في مجتمعنا الذي ما اعتاد على البدع، بعضها تقليد الآخرين وبعضها بدع جديدة ابتدعت من عندنا، فهذه مسألة يجب التنبه لها، والدين النصيحة، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) وهذه البدع التي بدأت تزداد الآن وتكثر هي بدع بين من نعرفهم من أقارب وجيران وأهل الحي، فلا يسع أحداً السكوت عنها، والسكوت عنها قد يؤدي إلى استعصاء علاجها فيما بعد.

وجه التداخل بين الفرق المنحرفة ونسبة ذلك التداخل

وجه التداخل بين الفرق المنحرفة ونسبة ذلك التداخل Q هل انتماء الجبرية إلى الصوفية هو من باب تغير الاسم، أم أن هناك فرقاً بينهما؟ A هذه مسألة تتعلق بما يسمى بالتداخل بين الفرق، بعض الناس يقول مثلاً: هل مذهب الجهمية انتقل إلى الصوفية أو أن الجهمية ماتت، أو أن الصوفية تحولت إلى جهمية ولم تعد صوفية؟ كذلك: هل بدع المعتزلة والجهمية انتقلت إلى الرافضة، وصارت الرافضة جهمية ولم تعد رافضة؟ نقول: لا، الآن الحاصل منذ القرن الثالث وما بعده أن الفرق بدأت تأخذ ببدع جديدة مع بقائها على بدعها الأصلية، فالرافضة تحوّلت إلى مذهب الجهمية، مع أنها بقيت على أصول الرافضة القديمة، بل زادت عليها، وكذلك الخوارج، فالخوارج مثلاً بقوا على مذهب الخوارج، لكنهم أدخلوا على عقيدتهم مذهب الجهمية والمعتزلة، والصوفية دخلتها مذاهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ودخلتها مذاهب الجهمية، ولا يعني ذلك أنها تخلت عن التصوف، بل زادت بدعاً في التصوف، وهذا يسمى التداخل بين الفرق، فالفرق تشابكت كل واحدة أخذت عن الأخرى مع بقائها على أصولها، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الأهواء: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) يعني تمضي وتفتك بهم الأهواء كما يفتك مرض الكلب، وهو من الأمراض الفتاكة، وذلك إذا أصيب الإنسان بعضة الكلب المسعور تبدأ بجرح بسيط، ثم هذا الجرح يأكل الجسم عضواً عضواً حتى ينتهي الإنسان، فكذلك البدع تبدأ صغيرة، ثم صاحب البدعة يضيف إلى بدعته أخرى وأخرى حتى تهلكه. إذاً: نخلص إلى أن هذه الفرق كل واحدة أخذت مساوئ الأخرى مع مساوئها الأولى التي كانت عليها. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[14]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [14] من أهم أسباب الوقوع في الاتحاد والحلول هو أخذهم بالألفاظ المتشابهة، وعدم تفريقهم بين الكونيات والدينيات، فجعلوا كل موجود هو الحق، مع أن في الموجودات ما هو حق وما هو باطل، وجعلوا الباطل هو المعدوم، مع أن لفظ العدم أدل على النفي من لفظ الباطل، فكيف يفسر ويوضع ويبين الجلي بالخفي؟!

تابع مرتبة القدرية المشركية في الكفر وعداوتهم للعقل

تابع مرتبة القدرية المشركية في الكفر وعداوتهم للعقل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وسنشرع اليوم في استكمال درس الفتاوى المجلد الثاني، كان الشيخ رحمه الله يتحدث عن أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ثم فرّع الحديث عن القدرية، وقسّم القدرية إلى قسمين: القدرية المجوسية، وهم قدرية المعتزلة ومن سبقهم، وهم الذين قال فيهم: (وأما الأولون في تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه) فهو يعني بذلك كما أشرت في الدرس السابق أنهم على درجات منهم: من يكفر، وهم الذين أنكروا مراتب القدر الأربع، ومنهم: من يشك في كفره، وهم الذين أنكروا بعض مراتب القدر بتأول، ومنهم: من لا يحكم عليه بالكفر، وهم الذين تأولوا في مسألة أفعال العباد فقط، تأولوا ولم ينكروا مراتب القدر الأربع، لكن عندهم شبهات في القدر. وسيتحدث الآن عن مجمل هذه الفرق، وخاصة الجهمية الجبرية التي انتقلت إلى الصوفية، وانبثقت عنها وحدة الوجود والاتحاد والحلول. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وأما الأولون ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه. وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحداً أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه ألا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته ولا بأكثر منها. وأكثر هؤلاء إنما يشيرون إلى ذلك عند أهواء أنفسهم، لرفع الملام عنهم، وإلا فإذا كان لهم هذا مع أحد قابلوه وقاتلوه واعتدوا عليه أيضاً، ولا يقفون عند حد، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، بل هم كما قال الله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] ظلمة جهال، مثل السبع العادي، يفعلون بحكم الأهواء المحضة، ويدفعون عن أنفسهم الملام والعذل، أو ما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجبر الباطل، وبملاحظة القدر النافذ معرضين عن الأمر والنهي، ولا يفعلون مثل ذلك بمن اعتدى عليهم وظلمهم وآذاهم، بل ولا بمن قصر في حقوقهم، بل ولا بمن أطاع الله فأمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه. وقد بسطت الكلام في هؤلاء القدرية والقسم الأول، وذكرت القدرية الإبليسية في غير هذا الموضع؛ وإنما الغرض هنا التنبيه على معاقد الأقوال].

الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية من الأمر والإرادة والقضاء والحكم

الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية من الأمر والإرادة والقضاء والحكم قال رحمه الله تعالى: [وقد فرّق الله في كتابه بين القسمين، بين من قام بكلماته الكونيات، وبين من اتبع كلماته الدينيات، وذلك في أمره، وإرادته، وقضائه، وحكمه، وإذنه، وبعثه، وإرساله؛ فقال في الأمر الديني الشرعي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]. وقال في الأمر الكوني القدري: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. وكذلك قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] على أحد الأقوال]. أشار الشيخ إلى الكلمات الكونيات والكلمات الدينيات؛ نظراً لأن هذه العبارات ستتكرر عند الشيخ فيما يستقبل من كلامه في هذه المواضع، فلعل من أبين ما يمكن أن يميز به بين النوعين: الكلمات الكونيات، والكلمات الدينيات، أن الكلمات الدينيات هي ما تكلم الله به عز وجل في الوحي، التي هي كلامه في كتبه المنزّلة، والقرآن الذي هو كلامه عز وجل، وما يتكلم الله به مع العباد ومع الخلق خاصة في أمر الشرائع والأوامر والنواهي، فهذه كلمات الله الدينية، ومنها المتعلق بصفته سبحانه صفة الكلام، الذي به يأمر وينهى ويخبر. أما الكلمات الكونيات فهي كلمات الله التي يخلق ويدبر بها الخلق، مثل كلمة (كن)، وغير ذلك من الأوامر الكونية التي يأمر بها المخلوقات، كأمره للملائكة المسخرة، وأمره للسماء والأرض وغير ذلك من الأوامر والكلمات التي تتعلق بالربوبية، فهذه كلمات الله الكونية. إذاً: الكلمات الكونيات: هي التي تتعلق الربوبية من الخلق والتدبير، والكلمات الدينيات: هي ما يتعلق بالوحي والشرائع، الذي فيه توجيه العباد وأمرهم ونهيهم. قال رحمه الله تعالى: [وقال في الإرادة الدينية الشرعية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]. وقال في الإرادة الكونية القدرية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]. {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]. وبهذا الجمع والتفريق تزول الشبهة في مسألة الأمر الشرعي: هل هو مستلزم للإرادة الكونية أم لا؟ فإن التحقيق أنه غير مستلزم للإرادة الكونية القدرية، وإن كان مستلزماً للإرادة الدينية الشرعية. وقال في الإذن الديني: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]. وقال في الإذن الكوني: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]. وقال في القضاء الديني: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] أي: أمر ربك بذلك. وقال في القضاء الكوني: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]. وقال في الحكم الديني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]. وقال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10]. وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. وقال في الحكم الكوني: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80]. وقد يجمع الحكمين مثل ما في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، وكذلك فعله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:20]. وقال في البعثين وا

[15]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [15] لقد ظهرت فرق الحلولية والاتحادية منذ القرن الثاني واستمرت إلى يومنا هذا، وهم على صنفين: صنف يعتقدون الاتحاد والحلول الكلي، وهؤلاء هم الباطنية وغلاة الفلاسفة، وحامل لوائهم هو ابن عربي وابن سينا وابن الفارض، وأما الصنف الثاني فهم من يعتقدون الاتحاد والحلول الجزئي، ومن هؤلاء الحلاج ومن سلك سبيله من المتصوفة.

فصل في الفرق بين أهل الحلول والاتحاد المطلق وأهل الحلول والاتحاد الجزئي

فصل في الفرق بين أهل الحلول والاتحاد المطلق وأهل الحلول والاتحاد الجزئي بسم الله. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. وبعد. بعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا ونبدأ في الفتاوى المجلد الثاني، وسنقرأ اليوم من صفحة 414. لا يزال الشيخ يتحدث عن أصحاب الحول والاتحاد ووحدة الوجود، وبيان كفرهم بالله عز وجل فيما ذهبوا إليه، وينقض أقوالهم بالأدلة العقلية والنقلية. قال رحمه الله تعالى: [فصل. وأما كفرهم بالمعبود، فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى فقد يعبدونه بشبهة الحلول أو الاتحاد الفاسد، مثل: من يعبد الصور الجميلة، ويقول: هذا مظهر الجمال، أو الملك المطاع الجبار، ويقول: هو مظهر الجلال، أو مظهر رباني ونحو ذلك]. (مظهر الجلال) يزعمون أنه دلالة على الاتحاد، وكذلك (مظهر رباني) يعني: في المخلوق، فيزعمون أن الخالق تمثل بهذه الأمور، فيعبدونها من دون الله على أنها هي هو، أو مظهر من مظاهره، وهو إما اعتقاد لوحدة الوجود، وأن هذه الأشياء هي مظاهر لصفات الله في الخلق، أو أنها تمثلت فيها حقيقة ذات الله، أو أنهم أعطوها صفة القداسة، على أنها تختص ببعض خصائص الله عز وجل، فعلى الوجهين كل ذلك شرك؛ لأن الذين يعبدون هذه الأمور يقدّسون الصور الجميلة، أو يقدسون من يعظمونه إما لقوته أو لجماله أو لأي نوع من أنواع التعظيم، فهؤلاء على درجات كما سيأتي بيانه. منهم: من يعبد هذه الأشياء على أنها هي الله، وهم أصحاب وحدة الوجود، أو أنها حلّت فيها بعض صفات الله، وهؤلاء أصحاب الحلول، أو أنها أيضاً مشتملة على خصائص الله عز وجل اشتمالاً كاملاً، وهؤلاء أصحاب الاتحاد. قال رحمه الله تعالى: [وليس في هذه المخلوقات نوع من الاتحاد أو الحلول الحق، لكن يشبه ما فيه الحق من جهة؛ إذ كلاهما بالله ومن الله، وأنه لله؛ ولهذا يسوي بينهما أهل الحلول والاتحاد المطلق، كما سنبينه إن شاء الله. فهؤلاء الاتحادية والحلولية الذين يخصونه ببعض المصنوعات التي ليس فيها عبادة وإثابة]. يعني: الاتحادية الذين لا يفرقون بين الله وبين خلقه، والحلولية أصحاب الحلول الجزئي الذين يرون أن الخلق حل فيه جزء من الإله، تعالى الله عما يزعمون. قال رحمه الله تعالى: [هم فرع على أولئك، ليس معهم من الحق شيء ولا شبهة حق، كما مع أولئك ألفاظ متشابهة عن بعض الأنبياء والصالحين، ولكن مع هؤلاء قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقول الدجال: (أنا ربكم) ونحو ذلك. فهذه الألفاظ التي معهم من ألفاظ الكفار والمنافقين، ومعهم تشبيه الكونيات بالدينيات، والكونيات عامة لا اختصاص فيها؛ فلهذا كان هؤلاء أدخل في الاتحاد والحلول المطلق منهم في المعين اعتقاداً وقولاً]. (أدخل) يعني: أظهر. قال رحمه الله تعالى: [وإن كانوا من جهة الحال والهوى يخصون بعض الأعيان، كما هو الواقع لشبهة اختصاصه ببعض الأحكام الكونية، وسنتكلم عليهم إن شاء الله في الحلول الفاسد. وإنما ذكرتهم هنا لما أردت أن أذكر كل ما فيه شوب اتحاد أو حلول بحق، فنبهت على ذلك؛ ليفطن لموضع ضلالهم، فإذا علم حقيقة هذه الأمور عُلم حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل). فإن الباطل ضد الحق؛ والله هو الحق المبين]. قبل أن نتجاوز هذه المسألة يحسن أن نضرب أمثلة لمن قصدهم الشيخ هنا؛ لأن هذه الفرق الضالة التي ظهرت في القرن الثاني والثالث والرابع وما بعده موجودة الآن، هذه المذاهب التي تعتقد الحلول الجزئي أو الحلول الكلي موجودة في عصرنا. أما أصحاب الحلول الكلي أو الاتحاد الكلي فهؤلاء هم الباطنية وغلاة الفلاسفة، كـ ابن عربي والقونوي والسهروردي وابن الفارض وابن سينا، فهؤلاء يعتقدون الحلول الكلي، وأول ما أعلن ذلك هم الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، والإسلام منهم براء، وأصحاب الحلول الجزئي، هم أمثال: الحلاج ومن سلك سبيله من الصوفية، وغالب الصوفية أصحاب حلول جزئي، يعتقدون في الأولياء بعض خصائص الإلهية، وليس كل خصائص الإلهية، ويتفاوتون بذلك تفاوتاً كبيراً، فمنهم من يرى أن الأولياء لهم تدبير في الربوبية مع الله عز وجل، ويعتقدون أن لهم قدرات جزئية في ذلك. ومنهم من يعتقد أنهم يعلمون الغيب. ومنهم من يعتقد أن فيهم روحاً مقدسة أو عقولاً مقدسة أو نحو ذلك، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم فهم يتفاوتون، لكن سائر غلاة الصوفية يعتقدون الحلول الجزئي. وكذلك الرافضة يعتقدون في الأئمة الحلول الجزئي، فهم يعتقدون أن أئمتهم اشتملوا على بعض خصائص الألوهية أو الربوبية، أو هما معاً وهو الغالب. قال رحمه الله تعالى: [فإن الباطل ضد الحق والله هو الحق المبين. والحق له معنيان: أحدهما: الموجود الثابت، والثاني: المق

وجه بطلان أعمال الكفار وذكر أنواع الباطل

وجه بطلان أعمال الكفار وذكر أنواع الباطل قال رحمه الله تعالى: [والباطل نوعان أيضاً: أحدهما: المعدوم، وإذا كان معدوماً كان اعتقاد وجوده والخبر عن وجوده باطلاً؛ لأن الاعتقاد والخبر تابع للمعتقد المخبر عنه، يصح بصحته ويبطل ببطلانه؛ فإذا كان المعتقد المخبر عنه باطلاً كان الاعتقاد والخبر كذلك، وهو الكذب. الثاني: ما ليس بنافع ولا مفيد، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق). وقوله عن عمر: (إن هذا رجل لا يحب الباطل) وما لا منفعة فيه فالأمر به باطل، وقصده وعمله باطل؛ إذ العمل به والقصد إليه والأمر به باطل. ومن هذا قول العلماء: العبادات والعقود تنقسم إلى صحيح وباطل. فالصحيح ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. والباطل ما لم يترتب عليه أثره، ولم يحصل به مقصوده؛ ولهذا كانت أعمال الكفار باطلاً. فإن الكافر من جهة كونه كافراً يعتقد ما لا وجود له ويخبر عنه، فيكون ذلك باطلاً، ويعبد ما لا تنفعه عبادته ويعمل له ويأمر به، فيكون ذلك أيضاً باطلاً، ولكن لما كان لهم أعمال وأقوال صاروا يشبهون أهل الحق]. يعني: يشبهون أهل الحق في ظاهر الأعمال، لا بد من تقييد العبارة، والشيخ يريد ذلك، ويتبين هذا من خلال استدلاله، حينما كان لهم أعمال وأقوال صار أهل الباطل يشبهون أهل الحق في ظاهر الأعمال فيما يبدو لنا، والأمر لا يشتبه على من أعطاه الله عز وجل التمييز بين الحق والباطل، ومن امتلأ قلبه بالإيمان واليقين لا يشتبه عليه الحق بالباطل، حتى إن الله عز وجل يعطيه من الفراسة ما يتبين له وجوه الحق ووجوه الباطل، كما بين الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يعرف المنافقين بسيماهم وبلحن القول منهم، وكذلك كل مؤمن له من هذه الفراسة بقدر اتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمن له من هذه الفراسة التي يميز فيها بين الحق والباطل بقدر ما في قلبه من النور والهدى. قال رحمه الله تعالى: [فلذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:1 - 3] إلى قوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. وقال تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264]. فبيّن أن المن والأذى يبطل الصدقة فيجعلها باطلاً لا حقاً، كما يبطل الرياء وعدم الإيمان الإنفاق أيضاً، وقد عمم بقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: لا تجعلوها باطلة لا منفعة فيها ولا ثواب ولا فائدة].

ظن طائفة من الاتحادية أن الحق هو الموجود وأن العالم ليس فيه باطل

ظن طائفة من الاتحادية أن الحق هو الموجود وأن العالم ليس فيه باطل قال رحمه الله تعالى: [وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم كـ ابن عربي فرأوا أن الحق هو الموجود، فكل موجود حق، فقالوا: ما في العالم باطل؛ إذ ليس في العالم عدم]. أراد الشيخ رحمه الله أن يفرّق بين الحق بمعناه الكوني والحق بمعناه الشرعي، فالحق بمعناه الكوني يعني: أن كل موجود هو حق، لكن هذا معنى كوني قدري يتعلق بالربوبية لا علاقة له بالعبادة وتوحيد الإلهيات. والنوع الثاني: هو الحق بالمعنى الشرعي، وهو ما شرعه الله، وهو اتباع أوامر الله والانتهاء عما نهى الله عنه، وهو الالتزام بشرع الله عز وجل بالمعنى الشرعي، فأهل الاتحاد التفتوا إلى المعنى الكوني ولم يلتفتوا إلى المعنى الشرعي؛ ولذلك ادعوا الربوبية لجميع الخلق، وأعرضوا عن شرع الله عز وجل. إذاً: فالحق هنا كلمة مجملة، قد يراد بها الحق بمعنى الموجود، فكل الموجودات حق على هذا الاعتبار، لكن الحق الذي هو الله عز وجل حق كامل، والحق الذي للمخلوقات حق ناقص، يعتريه النقص والفناء والخلل، وكل العوارض التي تعرض للمخلوق. والمعنى الآخر: الحق بمعنى الهدى والشرع الذي يريده الله، الذي تعبد الله به العباد، فهذا ضده الباطل وهو الشرك والعصيان ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [قالوا: والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلاً، وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل. فإن الشيء له مرتبتان: مرتبة باعتبار ذاته، فهو إما موجود فيكون حقاً، وإما معدوم فيكون باطلاً. ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان، وهو العلم والقول والكتاب؛ فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء، فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقاً، وإلا كانت باطلاً، فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود، وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم، كان الخبر والاعتقاد حقاً، وإن كان بالعكس كان باطلاً، وإن كان الخبر والاعتقاد أمراً موجوداً، فكونه حقاً أو باطلاً باعتبار حقيقته المخبر عنها لا باعتبار نفسه. ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجوداً إلا بقرينة تبين المراد. وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة، فإن حصلت وكانت نافعة كان حقاً، وإن لم تحصل، أو حصل ما لا منفعة فيه كان باطلاً. وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف، خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة، قال الله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]]. هذه الآية اشتملت على المعنيين، على ذكر الحق الباقي وهو السيل، والباطل الزائل وهو الزبد الرابي الذي يطفح فوق السيل، وهو عبارة عن نفاخات الماء، مجرد ما يلامسها أدنى شيء تنفقع؛ لأنها ما هي إلا هواء، والزبد هو هواء ينتفخ لفترة قصيرة ثم يزول، ولا يبقى أكثر من دقائق معدودة على أكثر تقدير، ولا يعرف أن الزبد يبقى مدة طويلة، فهذا مثال للحق وهو السيل، والباطل وهو الزبد الرابي الذي يخالط السيل، وبينهما فرق يدركه كل عاقل، فالحق باق ونافع، وينتج عنه النافع، والباطل زائل وضار، وينتج عنه الضار. قال رحمه الله تعالى: [شبّه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن، فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد، وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار، فاحتمل الزبد فقذفه بعيداً عن القلب، وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه، وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع، فيستقر ويبقى في القلب. وقد تقدم قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3]. فأخبر سبحانه أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم، وأن أعمال هؤلاء الذين آمنوا نفعتهم، فكفرت سيئاتهم، وأصلح الله بالهم، أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولاً وعملاً، اعتقاداً واقتصاداً، خبراً وأمراً، وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم، وإن كان حقاً من وجه. وهذا تحقيق ما قلناه؛ فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه، وللمقصود بالعمل، فإذا كان ذلك باطلاً لا حقيقة له كان التابع كذلك وإن كان موجوداً، وكذلك ما تقدم من قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة

خمسة أوجه في الاحتجاج بقوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) على الاتحادية

خمسة أوجه في الاحتجاج بقوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) على الاتحادية قال رحمه الله تعالى: [وقالوا: قوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، والباطل هو المعدوم، فكل ما سوى الله معدوم، والموجود ليس بمعدوم. فالموجود ليس فيه سوى، وإنما السوى هو العدم. فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين: إحداهما: قولهم: إن الباطل هو المعدوم، فإنه ليس كذلك، بل المعدوم باطل وليس كل موجود باطلاً، بل في الموجود ما هو حق وفيه ما هو باطل كما تقدم، وهو الأعمال التي لا تنفع، والأخبار التي ليست بصدق، وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد. الثانية: لو كان لا باطل إلا المعدوم؛ لكان الموجود حقاً، وكل موجود فقد يسمى حقاً مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده، وإن كان باطلاً؛ لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه، لكن الحق حقان: حق خالق، وحق مخلوق. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - يقول إذا قام من الليل: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت). وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة، ومنه ما هو حق من مخلوقات الله ليس هو الله؛ ظهر تمويههم بقولهم: إن الباطل هو السوى وهو العدم، وأما الموجود فهو هو. وأيضاً فنفس الحديث حجة عليهم؛ فإن قوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله، فإن لفظ (الشيء) يعم كل الموجود بالاتفاق، ويدخل فيه ما له وجود ذهني أو لفظي أو رسمي كتابي، وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات، فهذا نص في أن كثيراً من الموجودات باطل، ولا يجوز أن يراد به: كل معدوم ما خلا الله فهو باطل؛ لخمسة أوجه: أحدها: أنه قد استثنى الله تعالى وهو الحق المبين من لفظ إثبات، ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول، بخلاف الاستثناء من غير موجب، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]، فإن ذلك لا يدل على التناول، فلو كان التقدير: كل معدوم ما خلا الله باطل؛ للزم أن يكون الحق تعالى معدوماً، وهذا أبطل الباطل. الثاني: أن (كل شيء) نص في الوجود، لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق. الثالث: أن المعدوم لا يدخل في لفظ (كل شيء) عند أهل السنة وعامة العقلاء، فضلاً عن كونه يختص به. الرابع: أنه لو كان المعنى: كل معدوم فهو باطل؛ لكان هذا من باب تحصيل الحاصل، بل لفظ (العدم) أدل على النفي من لفظ الباطل؛ فكيف يبين الجلي بالخفي؟ الخامس: أنه لو أراد هذا لقال: (كل ما سوى الله باطل)، فإن هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ، وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضاً على مرادهم. وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه؛ فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما: أحدهما: وهو المقصود النافع، والباطل ما لا منفعة في قصده، وكل شيء ما خلا الله إذا كان له القصد والعمل كان ذلك باطلاً، والأمر به باطل، وهذا يشبه حال المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله، أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه. فإن قيل: فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة؛ قلت: بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قُصِدت له، كما جاء في الحديث: (أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم). وذلك أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم والعدم هو المنفي؛ فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة، كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]. و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [الصافات:35]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي). وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو، كما ذكرناه، فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل، والباطل معدوم]. يعني: والباطل معدوم من هذا الوجه. قال رحمه الله تعالى: [وهذا (كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان: ليسوا بشيء). ومنه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]. وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه؛ إما مطلقاً، وإما بالنسبة إلى غيره]. يعني: في الصورة الأولى ينفى الشيء لانتفاء فائدته، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه

[16]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [16] معتقد الحلولية والاتحادية هو حصول اتحاد متجدد بين ذاتين كانتا متميزتين، أو حلول إحداهما في الأخرى، وهذا المعتقد وقع فيه النصارى من قبل، وتبعهم فيه غالية هذه الأمة، وهو معتقد ضال بيِّن البطلان، فأنى تتحد ذاتان مختلفتان لمخلوقين يجوز في حقهما التقارب والتباعد؟! ومن باب الأولى أن يكون ذلك بين الخالق والمخلوق.

مقدمة في الرد على الطاعنين في أصول السلف ومناهجهم

مقدمة في الرد على الطاعنين في أصول السلف ومناهجهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وأحب أن أنبه -قبل أن نقرأ في الفتاوى- إلى موضوع سبق أن ذكرت بأني سأشرع فيه، وهو محاولة تأصيل بعض القضايا التي أثارتها تلكم النابتة المريبة الغريبة، التي بدأت تتكلم في أصول السلف ومناهجهم. بل بدأت تستهدف هزَّ المسلمات والقطعيات من الدين، ابتداءً من مصادر التلقي: الوحي، والتشكيك في السنة وأسانيدها وفي رجالها، ثم أيضاً في الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، ثم في الطعن في دين السلف وذممهم وأمانتهم، ونسبة الأهواء والظلم -بل وربما خيانة الدين- إليهم. وأستتبع ذلك ذكر تعاطف هذه النابتة مع الفرق وأهل الأهواء والبدع، والتباكي عليها، ودعاوى أنهم ظلموا، وأن ما يسمى بعقيدة السلف إنما هو قناعات أفراد هم عملاء للسلاطين ونحو ذلك مما عرفتموه مما أثارته هذه النابتة؛ مستغلة هذا التداعي العجيب والسريع ضد السنة وأهلها على مستوى العالم، لا سيما في الفضائيات، فقد استغلت هذه النابتة الفرصة، فبدأت تهز كيان مجتمعنا المسلم السني من داخله، لا سيما وأن طائفة منهم يدعون أنهم منا، وهم -كما قلت لكم- مدُّوا لنا الشمال من وراء ظهورهم ويصفعوننا باليمين. وقد شرعت -بحمد الله- في تأصيل بعض المسائل التي بدءوا يشككون أجيالنا بها، وغرهم بها طائفة من شبابنا الجاهلين بأصول السلف، ومن مثقفينا المغرورين، وغيرهم ممن تعاطفوا معهم، وانضموا إلى خنادقهم. ولي أمل بأن أطرح أهم القضايا التي بحثتها خلال الإجازة في هذا الموضوع في هذا الدرس. وسبب الطرح لا يعني أني انتهيت إلى غاية البحث الذي في نفسي، لكن من أجل أن أفتح للإخوة أبواب البحث في هذه الموضوعات، والرد على هؤلاء الذين هجموا على السنة وأهلها هذه الهجمة الشرسة في هذه الظروف الصعبة، واستغلوا هذا الوقت الحرج. فأنا سأطرح الموضوعات التي كتبتها، وما تيسر لي كتابته هو على شكل مسودة لم تنضج بعد؛ لأنه لم يسعفني الوقت لإكمال موضوعاتها، لكني وضعت الأسس التي في نفسي؛ وسأطرح هذا الموضوع إن شاء الله من خلال هذا الدرس على الإخوة الحاضرين، وعلى غيرهم ممن سيسمع الأشرطة بإذن الله؛ لعلنا نتعاون في درء هذه الفتنة، وبيان فساد منهجها وأسلوبها، لا سيما أنها إلى الآن تدعي العلمية والموضوعية، لا سيما في الفضائيات والإنترنت والمنشورات، بل ويدعون أنهم طرحوا أشياء لم يستطع أهل السنة الجواب عليها، وهذه إحدى الكبر، ينبغي ألا نخذل الحق، وإن كان الحق منصوراً بإذن الله، لكن ليس من الخير لنا أن ينصر الحق على غير أيدينا، ففي هذه الظروف التي نواجه فيها هذه الهجمات الشرسة على السنة، وليس فقط على السنة وأهلها، بل على وحدة هذه البلاد، واجتماع شملها، فظهر لي من خلال الذين أسهموا في تأييد هذه النابتة أنهم لا يخلون من أحد أمرين: أولاً: الحسد. الثاني: الملل من النعمة، ويظهر أنه ظهر فيها جيل ملَّ نعمة الأمن والرخاء والاستقرار، بل ونعمة الخير والسنة. فمن نتائج الرخاء دائماً أن تظهر طوائف وأجيال يعيشون النعمة فلا يقدرونها حق قدرها؛ فصاروا يثبون إلى مثل هذه المنافذ التي تطعن في كيان الأمة والمجتمع. على أي حال إن شاء الله سأطرح هذه القضايا من خلال الدرس، وفي وقتها أنبه على كل مسألة على عناصرها الرئيسية، وكيفية الإسهام في مثل هذه الموضوعات، نسأل الله للجميع التوفيق. والآن نستأنف درسنا في شرح الفتاوى، وكما ذكر سابقاً أننا سننتقي من آخر هذا المجلد انتقاءات الأمور غير المكررة، ونتفادى المحارات الكلامية، والأمور الفلسفية التي تتعب الذهن ولا نصل فيها إلى نتيجة؛ لأن المقصود هو الرد على قوم ابتلوا بمثل هذه المصائب، ونحن -بحمد الله- في عافية من مصائب الاتحاد والحلول ووحدة الوجود. فـ شيخ الإسلام هنا سيذكر أهم وجوه الباطل عند أصحاب وحدة الوجود، ووجه الحق الذي ينبغي أن يعرفه المسلم.

فصل في امتناع الاتحاد والحلول الذاتي المتجدد وإبطال قول من قال: ما ثم تعدد

فصل في امتناع الاتحاد والحلول الذاتي المتجدد وإبطال قول من قال: ما ثم تعدد يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل. وأما اتحاد ذات العبد بذات الرب، بل اتحاد ذات عبد بذات عبد، أو حلول حقيقة في حقيقة كحلول الماء في الوعاء؛ فهذا باطل قطعاً، بل ذلك باطل في العبد مع العبد؛ فإنه لا تتحد ذاته بذاته، ولا تحل ذات أحدهما في ذات الآخر. وهذا هو الذي وقعت فيه الاتحادية والحلولية، من النصارى وغيرهم من غالية هذه الأمة وغيرها، وهو اتحاد متجدد بين ذاتين كانتا متميزتين، فصارتا متحدتين، أو حلول إحداهما في الأخرى؛ فهذا بين البطلان]. بمناسبة إشارة الشيخ إلى أن مذهب الاتحادية والحلولية ووحدة الوجود من النصارى وغيرهم من غالية هذه الأمة، يحسن التنويه إلى أن أغلب الطرق الصوفية تنتهي إلى هذه العقيدة قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا، التي تعتمد البدع والأوراد البدعية في العبادات، والسماعات والتعلق بالشيوخ من قبل المريدين إلى آخره، فهم في حقيقة الأمر وصل الأمر بهم إلى اعتقاد وحدة الوجود، وهذا أمر محقق علمياً، ولا يمكن أن يستثنى منه إلا النادر من الطرق التي نشأت حديثاً، مثل: مهدية السودان ونحوها، هذه إلى الآن ما يعرف أنها وصلت إلى هذا الاعتقاد، لكن فيها من البدع والطوام ما يجعلها في مصاف الطرق البدعية. أما اعتقاد وحدة الوجود فعليه سائر الطرق، فقد وصل الأمر عند كبرائهم وشيوخهم وفي كتبهم المعتمدة إلى اعتقاد وحدة الوجود. قال رحمه الله تعالى: [وأبطل منه قول من يقول: ما زال واحداً وما ثم تعدد أصلاً، وإنما التعدد في الحجاب، فلما انكشف الأمر رأيت أني أنا، وكل شيء هو الله، سواء قال بالوحدة مطلقاً، أو بوحدة الوجود المطلق دون المعين، أو بوحدة الوجود دون الأعيان الثابتة في العدم. فهذه وما قبلها مذاهب أهل الكفر والضلال، كما أن الأولى مذهب أهل الإيمان والعلم والهدى ومن كفر بالحق من ذلك أو آمن بالباطل، فهما في طرفي نقيض، كاليهود والنصارى]. أشار الشيخ أكثر من مرة إلى مسألة التعدد في الحجاب، وهذه عبارة كثير من أهل البدع الذين إما أنهم انتهوا إلى الاتحاد ووحدة الوجود والحلول، أو على الأقل مالوا إلى هذا المذهب الخبيث، فهؤلاء دائماً يتكلمون عن الحجاب، ويقصدون بذلك تسويغاً لمذهبهم الباطل، أما الأنبياء وأتباعهم من الصالحين أهل الحق والهدى فقلوبهم وعقولهم محجوبة عن حقيقة الاتحاد ووحدة الوجود والحلول، يعني: أن مدارك أهل الإيمان من النبيين وأتباعهم وعقولهم لا تدرك هذه الحقيقة بزعمهم، وأن هذه الحقيقة لا تنكشف إلا لخواص الخواص، والخصوصية عندهم هي الإلحاد، إذا وصل المرء عندهم إلى درجة الإلحاد؛ وصل إلى الخصوصية، فيزعمون أنه إذا وصل إلى هذه الدرجة ارتفعت عنه الحجب، فرأى أن الكون واحد، وأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن الله هو الخلق والخلق هو الله، تعالى الله عما يزعمون.

محبة المؤمنين لربهم ورضوانهم عنه ومحبته لهم وروضوانه عنهم

محبة المؤمنين لربهم ورضوانهم عنه ومحبته لهم وروضوانه عنهم قال رحمه الله تعالى: [وأما المؤمنون فيؤمنون بحق ذلك دون باطله، وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما الهدى والنور، وفيهما بيان الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فأما إثبات الحق من ذلك وهو ما يحصل لأنبياء الله وأوليائه، الذين هم المتقون من السابقين والمقتصدين، وما قد يحصل من ذلك لكل مؤمن، مثل: محبتهم لله تعالى، ومحبته لهم، ورضوانهم عنه، ورضوانه عنهم، فقد قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]. وقال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. وقال: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. وقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]. وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وقال: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ)) إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24]. وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]. وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. وقال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المجادلة:22]. وقال: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:7 - 8]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي). (إن الله جميل يحب الجمال). (إن الله نظيف يحب النظافة). (إن الله وتر يحب الوتر). (إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها). وقال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم). وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة. وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان]. أراد الشيخ أن ينبه على أمر قدَّم له قبل قليل، ثم ختم أيضاً بهذه الخاتمة التي أراد بها أن يذكر وجه الاستنتاج من هذه النصوص، فالشيخ يقول: إن الذين موهوا على الناس في مسألة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود أخذوا جانباً من الجوانب التي يمكن أن يعبر عنها شرعاً بأنها قرب بين العبد وربه، فاستغلوا مسألة القرب والاجتباء والاصطفاء والمحبة والرضا ليجعلوها وسيلة إلى القول بالوحدة والاتحاد والحلول، لا سيما وأن النصارى أكثر مفاهيمهم للحلول التي عبروا فيها عن التثنية والتثليث تدور حول هذه المعاني، وهو من باب الإيهام. وهناك قدر صحيح ف

موقف الجهمية الغلاة من المحبة والخلة

موقف الجهمية الغلاة من المحبة والخلة قال رحمه الله تعالى: [وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين، المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية، أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة]. يقصد بمن فيه تجهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية والكلابية، فهؤلاء ليسوا جهمية ولا ملاحدة ولا منافقين، لكن فيهم تجهم، وهذا التجهم أدى بهم إلى الدخول في هذه المتاهات، وعدم تحرير التوحيد على وجه شرعي بألفاظ شرعية كما هو مذهب السلف، وصاروا يقررون التوحيد بألفاظ أحياناً ينكرون فيها معاني المحبة، فأهل الكلام أو بعضهم عكس أهل الاتحاد والحلول تماماً؛ لأن أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود بالغوا في الزندقة، أما بعض المتكلمين المنتسبين للسنة فقد أنكروا بعض الأمور التي تتعلق بأفعال الله عز وجل، وأحواله مع عباده، مثل: المحبة، والرضا، والقرب ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فتارة ينكرون أن الله يخالل أحداً، أو يحب أحداً، أو يواد أحداً، أو يكلم أحداً، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل. ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له؛ بأنه إرادة طاعته، أو محبته على إحسانه]. أي: أنهم يفسرون المحبة بالإحسان إلى العباد، أو بإرادة الإحسان وبالإنعام، وكذلك المودة قد يفسرونها بلطف الله بعباده، وبإحسانه إليهم، وبإرادة الإحسان، ثم ينكرون أن الله عز وجل يحب من يشاء من عباده أو يخالل، وهذه أول من فتقها وابتدعها في الأمة أوائل الجهمية: الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ثم صارت مذهباً لكثير من طوائف المتكلمين.

إنكار الله تعالى للباطل من الحلول والاتحاد في آيات كثيرة

إنكار الله تعالى للباطل من الحلول والاتحاد في آيات كثيرة قال رحمه الله تعالى: [وأما إنكار الباطل فقد نزه الله نفسه عن الوالد والولد، وكفر من جعل له ولداً أو والداً أو شريكاً، فقال تعالى في السورة التي تعدل ثلث القرآن التي هي صفة الرحمن، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سورة من القرآن ما صح في فضلها؛ حتى أفرد الحفاظ مصنفات في فضلها، كـ الدارقطني، وأبي نعيم، وأبي محمد الخلال. وأخرج أصحاب الصحيح فيها أحاديث متعددةً، قال فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. وعلى هذه السورة اعتماد الأئمة في التوحيد، كالإمام أحمد، والفضيل بن عياض وغيرهما من الأئمة قبلهم وبعدهم. فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء]. نفي الأصول: هو معنى قول الله عز وجل: ((وَلَمْ يُولَدْ))، ونفي الفروع: هو معنى قوله عز وجل: ((لَمْ يَلِدْ))، وفي النظراء والشبيه والمثل: قوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. قال رحمه الله تعالى: [فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء، وهي جماع ما ينسب إليه المخلوق من الآدميين والبهائم والملائكة والجن، بل والنبات ونحو ذلك؛ فإنه ما من شيء من المخلوقات إلا ولا بد أن يكون له شيء يناسبه إما أصل، وإما فرع، وإما نظير، أو اثنان من ذلك أو ثلاثة، وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر. وأما الملائكة فإنهم وإن لم يتوالدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، قال بعض السلف: لعلكم تتذكرون فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. ولهذا كان في هذه السورة الرد على من كفر من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، فإن قوله: ((لَمْ يَلِدْ)) رد لقول من يقول: إن له بنين وبنات من الملائكة أو البشر، مثل من يقول: الملائكة بنات الله، أو يقول: المسيح، أو عزير ابن الله، كما قال تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:100]. وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:149 - 158]. وقال تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:30 - 31]. وقد أخبر أن هذا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل. وقد قيل: إنهم قدماؤهم، وقيل: مشركو العرب، وفيهما نظر؛ فإن مشركي العرب الذين قالوا هذا ليسوا قبل اليهود والنصارى وقدمائهم منهم، فلعله الصابئون المشركون، الذين كانوا قبل موسى والمسيح بأرض الشام ومصر وغيرها، الذين يجعلون الملائكة أولاداً له، كما سنبينه. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} [النحل:62]، وهو قول من قال من العرب: إن الملائكة بنات الله. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من حيث المآل

الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من حيث المآل Q هل هناك فرق واضح بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؟ A في الحقيقة المآل واحد، الحلول ينتهي إلى الاتحاد، ثم الاتحاد ينتهي إلى وحدة الوجود، أو يقال: الاتحاد ينتهي إلى الحلول، والحلول ينتهي إلى وحدة الوجود، لكن قد يتبين الفرق بالمثال: الحلول: هو أن الله عز وجل يحل في خلقه أو في بعض خلقه كحلول الروح في الجسد، كما يزعمون، تعالى الله عما يقولون، وهذا المذهب أصحابه على طرائق ومذاهب شتى. والاتحاد: هو أن الخالق متحد بالخلق، مع وجود شيء من التميز العقلي فقط، ليس تميزاً حقيقياً، كاتحاد الماء في الطين أو في العجين، الماء كان ماء والطين كان تراباً، وكان العجين دقيقاً، فلما خلط الماء مع الدقيق صار عجيناً؛ فهذا يمثل عندهم الاتحاد. وأحياناً يمثلون الحلول بالنور في الزجاجة البيضاء إذا صدع فيها النور، فيقولون: النور يدخل ويحل فيها. أما وحدة الوجود فتلغي كل هذه الاعتبارات، فلا حلول ولا اتحاد، فهم يعتبرون الوجود واحداً، إنما الاختلاف في التعبير عن الله عز وجل والتعبير عن المخلوقات اختلافاً لفظياً عبَّر به المحجوبون عن الحقيقة وهم الأنبياء والمؤمنون.

حكم القراءة في كتب الحارث المحاسبي

حكم القراءة في كتب الحارث المحاسبي Q ما رأيكم في كتب الحارث المحاسبي خاصة (رسالة المسترشدين)؟ A طالب العلم المتمكن من العقيدة لا مانع أن يقرأ مثل هذه الكتب، مع أنه ليس بحاجة إليها، أما طالب العلم غير المتمكن فلا ينبغي أن يقرأ مثل هذه الكتب. والحارث المحاسبي يعد من العبَّاد المشاهير، وكتبه فيها مداخل غامضة، والتعبيرات فيها عن عقيدة التوحيد تعبيرات دقيقة جداً وغامضة ليست واضحة، وأحياناً تكون محتملة لعدة معان وأوجه؛ فالأولى ألا يرشد إليها المبتدئ، وفي النقي الصافي الكفاية، في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم الذين لم تشبهم الشوائب الكفاية، والحمد لله.

[17]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [17] لقد تميز أسلوب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مناصحته لمخالفيه بالعدل والإنصاف، فتجده يذكر محاسن ذلك الشخص ومميزاته، مع الحذر من الوقوع في مخالفة أهل السنة والجماعة في العقيدة وغيرها، وهو بفعله هذا يدل على شفقته بالمنصوح، وإرادة الهداية له، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، فهم كما يقول رحمه الله: يحبون الحق ويرحمون الخلق، وفي رسالته إلى نصر المنبجي دليل على ذلك الأسلوب الرائع الموفق منه رحمه الله تعالى.

رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي

رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا كالمعتاد، وسنبدأ الآن في قراءة من مجموع الفتاوى، في المجلد الثاني من صفحة (452)؛ لأن ما بعد الدرس السابق موضوعات من المسائل التي فيها متاهات كلامية ومحارات لا حاجة لنا بها، والشيخ رحمه الله إنما كتبها للرد على أولئك الأقوام أو المتأثرين بهم، ولسنا بحاجة إليها؛ لذلك ننتقل الآن إلى صفحة (452). قال شيخ الإسلام قدَّس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم. من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونَهَج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته؛ حتى يُظِهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته. أما بعد: فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً منزلة علية، ومودة إلهية؛ لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة]. في هذه المقدمة نستطيع أن نستجلي منهج الشيخ في التعامل مع الآخرين، وهو منهج شرعي أصيل، سلكه كثير من الأئمة والعلماء الذين يكاتبون غيرهم من العلماء، سواء كانوا من الموافقين أو من المخالفين، ما لم يكونوا من أصحاب البدع المغلظة الكبرى، أي: من المنحرفين الضالين. والشيخ إذا كتب للعلماء الذي لهم قدرهم واعتبارهم، وإن كانوا ممن لهم زلات أو بدع أو مآخذ، يكتب لهم بأسلوب المُقَدِّر لهم، والمنوه عن فضائلهم، المؤدب مع العلماء، فهو يثني عليهم بما فيهم من الخير، ويتغاضى عما هم عليه من الأخطاء والزلات؛ لأنه لا يقصد في مثل هذه الرسالة التشهير، أو معالجة الأخطاء بالأسلوب الذي يسلكه كثير من الناس، والشيخ حتى مع الكفار من ملوك ورؤساء ووزراء وغيرهم يكتب لهم كتابة يكون فيها إشارة إلى قدرهم، أياً كانوا، إن كانوا علماء فيذكر فضلهم وعلمهم إلى آخره، وإن كانوا وزراء فيذكر محاسنهم، وإن كانوا ملوكاً يتلطف معهم في الخطاب لدعوتهم ونصحهم، فهو رحمه الله يؤثر خطاب النصيحة في الخطابات الخاصة، ولا أعرف من كتابات الشيخ رحمه الله للآخرين -وإن كان من المخالفين- إلا أنه يسلك هذا الأسلوب، أسلوب الملاينة والمناصحة، والاعتراف بما عند المخالف من الفضل والعلم والقدر، وإثارة هذا الأمر والجانب فيه؛ لجره إلى الخير، وتهيئة نفسه لقبول النصيحة.

الفرق بين المحبة الإيمانية والوجد المذموم

الفرق بين المحبة الإيمانية والوجد المذموم قال رحمه الله تعالى: [وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -التي هي أصل الأعمال- المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]. ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقاً بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان]. يريد الشيخ رحمه الله أن يجر العلماء المهتدين ممن يستعملون المصطلحات الصوفية إلى المعاني الشرعية، فكلمة الوجد والذوق التي استعملها هي كلمات ومصطلحات صوفية، الأصل أن نتجنبها، ولسنا بحاجة إليها، ولم ترد في الكتاب والسنة، والاشتباه فيها أكثر، فهي مشتبهة، والغالب أنها تستعمل على الوجه الباطل، لكن الشيخ يحاول أن يجر الذين ابتلوا باستعمال هذه المصطلحات من العلماء والعبَّاد إلى المعاني الشرعية التي يمكن أن تحتملها ألفاظ هذه المصطلحات، مع أنه ينفي المعاني البدعية، وينوه دائماً عن فسادها وعن ابتداعها، فهو يشير في قوله: (المحبة الإيمانية الموجبة للذوق الإيماني والوجد به) استعمل هذه المصطلحات ليشير إلى أن الوجد والذوق كل منهما مقيد بالمعاني الشرعية التي يجب أن ترد إلى الكتاب والسنة، وإلى معاني الإيمان وثمراته. قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)، فجعل ذوق طعم الإيمان معلقاً بالرضا بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقاً بالمحبة؛ ليفرق صلى الله عليه وسلم بين الذوق والوجد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين غيره، كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئاً فله ذوق بحسب محبته. ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده. وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال المفَرَّق في الملتين قبلنا، وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله]. أراد الشيخ أن يبين هنا أن الملتين السابقتين: ملة موسى عليه السلام، وملة عيسى عليه السلام، كل واحدة منهما تميزت بميزة، وأن الكمال الذي وصف الله به هذه الأمة وميزها به مفَرَّق بين الملتين، فملة موسى عليه السلام تميزت بالشدة والعزة والقوة؛ لأنها كانت رسالة إلى أهل الكبرياء والتعالي الفراعنة، ثم إلى بني إسرائيل الذين احتاجوا إلى هذا الموقف إزاء الباطل، والرحمة في ملة عيسى عليه السلام؛ ولذلك عيسى لم يبعث إلى سلطان كما بعث موسى إلى سلطان، فميز الله ملة موسى عليه السلام بالشدة والعزة على أعداء الله، وميزت رسالة عيسى عليه السلام بالرحمة والرفق، فجمع الله هاتين الخصلتين في هذه الأمة، جعل في هذه الأمة القوة والعزة على الكافرين، وجعل الرحمة والذلة للمؤمنين. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق]. يعني: الحب المجمل المطلق هو الذي لا يصرف إلى معين، هذا الحب ل

مجيء الشريعة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب

مجيء الشريعة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب قال رحمه الله تعالى: [فهو سبحانه مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين لي، دعاء العبادة بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه والالتجاء إليه والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر. ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك]. يشير الشيخ هنا إلى معنى مهم، وهو أن العبادة هي توجه العباد بقلوبهم وأعمالهم إلى الله عز وجل، وهي التأليه، وهذه تشمل كل معاني العبادة، ويجمعها أن العبد يتوجه إلى ربه عز وجل بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والتوكل وسائر الأعمال القلبية، فهو حينما يعبد الله عز وجل يعبده مؤلهاً له، متوجهاً إلى ربه بجميع أنواع التوجه؛ لأن من أعظم معاني اسم الجلالة (الله) انجذاب العباد إلى ربهم بقلوبهم وأعمالهم وأحوالهم، وهذه عبادة غالباً تكون عبادة محضة. والنوع الثاني: السؤال، وهو استجلاب المنفعة للعبد من ربه، واستدفاع الضر منه عز وجل؛ فيكون متوجهاً إلى معنى الربوبية التي هي أفعال الله عز وجل. فالإنسان إذا عبد الله فباب العبادة هو الألوهية، وإذا سأل الله فباب السؤال هو الربوبية؛ ولذلك إذا كان الذكر محضاً؛ فينبغي أن يكون غالباً بوصف الله عز وجل بالإلهية، وإذا كان الذكر دعاء واستجلاباً؛ فينبغي أن يركز العبد على أوصاف الربوبية لله عز وجل، فيقول: يا رب يا رب! لاستجلاب المنفعة ودفع المضرة، وفي الذكر وتعظيم الله عز وجل الأولى أن يكثر من استعمال لفظ الجلالة (الله). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي Q { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28]. {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]. {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران:147]. {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118] ونحو ذلك. وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية، والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق، من الأعيان والصفات. وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها، فيقول: (أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن)].

فناء كثير من السالكين بالتوحيد الرباني عن التوحيد الإلهي

فناء كثير من السالكين بالتوحيد الرباني عن التوحيد الإلهي قال رحمه الله تعالى: [فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوب منه]. يريد الشيخ أن يبين للمرسل إليه المعاني الباطلة بالأسلوب المؤدب غير المباشر في النقد، فاستعمل مصطلحات الصوفية لجرهم إلى المعاني الموافقة للحق، يقول: (فيغيب ويفنى) هذه الكلمات ليست من الكلمات الشرعية، يعني: الغياب والفناء، ولا ينبغي أن يستعملها المسلم الذي سلم من هذه الاتجاهات، لكن الشيخ استعملها لجرهم إلى المعنى الصحيح، فيقول: (يغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني) يعني: يلهو وينشغل بتوحيد الربوبية عما هو مأمور به ومطلوب منه وهو توحيد الإلهية، فهو يشير إلى خطئهم في أنهم يركزون على جانب الربوبية ويغفلون أو يضعف عندهم التركيز على جانب الألوهية؛ ولذلك يكثرون من التعبد والتأمل والتحنث، ويقل عندهم دعاء السؤال من الله عز وجل، ويقل عندهم أيضاً الاهتمام بجانب العبادة المحضة من الصلوات، والصيام، والصدقات، وبذل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد الذي هو من مقتضيات العبادة. قال رحمه الله تعالى: [فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوب منه، وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, والأمر بما أمر به والنهي عما نهى عنه، والحب فيه والبغض فيه. ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول؛ فهو يشبه القدرية المشركية، الذين قالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]. ومن أخذ بالثاني دون الأول؛ فهو من القدرية المجوسية، الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاء جميع الكائنات، كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة]. يقصد بالأول: اعتبار جانب الربوبية كما تفعل المتصوفة وإغفال جانب الإلهية، ويقصد بالثاني العكس: اعتبار جانب التشريع والشرع والأمر، وإغفال جانب الربوبية الذي هو القدر. إذاً: فالصوفية يعنون بجانب القدر ويهملون الشرع، والآخرون المعتزلة ومن سلك سبيلهم يعنون بجانب الشرع والأمر والنهي، ويغفلون جانب القدر، أو يختل منهجهم في جانب القدر. والحق وسط بين ذلك وذاك؛ فإن الحق هو اعتبار الأمرين، المسلم لا بد أن يعبد الله عز وجل مؤمناً بقدره وملتزماً بأمره، يجمع بين الأمر والقدر، كما ورد في الشرع وفق قواعد وضوابط شرعية، ليس مجرد جمع إقراري دون التزام الأصول والقواعد التي يكون فيها التزام الشرع مع التسليم بالقدر. قال رحمه الله تعالى: [والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم، وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدو]. يبدو لي أن عبارة (خفو العدو) مندرجة خطأً؛ فتحذف؛ لأن الكلام يستقيم بدونها، وهي كلمة لا معنى لها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة وغيرهم؛ فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به، فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد، يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود]. البدود: هي الأوثان، فمن أسمائها عند الهنود وفي آسيا الشرقية: البدود.

قول الشيخ عبد القادر الجيلاني في القدر

قول الشيخ عبد القادر الجيلاني في القدر قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً له]. كلام الشيخ عبد القادر كلام مجمل لسنا بحاجة إليه؛ لكن نظراً لتعلق الصوفية بالشيخ عبد القادر فنقول: هذه الكلمة لها محامل صحيحة وباطلة، فـ شيخ الإسلام رحمه الله أراد أن يجرهم إلى الحق من خلال المحمل الحق الموجود في هذه الكلمة؛ لأن الكلمة تعني عند التأمل الجمع بين الشرع والقدر، وعدم ادعاء التعارض بينهما؛ لأن الصوفية يدعون التعارض، وأنه لا يمكن أن يخضع الإنسان للقدر ثم يلتزم الشرع، فإن خضع للقدر لا بد أن ينسى نفسه، وينسى شهوده بمشهوده، ووجوده بموجوده، إلى آخر العبارات التي هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى الحق. إذاً: كلام الشيخ عبد القادر له محمل حق، فأراد الشيخ أن يجرهم إلى المعنى الحق من خلال هذا المحمل، وإلا فالمؤمن المهتدي صاحب السنة ليس بحاجة إلى هذه المعاني أبداً، وإنما تكفيه ألفاظ الشرع الواردة في الكتاب والسنة، فليس بحاجة إلى مثل هذه المعاني التي تحتاج إلى شرح، وكلها تقوم على التلميح والغموض، والكلام الإشاري، ومع ذلك فهو أراد أن يقرر الجمع بين الشرع والقدر، وأن الولي من يكون منازعاً للقدر، أي: لا يقعد عن الطاعة وعن بذل الأسباب؛ بسبب التسليم للقدر، كما يفعل غلاة الصوفية. قال رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية، أي: أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله، كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض)، وفي الترمذي: (قيل: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل تردُّ من قدر الله شيئاً؟ فقال: هن من قدر الله). وإلى هذين المعنيين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (يقول الله: يا ابن آدم! إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك: فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك: فمنك الدعاء، وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي: فائت إلى الناس بما تحب أن يأتوه إليك)].

[18]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [18] للعبد مقامات ثلاثة في التوحيد، فإما أنه يعبد ربه وهو يفرق بين الأمور القدرية وبين مقام الأمر والنهي، وهذا هو المنهج الصحيح السليم، وإما أن ينتهج منهج القاصرين الذين يضعف ميلهم إلى العمل بالشرع وربما ينعدم، وإما أن ينتهج طريق الفناء الكامل كما عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

مقامات العبد في التوحيد

مقامات العبد في التوحيد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاث مقامات: أحدها: مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات]. من خلال هذه العبارات ساير الشيخ رحمه الله المتصوفة؛ من أجل أن يجذب هؤلاء إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وإن كان هو في منهجه الخاص وفي تقريره لنهج أهل السنة والجماعة لا يسلك هذا المسلك، يعني: لا يقرر العقيدة على هذا النحو حينما يعبر عن منهج أهل السنة والجماعة، منهج أهل الحديث، منهج السلف الصالح؛ لكن نظراً لأنه الآن يخاطب واحداً من كبار القوم، ويريد أن يجره إلى الحق جراً رفيقاً من خلال استعمال مصطلحات القوم، وتحويلها قدر الإمكان إلى معان شرعية، تبعدهم عن المعاني البدعية الضالة، التي أوقعتهم في وحدة الوجود والاتحاد والحلول. فقوله: (مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات) يعني: التفريق بين الخلق المتمثل بتوحيد الربوبية وبالقدر، وبين الأمر المتمثل بتوحيد الإلهية والشرع، فمقام الفرق هذا مقام صحيح إذا استعمل على وجه صحيح، بل هو المقام الذي ينبغي أن يكون، بمعنى أن على المسلم أن يعبد ربه وهو يفرق بين الأمور القدرية المتمثلة بتوحيد الربوبية -والتي هي أمور فطرية الإنسان محكوم بها شاء أم أبى- وبين مقام الأمر المتمثل بأوامر الله ونواهيه. فالمسلم عندما يفرق بين هذين الأمرين، فإنه يكون على المنهج الصحيح السليم، ويجب على المسلم أن يعبد الله على هذا الأساس. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه؛ فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين]. هذا النوع مذموم، والشيخ إنما أراد أن ينقدهم من خلال مصطلحاتهم؛ لأن مقام الجمع والفناء يرجع إلى نزعة فلسفية عند عبَّاد الأمم الضالة، يزعمون أن الإنسان بالعبادة والتحنث يلغي الماديات، ولم يعد يشعر إلا بالوجود الواحد، بحيث يغيب العابد عندهم عن شعوره بانفراد الخالق عز وجل، وهذا خطأ فادح قد يؤدي إلى الشرك والحلول والاتحاد. أو كذلك يغيب بمشهوده وهو عبادة الرب عز وجل وتوجهه إلى الله، عن شهوده وهو هذا الخلق الذي بين يديه، فكأنه من إمعانه في العبادة لم يشعر بوجود الخلق من حوله، ويزعمون أنه بذلك يتحد العابد عندهم بربه، فلم يعد يفرق بين الخالق والمخلوق، وبمعبوده وهو الله عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وهذه كلها معان فلسفية صوفية تحمل غالباً معاني باطلة. وقد يستعملها بعض العباد الجهلة وبعض شيوخ الصوفية الذين ليس عندهم ضلال خالص في وحدة الوجود والاتحاد، لكن عندهم نزعة، قد يستعملونها على وجه صحيح فيه تكلف، بمعنى أن العابد من قوة ولايته لله عز وجل قد لا يشعر بما حوله، فيستغني بمعبوده عن الخلق، أو بمشهوده وهو الله عز وجل عن شهود من حوله وهكذا. وقوله: (وهو فناء القاصرين) يعني: أن الذين يسلكون هذا المسلك فيهم جهل، وقد يؤدي بهم هذا الجهل إلى القول بالحلول والاتحاد والفناء، وهذا حصل من كثير منهم، فتستهوي هذا الصنف هذه العبادة على الجهل، ويستشعر الفناء بالقدر وبالربوبية، فيضعف عنده الميل إلى العمل بالشرع، وربما ينعدم كما هو عند غلاتهم الذين أعلنوا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. قال رحمه الله تعالى: [وأما الفناء الكامل المحمدي: فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى]. هذه العبارات استعملها الشيخ في التعبير عن الحق استعمالاً فيه لبس وإشكال، لكن كما قلت: هو يخاطب أحد كبار الشيوخ الذين ابتلوا بهذه المصطلحات، فهو يخاطبه ليجره إلى الحق. ويقصد بالفناء الكامل المحمدي: عبادة الله عز وجل، فقوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) يعني: ألا يعبد إلا الله، لكن استعمال كلمة الفناء عن عبادة السوى فيها لبس، والشيخ لم يستعملها في تقرير الحق على منهج أهل الحق، إنما استعملها لجرِّ القوم إلى المفاهيم الصحيحة، كما فعل ابن القيم في مدارج السالكين. إذاً: المقصود أن الفناء الكامل هو ألا يعبد الإنسان إلا الله عز وجل، ولا يستعين إلا بالله، ولا يريد إلا وجه الله، هذا معنى قوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) وقوله: (والاستعانة بالسوى) وقوله: (وإرادة وجه السوى) ولذلك أرى أنه يجب على طالب العلم ألا يستعمل هذه العبارات في التعبير عن الحق، لكن قد يحتاج إليها عندما يريد أن يصحح للقوم مذاهبهم، ويجرهم إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وعلى ما في ذلك من اللبس، فإنه إذا كان وسيلة تقرب هؤلاء القوم إلى الحق فهي وسيلة مؤقتة لا ينبغي أن يستقر عليها منهج طالب العلم والمسلم. قال رحمه الله تعالى: [وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تف

الشرعة والمنهاج الإسلاميان وبيان التوحيد الصحيح الذي يشير إليه علماء الاسلام

الشرعة والمنهاج الإسلاميان وبيان التوحيد الصحيح الذي يشير إليه علماء الاسلام قال رحمه الله تعالى: [وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وبقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]؛ ولهذا ترجم البخاري عليه: باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، فجمع في الملل الأربع من آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحاً، وذلك قبل النسخ والتبديل]. استدل الأئمة العلماء بهذه الآية على أن الصابئين من الأمم الكتابية، أو أن عندهم شبهة كتاب، فبالتالي يعاملون معاملة اليهود والنصارى في أحكام الذمة، ويلحقون بأهل الكتاب، وهم ذكروا على أن منهم طوائف صالحة، وهم الذين آمنوا يعني: المسلمين، (إن الذين هادوا والنصارى والصابئين) فهنا ذكر الصابئين على أن منهم من آمن، وأنهم يؤجرون على هذا الإيمان، ففيه دلالة غير مباشرة على أن أصل دين الصابئة قبل التحريف كان على التوحيد، وقد أشار بعض الباحثين على أن الصابئة مرت بمراحل: مرحلة ما قبل إبراهيم عليه السلام، كانت الصابئة على الشرك الخالص، وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم بعد ذلك آمن منهم أناس برسالة إبراهيم، وبقي وصفهم على أنهم صابئة وهم على التوحيد، ثم حرفت ديانتهم بعد ذلك، وهم من أشار إليهم القرآن هنا من المؤمنين من الصابئة الذين بقوا على دين إبراهيم فهؤلاء لهم أجرهم، حتى دخل التحريف هذه الديانة. هذه كلها ليس عليها أدلة قاطعة، إلا أن هناك إشارة إلى أن هذه الديانة كان فيها من هم على استقامة، وهي إشارة واضحة لا تحتاج إلى تكلف، لكن هل الصابئة على أكثر من معنى: صابئة موحدة، وصابئة مشركة، الله أعلم، هذا أمر يحتاج إلى تحقيق. والفناء المحمدي هو المقام الثالث. قال رحمه الله تعالى: [وخص في أول الآية المؤمنين، وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] والشرعة: هي الشريعة، والمنهاج: هو الطريقة، والدين الجامع: هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية: هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين]. بعض الباحثين يتشدد في مسألة استعمال المنهج في الجمع: المناهج، ويرى أنه لا يجوز في مذاهب السلف أن نسميها: مناهج؛ لأنها ليست متعددة، والحقيقة أن هذه أمور ترجع إلى المقصود وإلى الاصطلاح، فالصحيح أنه يجوز استعمال المنهج على مناهج، وإن كان المقصود به التعبير عن مذهب السلف أهل السنة والجماعة؛ لأننا إن عبرنا عن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب السلف الصالح في الجملة فلا بد أن نفرده ونقول: منهج، ولا نقول: مناهج، لكن إذا قصدنا بالمناهج طرائق السلف في تقرير الدين والدفاع عنه، والأمور التي تتعلق بالبيان وعرض الدين، فلا مانع من أن تسمى مناهج، ويقال: مناهج السلف، أي: طرائقهم واجتهاداتهم الفردية في بيان الدين وتقريره، والأمر في ذلك واسع؛ لأنه جاء في قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] إشارة واضحة إلى أن مجموع ما أرسل الله به النبيين من الكتب المنزلة والشرائع يسمى شرائع، ويسمى مناهج؛ لأن نسبة الشرعة والمنهاج في الأمة الواحدة تقابلها نسبة الشرائع والمناهج لمجموع الأمة، هذا أمر لا حرج فيه، ولا ينبغي أن يبغي أحد على آخر، أقول هذا لأني رأيت لبعض الباحثين تشدداً في هذا الأمر، وأحياناً يبني على مخالفة رأيه تضليلاً وتبديعاً وربما براء، وهذا في الحقيقة فيه شيء من العنت والتشديد على الناس، وهناك أشياء كثيرة من هذا الصنف، مثل: مسألة: العذر بالجهل، ومسألة: جمع المناهج كما أسلفت، ومسالة: وسائل الدعوة وأساليب الدعوة هل هي اجتهادية أو غير اجتهادية؟ فهذه مسائل في الحقيقة يسع فيها الخلاف بتفاصيلها، وإن كان الأصل أن نتفق على أصولها، لكن في تفاصيلها في التعبير عنها هذه أمور يسع فيها الخلاف، ولا ينبغي لأحد أن يتشنج ويضلل المخالف المجتهد من طلاب العلم الموثوقين، الذين لا يتهمون بالابتداع، أو بلزوم المناهج الباطلة.

بعض ما يؤثر عن أبي يزيد البسطامي وغيره من الكلمات حال الفناء وبيان من يعذر في ذلك

بعض ما يؤثر عن أبي يزيد البسطامي وغيره من الكلمات حال الفناء وبيان من يعذر في ذلك قال رحمه الله تعالى: [فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى؛ إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه]. هذا المسلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الحقيقة من المسالك المحيرة، وقد تكررت لـ شيخ الإسلام في مواضع كثيرة في هذا الكتاب وفي غيره، وهي مسألة الاعتذار لأناس وقعوا في الخلط في العقيدة، وحصلت منهم دواه تدل على نزعة إلحاد، سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، بل تدل على أن القوم ورثوا مذاهب باطلة عن الأمم السالفة الفلسفية، والأمم والديانات الوضعية وغيرها؛ لأن مثل هذه الأمور في الحقيقة خطيرة جداً، مثل: أبي يزيد البسطامي، أو التستري، أو ابن أبي الحواري أو نحوهم ممن أثرت عنهم عبارات هي إلحادية لا تقبل النقاش في ظاهرها، فأن يخاطب الإنسان نفسه أمام الناس علناً ويجهر ويقول: سبحاني، هذا الأمر يقشعر منه جلد المؤمن من هوله ومن خطره، وكذلك كلمة (ما في الجبة إلا الله) هذه كلمة إلحادية خطيرة جداً لا ينبغي الاعتذار لأهلها، لكن مع إنكار شيخ الإسلام لهذه العبارات، فهو يرى أنها عبارات كفرية إلحادية، ومع ذلك يلتمس للقوم أعذاراً، وهذا أمر محير، وإن كان الشيخ فسره بقوله: إن هؤلاء من شدة عبادتهم وسلوكهم مسالك غير شرعية في التعبد مثل: الجوع والعطش والسهر حصل عندهم مثل هذا الخلط، الذي ربما يكون من كلام الشيطان على ألسنتهم، أو من إيحاءات عقائد موروثة في باطنهم، الله أعلم بأحوالهم، والغالب أنها عقائد موروثة يتلقونها سراً، وعندما يختلط الإنسان ويهستر يتلفظ بها وهو لا يشعر، وإلا فمن أين هذا الكلام المنظم؟ هذا ليس إلحاداً ساذجاً، هذا إلحاد منظم، إلحاد الفلاسفة، إلحاد الباطنية، إلحاد الديانات الضالة، ليس مجرد كلمة عابرة، لا سيما أنهم أثرت عنهم أشياء كثيرة من هذا النوع، مثل: لا أعبدك خوفاً من نارك، ولا رجاء جنتك. ومثل: لماذا تخافون من النار، ما هو إلا أن أنصب خيمتي فوقها فتنطفئ. ومثل: أن يمر أحدهم بمقابر اليهود ويضرب صدره ويقول: هؤلاء في ذمتي، فيضمن لهم الجنة. هذا ما هو مجرد خلط، بل هذا هو الإلحاد بعينه، والجرأة على الله عز وجل، والمصادمة للدين مصادمة عنيفة، لكن كأن الشيخ يظن أن هؤلاء يعتريهم خلل في المخ وخلل في العقول؛ بسبب سلوكهم مسلك التعبد القاسي، بترك الطعام والشراب وكثرة السهر، حتى إن الواحد منهم يهذي بما لا يدري، هذا سبب اعتذار شيخ الإسلام لهم. ولذلك قال: (وكلمات السكران) السكر هنا يقصد به الهذيان الذي يكون من هذا الإنسان، كما يحصل من الذي يسكر بالخمر، والشيخ يميل إلى أن الإنسان كما يسكر بالخمر يسكر أيضاً بالمبالغة في التعبد والتحنث، وهذا فعلاً يحصل الآن عند عباد الصوفية، وقد لاحظنا منهم من يحصل له ذلك، وذكرت لكم في الدرس الماضي أن كثيراً من عباد الصوفية يحصل عندهم نشوة عندما يتعبدون بالأوراد البدعية، حتى إن الواحد منهم يبدأ يتصرف بتصرفات غير معقولة، لكن ما دام أن هذا الأمر غير مشروع ونتيجته غير مشروعة، فإن الاعتذار لهؤلاء القوم في الحقيقة فيه نظر، على الأقل ينبغي أن يحكم على هذه الكلمات بالحكم الظاهر منها، وأنها كلمات كفرية إلحادية خطيرة، ولا داعي للتكلف في الاعتذار عنهم، ومع ذلك فإن شيخ الإسلام له وجهة نظر، يقول: إن هؤلاء لهم أحوال في العبادة، إذا كانوا في حال الصحو لهم أحوال في العبادة عظيمة جداً تذكر وتشكر، وهذا لعله يكون مبرراً لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأننا لو تتبعنا بالمقابل الكلمات التي صدرت عن البسطامي وابن أبي الحواري والتستري وغيرهم، الكلمات التي قالوها في تقرير التوحيد وفي الدفاع عن الحق وفي كشف مناهج الباطل فإنها كلمات مليئة بالحكمة وهي درر في تقرير التوحيد. والشيخ رحمه الله يعتذر عن أوائل الصوفية الذين حصلت منهم هذه الشطحات قبل أن تكون هناك مناهج في الدين، أما من بعدهم فالشيخ يقول عنهم: هؤلاء نهجوا مسالك الضلالة في الدين، ووضعوا مناهج باطلة ضاهوا بها السنة، وأخرجوا بها الناس عن الحق. هذا بالنسبة لمن جاءوا فيما بعد. إذاً: فالشيخ يعتذر عن الأوائل مع أنه لا يقرهم على هذه العبارات الكفرية، لكن هذه الكفريات مقننة، ولها صياغة لا تعرف إلا من خلال أهل الإلحاد والكفر الذين عرفوا بذلك. وهذه مسألة أخرى تفيدنا أن هذه المناهج مناهج موروثة، فإذا نظرنا إلى الكلمات التي تفوه بها هؤلاء وجدنا أنها ترجع إلى الديانات التي كانت في بيئاتهم. فهذيان هؤلاء القوم الذين كانوا في الشرق الإسلامي كان تعبيراً عن مذاهب الديانات البدعية في الهند وما حولها، والذين كانوا في الشام أو في مصر أو غيرها، كان أكثر كلامهم

الفرق بين الاتحاد النوعي والاتحاد العيني وحكم كل منهما

الفرق بين الاتحاد النوعي والاتحاد العيني وحكم كل منهما قال رحمه الله تعالى: [فأما إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات. وفي مثل هذا الحال، غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي]. قوله: (وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي) الاتحاد النوعي الحكمي هو القرب المعنوي بين العبد وربه، ويسمى هذا اتحاداً نوعياً، فقرب العبد الصالح المسلم كالأنبياء والصالحين وأتباعهم هؤلاء لهم قرب مع ربهم، يتمثل بالمحبة والولاية، محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده الصالح، وكذلك ولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين لله، هذا هو الاتحاد النوعي الحكمي، ليس مادياً كما يزعم أهل الاتحاد الذين خلطوا هذا النوع بالنوع الثاني: وهو الاتحاد العيني الذاتي، الذين زعموا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والأمر، مع أن الفرق بين الأمرين واضح جداً، فالاتحاد الحكمي هو عين التوحيد، وهو أن يكون الإنسان ولياً لله عز وجل، هذا هو عين التوحيد المطلوب، بينما الاتحاد العيني كفر وضلال؛ لأنه يؤدي إلى دعوى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وعدم الفرق بين العبد وربه وبين الخالق والمخلوق، وهذا هو قمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية. قال رحمه الله تعالى: [فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده؟ عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي). ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه؛ لقوله: (لوجدت ذلك عندي)، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده) ولم يقل: لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهى عنه. وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]. وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]. وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة، إن صح أن المسيح عليه السلام قالها فهذا معناها، كقوله: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي ونحو ذلك، وبها ضلت النصارى؛ حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في المسيح]. قول عيسى عليه السلام: أنا وأبي واحد هذا قد سبق التعليق عليه؛ لكن نظراً لأنه في هذا المقام أوضح في تفسير المقصود أحب أن أعيد ما سبق أن قلته: وهو أن مسألة تعبير النصارى عن الرب بالأب هذا راجع إلى عدة عوامل: العامل الأول: أن الذين أفسدوا دين النصارى اليونان، والأمم التي دخلت دين النصارى فيما بعد، فهؤلاء لما شرعوا في تحريف دين النصارى دخلوا من خلال هذه المعاني ذات الألفاظ المشتبهة، ففسروا كلمة الرب بالأب؛ من أجل أن تبقى عندهم نزعة التثليث، ولذلك الله عز وجل لما ذكر هذه العقيدة عن النصارى، قال: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، من هم الذين كفروا من قبل؟ هم اليونان والرومان الذين عندهم مسألة تعدد الآلهة ضمن ديانتهم الوثنية التثنية والتثليث وغيرها، فالنصارى ضاهئوهم بمعنى قلدوهم في مسألة تنزيل العبارات الشرعية على معان بدعية. فإذاً: الذين حرفوا الديانة النصرانية أخذوا المعاني المشتبهة وقلبوها إلى المعنى الباطل. العامل الثاني: أنه مع كثرة الترجمات تعرض الإنجيل إلى ترجمة سريعة؛ لأنه لما رفع عيسى عليه السلام إليه ضيق اليهود والسلاطين على أتباع عيسى حتى لم يستطيعوا أن ينشروا الدين بشكل بين واضح، فانتشروا في بقاع الأرض، فلما انتشروا انتشروا إلى أقوام يحتاجون إلى ترجمات للكتاب وهو الإنجيل، فترجم ترجمات سريعة، وهذه الترجمات كلها حولت إلى معان تتفق مع عقائد الأمم، فهذه الترجمة السريعة كانت السبب في وجود التحريف، فالذين نظروا إلى المعاني اللغوية وجدوا كلمة (الرب) بمعنى المربي، والمربي هو الأب، ففسروا الرب بالأب، وحملوا هذا التفسير على ما عندهم من عقائد، وهذا من م

[19]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [19] لقد ذكر شيخ الإسلام أن سبب اشتغاله بالرد على أهل الحلول والاتحاد هو لدفع ضررهم عن أهل طريق الله تعالى، السالكين إليه، وبيان أن المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله، ودعوة الخلائق إلى خالقهم، وأهل الحلول والاتحاد لبسوا وموهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيداً، وحقيقته تعطيل الخالق وجحوده.

اعتقاد شيخ الإسلام وجوب الرد على الحلولية والاتحادية وبيان حقيقة مذهبهم

اعتقاد شيخ الإسلام وجوب الرد على الحلولية والاتحادية وبيان حقيقة مذهبهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، ولا يزال كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن مذاهب أهل الاتحاد والحلول ووحدة الوجود والتحذير من ذلك، من خلال خطابه مع أحد رموز التصوف في ذلك العصر. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحداً بعينه]. كلمة (خدمتكم) تكررت، ويقصد بها رحمه الله في مثل هذا الخطاب الثناء ومن تلقيب الإنسان باللقب اللائق، فخدمتكم، يعني: حضرتكم أو سعادتكم أو فضيلتكم، كما نعبر عنها في العصر الحاضر. قال رحمه الله تعالى: [وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين، فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم. وقد كتبت في ذلك كتاباً ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل، والله تعالى يعلم -وكفى به عليماً- لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات، وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين، لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق، وتهتك أستارها، ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن مقصود الدعوة النبوية، بل المقصود بخلق الخلق، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل: أن يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم، بما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيداً، وحقيقته تعطيل الصانع، وجحود الخالق].

سبب تعظيم شيخ الإسلام لابن عربي وإحسانه الظن به قديما

سبب تعظيم شيخ الإسلام لابن عربي وإحسانه الظن به قديماً قال رحمه الله تعالى: [وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بـ ابن عربي ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد، مثل كلامه في كثير من (الفتوحات) و (الكنة) و (المحكم المربوط) و (الدرة الفاخرة) و (مطالع النجوم) ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع (الفصوص) ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا. فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي، وحقيقة حال هؤلاء، وجب البيان. وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم. والشيخ أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه، وحقق قصده من نصحه للإسلام وأهله، ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة].

بيان متى حدث القول بالاتحاد العام والحلول المطلق

بيان متى حدث القول بالاتحاد العام والحلول المطلق قال رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل واحد من الاتحاد والحلول، إما معين في شخص وإما مطلق]. يقصد بالقسمة الرباعية: أن الاتحاد على قسمين: إما معين، وإما مطلق، وكذلك الحلول على قسمين: إما معين، وإما مطلق، فيكون أربعة. قال رحمه الله تعالى: [أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى، والغالية في الأئمة من الرافضة، وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية، فإنهم يقولون به في معين، إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط. وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية]. اليعقوبية والنسطورية والملكانية كلها فرق نصرانية، وكلها مشركة تعتقد الحلول والاتحاد، لكن يختلفون في تفسير هذا الحلول والاتحاد. قال رحمه الله تعالى: [وأما الحلول المطلق وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك]. يتمثل هذا بقول الجهم ما أثر عنه أنه قال لما ناقش السني وشككوه في الله عز وجل في وجود الرب سبحانه خلا بنفسه وجل يتأمل وانقدحت في نفسه أقوال الفلاسفة ثم خرج وهو يزعم أن الله عز وجل في كل شيء حتى كان يقوم هو ذا في كل شيء يعني: الله عز وجل، نعم. قال رحمه الله تعالى: [وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل: فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني وما سواه فقير].

افتراق القائلين بالحلول على ثلاثة طرق

افتراق القائلين بالحلول على ثلاثة طرق قال رحمه الله تعالى: [لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم. الأول: أن يقولوا: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية، حتى ذوات الحيوان، والنبات والمعادن، والحركات، والسكنات، وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق، ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك. ويقولون: إن الله سبحانه لم يعط أحداً شيئاً، ولا أغنى أحداً، ولا أسعده، ولا أشقاه، وإنما وجوده فاض على الذوات، فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك. ويقولون: إن هذا هو سر القدر، وأن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجاً عن نفسه المقدسة. ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وإنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه، فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛ لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به الرسل. ويقولون: إنهم لم يعبدوا غير الله]. لو تجاوزنا هذا؛ لأنه تكرار، وهو مما يمرض القلوب؛ لكنا وقفنا عنده لنكشف حقائق القوم من خلال كلام المحققين، ومن خلال كلامهم أنفسهم؛ فالشيخ لم يفتر عليهم، بل اعتمد على أقوالهم في كتبهم؛ ولذا سننتقل الآن إلى مقطع جديد فيه مزيد فائدة.

تقييم كتاب (الفصوص لابن عربي) وما تضمنه من معاني

تقييم كتاب (الفصوص لابن عربي) وما تضمنه من معاني قال رحمه الله تعالى: [وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول: إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون، ويقولون: نحن على قول فرعون]. وابن عربي نفسه كتب كتاباً وهو موجود وطبعه بعض الملاحدة المعاصرين، الذين يعنون بهذه الزبالات من الأفكار السخيفة، اسم كتاب ابن عربي (إيمان فرعون) نسأل الله العافية والسلامة، وهذا هو مذهب كبار الحداثيين الآن، ويتعلقون بهذه الأفكار، ويمجدون ابن عربي والتلمساني وابن الفارض والقونوي وغيرهم من أئمة الضلالة، يمجدونهم ويمجدون تراثهم وينبشون عنه ويخرجونه، ويحققونه ويعلقون عليه، ويجتمعون حوله، لكنهم يتلونون ويلونون مذاهبهم بألوان أدبية وفكرية وثقافية، وكل يوم يأتوننا بشيء من دواهيهم ومصائبهم، نسأل الله أن يكفينا شرهم. قال رحمه الله تعالى: [وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه جاء به، وهو ما إذا فهمه المسلم علم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين يبرءون إلى الله تعالى من بعض هذا القول، فكيف منه كله؟ ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور، الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب. ولا يقول أحد منهم: إنه عين المخلوقات، ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون: لو زالت السماوات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين]. سبق أن تكلم الشيخ عن هذين الأصلين في أول الكتاب فلا داعي إلى إعادتهما، لكني ألخصهما. يعني: أن اتجاه الحلول والاتحاد ووحدة الوجود الذي عليه ابن عربي وأضرابه يقوم على أصلين فلسفيين: الأصل الأول: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، وسبق أن علل شيخ الإسلام ذلك وذكرته لكم، قال: إن الفلاسفة لا يعتقدون أن الله عز وجل فعال لما يريد، ولا يعتقدون أن قدرة الله مطلقة، إنما هي مقيدة بنظم هم يضعونها أو يتصورونها ويتوهمونها، ولذلك قالوا: يجوز على الله أن يفعل كذا ولا يجوز أن يفعل كذا، ويمكن أن يفعل كذا ولا يمكن أن يفعل كذا إلى آخر ذلك من الترهات، فهم بنوا وجود الخلق على أنه خلق من عناصر موجودة في أصلها، وأن هذه العناصر ثابتة في العدم، بمعنى أنها مكونات موجودة في الوجود، وأن الله عز وجل إنما أوجد الموجودات من أصل ثابت، وأن المعدوم هو هذه المكونات التي هي أصل الخلق، والوجود هو الخلق نفسه، وهذه فلسفة تؤكد وتوضح أن الفلاسفة ملاحدة دهريون. الأصل الثاني أيضاً متفرع عن ذلك: وهو أن وجود المحدثات (المخلوقات) هو عين وجود الخالق، فلا يفرقون، فعندهم الوجود هو الله، والله هو الوجود، تعالى الله عما يزعمون، وهذا رغم أنه مصادم للعقل السليم ومصادم للفطرة وغير معقول، إلا أن الشيطان قد زينه لهم في شبهات، حتى قلبوا الأمر فجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، دون أن يكون عندهم التباس في الإلحاد، فهم ملحدة ملاحدة صرحاء في الإلحاد، ولذلك سنكتفي الآن بتقرير مذاهب هؤلاء القوم الذين يمجدهم كثير ممن يسمون بالمفكرين والمثقفين والحداثيين والأدباء، ويبكون عليهم وعلى أطلالهم وتراثهم؛ لنرى ما هم عليه من خلال هذا العرض الذي هو استقراء من كتبهم ومذاهبهم، وهو استقراء من قبل شيخ الإسلام حينما عرف مذاهبهم وكتبهم وأقوالهم الثابتة عنهم، وأكثرهم ممن عاصروا شيخ الإسلام أو قبله بقليل. قال رحمه الله تعالى: [لكن ابن عربي أقربهم إلى الإسلام]. برغم الإلحاد الصريح لـ ابن عربي إلا أنه مع ذلك يعد من أقرب الفلاسفة المتكلمين للإسلام؛ لأنه أحياناً يعترف بالحق، وعنده ما يسمى بالاهتمام بالأخلاقيات والسلوكيات، أما البقية ففجرة في جميع أحوالهم، لا يعترفون بفضيلة ولا يقرون بسلوك حسن ولا بشرع. أما ابن عربي رغم أنه ملحد في الاعتقاد ومضطرب إلا أنه أحياناً يدعو إلى الفضائل ويظهر التعبد ويأمر به، لكن على منهجه الشركي، فهذه مفاضلة بين أناس كلهم على الشرك، كما نقول في المشركين مشركي الجاهلية: فلان أخف شركاً من فلان؛ لأن فلاناً ما كان يعبد إلا صنماً واحداً، وذاك يعبد عدة أصنام، يعني: المسألة مسألة أيهم أق

أقوال جلال الدين الرومي والتلمساني وابن سبعين وابن الفارض والبلياني في الحلول

أقوال جلال الدين الرومي والتلمساني وابن سبعين وابن الفارض والبلياني في الحلول قال رحمه الله تعالى: [وأما صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفاً، فهو أبعد عن الشريعة والإسلام؛ ولهذا كان الفاجر التلمساني الملقب بـ العفيف يقول: كان شيخي القديم متروحناً متفلسفاً، والآخر فيلسوفاً متروحناً -يعني: الصدر الرومي - فإنه كان قد أخذ عنه]. كلمة (متروحناً) مفهومة، لكن لا مانع أن نذكر معناها ثانية، (المتروحن) يعني: الذي يأخذ بالروحانيات والأمور والاعتبارات القلبية أو الجانب التعبدي وإن كان على باطل. فقول التلمساني: (كان شيخي متروحناً متفلسفاً) يقصد ابن عربي، يعني: أنه ينجذب إلى الروحانيات والتعبد وعنده نزعة فلسفية، أما الصدر الرومي فالأصل عنده النزعة الفلسفية، وقد يميل أحياناً إلى الجوانب التعبدية. قال رحمه الله تعالى: [ولم يدرك ابن عربي في كتاب: (مفتاح غيب الجمع والوجود) وغيره، يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقاً، لا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة]. قوله: (الأعيان الخارجة) يعني: لا يوجد الوجود الحقيقي المطلق إلا في التصور، بدون تعيين أشياء موجودات، هذا لا يمكن أن يكون إلا مجرد تصور ذهني. قال رحمه الله تعالى: [فحقيقة قوله: إنه ليس لله سبحانه وجود أصلاً، ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات؛ ولهذا يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلاً، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده، تعالى الله عما يقولون. وأما الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر، فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت، كما يفرق ابن عربي]. يعني: ابن عربي يقول: هناك فرق بين المعدوم -وهو ثابت في العدم عندهم- وبين الخلق الموجود، لكن هذا لا يفرق. قال رحمه الله تعالى: [وأما الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر، فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت، كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين، كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وإن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوباً، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر. ولهذا كان يستحل جميع المحرمات، حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت والأم والأجنبية شيء واحد، ليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم. وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا. وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول: القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له. وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل: (لحم خنزير في طبق صيني) وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر، وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه. وأما ابن سبعين فإنه في البدو والإحاطة يقول أيضاً بوحدة الوجود، وأنه ما ثم غير]. يعني: أنه لا يرى تغايراً بين الله عز وجل وبين المخلوقين. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ابن الفارض في آخر (نظم السلوك)، لكن لم يصرح: هل يقول بمثل قول التلمساني، أو قول الرومي، أو قول ابن عربي، وهو إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل التلمساني، وآخر يقال له: البلياني من مشايخ شيراز. ومن شعره]. نتجاوز شعره؛ لأنه من الغثاء، نسأل الله العافية.

تلبيس أئمة الحلول والاتحاد على الجهال بأنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى

تلبيس أئمة الحلول والاتحاد على الجهال بأنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى قال رحمه الله تعالى: [ويوهمون الجهال أنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى، الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، والشافعي، وأبي سليمان، وأحمد بن حنبل، وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة]. أبو سليمان هو الداراني من العباد المشاهير. قال رحمه الله تعالى: [إلى مثل المتأخرين، مثل: الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي إلى مثل: الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين].

اتفاق أئمة الصوفية القدامى على تكفير من يعتقد الحلول والاتحاد

اتفاق أئمة الصوفية القدامى على تكفير من يعتقد الحلول والاتحاد قال رحمه الله تعالى: [كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء]. ذكر الشيخ رحمه الله اتفاق هؤلاء المشايخ على كفر القائلين بالحلول والاتحاد، ولا شك أن من عرف أقوال هؤلاء القوم لا يمكن أن يتردد في كفرهم وكفر أقوالهم، نسأل الله السلامة. قال رحمه الله تعالى: [كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء، ومن هو أرجح منهم، وإن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزء من خلقه ولا صفة لخلقه، بل هو سبحانه وتعالى متميز بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة الإلهية، من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وعليه فطر الله تعالى عباده، وعلى ذلك دلت العقول. وكثيراً ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب، الذي يزعم أنه هو الله. فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله، ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم]. نتجاوز هذا إلى الخلاصة صفحة (478) المقطع الأخير.

خاتمة رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي

خاتمة رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي قال رحمه الله تعالى: [ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق السابقين الأولين، لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا برد اليقين وقرة العين، فإن الأمر كما قال بعض الناس: إن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]. وفي النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:180 - 181]. وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحسن مقاصده، ونور قلبه، فإن ما فيه نكت مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ أحسن الله تعالى إليه ما اقتضى الحال أن أذكره، وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم، وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير الذين قال الله سبحانه فيهم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]].

[20]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [20] لقد ابتليت الأمة قديماً وحديثاً بأفكار ومبادئ منحرفة، تظهر على أيدي أشخاص بين الفينة والأخرى، ولكن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ هذا الدين، فقيض له من يذود عن حياضه، ويدفع بالحق باطل هؤلاء المنحرفين الشاذين، وممن ابتليت بهم الأمة أهل الحلول والاتحاد، وأول من أعلن منهجهم الحلاج، وقد تصدى له ولدعوته علماء وقضاة الأمة، وبينوا فساد ما يقول به وبطلانه.

حقيقة شخصية الحلاج وحكم من اعتقد عقيدته

حقيقة شخصية الحلاج وحكم من اعتقد عقيدته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وقد وصلنا في آخر المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام إلى صفحة (480) وموضوع اليوم هو موضوع يشابه الموضوعات السابقة، لكنه في شخصية من الشخصيات الشهيرة من أصحاب الحلول، وهو أول رجل أعلن الحلول الكفري الإلحادي في تاريخ الأمة على نحو سافر، وأصر على ذلك، ودعا له وصار له أتباع، وفتن به طوائف من أهل الأهواء والبدع إلى يومنا هذا، وهو الحلاج، ولذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحلاج فأجاب بهذا الجواب المنهجي العلمي المركز، وهو بمثابة الإعلان عن منهج السلف تجاه مثل هذه الظواهر، ومثل هؤلاء الأشخاص الذين يشذون بأفكار ومبادئ في الأمة، ويفتن بهم الناس، وما أشبه الليلة بالبارحة، وسترون من خلال كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن الأمة ابتليت في أغلب عصورها بعد القرن الثالث الهجري بطوائف، تتباكى على أهل الأهواء والبدع وتنتصر لهم، فنرى ماذا سيقول شيخ الإسلام في هذا الأمر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه: ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج؟ وفيمن قال: أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج، ماذا يجب عليه؟ ويقول: إنه قتل ظلماً كما قتل بعض الأنبياء، ويقول: الحلاج من أولياء الله، فماذا يجب عليه بهذا الكلام؟ وهل قتل بسيف الشريعة؟]. في هذه الشبهة عدة قضايا، وهي دائماً بمثابة السمات لأهل الأهواء في كل زمان، فمثلاً: هذا المفتون صرح بأنه يعتقد ما يعتقده الحلاج، من هنا يظهر الخلل بوضوح من خلال ربطه دينه برجل من الناس، ثم إن هذا الإنسان الذي ربط دينه به ليس من أهل الصلاح والتقوى والاستقامة، وهذا يعطينا درساً وعبرة بأنه ينبغي للمسلم دائماً ألا يرتبط في مسألة الاقتداء في الدين والاعتقاد إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يبالغ في القدوة المطلقة، لا يرتبط بالقدوة المطلقة إلا بالرسول صلى الله عليه وسلم، نعم، الأئمة المهتدون يقتدى بهم، لكن لا على سبيل التسليم المطلق، بمعنى أن نعتقد فيهم العصمة، فإن هذا الإنسان لما قال: أعتقد بما يعتقده الحلاج اعتقد فيه العصمة، وإلا على الأقل كان عليه أن يقيد كلامه ويقول: فيما هو عليه من الحق، إن كان اشتبه عليه الأمر، ويظن أنه على حق. ثم إنه أيضاً لما صرح بأنه قتل ظلماً كما قتل بعض الأنبياء، فإن هذا فيه تلبيس، وفيه قلب للموازين، كما يفعل أهل الأهواء، وهذه سمة من سمات أهل الأهواء، تجدهم يقلبون الموازين، وهذا الرجل المفتون كان عليه أن يسأل نفسه: من الذي أصدر الأمر وحكم بقتله؟ لو تأمل لوجد أن الذين حكموا بقتله هم خيار الأمة، فهل يعقل أن خيار الأمة يحكمون بقتل رجل مثل بعض الأنبياء أو على نهج الأنبياء؟ هذا أمر لا يعقل أبداً، ولا يستقيم لا عقلاً ولا شرعاً. ثم أيضاً نجد من سمات أهل الأهواء، وهذا الظاهر في مثل قوله: الحلاج من أولياء الله، نقول: ما مستنده في أنه ولي لله؟ هذا عنده أحد أمرين: الأول: إما أنه زائغ ملحد يفسر الكفر والإلحاد بالولاية لله، وهذا مذهب الكثيرين من أهل الديانات الباطلة، كلهم يعتقدون الولاية على هذا النحو، يعني: يصرفون الولاية لرءوسهم الزنادقة، رءوس الفلاسفة الملاحدة خصوم الأنبياء، ويوصفونهم بأنهم أولياء. الثاني: أو أنه جاهل مركب، فكان عليه ألا يسلم هذا التسليم الأعمى؛ لأن الله عز وجل أمر الجاهل بأن يتعلم ويسأل أهل الذكر، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. إذاً: من خلال ادعاء هذا الرجل المفتون أنه يعتقد ما اعتقده الحلاج تبين لنا سمات أهل الأهواء قديماً وحديثاً، وأن هذا منهجهم، يتعلقون بالأشخاص، ثم يلبسون على الناس، وربما أيضاً يدخلون مذاهبهم الإلحادية من خلال هذه المبادئ وهذه الأصول الباطلة. قال رحمه الله تعالى: [فأجاب: الحمد لله، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين؛ فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق و {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] الآيات. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا

الرد على القائلين بأن الله نطق على لسان الحلاج

الرد على القائلين بأن الله نطق على لسان الحلاج قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه: أنا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يحل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر، ولكن يرسل الرسل بكلامه، فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه، فيقول على ألسنة الرسل ما أمرهم بقوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده). فإن كل واحد من المرسل والرسول قد يقال: إنه يقول على لسان الآخر، كما قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي: قل على لساني ما شئت. وكما يقال: هذا يقول على لسان السلطان كيت وكيت، فمثل هذا معناه مفهوم. وأما أن الله هو المتكلم على البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع]. هنا عبارة ينبغي أن تدرج وهي (لسان) في قوله: وأما أن الله هو المتكلم على لسان البشر حتى تستقيم العبارة. قال رحمه الله تعالى: [وأما أن الله هو المتكلم على [لسان] البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع، فهذا كفر صريح، وأما إذا ظهر مثل هذا القول عن غائب العقل قد رفع عنه القلم؛ لكونه مصطلماً في حال من أحوال الفناء والسكر، فهذا تكلم به في حال رفع عنه فيهما القلم، فالقول وإن كان باطلاً، لكن القائل غير مؤاخذ. ومثل هذا يعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف العقل، كما يقال: إن محبوباً ألقى نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت خلفي؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب فيه بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته. فإذا ذهب تمييز هذا وصار غائب العقل بحيث يرفع عنه القلم لم يكن معاقباً على ما تكلم به في هذه الحال، مع العلم بأنه خطأ وضلال، وأنه حال ناقص لا يكون لأولياء الله]. هذه المسألة تكررت، وأيضاً تكرر التنبيه على أن شيخ الإسلام يحاول أن يعذر الذين تظهر على ألسنتهم أقوال إلحادية أو أفعال إلحادية أو اعتقادات إلحادية، وهذا الصنف الذي يرى أنه يعذر هو الصنف الذي يتجه إلى العبادة اتجاهاً خاطئاً، يتبع نهج عباد الأمم الذين ينهجون في العبادة مناهج بدعية، مثل: إرهاق النفس بالجوع والعطش والسهر والتأمل وغير ذلك، فيصل الأمر إلى أن يخلط الإنسان ويكون عنده ما نسميه بالهستيريا أو نحو ذلك مما يعتري البشر بسبب هذه المناهج البدعية. فالشيخ يذكر أن من تظهر منهم كلمات بدعية كفرية أو إلحادية أو أقوال أو أفعال تقتضي الخروج من الملة وهم على هذه الحال، فإنا لا نحكم عليهم بذلك، وإن كانت أقوالهم إلحادية، وإن كان المسلك الذي سلكوه في الوصول إلى هذه الحال مسلكاً بدعياً، وهو مقام ما يسمونه: الفناء بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعرفته عن معروفه. يعني: أن الإنسان يفقد وعيه في توجهه إلى العبادة على انحراف، وأنه يغيب عقله، ويقع فيما يسمونه: السكر التعبدي العبادي أو التحنثي، لا السكر الحقيقي الفعلي. فالشيخ كثيراً ما يعتذر لهذا الصنف، لكن الذي ينبغي أن نفهمه جيداً أنه لا يسيغ كلامهم أبداً، ولا يمرر كلامهم أو يتكلف له، بل يقول: هذا كلام إلحادي كفري. إذاً: غاية ما يحصل من شيخ الإسلام أنه يعذر هؤلاء ولا يحكم على أعيانهم بالكفر، أما أقوالهم الكفرية ومناهجهم فإنه يبدعها كما سمعتم.

كذب وافتراء ما يحكى من ظهور كرامات للحلاج عند قتله

كذب وافتراء ما يحكى من ظهور كرامات للحلاج عند قتله قال رحمه الله تعالى: [وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل: كتابة دمه على الأرض: الله الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب]. وقد ذكر الشيخ وغيره من أئمة السنة أنه أحياناً يقع مثل هذا من عبث الشيطان بالناس، ومن أجل استحواذ الجن والشياطين عليهم، ففي مثل هذه المواطن مواطن الفتنة يوقعونهم في شبهات وإشكالات، فقد يسمعون أصواتاً ويظنونها أصوات ملائكة، وقد يحدث للشخص مثل ما زعموا أنه حدث للحلاج أن دمه صار على شكل فيه صور حروف أو أشكال حروف، وقد تحدث خوارق يفتن بها الحاضرون ممن ليس على السنة والاستقامة، وتنسب على أنها نصر لهذا المقتول الذي أقيم عليه الحد، أو نصر لمذهبه، وهذا من الفتنة والابتلاء. وما يحكى عن الحلاج كله كذب؛ لأن قصة قتل الحلاج شهدها فئام من المسلمين، بما فيهم الذين أقاموا الحد عليه، ومنهم قضاة كانوا معه إلى آخر لحظة، والسيف على رقبته وهم يستتيبونه، ومع ذلك يقرر الإلحاد، وهذه الصورة تكررت في التاريخ الحديث، فمنذ سنوات ليست بالبعيدة ظهر متنبئ كذاب في السودان اسمه محمود طه، ودعا إلى مبادئ، منها: أنه جاء بإسلام جديد، وأن الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإسلام الأول، والإسلام الثاني هو الإسلام الحديث الذي جاء به هو، واختصر الصلوات، وشرع للناس تشريعات، وربط مذهبه بطرق صوفية، وربط مذهبه بحزب سياسي، وفتن به عدد من شباب الأمة، حتى أذكر أنه قال لي بعض من يعرفون الوضع جيداً في السودان: إنه انتمى إلى الحزب الكفري الإلحادي الذي يقوم على الردة ودعوى النبوة يعني: عدد الذين انضووا إليه يعد بالملايين، فهذه فتنة، واحتسب عليه بعض أهل الحسبة جزاهم الله خيراً وأقاموا عليه الحجة وناظروه، فأصر على الباطل واجتمع أهل العلم والفقهاء وشكلت له لجنة قضائية فاستتابوه فلم يتب، وأخبروه بأن موقفه هذا يقتضي الردة، وأنه سيقتل ردة، فأصر، وعرض على السيف، فأصر على باطله إلى آخر لحظة، والناس من حوله يخوفونه بالله ويلقنونه ويستتيبونه، فلم يتب، فقتل على بدعته وعلى كفرياته، فنسأل الله السلامة. فمثل هذا استحوذت عليه الشياطين، وهيمنت على جميع تصرفاته، حتى إنه لا يدرك مدى الخطر الذي يقع فيه، وربما تزين له أنه سيقدم على الجنة، وهو مقدم على النار، كما ورد عن الدجال أنه كان يموه على الناس فيريهم أن معه جنة وناراً والأمر عكس ما يريهم. فالمهم أن موقف الحلاج ليس بغريب من إصراره على الكفر إلى آخر لحظة، وأعود إلى موطن الشاهد وهو أن الذين حضروا مشهد قتل الحلاج هم جماعة من العلماء الثقات وغيرهم، وما نقلوا أنه كتب من دمه هذه الكلمات، ولو شوهد لنقل وفسر بالقاعدة الشرعية المعروفة: أن هذه فتنة وابتلاء، وأنه لابد أن يكون من عمل الشياطين ومن عمل الجن؛ لأنه لا يعقل لإنسان يلحد أن يكرم بهذه الكرامة، وإنما إن حصلت فتكون من الابتلاء ولا شك؛ لأن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين وضمن بيان الدين، فلا يمكن أن يلتبس الدين على الناس، وتأتي هذه الحكايات فتكون دليلاً وحجة في دعوى أن هؤلاء على الحق، أبداً هذا لا يمكن. إذاً: ما يكون في مثل هذه الحالات المشبوهة من مظاهر وخوارق وما يشبه الكرامات فهي من عبث الشياطين، ومن الابتلاء الذي يبتلي الله به العباد؛ لأنهم توكلوا واعتمدوا على غير الله، فوكلهم الله إلى غيره، فوقعوا في الفتنة، نسأل الله العافية والسلامة. قال رحمه الله تعالى: [وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله مثل: كتابة دمه على الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك فكله كذب، وقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء، وقد شهد مقتله، وكما ذكر إسماعيل بن علي الحطفي في تاريخ بغداد وقد شهد قتله، وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبو الفرج بن الجوزي فيما جمعا من أخباره. وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ الذين عدهم من مشايخ الطريق. وما نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر، فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ].

كذب وافتراء من قال: إن الحلاج قتل مظلوما وإنه من أولياء الله

كذب وافتراء من قال: إن الحلاج قتل مظلوماً وإنه من أولياء الله قال رحمه الله تعالى: [وقول القائل: إنه قتل ظلماً قول باطل؛ فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه، صار زنديقاً، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته. وأما قول القائل: إن الحلاج من أولياء الله، فالمتكلم بهذا جاهل قطعاً، متكلم بما لا يعلم، لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد، فإن ولي الله من مات على ولاية الله، يحبه ويرضى عنه، والشهادة بهذا لغير من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لا تجوز عند كثير من العلماء أو أكثرهم. وذهبت طائفة من السلف، كـ ابن الحنفية وعلي بن المديني إلى أنه لا يشهد بذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل من استفاض في المسلمين الثناء عليه شهد له بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر عليه بجنازة فأثنوا خيراً، فقال: وجبت وجبت، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت وجبت، قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض). فإذا جوز أن يشهد لبعض الناس أنه ولي الله في الباطن، إما بنص وإما بشهادة الأمة فـ الحلاج ليس من هؤلاء، فجمهور الأمة يطعن عليه ويجعله من أهل الإلحاد، إن قدر على أنه يطلع على بعض الناس أنه ولي الله ونحو ذلك مما يختص به بعض أهل الصلاح].

أوجه ضلال من أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده

أوجه ضلال من أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده قال رحمه الله تعالى: [فهذا الذي أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده ضال من وجوه: أحدها: أنه لا يعرف فيمن قتل بسيف الشرع على الزندقة أنه قتل ظلماً وكان ولياً لله، وقد قتل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري ومحمد بن سعيد المصلوب وبشار بن برد الأعمى والسهروردي وأمثال هؤلاء كثير، ولم يقل أهل العلم والدين في هؤلاء: إنهم قتلوا ظلماً، وإنهم كانوا من أولياء الله، فما بال الحلاج تفرد عن هؤلاء؟]. هذه مسألة مهمة جداً، وليست جديدة كما يظن بعض الذين اطلعوا على مقالات وشبهات بعض المفتونين من المعاصرين، من دعوى أهل الأهواء أن الذين قتلوا لكفرهم وزندقتهم أو لعموم فسادهم في الأرض، أو الذين حدوا بأي حد من الحدود الشرعية إما بنفي أو حبس أو بتشهير أن هؤلاء مظلومون، وأنهم ضيق عليهم ظلماً، فما أثاره كثير من المعاصرين من المفتونين، والذين تكلم عنهم أحدهم في مذكرة حراسة العقيدة ليس بجديد، اللهم إلا أن الجديد أنهم استعملوا عبارات مثيرة إعلامياً للتنفير من مواقف السلف، مثل عبارة: الإرهاب المخالف، هذه استعملها من نرد عليه في هذا الدرس، فقد استعملها كثيراً، وضرب أمثلة على أن السلف يظلمون، وأنهم يرعبون المخالف ويضيقون عليه، ويستعدون السلاطين على المخالفين، وضرب أمثلة لهؤلاء بـ الجهم والجعد وغيلان، وبهذا يتضح منهجياً أن مناهج أهل الأهواء واحدة، وأن من أثار هذه الفتنة ضد السلف وأشغل شباب الأمة في هذه الظروف العصيبة في هز المسلمات والطعن في السلف، إنما هو امتداد لأسلافه الأوائل أهل الأهواء والفرق والابتداع؛ ولذلك نرى هؤلاء من مبالغتهم في الحقد على السنة وأهلها أنهم جمعوا المتناقضات، فقد جمعوا في تعاطفهم مع أصحاب المذاهب المتناقضة، فـ الجهم غير الجعد، والجعد غير غيلان، والسهروردي غير هؤلاء، والفرق التي منها هؤلاء الأشخاص فرق متضاربة متعارضة، فلذلك من علامات الخذلان أن هذه الفئة ضمت جميع أهل الأهواء وتعاطفت معهم، ما أخذت طائفة واحدة حتى نقول: لعلها اغترت بمنهجها، لا، بل جمعوا جميع أهل الأهواء وضموهم كلهم في حزمة واحدة، وهذا يعطينا العبرة والدرس في أنه ينبغي للمسلم أن يلتزم نهج السلف؛ لأنه سبيل المؤمنين، وأن يكون في ذلك واثقاً ومطمئناً؛ لأن الله عز وجل جعل سبيل المؤمنين هو الطريق الذي فيه الاعتصام، وفيه الإجماع على الحق، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فإنه لا يمكن أن يخفى الحق، وإذا أخذنا الأمور بموازين الشرع فسنجد الحق مع من كان على السنة والاستقامة، وإن وجد عند بعضهم شيء من التجاوزات والأخطاء التي هي من عوارض البشر، وهذا كما أشرت إليه وسأشير مرة أخرى لا يضر بالمنهج. أما قول أهل الأهواء عن الحلاج وغيره أنه قتل ظلماً، فهذه كلمة قالها أنصار هؤلاء في وقتهم، وقد يزيد بعض المعاصرين أمراً آخر وهو شعار جديد أرادوا أن يثيروا به شباب الأمة، هو شعار: أن هؤلاء قتلوا قتلاً سياسياً، فانظر إلى المغزى، يعني: أن بني أمية أو بني العباس الذين ركزوا على قتل الزنادقة، وذلك حين كثر الزنادقة سلط الله عليهم من أئمة الهدى من يبين عوارهم، وسلط عليهم من سلاطين الأمة وخلفائها من يقيم الحد فيهم، فأهل الأهواء يقولون: إن قتل هؤلاء من أهل الزندقة والكفر والإلحاد والفساد كان قتلاً سياسياً؛ لأنهم من مشاهير المعارضين للسلاطين، فهذا فيه شيء من الحق، لكنه صور بصورة الباطل، ووجه الحق أن أهل الأهواء دائماً يرفعون راية الخروج وعدم السمع والطاعة، بما فيهم هؤلاء الأشخاص، فقد اشتهر ذلك عن الجعد واشتهر عن غيلان وغيرهما؛ لأن صاحب البدعة من لوازم بدعته أن يكره السنة، وإذا كره السنة فإنه سيترك مناهج أهل السنة والجماعة، ومن منهج أهل السنة والجماعة: السمع والطاعة لولاة الأمر، واعتقاد حقهم من البيعة وغير ذلك في المعروف، فأهل الأهواء لا يسمعون ولا يطيعون، فمن هنا تأتي شبهة أنهم قتلوا قتلاً سياسياً، مع أننا نعلم أن الأحداث الشهيرة التي قتل فيها هؤلاء جرت بمنهج شرعي سليم، وتمت على أيدي أهل العلم من الأئمة الموثقين من علماء وقضاة، وكون بعض الساسة أو بعض الولاة له هوى في قتل هذا الرجل أو ما له هوى هذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل علام الغيوب، لكن أن نفسر الأحداث بهذا التفسير، هذا هو عين الهوى والمنهج الخاطئ الضال؛ لأنه بذلك يؤدي إلى وصف منهج أهل السنة والجماعة بالانحراف والضلال، وهذا عين الباطل، وما كان الله عز وجل يسلم الأمة إلى الباطل بهذه الصورة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الأنبياء فقتلهم الكفار، وكذلك الصحابة الذين استشهدوا قتلهم الكفار،

ما جاء في كون الحلاج تاب فيما بينه وبين الله

ما جاء في كون الحلاج تاب فيما بينه وبين الله قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أن يقال: أما كون الحلاج عند الموت تاب فيما بينه وبين الله أو لم يتب، فهذا غيب يعلمه الله منه، وأما كونه إنما كان يتكلم بهذا عند الاصطلام فليس كذلك؛ بل كان يصنف الكتب ويقوله وهو حاضر ويقظان، وقد تقدم أن غيبة العقل تكون عذراً في رفع القلم، وكذلك الشبهة التي ترفع معها قيام الحجة قد تكون عذراً في الظاهر. فهذا لو فرض لم يجز أن يقال: قتل ظلماً، ولا يقال: إنه موافق له على اعتقاده، ولا يشهد بما لا يعلم، فكيف إذا كان الأمر بخلاف ذلك، وغاية المسلم المؤمن إذا عذر الحلاج أن يدعي فيه الاصطلام والشبهة، وأما أن يوافقه على ما قتل عليه فهذا حال أهل الزندقة والإلحاد، وكذلك من لم يجوز قتل مثله فهو مارق من دين الإسلام. ونحن إنما علينا أن نعرف التوحيد الذي أمرنا به، ونعرف طريق الله الذي أمرنا به، وقد علمنا بكليهما أن ما قاله الحلاج باطل، وأنه يجب قتل مثله، وأما نفس الشخص المعين؟ هل كان في الباطن له أمر يغفر الله له به من توبة أو غيرها؟ فهذا أمر إلى الله، ولا حاجة لأحد إلى العلم بحقيقة ذلك، والله أعلم]. يشير الشيخ إلى قاعدة شرعية مهمة، وهي: أن أحكامنا نحن البشر سواء على الأحوال أو على الأفراد أو على الجماعات أو على الهيئات أو على الأعمال أو على الأقوال مبناها على الظاهر؛ لأن الباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل، والافتراضات لا تنقض بها الأصول والافتراضات أيضاً لا يجوز أن تغير الحكم؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، فالذي ظهر لنا من الحلاج هو هذه الحال، أما كونه يحتمل أن يكون قد تاب في آخر لحظة ثم مات على التوبة هذا أمر فيه تخرص، ما عندنا عليه دليل، وهو افتراض، والافتراضات لا تبنى عليها الأحكام، وإلا فالافتراض الغيبي يرد في كل الأحكام، فلا يجوز أن نبني عليه، والمشكلة أن هذا النوع من الافتراضات تجده عند كثيرين الآن ممن يخبطون ويخلطون ويحكمون في القضايا بغير علم، فتجد الواحد يلجأ إلى هواه فيترك الواقع ويفترض أموراً قد تكون محتملة، أو غير محتملة، ويبني الحكم على الافتراض، وأغلب ما يجري الآن من الخوض والخبط بين الأمة في القضايا الكبار والفتن التي هي من هذا النوع، يعني: يهرب الشخص من أن يطبق النصوص على الواقع؛ لأن في نفسه شيئاً، وهذا الذي في نفسه قد يكون عن هوى، وقد يكون عن تشف، وقد يكون عن ضعف في الإيمان، وقد يكون عن قلة فقه، وقد يكون عن ضغط الواقع، وقد يكون عن أمور كثيرة، فيلجأ إلى بناء الحكم على الافتراضات، ويدع الأمة في واقع بعيد عن هذا الافتراض الذي يدعيه أو يزعمه، وخاصة في الحكم على الأشخاص، يعني: هناك أشخاص ظاهرهم بين، لكن يحيد كثير من الناس عن هذا الأمر الظاهر إلى افتراضات، وهذه الافتراضات ما تعبدنا الله بها. فالشاهد أن عدداً ممن يلجئون إلى الاعتذار عن الحلاج يفترضون أنه ربما تاب في آخر لحظة، نقول: هذا الافتراض يرد في كل من مات على الكفر، ما عدا من نص الله عز وجل على كفرهم حتى لحظة الموت، مثل: فرعون، ومع ذلك هذه الفئة ترى أن فرعون مؤمن، يعني: ما اكتفوا أيضاً بمجرد هذا المنهج الخاطئ في خرق مسلمات الدين، وخرق مسلمات الأحكام والإجماع بالافتراضات، ما اكتفوا بذلك، بل قلبوا الموازين فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، وهذا منهج قد يقل ويكثر عند الناس، فالملاحدة وأصحاب الأهواء ينهجون المنهج الفاسد، وكثير من الناس قد لا يسلم من الهوى، فيكون عنده شيء من هذا المنهج فهم بين مقل أو مكثر، فينبغي لطالب العلم أن يحرص على التجرد للحق، وأن يحرص على العمل بمقتضى الأحكام والنصوص، وأن يحرص على الابتعاد عن أن تنزع به الرغبة الشخصية أو الهوى أو الواقع إلى الافتراضات والظنون، فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، والله عز وجل يقول: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11].

الأسئلة

الأسئلة

حكم قبول توبة الزنديق ودرء الحد عنه

حكم قبول توبة الزنديق ودرء الحد عنه Q هل تقبل توبة الزنديق ويدرأ عنه بها الحد؟ A من تاب تاب الله عليه مهما كان، فالمشرك والزنديق وغيره إذا تاب وأسلم، فلا شك أنه يدخل في الإسلام بالتوبة الصادقة، إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتاب عن زندقته وكفره، فقد تاب إلى الله، لكن لو قدرنا أن الإنسان أقيم عليه الحد، وفي آخر لحظة أعلن توبته، فالأصل أنه يدرأ عنه الحد، لكن هناك حالات يكون فيها هذا الرجل الزنديق مفسداً في الأرض، أو تكون عندنا قرائن واضحة على أن توبته ليست صادقة، فهل يعدل عن إقامة الحد أو لا يعدل؟ هذه مسألة خلافية، وأرى أن مثل هذه المسائل يقدرها أهل العلم في وقتها، لا يمكن أن تضبط بضوابط، فكل حالة لها حل، لكن الأصل أن من تاب إلى آخر لحظة وهو أمام الحد قبل أن يقتل تقبل توبته، بل ينبغي إلى آخر لحظة يقام عليه فيها الحد أن يلقن التوبة، هذا الذي ينبغي شرعاً، وما عدا ذلك فهي حالات نادرة يقدرها أهل العلم، وهي استثناء، وكما تعلمون في حد الحرابة لما ذكر عقوبة المفسدين في الأرض، استثنى من يتوب قبل القدرة عليه، أما إذا كان الأمر بعدما يقدر عليه فقد يكون أحياناً من المصلحة الشرعية أن يقام عليه الحد باعتبارات يقدرها أهل العلم، وليست هذه قاعدة كما قلت، القاعدة أن من تاب وأعلن رجوعه يدرأ عنه الحد.

الفرق بين الحلول والاتحاد

الفرق بين الحلول والاتحاد Q ما هو الفرق بين الحلول والاتحاد؟ A الفرق بين الحلول والاتحاد: أن الحلول هو حلول شيئين أو اندماج عنصرين مختلفين مع بعضهما، مثل: حلول النور في الزجاجة، أو حلول الروح في الجسد. أما الاتحاد فهو اندماج العنصرين بحيث لا يكون لأحدهما استقلال عن الآخر، مثل: دمج الطين مع الماء حتى يكون كتلة واحدة، بحيث لا تستطيع أن تنزع الواحد من الآخر. إذاً: الحلول هو حلول شيء في شيء مع وجود الفرق بين العنصرين، والاتحاد هو حلول العناصر بعضها ببعض إلى حد لا نستطيع أن نميز بعضها عن بعض.

حقيقة مذهب الحلاج وأقواله

حقيقة مذهب الحلاج وأقواله Q هل ما يقوله الحلاج كان عن فهم خاطئ أم هو إنكار منه لمذهب أهل السنة والجماعة؟ A الفهم الخاطئ لا يصل إلى هذه الدرجة، أما كونه ينكر مذهب أهل السنة، فالمسألة أكبر من إنكار مذهب أهل السنة والجماعة، أغلب من في الأرض هم على هذه الضلالات، يعني: كم نسبة المسلمين وأتباع الأنبياء في تاريخ البشرية؟ كم نسبتهم إلى أهل الضلال الملاحدة الذين هم على الكفر المغلظ؟ جاء في الحديث الصحيح عن نسبة أهل الجنة إلى أهل النار (1) من (1000)، (1) إلى الجنة، و (999) إلى النار، فكيف نستغرب وجود (1) ملحد في الأمة أعلن الإلحاد؟! إذاً: فالمسألة ما هي مسألة قبول السنة أو عدمها، المسألة أن الحلاج رد الحق كله، فقد قال بالباطل بأقصى درجات التعبير عن الباطل.

بتقرير العقيدة دون الانشغال بكثرة الردود

بتقرير العقيدة دون الانشغال بكثرة الردود Q ما رأيكم فيمن يقول: إن العقيدة ينبغي أن تقرر تقريراً، ولا ينبغي الانشغال بكثرة الردود؛ لأنها قد تورث الشبه، فالإسلام هو تقرير العقيدة تقريراً كما في كتاب التوحيد محمد بن عبد الوهاب ومعارج القبول؟ A نعم، الأصل هو تقرير العقيدة، لكن الدفاع واجب، وهذا منهج رسمه الله عز وجل في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، فكثير من آيات القرآن فيها الرد والتكذيب للشبهات وحماية الأمة منها، والقرآن هو منهاجنا وهو قدوتنا، وهو الهدى والبيان، وهو الحق، وهو الفرقان، وهو النور، فآياته تقرر الرد على المخالفين والرد على البدع والأهواء والكفريات بالمئات، أنترك هذا المنهج لمجرد أمور عاطفية؟ إذاً: تقرير الدين هو الأصل والدفاع عنه واجب وفرض عين، وهو نوع من الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)، والقلم الآن يقوم مقام اللسان، ومسألة الرد ينبغي ألا يتساهل فيها، والناس محتاجون إلى أن يحصنوا من الآراء الباطلة إذا انتشرت، والآن المناهج الباطلة والبدع والشبهات دخلت في صميم الحياة الأسرية، الآن أكثر الأسر عندها فضائيات مع الأسف، وعندها وسائل إعلام، وتقرأ الصحف، وتسمع من الشبهات أكثر مما تسمع من الحق، فهل نتركهم؟ لا، يجب أن نقرر الحق وندافع عنه، وأن ندفع الباطل بما نستطيع، لكن القضية قضية ضرورة، ينبغي مراعاة الأسلوب المناسب، والجمع بين المنهجين: التقرير، والرد.

[21]

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [21] هناك قاعدة عظيمة قعدها أهل السنة في التعامل مع الألفاظ المجملة المحتملة لمعنى الحق والباطل، فينظر إلى المتكلم بها وما أراد من معناها، فإن علم صحة المعنى المراد منها وصحة منهج القائل بها حكم بصحتها، وإن كان عكس ذلك قوبل كلامه بالرد، وبين بطلان المعنى الذي يقول به حتى لا يلتبس أمره على الناس.

معنى قول القائل: ما ثم إلا الله

معنى قول القائل: ما ثم إلا الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وهو آخر درس في المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعده كما أسلفت -إن شاء الله- سنبدأ في المجلد الثالث، ويتضمن الواسطية والتدمرية، ويبدو لي من خلال ما جاءني في الدرس الماضي من الاقتراحات المكتوبة والشفوية، أن هناك رغبة في أن نقرأ هذين الكتابين، فعلى هذا نستمر على نفس المنوال، بأن نأخذ المجلد الثالث -إن شاء الله- بجميع محتوياته؛ لأنه ليس فيه أشياء من الحشو أو التكرار، أو الأمور التي لا لزوم لها، كما في هذا المجلد الذي فيه استطرادات في الرد على الفلاسفة والباطنية وأهل الاتحاد ووحدة الوجود ومن سلك سبيلهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سئل شيخ الإسلام وحجة الأنام أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه عمن يقول: إن ما ثم إلا الله، فقال شخص: كل من قال هذا الكلام فقد كفر؟ فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، قول القائل: ما ثم إلا الله: لفظ مجمل يحتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً، فإن أراد ما ثم خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله، فهو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل، وهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]. وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]. فهذه المعاني كلها صحيحة، وهي من صريح التوحيد، وبها جاء القرآن. فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله، كما قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174] إلى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175]. وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. ولا ينبغي لهم أن يتوكلوا إلا على الله، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]. ولا ينبغي لهم أن يعبدوا إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. ولا يدعوا إلا الله، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة. وأما إن أراد القائل: (ما ثم إلا الله) ما يقوله أهل الاتحاد؛ من أنه ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: ليس إلا الله، أي: ليس موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد ونحو ذلك من معاني الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يثبتون المباينة بين الرب والعبد ونحو ذلك من المعاني التي توجد في كلام ابن عربي الطائي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني ونحوهم من الاتحادية. وكذلك من يقول بالحلول كما يقوله الجهمية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، حتى إن هؤلاء يجعلونه في الكلاب والخنازير والنجاسات، أو يجعلون وجود ذلك وج

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) قال رحمه الله تعالى: [سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر)، فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية: بينوا لنا ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، قوله: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) مروي بألفاظ أخر، كقوله: (يقول الله: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر؛ بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، وفي لفظ: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر يقلب الليل والنهار)، وفي لفظ: (يقول ابن آدم: يا خيبة الدهر، وأنا الدهر). فقوله في الحديث: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، يبين أنه ليس المراد به أنه الزمان، فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار، والزمان هو الليل والنهار؛ فدل نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرفه، كما دل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44]، وإزجاء السحاب: سوقه، والودق: المطر. فقد بين سبحانه خلقه للمطر، وإنزاله على الأرض؛ فإنه سبب الحياة في الأرض، فإنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي، ثم قال: (يقلب الله الليل والنهار)، إذ تقليبه الليل والنهار تحويل أحوال العالم بإنزال المطر، الذي هو سبب خلق النبات والحيوان والمعدن؛ وذلك سبب تحويل الناس من حال إلى حال، المتضمن رفع قوم وخفض آخرين. وقد أخبر سبحانه بخلقه الزمان في غير موضع، كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] وغير ذلك من النصوص التي تبين أنه خالق الزمان. ولا يتوهم عاقل أن الله هو الزمان؛ فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة مقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها؛ كالحركة والسكون والسواد والبياض. ولا يقول عاقل: إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات، المفتقرة إلى الجواهر والأعيان، فإن الأعراض لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، والمفتقر إلى ما يغايره لا يوجد بنفسه، بل بذلك الغير، فهو محتاج إلى ما به في نفسه من غيره، فكيف يكون هو الخالق؟ ثم أن يستغني بنفسه، وأن يحتاج إليه ما سواه، وهذه صفة الخالق سبحانه، فكيف يتوهم أنه من النوع الأول].

القول بأن الله هو الزمان بين الحلولية والاتحادية وبين أهل السنة

القول بأن الله هو الزمان بين الحلولية والاتحادية وبين أهل السنة قال رحمه الله تعالى: [وأهل الإلحاد القائلون بالوحدة أو الحلول أو الاتحاد، لا يقولون: إنه هو الزمان، ولا إنه من جنس الأعراض والصفات، بل يقولون: هو مجموع العالم، أو حال في مجموع العالم، فليس في الحديث شبهة لهم لو لم يكن قد بين فيه أنه سبحانه مقلب الليل والنهار، فكيف وفي نفس الحديث أنه بيده الأمر يقلب الليل والنهار؟ إذا تبين هذا فللناس في الحديث قولان معروفان لأصحاب أحمد وغيرهم. أحدهما: وهو قول أبي عبيد وأكثر العلماء: أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم؛ فإنهم إذا أصابتهم مصيبة أو منعوا أغراضهم أخذوا يسبون الدهر والزمان، يقول أحدهم: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا. وكثيراً ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا، كقولهم: يا دهر فعلت كذا، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور، ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله تعالى؛ لأنه هو الذي فعل تلك الأمور وأحدثها، والدهر مخلوق له هو الذي يقلبه ويصرفه. والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له؛ وإنما الفاعل هو الله وحده. وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه، فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ في الحقيقة، والمبلغ له فعل من التبليغ، بخلاف الزمان، فإن الله يقلبه ويصرفه. والقول الثاني: قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية: أن الدهر من أسماء الله تعالى، ومعناه: القديم الأزلي، ورووا في بعض الأدعية: يا دهر يا ديهور يا ديهار، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله سبحانه هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء؛ فهذا المعنى صحيح، إنما النزاع في كونه يسمى دهراً بكل حال]. هذه العبارات أشار الشيخ إلى أن معناها صحيح، لكن لا يدل ذلك على أنه يرى الدعاء بمثل هذه العبارات الموهمة، وإنما الله عز وجل يدعى بأسمائه وصفاته، ولا حاجة لنا بأن ندعو بأدعية ليست واردة في النصوص، ثم أيضاً تحمل معاني محتملة، وقد يتوهم منها السامع معاني غامضة، فلا ينبغي أن نسلك مثل هذه العبارات الغامضة الموهمة. كذلك وإن قال الشيخ بأن الدهر والديهور والديهار معانيها صحيحة؛ لأنها إشارة إلى المسبب وهو الله عز وجل الخالق المدبر، إلا أن هذه العبارات يجب أن تجتنب في الدعاء، وإن حملت معاني صحيحة، مادامت محتملة، والذين يستعملونها غالباً لهم تفسير لهذه المصطلحات فيه شيء من الخطأ أو البدعة. قال رحمه الله تعالى: [فقد أجمع المسلمون -وهو مما علم بالعقل الصريح- أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان؛ فإن الناس متفقون على أن الزمان الذي هو الليل والنهار. وكذلك ما يجري مجرى ذلك في الجنة، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، قالوا على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، وفي الآخرة يوم الجمعة يوم المزيد، والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن تعرف الأوقات بأنوار أخر، قد روي أنها تظهر من تحت العرش، فالزمان هنالك مقدار الحركة التي بها تظهر تلك الأنوار].

الأقوال في كون وراء الزمان جوهر سيال قائم بنفسه هو الدهر

الأقوال في كون وراء الزمان جوهر سيال قائم بنفسه هو الدهر قال رحمه الله تعالى: [وهل وراء ذلك جوهر قائم بنفسه سيال هو الدهر؟ هذا مما تنازع فيه الناس، فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون، كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج، التي تسمى: المثل الأفلاطونية، والمثل المطلقة؛ وأثبتوا الهيولى التي هي مادة مجردة عن الصور، وأثبتوا الخلاء جوهراً قائماً بنفسه]. الفلاسفة كلهم ليسوا في أمر الدين على شيء، كلهم في أمر مريج، وهم أول من ينطبق عليهم قول الله عز وجل: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11]؛ لأنهم في كلامهم على الغيب والإلهيات يجهلون الوحي الذي هو المصدر الوحيد للغيب، بل يعادون الوحي ويضادونه، وكل ما جاء به الأنبياء عاندوه، وأنا أقصد الفلاسفة الخلص الذين يتكلمون في الأمور الغامضة ومحارات العقول بمجرد آرائهم، أما من سلك سبيل الأنبياء في هذه الأمور فليس بفيلسوف مطلقاً، لا يصح أن يسمى فيلسوفاً، الإنسان الذي يستمد آراءه في الأمور الغامضة ومحارات العقول من الوحي ليس بفيلسوف. لكن هناك جانب قد يتكلم فيه بعض الفلاسفة، وقد يكون حقاً، لكن ليس هو الذي به سموا: فلاسفة، أعني: بعض الفلاسفة قد يتكلم ويبدع في بعض العلوم الطبيعية، مثل: الطب، والكيمياء، والفيزياء وغيرها، فليبدع بحكم أنه بشر أعطاه الله عز وجل عقلاً معيشياً يعرف به ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله عز وجل عن الكفار، لكن ليس هذا هو الفلسفة، وأكثر ما يفتن الناس بالفلاسفة الذين يتخرصون على الله ويتخرصون على الدين أنهم لهم علوم دنيوية طبيعية مفيدة، لكن يجب أن نفرق بين هذا وذاك، فمثلاً: ابن سينا فيلسوف وطبيب، وقد أبدع في الطب؛ لأنه حينما استعمل ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الطبيعية أجاد وأفاد، وحينما صرف ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الغيبية خلط وخبط؛ لأنه أداه عقله وذكاؤه إلى الغرور، وجانب منهج الأنبياء، ولا شك أن من جانب منهج الأنبياء فلا يستحق أن يكون إماماً في الفكر والفلسفة، فضلاً أن يكون إماماً في الدين، كما يتعلق بذلك بعض المفتونين بالفلاسفة، وما أثر عن أفلاطون وغيره كلهم من هذا الباب، إلا ما تعلق بعلوم دنيوية أو بعض الأمور المنطقية وهي أشبه بالعلوم الرياضية، المنطق الذي يستقرأ من علم صحيح هو من العلم، سواء صدر من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة، هو من العلم الطبيعي الذي لا مشاحة فيه. إذاً: ما يصدر عن الفلاسفة أحياناً من بعض العلوم الصحيحة في الأمور البدهية العلمية الطبيعية، سواء في العلوم التجريبية أو في المنطق الصحيح هذا أمر صواب، ويؤخذ من الفلاسفة وغير الفلاسفة، لكن ليس هذا هو الذي سموا به فلاسفة، إنما سموا فلاسفة؛ لمناهجهم الباطلة، فكلامهم في الكليات المجردة في الخارج والمثل والهيولي والخلاء وأنه جوهر مجرد هذا كله من التخرص، لا رصيد له من العلم ولا من الواقع ولا من العقل السليم، وكله خلط وخبط وتيه وبعد عن الحق. قال رحمه الله تعالى: [وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان، كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق، مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن، وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان، وما يقوم بها من الصفات، فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به، ولا زمان إلا مقدار الحركة، ولا مادة مجردة عن الصور، بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض، ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم، أو ما هو جسم يقوم به العرض، وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع. وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار، والله أعلم]. مجمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الصفات لا يمكن أن توجد إلا بالموصوفات، وإلا تبقى مجرد كلام في الأذهان، وهذا صحيح، يعني: الصفات التي هي الأعراض لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا وجدت الموصوفات، وإلا يبقى الكلام مجرد كلام في الذهن، وأكثر الفلاسفة يتعلقون بهذه التصورات الخيالية، وإن كان بعض عقلائهم -كما قال الشيخ- يعارضون هذا؛ لأن بعض الفلاسفة أعقل من بعض، وليس كل عاقل يدرك بعقله الأمور التي يتفق عليها عموم العقلاء، أو من آتاهم الله عقولاً سليمة.

الأسئلة

الأسئلة

المنهج الصحيح في تفسير الرؤى والأحلام وحكم اتخاذ ذلك مهنة

المنهج الصحيح في تفسير الرؤى والأحلام وحكم اتخاذ ذلك مهنة Q ما هو المنهج الصحيح في تفسير الرؤى والأحلام؟ وهل قيام مفسر الأحلام بإعداد محاضرات خاصة يقوم عليها تفسير الأحلام على جميع الناس، وما يحدث ذلك من فتنة، بحيث يسمع الكثير التعبير، هل هذا جائز؟ A الرؤى إذا تجاوزت الحد قد تكون من أبواب الدجل والفتنة، والقواعد المتعلقة بالرؤى حسب ما هو معروف في النصوص وعمل السلف لها بعض التفصيلات التي يجهلها بعض الناس، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يسأل الناس: ماذا رأوا؟ لكن هل كان هذا عمل الصحابة من بعده على نحو ما كان يعمل؟ ما أعرف هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام من هو معصوم لا ينطق عن الهوى، وفعله هذا لا يدل على أنه تشريع؛ إذ لو كان تشريعاً لاضطر الصحابة أن تكون طائفة من دروسهم لتفسير الرؤى والأحلام، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله تفسرها أعمال الصحابة ومن جاء بعدهم، ثم لا نعرف من الصحابة من كان همه تفسير الرؤيا ولا من التابعين ولا تابعيهم، إلا ما اشتهر عن ابن سيرين، لكن ابن سيرين ليس عمله تفسير الرؤى فقط، غاية ما اشتهر أنه مسدد وملهم في تفسير الرؤى، وكان ابن سيرين عالماً في سائر علوم الشرع، إماماً من أئمة الدين، ليس همه تفسير الرؤى فقط كما يتصور بعض الناس، بل كان يتلقى من الناس الرؤى ويفسرها؛ لأن الله عز وجل أعطاه القدرة، فامتهان تفسير الرؤى بحيث يكون مهنة خطأ، مثل: امتهان الرقية بحيث تكون مهنة خطأ أيضاً، مع أن الرقية حق، لكن أن يقوم الإنسان ويضع عيادات وأحواشاً يجمع فيها الناس كأنهم غنم هذا من باب الفتنة، ولذلك كثرت الفتنة في هذا الأمر من ناحية، ومن ناحية أخرى كثر الدجل عند كثير من الرقاة وهم لا يشعرون، وقعوا في صور من صور الدجل وهم لا يشعرون، أنا لا أتهم عقائدهم، أكثر من نعرفهم -بحمد الله- هم على استقامة وصلاح، لكن مع ذلك يفتنون، ومن يضمن نفسه من الفتنة، لاسيما وهو قد عرض نفسه لباب من أبواب الفتنة، فكذلك الرؤى ينبغي ألا تكون مهنة. أما المحاضرات فما ينبغي أن تكون هناك محاضرة خاصة بتعليم الناس كيف يفسرون الرؤى، أتريد أن يتعلم الناس الحلاقة في رءوس الأيتام؟! يسمع قواعد في الرؤى ثم يبدأ يخبط، يصيب مرة مرتين، وأغلب الإصابة في الرؤى هي أيضاً من باب الفتنة؛ لأن الرائي يعتقد شيئاً من خلال التفسير، فيبتلى به؛ لأن أكثر الناس يقول: إذا فسر فلان وقعت الرؤيا على ما فسر، أقول: لأنكم اعتقدتم هذا، ليس بأنه أصاب دائماً، وأكثر أنواع الابتلاء من هذا النوع، فأكثر الناس يثقون بمفسر الرؤى ثقة مطلقة، ويعتقدون أن ما قاله صحيح وسيقع، ويترقبونه، فيقع ابتلاء؛ لا لأن المفسر أصاب وهكذا. فالتعمق في هذا الأمر والخروج عن حدود الضوابط الشرعية لا شك أنه تجاوز في الشرع، فلا ينبغي أن يتفرغ ناس لتفسير الرؤى، ولا أن يكثروا من إعلان كل ما يسمعونه وما يقررونه؛ لأن أكثر الرؤى من النوع الذي لا يصلح أن يذاع تفسيره، وهذا له محاضرات في تفسير الرؤى، فهذا منهج غير سليم في نظري، ويحتاج إلى قيود وضوابط شرعية، وإن كنت أرى أنه لا يجوز لي الكلام في هذا الأمر الذي يفهم منه ذكر أشخاص بأعيانهم؛ لأن لهم حقاً علينا أن نناصحهم، وهؤلاء الناس الذين لهم حق علينا كثير منهم طلاب علم ومن أهل الخير والصلاح، فلعلنا إن شاء الله نناصحهم، ويبحث هذا الأمر.

اشتراط العلم الشرعي عند تفسير الرؤى والأحلام

اشتراط العلم الشرعي عند تفسير الرؤى والأحلام Q هل يشترط في تفسير الرؤى أن يكون المفسر عالماً في الشرع؟ A لا، تعبير الرؤيا موهبة، لا يلزم أن يكون المفسر عالماً في الشرع، لكن علمه في الشرع يكون أكثر تسديداً وأكثر إصابة، وكثير من العلماء الكبار لا يفسرون الرؤى، وإنما أكثر المفسرين للرؤى هم من طلاب العلم الصغار أو من متوسطي العلم أو من العوام، لكن إذا كان عند المفسر الذي أعطاه الله موهبة في تفسير الرؤى، كان عنده علم شرعي وفقه في الدين فهو أحرى للتسديد والمقاربة. وهناك رؤى كثيرة رآها الناس وما عرفوا بواقعها إلا عندما وقعت وصارت مخالفة لما فسروها به، تقع على غير ما فسروها به، وعندي برهان على أن أكثر تفسيرات الرؤى يقع من باب التعلق النفسي، والدليل على ذلك أن كثيراً ممن عندهم وسواس في الرؤى يسألون أكثر من واحد، ولا يتفق المعبرون في تفسير الرؤيا، واستقرئوا هذا الأمر، اسألوا أكثر الذين يفتنون بسؤال المفسرين: ماذا قال لك فلان؟ وماذا قال لك فلان الآخر؟ يقول لك غير ما قال الأول، فهذا دليل على أن المسألة وهمية، واعتقاد الناس أن تفسير فلان المشهور للرؤى لا بد أن يقع هذا وهم؛ لأن المشاهير يختلفون الآن، ويندر أنهم يتفقون في تفسير الرؤيا الواحدة. إذاً: نصدق من؟ أو نأخذ تفسير من؟ نعم الإصابة ترد وتتفاوت من واحد إلى آخر، وقد يكون بعضهم أصوب من بعض، لكن الجزم وبناء الأحكام على ذلك غير صحيح.

حكم من يكفر سيد قطب مستدلا ببعض الكلمات الواردة في الظلال

حكم من يكفر سيد قطب مستدلاً ببعض الكلمات الواردة في الظلال Q ما حكم من يكفر سيد قطب رحمه الله، ويستدل ببعض الكلمات التي وردت في الظلال؟ A مسألة التكفير صعب، ويتحملون وزرها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما). فالتكفير خطير، وسيد قطب رحمه الله وقع في زلات كبيرة، لكن التكفير له شروط وموانع، وهذا الرجل قد أفضى إلى ربه، فتكفيره بمجرد محاكمته على العبارات دون استصحاب حاله، ودون رد العبارات بعضها إلى بعض، هذا من الأمور الخطيرة جداً، وربما تكون من ردود الأفعال ضد من يبالغون في سيد قطب.

موقف العلماء تجاه قضية الجهاد في أفغانستان وغيرها وموقف الأمة تجاه العلماء

موقف العلماء تجاه قضية الجهاد في أفغانستان وغيرها وموقف الأمة تجاه العلماء Q في الحرب ضد الأفغان سكت كثير من المشايخ المعروفين فيه، وقابل بعض الناس هذا السكوت بانتقاص من سكت والتقليل من شأنه ووصفه بالنفاق -نعوذ بالله-، وكذلك ارتفع شأن بعض من انتسب إلى العلم بأنهم كان لهم موقف في هذه القضية، فما وجه الحق في ذلك؟ A هذه فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، والناس يعيشون في هرج ومرج، ولا عبرة بمن هلك، ولا عبرة بالعواطف، ولا عبرة بما يحدث من التخليط عند الناس، إنما العبرة بالحق الذي سيبقى هو الأصل، وأما الزبد فسيذهب جفاء. يدخل في هذه القضية السؤال عن الجهاد: هل هو فرض عين أم لا؟ سأجيب عن هذا الموضوع إجابة مجملة: في مثل هذه الأحداث الكبار يجب على المسلم أن يتوخى الأمور التالية: أولاً: يجب عليه أن يهتم بأمر المسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، هذه الخطوة الأولى، بمعنى أن يهتم بالدرجة الأولى التي يملكها كل مسلم، وهو الاهتمام القلبي، وما يملكه من الدعاء، ومن النصح للأمة القاصي منها والداني بقدر ما يستطيع. ثانياً: ليعلم كل مسلم في مثل هذه الظروف أن هذه فتن كبار، ومعضلات تدع الحليم حيران، ويضع في باله أن هذا نمط أو نوع من الفتن التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشد من خلال تنبيهه إلى قواعد معينة، نستفيد منها في هذا الظرف: أنه ينبغي لكل مسلم أن يفهم أنه ما دام قد اهتم بأمر الأمة وأحب لها الخير، وكره لها الهزيمة والذل، وحرص أن يمتلئ قلبه بحب الخير للأمة وكراهية الشر لها، وعلم أن ذلك هو الحد الذي لا يعذر به أحد، بعد ذلك ينبغي أن يفهم أنه ليس بإمكانه بفرده أن يحل مشكلات الأمة بهذا الحجم، برأي يتبناه دون تثبت، ولا بموقف عملي يتبناه، بحيث يقفز فيه ويتعدى الحواجز الشرعية والحواجز الواقعية، أمامك حواجز شرعية يجب أن تفقهها، وكلنا لسنا بمستوى أن يكون عندنا من الفقه الكافي، بحيث نتخطى الحواجز الشرعية، ونتخطى الحواجز الواقعية العملية، التي أصبحت الأمة الآن حبيسة لها، كل الأمة الإسلامية حبيسة لوضع راهن ثقيل أدى بها إلى الذلة والهوان في جملتها في العموم، وإن كانت بعض البلاد الإسلامية أسلم من بعض، وأنا عندما أذكر ما عليه الأمة من اختلاف وتشتت وفرقة دائماً أستثني دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الدعوة السلفية التي أبقى الله بها الحق ظاهراً، وجعل أهلها ظاهرين بالحق إلى يومنا هذا بحمد الله، رغم ما عندنا من ضعف ومن تحول بسبب ذنوبنا، لكن نتحدث بنعمة الله التي أنعم علينا بها، ويجب أن نحافظ على النعمة. كذلك رغم أن أحوال الأمة على مستوى مخز من الذل، إلا أنه -بحمد الله- لا تزال السنة عندنا ظاهرة، لكن مع ذلك نحن مقصرين؛ لأننا لم نقم بتحمل أعباء الأمة كلها، وما أصاب الأمة من الذلة والفرقة والضعف بسبب ذنوب المسلمين، ليس كل شيء نحيله على الكفار، نعم الكفار أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118]، والآن أفواههم ملأت أسماعنا من البغض: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] ليس في هذا شك، لكن أيضاً لا ننسى أننا بذنوبنا وما عند الأمة عموماً من البدع والشتات والفرقة والأهواء والأحزاب والانتماءات والصراعات، بحيث -لا قدر الله- لو انفجرت فتنة بالسلاح أظن أن أكثر المسلمين سيصوبونها إلى بعضهم بعضاً، وأرجو ألا يصدق ظني، لكن نحن نحكي عن سنن الله في خلقه. مثال حال الذل: الآن (إندونيسيا) كم هم؟ قريب من مائتي مليون مسلم، ومع ذلك تحكمهم امرأة اختاروها هم: (ولا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). خذوا مثالاً آخر: (بنغلادش) أكثر من مائة وعشرين مليون مسلم وتحكمهم امرأة أيضاً كيف اختاروها؟ بالطرق الغربية، بالانتخابات، مجرد ما عرضت صورتها للغوغائية والشباب العاطفي ووجدوا صورتها جميلة رشحوها، هذه أمثلة، وما أحب أن أمرض قلوبكم، لكن يجب أن نعترف بأن الأمة ذليلة، وإذا كانت ذليلة فيجب أن تسعى للعز والقوة، لكن كيف تسعى؟ نعود إلى أصل القضية: هل من خلال تصرفات الأبطال، أن نقفز على حواجز الزمن، وحواجز المكان، وحواجز الظروف، وحواجز القواعد الشرعية، كما يفعل بعض الشباب الآن، إن كنت جاداً فأصلح نفسك وأصلح من حولك، أما الأمور الكبار كهذه فهي لأهل الحل والعقد. قد يقول قائل: من هم أهل الحل والعقد؟ أهل الحل والعقد هم العلماء والولاة، وهؤلاء من يتصدى لهذه الأمور الكبار، أما أنت من باب نفع المجتمع فيجب أن تسهم بما تستطيع وبما يسعك شرعاً، أما هذا التفلت الآن ومحاولة الخروج من الواقع بغير فقه ولا عقل، فلا. أما أمر الجهاد، فالجهاد تحت راية من؟ من الذي يقرر الجهاد؟ والجهاد له شروطه وضوابطه وله منهجه، ولا بد للأمور أن تؤخذ بقدر؛ لأن هذه الأمور م

§1/1