شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية

ناصر العقل

[1]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [1] لقد ميز الله عز وجل هذه الأمة الخاتمة بميزات وخصائص عظيمة، فقد جعلها خير الأمم، وأكرمها بخير الرسل، وحباها بخير الكتب، وجعلها شاهدة على الأمم كلها، وحفظ لها دينها إلى قيام الساعة، وضمن لها أنها لا تجتمع على ضلالة، وجعل الخير باقياً فيها إلى يوم القيامة وغير ذلك من الميزات والخصائص.

تمهيد في بيان سبب اختيار فتاوى شيخ الإسلام المتعلقة بالعقيدة

تمهيد في بيان سبب اختيار فتاوى شيخ الإسلام المتعلقة بالعقيدة بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن شاء الله تعالى سنأخذ دروساً في مجموع الفتاوى القسم المتعلق بالعقيدة، ويشمل المجلدات الثمانية الأول لشيخ الإسلام ابن تيمية، والفتاوى لـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد اشتملت على بعض الرسائل أو الكتب مثل: الواسطية والحموية والتدمرية وغيرها، والقسم المتعلق بالعقيدة -كما ذكرنا- يشمل المجلدات الثمانية الأولى والتي تنتهي بموضوع القدر، ثم يلحق المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر فيما يتعلق بالفرق وخاصة الصوفية، وما يتعلق بأصولها ومناهجها وقضاياها وطرقها ورجالها وبدعها وغير ذلك، ويسمى هذا بعلم السلوك والتصوف، وقد عده السلف من الأمور المكملة للعقائد، وهي أمور الرد وتصحيح عقائد الناس، وقد كان اختيارنا للفتاوى مبني على اعتبارات عدة، منها: الاعتبار الأول: شمول فتاوى شيخ الإسلام في المجلدات الأولى لكل مسائل العقيدة الكبرى والمهمة، بل أحياناً حتى الفرعية. الاعتبار الثاني: أن منهج شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر المنهج الأنموذج الذي يجمع بين أساليب القدامى والمتأخرين في اعتماد منهج السلف في التقرير والعرض والاستدلال، بالإضافة إلى ما فيه من فائدة علمية وفوائد منهجية عظيمة جداً يستفيد منها المعاصرون، ويستفيد منها سائر طلاب العلم في تقرير العقيدة وبيانها، حتى مع تغير الزمن في هذا الوقت، بل إننا سنرى وسنلاحظ أن شيخ الإسلام رحمه الله كأنه قد كتب للناس في هذا الزمان في كثير من المسائل، وسبب ذلك تشابه أحوال عصره بأحوال عصرنا، خاصة فيما يتعلق بمناهج الناس وعقائدهم ومللهم ونحلهم، وإنما اختلفت وسائل الحياة، وهذا أمر لا دخل له في تقرير الدين. الاعتبار الثالث: أن فتاوى شيخ الإسلام فيما يتعلق بقسم العقيدة قد اشتمل على كثير من الردود المباشرة وغير المباشرة، ولم يكتف رحمه الله بمجرد العرض والاستدلال والتقرير، لأنه رحمه الله تعالى عندما كتب في ذلك الوقت كان أغلب الناس من المعرضين عن عقيدة السلف، فكان في معرض تقريره للعقيدة يبين الرأي المخالف ويرد على المخالفين، فيستقصي في بحثه ويستدل وينهي المسائل حتى يصل اليقين للقارئ وطالب العلم خاصة، ثم إن شيخ الإسلام امتاز أسلوبه بجزالة الألفاظ وقوة المعاني والاستنباط.

خطبة شيخ الإسلام في أول الفتاوى تتضمن الحمد والثناء على الله عز وجل بما هو أهله

خطبة شيخ الإسلام في أول الفتاوى تتضمن الحمد والثناء على الله عز وجل بما هو أهله قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون، الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، الذي يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي دل على وحدانيته في إلهيته أجناس الآيات، وأبان علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرته على بريته ما أبدعه من أصناف المحدثات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السماوات، وأعلم بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه؛ لما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيء من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شيء في نعوت الكمال، أو يلحقه شيء من الآفات، فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً. أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيماً، ومنذرين لم عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذبوا عذاباً أليماً، وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره المشركون، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجاً؛ ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجاً. وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وويل للكافرين من عذاب شديد، بعثه بأفضل المناهج والشرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء].

الخصائص التي انفردت بها هذه الأمة

الخصائص التي انفردت بها هذه الأمة سيذكر الشيخ رحمه الله تعالى جملة من الخصائص التي امتازت بها هذه الأمة، وهي بالاستلزام خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس]. الخصيصة الأولى: أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، والخيرية هنا مطلقة، فهي خيرية الدنيا والآخرة. قال رحمه الله: [يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله]. الخصيصة الثانية: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذه الخصيصة باقية في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وقد يكون في بعض الأمم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن ليس كهذه الأمة؛ لأن هذه الشعيرة باقية في هذه الأمة، ما دامت هذه الطائفة المنصورة التي تكفل الله ببقائها قائمة. إذاً: تميزت هذه الأمة باستمرار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيامها به على الوجه الصحيح في الجملة. الخصيصة الثالثة: الإيمان بالله، لكن قد يقول قائل: إن هذه الخصيصة تشاركها فيها جميع الأمم، وهذا غير صحيح؛ لأن المقصود بالإيمان هنا الإيمان الحق الذي يتضمن الإيمان بالله وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله، ويتضمن توحيده عز وجل، والإيمان بأركان الإيمان الستة وأصوله؛ لذا فهذه الأمة هي أفضل الأمم استكمالاً لمعاني الإيمان بالله عز وجل. قال رحمه الله: [يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة]. قوله رحمه الله: (يوفون سبعين) هذه ما أظنها من الخصائص، هذه إكمال عدد، إلا قوله: هم خيرها، يعني: خير السبعين أمة وأكرمها؛ فقد ورد بأنهم خير أمة. الخصيصة الرابعة: أنهم شهداء على الناس. قال رحمه الله: [وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذ لم يبق بعده نبي يبين ما بدل من الرسالة]. الخصيصة الخامسة: أن الله عصمهم من أن يجتمعوا على ضلالة، وهذا من لوازم حفظ الدين، فكما أن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين وبقاء طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة، فإن ذلك يعني العصمة من الضلالة، والعصمة لمجموع هذه الأمة لا للأفراد، لكن قد يفهم بعض الناس كما فهم بعض أهل الأهواء أن الأمة لا تقع في ضلالة، وهذا خطأ؛ لأنه قد تكون هناك طوائف من هذه الأمة تقع في الضلالة، لكن ليس كل الأمة، بل لا بد أن تبقى طائفة على الحق ظاهرة، وهم أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله: [وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام ديناً، وأظهره على الدين كله إظهاراً بالنصرة والتمكين، وإظهاراً للحجة والتبيين]. الخصيصة السادسة: إكمال الدين وإتمامه، وإظهاره على الأديان كلها، وتمكين الله لهذه الأمة إلى قيام الساعة. قال رحمه الله: [وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب]. الخصيصة السابعة: بقاء العلماء في الأمة، بخلاف الأمم السابقة فقد اندثر فيها العلم ولم يبق فيها علماء؛ لأنها قد ابتليت بتغيير الدين والكتب المنزلة من الله عز وجل، وإذا وقع التغيير لم يكن هناك علم وعلماء، ولذلك لم يبق في أي أمة من الأمم من العلماء على الدين الصحيح والاستقامة والسنة إلا علماء هذه الأمة، فهم باقون إلى قيام الساعة، وهم الذين تتمثل بهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، لكن العلم الذي كان عند علماء اليهود والنصارى فيه شيء من التشويش، مع وجود بقية من خير، ولم يكن عندهم العلم الراسخ الذي يُعتمد عليه، ويكون بمثابة العلم الذي يحفظ به الدين نقياً صافياً، بل لم يوجد ذلك إلا عند علماء هذه الأمة؛ لأنهم ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير تغيير ولا تبديل، وعليه فما كان من العلم عند علماء اليهود أو علماء النصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو أثناء بعثته لا يخلو من التشويش والتغيير والتبديل، فالنصارى كانت عبادتهم وعلمهم مبنياً على الكذب، واليهود كان عندهم شيء من الخلط والكذب والاستكبار إلا من هداهم الله فيما بعد، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فعندما أسلم اعترف بأنه كان يفعل ما يشاء، وليس بمقتضى ما أمر الله به وبمقتضى الأمانة التي حملها الله العلماء. قال رحمه الله: [وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب]. الخصيصة الثامنة: أنه تبقى في هذه الأمة طائفة منصورة، وهي أهل الحق وأهل السنة والاستقامة. قال رحمه الله: [وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]]. الخصيصة التاسعة: حفظ الله لكتابه العزيز. قال رحمه الله: [فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل]. الخصيصة العاشرة وإن كانت متفرعة عن التاسعة: امتاز الحفظ من التحريف بأنه ليس فقط حفظاً للذكر بذاته، بل حفظاً للذكر ولمعانيه الصحيحة السليمة التي بها يستقيم دين الله عز وجل، وكما حفظ هذا القرآن وحفظ هذا الدين فكذلك حفظت السن

من مميزات هذه الأمة أن جعلت سعادتها في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

من مميزات هذه الأمة أن جعلت سعادتها في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيا بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبين الله بهم للناس سبيله، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، وملك يوم الدين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ الدين وهدى العالمين وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور الله أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة الله على الإنس والجان، لما قام المستجيب من معد بن عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاة يرضى بها الملك الديان، وسلم تسليماً مقروناً بالرضوان. أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14]، فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور. فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أخرجاه في الصحيحين، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وقد ذكر الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في نحو من أربعين موضعاً من القرآن، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:64 - 65]، وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سبباً لمحبة الله عبده، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فما أوحاه الله إليه يهدي به الله من يشاء من عباده، كما أنه صلى الله عليه وسلم بذلك هداه الله تعالى كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ

من مميزات هذه الأمة بعث الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة وجعلهما طريق النجاة والسعادة

من مميزات هذه الأمة بعث الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة وجعلهما طريق النجاة والسعادة قال رحمه الله: [فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة، فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسوله واجباً على جميع الأنام. والله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، وبهما أتم على أمته المنة، قال تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:150 - 152]. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. وقال تعالى عن الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وقد قال غير واحد من العلماء: منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم: الحكمة هي السنة؛ لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلوه هو السنة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما رضي الله عنهم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه). وفي رواية: (ألا وإنه مثل الكتاب)]. في هذا الحديث إخبار عما سيقع من بعض الطوائف في هذه الأمة، وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من أناس يأتون من بعده يقولون مثل هذا القول، وهذا التحذير منه عليه الصلاة والسلام في معرض الإخبار وفي معرض التحديث في وقت واحد؛ لأننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من أشياء كثيرة وقعت في طوائف من هذه الأمة، ولم يبق سالماً مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء إلا أهل السنة والجماعة، فقد نجد أن أكثر فرق أهل الأهواء لها نصيب مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فمنهم من أنكر السنة جملة وادعى أنه يكفي العمل بالقرآن، وهؤلاء طوائف من أوائل الخوارج، وكذلك المعتزلة والجهمية يردون السنة كلها أو بعضاً منها، ثم بقيت فرق أهل الكلام: الأشاعرة والماتريدية وغيرهم يأخذون من السنة ما يحلو لهم ويردون ما لا يحلو لهم، ثم إنه في الآونة الأخيرة ظهرت طوائف في كثير من بلاد المسلمين يسمون بالقرآنيين، وأصبح لهم الآن مناهج وكتب ومؤلفات وأتباع، ويكثرون في الهند وباكستان، ومنهم طوائف قليلة في مصر، فقد سموا أنفسهم أو سماهم الناس بالقرآنيين وهم ليسوا بقرآنيين، لكن هذه التسمية جاءت من باب الوصف لبعض مذهبهم؛ لأنهم زعموا أنه يكفي الناس العمل بالقرآن، وهكذا تجد مجموع الفرق أو جملتهم منهم من أنكر السنة بالكلية كالرافضة، ومنهم من أنكر أكثر السنة كبعض طوائف الخوارج، ومنهم من أنكر أيضاً كل ما يخالف أصوله وقواعده كالمعتزلة، بل من المعتزلة من أنكر السنة في الجملة وقال: لا يوثق بها! ومنهم من لم يجرؤ على إنكار السنة لكنه طعن فيها، بمعنى: أنه زعم أن السنة ظنية، وهذا مذهب الرازي وأبي المعالي الجويني قبل أن يرجع عن هذا المذهب، وهو مذهب متأخرة الأشاعرة؛ لأنهم زعموا أن ليس في السنة يقين إلا المتواتر وهو قليل، وله شروط ثقيلة وعسيرة، وأيضاً فقد يثبتونه سنداً ويردون أو يؤولون أو يشككون العمل بها، وأما خبر ال

تميز هذه الأمة بالإسناد والرواية عن غيرها من أهل الكتاب والأهواء والبدع

تميز هذه الأمة بالإسناد والرواية عن غيرها من أهل الكتاب والأهواء والبدع قال رحمه الله: [ولما كان القرآن متميزاً بنفسه؛ لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] وكان منقولاً بالتواتر، لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد. فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان. وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه، الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب أمر حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين؛ ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون. فمن كان مخلصاً في أعمال الدين يعملها لله، كان من أولياء الله المتقين، أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه. الثاني: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، فقيل: يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه قال: تلك عاجل بشرى المؤمن). وقال البراء بن عازب رضي الله عنه (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64] فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له). والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الربان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات. وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سلماً إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم]. هذه سمة من سمات هذه الأمة في الجملة، أعنى: أن الله ميز هذه الأمة بالإسناد، والسنة باقية أيضاً في أهل السنة والجماعة، وعليه فالدين بل وآثار السلف تقوم على الإسناد، والمقصود بالإسناد: الإسناد الصحيح، وإلا فهناك من تعلق بالأسانيد، وخاصة بعدما اشتهر أمر الإسناد عن هذه الأمة واستقر عند أهل السنة، وعرف الصحيح من السقيم كأهل البدع والأهواء، الذين صاروا يتشبهون بأهل السنة في مسألة الاعتماد على الأسانيد التي لا أصل لها، وأحياناً نجد أهل البدع من الصوفية والقدرية من تصدى لبدعته فجعل لها أسانيد من عنده، وهذا من باب التقليد والتشبه لا من باب الأسانيد الحقيقية، ولذا فأسانيد أهل الأهواء ليست صحيحة، ثم إنها قد تشتمل أيضاً على شيء من الخلط، أو قد تكون هناك أسانيد صحيحة ومتون فاسدة أو مكذوبة؛ لأنها أولاً لم تسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أسندوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنها موضوعة، لذا فأغلب أس

الأسئلة

الأسئلة

كيفية شهادة هذه الأمة على بقية الأمم الأخرى

كيفية شهادة هذه الأمة على بقية الأمم الأخرى Q كيف تكون هذه الأمة شهيدة على بقية الأمم الأخرى؟ A شهادة هذه الأمة على الأمم الأخرى من عدة وجوه: أولاً: لأنها تلقت الوحي الصادق الذي تضمن أخبار الأمم، وتضمن ما أقامه الله عز وجل على الأمم من حجة بالآيات والمنذرات، والشرائع التي أنزلها الله عز وجل، فهذه الأمور جاءت في القرآن والسنة، فبقيت من المعلوم عند جميع هذه الأمة أو عند طوائف هذه الأمة على الأمم الأخرى، وسيشهدون على ذلك في الدنيا والآخرة. وقد أقامت هذه الأمة الإسلامية بمجموعها الحجة على خلقه في هذه الدنيا على الأمم، ولا تزال تقيم الحجة، ولا نزال نرى في المسلمين مظاهر إقامة الحجة على الأمم الأخرى، فهذه الحجة تقتضي ضرورة الشهادة؛ لأنهم بلغوا كلام الله وبلغوا ما أمر الله به من إبلاغ الأمم، وأخبروهم بمقتضيات الرسالة المحمدية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أعرض ومنهم من أطاع، فمن أعرض قامت عليه الشهادة، وهذه الشهادة نفسها تبقى أصولها حتى يوم القيامة، فعندما تقول الأمم: لم يأتنا رسل ونذر، تشهد هذه الأمة بأن الله قد بعث الرسل والنذر، وأن آيات الرسل والنذر من كلام الله عز وجل ومن آياته المشهودة والمنظورة قائمة؛ ولذا فالأمة الإسلامية تشهد على الأمم الأخرى بحجة الله عز وجل على خلقه، حتى بالآثار القائمة والقصص التاريخية المتواترة، وبالأحوال والكرامات التي يهيئها الله عز وجل لهذه الأمة على الأمم الأخرى. فإذاً: الشهادة تكون من مجموعة أمور أعظمها الشهادة بمقتضيات ما جاء في القرآن المحفوظ وما جاء بالسنة المحفوظة.

دخول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت الإرادة الشرعية والكونية

دخول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت الإرادة الشرعية والكونية Q قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] فهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر كتبه الله جل وعلا أو شرع تطالب به الأمة قد تفعله وقد لا تفعله؟ A الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من الشرع، لكن ما يمتثله الناس من أوامر الله عز وجل وأوامره الشرعية يدخل في إرادته الكونية، بمعنى: أن ما يعمله وما يمتثله العباد من أوامر الله الشرعية يكون مما شاءه الله وقدره كوناً، فبين الأمرين تلازم، لكن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه داخل في إرادة الله الشرعية، وكونه عز وجل قد وعد هذه الأمة وحقق لها أن تكون آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر كان هذا لسابق علمه أنها ستعمل وتنهى، وأيضاً لأن الله قد قدر ذلك، فاجتمع في هذا الأمر الشرعي والأمر الكوني، لكنه أقرب إلى الأمر الشرعي أو الإرادة الشرعية.

[2]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [2] الجماعة مطلب عظيم من مطالب الدين، وأصل كبير من أصول الإسلام، ولا يكون الاجتماع إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ونبذ الفرقة والاختلاف؛ لأن من خالف الجماعة في الاعتقاد خاصة فقد خرج عن السنة، ومن فارق الجماعة في العمل فقد شذ، ومن شذ شذ في النار، فينبغي على المسلم الإخلاص لله تعالى، ولزوم جماعة المسلمين، والنصيحة لهم.

قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته

قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تناولنا في الدرس الماضي في فتاوى شيخ الإسلام الموضوع الأول وهو متعلق بمصادر الدين، وكأن الشيخ رحمه الله راعى -كما ذكرت سابقاً- أن يبدأ بما يتعلق بمصادر الدين، يعني: ما أول ما ينبغي أن يقرر فيما يتعلق بأصول الدين؟ ثم بعد ذلك انتقل إلى الموضوع الثاني أو الرسالة الثانية في الجماعة والفرقة، وهو الموضوع الذي سنتناوله الآن، وقد كان الكثير من مصنفي العقائد والسنن من السلف رحمهم الله يبدءون عقائدهم غالباً بموضوع الاعتصام بالكتاب والسنة والنهي عن الفرقة، وهذا مدخل جيد في التأصيل؛ ليتبين للقارئ أن الجماعة مطلب عظيم من مطالب الدين، وأصل كبير من أصول الإسلام، وأن الاعتصام بالكتاب والسنة يعني الحفاظ على الجماعة وعدم الفرقة، وأنه لا يستقر للناس عقيدة ولا دين إلا بالجماعة، فمن فارق الجماعة في الاعتقاد فقد خرج عن السنة، ومن فارق الجماعة في العمل فقد شذ، والشذوذ هلكة، وصاحب الشذوذ إلى النار، نسأل الله العافية. ومن هنا كان من المناسب بعد الكلام عن مصادر الدين أن يذكر الشيخ الرسالة المتعلقة بالجماعة والنهي عن الفرقة.

الوصية بالجماعة لإقامة الدين والنهي عن التفرقة في الدين

الوصية بالجماعة لإقامة الدين والنهي عن التفرقة في الدين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [قاعدة في الجماعة والفرقة، وسبب ذلك ونتيجته. قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحاً والذي أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولوا العزم المأخوذ عليهم الميثاق في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، وقوله: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ} [الشورى:13]، فجاء في حق محمد باسم: (الذي)، وبلفظ (الإيحاء)، وفى سائر الرسل بلفظ: (الوصية). ثم قال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}. وهذا تفسير الوصية و (أن): المفسرة التي تأتي بعد فعل من معنى القول لا من لفظه، كما في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ} [النحل:123]، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، والمعنى: قلنا لهم: اتقوا الله، فكذلك قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] في معنى: قال لكم من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فالمشروع لنا هو الموصى به والموحى، وهو: {أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13]، فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يقال: الضمير في (أقيموا) عائد إلينا، ويقال: هو عائد إلى المرسل، ويقال: هو عائد إلى الجميع، وهذا أحسن، ونظيره: أمرتك بما أمرت به زيداً أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بني فلان أن افعلوا، فعلى الأول: يكون بدلاً من (ما) أي: شرع لكم (أن أقيموا) وعلى الثاني: شرع (ما) خاطبهم، (أقيموا) فهو بدل أيضاً، وذكر ما قيل للأولين، وعلى الثالث: شرع الموصى به (أقيموا). فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، علم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعاً، وهذا أصح إن شاء الله]. يعني: إلى الرسل والمرسل إليهم. قال رحمه الله: [والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذي شرع لنا هو الذي وصى به الرسل، وهو الأمر بإقامة الدين، والنهي عن التفرق فيه، ولكن التردد في أن الضمير تناولهم لفظه، وقد علم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعاً. وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحاً، والذي أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التي تختص بنا، فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به من إقامة الدين، وترك التفرق فيه، والدين الذي اتفقوا عليه هو الأصول، فتضمن الكلام أشياء: أحدها: أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا وهو الإسلام والإيمان الخاص. الثاني: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص، ونهانا عن التفرق فيه الثالث: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه. الرابع: أنه لما فصل بقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13] بين قوله: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13]، وقوله: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] أفاد ذلك. قال بعد ذلك: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]، فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغياً، والبغي مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: الكبر والحسد؛ وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغي، كتنازع العلماء السائغ، والبغي إما تضييع للحق، وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك]. هنا أحب أن أنبه على أن وجه الاستشهاد في مسألة الجماعة وعدم الفرقة، وإن كان واضحاً، لكن التأكيد عليه يبين سبب اختيار هذا المقطع في قاعدة الجماعة والفرقة: قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13]، فتضمن بالضرورة أن هذا الدين لا يقام إلا با

بيان كون ترك العمل بما أمر الله به سببا لإغراء العداوة والبغضاء بين الناس

بيان كون ترك العمل بما أمر الله به سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بين الناس قال رحمه الله: [وهذا كما قال عن أهل الكتاب: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]، فأخبر أن نسيانهم حظاً مما ذكروا به، وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به، كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العباد، ممن يغلب عليه الموسوية أو العيسوية]. ليس المقصود بالموسوية ملة موسى عليه السلام، وإنما المقصود أتباع موسى عليه السلام من اليهود الذين ابتدعوا مع العلم، بينما العيسوية تعني: الابتداع مع المجاهرة، إذاً فالموسوية رمز لمن ابتدع في الدين من العلماء مع العلم والبصيرة، وهذا إما كبراً وإما هوى وإما حسداً، والعيسوية: هم النصارى الذين عبدوا الله على جهل، وهذا فيه إشارة إلى العباد، أعني: عباد هذه الأمة الذين ظهرت عندهم نزعات البدع والأهواء لجهلهم في الدين، حتى صارت هذه النزعات بذور الصوفية فيما بعد، وأصبحت الآن طرقاً ابتليت بها الأمة، بل ودخل فيها فئام من الأمة أو من المسلمين، ربما يكونون في كثير من البلاد الإسلامية هم الأكثر، وأغلب هؤلاء على دين العيسوية. قال رحمه الله: [حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة: ليست الأخرى على شيء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهم ينفي طريقة الآخر، ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء.

أمر الله بطهارة القلوب والأبدان

أمر الله بطهارة القلوب والأبدان وذلك أن الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن]. قوله: (أن الله أمر بطهارة القلب) إشارة إلى أعمال القلوب من المحبة لله عز وجل والخشية، ورجاء الثواب منه واليقين ونحو ذلك من الأعمال القلبية. وقوله: (وأمر بطهارة البدن) تشمل الطهارة الحسية التي هي التنزه والتطهر بالماء، وتطهير الثياب والظهور بالمظهر اللائق في العبادة كما أمر الله عز وجل، كما أنها أيضاً تشمل طهارة الأعمال، أعني: كون الأعمال تكون صادقة ومبنية على البر والتقوى، وهذا من علامات الطهارة الظاهرة. قال رحمه الله: [وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6]. وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]. وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]. وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. فنجد كثيراً من المتفقهة والمتعبدة إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة القلب ما أمر به إيجاباً أو استحباباً ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك، ونجد كثيراً من المتصوفة والمتفقرة إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيد فيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجاباً أو استحباباً. فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر، والغل لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بينة لليهود. والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى].

سبب وقوع العداوة بين طوائف أهل الكتاب ومن اقتدى بهم

سبب وقوع العداوة بين طوائف أهل الكتاب ومن اقتدى بهم قال رحمه الله تعالى: [وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغي الذي هو مجاوزة الحد، إما تفريطاً وتضييعاً للحق، وإما عدواناً وفعلاً للظلم، والبغي تارة يكون من بعضهم على بعض، وتارة يكون في حقوق الله، وهما متلازمان ولهذا قال: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، فإن كل طائفة بغت على الأخرى، فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تكف عن العدوان عليها. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية:16]. وقال تعالى في موسى بن عمران مثل ذلك. وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]. وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]؛ لأن المشركين كل منهم يعبد إلهاً يهواه، كما قال في الآية الأولى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:51 - 53].

سبب الاجتماع والفرقة ونتيجتهما

سبب الاجتماع والفرقة ونتيجتهما قال رحمه الله تعالى: [فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً وظاهراً. وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به والبغي بينهم. ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله ولا سبباً لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول (التنبيه) نبه على هذه النكتة]. يظهر لي أن هذا من كلام الخلال المشهور بغلام الخلال، وقد توفي سنة (363هـ)، وهو من أئمة السنة ومن علماء الحنابلة، وله مواقف مشهودة ضد البدع وأهلها، كما أنه من مؤصلة المذهب الحنبلي من حيث التأصيل العقدي والتأصيل الفقهي.

فصل في حديث: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم)

فصل في حديث: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) قال رحمه الله تعالى: [فصل: قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)، وفى حديث أبي هريرة المحفوظ: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)]. هذه الأمور من قواعد الدين العظمى التي قد تساهل فيها كثير من الناس، أو تساهلوا في تقريرها وفي العمل بها وربما في اعتقادها؛ لذا فإن كثيراً من الناس يجهل هذه المعاني، ويظنها من السنة أو من فروع الدين أو أنها من مناهج السلف التي قد لا تصلح لكل زمان إلى آخر ذلك من الظنون التي تخالف أصول الحق؛ وهذه القواعد مما أمر الله بها جميع المرسلين والأمم، ولا يمكن أن يستقيم للأمة دين، وأن تكون لها قوة، وأن تسلم من الأهواء والفرقة إلا بهذه الأصول الثلاثة: الإخلاص، والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين. قال رحمه الله: [فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة. وبيان ذلك أن الحقوق قسمان: حق لله، وحق لعباده، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئاً كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل لله كما جاء في الحديث الآخر. وحقوق العباد قسمان: خاص وعام، أما الخاص فمثل: بر كل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره، فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه، ولأن مصلحتها خاصة فردية. وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية، فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعاً، فهذه الخصال تجمع أصول الدين. وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين]. والمناصحة لعامة المسلمين تعني أن يحرص المسلم على أن ينشر الخير بينهم، وألا يكون ساعياً إلى إشاعة الذل بينهم، بل يحرص أو يهتم بما يصلح أحوال المسلمين بقدر ما يستطيعه؛ لأن من الصعب كما يقول الشيخ رحمه الله: أن يقوم بواجب النصيحة لكل فرد مسلم، لكن مقتضى النصيحة ما يمكن أن يصل نفعه لكل فرد وأنت جالس كالدعاء لعموم المسلمين، وكالاهتمام بشئونهم بالنصح لهم نصحاً عاماً يصل إلى أفرادهم ولو لم تعلمهم أو تدركهم، فقد تنفع المسلم في أقصى الدنيا بكلمة طيبة أو برسالة أو بكتاب تبعثه أو بشريط أو بدعاء، أو بنفع عام من المنافع العامة التي ربما تكون الوسائل متاحة لها الآن أكثر من أي زمن مضى، كان من الصعوبة في الماضي أن يستطيع المسلم أن ينفع مسلماً بينه وبينه الصحاري البعيدة والبحار والقفار، لكن الآن بحمد الله يستطيع كل مسلم أن ينفع عموم المسلمين بشتى الوسائل، وكما قلت: ولو لم يكن من ذلك إلا الدعاء لكان في ذلك خير كثير، مع أن فرص أعمال البر الكثيرة أتيحت الآن جداً، فمن هنا يستطيع المسلم أن يحقق معنى النصيحة لعامة المسلمين والاهتمام بشئونهم وبرعاية مصالحهم، وبأعمال البر ولا يحتقر منها شيئاً. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد.

[3]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [3] إذا علم العبد أنه غير عالم بمصلحته، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فإنه يتوجب عليه أن يسعى إلى إخلاص العمل لله، وعدم الشرك به، وأن يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا به سبحانه، فيستعين به ويتوكل عليه، ويسأله من فضله العظيم، ويلجأ إليه في كل أموره لا إلى خلقه.

قاعدة في توحيد الإلهية وإخلاص العمل والوجه له

قاعدة في توحيد الإلهية وإخلاص العمل والوجه له الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن شاء الله سيتكلم شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقطع عن حقيقة الألوهية، ويذكر قواعد هامة في الألوهية، وهو رحمه الله قد تكلم أولاً في حقيقة الألوهية وعلاقتها بالربوبية، وأيضاً ذكر بعض أنواع الألوهية، ثم قعد قواعد جيدة في حقيقة الألوهية سيذكرها مفصّلة بعد ذلك.

قاعدة جليلة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له

قاعدة جليلة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له قال رحمه الله تعالى: [الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً. وبعد: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] الآية. وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53]. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]. وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]. وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]. وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] الآية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الفرقان:58 - 59] الآية. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] الآية، ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولا سيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع]. يقصد الشيخ بهذا أن توحيد الله عز وجل بالربوبية والإلهية، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، وكل هذا جماعها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهو قطب رحى الدين التي من أجلها بعث الله الرسل، وهي الغاية الكبرى التي يسعى إليها كل موحد وكل مخلص لله عز وجل، أعني: تحقيق التوحيد بمعانيه جملة وتفصيلاً، وأن هذا هو ما أطلقت عليه النصوص والأحاديث وإجماع الأمة.

مقصود العبد ومطلوبه ومحبوبه هو الله تعالى

مقصود العبد ومطلوبه ومحبوبه هو الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [ونبيّن هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة. وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين: أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به. والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية، فهنا أربعة أشياء: أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود. والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم. والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر. إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه]. أي: أن هذه الوجوه التي أشار إليها الشيخ تعتبر قواعد لتحقيق التوحيد وإخلاص العمل لله عز وجل، فهي تمثل قواعد ذهبية عظيمة ترجع إليها جميع مسائل توحيد الربوبية والإلهية. قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى الألوهية، والثاني: من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها. وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]. وقوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]. وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]. وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9] فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين]. أي: مطلوب من العبد أن يحقق توحيد العبودية أو توحيد الإلهية لله عز وجل، وهذا هو الأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، ذلك بأن الله عز وجل هو الذي يقدر النافع، وهو الذي يقدر المكروه، والنزعة إلى جلب النافع ودفع المكروه نزعة فطرية غريزية تجعل الإنسان يلجأ إلى من يقدر على ذلك، لذا فكل إنسان لا بد أن يميل وينزع إلى جلب النافع ودفع المكروه، وإلى دفع الضار وكراهية المكروه، ثم هذه النزعة لا بد للإنسان فيها أن يلجأ إلى من يقدر على جلب النافع ويقدر على النفع به، وهو الله عز وجل، وكذلك الذي يقدر على دفع المكروه، وهو الله عز وجل، الذي خلق المكروه ابتلاء ويقدر على دفعه. فهذه المسائل يجتمع فيها معنى الربوبية ومعنى الإلهية، أما معنى الربوبية فهو واضح بأن الله عز وجل هو الذي خلق الأشياء النافعة والضارة، وهو الذي أوجدها وقدرها قدراً، وأما معنى الألوهية فهو أن يعرف العبد أنه لا يقدر على جلب النفع مطلقاً ودفع الضار مطلقاً إلا الله عز وجل، ومن هنا يتحقق على هذا الأساس توحيد الإلهية، وهو الاستعانة بالله عز وجل وطلبه سبحانه دون سواه.

خلق الله الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإخلاص له

خلق الله الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإخلاص له قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به. وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر. فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: (يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له). واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم ألا يعذبهم). وهو يحب ذلك، ويرضى به، ويرضى عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه، كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع. فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً؛ إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشيء آخر كما نقرره في موضعه]. اشتملت الآية على تقرير الإلهية والربوبية، والذين حصروها على معنى الإلهية أخطئوا، والذين حصروها على معنى الربوبية أيضاً أخطئوا، فقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، تعني: أنه لو كان في الأرض والسماوات وجميع الكون معبود غير الله لفسدت؛ لأن العبد لا يمكن أن يتوجه إلى إلهين، وإذا توجه إلى إلهين توزعت رغبته وتنازعت العبودية به أكثر من معبود، ومن هنا تفسد حقيقة التوجه ويفسد الإخلاص. أيضاً: أنه لو كان هناك أحد يستحق العبادة غير الله عز وجل لكان هذا المستحق يستحق كل معاني العظمة والجلال، وهذا يتنافى مع تدبير الكون. كذلك: كما أن الآية تضمنت على معنى الربوبية، فإنه لا يمكن أن يكون للخلق مدبر غير الله عز وجل، ولو كان هناك تدبير مع الله عز وجل في الكون لتعارض وتناقض التدبير، ومن هنا يفسد الكون. ومفهوم الآية: أن معنى الإلهية بني على معنى الربوبية، فإن كان معنى الآية: أنه لا رب للخلق غير الله عز وجل، فكذلك لا معبود غير الله عز وجل، ولا معبود بحق إلا الله. فإذاً: الآية قد تضمنت نفي الربوبية والإلهية عن غير الله، وهي متلازمة وتتضمن المعنيين بوضوح. قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه]. كأنه يشير بهذا إلى أنه ما دام أن الله عز وجل قد جبل العبد على الكدح، وأنه لا بد أن يتعب وينصب في هذه الحياة، فكونه ينصب فيما يرضي الله عز وجل خير له في مآله وعاجل أمره من أن ينصب في غير مرضاة الله عز وجل، وعلى هذا فإن توجه العبد إلى الربوبية ثم توجهه إلى الإلهية توجهاً ضرورياً بمقتضى الفطرة ومقتضى الشرع ومقتضى العقل السليم؛ لأن الإنسان لا يستطيع أبداً أن يجلب لنفسه السرور الكامل في الدنيا والآخرة، ولا يستطيع أيضاً أن يسلم من الكدح والتعب والنصب إطلاقاً إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فخير له في الدنيا والآخرة أن يكدح فيما يرضي الله عز وجل، والعكس بالعكس. قال رحمه الله تعالى: [ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص

كون العبادة لله تعالى تجلب قوة الإيمان في القلب واللذة مع وجود النصب والتعب الجسمي

كون العبادة لله تعالى تجلب قوة الإيمان في القلب واللذة مع وجود النصب والتعب الجسمي قال رحمه الله تعالى: [وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، وكان أعظم آية في القرآن الكريم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه. واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين: أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة! وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم، فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ} [التوبة:120] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمناً وتبعاً لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه]. يريد الشيخ هنا أن يبين أن حقيقة العبادة لله عز وجل إذا توافر فيها الإخلاص والاستقامة والخشوع وغير ذلك من الأمور التي تجلب قوة الإيمان واليقين في القلب، وهي في حقيقتها لذة وليست نصباً، والنصب أمر خارجي عارض، بمعنى: أن الإنسان قد ينصب ويتعب في بعض العبادات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ليس المقصود هنا مجرد التعب بالبدن؛ لأن التعب هذا تعب عارض، لذا فأول النعيم ما يجده العبد من اليقين ومن قوة الإيمان ومن لذة المناجاة لله عز وجل، فمن حقق العبادة بأوصافها الحقيقية لا يجد المشقة التي يستشعرها الناس، بل يجد اللذة والقوة واليقين، ويجد المتعة في الأعمال وإن كانت شاقة ظاهراً، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعظم من حقق العبادة لله عز وجل، وهو أخشع الخاشعين لله- يقول إذا حزبه أمر: (أرحنا يا بلال بالصلاة)، فهذا هو الفرق، بمعنى: أنه إذا شعر بمشقة وتعب من أي عمل، وجد راحته في الصلاة. أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فهذه الصلاة مع أن فيها نوعاً من المشقة النسبية، كالوضوء والركوع والسجود وطرد للنوم والكسل، بل وطرد للعوارض التي يتعب الإنسان في طردها من وساوس الشيطان والأفكار والأوهام والإصرار على الخشوع والمداومة عليه، وكل ذلك متاعب جسمية ونفسية، لكن مع ذلك يجد فيها الإنسان الموقن -إذا توافرت فيه شروط الإخلاص واليقين والخشوع- اللذة، وعند ذلك تنتفي المشقة. إذاً: المشقة أمر عارض وليست في أصل الأعمال، بل الأعمال تنسجم مع طبيعة ما رتّب الله على الإنسان في جسمه ونفسه وروحه وقلبه، وسواء كانت هذه الأعمال ظاهرة أو قلبية، فكلها في الأصل ينسجم معها القلب والروح والنفس، وبذلك يسعد الإنسان سعادة تامة، ومن هنا تنتفي المشقة التي يتصورها كثير من الناس. قال رحمه الله: [ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] أي: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب، ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبداً، قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فهذا أصل].

كون العبادة تجلب النعيم الحسي والمعنوي في الدار الآخرة من النظر إلى وجه الله تعالى وغير ذلك

كون العبادة تجلب النعيم الحسي والمعنوي في الدار الآخرة من النظر إلى وجه الله تعالى وغير ذلك قال رحمه الله تعالى: [الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضاً مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) رواه النسائي وغيره، وفي صحيح مسلم وغيره. عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. وهو الزيادة). فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم؛ لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16] فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى. وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها]. يقصد بالأصلين هنا: أولاً: أن الإيمان بالله عز وجل هو غذاء الروح والقلب، بمعنى: أن الإنسان يجد فيه القوة والسعادة والطمأنينة والأمن، بل وكل معاني السعادة التي يسعى إليها الناس ويطمحون إليها، وهذا في الدنيا. ثانياً: أنه بعبادة الله عز وجل يحصل النعيم في الآخرة بنوعيه: التنعم بالمخلوقات، والنعيم بما يسعد الله به عباده برؤيته سبحانه، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك. فهذان الأصلان يغفل عنهما كثير من الناس، وكثير من الذين تكلموا عن مسائل التكليف والعبادة والأحكام، ولا نجد إدراك هذا بشكل واضح إلا عند بعض الأئمة، بل عند أئمة السنة، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في هذا قصة ملخصها تدل على إدراكه لهذا المعنى وسعيه إلى هذا، وهو أنه كان له ورد طويل يقوله في يومه، وفي يوم من الأيام كان معه تلاميذ ومنهم ابن القيم، ويظهر لي أنهم كانوا في مهمة يريدون أن يذهبوا إليها، لكنه بعد الصلاة -أي: شيخ الإسلام - جلس طويلاً يقول ورده، فنسي من حوله حتى ارتفعت الشمس، وطال عليهم الوقت، واستحوا أن يقولوا له شيئاً، وهو مستمر في اللجوء إلى الله عز وجل، ولما التفت فطن أنه قد نسيهم فقال: هذا غذائي الذي أتغذى به. يعني: أنه انسجم وسمت روحه واطمأن قلبه بهذه العادة حتى نسي شغله وحبس الناس من حوله، فهذا يعتبر أنموذجاً للشعور في التغذي بعبادة الله عز وجل. قال رحمه الله: [وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة، وبالذوق والوجد أخرى، إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها، وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة، وهي الأقيسة العقلية].

كون المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يهدي ولا يضل وغير ذلك إلا بإذنه سبحانه

كون المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يهدي ولا يضل وغير ذلك إلا بإذنه سبحانه قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصّره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول. فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا؛ فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه].

كون تعلق العبد بغير الله مضرة عليه

كون تعلق العبد بغير الله مضرة عليه قال رحمه الله تعالى: [الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئاً حباً تاماً بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه أو يفارقه، وفي الأثر المأثور: (أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان). واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك. وكذلك نظائر هذا في الحديث: (يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، أليس عدلاً مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) وأصل التولي الحب، فكل من أحب شيئاً دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذِّب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالاً عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) رواه الترمذي وغيره].

كون الاعتماد على المخلوق والتوكل عليه مضرة

كون الاعتماد على المخلوق والتوكل عليه مضرة قال رحمه الله تعالى: [الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يُخذل من تلك الجهة، وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خُذل، وقد قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]. وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق، فلما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته، وكان في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه مضرته وهلاكه وفساده].

إحسان الخالق إلى عبده مع غناه عنه

إحسان الخالق إلى عبده مع غناه عنه قال رحمه الله تعالى: [الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو -ولو بالدعاء أو الثناء-، فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرّج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِّم وأُدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً. إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه]. الشيخ هنا قد استثنى أكثر من مرة، قال: إلا إذا كان لله، أو كان العمل لله، أو كانت المحبة لله، فيستثني من هذا علاقات الناس أو علاقات المؤمنين فيما بينهم، والتي أصلها المحبة في الله؛ لأنه قصد به وجه الله، فالإنسان قد يحب عبداً أو إنساناً آخر لما فيه من الخير والخصال الطيبة، فهذه المحبة لله داخلة في إخلاص العمل لله عز وجل، ولذلك فهذه قد يسعى فيها الإنسان إلى نفع أخيه احتساباً وابتغاء وجه الله عز وجل، لكن ليس هذا عليه علاقات أكثر الناس، بل علاقات أكثر الناس مبنية على المنافع وعلى المصالح، ولذلك تجد الناس يتهافتون على من لهم عنده مصلحة، سواء كانت مادية أو معنوية، فإذا انقطعت وانتهت هذه المصلحة، كأن يكون صاحب منصب فعُزل عن منصبه أو تقاعد أو قلّت موارده المالية، انفض الناس من حوله، وهذا ما يقصده الشيخ، وعليه فقس علائق الناس بالأشياء وحبهم لها وتعلقهم بها، فقد تكون لأغراض ترجع إلى مصالحهم ومنافعهم، ولذلك الشيخ استثنى فقال: إنما كان القصد فيه وجه الله، يقصد التحاب في الله، وما بين المسلمين والمتحابين في الله من نفع بعضهم لبعض حسبة لطلب الأجر من الله سبحانه. لكن قد يقول قائل: أليست المحبة الدينية يحصل للعبد بها انتفاع؟ فنقول: نعم سينتفع العبد من هذه المحبة، وذلك بالأجر من الله عز وجل يوم القيامة، وهذا يرجع إلى إخلاص العبادة لله؛ لأن الله عز وجل أمر بالتحاب بين المؤمنين، وجعله من أسباب الثواب، فالمنفعة التي ترجع إلى إخلاص العمل لله عز وجل ترجع إلى طلب الثواب من الله عز وجل، وهذه هي المنفعة التي فطر الله الناس عليها وأمرنا بطلبها، وليس فيها حرج. أيضاً: قد يقول قائل: إن العباد لا يحبون بعضهم بعضاً إلا لمنفعة تحصل لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، فنقول: هذا صحيح، يعني: بمعنى أن الناس لا بد أن يسعوا إلى منفعة لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، لكن كلام الشيخ يشعر بذم الوجه الآخر، فأقول: إنه يميز الوجه الذي يقصد به المنافع العاجلة أو الدنيوية أو الشهوية، والمنافع الحقيقة التي هي طلب الأجر من الله عز وجل، فيما يحققه الإنسان بعلاقته بالآخرين أو بإخوانه في الله. قال رحمه الله تعالى: [والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:17 - 20]. وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].

كون غالب الخلق يطلبون حاجاتهم من غيرهم وإن حصل الضرر للمطلوب

كون غالب الخلق يطلبون حاجاتهم من غيرهم وإن حصل الضرر للمطلوب قال رحمه الله تعالى: [الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها].

عجز الخلق عن دفع مضرة نزلت بالعبد إلا بإذن الله

عجز الخلق عن دفع مضرة نزلت بالعبد إلا بإذن الله قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثامن: إنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك].

لا نفع ولا ضر من الخلق إلا بإذن الله

لا نفع ولا ضر من الخلق إلا بإذن الله قال رحمه الله تعالى: [الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك. قال الله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:20 - 21]. والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57]. وقال الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟) بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم]. فهذه خلاصة الوجوه أو القواعد التي ذكرها الشيخ رحمه الله.

فصل في إجمال وخلاصة ما تقدم من الوجوه

فصل في إجمال وخلاصة ما تقدم من الوجوه قال رحمه الله تعالى: [فصل: جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيرك من الناس أولى ألا يكون عالماً بمصلحتك ولا قادراً عليها، ولا مريداً لها، والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما في حديث الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب)]. هذه أيضاً قاعدة عظيمة، وهي عبارة عن خلاصة لما سبق، ولذلك كان الأولى حتى تتسلسل هذه المعاني العظيمة في نفس القارئ أن تكون هذه هي القاعدة العاشرة أو الوجه العاشر، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان الإشكال في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن كنت تعلم)

بيان الإشكال في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن كنت تعلم) Q ما هو الإشكال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن كنت تعلم)؟ A ليس المقصود مفهوم العبارة، فالعبارة لا تتم إلا ببقيتها، وإنما المقصود تعليق الأمر على الغيب الذي لا يعلمه العبد، بمعنى: إن كان في سابق علمك كذا. وأما عبارة الإيجاب فغير لائقة في حق الله عز وجل؛ لأن الله لا يوجب عليه شيء، إلا إذا كان ورد فيه نص، يعني: أن كل ما يعبر به عن الحقوق التي كتبها الله على نفسه لعباده أو بعض عباده، لا ما ينبغي أن يعبّر بالوجوب على الله أو بالالتزام، وإنما يعبر عنها كما وردت؛ لأن الله لا يوجب عليه العباد شيئاً، وكونه أوجب على نفسه شيئاً لا يعني أن نعبر بالوجوب على الله إلا ما ورد فيه نص؛ لأن فيه سوء أدب مع الله، والسلف قد أنكروا على المعتزلة قولهم: يجب على الله كذا، مع أنهم ما قصدوا الوجوب الشرعي، وإنما قصدوا أن الله ألزم نفسه بذلك، وأنها من سنن الله الكونية.

هل الطيب والمطلب من أسماء الله عز وجل

هل الطيب والمطّلب من أسماء الله عز وجل Q هل الطيب والمطّلب من أسماء الله عز وجل؟ A الطيب من أوصاف الله عز وجل وليس من أسمائه، وأما المطلّب فليس من أسماء الله عز وجل.

حكم تقسيم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام

حكم تقسيم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام Q هل صحيح أن بعض أهل العلم قسَّم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام؟ A نعم، فمسألة التقسيم هذه أمور اصطلاحية ترجع إلى استقراء المعاني واستقراء الألفاظ، والتوحيد أصلاً هو توحيد الله عز وجل لا ينقسم، لكن من الناحية العلمية التنظيرية لا شك أننا نجده أقساماً عديدة، فالخبر عن أسماء الله عز وجل هو توحيد الأسماء، والخبر عن صفات الله هو توحيد الصفات، والخبر عن أفعال الله هو توحيد الأفعال، وما يتعلق بالربوبية هو توحيد الربوبية، وما يتعلق بالعبادة لله عز وجل يسمى توحيد العبادة أو الألوهية، ويمكن أن تقسم التوحيد إلى أكثر من ذلك أيضاً، وقد يصل إلى عشرة أقسام أو أكثر؛ لأنك إذا أخذت مفردات العبادة فستجد كلها توحيداً، فتوحيد التوكل معناه: وحّدت التوكل على الله عز وجل، وتوحيد الإنابة واليقين هو توحيد توجه الإنسان إلى الله عز وجل، وتوحيد الربوبية يمكن أن نقول: هو توحيد الخلق، توحيد التدبير لله عز وجل، فهو خالق الخلق، توحيد الرزق؛ لأنه لا رازق إلا الله وهكذا ليس هناك مانع في التقسيم، فتقسيم التوحيد تقسيم اصطلاحي علمي فني، وهو نتيجة لاستقراء نصوص التوحيد، فتجد أن هناك أشياء تتعلق بإثبات الربوبية، ويمكن أن هذا يسمى بتوحيد الربوبية، وأشياء تتعلق بالصفات الإلهية يمكن أن تسمى بتوحيد الإلهية، ونصوص تتعلق بإثبات صفات الله عز وجل يمكن أن نسميها بتوحيد الصفات، وأسماء الله يمكن أن نسميها بتوحيد الأسماء، وأفعال الله عز وجل يمكن أن نسميها بتوحيد الأفعال، لكن الأقسام الرئيسية للتوحيد ثلاثة: الربوبية، وهذا واضح جداً، الإلهية، وهذا واضح جداً، الأسماء والصفات وهذا واضح جداً، يمكن أيضاً اختصار أنواع التوحيد إلى اثنين: الربوبية، والإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات في الربوبية من وجه، وفي توحيد الإلهية من وجه آخر، وأغلب الأسماء والصفات تدخل في توحيد الربوبية.

حكم مقولة: قدس الله روحه

حكم مقولة: قدس الله روحه Q ما رأيكم في مقولة: قدّس الله روحه؟ A في الحقيقة أن العبارة فيها إشكال، لكن الذين أطلقوها من أهل العلم قصدوا بتقديس الروح إعلاء الروح إلى عليين، أو إلى أعلى المنازل في الجنة، وليس المقصود بالتقديس التعظيم، والأولى اجتناب العبارة مع إحسان الظن بمن قالها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[4]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [4] العبودية لله تعالى تقتضيها الفطرة والغريزة التي فطر الله الناس عليها، وأن على الناس أن يتوجهوا إلى من يعظمونه ويخشونه ويرجونه، والموفق من توجه إلى الله عز وجل، ومن الناس من يتوجه إلى غير الله عز وجل، وذلك إما بالشرك أو بالبدعة أو نحو ذلك، فمن توجه إلى الله فقد حقق العبودية الحقة وامتثل أعلى معاني العبودية، وعند ذلك تطمئن نفسه ويرتاح قلبه وينال السعادة في الدنيا والآخرة.

فصل يتضمن مقدمة لتفسير (إياك نعبد وإياك نستعين)

فصل يتضمن مقدمة لتفسير (إياك نعبد وإياك نستعين)

التعبد والتأله أمر بدهي وفطري في العبد

التعبد والتأله أمر بدهي وفطري في العبد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا يزال الشيخ ابن تيمية رحمه الله يتكلم في بيان أن العبودية لله تعالى لها حقائق عظيمة، وأنها تقتضي الفطرة والغريزة التي فطر الله الناس عليها، وأن الناس لا بد أن يتوجهوا إلى من يعظّمونه ويخشونه ويرجونه، والموفق من توجه إلى الله عز وجل، لكن من الناس من يتوجه إلى غير الله عز وجل، وذلك إما بالشرك أو بالبدعة أو نحو ذلك، وهو في هذا يقرر أن العبودية تقتضيها الفطرة، وأنها نزعة عند الإنسان، وأن الإنسان إذا لم يتعبد لله تعبّد لغيره، وأن هذا الانجذاب والتأله يعتبر من الأمور التي فُطر عليها الإنسان، أو بني عليها الكون كله، لكن هذا الإنسان الذي أعطي الحرية والقدرة والإرادة، وخيّر بين الخير والشر قد يتأله ويتعبد لغير الله عز وجل، وهذا ما سيبينه الشيخ من خلال هذا الفصل، ويبين حقيقة العبودية وبعض صورها، وكذلك نتائج وثمار العبودية الحقة لله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [فصل: وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همّام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حي فهو كذلك له علم وعمل بإرادته، والإرادة هي المشيئة والاختيار، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصّله، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب كالآلات ونحو ذلك، فلا بد لكل حي من إرادة، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده]. يريد الشيخ بهذا أن يبين أن التعبّد والتأله -وهو من أعظم إرادات المكلفين- أمر بدهي وفطري غريزي، وأن الإنسان لا بد أن ينجذب بطبعه ما دام عنده إرادة وحرية، فهو همّام حارث، ولا بد لأي إنسان أن ينجذب بطبعه إلى ما ينفعه ويتوقى ما يضره، وهذا الانجذاب إن كان إلى الله عز وجل فهذه هي حقيقة العبودية، والتي فيها كمال العبادة وكمال الطمأنينة والأمن النفسي والروحي، والإنسان إذا كان همّه تحقيق العبودية لله عز وجل، وكان انجذاب قلبه وجوارحه إلى ما يرضي الله عز وجل فقد حقق اليقين والعمل والتوكل والاستعانة والامتثال والخضوع، ويكون بذلك قد امتثل أعلى معاني العبودية، وعند ذلك تطمئن نفسه ويرتاح قلبه، ويشعر بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا انجذب إلى غير الله عز وجل وكله إلى تلك الأسباب، وإذا انجذب انجذاباً كاملاً إلى غير الله فقد أشرك، وإذا انجذب انجذاباً جزئياً بأن اعتمد أو مال إلى طلب النفع بالأسباب، فربما ينقص توحيده أو ينقص توكله، لكنه قد يقع في بدعة أو نقص في الإيمان أو رياء أو نحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، هذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان يجده في نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه. والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض. ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة، ومنه ما يكون تبعاً لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع. فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها، هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامّاً، وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً، مثل: عبّاد الشمس والقمر وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب. وقد يكون خاصاً في المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! إن أُعطي رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرءوساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هي التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها، والمستعان هو مدعو ومسئول. وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل وانقاد، وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيراً ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان]. يعني: الشيخ يق

أقسام الناس بالنسبة لعبادة الله والاستعانة به

أقسام الناس بالنسبة لعبادة الله والاستعانة به قال رحمه الله تعالى: [وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله. فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة: فقد يكون محبوباً غير مستعان، وقد يكون مستعاناً غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران. فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته، تبيّن أن قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كلام جامع محيط أولاً وآخراً، لا يخرج عنه شيء، فصارت الأقسام أربعة: إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلماً، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته، من الملوك والأغنياء والمشايخ. وإما أن يستعينه وإن عبد غيره، مثل كثير من ذوي الأحوال، وذوي القدرة وذوي السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجئون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله. والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعي قد ذُكر فيما بعد أيضاً، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان، لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام]. الأقسام الأربعة التي ذكرها، الشيخ: الأول: إما أن يعبد غير الله ويستعينه، وهذا قد وقع في الشرك؛ لأنه عبد غير الله واستعان بغير الله، لكن قد يستعين بالله عند الضرورة، وهذا لا ينفعه، وهذا كثير ما يقع فيه كثير من المشركين، فلا يستعمل الاستعانة بالله إلا عند الضرورة القصوى أو في حالة حصول الشدة، ومع ذلك يبقى على شركه. الثاني: أن يعبد الله ويستعين بغيره، والمقصود بالاستعانة هنا ضعف التوكل على الله عز وجل، ويظهر لي أنه لا يقصد الشرك الخالص، وإنما يقصد ما يقع فيه بعض أهل البدع وبعض المفرطين الذين تستحوذ عليهم الشهوات، وهؤلاء غالباً ينسون الاستعانة بالله عز وجل، ويكثر اعتمادهم على غير الله في كثير من الأمور، وهذا يقع فيه كثير من الناس. ثالثاً: أن يستعين بالله عز وجل وإن عبد غيره، وهذا يقع فيه كثير من عباد الصوفية والفلاسفة الجهلة، وكذلك عند بعض الذين يغلّبون جانب الشهوات أو جانب المطامع والمصالح. رابعاً: الذين هم على الاستقامة، إذ إنهم يجمعون بين عبادة الله والاستعانة به، أي: بمعناها الكامل. وأما قوله: (وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة)، فأيهما الغالب؟ أن العبادة تستلزم الاستعانة، فتكون العبادة هي الفاعل والاستعانة هي المفعول، وهذا الذي يظهر لي، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره خضع له وذل وانقاد وأحبه، لكن الشرع يرى أن الاستعانة تستلزم العبادة، مع أن العكس صحيح، فلو قيل: إن العبادة تستلزم الاستعانة، بمعنى: أن العبادة الحقيقية تستلزم الاستعانة صح التعبير، وإذا قلنا: الاستعانة تستلزم العبادة فربما يكون هنا أوجه؛ لأن الاستعانة الحقة لا ينتج عنها إلا حقيقة العبادة، فنقول: لو عكسنا صح ذلك، لكن ربما الشيخ قصد معنى آخر وهو ما ذكره، فجعل اللازم هو الاستعانة، والملزوم هو العبادة.

فصل في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل

فصل في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل قال رحمه الله تعالى: [فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلاً، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره. ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:20 - 21]. وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:7 - 8]. وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً) إلى آخر الحديث. فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله: كمُل ففعل، وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئاً لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريده فعله، فإنه فعّال لما يريد، وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولي من الذل].

أعظم الناس عبودية لله أكثرهم خضوعا له وذلا وافتقارا

أعظم الناس عبودية لله أكثرهم خضوعاً له وذلاً وافتقاراً قال رحمه الله تعالى: [فصل: والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل: بين التذلل والتدلل نقطة في رفعها تتحير الأفهام ذاك التذلل شرك فافهم يا فتى بالخلف فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرك به شيء. ولهذا قال حاتم الأصم -لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ - قال: أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيساً، لكن إن كنت معوضاً لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك. فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟ فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة، والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ويريدها رحمة منه وفضلاً، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريداً راحماً، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئاً إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك، فهم ثلاثة أصناف: ظالم، وعادل، ومحسن. فالظالم: الذي يأخذ منك مالاً أو نفعاً ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك. والعادل: المكافئ، كالبايع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين. والمحسن: الذي يحسن لا لعوض يناله منك، فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك إلى غير ذلك، وبكل حال ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع، وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بني أمر العالم، وإما بطريق الإحسان منك إليهم، فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم وأغراضهم. فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيداً مطاعاً، وهو في الحقيقة عبد مطيع، وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجاً إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك. والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافئاً له أو متفضلاً عليه ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا) رواه البخاري من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي: بموجب علمه ذلك، فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقياً، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله].

الافتقار إلى الله من لوازم المخلوقين

الافتقار إلى الله من لوازم المخلوقين قال رحمه الله تعالى: [فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيراً إلى خالقه، وليس أحد غنياً بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بُسط هذا في مواضع. والإنسان يذنب دائماً فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وَجِدَ خير أصلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائماً إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر، ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] والمراد بالسيئات ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات ما يسره من النعم، كما قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:168]، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلاً وجوداً من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان تعالى عليه حق لعباده، فذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا في مواضع. والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]]. يعني: أن الله عز وجل هو الذي يوفق العبد للطاعة، ثم قد جازاه عليها وأنعم عليه بها، فالعبد لم ينتفع بنفسه، وإنما هو يفتقر إلى الله في كل الأحوال. قال رحمه الله تعالى: [والنعم وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذي خلق العبد وجعله مسلماً طائعاً، كما قال الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]. وقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]. وقال: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم:40]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فسأل ربه أن يجعله مسلماً وأن يجعله مقيم الصلاة. وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] الآية، قال بعدها: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8]. وفي صحيح أبي داود وابن حبان: (اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا)، وفي الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وفي الدعاء الذي رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رءوفاً رحيماً، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين)].

لفظ العبد في القرآن

لفظ العبد في القرآن قال رحمه الله تعالى: [ولفظ العبد في القرآن يتناول من عبد الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] وأما قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17]. {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41]. {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45]. {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65]. {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]. {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ونحو هذا كثير. وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194]. {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف:102] قد يقال في هذا: إن المراد به الملائكة والأنبياء، إذا كان قد نهى عن اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الدجال: (فيوحي الله إلى المسيح أن لي عباداً لا يدان لأحد بقتالهم)، وهذا كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعبّدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره. وقد يكون كونهم عبيداً هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفاراً، كقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. وقوله: {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] أي: ذليلاً خاضعاً، ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان في الدنيا، ثم قال: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:94 - 95]، فذكر بعدها أنه يأتي منفرداً، كقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]. وقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] الآية. وقال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعاً وكرهاً، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعاً وكرهاً، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له: ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون قانتون مضطرون من وجوه: منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه. ومنها: دعاؤهم إياه عند الاضطرار. ومنها: خضوعهم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته. ومنها: انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء، فإن سائر البشر لا يمكّنون العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له في بعض ما أمر به، وإن كان هو التوحيد لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه في أمور. والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعاً، وكذلك لما يقدّره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أُمر به من الصبر وغيره طوعاً، فهو مسلم لله طوعاً خاضع له طوعاً، والسجود مقصوده الخضوع، وسجود كل شيء بحسبه سجوداً يناسبها ويتضمن الخضوع للرب].

أول درجات الافتقار هو الافتقار إلى الربوبية

أول درجات الافتقار هو الافتقار إلى الربوبية قال رحمه الله تعالى: [وأما فقر المخلوقات إلى الله بمعنى: حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شيء من صفاتها وأفعالها إلا به فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد. وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق. والصواب أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصف لازم له لا يمكن أن يكون غير غني، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنياً، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهي معدومة وهي موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر يُنتظر نزوله: وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه: أنه لا يوجد إلا بالخالق، هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف. ولكن طائفة تدعي أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله، وقل للأرض: من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالي وغيره. وهو أحد الوجوه التي ذكرها أبو بكر بن الأنباري في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] قال: كل مخلوق قانت له باشر صنعته فيه وأجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه. وهو الذي ذكره الزجاج في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:83] قال: إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جِبِلِّهم لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب الذي عليه جمهور علماء السلف والخلف: أن القنوت والاستسلام والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم: إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، قال: تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحاً من غيره، والصواب أن لها تسبيحاً وسجوداً بحسبها]. يقصد الشيخ بهذا أن التسبيح الذي ذكره الله عز وجل في المخلوقات هو تسبيح حقيقي، فكل مخلوق يسبح بحسب ما فطره الله عليه من نوع التسبيح، وأن هذا غير الخضوع الكوني العام؛ لأن أهل الكلام الذين فسّروا التسبيح بالخضوع الكوني العام فسّروا التسبيح ببعض وجوهه وببعض صوره، لكن الخبر ورد بأنه ما من شيء إلا يسبح بحمد الله عز وجل، وهو خبر زائد عن مجرد خضوع واستسلام الربوبية، وإن كان كل ذلك عبادة وطاعة وانقياد، لكن الطاعة الغريزية القسرية التي هي سنة من سنن الكون أمر مشترك عند جميع المخلوقات، وأما التسبيح الذي هو تسبيح العبادة فهو أمر زائد، فما من شيء إلا يسبح الله عز وجل بنوع غيبي يعلمه الله، وعلى هذا فجميع المخلوقات لها تسبيح يليق بها، وربما يكون هذا التسبيح مما يدركه بعض الناس في بعض الأشياء، وربما يكون مما لا يُدرك، وربما تكون حركة الأشجار هي نوع من التسبيح، وربما يكون غير ذلك، فهذا أمر غيبي لا نستطيع أن نتحكم به. إذاً: تسبيح الكائنات والمخلوقات لله عز وجل هو أمر زائد عن مجرد الخضوع العام والربوبية والاستسلام لله عز وجل، وهذا هو الراجح كما ذكره الشيخ، مع أن الشيخ لم ينكر ما قالوه، بل قال: إن هذا المعنى صحيح، وهو: أن هذه المخلوقات لافتقارها عابدة لله عز وجل بخضوعها وتذللها له سبحانه وتعالى، وهذا هو مقتضى القيومية لله عز وجل، وكونه القائم على كل شيء. وأما المكلّفون فإن الله عز وجل قد ابتلاهم، فمنهم من يسبّح وهو العبد الطائع المطيع، ومنهم من لا يسبّح وهو العبد الكافر المعاند نسأل الله العافية، بينما المخلوقات الأخرى -كما ذكرنا- فكلها تسبح بحمد الله عز وجل تسبيحاً يليق بها، وبكيفية لا نعلمها. قال رحمه الله تعالى: [والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها له، أمر فطري فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بُسط الكلام على هذا في مواضع، وبُين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولي والتمثيلي، فإن القياس البرهاني العقلي، سواء صيغ بلفظ الشمول كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبُيّن أن الجامع هو علة الحكم ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين في غير هذا الموضع. والتحقيق: أن العلم بأن المُحدث لا بد له من محدث هو علم فطري ضروري في

التكلف في تقرير البدهيات منهج الفلاسفة

التكلف في تقرير البدهيات منهج الفلاسفة قال رحمه الله تعالى: [فإن الكليات إنما تصير كليات في العقل بعد استقرار جزئياتها في الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية التي يجعلها كثير من النُظّار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم: الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك فإنه أي كلي تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما: الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أي شيء كان وعدمه، علم أن ذلك الشيء لا يكون موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضي بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك]. يعتبر هذا من تكلفات الفلاسفة والنظّار والمتكلمين في تقرير البدهيات؛ لأن هذه الأمور لا تحتاج إلى كبير جهد ووقت، بل حتى عند أبسط الناس، ككون الجبل أكبر من بعضه، أو النقيضان هما: الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو السواد والبياض إلى آخره، سواء كانا نقيضين أو متضادين أو متقابلين، فهذه الأمور بدهية والتكلف في تقريرها هو نوع من عبث الصبيان، وإضاعة الوقت والجهد، وكد الذهن فيما لا طائل تحته، والتفريع عليها في الأمور الوهمية في الغالب يجعل البدهيات معضلات، وعليه فالتكلّف في تقرير هذه الأمور البدهية هو منهج الفلاسفة؛ لأنهم فارغون ومثاليون وليس لهم في الواقع وجود، وأغلب كلامهم هو من باب إضاعة الوقت وكد الذهن فيما لا طائل تحته، أو فيما هو معلوم بالضرورة، ولذلك حينما تكلّفوا في هذه الأمور وجد منهم من يعارض البدهيات، فأحياناً تجد عند بعض الجهمية والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم أشياء هي شك في البدهيات، حتى قالوا: وجود الكون وجود مجازي، يعني: أنه ليس حقيقة، وحتى إن بعضهم افترض أن الإنسان يمكن أن يشك في وجوده، ويقول: إن وجودي مجرد وهم، فهذه الترّهات سببها التكلّف في تقرير البدهيات. ويقصد بالآيات الآيات الكونية الدالة على وجود الله عز وجل، يقال: إن الإنسان وإن لم يفكّر بعقله فقد رُكّب بفطرته على أنه لا بد أن يوقن بوجود الله عز وجل والإقرار بربوبيته، لكن الآيات تلزم وتزيد اليقين في الإنسان. وهو في الحقيقة قد بدأ في موضوع آخر، ولم يتكلم عن الآيات، وكأنه يريد أن يقرر أن ما قاله المتكلمون والفلاسفة في مسألة تفسير كثير من الأمور الشرعية -ومن ضمنها تفسير التسبيح- مبني على أنهم أخذوا الأمور بالقواعد العقلية فيما يتعلق باستقراء الأمور، ومن ضمنها القياس. فإذاً: سيصل إلى النتيجة في آخر المقالة، ونحن على وشك انتهاء الموضوع فلا نستعجل النتيجة، لذلك سيخرج بنتيجة بيّنة فيما بعد إن شاء الله. قال رحمه الله: [ولما كان القياس الكلي فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل في الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذي يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التي لا كمال فيها، فالباري تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه كالحياة والعلم والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس أن الآية تدل على عين المطلوب الذي هي آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه في مواضع].

كون دلالة الفطرة على وجود الله هي الأصل

كون دلالة الفطرة على وجود الله هي الأصل قال رحمه الله تعالى: [ثم الفطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فُطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة عليه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلا بد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضي تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة ولا كونه دليلاً، فإذا تصوره عرف المدلول، إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له]. يقصد الشيخ هنا أن دلالة الفطرة على وجود الله هي الأصل، وأن ما ينضاف إليها من الآيات الكونية الدالة على وجود الله وصفاته، والاستدلال بآيات الله المقروءة على وجود الله وصفاته، إنما جاءت هذه محركة ومقوية لدلالة الفطرة، وكأنه يقول: إن المخلوقات رُكِّبت بفطرتها على ضرورة الإيمان بالله عز وجل وبربوبيته وإلهيته، وأن هذه الأدلة ما هي إلا مقوية لهذا الإيمان الفطري، ولذلك قال: إن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن، يعني: تستحث الفطرة، لا بطريق القياس فقط، وإنما بطريق الدلالة المباشرة، مثل قوله عز وجل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، فهذا دليل فطري، وليس للفت النظر إلى الآيات الكونية بالتفصيل، وإنما لإثارة عوامل الفطرة، وإن كان للفت النظر إلى الآيات الكونية، لكنه لفت إلى الكون كله وليس إلى جزئيات الآيات، ومع ذلك أحياناً تستعمل الدلالة على وجود الله بجزئيات الآيات من باب تقوية اليقين، وإقامة الحجة على المعاندين، وإلا فهذا أمر فطري تقتضيه الفطرة، سواء وجدت الآيات أم لم توجد، ولذلك فإن المؤمنين الخُلّص، أو الذين سلمت فطرتهم قد لا يتمعنون في الدلالات الكونية إلا إذا جاء للتمعن مناسبة أو سبب، وإلا فقلوبهم قبل ذلك ممتلئة باليقين بالله عز وجل، كما قال إبراهيم عليه السلام: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، أي: أنه لم يكن عنده شك في قدرة الله على الخلق، ولا في عظيم آيات الله، لكنه أراد أن يرى أمراً حسياً يستدل به على ما في قلبه من يقين، أو يقوى به ما في قلبه، وإلا فدلالة الفطرة موجودة في نفسه، ولذلك استخدمها لما رأى الشمس ورأى القمر ورأى النجوم، ونفى أن تكون هذه المخلوقات هي ما يقصده ويعبده، وكل ذلك بالفطرة الكاملة التي فطره الله عليها، لا بأدلة أخرى أو بمقاييس الفلاسفة وغيرهم. وأما قوله رحمه الله: [والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له]. في الحقيقة هذه لفتة جميلة جداً؛ لأنهم ما استدلوا إلا على شيء في نفوسهم، يعني: لماذا الناس احتاجوا أو استعملوا الدلالات على وجود الله، سواء من استعملها حجة على غيره، أو استعملها ليقوى إيمانه؟ إنما استعملها ليقينه بوجود الله عز وجل، وإلا لاحتاج الناس إلى أن يؤمنوا بالله أن يروا الآيات، بينما العكس هو الصحيح، فالناس آمنوا بالله ثم إن الآيات زادتهم إيماناً وأقامت الحجة على من عاند، سواء من المشركين أو من الملاحدة الذين يزعمون أنهم ينكرون وجود الله، وفي الحقيقة هم لا ينكرون وجود الله، بل يعبّرون عن وجود الله بتعبيرات أخرى؛ لأنهم لو اعترفوا فقالوا: الله، ففيه إلزامهم بالطاعة، لكن منهم من قال: الذي يدبر الكون هي الطبيعة، ومنهم من قال: القوة، ومنهم من قال: الذي يدبر الكون عقل كبير أو العقل الأول، ومنهم من قال: الذي يدبّر الكون هو الروح، ومعنى هذا أنهم كلهم لا بد أن يؤمنوا بمدبّر للكون، ومن ينكر وجود الله تعالى فهو مستكبر عن وصف الله باسمه أو بما يليق به، وإلا فهو يقول: للكون مدبر. ومن هنا فكلام الشيخ جيد، ويدل على قوة دلالة الفطرة، وأن الناس يعلمون أن الله عز وجل قد فطرهم على العلم بأن هذه المخلوقات آيات ودلائل على الخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه؛ لأنهم ما بحثوا عن الدلائل، سواء المنكر الذي يريد الدليل أو المؤمن الذي يستدل على غيره أو ليستدل لغيره، فما استدلوا إلا لأمر كانوا يوقنون به فطرة وغريزة، وهو وجود الله عز وجل وعظمته وكماله.

التحذير من استعمال عبارات الفلاسفة

التحذير من استعمال عبارات الفلاسفة قال رحمه الله تعالى: [والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأي والسمع. والمتفلسفة كـ ابن سينا والرازي ومن اتبعهما قالوا: إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لا بد له من واجب، قالوا: والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، وركّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسّموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسّمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثاً، بل زعم أنه ممكن، وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذّاقهم عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بيّنا في مواضع أن القدم ووجوب الوجود متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يُعرف عن طائفة منهم نزاع في ذلك إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوماً أو سيكون معدوماً لا يكون واجب الوجود، ولا قديماً أزلياً. ثم إن هؤلاء إذا قُدِّر أنهم أثبتوا واجب الوجود فليس في دليلهم أنه مغاير للسماوات والأفلاك، وهذا مما بين تهافتهم فيه الغزالي وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجباً؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركباً، هذا عمدتهم. وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النُظّار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالي فساده بحسبه. وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان: فيقال للموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهي المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعي التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بُسط القول عليه في مواضع]. يقصد الشيخ بالوجود المطلق الوجود الذي ليس له ذات وليس له حقيقة، وإنما هو وجود ذهني أو وجود عقلي أو روح أو قوة ونحو ذلك من التعبيرات التي يعبّر بها الفلاسفة عن وجود الخالق عز وجل، والشاهد أن تقرير الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في مسلك المُحدَث والمُحدِث، أو الممكن والواجب -الذي أحدثه ابن سينا - ونحو هذا إنما هو من الألفاظ المجملة التي لها دلالات ناقصة ودلالات كاملة، كما أنها أيضاً من الأمور التي لا يفهمها إلا خاصة هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، وعامة الناس يخوضون فيها بغير علم، ولهم في دلالاتها مفاهيم متباينة، فلذلك يجب على المسلم وعلى طالب العلم خاصة ألا يستعمل هذه العبارات التي لها لوازم باطلة، والغالب أنها تؤدي إلى الخروج من اليقين إلى الشك؛ لأن الإنسان ليس بحاجة إلى أن يعرف معنى واجب الوجود ليثبت وجود الله عز وجل، فوجود الله وجود فطري، وإنما نحن بحاجة إلى إثبات ذلك بالآيات الكونية لمن أنكر أو شك، أما ما عدا ذلك فإنما هي ألفاظ أشبه بالأوهام والتكلّفات التي لا تقرر عقيدة، بل أن من استعملها يخرج من اليقين إلى الشك، ولذلك نجد هؤلاء الذين يستعملون هذه العبارات كلهم أصحاب شك وريب نسأل الله العافية، بل ولم يصلوا إلى أي نتيجة، وأغلبهم وقعوا في محارات عقلية وذهنية أدت بهم إلى اليأس والقنوط وإلى إعلان الإفلاس، وكل الذين اشتهر عنهم هذا الأمر وخاصة الكبار منهم والمنظّرين أعلنوا الحيرة والاضطراب في العقيدة، بل ومنهم من أعلن ذلك عند الموت، وغير هؤلاء كثيرين جداً نسأل الله العافية؛ لأنهم تكلموا في أمور لا داعي لها، والقاعدة في ذلك: أن أوصاف الله عز وجل وأسماءه متقررة في الكتاب والسنة على أكمل وجه، ولسنا بحاجة إلى أن نستحدث ألفاظاً أو تعبيرات نعبّر بها عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وأن كل ما نتخيله أو نتصوره أو نتوهمه أو تنطق به ألسنتنا من الكمالات فإنما هو راجع إلى ألفاظ الشرع، بل إن من أسماء الله جوامع يرجع إليها كل ما تفلسف به المتفلسفون، ولو أنهم نزهوا أنفسهم ووصفوا الله بما وصف به نفسه من الكمالات التي تجمعها بعض العبارات مثل الله أو الحي أو القيوم أو العظيم أو الكبير -عبارات جامعة تجمع كل معاني الكمال- لكان خيراً لهم، وعليه فالناس ليسوا بحاجة إلى أن يقرروا وجود الله وكماله وأسمائه وصفاته بمثل هذه الألفاظ المبتدعة؛ لأنها أمور توقع الناس في الريب والشك، بل وتوقعهم في الإثم والكلام على الله بغير علم، وهذا من أعظم الإثم، بل من كبائر الذنوب، والغالب أنه في مثل هذا قد يصل إلى الكفر. قال رحمه الله: [والمقصود هنا الكلام أولاً في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخ

الأسئلة

الأسئلة

وجه الخوض في القضايا الكلامية التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على أهل الكلام

وجه الخوض في القضايا الكلامية التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على أهل الكلام Q قال شيخ الإسلام: (وعلم الكلام لا يحتاج إليه البليد ولا يستفيد منه الذكي)، فإذا كان كذلك فهل لنا أن نتجاوز القضايا التي يذكرها ابن تيمية في الرد على أهل الكلام من أجل كسب الوقت؟ A في الحقيقة هذه مسألة في نفسي منها شيء، لكن مع ذلك أحياناً أقول: ما دام أن الحضور طلاب علم، وأكثر الأمور إن شاء الله ليست مشكلة عليهم، فلعلنا نستفيد على الأقل إذا كان هناك جوانب سلبية مما يورده شيخ الإسلام في رده على أهل الكلام تبيّن لنا هذه الجوانب، لا سيما أننا نجد أن هناك من بدأ يثير هذه القضايا من جديد، من متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فقد بدءوا الآن يقررون عقائدهم الفلسفية هذه، وتدرس في كثير من الجامعات والمدارس في العالم الإسلامي على هذا النحو، بل أشد منه، كما يدرسون محارات تتعب العقول وتمرض القلوب، ولا يصل فيها الناس إلا إلى مسالك وعرة لا توصلهم إلى اليقين. أيضاً: أن هناك كتباً تقرر هذه المسائل. كذلك: أن هناك أصحاب اتجاه جديد لا هم أشاعرة ولا ماتريدية ولا متكلمون، لكنهم أخطر من هؤلاء كلهم، فقد بدءوا يتناولون هذه القضايا إما بالتأييد وإما بالرفض، وأغلبه من باب التأييد، وهم أصحاب الاتجاهات العقلانية والعصرانية، فبدءوا يستعملون هذه الأساليب وهذه المصطلحات من جديد، ويقررون بها الدين على نحو ما قرره أولئك الأوائل من أسلافهم. فأنا أقول: لعلنا نتوسط، فإذا جاءت بعض المقاطع التي فيها استطراد طويل في المسائل الكلامية، وهي قليلة في المجلد الأول والثاني فربما نستبعدها، وأما إذا كان مجرد عرض أو استعراض سريع في المسائل الكلامية مثل ما مر قبل قليل فأرجو ألا يكون فيه حرج. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[5]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [5] من الأسس التي تقوم عليها السعادة في معاملة الخلق أن ترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثوابه سبحانه لا لمكافأتهم، وأن تكف عن ظلمهم خوفاً من الله، فإن هذا من ثمار العبودية لله تعالى ولوازمها، وبذلك تنال السعادة في الدارين.

فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله

فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فسنبدأ في فصل جديد يعتبر امتداداً للفصل السابق في الكلام على العبودية ولوازمها وقواعدها وثمارها، وفي هذا الفصل سيركز فيه شيخ الإسلام على قاعدة في مسألة معاملة الخلق، وبيان وجه السعادة في معاملة الخلق، وقد تضمنت هذه القاعدة حكماً بليغة، ووصايا عظيمة، وفوائد جليلة كما حدث في القاعدة السابقة.

الأسس التي تقوم عليها السعادة في معاملة الخلق

الأسس التي تقوم عليها السعادة في معاملة الخلق قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل: والسعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم، كما جاء في الأثر: (ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله)، أي: لا تفعل شيئاً من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفاً من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه]. ذكر الشيخ هنا أربعة من الأسس التي تقوم عليها السعادة في معاملة الخلق، وهي في الحقيقة أمور جامعة ومانعة تشمل جميع وجوه السعادة في معاملة الخلق التي يكون بها رضا الله عز وجل وتحقيق العبودية له، وهذه الأسس الأربعة هي: أولاً: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله. ثانياً: تخافه فيهم ولا تخافهم في الله. ثالثاً: تحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم. رابعاً: أن تكف عن ظلمهم خوفاً من الله. فجعل جميع هذه الأسس الأربعة تقوم على مراعاة حق الله عز وجل في معاملة العباد، وعلى تحقيق العبودية من خلال معاملة العباد، وأشار إلى أن هذا هو الذي يكون به السعادة في معاملة الخلق، أي: سعادة القلب وسعادة النفس، وإلا فالإنسان قد يشعر بالسعادة الشكلية من خلال ما يحققه من مصالح دنيوية من خلال تعامله مع العباد، لكنها مصالح منغصة كما سيذكره فيما بعد، وهذا إذا لم يكن فيها مراعاة لحق الله عز وجل، وعليه فلا بد أن يكون هذا هو الأصل والمنطلق في معاملة العباد.

مآل من التمس رضا الناس بسخط الله والعكس

مآل من التمس رضا الناس بسخط الله والعكس قال رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، أو تذمهم على ما لم يؤتك الله) فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله، وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يُقدّر، كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: (يا محمد! أعطني، فإن حمدي زين وإن ذمي شين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل). وكتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنه، وروي أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً)، هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذي يعض على يده يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم]. في الحقيقة يمكن إيجاز كلام الشيخ هنا: بأن من التمس رضا الناس بسخط الله فإن مآله وعاقبة أمره إلى الخسران، حتى وإن وجد بعض الفائدة من ذلك، لكن العاقبة لا تكون حميدة أبداً، سواء في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، وكذلك العكس، فمن التمس رضا الله بسخط الناس فلا بد أن تكون عاقبته حميدة، وقد لا يتأتى هذا عاجلاً، وإنما يتأتى بالصبر، فالإنسان قد يرى أول الأمر شيئاً من الإعراض من الناس إذا التمس رضا الله بسخطهم، وقد يجد شيئاً من المضايقة، لكنه بالصبر لا بد أن تكون العاقبة له، إما في الدنيا والآخرة وهو الغالب، وإما في الآخرة فقط. فإذاً العاقبة لا بد أن تكون لمن راعى حق الله عز وجل في ذلك، مع أنه بالتجربة والاستقراء نجد أن كل من صبر على أذى الناس والتمس رضا الله ولو بسخطهم، فإنه لا بد أن يجد العاقبة الحميدة في دنياه قبل آخرته، مع ما ادخره الله له في الآخرة، لكن ذلك مشروط بأمرين: صدق النية، وصدق الإخلاص مع الله عز وجل، والصبر على ما يصيبه من بلاء، وأكثر الناس قد لا يصبر، فلا تحصل له النتيجة التي يأملها؛ لأنه لم يتحقق عنده الشرط الذي ضمن الله به لمن فعل ذلك.

انتفاع العبد بطاعة ربه عز وجل

انتفاع العبد بطاعة ربه عز وجل قال رحمه الله تعالى: [فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً. ومن توحيد الله وعبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك. وإعطاء الناس حقوقهم وترك العدوان عليهم يخلص به العبد من ظلمهم ومن الشرك بهم. وبطاعة ربه واجتناب معصيته يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)، فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد، وكما في الحديث الذي رواه الطبراني في الدعاء: (يا عبادي! إنما هي أربع، واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئاً، والتي لك عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: فمنك الدعاء وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فائت إليهم ما تحب أن يؤتوه إليك) والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه. وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه، وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب، وهو إنما يحبه لكونه طريقاً إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج أولاً، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة، فهو يطلب ما يحتاج إليه أولاً ليتوسل به إلى محبوب الرب الذي فيه سعادته، وكذلك قوله: (عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه)، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فالعبد إنما يعمل لنفسه، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له، محصلة لسعادته، محصنة له من عذاب ربه، فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئاً أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعاً لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد من المشتري أولاً الثمن، ومن لوازم ذلك: إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك: إرادة إعطاء الثمن. فالرب يحب أن يُحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه]. ذكر الشيخ رحمه الله أمراً كثيراً ما يسأل عنه بعض الناس، ويستشكله بعض العوام وحتى بعض المبتدئين من طلاب العلم، أو ممن عندهم شيء من الوساوس نسأل الله العافية، ويتلخص هذا الإشكال في أن بعض الناس يتحرج من أن يكون قصده نفع نفسه مع عبادته لربه ورجاء ثوابه عز وجل، ويظن أن هذا مذلّة، حتى إن بعضهم يقول: إني أجد في نفسي حينما أندفع للصيام أو للصدقة أو لفعل الخير أني أريد بذلك الجزاء من الله عز وجل لا مجرد العبادة، وهذا جاهل؛ لأن الله عز وجل تعبّدنا بما ينفعنا، فلا حرج عليه، بل من محض الإيمان إن شاء الله، وصدق اليقين أن يكون قصدك أن تنتفع بعبادتك لله عز وجل؛ لأنك أنت المستفيد أولاً وآخراً، والله عز وجل هو الغني، وكون المسلم يعبد الله ويرجو ثوابه ويحبه ويخشاه، ثم يحتسب ذلك ويريد ثوابه ويرجو فائدة ذلك في الدنيا والآخرة فهذا من أعظم المقاصد الشرعية التي يحتسب بها المسلم إلى الله عز وجل، بل إن من أعظم المقاصد التي تتوجه إليها القلوب توجهاً صحيحاً أن يكون المسلم يتطلع إلى ثواب الله وإلى جزاء في عمله، وأن يتطلّع إلى السعادة في الدنيا والآخرة كما ذكر الشيخ. وأما قوله: (فالرب يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به)، فهذه العبارة فيها شيء من الغموض تحتاج إلى توضيح، يعني: أن الله يحب العباد الذين يحققون العبودية له، والله يحب من لا تحصل العبادة إلا به ممن أطاعوه واتبعوا شرعه من عباده الصالحين.

أنواع الشرك وضرورة تعاهد الإنسان نفسه خشية الوقوع في الرياء

أنواع الشرك وضرورة تعاهد الإنسان نفسه خشية الوقوع في الرياء قال رحمه الله تعالى: [فالرب يحب أن يُحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك: محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسناً إليهم لله، ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم في الله كان محسناً إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله تحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس. وكذلك إذا رجاهم فهم لا يُعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفاً من الله عز وجل، وهذا موجود كثير في الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضاً، ويرجو بعضهم بعضاً، وكل من هؤلاء يتظلّم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تُعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصي المختصة كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولا سيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر ماجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى]. قوله: (ماجريات النفس)، أي: رغباتها وميولاتها؛ لأن النفس أمّارة بالسوء، وقد ذكر السلف أن للنفس وجوهاً متعددة، أو أن النفوس ثلاثة: منها: الأمّارة بالسوء، وهذه أكثر إلحاحاً على الإنسان؛ لأنها هي التي تستجيب لأهواء ورغبات النفس، ووساوس الشيطان، وهي أشد النفوس وقوعاً في الشهوات والشبهات، ولذا فالرغبات والميولات هي التي تدفع الإنسان إلى أن يرضي نفسه الأمّارة بالسوء. قال رحمه الله تعالى: [فإن الإنسان خُلق محتاجاً إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائماً، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له]. ذكر الشيخ هنا أنواع الشرك، فذكر الشرك الخفي والشرك الجلي، وأغلب ما يشير إليه هنا هو الشرك الخفي؛ لأن أغلب المسلمين يقعون فيه، بمعنى: أنهم يتّبعون أهواءهم ويطيعون رغبات أنفسهم، ويطيعون الناس ويخافونهم ويرجونهم وغير ذلك مما قد لا يصل إلى الشرك الأكبر، ولذلك ينبغي للإنسان دائماً أن يتعاهد نفسه في كل عمل يعمله، بل وفي كل ما يأتي به وما يذر، حتى فيما يفكّر فيه من الأمور غير العملية، أو فيما يخطر على باله من خطرات، فينبغي للمسلم أن يتعاهد نفسه لئلا تقع فيما تستريح إليه النفس الأمّارة بالسوء من المحرمات، وفعل الفواحش وقول الزور والحسد والهزل وإضاعة الوقت واللعب ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك مما تُدفع إليه النفس؛ ولأنه ربما يكون فيه شيء كثير من الشرك الخفي؛ لأن الشرك الخفي ليس عليه دليل، لكن من أبرز معاني الشرك الخفي هو الرياء؛ لأنه أخفى الأعمال، ولأن الإنسان قد يظهر بمظهر حسن أو مستقيم في حين أنه فيما بينه وبين ربه قلبه منصرف إلى العباد، لكن كل ما توجه به الإنسان إلى غير الله عز وجل من الرغبات والخوف والرجاء فإنه نوع من الشرك، فإن وصل إلى العبادة فهو شرك جلي، أي: شرك أكبر، وعليه فالشرك درجات كما أن الإيمان درجات، والشرك شعب كما أن الإيمان شعب.

غنى الإنسان وسعادته في طاعة ربه وتوحيده لافتقاره إليه سبحانه

غنى الإنسان وسعادته في طاعة ربه وتوحيده لافتقاره إليه سبحانه قال رحمه الله تعالى: [فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين، عبدت غيره من الآلهة التي يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم، فأشركت بالله بعبادة غيره واستعانته، فتعبد غيره وتستعين به، لجهلها بسعادتها التي تنالها بعبادة خالقها والاستعانة به، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغني عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك كان مذنباً محتاجاً، وإنما غناه في طاعة ربه وهذا حال الإنسان، فإنه فقير محتاج وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلا بد له من ربه، فإنه الذي يسدي مغافره، ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبالتوحيد يقوى العبد ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فلا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد، فإنه لا بد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيراً محتاجاً معذباً في طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يُشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

افتقار العبد إلى التوكل على الله والاستعانة به

افتقار العبد إلى التوكل على الله والاستعانة به قال رحمه الله تعالى: [والعبد مفتقر دائماً إلى التوكل على الله والاستعانة به كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائماً فقره إلى الله، وحاجته في أن يكون معبوداً له، وأن يكون معيناً له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه]. هذه المسألة من المسائل التي كثيراً ما يغفل عنها الناس، ولذلك ينبغي بل يجب على طلاب العلم وخاصة من يتصدون للخطابة والتعليم والوعظ والإرشاد أن يركّزوا على هذه القضية، ألا وهي الاستعانة بالله عز وجل، إذ هي من أعظم أبواب إصلاح القلوب، لا سيما والناس قد بدأت عندهم بعض مظاهر القلق والأمراض النفسية والشعور بالخوف ونحو ذلك، مما جعلهم يلجئون إلى الوسائل غير المشروعة، كالدجل والدجالين وغير ذلك من الأمور التي قد تكون مظهراً من مظاهر ضعف الاستعانة بالله عز وجل. لذا ينبغي على الوعاظ والمرشدين والدعاة أن ينبهوا الناس ويربوهم على مسألة الاستعانة بالله عز وجل دائماً في كل شيء، وأن يبدأ كل مسلم باللجوء إلى الله عز وجل والإلحاح عليه عندما يطرأ عليه أي أمر من الأمور، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ولا يحقرن في ذلك شيئاً، وقد نجد ممن يتنبه ويتفطن لهذه القضية، لكن هذا قليل، وهذا القليل أيضاً قد لا يتفطن إلا بعد أن يصل إلى اليأس والشعور بالإحباط، وخاصة الذين يعانون شيئاً من الأمراض النفسية والجسمية، فإذا لم يجدوا فائدة عند الأطباء أو الرقاة أو الدجالين تفطنوا باللجوء إلى الله عز وجل، وهذا خير، لكن أعظم منه أن يلجأ الإنسان إلى الله عز وجل في كل أمر صغير أو كبير بالدعاء والاستغفار والتوبة، وعمل الصالحات التي تنجيه وتنفعه وتصله بالله عز وجل. ولذا أقول: ينبغي لكل من يعلم الناس ويربيهم ويرشدهم أن ينبه على هذا الأمر كثيراً، لا سيما مع كثرة الظواهر المزعجة في الآونة الأخيرة، وكثرة لجوء الناس إلى غير الله عز وجل واللجوء إلى الأسباب، مع أن بذل الأسباب مطلوب لا شك، لكن لا يعني ذلك الإعراض أو الغفلة عن اللجوء إلى الله عز وجل، فيحسن التنبيه لهذه المسألة العظيمة. قال رحمه الله: [قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175]، أي: يخوّفكم بأوليائه، هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور، كـ ابن عباس وغيره وأهل اللغة كـ الفراء وغيره. قال ابن الأنباري: والذي نختاره في الآية: يخوّفكم أولياءه. تقول العرب: أعطيت الأموال، أي: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون المفعول الأول. قلت: وهذا لأن الشيطان يخوّف الناس أولياءه تخويفاً مطلقاً، ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة، فحذف الأول لأنه ليس مقصوداً. وقال بعض المفسرين: يخوف أولياءه المنافقين، والأول أظهر؛ لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار، فهي إنما نزلت فيمن خوّف المؤمنين من الناس، وقد قال: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ} [آل عمران:175] الضمير عائد إلى أولياء الشيطان، الذين قال فيهم: {فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] قبلها، والذي قال الثاني فسرها من جهة المعنى، وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه؛ لأن سلطانه عليهم، فهو يدخل عليهم المخاوف دائماً، وإن كانوا ذوي عَدَد وعُدَد، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوّفهم الكفار، أو أنهم أرادوا المفعول الأول، أي: يخوّف المنافقين أولياءه، وهو يخوّف الكفار كما يخوف المنافقين، ولو أُريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه، وهو قوله: ((فَلا تَخَافُوهُمْ)). وأيضاً فإنه يعد أولياءه ويمنيهم، ولكن الكفار يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:13] وقال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوّف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين، وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]، وقال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:19] الآية، فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ (أولياءه) هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه السياق، وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوّفه الشيطان منهم. فدلّت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناساً خائفين منهم. ودلّت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، فخوف الله أَمَر به، وخوف أولياء الشيطان نهى عنه، قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُو

[6]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [6] من أعظم مباني العبودية التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاؤه، وهذه هي صفة أتباع الأنبياء الذين وعدهم الله بالنصر لقوة توكلهم عليه، وقد حذر سبحانه وتعالى من التشبه باليهود والنصارى، وما هم عليه من الكفر والضلال الذي سببه الغلو في الدين.

معنى قوله تعالى: (ربيون)

معنى قوله تعالى: (ربيون) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: بعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله تعالى: [ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [آل عمران:165] الآية، وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] الآيات، والأكثرون يقرءون: (قاتل)، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة. وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه الذين ما وهنوا وما ضعفوا، وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان: أحدهما: يوافق الأول، أي: الربيون يُقتلون، (فما وهنوا)، أي: ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم، أي: ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا]. في هذه السطور لا يزال الشيخ يقرر مسألة التوكل على الله عز وجل، وهي من أعظم مباني العبودية، فهو رحمه الله من أول الكتاب يقرر مسألة العبودية والإلهية لله عز وجل، ولا يزال يقرر مسألة التوكل حتى في هذا المقام، وهو هنا يقرر أن الذين ما ضعفوا ولا استكانوا، ونصرهم الله عز وجل أو وعدهم بالنصر لقوة توكلهم، هم الخلص الذين كانوا مع الأنبياء؛ لأنهم حققوا التوكل الذي هو من أعظم مباني العبودية، مع أن الشيخ بعد قليل سيقرر في هذه المسألة معنى الربّيون وأقوال الناس فيها، وهي استطراد منه رحمه الله لاستكمال الموضوع. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل معه ربيون كثير، فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يناسب صراخ الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كُثّروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة. وأيضاً لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون: ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون. وأيضاً فقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} [آل عمران:146] يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرف أن أنبياء كثيرين قُتلوا في الجهاد. وأيضاً فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتلوا في الغزو، بل ولا يُعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا كثيراً ويكون جيشه كثيراً؟]. هذه فائدة نادرة من شيخ الإسلام، والتي كثيراً ما يتكلم عنها عن علم واستقراء، فقوله: (ولا يُعرف نبي قُتل في جهاد) مبني على استقرائه رحمه الله، بمعنى: أنه لم يرد في النصوص الشرعية التي ذكرت قصص الأنبياء أن نبياً قد قتل في جهاد، فهذه من الدرر التي كثيراً ما يشير إليها شيخ الإسلام في كتاباته؛ لأن الله قد أعطاه علماً وإحاطة بكثير من المراجع، فكان إذا قرأ الكتاب استوعبه، ومع كثرة قراءته كانت كثيراً من استنتاجاته صائبة؛ لأنها مبنية على الاستقراء، ولذلك نجده في حواره مع الآخرين خاصة من أهل الفرق والمذاهب كان أعلم منهم بمذاهبهم، وقد اعترفوا له بذلك، وقد سُطّرت اعترافات كثير منهم ولا تزال موجودة في كتبهم، فاعترفوا له بأنه أعلم منهم بمذاهبهم؛ لأنه كان رحمه الله يقرأ كثيراً ويستوعب ما يقرأ. ولذلك فمثل هذه الفائدة وغيرها كثير، ينبغي أن يحرص عليها طلاب العلم، وأتمنى لو أن أحد طلاب العلم انبرى لجمع مثل هذه الفوائد النادرة في مصنف واحد ليستفيد منها طلاب العلم، سواء في مفردات المسائل أو فيما يتعلق بالأصول والقواعد، أو ما يتعلق بالمناهج، أو ما يتعلق بالمواقف وغير ذلك مما هو لـ شيخ الإسلام من استنتاجات مبنية على استقرائه، فقد كان رحمه الله أحياناً يجزم بناء على استقرائه، وأحياناً يغلّب الظن، لكن غالباً كان يجزم بناء على ما توصل إليه من خلال اطلاعه الواسع. قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه أنكر على من ينقلب، سواء كان النبي مقتولاً أو ميتاً، فلم يذمهم إذ مات أو قُتل على الخوف، بل على الانقلاب على الأعقاب]. لأن هذا ينافي التوكل، وهذا استطراد منه رحمه الله -كما قلت- يستوفي فيه مسألة عارضة. قال رحمه الله: [ولهذا تلاها الصدّيق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.

أوجه ترجيح شيخ الإسلام للمعنى المراد للربيين

أوجه ترجيح شيخ الإسلام للمعنى المراد للربيين قال رحمه الله تعالى: [والأول أصح من وجوه]. يقصد الشيخ بالأول هنا: الأول القريب وليس الأول البعيد، يعني: أنهم العلماء -يدل عليه ما سيأتي- وهو أصح من وجوه. قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم في دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلاً]. هذا فيه تضمين للمعاني السابقة، ولا يزال الشيخ في استصحاب قضية حقيقة العبودية، وأن أعظم مباني العبودية التوكل، فهو يميل إلى أن الربيين بمعنى العلماء؛ لأنهم أقوى الناس توكلاً وتحقيقاً للعبودية لله عز وجل، وقيمة هذا الاستطراد من الشيخ رحمه الله استكمال معنى العبودية والتوكل في الربيين، وأن أخص معانيها وأقواها أنهم العلماء والفقهاء، أعني: أهل الأمر المطاعين، والذين لهم اهتمام بتربية الأمة على عبودية الله عز وجل وإلهيته والتوكل عليه. قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علماً ومعهم الخوف من الله عز وجل. الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفاً في اللغة. الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفاً في اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة: (ربي) بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قُرئ بالضم، فعُلم أنها لغات]. قوله: (بلا نون) يعني: يقال: ربي، ولا يقال: رباني. قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن. السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63] الآية، وفي قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] فهناك ذكرهم به مناسباً. السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحياني، وقيل: إلى تربيته الناس، وقيل: إلى ربان السفينة، وهذا أصح]. قوله: (ربان السفينة)، أي: قائدها ومدبرها، الآمر والناهي فيها، وكأن الشيخ لا يزال يؤيد أن الربيين بمعنى: العلماء والفقهاء، فهم أهل الأمر والنهي، وأهل القدوة، ونلاحظ أن الشيخ كلما أتت دلالة اصطلاحية أو لغوية تؤيد هذا التفسير نجد أنه يميل إليه. قال رحمه الله تعالى: [لأن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص، ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الرباني من يربي الناس كما يربي الرباني السفينة، ولهذا كان الربانيون يُذمون تارة ويُمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يُذموا قط، وهذا هو الوجه. الثامن: أنها إن جُعلت مدحاً فقد ذُموا في مواضع، وإن لم تكن مدحاً لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوباً إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوباً إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان. التاسع: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فلا تدل النسبة على أنهم علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئاً فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يُسموا ربانيين ولا ربيون، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس رضي الله عنهم: اليوم مات رباني هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منه ولم يُسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين. وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره. فهم أهل الأمر والنهي، والأخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه. وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني، نُقل عن علي أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون. قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. وقال ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. قال أبو عبيد: أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل]. نخرج من هذا الكلام بخلاصة تتكون من شقين: الشق الأول: أن شيخ الإسلام يرى أن معنى الرب

فصل في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

فصل في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

حكاية الله لأخلاق وأوصاف اليهود والنصارى والتحذير من اتباعهم والتشبه بهم

حكاية الله لأخلاق وأوصاف اليهود والنصارى والتحذير من اتباعهم والتشبه بهم قال رحمه الله تعالى: [فصل قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)، وكتاب الله يدل على ذلك في مواضع، مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60]]. الآية تشير إلى اليهود وإلى كل من سلك سبيلهم، كما هو معروف في غالب ألفاظ القرآن التي تأتي في وصف أعمال أحد من الناس أو تأتي لسبب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومثل هذه الآية لا شك أنها كانت تحكي أخلاق اليهود وأوصافهم، لكن فيها أيضاً إشارة إلى كل من سلك سبيلهم. قال رحمه الله: [وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]، وقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112]، وقال في النصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]]. الذين ضلوا وأضلوا كما وردت الإشارة إليه في كثير من النصوص، وكما اتفق عليه السلف أو اشتهر عند جمهورهم: اليهود، ومن كان له أثر في تحريف ديانة النصارى، لكن أعظمهم اليهود، فهم أول من حرّف دين النصارى وسعى إلى تحريفه. قال رحمه الله تعالى: [وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. ولما أمرنا الله سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين، كان ذلك مما يبين أن العبد يُخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين، فقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) وهو حديث صحيح. وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى]. وهذا معلوم؛ لأن اليهود انحرفوا عن العلم، بمعنى: أنهم كانوا يعلمون أحكام الله عز وجل، وكانوا على بصيرة من أمرهم، لكنهم انحرفوا عناداً واستكباراً، وكذلك النصارى فقد انحرفوا جهلاً، وكان بسبب انحرافهم تفريطهم في الأخذ بما جاء عن الرسل، فهؤلاء غلوا في ترك ما جاء به الرسل، وأولئك غلوا في الانحراف عما جاء به الرسل. فإذاً: كل من انحرف عن علم ففيه شبه من اليهود، وكل من انحرف عن جهل، بمعنى: أنه فرّط في أخذ ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففيه شبه من النصارى؛ لأنه وقع في الجهل بتفريطه.

نعت الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أرفع مقاماته

نعت الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أرفع مقاماته قال رحمه الله تعالى: [كما يرى في أحوال منحرفة أهل العلم من تحريف الكلم عن مواضعه، وقسوة القلوب، والبخل بالعلم، والكبر، وأمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم وغير ذلك. وكما يرى في منحرفة أهل العبادة والأحوال من الغلو في الأنبياء والصالحين، والابتداع في العبادات، من الرهبانية والصور والأصوات. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ولهذا حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]]. هذا فيه تقرير بأن العبودية هي أعلى المقامات التي يمكن أن يصل إليها البشر، بعكس ما يتوهمه كثير من أهل التصوف والفلسفة، وأيضاً كثير من الجهلة الذين يتوهمون أن التعبد لله عز وجل فيه نوع من القيود والاستذلال للبشر، بل الأمر بعكس ذلك؛ لأن التذلل لله عز وجل بالعبودية هي الكمال الذي يطمع إليه البشر، ولذلك وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى المقامات، وذلك عندما أسرى به إلى بيت المقدس، ووصفه بها عند المقام المحمود الذي وعده الله به يوم القيامة، ووصفه بها في مقام الوحي، ووصفه بها في مقام الصلاة والقيام لله عز وجل بالعبادة. إذاً: فالعبودية لله هي أعلى مقام يسعى إليه البشر، وأعلى مقام يمكن أن يصل إليه بشر؛ لأن ذلك يعني الاستجابة لله عز وجل وتحقيق رضاه. قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، ولهذا يشرع في التشهد وفي سائر الخطب المشروعة، كخطب الجمع والأعياد، وخطب الحاجات عند النكاح وغيره أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله]. الشاهد هنا: الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وأنها من أعظم ما يمكن أن يحتسبه المسلم عند الله عز وجل؛ ولهذا شرع في التشهد وغيره أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فالشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية تعتبر من أعظم ما يحتسبه المسلم ويدين الله به؛ لأن ذلك أعلى المقامات للبشر.

صور العبودية العملية التي ينبغي أن تكون في أعمال الناس وأقوالهم

صور العبودية العملية التي ينبغي أن تكون في أعمال الناس وأقوالهم قال رحمه الله تعالى: [وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق عبوديته؛ لئلا تقع الأمة فيما وقعت فيه النصارى في المسيح من دعوى الألوهية]. سيذكر الشيخ صوراً أربعاً من الصور العملية للعبودية التي يغفل عنها كثير من الناس، ويظنونها من باب الأحكام أو أنها من باب المنهيات أو نحو ذلك، في حين أنها من أعظم صور العبودية التي ينبغي أن تكون في أعمال الناس وفي أقوالهم، سواء كانت قولية أو فعلية. قال رحمه الله: [حتى قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده). وقال أيضاً لأصحابه: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد). وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)]. الصورة الأولى: قوله: (ما شاء الله)، ثم ذكر تبعاً لذلك صوراً من صور الإخلال بجوانب العبودية، وهو قوله: (وشئت)، فـ: (ما شاء الله) تحقيق للعبودية لله عز وجل، وعطف مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره على مشيئة الله تعتبر نوعاً من الإخلال بالعبودية؛ لأنه هنا لا مشيئة مع مشيئة الله عز وجل، ولأن العطف يقتضي المساواة، ولذلك ينبغي أن يقال: ما شاء الله وحده؛ لأن المشيئة لا عطف فيها. الصورة الثانية: قوله: (ما شاء الله وشاء محمد)، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو قول، لكن القول لا ينبع إلا عن اعتقاد، ولذلك صحح النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وهو تصحيح للاعتقاد والقول. الصورة الثالثة: متمثلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). فهذا نوع من تحقيق العبودية لله عز وجل، والإخلال به إخلال بالعبودية، وعلى هذا فلا يجوز اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، يعني: مكاناً للتقديس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لم يعد له تصريف أو تدبير أو نفع مباشر للبشر، وإنما نفعه صلى الله عليه وسلم كان في حياته، واتخاذ قبره عيداً هو نوع من البدعة التي تؤدي إلى تعظيمه وتقديسه فيما لا يجوز إلا لله عز وجل، وحتماً سيؤدي عند الجهلة إلى دعائه من دون الله عز وجل، وممارسة الأعمال التي تخل بتوحيد الإلهية أو تنقيص الربوبية. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)؛ لأنهم في بنائهم للمساجد على القبور قد فتحوا ذريعة لتقديس القبور، ودعاء أهلها من دون الله عز وجل، والتوجه إليها بالصلاة وغير ذلك، وقد وقع ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك القوم المبتدعة الذين بنوا وشيدوا المساجد على القبور، لذا فأهل البدع معلوم أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأن قلوبهم قد مرضت بالبدع، حتى إن عامة الناس الذين ابتليت بلادهم بوجود المساجد على القبور ظنوا أن لصاحب القبر من القدرة ومن الأحوال التي يتصرف فيها ما لم يكن قبل ذلك، وظنوا أن لصاحب القبر اعتباراً، بل وظن بعضهم أن ذلك يعني: التوجه إليه في الصلاة، وظن آخرون أن ذلك يعني الدعاء عنده أو عند قبره، وآخرون دعوا المقبور أو المدفون من دون الله عز وجل، واستعانوا واستغاثوا به من دون الله، فوقع الشرك والبدعة من خلال ذلك، فهذا إما مناف لتوحيد الألوهية كالشركيات، أو ينقص توحيد الإلهية كالبدع والتبرك وغير ذلك، والمساجد إنما هي بيوت الله للعبادة، وهي محترمة ومعظّمة، فإذا وجد القبر في المسجد فلا يعني ذلك إلا التوجه إلى صاحب القبر بشيء من هذه الأمور الشركية أو البدعية، وهذا كما تعلمون منقص لتوحيد الله.

وقوع الغلو في الأمة في طائفتي الشيعة والصوفية

وقوع الغلو في الأمة في طائفتي الشيعة والصوفية أخذ الشيخ رحمه الله في بيان أمر عظيم يقع من خلاله الشرك بالله عز وجل، وهو: الغلو في الأئمة والرجال، إذ إنه يعتبر وسيلة إلى الشرك، وأحياناً يعتبر من أبواب الشرك، وهو مخل أو منقص لتوحيد الإلهية؛ لأنه قد يصل إلى التقديس -وهو الغالب- كما عند الرافضة والصوفية، وقد يصل إلى حد التبرك البدعي أو نحو ذلك، وهذا كله ينقص توحيد الإلهية. قال رحمه الله تعالى: [والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلّال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جُهّال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين، فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئاً من الألوهية والربوبية، فهو من جنس النصارى].

حقوق الأنبياء على الخلق

حقوق الأنبياء على الخلق قال رحمه الله تعالى: [وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم، قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] والتعزير: النصر والتوقير والتأييد].

حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على الخلق

حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على الخلق [وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8 - 9]، فهذا في حق الرسول. ثم قال في حق الله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]. وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24]. وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، كما قال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]. وقال: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]. وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]. وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وقال له عمر رضي الله عنه: والله يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر). فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضا بحكمه، والتسليم له، واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق]. في هذه الخلاصة الأخيرة بيّن الشيخ مجمل حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ عدها اثني عشر حقاً: الطاعة، المحبة، التعزير، التوقير، النصرة، التحكيم، أي: تحكيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ثم الرضا بحكمه، والتسليم له، والاتباع، والصلاة والسلام عليه، وتقديمه عليه الصلاة والسلام على النفس

العبادة والاستعانة والتوكل والدعاء لله وحده

العبادة والاستعانة والتوكل والدعاء لله وحده قال رحمه الله تعالى: [فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له، كما قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]. وقد جمع بينهما في مواضع، كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]. وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. وكذلك التوكل كما قال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. والدعاء لله وحده، سواء كان دعاء العبادة، أو دعاء المسألة والاستعانة، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن:18 - 20]، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]. وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]. وقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]. وذم الذين يدعون الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]، روي عن ابن مسعود: أن قوماً كانوا يدعون الملائكة والمسيح وعزيراً، فقال الله: هؤلاء الذين تدعونهم يخافون الله ويرجونه، ويتقربون إليه كما تخافونه أنتم، وترجونه وتتقربون إليه، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]. وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ} [النمل:62]. وقال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]]. في هذا المقطع وقبله بدأ الشيخ في تعداد أنواع العبادة، أو في تعداد نماذج من أنواع العبادة، وأنواع العبادة في الحقيقة لا حصر لها، لكن يمكن أن توضع لأنواع العبادة أصولاً، وقد بدأها الشيخ أولاً بمسألة الاستعانة بالله عز وجل، ثم التوكل، ثم الدعاء، أعني: دعاء المسألة، أو دعاء العبادة، ثم بعد ذلك سيأتي بنماذج أخرى فيما بعد.

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما عليه الصوفية من الانحراف في العبادة والسلوك

بيان ما عليه الصوفية من الانحراف في العبادة والسلوك Q كثير ما يرد في كلام شيخ الإسلام عند الكلام عن الابتداع ذكر الصور والأصوات، فما المراد بذلك؟ A لا أدري، إلا إذا كان قصد السائل أن شيخ الإسلام يذكر هذا غالباً عند ذكر الصوفية، فإن كان قصده ذلك فإن هناك طائفة منهم يتعبدون بالنظر إلى الصور الجميلة، ويقولون: هذه عبادة لله عز وجل، فدخل عليهم الشيطان من باب التلذذ بالمحرم من أجل أن يستهويهم، فجعلوا ذلك عبادة، وقلبوا الأمر حتى جعلوا الكبيرة حسنة، بل عبادة لله عز وجل، ولذلك وقعوا في الفواحش نسأل الله العافية، وكذلك التلذذ بالأصوات، فقد يتعمدون أحياناً أن تقرأ أورادهم البدعية بصوت جميل لا لمجرد ترقيق القلوب، وإنما للتلذذ الشهواني بالأصوات، ويزعمون أن ذلك من التعبد لله سبحانه، وهذا ما عليه طوائف كثيرة من أهل الطرق الصوفية، نسأل الله العافية.

الفرق بين غلو الرافضة والصوفية

الفرق بين غلو الرافضة والصوفية Q هل هناك فرق بين غلو الرافضة والصوفية؟ A لا فرق في الحقيقة، وإنما الفرق في الشكليات، فكلهم يعتقدون في الأشخاص أنهم يعلمون الغيب أو بعض الغيب، كما يعتقدون أنهم يملكون الضر والنفع من دون الله عز وجل، أحياء وأمواتاً، ويعتقدون في الأشخاص أنهم يصرّفون مقاليد الكون أو شيئاً من مقاليد الكون، وأن بيدهم أمور العباد أو بعض أمور العباد، لكن مع ذلك فإن الأشكال والصور تختلف، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[7]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [7] توحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته من أعظم مباني العبودية، ولذا كانت الاستعانة والخشية والإنابة لا تنبغي إلا لله، وكذلك سائر العبادات كأركان الإسلام، وغيرها لا ينبغي أن تصرف لغير الله تعالى، فينبغي الحذر من الوقوع في الشرك بأنواعه.

إخلاص الدين لله عز وجل هو قلب الدين والإيمان

إخلاص الدين لله عز وجل هو قلب الدين والإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا في مسألة تحقيق العبودية، وقد تناولنا في الفصل السابق بيان حقيقة العبودية وبيان أوجه تحقيقها، وقد ذكر الشيخ كثيراً من هذه المسائل، ثم توقف عند توحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته، وأن ذلك من أعظم مباني العبودية. قال رحمه الله تعالى: [وتوحيد الله، وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته، في القرآن كثير جداً]. سيبين الشيخ هنا أن من معاني الإخلاص عدم الإشراك بالله عز وجل، وخاصة أن أهل البدع قد يفهمون أن معنى الإخلاص: مجرد حسن النية دون الاتباع والاستقامة، أو ربما يفهمون معنى الإخلاص: تجريد الأمر لله عز وجل ولو كان العمل مخلاً بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان العمل صحيحاً، بمعنى: أنهم قد يلجئون إلى غير الله عز وجل، استعانة أو استغاثة أو غيرها، ويدّعون أنهم يخلصون الدين لله، فالشيخ هنا يبين أن معنى إخلاص الدين لله عز وجل: ألا تصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: [بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، وقال: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عند الموت أحد إلا وجد روحه لها روحاً)، وقال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة)، وهو قلب الدين والإيمان]. قوله (وهو) يعني: الإخلاص. ثم قال رحمه الله: [وسائر الأعمال كالجوارح له، وقول النبي صلى الله عليه، وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فبيّن بهذا أن النية عمل القلب وهي أصل العمل، وإخلاص الدين لله، وعبادة الله وحده، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به، مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد ونحو ذلك. وكذلك ما يفعله كثير من الناس، من استنجاد الصالحين والمتشبهين بهم، والاستعانة بهم أحياء وأمواتاً، فإني أنكرت ذلك في مجالس عامة وخاصة، وبيّنت للناس التوحيد، ونفع الله بذلك ما شاء الله من الخاصة والعامة].

المعنى الخاص بالإسلام

المعنى الخاص بالإسلام قال رحمه الله تعالى: [وهو دين الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم)، وقال لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)]. الإسلام هنا بمعنى: التسليم والإذعان، ولذلك لما ذكر الإسلام هنا مع أنواع العبادة وأصناف العبادة فإنما يعني به تسليم القلب المتمثل بالتصديق والإذعان والخضوع والذل لله سبحانه، وهذا معنى خاص بالإسلام؛ لأن الإسلام يشمل على معنيين: المعنى الإيماني القلبي الذي هو نوع من أنواع العبادة، ونوع من أعمال القلوب، وهو الإذعان والتسليم والخضوع، والمعنى العام الذي هو الإسلام والدين الشامل، والذي أكثر ما يتوجه إلى الأعمال الظاهرة، فهو هنا رحمه الله يقصد المعنى الخاص بالإسلام، أي: إسلام القلب المتمثل بالتسليم والإذعان لله عز وجل.

الخشية والإنابة من العبادة

الخشية والإنابة من العبادة قال رحمه الله تعالى: [ويدخل في العبادة الخشية والإنابة والإسلام والتوبة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:80 - 82]، وقال: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة:13] إلى قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور:52] وقال نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]. فجعل العبادة والتقوى لله، وجعل له أن يُطاع، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وكذلك قالت الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ))، فجعلوا التقوى لله، وجعلوا لهم أن يطاعوا، وكذلك في مواضع كثيرة جداً من القرآن: (اتقوا الله)، (اتقوا الله)، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وكذلك وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]، وقال عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقالت بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة:112]، وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور:31]، {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، وقال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]].

الصور الكبرى للعبادة وغيرها من الصور

الصور الكبرى للعبادة وغيرها من الصور قال رحمه الله تعالى: [والاستغفار: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3]، والاسترزاق والاستنصار كما في صلاة الاستسقاء والقنوت على الأعداء، قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]، وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، والاستغاثة كما قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، والاستجارة كما قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88 - 89]، والاستعاذة كما قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، وقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل:98] الآية، وتفويض الأمر كما قال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وفي الحديث المتفق عليه في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقال عند المنام: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك). وقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4]، فالولي الذي يتولى أمرك كله، والشفيع الذي يكون شافعاً فيه، أي: عوناً، فليس للعبد دون الله من ولي يستقل ولا ظهير معين، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، وقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43 - 44]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ُ} [سبأ:22 - 23]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]]. في هذه النصوص استعرض الشيخ أنواعاً كثيرة من أنواع العبادة، فبعضها قد يتفرع من بعض، وبعضها قد يكون من القواعد الشاملة، وبعضها قد يكون داخلاً في توحيد العبادة البحتة، وبعضها داخلاً في توحيد الربوبية، وبعضها داخلاً في توحيد الألوهية، وبعضها يجمع بين نوعي التوحيد إلى آخر ذلك. فالشيخ هنا أراد أن يعدد صور العبادة، لا سيما تلك الصور التي قد يظن بعض الناس أنها غير داخلة في العبادة دخولاً أولياً، كطلب الرزق، فهو رحمه الله قد ذكر الصور الكبرى مثل: المحبة والخشية والرجاء، وهذه جماع أصول العبادة، وهي ما يسميها أهل العلم بأركان العبادة، وكل بقية هذه الصور التي ذكرها هي أنواع من أنواع العبادة، ولذلك الصحيح أن أنواع العبادة لا حصر لها، فكل ما يتوجه به العباد إلى الله عز وجل من العبادة المتعلقة بمحبته سبحانه، أو المتعلقة برجائه، أو المتعلقة بخشيته وما يتفرع عن هذه الأمور من الاستعانة والتوكل وغيرها، كل ذلك من أصول العبادة، وراجع إلى تأليه الله عز وجل وإفراده بالألوهية والربوبية. ولذلك ذكر من الصور: الاسترزاق والاستنصار كما

أصناف العبادات

أصناف العبادات

السجود لغير الله صورة من صور الشرك الأكبر

السجود لغير الله صورة من صور الشرك الأكبر قال رحمه الله تعالى: [وأصناف العبادات الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها، من السجود، والركوع، والتسبيح، والدعاء، والقراءة، والقيام، لا يصلح إلا لله وحده. ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده، لا لشمس، ولا لقمر، ولا لملك، ولا لنبي، ولا صالح، ولا لقبر نبي ولا صالح، هذا في جميع ملل الأنبياء، وقد ذُكر ذلك في شريعتنا حتى نُهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه أن يسجد له، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها)، ونهى عن الانحناء في التحية، ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد]. هذه الأمور منها ما هو شرك ومنها ما هو ذريعة للشرك، والصورة التي ذكرها الشيخ هنا: السجود للشخص، فقد يكون أحياناً من باب التعظيم والتقدير، لكنه صورة من صور الشرك الأكبر، ولما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يجوز، لم يعد لأحد حجة بأن يفعل ذلك تعظيماً؛ لأن الظاهر أن معاذاً رضي الله عنه كاد أن يسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى بعض الأمم المعظّمة لملوكها وشيوخها تسجد للأشخاص، ويستبعد أن يكون قصده سجود العبادة، وإنما ظن أن هذا نمط من أنماط التحية والتقدير، ومع ذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن السجود لا يكون إلا لله، ولما توافرت النصوص من الكتاب والسنة على أن السجود ونحوه من أنواع العبادة كالطواف، والتي ظاهرها لا تكون إلا طاعة محضة لله عز وجل، عُرف أن ذلك يكون شركاً إذا كان لغير الله، لكن الحكم على المعيّن يحتاج إلى إجراء ضوابط التكفير المعروفة، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الصور الشركية الواضحة وعن غيرها مما يؤدي إلى الشرك، مثل: الانحناء في التحية، فهو ليس شركاً ما لم يصل إلى حد الركوع، لكنه ذريعة إلى الشرك والتعظيم والغلو الذي لا يجوز أو الذي يتجاوز الحد الشرعي، ولذلك كثير من الناس لا يفرّق بين الصور التي هي من باب سد الذرائع وبين الصور الشركية البحتة، بل حتى الصور الشركية البحتة فإن كثيراً من طلاب العلم في الآونة الأخيرة صاروا يخوضون فيها بغير علم، ويحمّلون كلام العلماء ما لا يحتمله، وصار كثير منهم يحكم على كل من عمل شركاً ظاهراً بالشرك مطلقاً، وهذا أمر فيه نظر، مع أنه يسمى شركاً، كالسجود لغير الله، والركوع لغير الله، والطواف بالقبور، لكن لا يلزم أن كل من عملها يكون مشركاً، إلا إذا توافرت القرائن وتبينت الحال، أما إذا لم تتبين الحال فينبغي للناس ألا يتعجلوا، وسأضرب لكم مثلاً حتى يتضح الأمر أكثر وأكثر، ولأن هذه المسألة أصبحت من المسائل التي تثار كثيراً، وتثار أيضاً حولها مسائل علمية أشكلت على كثير من طلاب العلم، بل وأُلّفت فيها رسائل وكتباً، ألا وهي مسألة: هل كل من عمل بالشرك الظاهر يحكم بأنه مشرك مطلقاً؟ إن القواعد الشرعية لا بد فيها من التفصيل، والمثل الذي أوردته ويبين هذه المسألة بإيجاز، كما تتبين به حتى القاعدة، فلو أن إنساناً رأيناه يطوف على قبر مع الناس، ولا نعرف أنه من أهل هذا البلد الذين اعتادوا الطواف بالقبور، أي: أنهم قد نشئوا على البدعة وتمذهبوا بها وتدينوا بها، فهل يحكم بشركه مباشرة؟ أقول: لا؛ لأنه لا بد أن تتوافر عندنا القرائن على أن هذا الشخص لم يكن ممن اعتاد الطواف بالقبور، بل ولا يعرف هذه الأمور، ولأنه ربما يظن أن هذا من مراسم الزيارة، أو ربما يطوف ولا يدري ما الناس يفعلون، أو لا يدري ما معنى هذا الطواف ولا يشعر بالتعبد إطلاقاً، وربما يكون ممن لم يحج أصلاً ولا يعرف معنى الحج والطواف؛ لأنه حقيقة قد يوجد من سذّج الناس وعوامهم من لا يدري عن هذه المعاني، ولذا فالعمل شرك، والإنسان الذي فعل ذلك آثم، لكن يبقى الخلاف: هل يحكم بشركه وخروجه من الملة أم لا؟ هذه مسألة خلافية، والراجح: أننا لا نستطيع أن نحكم بكفر هذا الإنسان الذي يعمل الشرك عملاً طارئاً ما لم يكن متأصلاً فيه أو مداوماً عليه. إذاً: فهذه صورة من الصور، والشيخ هنا أشار إلى حديث معاذ، وهو دليل للفريقين، الفريق الأول الذي يقول: بأنه ليس كل من عمل شركاً فقد أشرك، والفريق الثاني: على العكس، وعليه فالدليل قد يوجه على الوجهين.

بيان كون الزكاة والصدقات والحج والصيام لا يتقرب بها إلا لله وحده

بيان كون الزكاة والصدقات والحج والصيام لا يتقرب بها إلا لله وحده قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الزكاة العامة، من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله، كما قال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]، وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]، وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:265]، وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]، فلا يجوز فعل ذلك على طريق الدين لا لملك، ولا لشمس، ولا لقمر، ولا لنبي، ولا لصالح كما يفعل بعض السُّوال والمعظّمين كرامة لفلان وفلان، يقسمون بأشياء: إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين، كما يقال: بكر وعلي ونور الدين أرسلان والشيخ عدي والشيخ جاليد]. هؤلاء أشخاص معظّمون عند أقوامهم، فبعضهم من شيوخ الطرق أو ممن اتخذتهم الطرق شيوخاً، وبعضهم من لهم جاه عند أقوامهم فعظّموهم من دون الله عز وجل، أو أعطوهم من الخصائص والتعظيم ما لا يجوز إلا لله. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الحج، لا يُحج إلا إلى بيت الله، فلا يُطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، لا يفعل ذلك بنبي، ولا صالح، ولا بقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن. وكذلك الصيام، لا يصام عبادة إلا لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك. وهذا كله تفصيل الشهادتين اللتين هما أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً عبده ورسوله].

أركان العبادة من الخوف والرجاء والمحبة لا تكون إلا لله وحده

أركان العبادة من الخوف والرجاء والمحبة لا تكون إلا لله وحده قال رحمه الله تعالى: [من يستحق إن يؤلهه العباد، ويدخل فيه حبه وخوفه، فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله، وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول]. يشير الشيخ رحمه الله هنا إلى أركان العبادة، ولم يذكر الاسم الثالث، وإنما قال: والإله من يستحق أن يألهه العباد، أي: يعظّمونه ويقدّسونه ويتوجهون إليه بالعبادة وبالرجاء والخوف والخشية، ثم قال: (ويدخل في ذلك -أي: في التألّه الذي هو العبادة- حبه وخوفه)، وكان ينبغي أن يقول أيضاً: ورجاؤه، لكن يحتمل أن الشيخ قد ضمّن الحب معنى الرجاء وهو الغالب، ثم قال: فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله، أي: ما كان من أنواع العبادة كلها، بما في ذلك تحقيق توحيد الربوبية فهو حق محض لله، ولذا نجد أن كثيراً من أنواع العبادة فيها التلازم بين التوحيدين، فمثلاً: طلب الرزق أو طلب العون من الله عز وجل أياً كان نوع العون داخلاً في الربوبية؛ لأنه داخل من طلب أفعال الله، فالله عز وجل هو الرازق وهو المعين، وهذه أفعاله سبحانه، فهو توجه إلى الله عز وجل من جانب الربوبية، وأيضاً من جانب توحيد الألوهية، ولذلك لا تنفك أنواع التوحيد بعضها عن بعض، ومن ظن أن هناك نوعاً من التوحيد يتجرد محضاً عن النوع الآخر فقد غلط؛ لأن أنواع توحيد الربوبية لا بد أن ترجع إلى الإلهية، وكذلك الإلهية تستلزم توحيد الربوبية. وأما قوله: وما كان من أمور الرسالة فهو حق للرسول صلى الله عليه وسلم، فيقصد بذلك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وتصديقه وتوقيره وحبه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى دينه، وكل ذلك حق للرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها أيضاً عبادة لله سبحانه؛ لأن الله تعبدنا بذلك، ويجب ألا ينفك الأمران؛ لأن الذين خلطوا في هذه المسألة إما أنهم عظّموا وقدسوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر مما ينبغي له، بل وأعطوه من خصائص الألوهية التي لا تنبغي إلا لله عز وجل، أو كذلك العكس، بأن جفوا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلوا عباداتهم في طاعة الله فقط، وزعموا أنهم يستغنون عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كغلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية، ولذا فلا بد أن يعرف المسلم أن من تحقيق عبادة الله تعالى وطاعته طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها لا تتحقق العبادة الحقة لله سبحانه إلا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه وتوقيره وتعظيمه وحبه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى دينه وغير ذلك من اللوازم الضرورية التي لا تتم العبادة إلا بها.

الشهادتان أول واجبات الدين

الشهادتان أول واجبات الدين قال رحمه الله تعالى: [ولما كان أصل الدين الشهادتين، كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة، والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة]. لأن القسيسين عبدوا الله على جهل ولم يعبدوه بالاتباع، ونحن نعرف أن العبادة لا تتم إلا بالإخلاص والاتباع، لذا فقد يتوافر عند كثير من القسيسين والرهبان الإخلاص دون الاتباع، ولذلك لم تتوافر عندهم صفة الشهادة التي خصّت بها هذه الأمة؛ لأن هذه الأمة بحمد الله جمعت بين الأمرين: تحقيق العبودية والاتباع، والإخلاص والاتباع أيضاً. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]]. فطلبوا من ربهم إلحاقهم بالشاهدين في هذه الأمور، وهذا دليل على أنهم قبل ذلك لم تتوافر عندهم صفة الشهادة حتى آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك اجتمع عندهم الإخلاص والاتباع، ولذلك لما دخل النصارى في هذا الدين طائعين مستسلمين، واجتمع عندهم الإخلاص والاتباع، طلبوا أن يُكتبوا مع الشاهدين وقد وعدهم الله بذلك. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين كما عليه خُلّص أهل السنة]. يشير الشيخ هنا إلى أن أهل السنة وسلف هذه الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة يقولون: بأن أول واجبات الدين: الشهادتان، وهذه من بدهيات الأمور التي لم تكن تقرر أو تحتاج إلى تأكيد في القرون الثلاثة المفضلة، فالشهادتان بداية التوحيد تقريراً واعتقاداً وعملاً، وكان هذا هو الأصل، وعليه المسلمون جميعاً، عوامهم وعلماؤهم، حتى جاءت الفرق الكلامية من الجهمية والمعتزلة، ثم من ورثهم في الأصول الكلامية من الأشاعرة والماتريدية، فزعموا أن للتوحيد بدايات غير هذه البدايات، أو أصولاً غير هذه الأصول، فمنهم من زعم أن أول ما يجب على العبد من التوحيد هو النظر والتفكير، وهذا مذهب الفلاسفة، ثم انتقل إلى متكلمة الأشاعرة والماتريدية، حتى قالوا: بأن أول واجب على العبد النظر، ويقصدون بالنظر: أن يفكّر في هذا الكون من خالقه؟ من ربه؟ ثم هل مع الله إلهاً آخر أم لا؟ حتى يتحقق توحيد الربوبية، ثم يقفون عند هذه النهاية ولا يعوّلون على توحيد الإلهية! وهذا ابتلاء من الله عز وجل وعقوبة عاجلة نسأل الله العافية؛ لأنهم حينما علّقوا قلوب الناس بغير الله عز وجل أو بغير عبادة الله وقعوا فيما وقع فيه كثير من أهل البدع، بحيث لم يوفقوا للوصول إلى الحق؛ لأنهم ساروا على جادة وعرة قرروا فيها البدهيات التي يعرفها أبسط الناس، كوجود الله ووحدانيته في الربوبية، ولم يعرفوا هذا الأصل العظيم، أعني: أن أول مباني الدين هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتوحيد العبادة، ثم توحيد الربوبية والأسماء والصفات وغير ذلك. والمهم أنه يشير بهذا إلى مذهب المتكلمين الذين قالوا: إن أول واجب على العباد، وأول أساسيات الدين، وأول مسائل التوحيد النظر أو القصد إلى النظر، بل بعضهم غلا في ذلك حتى قال: إن من لم يعرف ذلك فليس على التوحيد، مع أننا نعرف أن عامة المسلمين لم يفكروا في هذه الأمور؛ لأنها أمور مغروسة في الفطرة قد كفاهم الله إياها، وإنما أُمروا أن يعبدوا الله بما شرع. قال رحمه الله تعالى: [وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما]. هنا يقصد بـ (عبد القادر): عبد القادر الجيلاني أو الجيلي كما يقول بعضهم. قال رحمه الله تعالى: [وجعله أصل الشرك]. كلمة: (وجعله) يبدو لي أنها: (وجهله)؛ لأنه ربما يكون هناك خطأ مطبعي، وعليه فيكون المعنى: والجهل بهذا الأصل، أعني: الشهادتين، هو أصل الشرك.

التنبيه على مسألتين من أهم المسائل

التنبيه على مسألتين من أهم المسائل قال رحمه الله تعالى: [وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين، كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود، وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] فيريدون أن يجعلوا السماع جنساً واحداً، والملة جنساً واحداً، ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه، ولا بين المأمور به والمنهي عنه. فالسماع الشرعي الديني سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره، كما قال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وقال أبو موسى رضي الله عنه: (لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً). والصور والأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى].

المسألة الأولى: الخلط في القدر المشترك سبب لضلال أغلب الفرق في توحيد الإلهية وما يستتبعه من توحيد الأسماء والصفات

المسألة الأولى: الخلط في القدر المشترك سبب لضلال أغلب الفرق في توحيد الإلهية وما يستتبعه من توحيد الأسماء والصفات نبه الشيخ هنا على مسألتين من أهم المسائل: الأولى: أن أغلب هؤلاء الذين ضلوا في توحيد الإلهية وما يستتبعه من ضلال في توحيد الأسماء والصفات وغير ذلك، قد ضلوا من باب خلطهم في القدر المشترك، ويقصد بالقدر المشترك عدة أمور: أولها: أنهم قاسوا الخالق بالمخلوق، وبنوا على قياسهم اللوازم الفاسدة التي انبنت على تصورات الفلاسفة في الله عز وجل، وتصورات الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام، يعني: أنهم أخذوا بالقدر المشترك بين الحق وبين الباطل، فأرادوا أن يوفّقوا بين الحق والباطل، فلفّقوا فصار الأمر ليس على وجه الحق الخالص الذي أراده الله عز وجل. ثانيها: ما فعله كثير من الفلاسفة وخاصة ما يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ويبدو أن الشيخ أرادهم هنا، وأراد من تبعهم من المتصوفة وغيرهم الذين زعموا أنه يلزم التوفيق بين أصول الفلاسفة وبين الشريعة، فعملوا بالتلفيق الذي أخرجهم عن مقتضى الشريعة، ولم يجعلهم أيضاً مرضيين عند الفلاسفة، بل صاروا منافقين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فالقدر المشترك إذاً يبدأ أولاً بالقدر المشترك في الجوانب الفلسفية والجوانب الإلهية والوجود وأنواع التوحيد، ثم القدر المشترك أيضاً فيما يتعلق بالشريعة وأفكار الفلاسفة وغير ذلك؛ لأنه قال: (الذي فيه مشابهة الصابئة أو النصارى أو اليهود)؛ لأن جميع أهل الأهواء -وهذه مسألة مهمة جداً أرجو التنبه لها- حينما أُعجبوا بما عليه الصابئة والمجوس واليهود والنصارى، أرادوا أن يبحثوا عن مثله في الإسلام، فوجدوا بعض المتشابهات اللفظية والمعنوية، فأرادوا أن ينسبوا ما في الإسلام إلى هذه الديانات، وينسبوا ما في هذه الديانات إلى الإسلام نفسه، وذلك كما حصل أخيراً في العصور المتأخرة عند بعض جهلة المسلمين الذين أرادوا أن يوفّقوا بين المذاهب المعاصرة وبين الإسلام، فأرادوا أن يكون الإسلام اشتراكياً، وأن يكون الإسلام قومياً، وأن يكون الإسلام وطنياً، وأن يكون الإسلام كذا وكذا، وكل هذا لجهلهم؛ لأنه لا يمكن التوفيق بين المبادئ الإنسانية الأممية الجاهلية وبين مبادئ الإسلام، وهذا هو نفسه الأسلوب الذي وقع من أهل الافتراق الأوائل ومن الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام، والفلاسفة الذين جاءوا من بعدهم، وهو الخلط في القدر المشترك، بين ما يوجد عند أهل الحق من معانٍ وأصول ومناهج، وبين ما يوجد عند أهل الباطل من معانٍ وأصول ومناهج. إذاً: القدر المشترك أحياناً يكون لفظياً، وأحياناً يكون بالالتباس، وأحياناً يكون جهلاً عند السامع وغيره.

المسألة الثانية: في الكلام عن السماع

المسألة الثانية: في الكلام عن السماع الثانية: الكلام عن السماع، والشيخ هنا رحمه الله أراد أن يبين أن كثيراً من الذين وقعوا في التعبد بما لا يرضي الله عز وجل، وخاصة أصحاب الطرق الذين كان الأمر عندهم فيه التباس، أي: أنهم أخذوا ما أمر الله به من تحسين الصوت بالقرآن، ومن سماع القرآن، وما ينبغي فيه من آداب، وما ينبغي فيه من الأمور الغيبية والأمور الأخرى، فخلطوا هذا بكل صوت يحلو لهم، وظنوا أنهم متعبدون بالسماع إطلاقاً، أي: سماع أي شيء حتى غير القرآن، وظنوا أن التلذذ -وهو استدراج من الشيطان- بالسماع والأصوات المطربة نوع من العبادة، ثم أيضاً نقلهم الشيطان إلى أمر آخر، وهو أنهم صاروا يتلذذون بالنظر إلى الصور المحرمة، حتى إن بعضهم نسأل الله العافية صار يفعل الفواحش ويظن أن هذه من الكرامات! وهذا من مداخل الشيطان عليهم، بل حتى صاروا يتعبدون الله بالكبائر نسأل الله العافية. كما أنهم أيضاً أدخلوا من باب التعبد بالسماع كثيراً من البدع يقررون فيها الباطل، مثل: تقديس الرسل والأولياء والصالحين، والتغني بأصولهم ومبادئهم الفاسدة بأشعار مطربة، فتدخل قلوب العامة وتشربها فتكون ذريعة إلى البدع بل إلى الكفر، ويدّعون أن ذلك من باب السماع الذي يشبه تأمل القرآن والسماع لآياته، وفرق بين هذا وذاك. إذاً: هم توسعوا في معنى السماع حتى أدخلوا الكفريات والشركيات والبدع، وصاروا غالباً لا يتعبدون الله إلا بهذا الأسلوب. قال رحمه الله تعالى: [والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، وينهى أن يشبّه الأمر الديني الشرعي بالطبيعي البدعي، لما بينهما من القدر المشترك كالصوت الحسن ليس هو وحده مشروعاً حتى ينضم إليه القدر المميز كحروف القرآن، فيصير المجموع من المشترك والمميز هو الدين النافع]. قوله: (يصير المجموع)، بمعنى: أنهم عندما خلطوا بين القدر الشرعي والقدر غير الشرعي صار هذا من المجموع المشترك، لكن يتميز الحق بأن السماع السني الذي يكون على ما يرضي الله عز وجل، فهو سماع لآيات الله عز وجل بالضوابط الشرعية المعروفة. (والمميز) يعني: كلام الله عز وجل الذي يستحق أن يتغنى به، وأن يُسمع سماعاً تتوافر فيه الشروط والضوابط الشرعية. وأما التعبد بالسماعات الأخرى بما يشبه التعبد بالقرآن، فلا شك أنه من مناهج أهل البدع التي ضلوا بها عن الحق نسأل الله العافية. وقد ذكر الشيخ في المقطع السابق أن العبادة -من خلال الأمثلة التي ذكرها- شاملة لجميع ما يتوجه به المسلم إلى الله عز وجل، فأركان الإسلام ذكر منها: الصلاة والزكاة والشهادتين والحج، وكذلك الصيام، وعلى هذا فإن أركان الإسلام لا شك أنه يجتمع فيها العمل القلبي وعمل الجوارح، والعمل القلبي هو من أنواع العبادة في أركان الإسلام، وكذلك عمل الجوارح، وليس الأمر متعلقاً أيضاً فقط بالأركان، أعني: أركان الإيمان وأركان الإسلام والأحوال القلبية، بل كل حركات المسلم وسكناته التي يحتسبها لله عز وجل كلها عبادة، حتى الأمور الدنيوية المعاشية، فإذا وجدت فيها النية الخالصة، وهي على ما يرضي الله عز وجل وعلى شرعه، فهي من أنواع العبادة، ولذلك أشار الشيخ إلى طلب الرزق، سواء كان طلب الرزق بالدعاء أو بالأسلوب الشرعي المعتاد، فكل ذلك من أنواع العبادة؛ لأن العبادة تشمل كل ما يعمله المسلم من أعمال القلب وأعمال الجوارح، لكن هناك ما هو أقرب إلى معاني العبادة المحضة، فالأعمال القلبية هي عبادة محضة، وأعمال الجوارح هي ثمرات للعبادة، ويختلط فيها المعنيين: التوجه والقصد، والعمل الدنيوي البحت، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين التوكل والاستعانة

الفرق بين التوكل والاستعانة Q ما الفرق بين التوكل والاستعانة، وهل بينهما تداخل؟ A هذه مسألة خلافية كبيرة بين أهل العلم، والظاهر -والله أعلم- أن الاستعانة أعم من التوكل، وأن التوكل جزء من الاستعانة؛ لأن الله عز وجل قال في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ثم فصّل أحوال التوكل بعد ذلك في كتاب الله عز وجل، مع أن الاستعانة أحياناً تطلق على العمل الجزئي، لكن الاستعانة بمعناها الشامل أعم من التوكل، والتوكل هو نوع من أنواع الاستعانة، وبينهما تداخل، فالتوكل استعانة والاستعانة توكل، والله أعلم.

حكم أهل السماع

حكم أهل السماع Q هل أهل السماع كفار أم لا؟ A أهل السماع يتفاوتون، فإذا كان سماعهم يتعلق بالأمور الشركية، مثل: تعظيم غير الله عز وجل، ودعاء المخلوقات من دون الله عز وجل، أو مثل: التعبد بالمحرمات تعبداً يصل إلى حد اعتقاد أنها مشروعة، وأن الله قد حللها لهم، فهذا لا شك أنه -وهذا كثير ما يحدث لأهل السماع- كفر، مع أن الصوفية يفصّل فيهم، فمن الصوفية ما هي بدع شركية، ومنها ما هي بدع مغلظة، ومنها ما هو دون ذلك، بل مجرد التسمي والانتماء للتصوف بحد ذاته بدعة؛ لأن من انتمى لغير الإسلام والسنة فقد ابتدع، لكن إذا كان لا يترتب على هذا الانتماء وقوع في البدع، وأنا أفترض هذا افتراضاً، وإلا فأنا ما رأيت منتسباً للصوفية ليس عنده بدعة، وإن رأى أحد منكم من ينتسب إلى الصوفية وليس عنده بدعة فليفدنا، لكن على حد علمي لا أعرف أحداً ممن ينتسب إلى الصوفية وليس عنده بدعة؛ ولذا من باب الاحتياط نقول: إن من انتسب إلى الصوفية فانتسابه بحد ذاته بدعة، لكن إذا لم يعمل بالبدع فأمره أسهل.

الطريق لمعرفة الله عز وجل

الطريق لمعرفة الله عز وجل Q قول أبو الخطاب عندما سئل: بماذا يعرف المكلف ربه؟ فأجاب: بالنظر الصحيح المرشد، فما رأيكم في ذلك؟ A هذا أيضاً من كلام أهل الكلام، والله عز وجل ليس طريق معرفته فقط هو النظر، بل طريق معرفته هو اتباع الرسل، والاهتداء بما جاء في القرآن والسنة، وبتوحيده سبحانه، وبإخلاص العبادة له.

المقصود بالأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى وعلاقة ذلك بالصوفية

المقصود بالأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى وعلاقة ذلك بالصوفية Q ما المقصود بالأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى؟ A يقصد بهذا أن الصوفية يخلطون بين المشروع والممنوع، فإنهم حينما أباح الله للناس الاستمتاع بالأزواج والسراري -والسراري: الإماء من النساء التي يمتلكهن الرجال بالرق- جعلوا هذا ذريعة إلى التمتع بالأمور البدعية، بل وتوسعوا في جانب التمتع، وظنوا أن التمتع بحد ذاته -حتى لو بدون ضابط شرعي- عبادة، وصاروا يستسيغون لأنفسهم النظر إلى الصور المحرمة، سواء إلى النساء أو إلى المردان وغير ذلك، ويقولون: هذا عبادة؛ لأن هذا من خلق الله والنظر إلى خلق الله عبادة، وهكذا لبّس عليهم الشيطان، وهذا ما أراد الشيخ الإشارة إليه.

الفرق بين الخشية والخوف

الفرق بين الخشية والخوف Q ما الفرق بين الخشية والخوف؟ A ليس بينهما فرق كبير، لكن الخشية أخص من الخوف، فالخوف إذا وصل عند الإنسان إلى حد الانتهاء عن محارم الله عز وجل والامتناع عما حرمه الله، وإلى حد قمع النفس وضبط غرائزها ونوازعها سمي خشية، والإنسان قد يخاف الله عز وجل ولا يمتنع عن فعل ما لا يرضيه، ولذلك كثير من أهل المعاصي عندهم شيء من الخوف من الله، لكن لم يصل الأمر عندهم إلى الخشية؛ لأن الخشية خضوع القلب والجوارح، والله أعلم.

الشرك أعلى درجات الكفر

الشرك أعلى درجات الكفر Q أيهما أعظم جرماً الشرك أم الكفر؟ A الشرك أعلى درجات الكفر.

الضابط في وصف العبد بالشرك

الضابط في وصف العبد بالشرك Q قولك: بأنه لا يحكم على أحدهم بالشرك ولو أتى مظاهره حتى يستفصل عن حاله، والقرائن الموجبة لوصفه بالشرك، لكن قد يقال بناء على ذلك: إنه لا يمكن وصف أحد بالشرك، فما الضابط في هذه المسألة؟ A لا نقول: لا يمكن وصف أحدهم بالشرك، فالمشركون إذا كانت عادتهم الطواف بالقبور تعبداً فالأصل فيهم الشرك، يعني: أن أصحاب القبورية الذين يرتادون القبور ويطوفون بها فالأصل فيهم أنهم مشركون، لكن أنا أقصد الإنسان الذي جاء إلى بلدة معينة فرأى أهلها يطوفون بالقبور فطاف معهم، وهو قد لا يعلم حرمة ذلك، ولذلك أنا فرّقت بين من يطوف بالقبر من أهل البيئات الذين وجدت فيهم المقابرية، فهؤلاء وقعوا في البدعة عمداً وقلّدوا فيها واتبعوا غيرهم، وحكمهم حكم المتبعين، ولا فرق بينهم وبين من أسس هذه الشركيات. لذلك أقول: الذي افترضناه: أن الناس من قبل لم يكن عندهم وسيلة للسفر السهل، والوصول إلى تلك المناطق، والانتقال فجأة من بيئة إلى بيئة، بل كان الناس يرحلون إلى بلاد أخرى بصعوبة جداً، أما الآن فيذهب الناس إلى تلك البلاد التي يوجد فيها الطواف بالقبور بسهولة، فيذهبون بالمئات والآلف وينتقلون من بيئات نقية طاهرة لا تعرف البدعيات إلى تلك البيئات مباشرة، وقد لا يعرف بعضهم ما الذي يجري، وقد يجهل هذه الأمور، أما الذين عندهم البدعة واستمرءوها فلهم حكم آخر، ومن الصعب أن يقال: لا بد أن يتثبت فيهم في الجملة، لكن مع ذلك الحكم على المعيّن يحتاج إلى ضرورة وضع الضوابط الشرعية، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[8]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [8] من لوازم العبودية الحقة لله تعالى ألا يسأل العبد إلا الله تعالى في كل أموره، وألا يستعين ولا يستعيذ ولا يتوكل إلا على الله. والعبادات مبناها على الإخلاص والمتابعة، فلابد من اجتماعهما حتى تكون العبادة مقبولة عند الله تعالى.

فصل في ألا يسأل العبد إلا الله

فصل في ألا يسأل العبد إلا الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا في الفتاوى لـ شيخ الإسلام في المجلد الأول، وقد وصلنا إلى فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله، وهو امتداد للكلام عن موضوع العبودية، وكما تعرفون أيضاً أن أغلب هذا المجلد بل سائره في تقرير مسائل العبودية، وبيان ما ينافيها، والرد على المخالفين في هذه المسائل.

مشروعية الرقية الشرعية وحكم طلبها من الآخرين

مشروعية الرقية الشرعية وحكم طلبها من الآخرين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله. قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وفي الترمذي: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)، وفي الصحيح أنه قال لـ عوف بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: (لا تسألوا الناس شيئاً. فكان سوط أحدهم يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه). وفي الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)، والاسترقاء: طلب الرقية، وهو نوع من السؤال]. لقد كثر الكلام فيما يتعلق بمسألة طلب الرقية، وخاصة في الآونة الأخيرة مع كثرة فزع الناس إلى الرقاة، وكثيراً ما يرد السؤال عن وصف الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم -أعني: السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب- من كونهم لا يسترقون، وهل هذه من الأمور التي يستطيعها كل إنسان؟ وهل يجب على كل مسلم ألا يسترقي؟ الظاهر من سياق الحديث أن هذا لا يعني عدم جواز الرقية، فالرقية مشروعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي غيره ورقاه جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرقية وأيدها، وذكر لها ضوابط وأوصافاً، وعرض عليه الناس أنواعاً من رقاهم فأقر منها ما يصح ومنع منها ما لا يصح، والذين يخلطون بين وصف السبعين ألفاً وبأنهم لا يسترقون وبين جواز الرقية، يخطئون أشد الخطأ. وعلى هذا فإن المقصود بكونهم لا يسترقون أموراً وإن اُختلف في أكثرها، لكن أغلب أهل العلم الذين شرحوا هذا الحديث يتفقون على جملة أمور في معنى (لا يسترقون)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، ومن جملة هذه الأمور كما قلت أنه لا يشك أحد من أهل العلم بجواز الرقية ومشروعيتها. أيضاً: أن هذا الوصف ليس وصفاً لجميع المسلمين، وإنما هو لأهل العزم، وليس كل الناس يستطيع أن يرقى إلى درجتهم؛ لذا ينبغي لكل مسلم أن يسعى إلى ذلك، وأن يكون من السابقين إلى الخير، وهذا مطلب عزيز يحتاج إلى مواصفات عديدة في الشخص، ولا يكون تركيزه فقط على عامل الرقية، بل يصلح أحوال قلبه وأعماله، وأن تكون صلته بالله عز وجل قوية، وأن يكون دائم السباق إلى الخير عاملاً بالفرائض مقيماً للنوافل، وأن يكون من السبّاقين إلى كل وجوه الخير، ثم بعد ذلك يسدد ويوفق. كما أنهم أيضاً اتفقوا على أن (لا يسترقون) بمعنى: لا يطلبون الرقية، لكن لماذا لا يطلبون الرقية؟! وهل طلب الرقية عيب أم لا؟ هذه مسألة أخرى، والراجح فيها والله أعلم: أن وصفهم بأنهم لا يسترقون، يعني: أنهم من قوة اعتمادهم على الله عز وجل، ومن قوة توكلهم واستكانتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل، ومن قوة توجههم في التعبد إلى الله بقلوبهم وجوارحهم، فإن نفوسهم لا تنزع إلى طلب الرقية أصلاً، ولا يعني: أنهم يتكلفون عدم طلب الرقية، أو أنهم يصبّرون أنفسهم على عدم طلب الرقية، وإن كان هذا قد يكون مقصوداً، لكن المقصود أعظم من ذلك، وهو أنهم لقوة صلتهم بالله عز وجل، وقوة تعلق قلوبهم بالله ينسون طلب الرقية، بل ولا ترد على بالهم أصلاً، حتى وإن أصيبوا بالضر والمرض لا يرد عليهم طلب شيء من الناس، فهم يلجئون إلى الله عز وجل في السراء والضراء. ويبدو لي أن هذا المعنى واضح، وإن كان هذا النص أيضاً يحمل معاني أخرى، لكن هذا المعنى نجده واضحاً في نماذج لسلف هذه الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته الذين اشتهروا بالعبادة، واشتهروا أيضاً بقوة الاعتماد على الله عز وجل، وكذلك كبار التابعين وتابعيهم، نجد منهم نماذج وصل بهم الحال مع قوة الصلة بالله عز وجل وقوة التوكل عليه والاعتماد عليه إلى أن أحدهم لا يفكر أصلاً في أن يطلب الرقية. أما الذين تكلفوا في البحث عن هذا المعنى فيبدو لي أنهم تكلّفوا في أمر لا ينبغي التكلف فيه؛ لأن النص ظاهر.

حكم سؤال الناس الأموال وغيره

حكم سؤال الناس الأموال وغيره قال رحمه الله تعالى: [وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة، كقوله: (لا تحل المسألة إلا لثلاثة)، وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله) الحديث، وقوله: (لا تزال المسألة بأحدهم)، وقوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه) وأمثال ذلك، وقوله: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته) الحديث. فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم فليس من هذا الباب؛ لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه، بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال)، ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة:101]، وكنهيه عن أغلوطات المسائل ونحو ذلك]. أغلوطات المسائل: هي المسائل الصعبة العويصة المتضمنة للأمور المعضلة التي تحمل شيئاً من المحارات التي تحار فيها العقول، أو هي المسائل التي لا تحدث أو لا يتوقع حدوثها، أو هي المسائل الغريبة، كالافتراضات ونحوها، وكل هذه من الأمور التي لا تجوز في الدين. وأما مسألة السؤال فأقول: بعض الناس قد يضيّق ويحصر معنى السؤال الذي لا يجوز شرعاً في التسوّل فقط، بينما الأمر فيما يبدو لي من ظاهر النصوص أوسع من ذلك، فالسؤال حتى لو لم يكن سؤالاً باللسان أو سؤالاً باليد، فأحياناً يكون بالفعل وبالتصرفات التي يعملها المسلم حتى يكون عالة على الناس، وهذه الظاهرة كثرت في الآونة الأخيرة عند كثير من أجيال المسلمين أو أبناء المسلمين، لا سيما الذين تطرأ عليهم بعض الظروف الاقتصادية، فيكون عندهم شيء من الشح في المال بعد الغنى، وهذا كثير في بعض الشباب الناشئين، فقد يقعون في مثل هذا وهم لا يشعرون، بمعنى: أنهم قد تعودوا -هذا راجع إلى سوء التربية- مع الأسف بأن يكفوا مؤنتهم وأحوالهم المادية، وأن تُصرف عليهم المصارف الضرورية وغير الضرورية، فإذا طرأت عليهم أمور أو على بعضهم بقي على الحال التي أبقيناه عليها أشبه بالسائل المحتاج، فلا يسعى إلى أن يسد حاجته أو حاجة من يعول، بل يبقى أشبه بالعالة على الآخرين، على الأقارب أو الأعمام أو الأصدقاء أو الجيران أو غير ذلك. وهذا قد كثر في الآونة الأخيرة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا على ذلك، لا سيما أن كثيراً من الشباب -حتى بعض الشباب الصالحين والمتدينين- يأنفون كثيراً من الأعمال، وهذا خطأ، فيبقى عالة على الناس، ويقترض من هذا ويتدين من هذا، ويطلب أمه وأباه وقد لا يملكون شيئاً، أو يطلب إخوانه ومن حوله من الأقارب وقد لا يملكون شيئاً، مع أنه ينبغي عليه أن يبحث عن عمل مباح، حتى يسد حاجته وحاجة من يعول، وكثير من الشباب الآن حرم الفرص والوظائف؛ لأنه ليس بمستعد أن يعمل بألف أو ألفين أو خمسمائة ريال أو نحو ذلك، وهذا خطأ، بل ينبغي لأي شاب يحتاج للعمل مهما كان الأجر أن يعمل، وهو بذلك مأجور، وقد يعينه الله عز وجل ويسدده، وقد يكون أيضاً هذا العمل وسيلة إلى أن يرتقي إلى ما هو أوسع وإلى ما يطمح إليه. أقول: إن كثيراً من شبابنا اليوم قد حرموا كثيراً من الوظائف؛ بسبب أنهم تعودوا على البذل والعطاء ممن كانوا يقومون على إعالتهم، كما أنهم قد تعودوا أن تكون جيوبهم مليئة، فلا يرضى الواحد منهم أن يعمل بالمبلغ الزهيد، وهذا خطأ، ولذا فإذا ما وجد الشاب ما يسد حاجته إلا بأن يعمل بمبلغ زهيد فليعمل، بل يجب عليه أن يعمل ولا يمد يده كل يوم للناس، حتى في مصاريفه الضرورية، ولذلك فإن هذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق ليس فقط بتربية الشخص، أو في الأحوال المادية والاقتصادية، بل تتعلق حتى بالعقيدة، فيعد ترك العمل ضعفاً في التوكل على الله، وعدم العمل بما أمر الله به من أن يكون المسلم عزيزاً، وأن تكون يده عليا، وأن يأنف أن يكون في مقام السائل. الخلاصة: أن السؤال ليس محصوراً في مد اليد أو السؤال باللسان أو الإلحاح، بل السؤال يتضمن أيضاً أن يقعد القادر عن العمل فيكون عالة على غيره، وهو في الحقيقة قد وقع في الإثم فضلاً عن الذلة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا شبابنا على هذه المسألة؛ حتى لا تستفحل في المجتمع المسلم، مع أنه في الآونة الأخيرة قد كثرت هذه الظاهرة؛ بسبب الظروف والأحوال التي اضطرت الناس إلى ذلك.

حكم سؤال وطلب الدعاء من الآخرين

حكم سؤال وطلب الدعاء من الآخرين قال رحمه الله تعالى: [وأما سؤله لغيره أن يدعو له فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا تنسنا من دعائك)، وقال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة)، وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له؛ لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم كما قال للذي قال: (أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم، كسائر أمره إياهم بما أمر به؛ وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم، فإنه قد صح عنه أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكاً كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله)]. ما يتعلق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بأن يدعوا له ويصلوا عليه له وجه آخر، ذكره شيخ الإسلام وغيره في مقام آخر، وهو أن ذلك من التشريع الذي أمر الله به، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ، وهو عليه الصلاة والسلام عندما أمرنا بأن نحبه أكثر مما نحب أنفسنا وأولادنا وما نملك فإن ذلك بأمر الله عز وجل له، ولم يقصد بذلك رفعة نفسه، بل الله رفعه وأمره أن يبلغ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب منا أن نصلي ونسلم عليه وذكر الأجر على ذلك إنما ذلك هو حق له صلى الله عليه وسلم شرعه الله. وعليه فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بلغنا شرع الله ولم يطلب لنفسه شيئاً، فإنما هو مبلغ عن الله تعالى، ومن هنا يزول الإشكال في كون النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن تدعو له، وأن تسلم عليه، وأن تصلي عليه، وأن تحبه، وأن تتبع شرعه وأن تقتدي به، وكل ذلك إنما هو بأمر الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فصل العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع

فصل العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع قال رحمه الله تعالى: [فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع]. هذه من القواعد العظيمة في الشرع، وقد أشار الشيخ هنا إلى العبادات؛ لأنه في مقام ذكر توحيد الإلهية والعبادة، لكن في الحقيقة أن هذه قاعدة أشمل من هذا النص، ولذا فيجوز أن يخصص هذه القاعدة ويجوز أن يعممها، فنقول: الدين كله -العبادة والعادة والأحكام وغيرها- مبناه على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، كما يجوز لنا أن نأخذ هذه القاعدة في كل علم بحسبه، فنقول مثلاً: الأحكام مبناها على الشرع والاتباع، والعقيدة مبناها على الشرع والاتباع، والعبادات مبناها على الشرع والاتباع، ومن هنا حصلت العبادة؛ لأن المقام مقام الحديث عن العبادة، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهي من خصائص قواعد السلف التي تميزوا بها عن غيرهم، وهي من الفوارق الكبرى بين منهج السلف ومنهج المخالفين، فالسلف كلهم يتفقون على هذه القاعدة بإجماع، بينما أهل الأهواء منهم من يخرق هذه القاعدة نظرياً، ومنهم من يخرقها نظرياً وعملياً، ومنهم من يخرقها عملياً فقط، أي: أنه يخالف هذه القاعدة عملياً فقط؛ لأن هناك من أهل البدع من يدعي هذه القاعدة، لكنه يخالفها في العمل، فيبتدعون أموراً ما أنزل الله بها من سلطان. إذاً: لابد لهذه القاعدة من فروع وضوابط وأسس سيتكلم عن بعضها الشيخ بعد قليل.

الإسلام مبني على أصلين عظيمين وهما الإخلاص والمتابعة

الإسلام مبني على أصلين عظيمين وهما الإخلاص والمتابعة قال رحمه الله تعالى: فإن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:18 - 19] الآية، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، من واجب ومستحب، لا يعبده بالأمور المبتدعة، كما ثبت في السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفى مسلم: (أنه كان يقول في خطبته: خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده، فلا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا بيت الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يخاف إلا الله، ولا ينذر إلا لله ولا يحلف إلا بالله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفى السنن: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً. لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد. وتوحيد معه كذب خير من شرك معه صدق، ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) مرتين أو ثلاثاً، وقرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك فكيف الناذر لغير الله؟ والنذر أعظم من الحلف، ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين، مثل: أن ينذر لغير الله صلاة، أو صوماً، أو حجاً، أو عمرة، أو صدقة. ولو حلف ليفعلن شيئاً لم يجب عليه أن يفعله، قيل: يجوز له أن يكفر عن اليمين، ولا يفعل المحلوف عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، فإذا كان النذر لا يأتي بخير فكيف بالنذر للمخلوق؟ ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان في طاعة، وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء، فإنما تنازعوا: هل فيه بدل أو كفارة يمين أم لا؟ لما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة فهو من الضالين، كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة أو تدفع عنهم مضرة. وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين، وقد تخاطبهم بكلام، وقد تحمل أحدهم في الهواء، وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو طعام أو كسوة أو غير ذلك، كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب، وهذا كثير، موجود في هذا الزمان وغير هذا الزمان، للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، وإما بعبادة لم يشرعها الله. وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئاً خارقاً للعادة لم يخرج عن أن يكون حالاً شيطانياً، أو محالاً بهتانياً، فخواصهم تقترن بهم الشياطين، كما يقع لبعض العقلاء منهم، وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء، لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة، إما كفر وإما فسق، وإما جهل بالشرع، فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفاراً جعلهم كفاراً، وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقاً أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك!! ولهذا قال الأئمة: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي. ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هي التي تحمله، لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين].

موقف الإسلام من خزعبلات وخوارق بعض المبتدعة

موقف الإسلام من خزعبلات وخوارق بعض المبتدعة في الحقيقة مثل هذه الحال مما يلتبس على كثير من الناس قديماً وحديثاً، وهو ما يحدث لبعض الناس أو لبعض المبتدعة من بعض الخوارق التي يغتر بها الجاهل، فيظنون أن هذا من باب الإعانة والتوفيق من الله عز وجل، وأن هذا دليل على أن صاحب هذا العمل الخارق على حق، ولذلك أرشد السلف رحمهم الله إلى قاعدة عظيمة في هذا، ألا وهي: أن من يعمل مثل هذا تعرض أعماله على الكتاب والسنة، فإن كان لها أصل وإلا فهي مردودة، حتى وإن ظهرت هذه الخوارق التي يزعم أنها كرامات وهي في الحقيقة من عادة الشياطين، ثم يعرض عمله أيضاً على خيار الأمة في عصره وقبل عصره، فإنهم هم القدوة والحجة؛ ولأن الله عز وجل كما قد تكفل بحفظ الدين تكفل بحفظ القرآن وحفظ السنة وحفظ النصوص، فقد تكفل أيضاً بحفظ وجود القدوة، وذلك بيِّن في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، ومعنى (ظاهرين)، أي: أنه يراهم ويقتدي بهم كل من وفقه الله عز وجل، وأنهم تقام بهم الحجة. فإذاً: هؤلاء الذين يندون ويشذون عن أئمة الهدى بمثل هذه التصرفات والحركات والأقوال توزن أعمالهم على الشرع وعلى منهج أهل السنة والجماعة، فما وافق سبيل المؤمنين فهو حق، وما لم يوافقه فهو باطل، مهما بلغ من الدجل والإثارة والغرابة ونحو ذلك مما يبهر الجهلة، هذه مسألة.

قاعدة جليلة في الرد على أهل البدع: أن الدين مبناه على الشرع

قاعدة جليلة في الرد على أهل البدع: أن الدين مبناه على الشرع المسألة الأخرى: وهي المتعلقة بهذا الموضوع، وتقرر قاعدة من عرفها استطاع أن يقيم الحجة -حتى وإن لم يكن عالماً- على كثير من أهل البدع، وهي مسألة أيضاً كثيراً ما يقع فيها أو يحار فيها بعض طلاب العلم الصغار، وبعض الناشئين، وبعض العوام خاصة إذا واجهوا أهل البدع، فيحرجونهم أو يوقعونهم في الشك، فيقولون لهم: هذا العمل خير، وأنتم ضد الخير! أو يقولون: هذا العمل من جنس الأعمال المشروعة! ولنضرب مثلاً: ما يحدث من كثير من أهل البدع في هذا الشهر، أعني: شهر رجب، فإنهم يعملون فيه أعمالاً ما أنزل الله بها من سلطان، كالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ويزعمون أنها في العشر الأواخر من شهر رجب، ومنهم من يخص هذا الشهر كله بالصيام، ويقول: إنه أفضل من شهر رمضان أو مثله أو دونه، لكنهم يخصونه بصوم من أوله إلى آخره، ومنهم من يعمل أعمالاً أخرى يظن أن لها مزية في هذا الشهر، ولا شك أن هذا الشهر من الأشهر الحرم، وقد يكون له شيء من الفضل عند الله عز وجل، لكن لم يتحدد فضل معين، وعلى هذا لم يشرع العمل فيه بشيء معين محدد. ولذا أقول: من ابتلي بمثل هذه الأمور، أو رأى مثل أصحاب البدع هؤلاء، وقالوا له مثل هذا القول المجمل الملبس، بأن يقولوا له: هذا عمل خير، وهل أنت ضد الخير؟ أو هذا شهر فاضل، ونحن نعمل العمل الفاضل في الشهر الفاضل، فعليه أن يلجأ إلى هذه القاعدة حتى ولو لم يدخل في التفاصيل، وليقل: إن الدين مبناه على الشرع، أي: على ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل عبادة وكل أمر من أمور الدين لا يجوز العمل به إلا بدليل، لاسيما إذا خالف ما عليه أهل الحق، بخلاف الأعمال المستفيضة والمشهورة بين المسلمين، مما أجمع عليها المسلمون، مثل: إقامة الصلوات الخمس، فهذه تحتاج إلى دليل عند العامي أو نحوه؟! لكن الأمور المحدثة الغريبة التي تطرأ من بعض الناس، أو من بعض أهل البدع، فلا يجوز أن نناقشها أو نجادل فيها، بل يقول لصاحب البدعة: عليك الدليل؛ لأن الله لا يُعبد إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وغير ذلك من النصوص التي يعرفها عامة طلاب العلم، بل حتى العوام يعرفونها، فيقول للمبتدع: أنت الذي يجب عليك الدليل؛ لأن الأصل خلاف ما أنت عليه، وهذا أمر لا نعرفه وفي نفس الوقت ننكره، فإن أتى بدليل صحيح، وكان استدلاله على وجه سليم فهو محق، وإن كان استدلاله على وجه سليم، لكن لم يأت بدليل فتقوم عليه الحجة، لذلك ينبغي أن يلقن الناس مثل هذه الأمور لاسيما مع كثرة دعاة البدعة الآن. وكذلك يحسن بطلاب العلم أن يلقنوا الشباب وطلاب العلم والعوام هذه الأمور المجملة العامة التي يسلمون بها، وكم من مواقف نجد فيها من طلاب العلم ومن شباب أهل السنة ومن عوام الناس من يقعون في ربكة وشك في دينهم؛ بسبب قوة صاحب البدعة واستعداده للحوار، وعدم وجود الأصل عند صاحب السنة. لذا فأقول: ينبغي أن نعلم الناس مثل هذه الأصول العامة، وهو أنه لا يُعبد الله إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن كل من أحدث شيئاً لم يكن يعرف عند أهل الحق والسنة فعليه بالدليل، وإلا فهو مبطل متقول على الدين. إذاً: فهذه قواعد من عرفها استطاع بإذن الله أن يقيم الحجة ولو لم يكن عالماً، لكن بإجمال، ولا يدخل في المراء والجدال؛ لأن الجدال مهلك.

الفرق بين الأحوال الرحمانية لأهل الحق والأحوال الشيطانية لأهل البدع

الفرق بين الأحوال الرحمانية لأهل الحق والأحوال الشيطانية لأهل البدع قال رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء: من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لابد فيه من الإحرام، والوقوف بعرفة، ولابد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة، فإنه ركن لا يتم الحج إلا به، بل عليه أن يقف بمزدلفة، ويرمي الجمار ويطوف للوداع، وعليه اجتناب المحظورات والإحرام من الميقات إلى غير ذلك من واجبات الحج، وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم في الهواء، ويحمل أحدهم بثيابه، فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة، حتى يرى في اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة. ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة، فيراه من يعرفه واقفاً، فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة! فإذا قال له ذلك الشيخ: أنا لم أذهب العام إلى عرفة، ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ومثل هذا وأمثاله يقع كثيراً، وهي أحوال شيطانية، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه:123] إلى قوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها، وإن حفظ حروفها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقرأ هذه الآية. فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي، وأضله الشيطان وأشقاه. فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان، فإن هذه حال أوليائه، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، وتكون نعمة لله على عبده المؤمن في دينه ودنياه، فتكون الحجة في الدين والحاجة في الدنيا للمؤمنين، مثلما كانت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كانت الحجة في الدين والحاجة للمسلمين، مثل: البركة التي تحصل في الطعام والشراب، كنبع الماء من بين أصابعه، ومثل: نزول المطر بالاستسقاء، ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء، ومثل: الأخبار الصادقة والنافعة بما غاب عن الحاضرين، وأخبار الأنبياء لا تكذب قط. وأما أصحاب الأحوال الشيطانية، فهم من جنس الكهان يكذبون تارة ويصدقون أخرى، ولابد في أعمالهم من مخالفة للأمر، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222] الآيتين]. في الحقيقة إن من الأمور التي ينبغي التفريق بينها ما يحدث لكثير من أهل البدع من الخوارق، وما يحدث من كرامات لأهل الحق والولاية الشرعية، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، فالكرامة لا تحصل إلا من مستقيم على السنة، وقد تحدث من مقصر، لكن لا تحدث في تأييد بدعته أو في تأييد معصيته، وإنما قد تحدث له عند الضرورة، أو عندما يلجأ إلى الله عز وجل في أمر يتعلق بمصالح الأمة أو بنصر الدين، فهو وإن كان فاسقاً أو فاجراً قد تحدث له من الكرامة في سبيل نصرة الحق أو في سبيل كشف كربته أو ضرورته، لكن لا يمكن أن تحدث الكرامة في نصر البدعة أو نصر المبتدع، بل ولا تحدث الكرامة على يد المبتدع فيما يتعلق بتأييد الحق، ثم إن الكرامة أيضاً في الغالب تكون مؤيدة للشرع، بمعنى: أن نتيجتها لابد أن توافق الدليل الشرعي، سواء كانت النتيجة قولية أو عملية أو في أحكام أو في غيرها، فيستفيد منها المسلم أو يستفيد منها المسلمون. ثم إن الكرامة في الغالب أنها تحدث بغير قصد لها أو تعمد لها، فهي تحدث إكراماً من الله عز وجل للعبد، كأن يلجأ إلى الله عز وجل، أو يحدث منه ما يرضي الله عز وجل من العبادة الصادقة ونحو ذلك عن غير طلب لها، فإن طلبها فقد تحدث له مرة، لكن إن تكررت فالغالب أنها تكون ابتلاء وتنقلب من كونها كرامة إلى كونها مخرقة، وقد ابتلي كثير من العباد الصالحين الذين يعبدون الله على جهل بالبدع؛ بسبب ما يقع لهم من الكرامات الدائمة، لذلك فإنه قد تحدث لبعضهم كرامات قد تكون فعلاً موجبها أموراً قلبية صحيحة، وأحوالاً قلبية صحيحة في أول الأمر، لكنه لجهله يغتر فيقع في طلب الكرامة والإلحاح عليها، فيستدرج إلى البدعة بالكرامة، فتنقلب الحال من كرامة

فصل جامع في أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم

فصل جامع في أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم قال رحمه الله تعالى: [فصل جامع: قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد، وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم]. يقصد الشيخ هنا العدل بمعناه العام، والظلم بمعناه العام؛ لأن العدل معناه واسع، وهو ضد الجور وضد الميل، والجهل كذلك ضد الاعتدال وضد الاستقامة، وأغلب ما يستعمل الناس العدل فيما هو ضد الجور وضد الميل، لكن معناه الواسع قد يغفل عنه كثير من الناس، والشيخ هنا قصد المعنى الواسع، فالعدل هو الاعتدال، وهو صراط الله المستقيم الذي فيه جميع الشرع، العقيدة والشريعة، وكل ذلك هو العدل وهو مقتضى العدل، وليس فقط العدل مع الناس أو العدل في الحكم أو العدل ضد الجور أو ضد الميل، وإنما العدل الاستقامة على دين الله عز وجل. ولذلك نجد هذا المعنى العام موجود حتى عند العوام، فيقولون: هذا الطريق عدال، أي: مستقيم، وهو معنى جيد لمفهوم العدل، وكذلك الظلم ليس فقط معناه هنا مجرد ظلم الآخرين، بل ظلم النفس وظلم الآخرين، وكذلك من الظلم الجور عن الحق، والميل عنه. قال رحمه الله تعالى: [وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكلما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم]. الشيخ هنا فسر الظلم بمعناه العام فقال: (وكل ما نهى عنه -الشرع- فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم). قال رحمه الله تعالى: [ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29]، فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين، والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم، كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب، فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب، ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء، أو بعضه ككفار أهل الكتاب. وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين: أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك، ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات، فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله. والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله. وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً). ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصل دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات، ولهذا قال لهم المسيح عليه السلام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة، وأفعال مجملة، فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما قررته في غير هذا الموضع: بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك، فإن إخلاص الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم]. والنتيجة أو الخلاصة لهذا الحديث كله: هي أنه قصد في هذا الفصل الجامع أن العدل هو إخلاص الدين لله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك إخلاص الدين لله في العبادة والأحكام، وفي المستحبات والواجبات والفرائض. كما قصد رحمه الله أن الظلم هو الشرك بالله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك الشرك الأكبر والشرك الأصغر وظلم النفس وظلم الغير، وهذه من الأمور والقواعد الجيدة التي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يعوها ويستفيدوا منها؛ لأن مثل هذه القواعد في الغالب أنها تصبح بمثابة الموازين، حيث إنه إذا استوعبها طالب العلم ففي الغالب بإذن الله أنه يوفق ويسدد إذا التزم قواعد الاستدلال ونهج السلف في ذلك، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[9]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [9] الشرك بالله تعالى أعظم ذنب عصي الله به؛ فمن جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية المتضمنة للخوف والرجاء والمحبة والتوكل والاستعانة، وكذلك الربوبية المتضمنة للخلق والإيجاد والتدبير والرزق؛ فقد كفر بإجماع المسلمين؛ لأن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة دون غيره.

فصل الشرك بالله أعظم الذنوب

فصل الشرك بالله أعظم الذنوب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نواصل درسنا في الفتاوى، ولا زلنا في الحديث عن موضوع حقيقة العبودية، وفي هذا الدرس سنذكر بعض الصور التي تنافي توحيد الإلهية والربوبية. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [اعلم رحمك الله! أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: (سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، والند: المثل. قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فمن جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة. فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب، وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلهاً، قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15]، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وقال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فهذا تفصيل لقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهى. ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك وفيه أيضاً معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء]. قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] شملت تحقيق أنواع التوحيد جميعاً، لا سيما وأنها سبقت بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، والحمد للمحمود الذي يستحق الحمد لكماله وجلاله عز وجل، والحمد متضمن لمعاني الكمال ومعاني الألوهية والربوبية؛ لأنه لا يستحق الحمد إلا الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ربوبيته وإلهيته، خاصة أيضاً إذا أضيف لها رب العالمين، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، الحمد هو للمحمود سبحانه، ثم قوله: (لله) تشمل الألوهية بالضرورة وتشمل الربوبية بالاستلزام، (رب العالمين) تدخل فيها الربوبية بالضرورة والإلهية بالاستلزام أو بالتضمن. ثم بعد ذلك أعقبها بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وبين الشيخ أن هذه الآية قد جمعت جميع الدين؛ لأن ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) تعني: جميع العبودية لله عز وجل، وتحقيق توحيد الإلهية، ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) جمعت الأمرين، أي: توحيد الإلهية والربوبية؛ لأن الاستعانة لا تكون إلا بالمعين، والإعانة فعل الله عز وجل، وهو الذي يملك الإعانة مطلقاً، ولا يملك غيره أن يعين العباد من كل وجه، فهو سبحانه له التصرف في الخلق، وبيده مقاليد السماوات والأرض. فإذاً: هو المعين في ربوبيته وإلهيته، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فجمعت جميع أنواع التوحيد.

معاينة القلب لحقيقة الربوبية والإلهية عند تحقيق معنى الربوبية والألوهية

معاينة القلب لحقيقة الربوبية والإلهية عند تحقيق معنى الربوبية والألوهية قال رحمه الله تعالى: [فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، فلا يرى نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً إلا والله سبحانه وتعالى فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه، فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية، والأول هو علم صفة الإلهية، وهو كشف سر الكلمات التكليفيات]. هذه العبارة الدقيقة فيها استعمال المصطلحات ذات التصور، وكثيراً ما يستعمل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المصطلحات خاصة عندما يتحدث عن الأعمال القلبية أو عن بعض الأمور المتعلقة بالإلهية والربوبية، ويبدو لي والله أعلم أنه أراد أن يقرب أهل زمانه الذين ابتلوا بالتصوف أو أكثرهم إلى معاني التوحيد الحقيقية من خلال مصطلحاتهم، فاستعمل رحمه الله هذه المصطلحات استعمالاً صحيحاً، ووجهها توجيهاً صحيحاً بالآيات والنصوص، فكلمة: (الشهود) لم تكن من الكلمات التي يستعملها خلص السلف، وإنما استعملها بعض السلف الذين عندهم نزعة تعبد، لكنهم لم يكونوا من الأئمة الكبار، لكن لما عمت بها البلوى في عهد شيخ الإسلام أراد أن يجر المتصوفة وعامة الناس الذين ينزعون إلى التصوف، والذين انطبعت في أذهانهم هذه المصطلحات إلى فهم المصطلحات الشرعية الحقيقية من خلال استعمال هذه الكلمات، فقوله: (فهذا الشهود) قصده: معاينة الحقيقة معاينة قلبية؛ لأن القلب إذا اكتملت فيه معاني الربوبية فكأنه يشهد الحقيقة ببصيرته، أو هو فعلاً يشهد حقيقة الربوبية ثم الإلهية ببصيرته، فهو قصد بالشهود تحقيق التوكل والتسليم، بحيث إن الإنسان يكون توكله وتسليمه وإذعانه لله عز وجل، وكأنه يشهد هذه الحقيقة على مبدأ الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا لا يكون إلا لتحقيق معنى الإلهية والربوبية في وقت واحد. وكذلك قوله: (هو سر الكلمات الكونيات)، فالكلمات الكونيات هي التي يكون بها تدبير الكون من الله عز وجل، فيدبر الكون سبحانه بكلماته، وكلماته تكون فيها الربوبية، كما أن من كلماته ما يكون به الوحي والأمر والتشويق. والكلمات تشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، والكلمات الكونية قد تكون بالوحي وقد تكون بما يدبر الله به الكون ومثل: (كن)، فهي من كلام الله عز وجل، لكن ليست من نوع الوحي، فكل ذلك كلمات الله الكونيات التي يكون بها تحقيق التوكل والتسليم؛ لأنها تعني الإذعان بالربوبية لله عز وجل. وكذا قوله: (وهو كشف سر الكلمات التكليفيات)، فالكلمات التكليفيات هي كلمات الله التي فيها الأمر والنهي والخبر، وهي كلماته بالوحي إلى رسله ومن خلال الكتب المنزلة، فهذا هو النوع الثاني: وهو توحيد الإلهية الذي يتمثل بكشف سر الكلمات التكليفيات التي يكلف الله بها عباده. إذاً: فتوحيد الربوبية متعلق بالتدبير بالله عز وجل وبكلمات الله الكونية، وتوحيد الألوهية متعلق بالأمر الشرعي والخبر وكلماته التي هي الوحي. قال رحمه الله تعالى: [فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم]. قوله: (والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم) شرح لمعنى كلمة: (الشهود) الذي هو سر الكلمات الكونيات، أعني: توحيد الربوبية. قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الربوبية. ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك].

خلاصة مذهب الصوفية في الألوهية والربوبية وحقيقة ضلالهم وسببه

خلاصة مذهب الصوفية في الألوهية والربوبية وحقيقة ضلالهم وسببه قال رحمه الله تعالى: [ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها]. قوله: (ومن غاب عن هذا المشهد) أي: الربوبية، ثم قال: (وعن المشهد الأول) يقصد الإلهية. والشيخ يشير بذلك إلى ضلال المتصوفة وجهلهم، وهو رحمه الله تعالى كثيراً ما يبحث لهم عن معاذير؛ لأنه يرى أنهم وقعوا في الضلالة عن جهل. وخلاصة مذهب هؤلاء أنهم يزعمون أن غاية مطلوبهم الانهماك في توحيد الربوبية، ولذلك استهانوا بتوحيد الإلهية، واستهانوا بالأمر والنهي، حتى زعم كثير منهم أنهم استغنوا بالمشهد الأول عن المشهد الثاني، بمعنى: أنهم حينما وصلوا إلى مرحلة معينة زعموا أنها انكشفت لهم أسرار الكون وانصهروا في القدر والربوبية، ولم يعودوا بحاجة إلى امتثال الأمر والنهي، فتركوا العمل بالشرع، وزعموا أن العمل بالشرع إنما يحتاجه أولئك الذين لم تصل قلوبهم إلى حد هذا المستوى من العبادة والسنة، أو من الانصهار في الربوبية، والعبادات والأوامر والنواهي والتكليفات الشرعية إنما هي للعوام الذين لم يصلوا في العبادة إلى حد انكشاف الأسرار الكونية لهم، أو الانصهار في الربوبية والقدر، وهذا مذهب فلسفي قديم في الديانات الفلسفية، كالديانات الهندية وغيرها، فغاية الواحد أن يصل إلى الانصهار في الربوبية، وأن تتحد مشاعره -بزعمه- بل حتى حركاته الإرادية واللاإرادية بالحركات الكونية، ويكون جزءاً من ذرات الكون، وكأنه صار بذلك إلى مستوى ربما يزعم فيه أنه ارتقى عن مستوى الأنبياء، بل أحياناً يزعم فيه أنه اتحد بالخالق تعالى الله عما يزعمون؛ لأن هذا المذهب وصل بهم إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، ومن هنا احتقروا دين الأنبياء واحتقروا الشرائع، واحتقروا الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا زعم رءوسهم وفلاسفتهم أنهم استغنوا عن الشرع، وأن غاية من يصل إلى هذا المستوى هو أن يكون حقق مشهد الربوبية والانصهار في القدر، فلذلك قالوا: بالجبر، ولذلك قالوا: بالاستغناء عن الشرع، ولذلك احتقروا دين الأنبياء، ولذلك تركوا الأوامر والنواهي واستباحوا لأنفسهم ترك فرائض الله، والإعراض عن دين الله عز وجل، فالشيخ يقول: (ومن غاب عن هذا المشهد)، يعني: الربوبية، (وعن المشهد الأول)، يعني: الإلهية. ثم أكمل الكلام واتضح بعد ذلك. قال رحمه الله: [ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية]. قوله: (فغاب بما لاحظ) هذا أيضاً من تعبيرات الصوفية، لكنه رد عليهم بعبارات يفهموها، ومعنى العبارة: فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق بين الربوبية والإلهية، وبين ما هو مطلوب من العبد وما ليس بمطلوب، وبين ما أمر الله به وما لم يأمر به، وأهم ذلك التفريق بين حقيقة الربوبية وحقيقة الإلهية، ولذلك لما لم يلاحظ التمييز والفرق تعطل الأمر والنهي؛ لأنه بزعمه أنه بالتحنث أو بالإقرار بالربوبية والمبالغة فيها لم يعد يحتاج إلى اعتبار الأمر والنهي والنبوات. ثم قال: (ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية) يقصد بذلك غلاة المتصوفة الفلاسفة، وغلاة المتصوفة فلاسفة، كما أن غلاة الفلاسفة متصوفة، فالتلازم بينهم هو الغالب أمثال: الحلاج والكندي وابن الفارض والفارابي وابن رشد الأول، لكن ابن رشد لم يصل إلى هذه الدرجة إنما مال إليها ثم تركها، وكذلك ابن سبعين والسهروردي المقتول وابن عربي الطائي ومن سلك سبيلهم. وكل هؤلاء قد ادعى هذه الدرجة، لكنهم يتفاوتون في التعبير عنها، ويتفاوتون في النزعة الفلسفية التي وصلوا بها -بزعمهم- إلى هذه المرحلة، ثم بعد ذلك منهم من استغنى عن العمل بالأمر والنهي، وأنهم ليسوا بحاجة لما جاء عن الأنبياء، ولذلك ادعى كثير منهم لنفسه أو لغيره -كل هؤلاء الذين ذكرتهم- أنه فاق مستوى الأنبياء كما صرح ابن عربي وغيره.

اعتذار شيخ الإسلام لهفوات بعض رموز الصوفية

اعتذار شيخ الإسلام لهفوات بعض رموز الصوفية قال رحمه الله تعالى: [وإن كان ذلك المشهد]، يعني: مشهد الربوبية. ثم قال رحمه الله: [قد أدهشه وغيب عقله؛ لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي، وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثير من السالكين، لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين]. قوله: (فهذا معذور منقوص) كثيراً ما يقولها رحمه الله في طوائف من هؤلاء، وأحياناً يشير بها إلى أشخاص معينين، أمثال التستري والبسطامي وابن أبي الحواري وأمثالهم، والجنيد وإن كان ليس له صفحات كبيرة، لكنه قد مال إلى هذا الاتجاه، بينما التستري والبسطامي وابن أبي الحواري ومن سلك سبيلهم أصحاب هفوات كبيرة، وهؤلاء هم الذين يعبر عنهم الشيخ أحياناً بأن فيهم معذوراً منقوصاً، والشيخ رحمه الله يفسر ما يحدث منهم من ترهات؛ لأنهم يدعون هذا الدعاوى، يدعون أنهم يستغنون بالربوبية عن الإلهية، لكن من حيث العمل فإنهم يعملون بالشرع، ولا أدري هل هذه حقيقة فقهية؟ الله أعلم بحالها، لكن الشاهد هنا أو الذي يهمنا هو عندما نتأمل فيما أسند إليهم من أقوال وأفعال نجد فيها كفراً تتعلق بهذا المفهوم الذي ذكره الشيخ، وهو أنهم يسعون إلى شهود الربوبية ويبالغون فيها، ويستهينون معها بكثير من الشرائع، كالجماعات والجمعات، واستهانوا بالجهاد، واستهانوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخذلوا عن طلب العلم وعن طلب الحديث، وجاءت منهم كلمات تدل على أنهم قد يتلقون من مصادر غير المصادر الشرعية، وعن أهل الكتاب وعن غيرهم، أو عن مجاهيل أو عن أنفسهم، أو أنه بالتأمل ترد إليهم خواطر يصفونها بما لا يوصف به إلا الوحي. فالشيخ رحمه الله يقول في مثل هؤلاء: بأنهم معذورون! ولا أدري ما وجه اعتذار الشيخ لهم؟! وإن كان قد فسره أحياناً فقال: بأنه تعتريهم حالات معينة وهو ما نصفها الآن بالهستيريا، من شدة الانقطاع والتعبد، ومن شدة الجوع والسهر، فيكون الواحد منهم عنده شيء من الاضطراب والهسترة، فيتكلم بما لا يعلم، بل قد يتكلم أحياناً بالكفريات، مع أن كلهم قد تكلموا بالكفريات، كأن يقول أحدهم: إنه لا يبالي بالنار! أو يقول لليهود: لا عليكم سأحجبكم من النار! أو أمنعكم من النار! أو أعطيكم إياها! أو يقول: النار ما هي إلا أن أنصب عليها خيمة فتنطفئ، ومثل هذه الكلمات الكفرية. فـ شيخ الإسلام يعتذر لهؤلاء، وهذا معنى قوله: فهذا معذور لجهله فيما يبدو، أو لأنه غلبت عليه العبادة حتى قال هذا أو تكلم الشيطان على لسانه، ثم قال: إنه منقوص، يعني: إن في كلامه ضلالة، النقص هنا نقص الضلالة. وأعتذر عن استكمال الفائدة، وهذا مما ينبغي أن يعنى به الباحثون؛ لأنه زلات أقدام، وهؤلاء العباد المتأخرون في القرن الثالث وما بعده الذي نزع عنده هذه النزعات يكون عندهم -أحياناً- نوع من الخروج عن مقتضى الشريعة بكلمات صعبة، وأيضاً أحياناً قد تصدر منهم أعمال وتصرفات هي أقرب إلى الكفر والإلحاد، فهل يعقل أنه بمجرد اختلال العقل يجعل هذا الشخص يتكلم بكفر مقنن معروف مشهود عند اليونان والصابئة والفرس والمجوس، كفرياتهم التي قالوا بها هي مظاهر موجودة في الأمم الضالة، فكيف وصلت إليهم، ثم تكلموا بها في حالات يزعمون أنهم لا يسيطرون على عقولهم، وأنه قد ضاعت عنهم عقولهم، ولذلك عذروا أمام القضاء وأمام بعض الولاة؛ لأن ظاهر الأمر في ذلك الوقت أن هؤلاء لا يتكلمون إلا في حالات تعتريهم فيها الهسترة. أقول: قد يكون هذا، وقد يتكلم الشيطان على ألسنتهم، لكن هل يعقل أن يأتي بأصول مقننة راقية على مستوى فيه التفكير والتعبيرات الفلسفية والمذهبية المعروفة عند الأمم؟ هذا أمر قد لا يتأتى إلا لمن أشرب في قلبه -والله أعلم- هذه الأمور ثم أعلنها. أيضاً هذه من المسائل التي تحتاج إلى بحث، وأظن أني أكثر من مرة أعرض هذا الموضوع، وأرى أنه من الواجب التثبت والبحث فيه؛ لأن موضوع العباد من الموضوعات الخطيرة التي يرتكز عليها أهل البدع إلى يومنا هذا، بل أعظم شبهة عند أصحاب الطرق الصوفية وأصحاب المذاهب الفلسفية والإلحادية أن هؤلاء سلف لهم، وأن هؤلاء رضي عنهم السلف، هذه تحتاج إلى تحقيق. لكن يبقى أيضاً أمر آخر أنبه عليه لمن يريد أن يبحث، ألا وهو أن كثيراً من المبتدعين قد يكون من المكذوب عليهم، وهذا مما أشار إليه شيخ الإسلام أكثر من مرة، يعني: عندما يجد أن المسألة ليس فيها مجال للدفاع، يقول: ونشك أن هذا مما ينسب إلى فلان، أو لعله لا يثبت عنه، فهذه أمور عن أمة سلفت، والمفروض أننا لا نفتش عن مصائر هؤلاء العباد وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لما كانت مناهجهم وزلاتهم هذه ركائز ومرتكزات لأهل البدع والأهواء إلى يومنا هذا يتكئون عليها كان لابد من بحثها وتحقيقها، بصرف النظر عمن قالوا بها، وبغض النظر هل يجرّمون أو لا

أنواع الشرك الذي يكفر به صاحبه

أنواع الشرك الذي يكفر به صاحبه قال رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر هذا فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه وهو نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية فأما الشرك في الإلهية فهو أن يجعل لله نداً، أي: مثلاً في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب؛ لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] الآية، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24] إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين: (كم تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات؟ فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي). وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84 - 85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89]، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تنزل الغيث، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرنا، اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئاً من دون الله كما يحب الله تعالى فقد أشرك، وهذا كقوله: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، وكذا من خاف أحداً كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله وما أشبه ذلك. وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته]. الشركان متلازمان في أفعال العباد؛ لأن الذي يشرك في الإلهية لابد أن يقع منه شرك في الربوبية، فإذا عبدوا غير الله طلبوا من غير الله واستمدوا العون من غير الله، فهم توهموا أنه قد يكون للمعبود من دون الله منع أو إعطاء وهكذا، ولذا فإذا حدث الشرك في الإلهية فالغالب أنه يجر إلى الشرك في الربوبية، وكذلك العكس، فهما متلازمان، والفروق بين الأمرين إنما هي فروق علمية، وأما من الناحية العملية فيندر أن من يشرك بالربوبية يسلم من شرك الإلهية، وكذلك العكس، بل لا يمكن أن يكون شرك في الإلهية إلا ويستتبعه شرك في الربوبية. لكن الفارق بينهما: أن موضوع الربوبية متعلق بالتدبير وأفعال الله عز وجل، أي: أن كل ما يتعلق بأفعال الله وتدبيره يسمى ربوبية، ومن ذلك أن أسماءه وصفاته وغير ذلك مما يتعلق بالأفعال والتدبير هي أقرب إلى الربوبية، ومع ذلك قد يكون فيها جوانب الربوبية، وأما الإلهية فهو كل ما يتعلق بتوجه القلب والجوارح إلى الله عز وجل، وهذا بالنسبة للمسلم، وأما الشرك فيتوجه إلى الأصنام. إذاً: فالتوجه في التعبد هو توحيد الإلهية، أي: توجه العباد إلى الغني هو توحيد الإلهية، فإن ألهوا الله عز وجل فقد حققوا التوحيد، وإن توجهوا إلى غير الله وعبدوا غير الله فقد طلبوا من غير الله، ويكون ذلك شرك في الإلهية.

كيفية التخلص من الشرك في الربوبية

كيفية التخلص من الشرك في الربوبية قال رحمه الله تعالى: [ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطي الأول مثلاً، فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه)؛ لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:20]، فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره، فهو الأول والآخر. ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية. فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف الناس استراح. يريد والله أعلم: أنهم لا ينفعون ولا يضرون].

كيفية التخلص من الشرك الخفي

كيفية التخلص من الشرك الخفي قال رحمه الله تعالى: [وأما الشرك الخفي: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل: أن يحب مع الله غيره فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة؛ لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] الآية، فليس الكلام في هذا، إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته لم يحب سواه. ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته، وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلّت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته وانتشرت. وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى، وقد روي: (أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل). وطريق التخلص من هذه الآفات كلها: الإخلاص لله عز وجل، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بالتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى]. هذه في الحقيقة نصيحة ذهبية جليلة وعظيمة، وقد أوجزها الشيخ في أربع كلمات، وحبذا لو تأملناها وتأملنا أيضاً لوازمها، قال رحمه الله: (ولا يحصل الإخلاص إلا بالزهد) هذه حقيقة نسيها كثير من الناس خاصة في عصرنا الذي تكاثرت فيه على الناس أسباب الدنيا وبهرجها، حتى أعمت أبصارهم وبصائرهم عن الزهد، وإن المتأمل يجد أن حقيقة الزهد في العباد نادر وعزيز جداً، ومن هنا نفسر أسباب وكثرة شكاوى الناس من قسوة القلوب، وعدم التأثر بآيات الله عز وجل المقروءة والمنظورة والمسموعة، كما نفسر ما يحدث لكثير من الناس من سرعة التفلت، وسرعة التغير في أحوال الناس فيما بينهم، وقبل ذلك مع ربهم عز وجل. والذي نخصه هو ما يحدث كثيراً بين الناس من الشحناء، وسرعة المنازعة بين أهل الخير، وسرعة الخلاف والفرقة، وما يحدث من تباعد بين الناس في مذاهبهم وفي مقاصدهم وفي غاياتهم وفي اتجاهاتهم؛ لأن الناس كثير منهم يتوخى الإخلاص، لكن ما فعل السبب وهو الزهد، والزهد الذي يعين على الورع يحتاج إلى مجاهدة عظيمة في هذه الدنيا، يعني: كثير من الناس قد يتحرى الزهد، ويجاهد للحصول عليه، لكن عندما يأتي الدنيا وبهرجها، وضغوط المجتمع على الإنسان -أعني: على سمعه وبصره- يشده ذلك إلى عدم الزهد وعدم الورع، ثم إن الزهد يوجب على كل واحد منا أن يفتش عن نفسه إذا كان فعلاً ينشد الزهد والورع، وليعرف أنه لا يحصل على الزهد والورع إلا بالتقوى والمراقبة لله عز وجل، وألا يعمل شيئاً حتى يعلم أنه مما يرضي الله عز وجل، وليتحرى كل التحري من كل ما يغضب الله عز وجل، وليتحرى من المشتبهات التي كثرت على الناس، ويظهر لي أن المشتبهات الآن على المسلمين أكثر من أي زمن مضى في كل الأمور، وليس فقط في الأكل والشرب، بل حتى في الأفكار والمفاهيم والمعاملات، حتى فيما يتعلق بتعامل المسلمين مع غيرهم، وكتعاملهم مع الأشياء والمناهج والأصول والأفكار والأكل والشرب ووسائل الدنيا ووسائل الحياة وغيرها، هذا وقد أصبحت المشتبهات أكثر بكثير من الأمور المحررة بالبينة، وهذه بحد ذاتها فتنة عظيمة، ولأن أعظم أسبابها: انفتاح المسلمين على غيرهم، واختلاط الدنيا بعضها ببعض فهيمنت مناهج ووسائل الكفار على وسائل المسلمين، وجعلت المشتبه هو الأكثر، فلذلك الزهد عزيز، والزهد صعب، لكن من يتق الله يجعل له مخرجاً. ثم قال: (والتقوى متابعة الأمر النهي)، أي: أن التقوى لابد أن تكون تابعة للأمر والنهي. إذاً: فهذه في الحقيقة وصايا وقواعد تهدف من توخاها وفهمها بأصولها الشرعية وبأدلتها، وعمل مخلصاً جاهداً إلى أن يتوصل إلى الإخلاص لله عز وجل.

فصل في محركات القلوب إلى الله عز وجل

فصل في محركات القلوب إلى الله عز وجل [فصل: ولابد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها، أو تذهب عنها بالكلية، بحول الله وقوته]. كأن هذه وصية من الشيخ عما تكلم عنه قبل ذلك بقليل، يعني: تفصيل لمن سأل، وكيف نصل إلى هذه الأمور؟ الشيخ رحمه الله بدأ بتفصيل وصية ونصيحة عظيمة أرجو تأملها.

أنواع محركات القلوب إلى الله عز وجل

أنواع محركات القلوب إلى الله عز وجل قال رحمه الله تعالى: [فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة]. بعض أهل العلم من المتأخرين يسمون هذه الثلاثة بأركان العبادة، وليس في ذلك نص من آية أو حديث، وإنما قالوا ذلك بالاستقراء، كما استقرءوا أنواع التوحيد وبعض المسائل العلمية والعقدية من خلال قواعد الشرع ونصوصه، فكذلك بالاستقراء ثبت فعلاً أن العبادة تقوم على هذه الأركان الثلاثة، وغيرها يتبعها. فالأول: المحبة، أي: محبة الله ومحبة ما يحبه الله. والثاني: الرجاء، أي: أن يرجو الإنسان ربه، فيرجو ثوابه، ويرجو ما وعد الله به. الثالث: الخوف، أي: خشية الله عز وجل وخشية عقابه. وبقية الأعمال القلبية ترجع إلى هذه الأركان الثلاثة، ولذلك سماها بعض السلف بأركان العبادة. قال رحمه الله تعالى: [وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، والخوف المقصود: منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه]. قوله: (تلقي)، هذه مجاراة من الشيخ رحمه الله لمصطلحات القوم، وهي لغة سليمة وجائزة. قال رحمه الله تعالى: [وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره].

محركات القلوب عند عدم المحبة الباعثة على طلب المحبوب وكذلك الخوف والرجاء

محركات القلوب عند عدم المحبة الباعثة على طلب المحبوب وكذلك الخوف والرجاء قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فالعبد في بعض الأحيان قد لا تكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا: يحركها شيئان: أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به، ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه، من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلابد أن يثير ذلك عنده باعثاً. وكذلك الخوف، تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه. وكذلك الرجاء، يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو. وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع، وإنما الغرض التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم].

الأسئلة

الأسئلة

وجه اعتذار شيخ الإسلام عن بعض رموز الصوفية

وجه اعتذار شيخ الإسلام عن بعض رموز الصوفية Q نستغرب اعتذار الشيخ رحمه الله عن بعض رموز الصوفية كـ التستري والقشيري والبسطامي، مع أنه في بعض كلام هؤلاء ما يدل مقتضاه على أنهم يقفون عند الأوامر والنواهي، كقول أبي يزيد: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء لا تغتروا به حتى تروه عند الأمر والنهي؟ A كلام الأخ صحيح، لكن مع ذلك وجدت عندهم المتناقضات، وهذا مما يحير، هؤلاء العجيب أن كلامهم في التوحيد درر، ولا أقول هذا مبالغة، كلام هؤلاء: أبي يزيد البسطامي والتستري وابن أبي الحواري والجنيد ومن سبقهم ومن جاء بعدهم قبل وجود الطرقية، بعد وجود الطرقية اختلف الحال في الحقيقة إلا القليل، فكان كلامهم في الدفاع عن العقيدة وفي تقريرها وفي تجلية معانيها درر تكتب بماء الذهب، وكنت أتمنى لو يتفرغ بعض طلاب العلم لالتقاط درر من كلام هؤلاء في العقيدة، تؤصل منهج السلف بأساليب واضحة وموجزة وبأصالة شرعية، لكن مع ذلك عندهم متناقضات، كيف يكون هذا؟ الله أعلم، فهم أذكياء وأصحاب قدرات عقلية كبيرة جداً، لكن كانت عندهم بدع فلسفية، ونوع من الجهل ببعض أصول السنة جعل عندهم هذه المتناقضات، ومع ذلك فأنا لا أحكم فيهم، بالرغم أني قد قرأت وبحثت في هذا الموضوع، ولم أستطع أن أصل إلى نتيجة بينة، والأمر محير يحتاج إلى مزيد بحث لمن هم أقدر وأفضل.

حكم تعارض الزهد في الوقت الحاضر مع التجارة

حكم تعارض الزهد في الوقت الحاضر مع التجارة Q هل يتعارض الزهد في الوقت الحاضر مع التجارة؟ A في الحقيقة الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ لأنه مما يلتبس على البعض، والأصل أن الزهد لا يتنافى غالباً مع التجارة، لكن قد يتنافى مع التجارة عند بعض الناس، وهذا أمر. الأمر الآخر: ما هو مفهوم التجارة؟ هل هي التجارة التي تعني تحصيل الدنيا وجمعها على غير أصول شرعية، وبأي طريق كان، ثم عدم القيام بحق المال؟! لا، فليست هذه تجارة مباحة أو تجارة سليمة، وإنما التجارة هي التي هيأها الله للعبد بدون تكلف كبير، وبدون أن يغفل عن ذكر الله وشكره، وتؤدي إلى أن يؤدي للمال حقه، فهذه تجارة يهبها الله عز وجل لمن يشاء، وهي نادرة في العباد والزهاد الكبار على مدار التاريخ، لكن في الغالب أن الذين يجمعون بين التجارة والزهد هم الأكمل من خلقه، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تاجر وزاهد، وأفضل الخلق بعد النبيين، بل أغلب العشرة المبشرين بالجنة قد اشتغلوا بالدنيا والعبادة والزهد، مع أنه لا ينبغي لكل مسلم أن يقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أصحاب مواهب عالية، وأين نحن منهم؟ نحن مساكين يستهوينا الدرهم والدينار والريال، فتضحك لنا الدنيا فنضحك ونجري وراءها؛ لأننا لسنا كأولئك القوم، لكن إن وجد من العباد من هو مثل هؤلاء ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن ثق أنه لا يكون من الذين بيتوا قصد التجارة، لكنهم عملوا بمقتضى ما أمر الله به من السعي في الدنيا، فسعوا فجاءتهم طائعة، وجاءهم الزهد بما وفقهم الله به. ومن المناسب أن أنبه إلى ما يحدث عند بعض طلاب العلم من الانجراف إلى الدنيا، وهي في الحقيقة من الأشياء والظواهر التي كثرت في الآونة الأخيرة، وهي فلسفة قال بها بعض الناس، ولذا فالذي ينبغي لطلاب العلم أن تكون الدنيا بأيديهم؛ لئلا يكونوا عالة على غيرهم، لكن لا تكون الدنيا هي همهم العظيم، فذلك خطير، فطالب العلم الآن إذا فرغ نفسه للعلم والدعوة سخر الله له الدنيا وأهل الدنيا، وأنا أخشى إذا تفرغ للدنيا أن يخسر العلم والدنيا والدين، أو يخسر على الأقل أكثرها، وأقول هذا وأنا أكاد أجزم به: أن مما أخافه على طلاب العلم والدعاة أن ينجرفوا في أعمال الدنيا، والكفاف يكفيهم، أما أن يدخلوا في مشاريع تستحوذ على جهودهم وطاقاتهم وأعصابهم فهذا مسلك خطير، ودعوى: أنه ينبغي أن يكون بيد أهل الخير المال، أقول: هذه ساقطة، اللهم إلا النادر القليل؛ لأن طالب العلم والداعي إلى الله عز وجل إذا ملك قلوب الناس بعلمه ودعوته ملك الدنيا وأصحاب الدنيا، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ملك الدنيا وأصحاب الدنيا، فكان عليه الصلاة والسلام يعطى المائة من الإبل فيصرفها في وقت واحد، وما مات عليه الصلاة والسلام إلا والأمة المسلمة تملك الدنيا من حولها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وما سعى صلى الله عليه وسلم يوماً في تجارة، وإنما جاءته الدنيا طائعة، فدانت له القبائل بما تملك من المال، ثم بعد ذلك دانت الدنيا كلها للمسلمين، حتى فارس والروم اللتان تملكان أغلى الكنوز سخرهما الله للمسلمين، لا بسعيهم للتجارة وإنما بجهادهم في سبيل الله وبتعليمهم العلم، وهكذا ينبغي أن يكون هذا المبدأ، وأنا أقول: لا حرج على طالب العلم أن يسعى في الدنيا، لكن لا يكون هذا التوجه لطلاب العلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[10]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [10] الشرك في هذه الأمة باعتبار أعمال الناس وأحوالهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرك في العبادة والتأله، وشرك في الطاعة والانقياد، وشرك في الإيمان والقبول، وينطبق هذا التقسيم على مسالك أكثر الذين ضلوا في التوحيد من هذه الأمة.

أنواع الشرك الثلاثة باعتبار أعمال الناس وأحوالهم

أنواع الشرك الثلاثة باعتبار أعمال الناس وأحوالهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا مع الفتاوى لـ شيخ الإسلام وفي مسألة العبودية وحقيقتها وأنواعها، وسيكون درسنا لهذا اليوم مخصص في الفصل الذي خصصه شيخ الإسلام في مسألة الخشية والخوف، وله رحمه الله في هذا الفصل وقفات عظيمة جداً، وفقه ينبغي أن نستفيد منه. ولذلك يحسن أن نقف عند بعض المسائل الدقيقة لعنصرتها، وبيان ما بينها من ترابط؛ لأنها مجملة ومركزة كما سترون. قال شيخ الإسلام رحمه الله: [فصل: ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العُلْويات والسفليات، وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكاً لم ينزل الله به سلطاناً، وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي. وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع، فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، دع جليله، وهو شرك في العبادة والتأله، وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول]. هذه ثلاثة أنواع من الشرك سيفصل فيها شيخ الإسلام بعد قليل ويضرب لها أمثلة، وهي في الحقيقة من أدق الفهوم التي قرأتها في مفهوم الشرك، وفي تطبيق أنواع الشرك وأقسامه على أنواع أعمال البشر القلبية والعملية، ويستفيد منها من تأملها؛ لأنها تنظم جميع أنواع الشرك التي تحدث من الناس، سواء من ذلك الشرك الأصغر والشرك الخفي، أو الشرك الأكبر؛ يدخل في هذا أنواع الشرك الأكبر والأصغر. وهذا التقسيم تقسيم بحسب أحوال أعمال الناس، وينطبق هذا التقسيم الذي سيأتي على مسالك أكثر الذين ضلوا في التوحيد من هذه الأمة، أو من فرق هذه الأمة التي فارقت السنة والجماعة كما سيأتي.

النوع الأول: شرك العبادة والتأله

النوع الأول: شرك العبادة والتأله قال رحمه الله تعالى: [فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة، وبنوع من عبادته أخرى، وبهما جميعاً تارة، ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة]. أقسام الشرك التي أشار إليها الشيخ هي: الأول: شرك في العبادة والتأله. الثاني: شرك في الطاعة والانقياد. الثالث: شرك في الإيمان والقبول، ويعني بذلك الشرك في التصديق، أي: أن يصدق في دين الله عز وجل، أو فيما يتعبد به من أقوال وأفعال. وإما أن يصدق غير النبي صلى الله عليه وسلم فهذه مسألة خفية تحتاج إلى تأمل وتدبر؛ لأنها تقع في الناس كثيراً، ولا ينتبهون أنها من أنواع الشرك، وسيشرحها الشيخ بعد قليل. وأعود فأقول: ينبغي أن نتأمل هذه الأنواع الثلاثة؛ لأن الشيخ سيمثل لها ويعيدها مرة أخرى. والأول قد تكلم عنه وضرب له مثلاً في غالية النصارى، ثم غالية الرافضة والتصوف، والفقراء: وهم طائفة من الصوفية العباد النساك، وليس المقصود بهم فقراء المال. إذاً: فهم طائفة من العباد والنسَّاك الذين عندهم مبالغة في التنسك إلى حد ترك طلب العيش، والعيش على الكفاف أو على التسول. والعامة، أي: عوام الناس الذين يخطئون في مفهوم هذا التوحيد. وأما قوله: (ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة)، أي: أنه يستلزمه، فمن أشرك شرك التأله والعبادة وقع في الشرك الثاني، أي: شرك الطاعة، وهذا بالضرورة.

النوع الثاني: شرك الطاعة والانقياد لغير الله عز وجل

النوع الثاني: شرك الطاعة والانقياد لغير الله عز وجل وأما النوع الثاني: فهو شرك الطاعة والانقياد لغير الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك]. هذا هو النوع الثاني. قال رحمه الله تعالى: [وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة، وقد (قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، فقال: يا رسول الله! ما عبدوهم، فقال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم). فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرعه، إما ديناً وإما دنيا، وإما دنيا وديناً، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئاً في طاعته بغير سلطان من الله، وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك]. يعني بذلك: أنه يخرج من الطاعة الممنوعة من أوجب الله طاعته، وهؤلاء لا تعد طاعتهم من الطاعة الممنوعة كالرسل، وطاعة الأمراء بالمعروف، وطاعة العالم أيضاً بالاهتداء والاقتداء، وطاعة الوالد بالمعروف، واتباع الشيخ بالمعروف، أي: على نهج سليم أو مع الدليل. فهذه الأمور مما أمر الله به، أي: طاعة هؤلاء بشروطها، إذ هي من الطاعة التي أمر الله بها.

النوع الثالث: شرك التصديق

النوع الثالث: شرك التصديق وأما الشرك الثالث، أعني: شرك التصديق، فهو أخذ الخبر وتصديقه في أمر الدين أو في أمر التشريع، وفيما يتعبد به عن غير الكتاب والسنة، وهذا يفعله كثير من عوام الفرق، فيصدقون شيوخهم الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضعون في الدين أشياء من عندهم، فيصدقونهم بمجرد دعاوى لا أصل لها، وليس عندهم على ذلك برهان ودليل. قال رحمه الله تعالى: [وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة، بل وبعض المتفقهة والمتصوفة، بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية، ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها، ومدح بعضها وبعض القائلين، وذم بعض بلا سلطان من الله، ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول، ولا يخاف إشراكه بالله شخصاً في الإيمان به، وقبول قوله بغير سلطان من الله. وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين، والشهداء الصادقين وغير ذلك]. لأن طاعة هؤلاء واتباعهم إنما هي بأمر الله عز وجل، فطاعة المرسلين بأمر الله، وطاعة العلماء الراسخين في العلم فيما عليه دليل أو برهان، وكذلك الشهداء والصادقين، أي: الذين أخلصوا الدين لله، وصدقوا في نقلهم عن الله عز وجل، فهؤلاء يصدقون. إذاً: فقوله: (وبهذا يخرج)، أي: يخرج من المنع الذي يوقع في الشرك، أي: شرك التصديق.

أقسام الطاعة والتصديق

أقسام الطاعة والتصديق قال رحمه الله تعالى: [فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع]. قوله: (وأما) تفصيل لغير المشروع.

غير المشروع في باب الطاعة والتصديق

غير المشروع في باب الطاعة والتصديق قال رحمه الله تعالى: [وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال، فإنه كما قال القائل: ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له. ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك]. هذه معان دقيقة أرجو تأملها؛ لأن كثيراً من الناس يغفل عنها في مسألة الاستعانة بالخلق، وفي مسألة مد اليد إليهم والطمع بما عندهم، إذ إنها من أعظم أسباب ضعف الورع في النفس، ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، ومن أعظم أسباب عدم الانصياع لأوامر الله عز وجل، وربما يكون هذا أيضاً من الأمور التي جرت إلى أشياء كثيرة في عبادات الناس وأعمالهم وتعاملهم مع بعضهم، لذا فأرجو تأملها جيداً؛ لأنها غالبة في أحوال الناس اليوم وخاصة فيما يتعلق بالمصالح والمنافع، وعلاقات الناس التي تبنى على ذلك. إذاً: ففيها معان دقيقة ذكرها الشيخ من فقهه في هذه العقيدة، فأرجو تأملها وتطبيقها على أحوال الناس؛ لعلنا نستفيد منها. قال رحمه الله تعالى: [فالمؤمن يريد ألا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله، ولمن أطاع الله ورسوله، وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه، فإذا قصد دفع هذا السلطان]. أي: إذا قصد بالاستغناء عن مالهم دفع هذا السلطان كان حسناً، والعبارة تحتاج إلى تفصيل، وكأن هذا استثناء منه.

المقاصد الحسنة والفاسدة في ترك قبول أموال الناس

المقاصد الحسنة والفاسدة في ترك قبول أموال الناس قال رحمه الله تعالى: [فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسناً محموداً يصح له دينه بذلك، وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموماً، وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم ويترك أموالهم لهم. فهذه أربع مقاصد صالحة: غنى نفسه، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم]. ذكر الشيخ رحمه الله أربعة مقاصد صالحة، أي: في عدم الانتفاع من الناس: أولاً: غنى نفسه. ثانياً: عزتها؛ حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم. ثالثاً: سلامة مالهم. رابعاً: سلامة دينهم. قال رحمه الله تعالى: [وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم، فلا يذهبها عنهم، ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه، ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم، ومنفعة لهم أن يبقي لهم مالهم ودينهم، وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه، ويتألفون بالعطاء لهم، فكذلك في إبقاء أموالهم لهم، وقد يكون في ذلك أيضاً حفظ دينهم، فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضاً في أنواع من المعاصي، ويتركون أنواعاً من الطاعات، فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة. وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة، فتلك مفاسد أخر، وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم، فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلاً أو فقيراً إليهم، ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره، فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة، فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع، لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم. وللرد وجوه مكروهة مذمومة، منها: الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم]. كما ذكر الشيخ هناك أربعة مقاصد حسنة، سيذكر هنا الوجوه المذمومة، أو أربعة مقاصد فاسدة. قال رحمه الله تعالى: [ومنها: التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك، فهذا مذموم أيضاً. ومنها: البخل عليهم، فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم، فقد يترك الأخذ بخلاً عليهم بالمنافع. ومنها: الكسل عن الإحسان إليهم، فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل]. هنا قد حدد الأربعة المقاصد الفاسدة في الرد للعطاء، لكن قد تكون غير متميزة.

حال السلف في ترك قبول المال من الآخرين وقبول أخذه

حال السلف في ترك قبول المال من الآخرين وقبول أخذه قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنها، أو لجلب المنفعة للناس، أو دفع المضرة عنهم، فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها، وهو منفعة لها، وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد، وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم، ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلاً قد يضرهم، وقد يتركه لمضرة الناس، أو لترك منفعتهم، فهذا مذموم كما تقدم، وقد يكون في الترك أيضاً مضرة نفسه أو ترك منفعتها، إما بأن يكون محتاجاً إليه فيضره تركه، أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا، فيتركها من غير معارض مقاوم، فلهذا فصلنا هذه المسألة، فإنها مسألة عظيمة، وبإزائها مسألة القبول أيضاً، وفيها التفصيل، لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول، ولهذا يعظِّم الناس هذا الجنس أكثر، وإذا صح الأخذ كان أفضل، أعني: الأخذ والصرف إلى الناس]. كما كان يفعل الإمام أحمد رحمه الله، إذ كان من دأبه رد هدايا الأمراء والسلاطين، لكنه مرة أخذها ووزعها على الناس، أو أكثر من مرة فيما أذكر، وعلل ذلك في بعض المواقف التي أخذ فيها المال أنه خشية سوء الظن من السلطان به، أو أن يبني على ذلك أحكاماً تضر بأهل العلم، فأخذ المال ووزعه والناس يرون ويشاهدون. فهذه صورة من الصور، وهذا من فقه السلف، فقد كانوا يتورعون عن أخذ الهدايا والعطايا، لكنه ليس ذلك دائماً، بل إذا رأوا أن في رد الهدية مضرة، أو رأوا أن في أخذ الهدية مصلحة لأناس آخرين، كأن يكون هناك فقراء محتاجون، وفي أخذ الهدية لإعطائها إياهم مصلحة؛ فإن هذا أمر معتبر. وبالمناسبة أحب أن أطبق بعض ما ذكره الشيخ على حالنا اليوم، وذلك فيما يتعلق بمسألة المنافع المتبادلة بين الناس، إذ أصبحت العلاقة بين الناس الآن في الغالب مبنية على تبادل المنافع، فتجد أكثر الناس يحرص على أن يعطي ليأخذ، أو أن ينفع ليكسب، أو أن يساعد احتياطاً لحاجته في المستقبل، أو أن يسعى لتحسين علاقاته بالآخرين؛ لأنه يرى أن هذا سينفعه عند الحاجة في الحال أو المآل، وهذه كلها مقاصد أحياناً تضعف الإيمان في القلب، وتقسي القلوب، وتضعف المعاني القلبية التي ذكرها الشيخ، بل إن هذه مقاصد شر، والطامة أنها أصبحت من الأعراف والعادات، بل وغفل عنها كثير من طلاب العلم والوعاظ، مما أدى إلى ضياع بعض المعاني الشرعية، أو فقدناها إلا نادراً. ومن ذلك فقدان الزيارة في الله عز وجل، فالآن أكثر الناس إذا زاره أحد من إخوانه أو أصدقائه أو جيرانه، أو ممن يعرفه أو لا يعرفه، فإن أول ما يرِدُ في ذهنه أن له حاجة؛ لأن الزيارة في الله قد انعدمت، وما كان ينبغي أن يكون ذلك، بل ينبغي لطلاب العلم الذين يعرفون هذه المعاني أن يكونوا قدوة للناس في هذا الأمر، وأن يكثروا من الزيارات في الله عز وجل، فإن الزيارة في الله كادت أن تفقد، مع أنها في السابق كان لها معنى عظيم، وكانت تمارس بشكل ظاهر بين الناس يعرفها الصغير والكبير، والجاهل والعالم. والأعجب أننا اليوم إذا تحدثنا عن مسألة الزيارة في الله فكأنها مسألة تاريخية تُذكر للصالحين سابقاً، وهذا هو الواقع. أيضاًَ من الظواهر السيئة الموجودة عندنا بسبب ذلك: قلة المجالسة على مبدأ الجلساء الصالحين، فتجد المجالسة والمخالطة بيننا أحياناً، أو اختيار الأصدقاء والجلساء للشخص قد لا تكون مبنية على اختيار الجلساء الصالحين بالمعنى الدقيق، وإنما مبنية على الحاجة، والتحسب للطوارئ ونحو ذلك، وهذه مسألة تضعف الأعمال القلبية. ومن ذلك أيضاً: ضعف الحسبة في تبادل المنافع بين الناس، فتجد أكثر ما يعمله الناس حتى من أعمال الخير أحياناً لا يكون فيه شيء من الحسبة، أو الأمر مختلط فيه بين المقاصد وبين الاحتساب، حتى إن أكثر الناس الآن يفسرون أعمال البر بأن المقصود بها تحسين العلاقة بين الطرفين، وهذه مسألة يجب أن يتنبه لها، ثم إن هذا يؤدي إلى ضعف المقاصد الشرعية في قلوب الناس، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض، وفي تبادل المنافع بينهم. فضعف الحب في الله، وضعفت معاني الألفة والاجتماع والجماعة؛ لأن الناس قد تنافرت قلوبهم بسبب أن أكثرهم يظن أن ما يأتيه من إخوانه من منافع -حتى في أعمال الحسبة وغيرها- غالباً تكون لمقاصد دنيوية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[11]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [11] الاستغاثة التي لا تكون إلا بالله لا يجوز صرفها لغيره سبحانه، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب ولا لصالح من الصالحين، كل ذلك حفاظاً لجناب التوحيد، وبعداً عن الشرك بالله الذي هو أعظم الذنوب، فينبغي على المسلم البعد عن كل ما يخدش توحيده وإيمانه بالله تعالى.

شبهات القائلين بجواز الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء والصالحين

شبهات القائلين بجواز الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء والصالحين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في مجموع الفتاوى المجلد الأول، وسيكون موضوع هذا الدرس متعلق بنوع من أنواع العبودية، ألا وهو الاستعانة وعلاقتها بالاستغاثة، وهل بين الاستعانة والاستغاثة فرق أم لا؟ وبيان ما ينافي التوحيد أو ما ينافي كمال التوحيد في صورتي الاستغاثة والاستعانة بغير الله عز وجل. ومنشأ جواب شيخ الإسلام عن سؤال طويل تضمَّن بعض الإشكالات والجواب عليها، والعجيب أن السؤال يبدو أنه من عالم أو طالب علم متمكن كما سترون، ولذلك كان أحياناً يعرض السؤال عرض الفاهم، وأحياناً عرض المستفهم، وأحياناً يتضمَّن السؤال بعض الجواب. قال رحمه الله تعالى: [سئل الشيخ رحمه الله عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله تعالى فيه]. هذه الفقرة قد تضمَّنت شبهة فيها غموض أثرت في مفهوم كثير من الناس قديماً وحديثاً بعد القرون الثلاثة الفاضلة، بينما قبل القرون الثلاثة لم يكن هذا من الإشكالات، حتى إن بعض العلماء التبس عليه الأمر، فأجاب بما يخل بالتوحيد، وهذه المسألة هي الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق عموماً، وبالنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، فهل هي وسيلة مباحة أو غير مباحة؟ أو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم وسيطاً في دعاء الرب عز وجل، ويسمونه: الوسيلة. لذا فأقول: إن هذه المسألة عند التحقيق -بصرف النظر عن جزئياتها وفروعها- نجد أنها من الشركيات الصريحة في أصلها، لكن قد يختلف الناس في المفاهيم، وقد يجهل بعض الناس أنها شركية، وربما يبدع هذا النوع، أعني: اتخاذ الواسطة بين الله عز وجل وبين المخلوق، أياً كانت هذه الواسطة من المخلوقات، فإن ذلك شرك. والصورة المباحة منه لا تسمى في الحقيقة واسطة بالمخلوق، وأعني بالصورة: كون الإنسان يتخذ أعماله الصالحة وسيلة عند الله عز وجل، فهذا في الحقيقة هو محض العبادة الحقة، والأعمال الصالحة وسيلة عند الله عز وجل؛ وهي بذاتها مطلوبة من الله، وهي بذاتها موجهة إلى الله عز وجل. ودعوى بعض الناس: أن الدعاء صار واسطة أو وسيلة هو في الحقيقة عبث بالألفاظ، أو أنها أعمال صالحة قصد بها وجه الله، فالأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان لوجه الله عز وجل هي من الوسيلة؛ لأنها في حد ذاتها عبادة، لكن لم يتخذ المخلوق فيها واسطة بينه وبين الله، وإنما عبد الله بنفسه، أعني: عبده بدعائه، عبده بالعمل الصالح المخلص، عبده بالنية الصالحة، فهذه هي العبادة في الحقيقة. وتسميتها الوسيلة فيها نوع من العبث كذلك ما أبيح من طلب دعاء الرجل الصالح، وهو أكثر إشكالاً، وهو الذي اتخذه كثير من المبتدعة ذريعة للشرك، إذ إن طلب الدعاء من الرجل الصالح من الوسيلة المباحة، ولم يكن في هذه الصورة عند التحقيق اتخاذ العبد ذلك الإنسان الصالح واسطة بينه وبين الله. فالعبد الصالح ليس هو بذاته واسطة، وإنما هذا الإنسان طلب من رجل صالح آخر أن يدعو له، فكانت الصورة الحقيقية أن ذلك الرجل الداعي طلب من الله مباشرة، وعلى هذا فيكون طالب الدعاء توجه بقلبه إلى الله ليستجيب دعاء ذلك الرجل الآخر. وهذه لولا أنها توقيفية لكانت على القياس العام لا تصح؛ لكن نظراً لأنها جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها، وعمل بها وعمل بها الصحابة، لكانت من المتشابهات على الأقل، لكن لما أقرت شرعاً عرفنا وجه إقرارها، وهو: أن الإنسان الذي طلب من الرجل الصالح لم يطلبه بذاته، وإنما طلب دعاءه، فصارت الوسيلة هي أن ذلك الداعي دعا الله مباشرة، والطالب للدعاء طلب من الله أن يستجيب دعاء ذلك الداعي، أو رجا من الله وتعلق قلبه بالله في أن يستجيب دعاء ذلك الرجل الصالح، فهذه صورة تختلف عن بقية الصور المشتبهة التي ستأتي من خلال هذا السؤال. لذا فينبغي تحرير هذه المسألة والرجوع فيها إلى كتب أهل العلم، خاصة (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد حرر هذه المسألة تحريراً قوياً، وحشد لها الأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف وأعمالهم وتقريراتهم، فكان تفسيرها أشبه بالإجماع الذي لا ينبغي أن يحاد عنه. قال رحمه الله تعالى: [وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهي برسولك! أو أستغيث برسولك عندك أن تغفر لي استغاثةٌ بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم]. هذا الجزء من السؤال يقصد به السائل: أن هناك أناساً يزعمون أنه لا فرق بين الاستغاثة والاستعانة، أو الاستغاثة والتوسل، وأنها كل

جواب شيخ الإسلام عن شبهات القائلين بجواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره

جواب شيخ الإسلام عن شبهات القائلين بجواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بدأ شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب عن هذا السؤال، فجمع هذه القضايا أو الصور الأربع عشرة في أصول فند بعضها مع بعض، كما نجد أن بعض المسائل -ثلاث أو أربع مسائل- جوابها واحد، وبعض المسائل قد فصل في جوابها على أكثر من وجه، لأن السؤال في الحقيقة فيه خلط، وقد اجتمع الخلط فيه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السائل، فقد كان يظهر أنه من أهل الحق، فيذكر مداخلاته على السؤال، وهذا مما جعل السؤال متشتتاً. الوجه الثاني: أنه قد جمع شبهات المبتدعة وهي متفرقة ومتفاوتة، وليس بينها نظام ينظمها؛ ولذلك جاء السؤال من أشتات مسائل متفرقة ومن مداخلات السائل؛ لأن السائل نفسه يظهر أن عنده شيئاً من الفقه في الدين، بدليل أنه كان يوجه أحياناً الأسئلة ويجب عليها ضمناً. فالشيخ رحمه الله وضع قواعد تنظم جميع الأمور السابقة بصرف النظر عن مفرداتها، كما أنه قد أجاب على بعض رءوس المسائل، وأدخل البعض الآخر في هذه الرءوس. قال رحمه الله تعالى: [ A الحمد لله رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بنبي ولا بملك ولا بصالح ولا غير ذلك]. هذا في الحقيقة جواب مجمل محكم، وقاعدة عامة لا يجوز الاستثناء منها إلا بدليل، وسيذكر الاستثناء منها على سبيل التجوز، فيسمى توسلاً، وهو ما حدث من توسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك توسل الصحابة بدعاء العباس والأسود بن يزيد رضي الله عنهما، وهو توسل بدعائهم جزماً؛ لأن القصة حدثت على هذا الوجه. فالشيخ قعد هذه القاعدة، ولا يستثنى منها إلا صوراً تسمى توسلاً تجوزاً، أو بشرط مفهومها المعلوم بالضرورة؛ لأنها واقعة حدثت وفسرت بنوع معين من التوسل. قال رحمه الله تعالى: [بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه. ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان]. جواب الشيخ تضمن عدة مسائل: المسألة الأولى: قوله: (لم يقل أحد من علماء المسلمين)، فهذه القاعدة العامة الأولى. القاعدة الثانية: قوله: (بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام). أي: أنه لا يستغاث بأحد من المخلوقين فيما لا يستغاث به إلا الله، فجعل ذلك من المعلوم بالضرورة، وليس الأمر فقط اتفق عليه العلماء، وبهذا يكون قد نفى أن يقول أحد من علماء المسلمين المعتبرين بهذا القول.

الفرق بين التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام والاستغاثة به

الفرق بين التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام والاستغاثة به قال رحمه الله تعالى: [ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به]. قوله: (وإنما يطلب به)، أي: يطلب من الله عز وجل أن يستجيب دعاءه في ذلك المطلوب، وهذا وجه مشروع، وعلى هذا فإنه لم يرد دليل من الشرع، أو أن أحداً من أهل العلم أجاز الاستغاثة بالمخلوق، لا بنبي ولا بصالح ولا غيره، وأن هذا النوع -أي: الاستغاثة بالمخلوق- داخل في عموم الشركيات، وأنه داخل دخولاً أولياً في نوع من أنواع شرك المشركين الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه بقولهم في شبهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فكلمة: (ما نعبدهم) عامة يدرج تحتها التوسل والدعاء والتعظيم والتقديس، كما يندرج تحتها ادعاء أن هؤلاء لهم تصريف فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ وكل ذلك لأن العبادة معناها واسع، وأول العبادة هو الدعاء الذي هو محل الإشكال، ولذلك العرب الأوائل الذين تنزل عليهم القرآن فقهوا معنى هذه الآية، ولم يضيع معناها إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وذلك حينما كثرت العجمة وقل فقه الناس بالعربية، وحتى العرب ضعف فقههم العربي، وإلا فالآية صريحة في اتخاذ الوسائط والوسائل وما عليه المبتدعون في قوله عز وجل عن طائفة من المشركين بأنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فجعلوا الغاية التقرب إلى الله، لكنهم أشركوا باتخاذهم هذه الوسائط، والآية صريحة، فهي تضم كل نوع من أنواع اتخاذ الوسائط أياً كان هذا التبرير.

معنى الاستغاثة والاستعانة والنصرة والفرق بينهما وما يجوز طلبه من المخلوق

معنى الاستغاثة والاستعانة والنصرة والفرق بينهما وما يجوز طلبه من المخلوق قال رحمه الله تعالى: [والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]]. هذه الفروق تعتبر وجهاً رابعاً من الجواب، والاستغاثة ليست بمعنى الاستعانة من كل وجه، وعليه فهذه الفروق تبين أن بين الحالتين فروقاً في المعنى والحكم. قال رحمه الله: [وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله، ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به ويتوسلون به، كما في صحيح البخاري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بـ العباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فيسقون). وفي سنن أبي داود: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)، فأقره على قوله: (نستشفع بك على الله) وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك]. وهذه صورة خامسة من صور هذا الموضع، ولها حكمها بالتفصيل.

الفرق بين الشفاعة في الآخرة والشفاعة في الدنيا وحكم الشفاعة عند الوعيدية

الفرق بين الشفاعة في الآخرة والشفاعة في الدنيا وحكم الشفاعة عند الوعيدية وهذا السادس من صور الفروق. قال رحمه الله تعالى: [وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب]. الشفاعة أولاً توقيفية. والأمر الآخر: أنها يوم القيامة بشروطها المعروفة، وقد ذكرها الله عز وجل فهي قاطعة، وذلك حينما لا يكون هناك أعمال، ولا تسحب أحكام الشفاعة في الآخرة على أحكام الشفاعة في الدنيا، أو العكس، فلا تسحب أحكام الشفاعة في الدنيا على أحكام الشفاعة في الآخرة؛ لأنها توقيفية، والشفاعة إنما تكون بعد أن تنتهي الأعمال، وأنها أيضاً لها شروط في الشافع والمشفوع له. وأما المقصود بالوعيدية فهم المعتزلة والخوارج؛ وسموا بالوعيدية لأنهم جعلوا الوعيد هو الأصل ولم يستثنوا فيه، ولم يعولوا على الوعد، مع أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد استثنيا، والوعيد أمر راجع إلى اختيار الله عز وجل وتقديره ورحمته بعباده، فإن شاء أنفذ وعيده، وإن شاء لم ينفذه، فإن أنفذه فذلك بعدله سبحانه، وإن لم ينفذه فذلك برحمته سبحانه. فهم قد حكموا على الله عز وجل كما يحكمون على الخلق، فقالوا: بأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك، بل حكموا على الله بأسوأ مما يحكمون على الخلق؛ لأن هؤلاء المعتزلة والخوارج لو قال لهم إنسان: إن فلاناً من الناس سلطاناً أو أميراً أو والياً أو والداً هدد واحداً من رعيته ثم عفا عنه. لقالوا: هذا والله كرم وكمال، لكن لما عرفوا وسمعوا أن الله عز وجل يعفو عمن يشاء من عباده ضاقوا بذلك، وحكموا بالوعيد، وقالوا: أبداً، بل يجب على الله أن ينفذ وعيده، فسمى المعتزلة والخوارج هذا الأمر: إنفاذ الوعيد، فلذا سموا: الوعيدية، وقالوا: لا يجوز لله عز وجل -تعالى الله عن ذلك، وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، ولولا أنهم حكوه ما حكيناه، لكن الله عز وجل قد حكى أقوال أهل الكفر للتنفير منها، ونحن نحكي أقوال أهل البدع للتنفير منها- ولا ينبغي له أن يغفر أو يعذب، فيخرج من النار بعد العذاب إلخ، وقالوا: بوجوب إنفاذ الوعيد على الله سبحانه، وكأنهم أوجبوا على الله ما لم يوجبه على نفسه.

الرد على من قال: إن التوسل إلى الله بنبي يعتبر استغاثة حقيقية بذلك النبي المتوسل به

الرد على من قال: إن التوسل إلى الله بنبي يعتبر استغاثة حقيقية بذلك النبي المتوسل به هذا الجزء السابع من الجواب. قال رحمه الله تعالى: [وقول القائل: (إن من توسل إلى الله بنبي فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم) قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسئول به مدعو، ويفرقون بين المسئول والمسئول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك. ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله]. يمكن أن يكون هذا الوجه الثامن من الجواب؛ لأنه قد فرعه على الأول، لكن له استقلالية في المعنى. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال].

حكم التوسل بغير نبينا صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بغير نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الوجه التاسع من الجواب. قال رحمه الله تعالى: [والتوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم -سواء سمي استغاثة أو لم يسم- لا نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روى فيه أثراً، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع]. يقصد بالشيخ: العز بن عبد السلام، فقد حصر الاستغاثة والاستعانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل يقصد بشرطها عند السلف أم لا؟ الله أعلم، ما تحققت من هذا بعد. وهل يقصد الصور المشروعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وذلك حينما كان الصحابة يستغيثون به، يعني: بدعائه صلى الله عليه وسلم، أو يقصد معنى أوسع وهو الظاهر؛ لأن العز بن عبد السلام قد عتب عليه بعض السلف بسبب توسعه في هذا الجانب، لكنه ما أجاز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجود الشبهة في حقه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لمن لم يفهموا حديث استشفاع الأعمى واستشفاع العباس، واستشفاع الصحابة بـ العباس وبـ الأسود وغيرهم. قال رحمه الله تعالى: [ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع].

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم شرع الشيخ رحمه الله في الوجه العاشر فقال رحمه الله: [وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن رواه النسائي والترمذي وغيرهما: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد! إني أتشفع بك في رد بصري، اللهم شفع نبيك فيَّ، وقال: فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره)، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به]. مع أن هذا الحديث تفسره الروايات الأخرى لكنه مجمل، ولذلك من خصائص منهج السلف رحمهم الله -وهذا ما ينبغي أن نستمسك به، ونعود طلاب العلم على الاستمساك به-: أنهم في الأمور الغيبية والتوقيفية وأمور العقيدة لا يجوز أخذ نص واحد بدون أن يفسر، فالنص الواحد قد يفسره فهم الصحابة له، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، وقد يفسره سياق آخر للحديث؛ لأن الأحاديث أحياناً تساق بإجمال وأحياناً تساق بتفصيل، كما ورد في قصة استشفاع الصحابة بـ العباس، فإنه ورد في الحديث الصحيح أنهم قصدوا بذلك أن يدعو العباس ويؤمنوا وراءه. وكما في قصة الأعمى، فإنه ورد في بعض رواياتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، فكان استشفاعه بمعنى أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه طلب منه قبل ذلك أن يتهيأ بأن يكون قلبه مقبلاً على الله عز وجل، وذلك حتى يكون على حال ترضي الله عز وجل، بأن يتوضأ ويصلي ركعتين لاجئاً فيها إلى الله عز وجل بأن يقبل دعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فتأمل كيف فعل عليه الصلاة والسلام؟ فقد وجهه إلى العبادة المخلصة، ولم يوجهه إلى ذاته عليه الصلاة والسلام أو وكله عليه. إذاً: فهذه هي الصورة الصحيحة، ولذلك تميز منهج السلف بمثل هذا التوجيه دائماً، وتميزوا بأن يأخذوا بالنصوص بعمومها، وأن يرجعوها إلى القواعد العامة القاطعة الضرورية، وأن يرجعوها إلى فهم الصحابة أيضاً، وإلا لو فهم الصحابة ذلك الفهم الذي فهمه أهل البدع من أن المقصود بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله لفعلوه، وهم بحاجة إليه، لكنهم ما فعلوه، إلا أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وطلب الدعاء منه عليه الصلاة والسلام كان على صور: منها: ما يكون بصورة التوسل الظاهر به. ومنها: ما يكون بمجرد طلب الدعاء. ومنها: ما يكون على نحو غيبي، فقد يطلبون في بعض أمورهم أن يقبل الله عز وجل دعاء نبيه فيهم، وهذا أمر مشروع ولا يزال مشروعاً، لكن هذه الصورة ليست من باب التوسل بمعناه عند أهل البدع. ثم قسم السلف التوسل إلى ثلاثة أقسام: توسل شركي. وتوسل بدعي. وتوسل مشروع. وبناءً على هذه النصوص، فأهل البدع لا يفرقون في ذلك، بل كل أنواع التوسل عندهم مشروعة، فلم يفرقوا بين الممنوع وبين الجائز، ولا بين البدعي وبين الجائز.

أقوال الناس في معنى التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

أقوال الناس في معنى التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: (كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، فقد ذكر عمر رضي الله عنه: أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً لهم داعياً لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: (اللهم فشفعه فيَّ). فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه]. لذلك كثير من أهل البدع أُتوا من قبل العجمة كما ذكر أئمة السلف، ومعنى: العجمة: أنهم لم يفقهوا معاني العربية، فلذلك لم يفرقوا بين معنى قوله: (شفعه فيَّ) وبين المعنى البدعي الذي ظنوه. وقوله: (شفعه فيَّ) معناها: اقبل دعاءه في حقي، أو في طلبي، ولا تأتي بمعنى: (شفع) إلا إذا كانت بمعنى: أن يوجد جهد من النبي صلى الله عليه وسلم يبذله، وهذا الجهد هو دعاؤه، ولو كان توسلاً بذات النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: (شفعه)؛ لأنه لو اعتبر الذات هي النافعة ما اعتبر هذا تشفيعاً، ولا اعتبر هذا توجهاً إلى الذات أو توجهاً إلى الشخص. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن التوسل يكون في حياته وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك]. هذا الوجه الحادي عشر من جواب الشبهات في السابق، وما سبق فهو تفصيل للوجه العاشر. قال رحمه الله تعالى: [واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين. وأما من قال: (إن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر)، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين]. هذا الوجه الثاني عشر. قال رحمه الله تعالى: [وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما)]. هذا الوجه الثالث عشر. قال رحمه الله تعالى: [وأما من قال: (ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث فيه إلا به)، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)]. كلام أبي يزيد وهو البسطامي كلام جيد، وتقعيد عظيم، وهذا مما يجعل الباحث يتوقف في نسبة بعض الأشياء التي تعد من خوارم العقيدة التي نسبت إلى أبي يزيد؛ لأنه في الحقيقة يصعب ويبعد أن يكون هذا الكلام الجيد، والذي هو من درر الكلام أن يصدر عن إنسان تنسب له تلك المقالات أو تلك الشطحات التي ذكرها عنه مؤرخة التصوف؛ ولذلك كما قلت -كلما تأتي لي هذه المناسبة أكرر ذلك؛ لأن الإخوان الحاضرين أحسبهم من خيرة طلاب العلم، ومن ذوي المقدرة على البحث-: بأنه لابد من ضرورة تحرير مثل هذه المسائل التي تنسب إلى أبي يزيد البسطامي وابن أبي الحواري والجنيد والتستري وأمثالهم من شطحات أحياناً كفرية. في حين أنه تنسب إليهم مثل هذه الدرر التي تدل على صفاء التوحيد، وتدل على قوة يقين في قضايا العقيدة، وهي في الحقيقة من درر الكلام التي فيها رد مباشر على الذين ينتسبون إلى أبي يزيد البسطامي الآن، ويزعمون أنه أصل بدعهم. ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -في الحقيقة- تحرز وتوقف فيما قاله الناس عن هؤلاء من شطحات، وكذلك قول القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون هي بمعنى قول أبي يزيد البسطامي. إذاً: فهذا التصور صاف في التوحيد، ولا يتأتى معه ما ذكر عن هؤلاء من خوارم، فأرجو من أحد الإخوان أن يبحث هذه المسائل، ولو على الأقل في شخص واحد ليكون أنموذجاً، كـ أبي يزيد أو ابن أبي الحواري أو التستري أو

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين التوسل البدعي والتوسل الشركي

الفرق بين التوسل البدعي والتوسل الشركي Q نرجو توضيح الفرق بين صورة التوسل البدعي والتوسل الشركي؟ A هذا سيأتي إن شاء الله في درس قادم، لكن الفارق الأولي: هو أن التوسل الشركي هو الذي يكون فيه إشراك مع الله عز وجل، سواء في العبادة أو الدعاء أو التوجه إلخ. وأما التوسل البدعي فهو التوسل إلى الله عز وجل مع إحداث شيء في التوسل لم يكن له أصل في الشرع، كالتوسل ودعاء الله عند القبر، فإذا قصد دعاء صاحب القبر فهو توسل شركي، وإذا جعل الميت أو الحي وسيلة إلى الله عز وجل، بمعنى: أنه جعله بذاته وسيلة فهي وسيلة شرك، لكن إذا دعا في هذا المكان أو عند هذا الشخص زاعماً أن هذا المكان مبارك، وأن للدعاء فيه خصوصية، فهذا يسمى توسلاً بدعياً. إذاً: إذا دعا صاحب القبر، أو صرف له نوعاً من أنواع العبادة، فهذا توسل شركي، وإذا قصد المحل أو الشخص، ظاناً أن ذلك من أسباب إجابة الدعاء، أو ظاناً أن ذلك من وسائل إجابة الدعاء، فهذا توسل بدعي، وهذه صورة من صوره.

حكم طلب الدعاء والاستغفار من أهل العلم والفضل

حكم طلب الدعاء والاستغفار من أهل العلم والفضل Q ما رأيكم فيمن يطلب من أهل الفضل والعلم بأن يدعوا له أو يستغفروا له؟ A كون الإنسان يطلب من رجل آخر أن يدعو له لا حرج فيه، لكن بشرط ألا يكثر، وألا يعتمد على دعاء الشخص، وأن يطلب من الله عز وجل أن يستجيب دعاء الداعي له، وأن يعرف أن هذا الشخص ليس بذاته هو الوسيلة أو الواسطة، وإنما هذا الشخص طُلِب منه فقط أن يدعو الله، فكان الرجاء في أن يقبل الله دعاءه، ويتعلق القلب بالله؛ لعل الله يقبل دعاء ذلك الشخص. أما إذا تعلقت النفس بالشخص نفسه، أو ببركته، أو بالاعتقاد فيه، فذلك إما أن يكون بدعياً أو شركياً.

حكم من أوصى بأن يدفن في مقابر الصالحين

حكم من أوصى بأن يدفن في مقابر الصالحين Q ما حكم إذا أوصى الإنسان بأن يدفن في مقابر الصالحين، كما طلب بعض السلف في الوصية بدفنهم في قبور الصالحين، كما في جبل قاسيون وغير ذلك؟ A هذه مسائل سهلة، كون الإنسان يطلب أن يدفن في مقابر يرجو أن يكون أهلها أقرب إلى الصلاح، فإن شاء الله لا حرج في ذلك، إلا إذا كان يعتقد أن لها شفاعة عند الله عز وجل، أو أن الله سيدفع عنه العذاب بسببهم، فهذا لا يجوز، لكن يستأنس بقربهم، ويرجو من الله عز وجل أن يكون في بيئتهم التي خصهم الله بها، مع أن بعض أهل العلم قال: إذا أوصى أن يقبر في مقبرة فلا تنفذ هذه الوصية إذا كان فيها سفراً أو كانت بعيدة؛ لأن هذا من التكلف في الدين، وهذا هو الأقرب.

حكم دفن موتى المسلمين في مقابر الكفار

حكم دفن موتى المسلمين في مقابر الكفار Q ما حكم دفن الموتى من المسلمين في مقابر الكفار؟ A ينبغي للمسلمين أن يدفنوا موتاهم في مقابر المسلمين، ولا يدفنوا موتاهم في مقابر الكفار، وهنا قد يرد إشكال وهو: إذا مات المسلم في بلاد الكفار فما حكم ذلك؟ يجب أن يبحث له عن مقابر للمسلمين، أو ينقل إلى بلاده إذا أمكن ذلك، وبحمد الله قد علمت أن في كثير من البلاد الغربية وغيرها استطاع المسلمون أن يتخذوا لهم مقابر خاصة، وهذا مما يجب على من يموت له قريب أن يدفنه في مقابر المسلمين، ولا يدفنه منفرداً إلا إذا لم يجد له مقبرة لموتى المسلمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[12]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [12] الاستغاثة والاستعانة نوعان: استعانة واستغاثة في شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا تطلب من غيره أبداً، واستغاثة واستعانة في شيء يقدر عليه المخلوق، فيجوز طلبها من المخلوق القادر الحي، أما من الميت فلا يطلب منه ذلك أبداً، ومن عرف ذلك وضبطه واجتنب المحذور فيه عصم من تلبيسات وشبه أهل الأهواء والبدع.

القائلون بمنع الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام وغيره وأدلتهم

القائلون بمنع الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام وغيره وأدلتهم

الأدب مع العلماء وغيرهم

الأدب مع العلماء وغيرهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلا زلنا في موضوع الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع ومعانيها الشرعية، وما ينافي المعاني الشرعية من المفاهيم والمعاني البدعية. قال رحمه الله تعالى: سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وفقهم الله لطاعته فيمن يقول]. من الأشياء التي ينبغي على طلاب العلم أن يتفطنوا لها التنبيه على ما كان عليه سلف هذه الأمة من التأدب مع كل من له قدر، فتلاحظون في صيغة السؤال ما هو سائد عند المسلمين في جميع الأعصار والأمصار إلى وقت قريب، ولا يزال على هذا كثير من طلاب العلم، لكن ظهرت عند بعض الناس مظاهر الجفوة؛ لأسباب كثيرة لسنا بصدد ذكرها، لكن أحب أن أنبه إلى أن مثل هذه الصياغة التي قدم بها السائل لشيخ الإسلام ابن تيمية هي مقتضى الأدب، وينبغي أن ننبه على ذلك، بل يجب على طلاب العلم أمثالكم أن ينبهوا على تربية أبناء المسلمين في هذا العصر على مثل هذا الأدب مع كل مَن مِن حقه الأدب: كالأدب مع الوالدين، والأدب مع الإخوة، والأدب مع طالب العلم، والأدب مع العالم، والأدب مع المسئول ومع الوالي، والأدب مع كل من كان له اعتبار في المجتمع، أو له اعتبار يستحق به أن يكون من أصحاب المقامات، سواء كانت مقامات شرعية، أو مقامات اعتبارية، أو مقامات اجتماعية لها وزنها في العرف العام وغيرها. لذا كان أصحاب المقامات لا بد أن نخاطبهم بقدر مقاماتهم، ولذلك كان خطاب الأنبياء لكبراء القوم فيه شيء من اللين، وشيء من اعتبار المقام كما أرشد الله نبيه موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44]، فكان توجيه الله عز وجل لأنبيائه ورسله أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، وأن يخاطبوا الملوك والعظماء بقدر مقاماتهم؛ لأن هذا أدعى للين القلوب ورقتها وقبولها للحق. ثم بعد ذلك نجد أن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقدر للناس أقدارهم، ولذلك كان يخص المؤلفة قلوبهم بما لا يخص غيرهم من الامتيازات، حتى كبار الصحابة، الامتيازات المادية والاعتبارات والجاه وغير ذلك، وخير مثال على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يؤلف قلب أبي سفيان رضي الله عنه في أول إسلامه قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وكان يمكن لو كان على فكر بعض الناس اليوم لقال: هذا صعلوك، إن شاء أسلم، وإن شاء لم يسلم. يمكن أن يقول بعض الناس هذه المقالة على مبدأ كثير من الناس، أو كثير من المتعالمين اليوم. ولذا نجد هذا أيضاً في صور كثيرة من كبار الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى، أعني: التأدب واعتبار المقامات للناس. مع أن هذا السؤال ليس غريباً، فهو لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن مع ذلك أقول: إنه قاعدة لكل من أراد أن يتعامل مع الآخر بأن يقدر له قدره.

عدم جواز الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق في باب الدعاء وفيما لا يقدر عليه إلا الله

عدم جواز الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق في باب الدعاء وفيما لا يقدر عليه إلا الله قال رحمه الله تعالى: [ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وفقهم الله لطاعته فيمن يقول: لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك، أفتونا مأجورين؟]. قد تلاحظون من السؤال شدة التباس الأمر على السائل، وهذا يدل على أن تلبيس أهل الأهواء والبدع على المسلمين قد وقع موقعه في قلوب كثير من العامة في ذلك العصر، فكيف بعصورنا المتأخرة؟! إذاً: تلبيس أهل الأهواء والبدع على الناس، وقلبهم للحقائق حتى جعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً. والسؤال هنا يجعل القارئ يتردد: هل القصد بالحكم بالكفر على من قال السنة أو على من قال البدعة؟ وعلى أي حال فالسؤال يتعلق بالاستغاثة بالمخلوق، ويدل السؤال على أنه قد وجد في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل الأهواء والبدع والطرق والفرق والجماعات من جعل الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم من دون الله عز وجل من أساسيات الدين، وجعل الاستغاثة بالمخلوق من أعظم العبادة، حتى إنهم ظنوا أن من أنكر هذا فهو كافر، ولذلك تجد السؤال فعلاً يظهر من خلال سياقه اللبس. وكما أنه معلوم -كما يقرره الشيخ- أنه لا يجوز الاستغاثة والاستعانة بغير الله عز وجل من باب الدعاء، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله. والسؤال فيما يظهر أنه ليس فيما يقدر عليه المخلوق؛ لأن ما يقدر عليه المخلوق أمر لا يحتاج إلى سؤال، وليس هو محل إشكال؛ لأنه بدهي فطري، فلا معنى أن تقول لأخيك: ناولني القلم، فهذه استعانة، لكن استعانة بما يقدر عليه، وليس فيها أي حرج، ولا يرد فيها أي إشكال، وإنما ورد الإشكال في الأمور البدعية والشركية، والاستعانة بغير الله عز وجل، والاستغاثة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله، وصرف العبادة لغير الله. إذاً أقول: هذا الأمر الصريح الشركي في خروجه عن العقيدة والدين قد صار محل إشكال؛ بسبب تلبيس الملبسين من أهل البدع والأهواء.

ثبوت شفاعات الرسول صلى الله عليه وسلم في الآخرة

ثبوت شفاعات الرسول صلى الله عليه وسلم في الآخرة قال رحمه الله تعالى: [فأجاب: الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة واتفاق الأمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفَّع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به، يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم، وأنه يشفع لهم. ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مبتدعة ضلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل]. هذا الكلام كله في الشفاعة يوم القيامة، ولا شك أن الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ثابتة بشروطها، بل له عليه الصلاة والسلام عدة شفاعات ثابتة بشروطها، وبعضها متواتر، كشفاعته لأهل الكبائر، والذي من أنكره فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة. قال رحمه الله: [وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه].

حكم الاستشفاع والتوسل به عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته

حكم الاستشفاع والتوسل به عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته ثم قال رحمه الله: [وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بـ العباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. وفي سنن أبي داود وغيره: (أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك! إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)، وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: (نستشفع بالله عليك)، ولم ينكر قوله: (نستشفع بك على الله)، بل أقره عليه، فعلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل. وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:135]، وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، وقال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]]. قبل أن يقول الشيخ القول الفصل في موضوع مقدمات الشفاعة هنا، فإنه سيتكلم عن هذا في فصول قادمة كثيرة، وسيأتي قريباً إن شاء الله كل كتاب (التوسل والوسيلة). لكن أحب أن أنبه على أن الشيخ هنا لم يفصح عن مسألة قد ينساها بعض الناس من خلال قراءة هذا المقطع، ألا وهي: أنه حينما ذكر استشفاع الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يقصد استشفاعهم به وهو حي، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يستشفعون به وهو ميت، والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنواع كثيرة، لكن أهمها: طلب الشفاعة منه يوم القيامة، وهذا أمر يحدث بشروطه وفي وقته، ولا يحدث قبل القيامة، وكون الخلائق يطلبون منه صلى الله عليه وسلم الشفاعة لهم عند الله حتى يفصل بينهم، وكون أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- يطلبون منه أن يشفع لهم عند ربهم حتى يفتح لهم الجنة، وكونه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته بأن يخرجوا من النار، فكل ذلك من الشفاعات في الآخرة التي لا تحدث في الدنيا، وإنما تحدث يوم القيامة، لكن بشروطها، ولا مزيد عما ورد فيها. وأما الشفاعة به صلى الله عليه وسلم في الدنيا فهي على نوعين: الأول: الاستشفاع به عليه الصلاة والسلام وهو حي، بمعنى: أن يطلب منه أن يدعو الله عز وجل، سواء لإنسان بذاته أو للمسلمين عموماً في نفع عام أو نفع خاص، فهذا جائز ومشروع، والصحابة كانوا يفعلونه. الثانية: الاستشفاع به أو بدعائه وهو ميت، وهذا لا شك أنه من أبواب الشرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يعد يستجيب لأحد، وهو كغيره من سائر الأموات، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خص ببعض الخصائص، كأن يرد السلام على من سلَّم عليه في أي مكان، فهذه الخصيصة لا دخل لها في مسألة استجابة الدعاء، وإنما هذه خاصة برد السلام فقط. فإذاً: لا يجوز ولا يشرع، بل من البدع المغلظة وأحياناً من الشرك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به وهو ميت، سواء عند قبره، أو بعيداً عن قبره.

المعاني والعبارات الواردة في الكتاب والسنة وغيرهما نفيا وإثباتا

المعاني والعبارات الواردة في الكتاب والسنة وغيرهما نفياً وإثباتاً قال رحمه الله تعالى: [فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفياً وإثباتاً إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رُجع فيه إليه]. هذه في الحقيقة قاعدة عظيمة، لكن فيها غموض، وهي قوله: (فالمعاني الثابتة في الكتاب والسنة يجب إثباتها) فقصده بالمعاني: المعاني العامة المجملة التي إما أن يفهمها عامة الناس، أو يفهمها أهل العلم ويستنبطوها بقواعد وبأصول، وهذه المعاني الثابتة في الكتاب والسنة يجب إثباتها، بمعنى: يجب أن تكون هي المرجع وهي قواعد الدين؛ لأنه ليس المقصود هنا مجرد المعاني اللفظية الفردية؛ لأن هذه قد يتنازع عليها الناس، ولذلك ينبغي أن يتعود طلاب العلم في تبصير الناس في دينهم أن يبصّروهم بمجملات الدين، ولا يدخلون عليهم التفاصيل وتفصّل لهم، ومن هنا أحب أن أنبه كثيراً من أهل العلم الذين يخطئون في تعليم الناس، سواء في المساجد أو في الدروس الخاصة أو في المدارس أو غيرها، فيدخلون في تفاصيل قضايا الدين، وهذا في الغالب يكون فيه فتنة على الناس، لذا ينبغي على طلاب العلم أن يُعلّموا الناس الدين بقدر مداركهم، وإذا كانت المجالس فيها العامة والخاصة فينبغي أن تراعى العامة قبل الخاصة، وإذا كانت المجالس فيها طلاب علم وعوام فينبغي أن يراعى العوام قبل طلاب العلم، ولا تتحدث بحديث قد تدخل الآخرين في عماية وشك وحيرة، ولذلك كان السلف يطردون القُصّاص من المساجد؛ لأنهم يحدثون الناس بما لا يعرفون، مع أن أكثر ما يحدثون به قد يكون حقاً. ومن هنا فهذه الجملة جملة عظيمة جداً، أعني: جملة: (المعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها في الجملة) أما إذا دخل التفصيل فقد يكون فيه نزاع، وقد يكون فيه خلاف، وقد يختلف الناس في فهمه إلى آخره. ثم قال: (والعبارة الدالة على المعاني نفياً وإثباتاً إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها) يعني: إقرارها كما جاءت، فإن فُهمت فبها ونعمت، وإن لم تفهم فيجب الالتزام بلفظها والتسليم، ولا تكون محل نزاع أو محل نظر ولا ترد عليها الإشكالات؛ لأن إيراد الإشكالات على معاني ألفاظ الكتاب والسنة إنما هو في الغالب فيه نوع من المشاقّة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

قاعدة في الحكم على الناس أو لهم

قاعدة في الحكم على الناس أو لهم قال: (وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رُجع فيه إليه) هذه أيضاً قاعدة مهمة في الحكم على الناس أو لهم، فإذا حكمت على أحد أو لأحد بكلامك، فإن كان كلامه بيناً واضحاً فلك ذلك، وإذا لم يكن بيناً فلا تحمله على ما لا يحتمل، ويبقى المحمل الحسن هو الأصل، ثم إذا ظهر مراد الشخص من كلامه رُتّب عليه الحكم، يعني: سواء بالتخطئة أو التصويب أو ما يترتب على التخطئة أو التصويب، ولذلك ينبغي أن يحذر الناس من التكلّف في معاني ما يصدر عن الآخرين، ويجب أن يستصحب في الأصل حال الناس العامة، فقد يكون المتكلم له حال خاصة، كأن يكون متمذهباً أو متحزّباً، أو يكون صاحب سنة، فلا مانع من استصحاب حاله في هذا الأمر إذا ثبت موجب هذا الاستصحاب. إذاً أقول: هذه قواعد عظيمة في الحقيقة ينبغي أن نستفيد منها، وأن نعرف ما يترتب عليها من فروع جيدة ومفيدة لنا في حياتنا العلمية والعملية.

معنى الغياث والمغيث وهل هو من أسماء الله

معنى الغياث والمغيث وهل هو من أسماء الله قال رحمه الله تعالى: [وقد يكون في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في معجمه الكبير (أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله)، فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يُطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش له ميزاب. وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز. قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة قالوا: واجتمعت الأمة على ذلك. وقال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلّصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). يقال: أغاثه إغاثة وغياثاً وغوثاً، وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر].

الفرق بين المستغيث والداعي وحكم الاستغاثة والاستعانة بصفات الله تعالى

الفرق بين المستغيث والداعي وحكم الاستغاثة والاستعانة بصفات الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [قالوا: الفرق بين المستغيث والداعي: أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر، فإن من صيغة الاستغاثة: يا لله للمسلمين، وقد روي عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول: وا غوثاه، ويقول: إني سمعت الله يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، وفي الدعاء المأثور: (يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك). والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة، ففي الحديث: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق)، وفيه (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: (أعوذ بكلمات الله التامة). قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق]. يقصد الشيخ أن كلمات الله من كلامه الذي هو صفته، وعلى هذا فإن كلام الله غير مخلوق؛ لأن صفات الله غير مخلوقة جزماً، ولذلك ورد الاستعاذة بكلمات الله التامة، ولا يجوز الاستعاذة بالمخلوق، فلو كانت كلمات الله مخلوقة ما استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا جازت الاستعاذة بها، ولو كانت كلمات الله مخلوقة بما فيها القرآن أو شيء من كلمات الله مخلوق ما جاز الاستعاذة بها؛ لأنه لا يجوز الاستعاذة إلا بالله أو بصفاته، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن كلمات الله هي صفته وليست مخلوقة. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك القسم، قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي لفظ: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه الترمذي وصححه، ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف بعزة الله، ولعمر الله ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه].

معنى الاستغاثة المثبتة والاستغاثة المنفية عن الرسول صلى الله عليه وسلم

معنى الاستغاثة المثبتة والاستغاثة المنفية عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [والاستغاثة بمعنى: أن يُطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال. وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وفي دعاء موسى عليه السلام: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، وكان مختصاً بالله، صح إطلاق نفيه عما سواه، ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله. وكذلك الاستغاثة أيضاً فيها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، والنصر المطلق: هو خلق ما به يُغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله. ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة فإنه يكون إما كافراً، وإما فاسقاً، وإما عاصياً، إلا أن يكون مؤمناً مجتهداً مخطئاً فيثاب على اجتهاده، ويُغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة، فإن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها، فإنه يُعاقب بحسب ذلك، إما بالقتل، وإما بدونه، والله أعلم.

فصل مسميات ما يعبد من دون الله

فصل مسميات ما يعبد من دون الله

الرد على أهل البدع القائلين بجواز اتخاذ الوسائط بكل مسمياتها بينهم وبين الله عز وجل

الرد على أهل البدع القائلين بجواز اتخاذ الوسائط بكل مسمياتها بينهم وبين الله عز وجل قال رحمه الله تعالى: [فصل سمى الله آلهتهم التي عبدوها من دونه شفعاء كما سماها شركاء في غير موضع]. يريد الشيخ هنا أن يقرر قضية التبست على كثير من أهل البدع والأهواء والافتراق، وخاصة أصحاب التوسلات البدعية، ألا وهي أنهم زعموا أن هناك فرقاً بين عبادة من يقدّسونهم وبين جعلهم وساطة بينهم وبين الله، فجعلوا الوساطة جائزة، والعبادة المباشرة ممنوعة، فهو رحمه الله يريد أن يقرر أن مسألة اتخاذ الشفعاء من دون الله عز وجل بجميع الأسماء، سواء سمّيت وساطة أو سمّيت شفاعة أو سمّيت وجاهة أو سمّيت ولاية أو سمّيت بأي اسم من الأسماء، وما دام دخل فيها اتخاذ العبد من دون الله عز وجل وسيلة فهذه هي البدعة وهو المحرم، وقد يكون شركاً، وهذا هو الذي رده الله على طائفة المشركين قولهم فيه، وهم الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. إذاً: الشرك الذي وقع فيه المشركون قديماً وحديثاً على نوعين: منه شرك مباشر وهو عبادة غير الله عز وجل بقصد العبادة والتقديس والتعظيم. والآخر وهو الملبس والذي وقع فيه أكثر الذين وقعوا في الشرك من هذه الأمة، وهو: اتخاذ الوسائط من دون الله، سواء من الأولياء الأحياء أو الأموات، أو الأشخاص أو الأشجار أو الأحجار أو المشاهد أو العباد، فكل هذه الوسائل أو الوسائط سواء كان على سبيل التقديس أو على سبيل التوسط أو على سبيل التبرك البدعي أو نحو ذلك، فكله يدخل في الوسائط الممنوعة، وأغلبها من الصور الشركية، وقد يكون من الصور البدعية المغلّظة. واتخاذ الشفعاء بزعم أنهم ليسوا هم المعبودين من دون الله غير صحيح؛ لأنهم في الحقيقة قد وجهوا لهم العبادة من حيث ظنوا أنهم سيشفعون لهم عند الله عز وجل، والشفاعة كما هو معلوم لا تجوز إلا بشروطها وضوابطها، وليست على نحو ما يفعله أهل البدعة، وليس في الدنيا الآن شفاعة تدخل في باب الشفاعة في الآخرة أو تكون وسيلة أو ممهدة للشفاعة في الآخرة، وإنما الشفاعة لا تأتي إلا في وقتها، أي: يوم القيامة. فإذاً: كل ما سموه شفاعة أو وساطة أو غيره إنما هو نوع من الشرك. قال رحمه الله تعالى: [سمى الله آلهتهم التي عبدوها من دونه شفعاء، كما سماها شركاء في غير موضع، فقال في يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} [الروم:12 - 13]. وجمع بين الشرك والشفاعة في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. فهذه الأربعة هي التي يمكن أن يكون لهم بها تعلق: الأول: ملك شيء ولو قل. الثاني: شركهم في شيء من الملك، فلا ملك ولا شركة ولا معاونة يصير بها نداً، فإذا انتفت الثلاثة بقيت الشفاعة فعلقها بالمشيئة. وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم:26]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56]، وقال في اتخاذهم قرباناً: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[13]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [13] الشفاعة نوعان: شفاعة صحيحة وهي الشفاعة المثبتة بشروطها، وشفاعة غير صحيحة وهي الشفاعة المنفية عن الذين لم يحققوا أصلي الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، التوحيد والمعاد، أما أهل الكبائر من هذه الأمة فقد ثبتت الشفاعة في حقهم بالنص خلافاً لمن أنكرها من الخوارج والمعتزلة وغيرهم.

فصل في الشفاعة المنفية في القرآن

فصل في الشفاعة المنفية في القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فبعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد وصلنا إلى موضوع الشفاعة، والحديث عن الشفاعة هو استكمال للحديث عن الاستغاثة والاستعانة، وكما تلاحظون أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن العبودية قد ركّز في هذه الفصول والتي تليها على أعظم وأكثر أنواع العبادة استعمالاً من العباد، وهي مسألة الاستعانة عموماً، والتي يتجزأ منها ويدخل فيها الاستغاثة، كما تدخل فيها أيضاً الشفاعة، والاستعانة بابها واسع تشمل جميع أنواع الدعاء التي فيها استعانة واستغاثة ونحو ذلك، بينما الاستغاثة جزء من الاستعانة، وكذلك الشفاعة هي جزء من الاستعانة. وقد تكلم الشيخ في الفصلين السابقين عن موضوع الاستغاثة ومال إلى التفريق بين الاستغاثة وعموم الاستعانة، وذكر صوراً من الاستغاثة. ولعلي أذكّر بخلاصة في موضوع الاستغاثة فأقول: إن الاستغاثة هي الاستعانة التي يصحبها شيء من الإلحاح، وطلب العون العاجل، وعلى هذا فهي أخص من عموم الاستعانة. أما الشفاعة فلها لون آخر من الاستعانة، وهي اتخاذ الوسيط مع أصل للانتفاع بهذا الاتخاذ، والشفاعة قد تكون صحيحة وهي الشفاعة المثبتة بشروطها، وقد تكون غير صحيحة وهي الشفاعة المنفية، وهذا ما سيتحدث عنه شيخ الإسلام في هذا الفصل والذي يليه. قال رحمه الله تعالى: [فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48]، وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53] وأمثال ذلك].

سبب فساد احتجاج الخوارج والمعتزلة وغيرهم على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وغير ذلك

سبب فساد احتجاج الخوارج والمعتزلة وغيرهم على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وغير ذلك قال رحمه الله تعالى: [واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر، إذ منعوا أن يُشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الثواب]. هذا تناقض، وعلى أي حال فمسألة احتجاج الخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم بظاهر هذه الآيات على منع الشفاعة مطلقاً، رغم أنهم تناقضوا فيما بعد فأثبتوا نوعاً من الشفاعة، أقول: إن هذا يعد من المناهج التي ضلت بها الفرق عموماً في الاستدلال، والتي حادوا بها عن الحق، فوقعوا في الخلط والخبط والتناقض والاضطراب، ورد الحق البيّن، بل رد المتواتر من النصوص، هذا المنهج المعوج يتمثل في الاستدلال ببعض النصوص دون الرجوع إلى القواعد الحاكمة لها، أو إلى النصوص الأخرى الحاكمة عليها، ذلك أن نصوص الشرع بعضها للقياس في القواعد العامة الحاكمة، وبعضها جزئياً لا بد أن يرد إلى القواعد الحاكمة، ثم إن نصوص الشرع لا بد أن يؤخذ بجملتها، ذلك أن المستدل إذا أراد أن يستدل على قضية معينة لا بد أن يستقرئ النصوص الثابتة كلها من القرآن والسنة، ثم يجمع النصوص الواردة في مسألة معينة وينظر فيها، فقد يجد فيها العام الذي له مخصص، وقد يجد فيها المطلق الذي له ما يقيده، وقد يجد فيها المجمل الذي له ما يفسره ويبينه، وقد يجد فيها الناسخ والمنسوخ إلى آخر ذلك. وهذه القاعدة، أعني: رد النصوص بعضها إلى بعض، والاستدلال بمجموع النصوص، قاعدة قد اختلت عند الخوارج والمعتزلة، فصاروا يضربون النصوص بعضها ببعض، ولا يرجعون النصوص إلى النصوص الأخرى، وعلى سبيل المثال: نصوص الشفاعة هذه التي أوردها المؤلف رحمه الله، فتُشعر بأنه لا شفاعة مطلقاً، وذلك دون النظر إلى النصوص الأخرى، مثل قوله عز وجل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وغيرها من النصوص التي تضع للشفاعة المثبتة شروطاً وضوابط، وتضع لمنع الشفاعة استثناءات، وهذه الاستثناءات هي التي تعرف بشروط الشفاعة المثبتة. وعليه فأقول: إن هذا منهج تسلكه كثير من الفرق، فيستدلون ببعض النصوص دون النظر في البعض الآخر، وهذا الخلل قد يوجد عند الفرق، وقد يوجد عند أفراد ممن يقل فقههم في الدين، بمعنى: لا يظن ظان أنه لا يقع في هذا الانحراف في الاستدلال إلا الفرق، أو من كان على سبيل الفرق، بل قد يقع المتعالي المغرور وقليل الفقه وقليل العلم، ومن لم يتورع ومن لم يرجع إلى العلماء، ومن لم يأخذ العلم على أصوله الصحيحة، ولذلك ترون من يقع في نزعات الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أفراد قد لا يكونون من أهل هذه الفرق، لكنهم سلكوا هذا المسلك، وهو عدم الأخذ بأصول الاستدلال، وعدم فقه منهج الاستدلال الذي عليه السلف، فترد النصوص بعضها إلى بعض، والنظر إلى النصوص بمجموعها، ولذلك يشترط النظر في القواعد العامة وفي مناهج الدين الرسوخ في العلم، وأهم ضوابط وشروط الرسوخ في العلم بعد الأمور القلبية من إخلاص وصدق وغيرها: الإحاطة بالنصوص، ولذلك ندرك خطورة المسالك الحديثة التي سلكها كثير من طلاب العلم، عندما حرصوا على التخصصات دون العلم الشمولي، فتجد الواحد منهم يتخصص في التفسير حتى يكون بارعاً فيه، لكنه يجهل الحديث، وهذه كارثة، وقد يتخصص في الفقه لكنه يجهل التفسير والحديث، وقد يتخصص في العقيدة لكنه يجهل الحديث والتفسير وهكذا. ولذا فإن هذا المنهج المنحرف قد يوجد عند غير الفرق، فيوجد عند أفراد لم يكتمل علمهم، ولم يفقهوا قواعد الدين وقواعد الاستدلال، ويوجد عند الذين مالوا إلى التخصصات الجزئية في علوم الدين، وغفلوا عن أن علوم الدين متكاملة لا يستغني بعضها عن بعض، وإن كنا قد لا نقول: إنه يجب على طالب العلم أن يتبحر في كل علم من العلوم الشرعية، وقد يتخصص في علم من العلوم، لكن يجب عليه أن يلم بأصول العلوم الشرعية الأخرى، أعني: الأصول الضرورية التي لا بد أن يلم بها، فإذا كان متخصصاً في علوم الحديث مثلاً فيجب عليه أن يلم بقواعد التفسير وعلوم القرآن والعقيدة، وإذا كان متخصصاً في العقيدة فلا بد أن يلم إلماماً جيداً بأصول العلوم الأخرى بما في ذلك اللغة العربية، إذ إن اللغة العربية شرط لجميع العلوم الشرعية، شرط لاستيعابها وفقهها والنظر والاستدلال، ولذلك قال كثير من السلف: إن كثيراً من الفرق قد أتيت في عدم فهمها لقواعد الاستدلال ومناهج الدين من العجمة، فلم يفقهوا العربية، فنظروا في النصوص بعجمتهم وبعدم فقههم العربية، فضلوا فيما انتزعوه من أحكام ومواقف وأقوال ومقالات، فضلوا بها عن السنة وأهلها. والشاهد هنا: أن هذه النصوص والآيات ظاهرها منع الشفاعة مطلقاً لمن لم يرد هذه النصوص إلى النصوص الأخرى التي فيها الاستثناء، وهو أن الله عز وجل يقبل الشفاعة بشروط وبأحوال لأناس معينين يرتضيهم الله عز وجل ويرضى عنهم، وهذا الاستثناء لا يخل بالقاعدة، لاسيما وأن الذين تشملهم الشفاعة إلى مجموع الكفار عددهم قليل جداً، فيكون الأصل في الذين لا يستحقون الشفاعة منع الشفاعة م

مذهب السلف في الشفاعة لأهل الكبائر وغيرهم وبيان ضابطها

مذهب السلف في الشفاعة لأهل الكبائر وغيرهم وبيان ضابطها قال رحمه الله تعالى: [ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وأيضاً فالأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار، وأيضاً ففي الصحيح (عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك. قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وعن عبد الله بن الحارث قال: (سمعت العباس يقول: قلت: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه). فهذا نص صحيح صريح لشفاعته في بعض الكفار أن يخفف عنه العذاب، بل في أن يجعل أهون أهل النار عذاباً، كما في الصحيح أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل النار عذاباً منتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه)، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً). وهذا السؤال الثاني يضعف جواب من تأول نفي الشفاعة على الشفاعة للكفار، وإن الظالمين هم الكافرون. فيقال: الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعاً له، أي: تابعاً له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسئول].

عدم شفاعة الشافعين يوم القيامة إلا بإذن ورضا الله سبحانه وتعالى

عدم شفاعة الشافعين يوم القيامة إلا بإذن ورضا الله سبحانه وتعالى قال رحمه الله تعالى: [وقد ثبت بنص القرآن في غير آية أن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وأمثال ذلك. والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية: أنه قال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع. وأما نفي الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. وأيضاً فقد قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43 - 44] فذم الذين اتخذوا من دون الله شفعاء، وأخبر أن لله الشفاعة جميعاً، فعُلم أن الشفاعة منتفية عن غيره، إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهي له. وقد قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. ومما يوضح ذلك: أنه نفى يومئذ الخلة بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة ونفعها المعروف، كما ينفع الصديق الصديق في الدنيا، كما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19]، وقال: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16]، لم ينف أن يكون في الآخرة خلة نافعة بإذنه، فإنه قد قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:67 - 68]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين فيَّ)، و (يقول الله تعالى: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا ينفع أحد ولا يضر إلا بإذن الله، وأنه لا يجوز أن يعبد أحد غير الله، ولا يُستعان به من دون الله، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله لله ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعي لنفسه معه شركاً في ربوبيته أو إلهيته، ولا من يدعي ذلك لغيره بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتخذ غيره رباً وإلهاً وادعى ذلك مدعون. وفي الدنيا يشفع الشافع عند غيره، وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له في الشفاعة، ويكون خليله فيعينه ويفتدي نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال في الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهي الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى الله هذه الأقسام الثلاثة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48]، وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، كما قال: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا

[14]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [14] الواسطة بين الله وبين خلقه نوعان: واسطة ممنوعة، وواسطة مشروعة، فالواسطة الممنوعة هي الشريك الذي يتخذ مع الله في العبادة وغير ذلك، أما المشروعة فهي واسطة الأنبياء والمرسلين وذلك بتبليغ شرع الله إلى من أرسلوا إليهم، وبيان ما ينفعهم، والتحذير مما يضرهم في دينهم ودنياهم، ويتبعهم العلماء فهم ورثة الأنبياء.

المفهوم الصحيح والسليم للواسطة بين الله وبين خلقه

المفهوم الصحيح والسليم للواسطة بين الله وبين خلقه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا، وقد وصلنا في الفتاوى إلى فقرة: جواب شيخ الإسلام على سؤال يتعلق بمفهوم الواسطة، وهذه المسألة في الحقيقة مهمة جداً؛ لأن فيها بياناً لوجوه الفرق بين الواسطة المشروعة والواسطة الممنوعة في عبادة الله عز وجل، وبيان مفهوم الواسطة أو الوسيلة التي اختلف فيها الناس، وذلك أن كثيراً ممن يقع في البدع في مسألة الوسيلة، والذين ابتدعوا وسائط ووسائل في عبادة الله عز وجل لم تُشرع، كثيراً منهم يكون من أسباب بدعته ووقوعه في الممنوع أنه لم يفهم المفهوم الشرعي للواسطة أو الوسيلة، وعلى هذا لم يميزوا بين الوسيلة المشروعة والوسيلة الممنوعة، والشيخ هنا أراد أن يبين الفرق بين الواسطة المشروعة وغير المشروعة، فالواسطة المشروعة بين الله وبين خلقه هو الذي يبلّغ عن الله عز وجل، وهذه الوساطة هي وساطة تبليغ فحسب، ولا يمكن أن ترتقي إلى أن يصرف لها أي نوع من أنواع العبادة، وكون النبي واسطة بين الله وبين الخلق، يعني: أنه مبلّغ عن الله فحسب، ولا يعني هذا أنه قد امتاز بسبب هذا التبليغ أو هذا الاصطفاء بأي خصيصة من خصائص الألوهية التي تقتضي اتخاذه معبوداً، أو وسيطاً في العبادة بين الله والخلق، وإنما هو وسيط في التبليغ. وأما الواسطة الممنوعة فهي الشريك الذي يتخذ مع الله، سواء كان هذا الشريك في العبادة أو وسيط فيما لم يشرعه الله عز وجل، كمن يتبرك به، لكنها وساطة أخف من وساطة العبادة، والمهم أن الشيخ سيبين في هذا الفصل المفهوم الصحيح للواسطة بين الله وبين الخلق، والمفهوم البدعي والشركي للواسطة. قال رحمه الله: [سُئل شيخ الإسلام قدس الله روحه: عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل، الذين أرسلهم الله إلى عباده]. إذاً: هذا هو المفهوم الصحيح والسليم للواسطة بين الله وبين الخلق، وهو ما يبعثه الله عز وجل ويصطفي من عباده من الأنبياء والرسل يبلغون رسالات الله، وما أمر به العباد من عبادته وطاعته، فحسب، مع أن هؤلاء في جانب التوجه إلى الله عز وجل ليس لهم أي دخل إلا أن يبلغونا كيف نعبد الله فقط، وهم بذواتهم ليسوا واسطة بين الله وبين الخلق. قال رحمه الله تعالى: [فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم، ويكرمهم في الدنيا والآخرة، وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:35 - 36]، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَل

حقيقة الوسائط المجمع على إثباتها بين الله وبين عباده وحكم من أنكرها

حقيقة الوسائط المجمع على إثباتها بين الله وبين عباده وحكم من أنكرها قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده]. يعني: أن جميع أصحاب هذه الملل -المسلمين واليهود والنصارى- كلهم يقرون بأن النبوات تعني وجود أناس من البشر اصطفاهم الله عز وجل ليبلغوا رسالات الله، وهذا في الجملة، وإلا فهناك عند التفصيل أمور في تفاصيل الإيمان بالأنبياء ضل فيها أقوام، فمثلاً: اليهود والنصارى رغم أنهم يؤمنون بمبدأ النبوات، وأن هناك وسائط وهم الأنبياء يبلغون عن الله، إلا أنهم رفعوا بعض الأنبياء إلى مقام الألوهية، وهذا ضلال طارئ عليهم، لكن لا يزالون يعترفون بمبدأ النبوات. قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. والسور التي أنزلها الله بمكة مثل: الأنعام، والأعراف، وذوات: ((الر)) و ((حم)) و ((طس)) ونحو ذلك، هي متضمنة لأصول الدين، كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر. وقد قص الله قصص الكفار الذين كذبوا الرسل، وكيف أهلكهم ونصر رسله والذين آمنوا، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. فهذه الوسائط تُطاع وتتبع ويُقتدى بها، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]].

المفهوم الخاطئ للواسطة بين الله وبين عباده

المفهوم الخاطئ للواسطة بين الله وبين عباده هنا أتى الشيخ بالنوع الثاني من الواسطة، أعني: الواسطة الممنوعة والمحرمة، وقد سبق الواسطة المبلغة عن الله عز وجل المتمثلة في الرسل، فهنا أراد أن يبيّن الفهم الخاطئ أو المفهوم الخاطئ للواسطة من أولئك الذين زعموا أن الواسطة تعني: اتخاذ هذا الوسيط من دون الله عز وجل، أو صرف شيء من العبادة لغيره، أو أن يُطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا المفهوم هو مفهوم كثير من أهل البدع، بل كل أهل البدع الذين صرفوا شيئاً من أنواع العبادة لغير الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار، مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار].

ضرورة التميز بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية ومعرفة زمان ومكان وقوعهما

ضرورة التميز بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية ومعرفة زمان ومكان وقوعهما قال رحمه الله تعالى: [لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها]. الإذن في الشفاعة لا يكون إلا يوم القيامة، وعلى هذا فينبغي أن نميّز بين مسألة شروط الشفاعة والاستثناءات فيها، بين الشفاعة المثبتة والمنفية، وأن المنفية تقع في الدنيا وفي الآخرة، بمعنى: أن هناك من يطلب الشفاعة بغير وجهها في الدنيا وفي الآخرة، لكنها لا تُقبل، بينما الشفاعة المثبتة لا تكون إلا في الآخرة؛ لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وكل إنسان ينبغي أن يعمل لنفسه، وليس بينه وبين الله واسطة، لكن في الآخرة في بعض الأمور قد يأذن الله عز وجل لبعض العباد بأن يشفعوا، بل الله عز وجل يسخّر الشفعاء ثم يستأذنون فيؤذن لهم بشروط أيضاً، والشروط ستأتي فيما بعد مفصّلة. المهم أن وجود الواسطة التي هي الشفاعة المثبتة في الآخرة بشروطها لا تعني وجود أي نوع من أنواع الشفاعة المشروعة في الدنيا، بل الشفاعة التي هي عند الله عز وجل في مصائر العباد، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، لكن هناك أمور قد تسمى شفاعة أو قد تشتبه بالشفاعة، مثل: الاستشفاع بدعاء الصالحين، أو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، فهذا في الحقيقة لا يعد من اتخاذ الشفيع عند الله عز وجل، وإنما هو من باب طلب الإنسان بأن يدعو الله عز وجل، وهذا الداعي الذي طلب منه الدعاء سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لا يعتبر شفيعاً من دون الله عز وجل، بل هو طالب من الله عز وجل جلب نفع أو دفع ضر أو نحو ذلك، لكنه لم يتخذ بذاته واسطة، كما سيأتي في مفهوم الشفاعة في الدعاء. والشفاعة المنفية تكون في الدنيا والآخرة، لكن الآن أهل البدع يطلبون الشفاعة المنفية حتى في الدنيا والآخرة؛ لأن بعض الناس قد يطلب شفاعة ولا يقبل منه، فالمثبتة تكون في الآخرة إلا بعض صور الوسيلة، أو في بعض صور الشفاعة، لكن معناها ليس على المعنى الشرعي أو المفهوم الشرعي للشفاعة التي لها شروطها؛ لأن بعض الناس قد يدخل صورة طلب الدعاء من أنواع الشفاعات، وهي ليست حقيقة من أنواع الشفاعات، وإنما هي نوع من أنواع صرف العبادة لله عز وجل من جهة عبد من عباده دعاه، فكون الإنسان المطلوب منه الدعاء قد طلب من الله عز وجل أن ينفع آخرين، فهذا لا يعني أنه هو بذاته اتخذ واسطة، والدليل أن الداعي لم يتخذ بينه وبين الله واسطة، وإنما طلب تعدي النفع إلى الآخرين، وهذا مطلوب حتى ممن لم يطلب الدعاء، فأنت إذا دعوت ينبغي أن تدعو لعموم المسلمين حتى ولو لم يطلبوا منك ذلك، وصورته واحدة ليس من أنواع الشفاعة التي عليها النزاع، ولا من أنواع التوسل الذي عليه النزاع، لكن أهل الأهواء لبّسوا على الناس، فأدخلوا هذه الصورة على أنها صورة تنطبق عليها جميع صور الشفاعات الممنوعة، وعلى أي حال فلا نستعجل الأمر؛ لأن هذا سيأتي في (التوسل والوسيلة) عندما نبدأ به إن شاء الله مفصلاً. قال رحمه الله تعالى: [حتى قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. وقالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة: فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلاً، وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه].

كفر من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم

كفر من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]]. هذه الآيات من أوضح الأدلة على رد شبهات أهل البدع في مسألة الشفاعة وطلب الشفعاء، أو دعواهم أنهم إنما تعلقوا بالأحياء أو الأموات أو الأشجار أو الأحجار أو غيرها من معبوداتهم إنما ذلك لأن لها مكانة عند الله، أو لأنها وسائط وليست شفعاء، فيجادل بعضهم فيقول: نحن لا نتخذها وسيطاً، وإنما هي شفعاء، فهذه الآية محكمة في الرد على هذه الفئة كما سيأتي الاستدلال بها تفصيلاً فيما بعد إن شاء الله. قال رحمه الله تعالى: [فبيّن سبحانه: أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر]. أشار الشيخ هنا إلى منع الله أن تكون الملائكة أو الأنبياء وسائط، ومن باب أولى دونهم من المخلوقات، من الصالحين وغير الصالحين، والأشجار، والأحجار، والمشاهد، والآثار وغيرها، فمن جعل هذه المخلوقات وسائط من دون الله فقد أشرك من باب أولى؛ لأنه إذا كان اتخاذ الملائكة والرسل وهم مقربون وسائط من دون الله عز وجل شركاً، إذاً فاتخاذ الوسائط من غير هؤلاء شركاً من باب أولى. قال رحمه الله تعالى: [فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل: أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، ومثل هذا كثير في القرآن]. هذه الآيات المحكمات البينات فيها رد على الشفاعة والوسيلة الممنوعة، بل إن كل آية بحد ذاتها ترد رداً صريحاً ظاهراً على الذين اتخذوا الو

الواسطة المشروعة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمته

الواسطة المشروعة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمته قال رحمه الله تعالى: [ومن سوى الأنبياء -من مشايخ العلم والدين- فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته، يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم فقد أصاب في ذلك]. هذه المسألة متفرعة عن النوع الأول، فالشيخ عندما ذكر أن الواسطة على نوعين، ذكر أن الواسطة الصحيحة هي واسطة الأنبياء الذين يبلغون عن الله عز وجل، وأن وساطتهم إنما هي في التبليغ فقط، وأن الله عز وجل أيضاً أوصى لهم بحقوق من المحبة والاتباع، وهي واجبة على المسلم، إذاً فهذه الواسطة مشروعة، لكن ليست في باب العبادة ولا التبرك ولا غير ذلك من البدع التي يعملها المبتدعون. ثم جاء بالنوع الثاني وهو الواسطة الممنوعة، وهي اتخاذ الوسائط من دون الله عز وجل في صرف العبادة لغيره أو التقديس أو التوجه أو غير ذلك. ثم فرّع هذه المسألة الأخيرة على المسألة الأولى، وهي أنه كما أنا نقول: بأن الأنبياء مبلّغون عن الله عز وجل، فكذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم العلماء يبلّغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، لكنهم لا يأتون بتشريع من عند الله، وليس لهم في ذلك عصمة ولا قداسة، وإنما يطاعون بطاعة الله عز وجل، وبتبليغ ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهم ورثة الأنبياء فيما ورثوا من الحق. ثم رتب على هذه المسألة نتيجة أو قاعدة عظيمة جداً، فقال رحمه الله: [وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة، لا يجتمعون على ضلالة]. هذه قاعدة مهمة جداً ينبغي أن يفهمها طلاب العلم؛ لأن من المسائل التي خفيت على كثير من الناس اليوم أنه إذا قلنا: بأن العلماء هم المبلّغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في نقل العلم، فلا يعني ذلك أنهم معصومون، لكن أيضاً لا يمكن أن يجمعوا على ضلالة لأسباب: أولها: أن الله قد تكفّل بحفظ الدين، ولو أجمعوا على ضلالة فقد انخرمت هذه القاعدة. ثانيها: أن الله عز وجل جعل الكتاب المحفوظ والسنة بينة واضحة، وما دامت السنة بيّنة واضحة فلا يمكن أن يقع إجماع العلماء على الضلال؛ لأن الإجماع على الضلال لا يكون إلا عن جهل، ومع بيان الحق لا يمكن أن يتأتى الجهل على الجميع. فإذاً: هذه ضمانة من الله عز وجل بأن أهل العلم إذا أجمعوا فإن إجماعهم حجة قاطعة؛ لأنهم لا يجمعون على ضلالة، لكن قد يخالفهم بعضهم، وهذه مسألة واردة جداً، وقد تقول الأكثرية أحياناً بغير الحق، وأحياناً قلة جداً لا تحدث إلا عند الفتن ونحو ذلك، لكن لا يكون الإجماع، وأحياناً قد يخفى الحق على الأكثرين ويتبين لقليلين، فهذه ينبغي أن نفهمها جيداً، لكن لا يقع الإجماع؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يجمع الله أمتي على ضلالة)، فأهل العلم الذين يمثلون الأمة لا يجتمعون على ضلالة، وغيرهم من بقية الأمة تبع لهم، وبحمد الله هذه القاعدة مستمرة وإلى أن تقوم الساعة واضحة جلية، ولم يحدث إجماع في يوم من الأيام على ضلالة، أو تبيّن أن الأمة في يوم من الأيام، أو في عصر من العصور قد اجتمع علماؤها على ضلالة، لم يحدث هذا أبداً ولن يحدث. والعصمة ليست لأفرادهم، وإنما العصمة للدين ولمجموع العلماء إذا أجمعوا لا لذواتهم؛ لكن لأنهم استندوا على الحق، فبه يقع الإجماع. لكن بعد توزع الأمة ووجود المسلمين في أمكنة كثيرة مختلفة، ووجود البلاد على شكل دول، فيبدو لي والله أعلم أنه لا يعتبر إلا في حالات نادرة لا أتصورها الآن، فلو افترضنا أن البلاد تشمل أهل السنة والجماعة مثلاً، وأن فيها أغلبية العلماء فربما لا يقع الإجماع، لكن لا ينطبق على القاعدة، فالقاعدة تعني عموم الأمة؛ لأنا إذا خضنا في التفصيلات فقد نقع في شبهات ليس لنا فيها دليل، والمقصود العموم، والعموم يحدث بعموم الأمة. قال رحمه الله تعالى: [وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)].

بعض صور المفهوم الخاطئ السائد عند أهل البدع في الواسطة بين الله وبين خلقه

بعض صور المفهوم الخاطئ السائد عند أهل البدع في الواسطة بين الله وبين خلقه سيقرر الشيخ هنا صورة من صور المفهوم الخاطئ للوسيلة عند غالب أهل البدع، وليست هي مجموعة، لكنها صورة من صور المفهوم الخاطئ، وسيقررها الشيخ الآن ويبينها، ويبين وجه الخطأ فيها. قال رحمه الله تعالى: [وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه -كالحجاب الذين بين الملك ورعيته- بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لم تتسع له هذه الفتوى. فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه. ومن قال: إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين. الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه -إلا بأعوان يعينونه- فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]. وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم -في الحقيقة- شركاؤهم في الملك. والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. والوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم، إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظّمه أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه. والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض، فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك، فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلم، أو من يرجوه الرب ويخافه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له)]. لا يزال الشيخ يسترسل في رد الشبهة، أعني: شبهة قياس الواسطة عند الله عز وجل على الواسطة عند المخلوق، مع أن هذا قياس تنفر منه النفوس؛ لأن الله عز وجل هو الغني، ولا يجوز أن يتخذ ما اعتاده الناس من اتخاذ الوسطاء عند الوجهاء والملوك ذريعة لاتخاذ الوسطاء عند الله عز وجل، لأن الله هو الغني، وهو الذي أمر عباده بأن يدعوه دون غيره، وهو الذي أيضاً يحب أن يدعوه العباد، ولا يمل من دعائه ولا يستكثر، بينما العبد لو دعي مرة أو مرتين أو كرر عليه الطلب سئم مهما كان عنده من القوة والسلطان. إذاً: فقياسهم هذا قياس فاسد تنفر منه النفوس والعقول السليمة فضلاً عن أن يعرف ذلك بالشرع، لكن الشيخ رحمه الله كان يستطرد في دفع مثل هذه الشبهات؛ لأنها كانت شبهات قد ملأت عقول وقلوب العامة والدهماء الذين يتبعون رءوسهم في هذه البدع، نسأل الله العافية. وأما الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أستشفع بالله عليك). أليس هذا من الشفاعة المثبتة في الدنيا؟ و A أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر بمن استشفع بالله عليه؛ لأن الله عز وجل هو صاحب الغنى المطلق، وهذه من الشفاعة المثبتة في الدنيا، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استشفع به أناس كثيرون، لكن استشفعوا بدعائه عليه الصلاة والسلام، وم

الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية

الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية قال رحمه الله تعالى: [والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]]. إذن الله عز وجل للشفعاء يفسّر بأمرين: بمقتضى النصوص الأخرى، ومقتضى سياق نصوص الشفاعة وأحاديث الشفاعة. فالأمر الأول: الشفاعة المشروعة، بمعنى: أن تكون الشفاعة مشروعة على أمر مشروع، والإذن بمعنى: أن الله عز وجل يفتح الشفاعة لهذا العبد، بمعنى: أنه يرخّص له بهذه الشفاعة، فقوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فتتضمن الأمرين: بما شرعه من شروط الشفاعة المثبتة، ويجب أن يباشر، أي: بإعطائه الفرصة للشفيع بأن يشفع، أو بصدور الإذن من الله عز وجل بكلامه وبأمره. ولذلك يعتبر الإذن من ضمن شروط الشفاعة، وليس الشرط الوحيد بأن يرضى الله عن الشفيع والشافع، وألا يكون المشفوع له من أهل النار الخُلّص إلى آخره، فهذه شروط يتضمنها معنى الإذن، بمعنى: أنه لا يكون الإذن إلا بتوافر الشروط. ومن هنا الإذن يشمل الأمرين: توافر الشروط، ثم صدور الأمر من الله عز وجل بالشفاعة. قال رحمه الله تعالى: [فبيّن أن كل من دُعي من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك، ولا هو ظهير، وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له. وهذا بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك، وقد يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً لهم على ملكهم، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم، والملك يقبل شفاعتهم تارة بحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه، فإذا لم يقبل شفاعته يخاف ألا يطيعه، أو أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة. والله تعالى لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني، قال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس:66] إلى قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]]. من أوضح الفوارق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، ومسألة قياس الشفاعة عند الله عز وجل بالشفاعة عند الملوك والبشر: هو أن الشافع بين البشر أنفسهم كالشفاعة عند العظماء وعند العلماء وعند الملوك والسلاطين وعند التجار وغيرهم تكون فيها الشفاعة مؤثرة في الشافع والمشفوع له، يعني: مؤثرة بأي نوع من الشفيع، ولنفرض أن المشفوع عنده والتي طلبت منه الشفاعة، أو الذي يطلب منه الشافع العمل، ولنفرض أنه ممن لا يحتاج البشر حاجة ظاهرة، لكن لا يمكن أن يؤدي خدمة للمشفوع له بناء على شفاعة الشافعين، إلا لأمر أثّر عليه، إما رحمة، وإما رجاء، وإما خوف، وإما حب التسلط، ولنفرض أن هذا المشفوع عنده ممن لا يرجو الناس ولا يخافهم، لكن لا بد حينما أطاع، وحينما عمل بمقتضى الشفاعة لا بد أن يكون هناك مؤثر فيه، ولو على الأقل إثبات الجبروت، أو إثبات أن له نعمة على الناس، ومعنى هذا: أنه لا بد أن يكون تأثر بالشفاعة، ولكن الله عز وجل هو الغني الغنى المطلق، فالشافع غير مؤثر في الله إطلاقاً بأي نوع من التأثير، من هنا لا يجوز قياس المشركين الذين قاسوا به بأن الشفاعة عند الله تماثل الشفاعة عند أصحاب السلطان وأصحاب الجاه وغيرها؛ لأن الشفاعة هذه فعلاً مؤثرة، والشافع المخلوق عند المخلوق لا بد أن يؤثر وإن كان المشفوع عنده أكبر وأعظم سلطاناً، فلا بد أن يكون مؤثراً بأي نوع، بينما الشفاعة عند الله عز وجل لا يكون الشافع فيها مؤثراً بأي نوع من التأثير، وإنما هي بإذن الله وبرحمته لعباده، والله عز وجل هو الغني الغنى المطلق لا يؤثر فيه شيء، ولا يرجو العباد ولا يخشاهم.

حكم الشفاعة للمشركين وعدم جدوى شفعائهم

حكم الشفاعة للمشركين وعدم جدوى شفعائهم قال رحمه الله تعالى: [والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]. وأخبر عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. فأخبر أن ما يُدعى من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه، فهو سبحانه قد نفى ما من الملائكة والأنبياء، إلا من الشفاعة بإذنه، والشفاعة هي الدعاء. ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع، والله قد أمر بذلك، لكن الداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك، فلا يشفع شفاعة نهي عنها، كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114]، وقال تعالى في حق المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6]. وقد ثبت في الصحيح أن الله نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم، كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]-في الدعاء- ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك، أو يسأله ما فيه معصية الله، كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان. فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة، شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان. ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه، فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك، كما قال نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:46 - 47]. وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشُفّع فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى]. نقف هنا، والمسألة التالية: مسألة الالتفات إلى الأسباب، مسألة مستقلة تحتاج إلى شرح مستقل. أيضاً: نحب أن نقول خلاصة ما سبق، أعني: الخلاصة في مسألة دعاء الغير والدعاء للغير، ودخول هذه في الشفاعة المطلوبة من عدم دخولها: يجب أن نفرق بين الدعاء للإنسان ودعائه، أو الدعاء للغير ودعاء الغير. فالدعاء للغير مشروع، لكن بشرط، ودعاء الغير من دون الله عز وجل ممنوع مطلقاً

[15]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [15] الالتفات إلى الأسباب والاعتماد عليها من دون الله عز وجل شرك في التوحيد، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومحو الأسباب وتعطيل آثارها نقص في العقل، فينبغي للعبد أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله عز وجل، والله هو المقدر للأسباب وخالقها.

حكم الالتفات إلى الأسباب أو محو سببيتها أو الإعراض عنها بالكلية

حكم الالتفات إلى الأسباب أو محو سببيتها أو الإعراض عنها بالكلية بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول: ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، وهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء]. في الحقيقة هذه قاعدة عظيمة قد تضمنت عدة فروع، منها: الأسباب والاعتماد عليها أو عدم الاعتماد عليها، والشيخ هنا قد ذكر الشق الأول من القاعدة، فقال رحمه الله: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد. وهذا كلام مجمل في الحقيقة يحتاج إلى بيان؛ لأن الالتفات للأسباب يطلق على معنيين: فعل الأسباب مع وجود التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وهذا مشروع، لكن الشيخ لا يقصد هذا المعنى، وإنما يقصد بقوله ذاك: الاعتماد على الأسباب من دون الله عز وجل، وجعلها هي النافعة والضارة والمؤثرة من دون الله، دون أن يكون لله عز وجل في ذلك تقدير ولا خلق، وهذا كما يفعله كثير من أهل الشرك، بل الآن أكثر الكفار يظنون أن الأسباب هي الفاعلة، ولا يعولون على تقدير الله عز وجل، بل لا يعرفون هذا أصلاً في عقائدهم، ويظنون أن الأسباب هي التي أوجدت، ولذلك نجدهم -مثلاً- في تعبيراتهم الأدبية خاصة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل، فيقولون: إن الطبيعة خلقت كذا، والإنسان خلاق، وكذا خلق، وهذه التعبيرات انتقلت إلى بعض المثقفين المسلمين مع الأسف؛ بسبب التقليد الأعمى وبعدم إدراك العقيدة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل كما ذكرنا؛ لأنهم يرون الأسباب هي المؤثرة، فالتفتوا إليها ولم يعولوا على الاعتماد على الله عز وجل، وهذه سمة عامة في جميع الكفار في هذا العصر. إذاً: الالتفات إلى الأسباب على نوعين: الأول: فعل الأسباب كما شرع الله عز وجل مع الاعتماد على الله، وهذا مشروع، الثاني: الاعتماد على الأسباب من دون الله، وهذا شرك مع الله عز وجل، وهذه هي القاعدة الأولى. وأما القاعدة الثانية فقال رحمه الله: (ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل). يقصد بهذا نظريات بعض المتكلمين وخاصة غلاة الأشاعرة، فهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على الأفعال على الناس فقط، وليست أسباباً حقيقية، حتى إن منهم من زعم أن السحاب ليس سبباً مباشراً للمطر، وأن المطر ليس سبباً في الإنبات، وزعموا أن هذه مجرد قرائن، فإذا رأينا السحاب فقد يكون هناك مطر، لكن ليس بسبب السحاب. وهذه مغالطة، ولذلك قال الشيخ: (نقص في العقل). أي: لاشك أن الله عز وجل هو الخالق، وأن الأسباب من خلقه، لكن الله عز وجل جعل للكون نظاماً، وجعل من نظام خلقه أن الأسباب بالفعل مؤثرة بمسبباتها، وكل ذلك يرجع إلى تقدير الله وخلقه. وعليه فالأسباب ومسبباتها من خلق الله عز وجل، لكن عندما بالغ هؤلاء في إثبات الأمور إلى الله عز وجل ألغوا الأسباب، حتى جعلوها مجرد قرائن على وجود الأشياء، فقالوا: إن الله عز وجل جعل الأسباب مجرد قرائن وليس لها تأثير أبداً، وهذا لاشك أنه نقص في العقل. والقاعدة الثالثة قوله: (والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع) وهذا رأي كثير من غلاة المتصوفة وغلاة العباد والنساك الذين زعموا أن التعلق بالأسباب نقص في الإيمان، وهذا خطأ؛ لأن التعلق بالأسباب على وجه شرعي مع الاعتماد والتوكل على الله عز وجل -بشرط ألا يعتقد الإنسان أو الفاعل أن السبب هو المؤثر من دون الله- أمر مطلوب شرعاً، وفعل الأسباب من مقتضيات الدين ومن ضروراته؛ لأن الله عز وجل أمر بفعل الأسباب في كل شيء، بل أركان الدين وواجباته لا تقوم إلا بفعل الأسباب، وعلى هذا فهؤلاء الذين أعرضوا عن الأسباب بالكلية، وزعموا أنه يسع المسلم أن يقعد عن العمل ويأتيه رزقه، ويقعد عن الجهاد ويأتيه النصر، ويقعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويأتيه الأمن، كل هذا باطل، فالمسلم لابد أن يفعل الأسباب في نفسه وفي نصر دينه، وفي معاشه وفي دينه ودنياه، ولذلك هؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك ظهرت منهم هذه المذاهب المخذلة التي كانت من أعظم أسباب خذلان المسلمين وقعودهم عن الأخذ بأسباب الحياة في العصور المتأخرة، وذلك عندما هيمن التصوف في العالم الإسلامي في القرون المتأخرة، وهيمن الذل والهوان والقعود عن فعل الأسباب، ووجد الركون والخمول بسبب هذه العقيدة الفاسدة، وهي عقيدة ترك الأسباب. إذاً: ترك الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأنه إعراض عن أمر الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: الرقية الشرعية، فهي تعتبر من الأسباب التي أذن الله بها. قال كثير م

حكم الدعاء للآخرين أو طلبه منهم

حكم الدعاء للآخرين أو طلبه منهم قال رحمه الله تعالى: [والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى، فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بـ العباس عمه رضي الله عنه، والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها، ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)، وقد (قال لـ عمر: لما أراد أن يعتمر وودعه: يا أخي! لا تنسني من دعائك)]. هذا الحديث ضعيف، لكن مع ذلك معنى الحديث له شواهد كثيرة من نصوص الشرع ومن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعمال السلف، وطلب الدعاء من الغير دون اعتداء ودون توكل أو اتكال على هذا الدعاء أمر مشروع لا حرج فيه، لكن قد يحرم حيناً، وقد يكره حيناً، وقد يجوز حيناً، وقد يستحب أحياناً، فإذا وجدت المبررات لطلب الدعاء من الغير، كأن يكون عند الإنسان مرض، أو نزل به ضر، أو كان في مكان فاضل، أو في زمان فاضل، فهذا من الأمور التي يشرع فيها، بل وربما يستحب في حالات نادرة، لكن يبقى الأصل فيه المشروعية، لكن إن فعل الإنسان هذا الأمر على سبيل الدوام، كما يفعل بعض جهلة المتصوفة عندما يلقى أي مسلم يطلب منه أن يدعو له، حتى يكاد يتكل على دعاء الناس، ويكون همه كلما التقى بإنسان يقول له: ادع الله لي، حتى صار دائماً يتطلع إلى نتيجة دعاء الناس، ويضعف توكله على الله، فهذا قد يحرم أحياناً، بل قد يكون بدعة إذا داوم عليه الإنسان وصار من سماته. ولذا عندما ننظر إلى حال السلف نجد أنهم كانوا يفعلون ذلك، لكن في حالات نادرة لها مبرراتها وموجباتها، والإنسان ينبغي أن يكون دائم التوكل والاعتماد على الله عز وجل، ولا يكون بينه وبين الله وسائط، ولا يطلب من الغير العون، والباب بينه وبين ربه مفتوح دائماً، والله عز وجل يسخط على عبده إذا لم يدعه، وعلى هذا لا ينبغي أن يكون هذا الأمر على سبيل المداومة، وإنما لا بد أن يكون باعتدال وفي حدود الضرورة أو الحاجة، فيبقى مشروعاً بما ورد من الأدلة الشرعية، لأنه يخضع لقاعدة أخرى، وسيأتي أيضاً التمييز بين هذا النوع والأنواع الأخرى من الشفاعات، هذا داخل في معنى الشفاعة الجائزة.

وجه طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمة أن تدعو له

وجه طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمة أن تدعو له قال رحمه الله تعالى: [فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعوا له، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات]. يقصد الشيخ هنا من قوله: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعو له) أي: أن يصلوا ويسلموا عليه، فإذا قلنا: صلى الله عليه وسلم. فهذا دعاء له، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك هو طلب من الأعلى إلى الأدنى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلى من غيره، وهذا بتشريع من الله عز وجل، فهو الذي أمرنا، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أعلمنا بما أمرنا الله به كما ورد في القرآن وأيضاً في صحيح السنة، من الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والوعد في ذلك. وأما بالنسبة لحديث عمر السابق فهو حديث ضعيف لا يعول عليه في تأسيس القاعدة، لكن الآثار قد توافرت في جواز هذا الأمر من غير هذا الحديث. قال رحمه الله تعالى: [بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها، مع أنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجورهم في كل ما يعملونه، فإنه قد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)، وهو داعي الأمة إلى كل هدى، فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه. وكذلك إذا صلوا عليه، فإن الله يصلي على أحدهم عشراً، وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له، فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه، وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك مثل ذلك)، وفي حديث آخر: (أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب)].

فوائد الدعاء للغير وثماره

فوائد الدعاء للغير وثماره قال رحمه الله تعالى: [فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو له، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له، فمن قال لغيره: ادع لي وقصد انتفاعهما جميعاً بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى، فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسئول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضاً يثاب مثل ثوابه؛ لكونه دعا إليه، لاسيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد، كما قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فأمره بالاستغفار، ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. فذكر سبحانه استغفارهم، واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول، حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولم يأمر الله مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً شيئاً لم يأمر الله المخلوق به، بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله، وصلاح لفاعله وحسنة فيه، وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه، وإنعامه عليه، بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[16]

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [16] الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان هي نعمة الدين والإيمان، فهو الذي أنعم على العبد بفعل الخير ووفقه لذلك، خلافاً للقدرية الذين ينكرون ذلك، ويقولون بأن العبد خالق فعل نفسه.

عقيدة السلف في الإيمان

عقيدة السلف في الإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعات والحسنات]. هذا مجمل اعتقاد السلف في الإيمان، وكما ترون عادة السلف رحمهم الله أنهم يوجزون في التعبير عن العقيدة، ولذلك جاءت عقيدتهم -بحمد الله- سهلة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وقول السلف: (الإيمان قول وعمل) يقصدون به: أن الإيمان يشمل الأمور القلبية والقولية والعملية، وهذه المعاني كلها تجتمع في كلمتين: (قول وعمل) فالقول يشمل ما يصدر عن القلب وعمل اللسان الذي هو حركة اللسان ونطقه. وكذلك العمل يشمل عمل القلب، من الرجاء والخوف واليقين والصدق والخشية والإنابة إلى الله عز وجل، وهذا يسمى: عمل القلب، وهو من أعمال القلوب باتفاق السلف، كما يشمل عمل الجوارح، وعلى هذا تكون هاتان الكلمتان من أوجز الكلمات التي تعبر عن مذهب السلف.

زيادة الإيمان بالطاعات ووجه كون الدنيا نعمة أم لا

زيادة الإيمان بالطاعات ووجه كون الدنيا نعمة أم لا قال رحمه الله تعالى: [وكلما ازداد العبد عملاً للخير ازداد إيمانه، هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وفي قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، بل نعم الدنيا بدون الدين هل هي من نعمه أم لا؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم]. كما هو معلوم أن كل شيء من نعم الله عز وجل، لكن يقصد الشيخ بسؤاله: هل هي نعمة أم نقمة؟ أي: هل هذه الدنيا من النعم التي امتن الله بها على عباده، أم هي نقمة؟ الدنيا ظاهرها نعمة، يعني: شهوات الدنيا ورغباتها وأولادها وغير ذلك من مكاسب الدنيا ظاهرها أنها نعمة، لكن قد تكون نقمة في المآل. ولذلك سيذكر الشيخ المذهب الحق بعد قليل. قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه]. قوله: (أنها نعمة من وجه) يعني: أن هذه الخيرات التي تفضل الله بها على العباد هي في حد ذاتها نعمة، لكنها قد تكون نقمة إذا استعملت في غير ما يرضي الله عز وجل، كأن تلهي الإنسان عن ذكر الله، أو تلهيه عن واجباته الأساسية. إذاً: هي في أصلها نعمة إن استخدمت فيما يرضي الله عز وجل، فتبقى نعمة للعبد في الدنيا والآخرة، وإذا استخدمت على غير ما يرضي الله عز وجل، أي: على غير وجه شرعي، صارت نقمة على العبد في مآلها لا في أصلها؛ لأن جميع أمور الدنيا هي بصدورها عن الله عز وجل من نعم الله عز وجل، ولذلك امتن الله على العباد حتى بخلق السماوات والأرض، لكن الكلام هنا هو عن المآل، أعني: مآل هذه الخيرات في الدنيا، هل هي نعمة لهذا الإنسان أم نقمة عليه في المآل؟

الإنعام الحقيقي وبيان عقيدة أهل السنة وغيرهم في ذلك

الإنعام الحقيقي وبيان عقيدة أهل السنة وغيرهم في ذلك قال رحمه الله تعالى: [وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة، إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير، والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط]. القدرية يقفون عند مسألة ما المقصود بـ (الإنعام)؟ فيقولون: هو إقدار الإنسان فقط، أي: إقدار الإنسان على الفعل، لكن الإنسان إذا فعل الخير كان في حقه نعمة، وكذلك إذا فعل الشر كان في حقه نعمة، ولا يجعلون ذلك من تقدير الله عز وجل، فيقولون: قدر الله ونعمة الله تقف عند إقدار العبد، ولذلك قالوا: إن الأعمال عند العبد قابلة للضدين بدون أن يكون الله قدر ذلك بزعمهم، تعالى الله عما يقولون، فإن فعل العبد الخير وقع القدر على ما يرضي الله، وإن فعل الشر وقع القدر على ما لا يرضي الله، وباستقلال من العبد، وعلى هذا يقولون: إن الإنسان هو الفاعل استقلالاً من دون الله سبحانه، ويقفون في مسألة تقدير النعمة لله، أو إضافة النعمة إلى الله عز وجل، أو الفضل أو القدرة بأنها واقفة عند إعطاء الإنسان القدرة فقط، فهم يرون أن الإنسان هو الفاعل، ويرون أن فعل الخير ليس بتوفيق الله عز وجل، وإنما الإنسان بمحض إرادته فعل الخير. ولذلك هم لا يعترفون بالتوفيق، ويرون أن الإنسان مثل الآلة المبرمجة، فإن فعل الخير كان هذا مما علمه الله بعد فعله، ولذلك قالوا: لا قدر والأمر أنف، يعني: أمر حادث الحصول، وحادث العلم عند الله، وكأن الله لم يعلمه، بل زعموا أن الله لم يعلمه ولم يقدره، وإن كان بعض القدرية المتأخرين قالوا: نثبت العلم، لكن العلم يقف عند الإقدار، أي: إقدار العبد على الفعل، فمن فعل خيراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتوفيق من الله عز وجل، ومن فعل شراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتقدير الله عز وجل، ومن هنا اختلف قولهم عن قول أهل السنة، فأهل السنة يرون أن النعم الحقيقية من الله عز وجل ابتداء وانتهاء، وأن الإنسان إن فعل الخير -وإن كان الله هو الذي أقدره عليه- فبنعمة الله وبفضله وتوفيقه، وإن فعل الشر فالله هو الذي أقدره عليه، لكن بخذلان الله له، أي: خذله الله عز وجل ولم يوفقه ولم يسدده، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقام آخر: إن مشكلة القدرية أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الكونية العامة وبين الإرادة الشرعية، فجعلوا ما يريده الله شرعاً كأنه قدره كوناً، وما قدره الله كوناً لابد أن يكون قد أراده شرعاً. فلذلك قالوا: نظراً لأن الله لم يرد الشر إذاً لم يخلقه، وهذه مسألة فيها لبس وفيها غموض، فجعلت كثيراً من عوام المسلمين قديماً وبعض طلاب العلم الذين لم يتمكن الدين والعقيدة من قلوبهم يقعون في مذهب القدرية؛ لأنهم وقعوا على قضية حساسة أحدثوا في الذهن شبهة ولم يعرفوا علاجها، وكذلك الناس لو حصنوا بقواعد القدر ما انطلت عليهم مثل هذه الشبهات. المهم أن قوله: (الصالحة للضدين) هذا بزعم القدرية فهم يزعمون أن الله عز وجل أعطى العبد قدرة ثم تخلى عنه وجعل هذه القدرة صالحة لفعل الشر ولفعل الخير من العبد نفسه لا من تقدير الله، هذا معنى الكلام.

حكم طلب الدعاء من الغير لمصلحة وغير مصلحة وبيان عدم علاقته بالشفاعة

حكم طلب الدعاء من الغير لمصلحة وغير مصلحة وبيان عدم علاقته بالشفاعة قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن الله لم يأمر مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق، إما واجب أو مستحب، فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك، فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك؟ بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة. وإن كان قصده مصلحة المأمور]. قوله: (وإن كان قصده) تعقيب على عبارة سابقة في مسألة قصد الداعي، والشيخ رحمه الله قد صنف الدعاء في قصد الداعي إلى نوعين: الأول: إن كان قصد الداعي من طلب الدعاء مصلحة المأمور بالدعاء ومصلحة الآمر التي شرعها الله عز وجل، فهذا أمر مشروع. والثاني: إن قصد طالب الدعاء مصلحته هو فقط -مصلحة عاجلة- دون اعتبار لما أمر الله به، ودون اعتبار أيضاً لانتفاع الداعي بدعائه لما له من الأجر، فإن هذا غير مشروع، وإن كان هذا قد يكون من الأمور التي أباحها الله إذا توافرت شروطها وانتفت موانعها. والمهم أن قوله: (وإن كان قصده) يقصد طالب الدعاء في مسألة طلب دعاء الغير، والشيخ لا يزال يقرر أكثر ما يقرر هنا مسألة طلب دعاء الغير، والتي يرى الشيخ أنها من باب فعل الأسباب لا من باب الشفاعة التي أدخلها فيها أهل البدع كما سيأتي بعد قليل. فقول الشيخ: (فمن قال لغيره: ادع لي، وقصد بذلك انتفاعهما جميعاً، كان هذا وأخوه متعاونين) وهذه الصورة مشروعة. ثم قال هنا: (وإن كان قصده) أي: من طلب الدعاء مصلحة المأمور أو مصلحتهما، فهذا يثاب على ذلك، وإن كان قصده بصورة ثابتة، وقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة صور. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور، فهذا يثاب على ذلك، وان كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور، فهذا من نفسه أتي، ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط، بل قد نهى عنه، إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته، والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده، وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا، فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة، ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة]. يقصد بالصلاة هنا: معناها اللغوي العام، أي: بمعنى: الدعاء، وكذلك الزكاة، فيقصد معناها اللغوي العام، أي: بمعنى النماء والطهارة، ولا يقصد بالصلاة أو الزكاة التي هي ركن الإسلام، وإنما يقصد المعنى العام والنفع العام، فالصلاة هي ما بين الإنسان وبين ربه عز وجل، والزكاة هي ما ينفع به الإنسان غيره. وقوله: (فهذا من نفسه أتي) قصده: أن الإنسان أتي حينما لم ينو نفع الغير، ولم ينو وجه الله عز وجل عند طلب الدعاء من الغير، فهذا أتي من قبل نفسه، حيث لم يحسن النية، ولو أحسن النية والقصد أجر على طلبه الدعاء من الغير إذا توافرت الشروط. والإنسان إذا طلب من غيره أن يدعو له بالقدر الذي أمر الله به، دون أن يتجاوز أو يتعدى في طلبه، وقصده بذلك فعل السبب الذي أمر الله به، وأحسن نيته بأن ينفعه الله عز وجل وينفع هذا العبد التائب، وقع المقصود والمشروع وكان على المشروع، وإن طلب نفع الغير أو دعاء الغير دون أن يكون عنده نية حسنة، لا في ثقته بالله عز وجل ولا في انتفاع الداعي، فإن هذا أتي من قبل نفسه، حيث كان قصده محصوراً على النفع الدنيوي، أو على انتفاعه هو دون غيره. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال، لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه، ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (إنهم لا يسترقون)، وإن كان الاسترقاء جائزاً، وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، أي: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَا

بيان الله تعالى للتوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به

بيان الله تعالى للتوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به قال رحمه الله تعالى: [وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به؛ حتى لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة:44]، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175]، أي: يخوفكم أولياءه {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]. فبين أن الطاعة لله ورسوله، وأما الخشية فلله وحده]. هذه أمثلة لقاعدة عظيمة، وهي: أن الأصل في الطاعة والاتباع طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بناء على أمر؛ لأن هذه الأمور متعلقة بالشرع، أي: أن الطاعة واتباع الأوامر واجتناب النواهي متعلقة بالشرع، فكل ما تعلق بالشرع فلابد من طاعة الله، ثم طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمر بذلك. أما ما يتعلق بالخشية والإنابة والتوبة والعبادة ونحو ذلك فإنها عبادة، والعبادة لا تجوز إلا لله عز وجل. إذاً: فالمشروع فيما يتعلق بالطاعة: أن يطاع الله ويطاع الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله سبحانه، والمشروع فيما كان من أمور العبادة ألا يعبد إلا الله. ولذلك الخلط بين هذه الأمور جعل كثير من أهل البدع يقعون في الشرك؛ لأنهم جعلوا مسلك الخشية والإنابة بالنسبة لمسألة الطاعة والاتباع، فصاروا يخشون الرسول صلى الله عليه وسلم وينيبون إليه، ويخشون الأولياء وينيبون إليهم، زاعمين أن هذا من طاعة الله، وأن الله أمر بذلك، وما عرفوا أن أمر الله متعلق بالشرع فقط لا بالعبادة، وشيء يتعلق بالشرائع تشريع، وأما ما يتعلق بالعبادة فالرسول صلى الله عليه وسلم يطاع فيما شرعه من العبادات، بل ويأبى أن يتوجه إليه بالعبادة نفسها، فهو مشرع عن الله لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، لكن لا تصرف العبادة له ولا لغيره. إذاً: أنواع العبادة، كالخشية والإنابة والرجاء والخوف وجميع أعمال القلوب لا يتوجه بها إلا إلى الله عز وجل، أما الشرائع، أعني: الأوامر والنواهي، فيطاع فيها الله ويطاع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لطاعة الله، وأيضاً يطاع أولي الأمر والراسخون في العلم -الذين هم ورثة الأنبياء- الذين يقولون بالحق وبه يعدلون. قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]]. مسألة الرضا والطاعة في الشرع جعلوها لله تعالى، ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومسألة الرضا بمعنى الاتباع والامتثال والطاعة، كما أنها لله عز وجل فقد أمر أن تكون لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر، لكن لما جاءت في مسألة الخشية والتخويف قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فما توجهوا إلا إلى الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف، حتى قال لهم: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، وقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك)، وقال أيضاً: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا:

أمور تتعلق بالأسباب ينبغي معرفتها

أمور تتعلق بالأسباب ينبغي معرفتها قال رحمه الله تعالى: [لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور: أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب]. قوله: (لا يستقل بالمطلوب) بمعنى: أنه لابد من وجود عوامل أخرى في فعل السبب، أو في أن يؤدي السبب ثمرته، وهذه العوامل توفيق الله عز وجل، ووجود الشروط التي جعلها الله عز وجل شروطاً كونية أو شرعية، وكذلك انتفاء الموانع، فهناك موانع كونية وموانع شرعية، فوجود الأسباب أو بذل الأسباب لا يتحتم معه وجود المسبب كذلك إلا بتوفيق الله، قد يهيئ الله عز وجل الأسباب بأن يهيئ الله نفي الموانع. إذاً: السبب المعلوم ليس بذاته دليلاً على وجود المسبب، فالإنسان قد يبذل السبب -مثلاً- فيما يتعلق بالدين بأن يعمل طاعة يقصد بها التسبب في رضا الله عز وجل وحصول الجنة، لكن إذا لم يوفقك الله للإخلاص لم ينفع سببه، وهكذا إذا ما انتفت الموانع له ووجدت المعاصي الماحقة للحسنات، كذلك بذل السبب في أمور الدنيا وفي الأسباب الدنيوية، إنسان قد يبذل سبباً في استنبات الزرع لكن إذا لم يوفق الله عز وجل ويهيئ أسباباً حتى أخرى لا يعلمها العبد قد لا ينبت زرعه، وقد توجد موانع من الوجود، أحياناً تكون ذنوب العباد سبباً لعدم نجاح الأسباب المادية. فإذاً: السبب المعين لا يستقل بالمطلوب إلا بتوفيق الله عز وجل، وبوجود الشروط وانتفاء الموانع. قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لابد له من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله. الثاني: أن لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء]. كأن الشيخ يشير إلى مسألة أن طلب الدعاء من الغير الذي استشهد به أهل البدع على أنه شاهد على وجود الاستشفاع الممنوع، يقول له هنا: إنه سبب شرعي جاء بعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن حينما نقول: إن طلب الدعاء من غير كلل، فلأنه ورد الشرع بذلك، فمن أثبت شيئاً غير هذه الصورة، أي: سبباً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً؛ لأنه لن يأتي بدليل. وأمور العبادات والعقائد كما هو معلوم لا يصلح فيها القياس بالإطلاق، بل إن صح القياس بطل الدين؛ لأنها أمور توقيفية وغيبية، فلا يصح فيها القياس أبداً. قال رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الصحيحين (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل). الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره -وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه- وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة -وإن ظن ذلك- فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك، إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة، وهذه الجمل لها بسط لا تحتمله هذه الورقة، والله أعلم].

حكم من قال: إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم

حكم من قال: إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قال السائل: إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه الوسيلة والواسطة. فأجاب رحمه الله: الحمد لله، إن أراد بذلك أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وطاعته، والصلاة والسلام عليه وسيلة للعبد في قبول دعائه وثواب دعائه فهو صادق، وإن أراد أن الله لا يجيب دعاء أحد حتى يرفعه إلى مخلوق، أو يقسم عليه به، أو أن نفس الأنبياء بدون الإيمان بهم وطاعتهم وبدون شفاعتهم وسيلة في إجابة الدعاء، فقد كذب في ذلك، والله أعلم]. الشيخ رحمه الله هنا قد احتاط، وإلا فظاهر السؤال المعنى البدعي، وقولهم: إن الله يسمع دعاء الواسطة من محمد صلى الله عليه وسلم هذه عقيدة كثير من الصوفية والفلاسفة وغيرهم يعتقدون أن المخلوق واسطة بين الله وبين الخلق، بمعنى: أنه قد لا يطلع الله عز وجل على أحواله الخلقية من خلاله، وهذا مفهوم، والمفهوم الآخر: أن الرحمة ورحمة الله عز وجل ولطفه بعباده لا تكون إلا عن طريق شخص، سواء النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، وهذا هو الظاهر من السؤال، فهم يزعمون أن الله يسمع الدعاء من خلال شخص محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن يكون واسطة بين الله عز وجل وبين خلقه. وأما المعنى الآخر فهو بعيد، وهو أن المقصود بالواسطة أن الناس يتقربون إلى الله عز وجل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شك هو المعنى الصحيح، وهو المطلوب، وهو معنى العبادة، لكن السؤال لا يظهر منه ذلك إلا على وجه بعيد، ومع ذلك فـ شيخ الإسلام يظهر أنه قد احتاط.

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به، ومحبته وطاعته، والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله، وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بـ العباس عمه رضي الله عنه، كما كانوا يتوسلون به]. هذا المعنى الذي أشار إليه الشيخ هو الدين الذي أراده الله لعباده، يعني: بمعنى التوسل الذي هو التقرب إلى الله عز وجل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو التعبد لله بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الغاية من عبادة الله عز وجل، وهو الغاية مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، لكن في تسميته بـ (التوسل) فيه لبس، وهذا التقسيم جيد، بأن يقال: إن قصد بالتوسل العبادة لله بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو التعبد لله بحب النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه والتقرب إلى الله بالإيمان به ومحبته وطاعته فهذا لاشك أنه هدد؛ لأنه لا يمكن عبادة الله إلا من خلال هذه المعاني العظيمة. فإذاً: التوسل على هذا المعنى هو الدين الذي جاء به المرسلون. قال رحمه الله تعالى: [وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به، فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة -كـ مالك والشافعي وأبي حنيفة - على أنه لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة]. وهناك تعليق في طبعة أخرى قال: هكذا ورد في المطبوع، ولعل الصواب: لا يسوغ الحلف به ولا بغيره، بزيادة كلمة (به)، فيمكن ذلك، لكن بعضهم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم، وستأتي في الرواية الثانية، وعلى هذا تكون العبارة ربما يقصد بها الإشارة إلى الاستثناء، لكن -كما ذكرنا- فقد أوردها له شيخ الإسلام من الرواية الثانية توضح عنده المقصود. قال رحمه الله تعالى: [فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة -كـ مالك والشافعي وأبي حنيفة - على أنه لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره، ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي صاحبه: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه، ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به، ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخرى عنه -هي قول جمهور العلماء- أنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحداً من السلف والأئمة قال: إنه يقسم به على الله، كما لم يقولوا: إنه يقسم بهم مطلقاً، ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام: أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الإقسام به فقال: إن صح الحديث كان خاصاً به، والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله وإلا فليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والله أعلم]. نقف عند هذا الحد، وكان المفترض أننا نفصل في هذه المسألة؛ لأن كلام الشيخ فيه إجمال، لكن الشيخ سيفصلها في الفصل القادم أو في الكتاب القادم، وذلك في كتاب (التوسل والوسيلة) أو قاعدة (التوسل والوسيلة). والصفحة التالية سيبدأ الكتاب، وسيفصل الشيخ رحمه الله هذه المسائل تفصيلاً دقيقاً، ويذكر أمثلتها وأدلتها، والإشارة إلى الحديث المقصود به، وتفصيل قول العز بن عبد السلام الذي أشار إليه قبل ذلك بشكل معنصر مركب، وسيأتي إن شاء الله كما قلت: كتاب (التوسل والوسيلة)، ونتركه إلى حينه. ونسأل الله التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1