شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [1] كان شيخ الإسلام ابن تيمية كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وقد جعل الله في كتاباته البركة في وقته ومن بعده، ومن ذلك وصيته الكبرى للمنتسبين إلى عدي بن مسافر، ففيها نصائح كافية ووصايا شافية تكتب بماء الذهب، فينبغي تأملها والاستفادة منها.

وصية الإمام ابن تيمية إلى أهل السنة والجماعة

وصية الإمام ابن تيمية إلى أهل السنة والجماعة

نصيحة لطلاب العلم

نصيحة لطلاب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإنا نحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عندهم درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطاً أي: عدلاً وخياراً، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم]. أحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده). وإني أبشركم أيها الإخوان! وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله سبحانه وتعالى بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، وقال ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. فهنيئاً لكم حيث سلكتم سبيل العلم وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصواباً على هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص في طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة ولا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً. بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، ولهذا قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، أي: أنه لو تعارض طلب العلم مع أداء النوافل كنوافل الصلاة مثل: صلاة الليل أو صلاة الضحى أو الصيام مثل صيام الإثنين والخميس وأيام البيض فإنه يقدم طلب العلم؛ لأنه أفضل منها. وما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم فإنه يتبصر ويتفقه في دينه فيعلم الحلال والحرام، وإذا تعلم صار ذلك طريقاً إلى العمل فينقذ نفسه وغيره من الجهل، وهذا من علامة إرادة الله بعبده خيراً، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويفقهه في الدين كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي). فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً. وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلبه، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). وثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم)، وثبت أيضاً: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وثبت أيضاً: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، فهنيئاً لكم حيث وجهكم الله هذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم. وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وإخلاص العمل لله والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم، وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم، فيتعلم ويسلك المسالك المتنوعة لطلب العلم من حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية، والالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، وحضور المحاضرات والندوات، وسماع البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها، وسماع الأشرطة المفيدة النافعة، والقراءة في كتب أهل العلم القديمة والحديثة. وعلى طالب العلم أن يتحرى قراءة كتب أهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال. ومن سبل العلم أيضاً سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وعلى طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمن الله عليهم بالعلم والعمل، وكذلك يكون سبباً لحفظه وبقائه كما قيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة أخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس، وأن يقتدي بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأعلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.

التعريف بالإمام ابن تيمية

التعريف بالإمام ابن تيمية وهذه الرسالة ألفها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمه الله رحمة واسعة، هذا الإمام المجاهد الصابر الذي أظهر معتقد أهل السنة والجماعة بعد اندثاره، وأظهر الله به الحق، وقمع به أهل الشرك والبدع والضلال، وتتلمذ على يديه أئمة فحول من أبرزهم تلميذه العلامة ابن القيم الجوزية رحمة الله عليه. فهذا الإمام الذي أحيا الله به السنة، والذي قارع أهل البدع وأبطل شبههم، فقد قال في كتابه بيان موافقة الصريح المعقول للصحيح المنقول: أنا كفيل بأن أجعل كل دليل يستدل به أهل الباطل حجة عليهم، أي: أبين لهم أن هذا الدليل الذي يستدلون به دليل عليهم، رحمة الله عليه.

اقتداء ابن تيمية بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الرسائل

اقتداء ابن تيمية بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الرسائل هذه الرسالة سميت بالوصية الكبرى، وذلك لتوسعه في بيان ما تشمله العقائد والأعمال والأحوال، وله رسالة أخرى تسمى الوصية الصغرى، فوجه الإمام رحمه الله هذه الرسالة إلى عموم المسلمين، فقال رحمة الله عليه: قوله رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم). الشيخ الإمام رحمه الله افتتح كتابه بالبسملة تأسياً بالكتاب العزيز، فإن الله سبحانه وتعالى افتتح كتابه بالبسملة ثم ابتدأه بالحمد والثناء على الله ثم قال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين) اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر وغيرهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما كتب الكتاب إلى هرقل عظيم الروم قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64])، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر اسمه فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وشيخ الإسلام اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من أرسل إليه هذا الكتاب). فكان هذا الإمام يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء. إذاً: هذه الوصية لعموم المسلمين وسميت بالوصية الكبرى لتوسعه رحمه الله فيها، وتفصيله في بيان ما تشتمل عليه، كأصول الإيمان وأصول الدين ثم توسع فيها فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة)، ثم خصص فقال: (المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم). فكأنه وجه هذه الرسالة إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي، لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة، أو لأنه رأى أن يوجه الخطاب إليهم لعنايته بهم، وكونه يريد أن يخصهم بهذه الوصية؛ لأنه رحمه الله رأى أنهم على معتقد أهل السنة والجماعة فأراد أن يزودهم، ولم يقدر لي أن أطلع على ترجمة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي حتى يتبين معتقده هل عليه مؤاخذات في العقيدة أو لا؟ والمؤلف رحمه الله وجه الخطاب إلى عموم المسلمين، ثم خص بعد التعميم، فوجه الخطاب إلى جماعة أبي البركات عدي بن مسافر رحمه الله ودعا لهم، وهذا من نصحه رحمه الله، أنه يعلم ويدعو، وكذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه يعلم ويدعو، يقول في رسائله: (اعلم -أرشدك الله لطاعته- أن الحنفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصاً له الدين). ويقول: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مباركاً حيثما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر) فهؤلاء العلماء الربانيون يعلمون الناس ويدعون لهم وهذا من نصحهم، فالشيخ الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله وجه هذه الوصية العظيمة لعموم المسلمين ودعا لهم بالتوفيق فقال: (وفقهم الله لسلوك سبيله)، لأن الله إذا وفق العبد، فإنه يسلك سبيل الحق، وإذا لم يوفقه بأن يخذله فإنه يكله إلى نفسه، ولا يكله إليه، فالتوفيق من الله.

خصوصية المؤمن

خصوصية المؤمن لله تعالى نعمة دينية خص بها المؤمن دون الكافر قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8]، خلافاً للمعتزلة والقدرية الذين يقولون: إن الله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر لأهل الإيمان ولأهل الكفر على حد سواء، وليس للمؤمن خصوصية، وهذا من أبطل الباطل، وأهل الإيمان قد وفقهم الله لسلوك سبيله، وهو الصراط المستقيم، أي: العمل بالكتاب والسنة، وهو ما جاء من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اتباع شرع الله ودينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله رحمه الله: (وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم)، هذا دعاء آخر فيه بيان أن الإعانة من الله، وأن من لم يعنه الله فإنه لا يتمكن من طاعة الله وطاعة رسوله. إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يعين المؤمن، بخلاف المعتزلة والقدرية فلا يقولون بذلك بل يقولون: ليس لله إعانة لأحد، فالمؤمن يختار الخير بنفسه من دون إعانة، والكافر يختار الشر بنفسه من دون خذلان، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى يعين المؤمن، ويخذل الكافر. وقوله رحمه الله تعالى: (وجعلهم معتصمين بحبله المتين). هذا دعاء ثالث، وحبل الله المتين هو دين الله وشرعه، كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ومن اعتصم بحبل الله فهو من الناجين. وقوله رحمه الله: (مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) هذا وصف، يعني: جعلهم مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا هو طريق المنعم عليهم بالعلم والعمل، فصاروا معتصمين بحبل الله مهتدين لصراطه المستقيم. قال الله تعالى في كتابه المبين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

طوائف أهل الضلال والاعوجاج

طوائف أهل الضلال والاعوجاج قوله رحمه الله تعالى: (وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج). جنبهم أي: جعلهم في جانب، وأهل الضلال في جانب آخر، والمعنى: جعلهم بعيدين متجنبين لطريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله من الشريعة والمنهاج، وأهل الضلال والاعوجاج طائفتان: الطائفة الأولى: المغضوب عليهم الذين علموا ولكنهم لم يعملوا بعلمهم، ويدخل في ذلك اليهود دخولاً أولياً، وكل من فسد من علماء هذه الأمة. الطائفة الثانية: الضالون وهم الذين لم يتعلموا، وإنما عملوا على جهل وضلال، وليس على بصيرة، كالصوفية والزهاد الذين يتخبطون في الظلمات من دون بصيرة ولا علم. وقد أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن ندعو في كل ركعة من ركعات الصلاة بأن يهدينا صراط المنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وذلك في سورة الفاتحة التي هي ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. هذا الدعاء أنفع دعاء وأعظمه وأجمعه، وحاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب والنفس مات، والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان كونه يموت إذا كان مستقيماً على صراط الله ودينه، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه فصار إلى النار والعياذ بالله، فأيهما أشد موت القلب أو موت البدن؟ وقد قسم الله تعالى الناس إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون. وقوله رحمه الله: (حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة) هذا دعاء لهم أن يوفقهم الله لسلوك سبيله، وأن يعينهم على طاعته، وأن يجعلهم معتصمين بحبله، مهتدين لصراطه، وأن يجنبهم طريق أهل الضلال حتى يكونوا بذلك ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة، وهذا فيه دليل على أن من اتبع الكتاب والسنة فإن الله تعالى قد أعظم عليه المنة، كما قال سبحانه وتعالى في المؤمنين: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8]، فهي منة من الله ليس لك حول ولا قوة، فلست أنت الذي هديت نفسك كما تزعمه الجبرية والقدرية والمعتزلة فإنهم يقولون: الإنسان هو الذي هدى نفسه، وهو الذي أضل نفسه، وهذا من أبطل الباطل فمن اتبع الكتاب والسنة فإن الله قد أعظم عليه المنة، وأنعم عليه بنعمة دينية خصه بها دون غيره ممن خذله. إذاً: متابعة الكتاب والسنة ليست بحولك ولا بقوتك، ولكنها منة من الله ونعمة.

الفرق بين قوله تعالى: (فقالوا سلاما) و (قال سلام)

الفرق بين قوله تعالى: (فقالوا سلاماً) و (قال سلامٌ) قوله رحمه الله: (سلام عليكم ورحمة الله وبركاته). السلام موجه إلى جميع المسلمين، يقال: سلام بالتنكير، ويقال: السلام بالتعريف، كما قال الله تعالى عن إبراهيم لما سلمت عليه الملائكة: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25]، قال العلماء: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، لأن سلام الملائكة جملة فعلية، والتقدير: نسلم عليك سلاماً، والجملة الفعلية تفيد الحدوث والتجدد، أما سلام إبراهيم فهو جملة اسمية والتقدير: عليكم سلام والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار والثبوت، فالجملة الاسمية أبلغ من الجملة الفعلية؛ فكان سلام الملائكة بذلك أقل. وقوله: (سلام عليكم) جملة مكونة من مبتدأ وخبر، ويجوز في السلام التنكير والتعريف، تقول: سلام عليكم، والسلام عليكم.

فائدة كلمة (أما بعد)

فائدة كلمة (أما بعد) قوله رحمه الله تعالى: (وبعد). الغالب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يقول: أما بعد، وهذه الكلمة يؤتى بها للفصل للدخول في صلب الموضوع بعد الإتيان بخطبة الكتاب ويقال: وبعد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يأتي بها في خطبته في يوم الجمعة عليه الصلاة والسلام فيقول: (أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فكان شيخ الإسلام يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: وبعد فإنه اختصرها. واختلف في أول من قال: أما بعد، قيل: أول من قالها داود عليه الصلاة والسلام، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعملها في خطبه.

تعريف الحمد، والفرق بينه وبين المدح

تعريف الحمد، والفرق بينه وبين المدح قوله رحمه الله: (فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير). الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فإن خلا عن الحب والإجلال صار مدحاً، فالمدح والحمد يشتركان في الثناء بالصفات والأفعال، فإذا كان مع الثناء حب وإرادة وإجلال فهو الحمد، وإن خلا عن الإرادة والحب والإجلال فهو المدح، فأنت تثني على الأسد بأنه قوي العضلات، وقوي الهجوم، وهو ملك الحيوانات، لكنك لا تحبه فيسمى هذا مدحاً، ولا يسمى حمداً، فإن كان معه إرادة ومحبة صار حمداً، ولهذا جاء الثناء على الرب بالحمد، قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، والله لفظ الجلالة وهو الله أعرف المعارف: علم على ربنا سبحانه وتعالى، وهو مشتمل على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

اشتقاق أسماء الله عز وجل

اشتقاق أسماء الله عز وجل كل أسماء الله مشتقة ومشتملة على صفات، فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، وهكذا، فجميع الصفات مشتملة على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

إعراب كلمة لا إله إلا الله ومعناها

إعراب كلمة لا إله إلا الله ومعناها إعراب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) على النحو التالي: لا: نافية للجنس من أخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، والإله: هو المعبود، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، وهذا خلاف ما عليه أهل البدع من الأشاعرة الذين يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، فيقولون: معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، أو لا قادر إلا الله، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله): لا خالق إلا الله، لما حصل نزاع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فإن المشركين يقولون: لا خالق إلا الله، لا قادر على الاختراع إلا الله، فهم يقرون بذلك، فلو كان معنى: لا إله الله كما يقوله أهل البدع: لا خالق إلا الله؛ لصالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولصار بينه وبينهم موافقة، لأنهم مقرون بأنه لا خالق إلا الله، لكنهم يأبون أشد الإباء أن يفردوا الله بالعبادة، ولا يتبين عظمة هذه الكلمة التي تنفي الشرك وتبطل عبادة جميع الآلهة إلا إذا فسر الله بالمعبود، وقدر الخبر بأنه حق، أي: لا معبود حق إلا الله، والآلهة الموجودة التي عبدت من دون الله كثيرة، فالشمس إله لبعض الناس وقد عبدت، والقمر إله لبعض الناس، والنجم إله لبعض الناس، والبشر والحجر والنجوم والكواكب والجن والملائكة كلها عبدت من دون الله، وهذه العبادات كلها باطلة، والعبادة بالحق هي عبادة الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. وقال سبحانه: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود:101]؛ لأنها آلهة باطلة، قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، إذاً: الكفار يعبدون معبودات لكنها باطلة، ولهم دين، لكنه باطل: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)). وقال سبحانه عن أهل الكتاب: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73]، إذاً: هم على دين، لكنه باطل، ولهم عبادة وآلهة لكنها آلهة باطلة، فكلمة لا إله إلا الله تبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، وتثبت الإلهية لله عز وجل، وهي مشتملة على نفي وإثبات، مشتملة على البراءة من كل معبود سوى الله وهذا هو الكفر بالطاغوت، ومشتملة على الإيمان بالله وتوحيد الله، فكلمة التوحيد فيها كفر وإيمان، كفر بالطاغوت في قولك: لا إله، وإيمان بالله في قولك: إلا الله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. ومعنى الكفر بالطاغوت هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، واعتقاد بطلانها ونفيها وإنكارها.

مذهب المعتزلة والقدرية في المشيئة

مذهب المعتزلة والقدرية في المشيئة وقوله رحمه الله: (هو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير). أي: الله سبحانه وتعالى للحمد أهل؛ لأنه هو الذي أوجدنا من عدم، وهو الذي خلقنا ولم نك شيئاً مذكوراً، ومن علينا بالنعم العظيمة وهدانا للإسلام، وأعطانا السمع والبصر والفؤاد، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فهو أهل الحمد سبحانه وتعالى، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كل شيء هو داخل تحت قدرة الله تعالى، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يقولون: وهو على كل شيء قدير، بل يقولون: وهو على ما يشاء قدير، فإذا وجدت في بعض الكتب وهو على ما يشاء قدير، فاعلم أن هذا يتمشى مع مذهب المعتزلة والقدرية؛ لأنهم يقولون: إن الله يقدر على ما يشاء، أما الذي لا يشاؤه فلا يقدر عليه، وهي الأفعال فأفعال العباد يخرجونها من قدرة الله ومشيئته. ويقولون: إن العباد أرادوا أفعالهم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية وخلقوها استقلالاً من دون الله، والله ما أراد أفعال العباد، ولا شاءها ولا خلقها، بل العباد هم الذين أوجدوها بأنفسهم استقلالاً، وقصدهم من ذلك أن يفروا بزعمهم من القول بأن الله خلق المعاصي وعذب عليها فلا يكون ظالماً؛ لأنهم قالوا: لو قلنا: إن الله خلق المعاصي وعذب عليها كان ظالماً، وشراً من ذلك قولهم: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات ومعاصي مستقلين، وهذا من أبطل الباطل، ولذلك قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] فكل ما يسمى شيئاً فالله عليه قدير، ولا يقال: ممتنع ومستحيل كالجمع بين النقيضين فيقال: هل يقدر الله على الجمع بين النقيضين، وهو كون الشيء موجوداً معدوماً في نفس الوقت أو لا؟ فهذا ليس بشيء؛ لأنه في نفسه متناقض، بعضه ينقض بعض فالممتنع والمستحيل لذاته لا يسمى شيئاً، فلا يقال: إنه داخل تحت القدرة أو ليس داخلاً؛ لأنه لا يسمى شيئاً.

معنى صلاة الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

معنى صلاة الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله رحمه الله: (ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم). ونسأل الله عز وجل أن يصلي على خاتم النبيين، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ليس بعده نبي، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فمن اعتقد أن بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذلك من زعم أن رسالته خاصة بالعرب، أو أنه ليس برسول إلى العرب والعجم، أو أنه ليس رسولاً إلى الجن، بل هو رسول الله إلى العرب والعجم والجن والإنس، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] وهذا عام، وقال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]. فرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، وأصح ما قيل في صلاة الله على نبيه، ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى. ومنهم من قال: الصلاة بمعنى الرحمة، ومنهم من قال: إنها تشمل الرحمة والثناء جميعاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وآدم أبو البشر خلقه الله من طين، وخلق ذريته من ماء مهين، وهو النطفة المكونة من ماء الرجل وماء المرأة عندما يلتقيان في الرحم، وماء الرجل يخرج من الصلب، وماء المرأة يخرج من الترائب وهي: عظام الصدر، فيجتمعان فيخلق الله منه الولد، قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7] وسائر بني آدم مخلوقون من ماء الرجل وماء المرأة إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب، فقد أمر الله جبريل أن ينفخ في جيب درع مريم، فولجت النفخة إلى فرجها فحملت بإذن الله، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12] أي: النفخ كان في الفرج. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:16 - 19]، وآدم مخلوق من تراب خلط بالماء فصار طيناً، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار له صلصلة وصوت، وسيد ولد آدم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وهذا إخبار عن مكانته ومنزلته عند الله؛ لأنه ليس بعده نبي يخبرنا، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فخر) تواضع منه عليه الصلاة والسلام.

معنى سلام الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم

معنى سلام الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله رحمه الله تعالى: (وسلم). هذا دعاء له بالسلامة من النقائص والعيوب. وفي هذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام ليس رباً وليس إلهاً؛ لأنه يدعى له بالسلامة فهو محتاج إلى ربه، ومن يدعى له بالسلامة لا يدعى من دون الله، بخلاف الرب والإله فلا يدعى له بالسلامة، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام ومنه السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). فكان الصحابة يقولون: السلام على الله، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فليس فوقه أحد سبحانه وتعالى حتى يسلم عليه، والذي يدعى له بالسلامة ناقص، والله كامل لا يحتاج إلى أحد، وليس فوقه أحد حتى يدعى له بالسلامة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مخلوق محتاج للدعاء، فهو نبي كريم، يطاع ويتبع ويعظم، وتصدق أوامره، وأخباره، وتجتنب نواهيه، لكنه لا يعبد، فالعبادة حق الله عز وجل.

أعلى درجة في الجنة

أعلى درجة في الجنة قوله رحمه الله تعالى: (وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى). نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأقربهم إليه قربى، وأعظمهم عنده درجة، فأعلى درجة في الجنة هي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الوسيلة كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك هو، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ولهذا يشرع للمسلم أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته). وبعض العامة يزيد في الدعاء فيقول: آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وهذا غلط؛ لأن الدرجة الرفيعة هي الوسيلة، فهذا تكرار، وكذلك بعضهم يزيد يزيد في دعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، فيقول: ولا معبود سواك، وهي بمعنى: لا إله غيرك، فهذا تكرار وزيادة! فالعامة ليس عندهم بصيرة.

معنى (محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا)

معنى (محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً) قوله رحمه الله تعالى: (وأعظمهم عنده درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً). ألهم الله أهل محمد صلى الله عليه وسلم أن يسموه محمداً، لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها، وهو عبد الله ورسوله، وأشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية الخاصة والرسالة، والعبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع المخلوقات أي: أنها مربوبة مسيرة، تنفذ فيها قدرة الله ومشيئته وإرادته، فجميع المخلوقات في السماوات والأرض عبيد لله، قال الله سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين الموحدين الذين يعبدون الله طوعاً باختيارهم فيصلون ويصومون ويحجون ويزكون فالعبودية الخاصة تقتصر على الطوع والاختيار، أما العبودية العامة فليس فيها اختيار، فالعبد فيها مربوب شاء ذلك أم أبى، وتنفذ فيه قدرة الله، فإذا نزل به المرض أو الموت أو الفقر فإنه لا يستطيع دفع ذلك. قوله رحمه الله تعالى: (وعلى آله). اختلف العلماء في معنى الآل، وأصح ما قيل فيه: إن المراد بآله أتباعه على دينه، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً أهل بيته وذريتهم المؤمنون، وزوجاته وصحابته. وقوله رحمه الله تعالى: (وصحبه). هذا تخصيص لهم، فكأنه سأل الله أن يصلي على الصحابة مرتين: مرة بالعموم لدخولهم في الآل، ومرة بالخصوص، والصحابي: هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح، فلو ارتد ثم أسلم، ومات على الإسلام فلا يضر الصحبة، وتثبت له أعماله فلا تحبط بخلاف ما إذا ارتد والعياذ بالله، ثم مات على الردة فإنه تبطل صحبته وتحبط جميع أعماله، قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]. وقوله رحمه الله: (وسلم تسليماً كثيراً) هذا مصدر للتأكيد، ثم وصف بقوله: كثيراً. وقوله رحمه الله: (أما بعد) هذه الكلمة قالها المؤلف رحمه الله لأنه دخل في صلب الموضوع، بخلاف الكلمة الأولى فإنه قال: وبعد.

أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق

أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق قوله رحمه الله تعالى: (فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً). هذا اقتباس من قوله عز وجل في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]. ومحمد هو رسول الله عز وجل، بعثه الله إلى الخلق كافة. الهدى هو العلم النافع الذي جاء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الذي أنزله الله عليه، وهو القرآن بواسطة جبرائيل، قال سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194]. وكذلك السنة، فإنها وحي ثانٍ، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، والقرآن كلام الله باللفظ والمعنى، والسنة تنقسم إلى قسمين: أحاديث قدسية، وأحاديث غير قدسية. فالأحاديث القدسية لفظها ومعناها من الله فهي مثل القرآن، ولهذا يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، كما في حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أن الله تعالى قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)، إلى آخر الحديث. وكذلك حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه). وهنالك أحكام خاصة يختلف فيها الحديث القدسي عن القرآن: فالقرآن متعبد بتلاوته، والحديث القدسي غير متعبد بتلاوته، القرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ، القرآن معجز بلفظه، والحديث القدسي غير معجز بلفظه، والقرآن يتفاضل بعضه أفضل عن بعض، مثل سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فإنها تعدل ثلث القرآن. أما الأحاديث غير القدسية فهي من الله معنى، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً. وفي بعض كتب أصول التفسير كالإتقان للسيوطي وغيره ذكر أن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يرون أن كلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، ولم يسمع جبريل منه شيء، ولكن الله اضطر جبريل، ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، فهو كلام جبريل، أما الله فلم يتكلم بحرف ولا صوت، ومن الأشاعرة من يقول: إن الذي عبر به هو محمد وليس جبريل، ومنهم من يقول: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح، فهذه ثلاثة أقوال للأشاعرة وكلها أقوال باطلة، والصواب: أن القرآن كلام الله لفظاً ومعنىً، وأن الله تكلم به، فسمعه جبرائيل من الله، ثم أنزله على قلبه صلى الله عليه وسلم. وقوله رحمه الله: (ودين الحق) هو العمل الصالح، فالله تعالى بعث محمداً بالعلم النافع والعمل الصالح. وقوله رحمه الله تعالى: (ليظهره على الدين كله). أي: ليجعله عالياً مرتفعاً منصوراً على جميع الأديان. وقوله رحمه الله تعالى: (وكفى بالله شهيداً): وكفى به سبحانه وتعالى شهيداً وحاضراً وكفيلاً بأن يظهر دين الإسلام على جميع الأديان ويجعله عالياً ظاهراً منصوراً.

أنزل الله الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه

أنزل الله الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه قوله رحمه الله: (وأنزل عليه الكتاب بالحق). أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العزيز، وهو أفضل الكتب وخاتمها وآخرها والمهيمن عليها، أنزله بالحق لا بالباطل، لهداية الناس وإرشادهم وتبصيرهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. وهو شفاء لما في الصدور، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]. وقوله رحمه الله تعالى: (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) أي: مصدقاً لما تقدمه من الكتب السابقة، فالكتاب جنس يشمل جميع الكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل والزبور، وكل كتاب أنزله الله فالقرآن يصدقها وكتب الله متضامنة يصدق بعضها بعضاً ويوافق بعضها بعضاً. وقوله رحمه الله تعالى: (ومهيمناً عليه) يعني: هذا القرآن مهيمن على الكتب السابقة، وناسخ لها، وحاكم عليها.

إكمال الدين وإتمام النعمة

إكمال الدين وإتمام النعمة قوله رحمه الله: (وأكمل له ولأمته الدين). أي: أكمل الله لهذا النبي الكريم وهو محمد صلى الله عليه وسلم له ولأمته الدين، فالدين كامل ليس فيه نقص، ولا يحتاج إلى زيادة، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]. وقوله رحمه الله تعالى: (وأتم عليهم النعمة) أي: أتم الله عليهم النعمة بهدايتهم إلى الصراط المستقيم حيث أنزل عليهم هذا الكتاب العظيم، وأرسل إليهم هذا الرسول العظيم. ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم هذه الآية يوم عرفة في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وقد ثبت أن يهودياً قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: آية في كتابكم لو أنها أنزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيداً، قال عمر: أي آية هذه؟ فقال اليهودي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فقال عمر: (إني لأعلم المكان الذي نزلت فيه، واليوم الذي نزلت فيه؛ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في مكة في يوم عرفة وكان يوم جمعة) فيوم الجمعة عيد لنا، ويوم عرفة عيد لنا، والمكان مكان شريف، والآية عيد لنا بحمد الله.

الخيرية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم

الخيرية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله رحمه الله تعالى: (وجعلهم خير أمة أخرجت للناس). هذه الأمة جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، أي: خير الأمم، لكن هذه الخيرية مقيدة بما وصف الله به هذه الأمة في قوله عز وجل في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، بهذه الصفات كانوا خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقدم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعظم شأنهما وأهميتهما، وإلا فإن الإيمان مقدم؛ لأنه أصل الدين وأساس الملة، فمن تحققت فيه هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن فاتته هذه الصفات فاتته الخيرية. وقوله رحمه الله تعالى: (فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله) جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها)، وفي رواية: (إنكم توفون سبعين أمة يوم القيامة أنتم خيرها وأكرمها على الله) أي: هذه الأمة توفي سبعين أمة، وهذه الأمة هي خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل، وهذا بفضل الله تعالى وإحسانه إلى هذه الأمة حيث كان نبيها خير الأنبياء وآخرهم. قال: (وجعلهم أمة وسطاً) أي: عدلاً وخياراً عدلاً جمع عادل، والوسط يأتي بمعنى الشيء الذي يكون بين الطرفين، ويأتي بمعنى الخيار، فالمراد بالوسطية هنا الخيرية، وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

معنى قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس)

معنى قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) قوله رحمه الله تعالى: (ولذلك جعلهم شهداء على الناس). أي: بكونهم عدلاً خياراً صاروا شهداء على الناس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]؛ لأن الشهادة تتطلب العدالة فهذه الأمة لما كانت موصوفة بالعدالة، والخيرية صارت تشهد على الناس، وبيان ذلك ما ثبت في الحديث: (أنه يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته)، فتأتي هذه الأمة وتشهد على الناس، تشهد أن نوحاً بلغ أمته فتقول أمته: كيف عرفتم أن نوحاً بلغنا وأنتم لم تحضروا؟ فيقولون: أنزل الله علينا كتاباً وأخبرنا أن نوحاً بلغ فشهدنا، وكذلك الأنبياء كلهم فإنهم يسألون: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم. فتنكر أممهم فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فتأتي هذه الأمة وتشهد للأنبياء أنهم قد بلغوا، ثم يأتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويشهد عليها، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقوله رحمه الله تعالى: (هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم). أي: أن الله تعالى هدى هذه الأمة لما بعث به رسله جميعهم إلى الدين، فإن الدين الذي شرعه لجميع خلقه هو أصول الأديان الذي جاءت بها الأنبياء جميعاً، وهو توحيد الله وإخلاص العبادة له، والتحذير من الشرك، والإيمان بالرسل والكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وهذه الأمة هداها الله لهذا، ثم خصهم بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة الخاصة كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]. فدين الإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، وهو دين الله في الأرض والسماء، والأنبياء كلهم دينهم واحد وهو التوحيد، والتوحيد هو الإسلام بمعناه العام، فالإسلام في زمن آدم هو توحيد الله وما جاء به آدم من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله وما جاء به نوح من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن هود توحيد الله وما جاء به هود من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن صالح توحيد الله وما جاء به صالح من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وما جاء به إبراهيم من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وما جاء به موسى من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله وما جاء به عيسى من الشريعة والمنهاج، والإسلام في زمن محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة والمنهاج الذي جعله الله تعالى له.

[2]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [2] لقد دعا الله عز وجل عباده المؤمنين في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بأصول شرائع الدين، وأخبر أن هذا هو دأب الصالحين من سلف هذه الأمة، وأعظم شرائع الدين هو التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، كذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره إيماناً مجملاً ومفصلاً، وهذه الواجبات والتمسك بها هو المعيار الحقيقي للتفاضل بين العباد بين يدي الجبار جل جلاله.

التوحيد أعلى أصول الإيمان وأفضلها

التوحيد أعلى أصول الإيمان وأفضلها قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالأول مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]]. ذكر المؤلف رحمه الله في المقدمة أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة وسطاً أي: عدلاً خياراً، وجعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك فيما ميزهم به، وفضلهم من الشرعة والمنهاج. ثم قال: فالأول: مثل أصول الإيمان، والأول: المراد به الدين الذي شرعه لجميع الخلق، وهداية الله لهذه الأمة لما بعث به رسله من الدين الذي شرعه لجميع خلقه مثل أصول الإيمان. وأما الثاني: وهو ما ميزهم به وفضلهم من الشريعة والمنهاج، وهذا سيأتي ذكره، وأما الثاني: فكما أنزله في السور المدنية من شرائع دينه. إذاً: فقد هدى الله هذه الأمة لما بعث به رسله من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، مثاله: أصول الإيمان، والإيمان بجميع الكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر، وأصول الشرائع، وهذا مثال للدين الذي شرعه لجميع خلقه الذي هدى الله له هذه الأمة. مثال الدين الذي شرعه الله لجميع خلقه وهدى هذه الأمة له، الدين الذي شرعه الله لجميع خلقه وبعث به رسله، مثاله: أصول الإيمان، والإيمان بجميع الكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر، ومثل: أصول الشرائع. أما الأمر الثاني الذي خصهم به بعد ذلك فهو: فيما ميزهم به وفضلهم من الشريعة والمنهاج، والذي جعل لهم مثاله، أي: مثال ما خصهم به، وفضلهم من الشريعة والمنهاج، سيأتي في قول المؤلف رحمه الله: [وأما الثاني: فما أنزله الله في السور المدنية لشرائع دينه، وما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته]. فهذه الأمة هديت إلى الدين الذي شرعه الله لجميع خلقه وهو الذي بعث به الرسل، وهي أصول: الإيمان، مثل: الإيمان بأصول الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأعلى أصول الإيمان وأطولها هو: التوحيد، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن أصول الدين متفاوتة في الرتبة، فالشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة الشهادة المسماة: كلمة التوحيد إذا أطلقت فإنها تدخل فيها الشهادة الثانية، أي: أن شهادة أن لا إله إلا الله إذا أطلقت دخلت فيها شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنهما كلمتان لا تختص إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم يقبل منه، ومن شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم يقبل منه، وإذا أطلقت إحداهما دخلت الأخرى فيها ولهذا نفى الله الإيمان عن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يزعمون أنهم آمنوا بالله، قال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة:29]، فنفى عنهم الإيمان مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لكن لما لم يشهدوا أن محمداً رسول الله بطلت شهادتهم لله بالوحدانية، فنفى الله عنهم الإيمان. ولذا فإن أصول الإيمان الذي هو الدين الذي شرعه الله لجميع خلقه، والذي بعث به رسله، هو الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وهي أركان الإيمان الستة التي دل عليها الكتاب العزيز التي بينها الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل في آية البر: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]، فذكر الله في هذه الآية خمسة أصول، والأصل السادس القدر ذكره الله تعالى في قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. وذكرت أيضاً هذه الأصول في حديث جبرائيل: (حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام؟ ثم سأله عن الإيمان؟ فقال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). فهذه أصول الإيمان، وهذه هي أصول الدين، وهذا هو الدين الذي شرعه الله لجميع خلقه، وبعث به رسله، وهدى الله له هذه الأمة، وهذه الأصول الستة جاءت في القرآن العزيز والسنة المطهرة، بل إن الكتب المنزلة كلها جاءت فيها هذه الأصول، والرسل كلهم جاءوا بهذه الأصول، وأجمع المسلمون عليها، ولم يجحدوا أحداً منها إلا من خرج عن دائرة المسلمين وصار من الكافرين، وأعلى هذه الأصول وأفضلها هو: التوحيد، وهو: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والنبي صلى الله عليه وسلم برسالته؛ لأن الإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة، فلهذا صار أعلاها وأفضلها، ولأن الأعمال متوقفة صحتها على هذا الأصل العظيم، وهو الإيمان بالله، فلا يصح أي عمل حتى ينبني على الإيمان بالله وتوحيده عز وجل. ثم استدل المؤلف رحمه الله بالآيات، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ومعنى لا إله: أي: لا معبود بحق إلا الله، وقوله هنا: (لا إله إلا أنا فاعبدون)، أي: لا معبود بحق إلا أنا فاعبدوني، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وهذه الآية مشتملة على ما اشتملت عليها كلمة التوحيد من النفي والإثبات،: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] وهذا أمر بالإيمان بالله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فقد أمر بالكفر بالطاغوت، {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ففيها النفي والإثبات كما في كلمة التوحيد، لا إله: معناه: اجتناب الطاغوت، إلا الله: معناه: عبادة الله والإيمان بالله، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، فقد تضمنت إثبات توحيد الله عز وجل، وهذا من تمام النفي، وبيان أن الله تعالى لم يجعل من دونه آلهة. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، وهذا هو الدين الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهي أصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52] والشاهد قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]، والمعنى: اتقوني أنا ربكم، إذ هو المعبود وحده سبحانه وتعالى بالحق، وقوله فاتقون، التقوى أصلها: توحيد الله، وإخلاص الدين له، ثم الالتزام بشرائع الإسلام.

الإيمان بالكتب والرسل والملائكة مطلوب من جميع الأمم كما هو مطلوب من أمة النبي الخاتم

الإيمان بالكتب والرسل والملائكة مطلوب من جميع الأمم كما هو مطلوب من أمة النبي الخاتم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل الإيمان بجميع كتب الله وجميع رسله كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. ومثل قوله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15]. ومثل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]]. وهذا فيه بيان الأصل الثالث والرابع من أصول الإيمان. إذ أن الأصل الأول: هو الإيمان بالله، وهو أعلاها وأفضلها. والأصل الثاني: الإيمان بالملائكة كما جاء في حديث جبريل: (وملائكته). والأصل الثالث: الإيمان بجميع الكتب، والإيمان بجميع الرسل، فالإيمان بجميع كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، والإيمان بجميع الرسل الذين أرسلهم الله إلى خلقه هو الأصل الثالث، والإيمان بالكتب يكون مفصلاً ومجملاً. فالمفصل: الإيمان بالكتب التي ذكرت في القرآن العزيز أو في السنة المطهرة، نؤمن بها بأعيانها، مثل: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى، فنؤمن بها بأعيانها، وأن لله كتاباً أنزله على موسى بن عمران اسمه: التوراة، وكتاباً أنزله الله على عيسى اسمه الإنجيل، وكتاباً أنزله على داود اسمه: الزبور، وأنزل على موسى صحفاً، وعلى إبراهيم صحفاً. أما الإيمان بالقرآن فهو إيمان خاص فيه تفصيل: وهو الإيمان بأن القرآن العظيم خاتم الكتب، والمهيمن عليها، والإيمان بأنه أفضلها، ولابد مع ذلك من الإيمان به إجمالاً وتفصيلاً بتصديق أخباره، وتنفيذ أحكامه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والاتعاظ بمواعظة، والانزجار من زواجره، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحكيمه في كل شيء، وهذا إيمان تفصيلي خاص بالقرآن الكريم. أما ما لم يذكر من الكتب فنؤمن بها إجمالاً، ونؤمن بأن الله تعالى أنزل كتباً على أنبيائه ورسله، لا يعلم أسماءها وعددها إلا هو سبحانه وتعالى. قوله: (وجميع رسله) أي: الإيمان بجميع الرسل، وهذا هو الأصل الخامس، وهو الإيمان بجميع الرسل إجمالاً وتفصيلاً، تفصيلاً فيما سمى الله في كتابه، نؤمن بهم بأعيانهم، وهم خمس وعشرون ذكروا في سورتي النساء والأنعام، قال الله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163]. وقال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]. فهؤلاء مع نبينا صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون، وكذلك أيضاً ما ورد في السنة نؤمن بهم بأعيانهم، أما ما لم يذكر في الكتاب ولا في السنة فنؤمن به إيماناً مجملاً، فنؤمن بأن الله تعالى أرسل رسلاً كثيرين إلى خلقه لهدايتهم وإنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله سبحانه وتعالى. ونؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً تفصيلياً، وهو الإيمان بأنه رسول الله حقاً، وأن رسالته عامة إلى الثقلين الجن والإنس، وأنه آخر الأنبياء فلا نبي بعده، وأن شريعته خاتمة الشرائع عليه الصلاة والسلام. وقد ذكر المؤلف رحمه الله أدلة كثيرة كقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. وفيه: دليل على الإيمان بالكتب المنزلة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] أي: من القرآن والسنة، {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136] وهذا فيه الإيمان بالكتب المنزلة غير القرآن والسنة، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. ومثل قول الله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15]، وهذا عام، فقوله: (كتاب)، جنس يشمل جميع الكتب. ومثل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، وقوله: (الإيمان بالملائكة وهو الأصل الثاني) فيجب أن نؤمن بهم تفصيلاً وإجمالاً، تفصيلاً: فيما سمى الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنؤمن بجبريل وميكائيل وإسرافيل؛ لأنهم سموا، كما نؤمن بملك الموت، لكن لا نعلم أن اسمه عزرائيل كما يقول بعض العامة، فالله تعالى سماه ملك الموت، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11]، وممن نؤمن به تفصيلاً كذلك: منكر ونكير، وهما فتانا القبر، ومالك خازن النار، وما لم يسم فإننا نؤمن به إيماناً مجملاً.

الإيمان باليوم الآخر أصل لا يتم الإيمان إلا به

الإيمان باليوم الآخر أصل لا يتم الإيمان إلا به قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]]. وهذا هو الأصل الخامس من أصول الإيمان، نعني: الإيمان باليوم الآخر، وما يدخل فيه من الثواب في الجنة، والعقاب في النار، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62]، والشاهد قوله: (واليوم الآخر)، {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. والإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث، وهو أن الله تعالى يبعث الأجساد ويعيد الذرات؛ لأن الإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب المسمى بالعصص، وهي آخر فقرة في العمود الفقري، فلا يبلى ولا تأكله الأرض كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يرجع). وعجب الذنب يبقى ويخلق منه ابن آدم، فيعيد الله الذرات التي تكون جسم الإنسان بعد أن صارت تراباً؛ لأن الله عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء؛ ولأن الله قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يعيد الذرات، ولهذا لما أخبر الله عن الكافرين قولهم على لسان أحدهم: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] رد الله فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]. فلأنه عليم وقادر، فليس يمتنع عليه شيء سبحانه وتعالى، وعند إعادة الذرات تعاد الذوات إلى ذاتها، ولكن الصفات تتبدل، بمعنى: أن الله تعالى ينشئ الناس يوم القيامة تنشئة قوية، وإنما تبدل الصفات حتى يتحملوا ما لا يتحملونه في الدنيا، فصفة يديه تبدل فينشأ قوياً، ولكن الذرات هي هي، خلافاً للجهم بن صفوان قبحه الله الذي يقول: إن الذي يعاد شيء آخر غير جسم هذا الإنسان، فعنده أن جسم الإنسان يبلى ولا يعود، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه يلزم من هذا أن يكون الله يعذب أحداً لم يعصه، فإذا كانت الذرات التي تعاد ليست الذرات التي نشأ منها في الدنيا فمعناه أن الله عذب أحداً بغير ذنب سبحانه عما يقولون، ولهذا أنكر العلماء على الجهم قوله ذاك، وهو الذي تنسب إليه الجهمية، وهي فرقة ضالة كافرة، تسلب عن الله جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه: العدم، إذ أن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا وجود له، ولما قال الجهم هذه المقالة الخبيثة وهو القول بأن الإنسان يبلى ولا يعاد، وإنما يعاد شيء آخر، دخلت الملاحدة من هذا الباب الذي فتح لهم، فدخل ابن سيناء وقال: ليس هناك بعث للأجساد إطلاقاً، وإنما الذي تبعث هي الأرواح، فالمعاد معاد للأرواح لا للأبدان، وهذا كفر وضلال بإجماع المسلمين؛ لأن البعث إنما يكون بالأجساد، وقد أنكر الله على من أنكر البعث وحكم بكفره سبحانه وتعالى، وأقسم في كتابه في ثلاثة مواضع أن البعث لابد منه فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، فالبعث يكون بالأبدان، ومن لم يؤمن بأن البعث للأبدان فهو كافر، وقول الفلاسفة والملاحدة أن الذي يبعث هو الروح كفر وضلال؛ لأن الروح باقية بعد خروجها من الجسد إما في نعيم أو عذاب. وروح المؤمن تنقل إلى الجنة وروح الكافر تنقل إلى النار، ومعلوم أن أرواح الشهداء تتنعم بواسطة طير خضر؛ لأنهم لما بذلوا أجسادهم لله عوض الله أرواحهم أجساداً تتنعم بواسطتها، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في الجنة، وترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش). وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، وهي على هيئة طائر، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) أي: يأكل. كما يشمل الإيمان باليوم الآخر بجانب الإيمان بالبعث: الإيمان بالوقوف بين يدي الله تعالى للحساب، والإيمان بظهور خفايا الصحف، والإيمان بالميزان الذي توزن فيه أعمال العباد، ويوزن فيه الأشخاص، والإيمان بالحوض، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة حوض عظيم طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، وهو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الواردين حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ويشمل الإيمان بالصراط أيضاً، وهو صراط ينصب على متن جهنم، أحد من السيف، وأحر من الجمر، كما أن النار تبرز يوم القيامة: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36]. وتفجر البحار وتكون جزءاً منها، ثم يمد الصراط على متن جهنم فيصعد الناس منه إلى الجنة، وعلى متن الصراط يعاقب الناس على حسب الأعمال، وأول زمرة يمرون كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاويد الخيل، ثم رجل يعدو عدواً، ثم رجل يزحف زحفاً، وعلى الصراط كلاليب تخطف من أمرت بخطفه وتلقيه في النار نعوذ بالله. ثم الإيمان بالجنة والنار، فهذا مفصل الإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالبعث، بعد الموت إلى الإيمان بالوقوف بين يدي الله للحساب، إلى الإيمان بإعطاء الكتب بالأيمان وبالشمائل، إلى الإيمان بالحوض، إلى الإيمان بالميزان، إلى الإيمان بالجنة والنار، ويلتحق بذلك الإيمان بما يكون في البرزخ، وهو الأصل؛ لأنه برزخ بين الدنيا والآخرة؛ إذ أن الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. فدار الدنيا: هي التي نحن فيها وتمتد إلى البرزخ، ودار البرزخ: تمتد من الموت إلى البعث، وسمي بالبرزخ؛ لأنه فاصل بين الدنيا والآخرة. ودار القرار: هي البعث وتمتد إلى ما لا نهاية، ولذا لابد من الإيمان بهذه الأمور كلها، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62]، والشاهد: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62]، فقد أخبر أن من آمن من المؤمنين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

سور في القرآن تجمل أصول الشرائع وتدعو إليها

سور في القرآن تجمل أصول الشرائع وتدعو إليها قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة الأنعام والأعراف وسبحان، وغيرهن من السور المكية من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والعدل في المقام، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم، مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل عليه، والتوكل على الله، والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله، والقيام لأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين]. وهذا أيضاً من أصول الشرائع وهي داخلة في أصول الإيمان بأصول الشرائع، كما ذكر الله في سورة الأنعام والأعراف وسبحان أي: الإسراء، وغيرها من السور المكية من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، كما في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151]. وفي سورة الأعراف أخبر الله عن كل نبي أنه يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]. وقال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]. وكذلك في سورة سبحان سورة الإسراء قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وفيه: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وفيه: اعتناء أكثر السور المكية كما في سورة الأنعام والأعراف بهذه القضايا، كالإيمان ببر الوالدين، وصلة الأرحام، هذه كلها أصول الشرائع، فمنها: أن تؤمن بأن الله أمرك ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والعقود التي بينك وبين الناس، والعدل في المقال {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، فيجب على الإنسان أن يعدل في كل شيء، في قوله وفعله وتوفية الميزان والمكيال، وهذه أيضاً من أصول الشرائع، ولهذا أنكر نبي الله شعيب على قومه الذين يطففون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، قال الله عنه أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود:85]، ومن أصول الشرائع كذلك: إعطاء السائل والمحروم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وهذا السائل الذي لا يعلم حاله، أما السائل الذي يعلم حاله، وأنه غير محتاج فيزجر ويمنع، والسائل له أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: أن تعرف أنه محتاج وأنه فقير أو عليه دين، فهذا يعطى. الحالة الثانية: أن تعرف أنه ليس بمحتاج، وليس عليه دين، فهذا يزجر ويمنع ويرفع به إلى ولاة الأمور لتأديبه. الحالة الثالثة: أن تجهل حاله، فلا تدري هل هو محتاج أو غير محتاج، فهذا يعطى؛ لأنه قد يكون محتاجاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، ومنها أيضاً -أي: أصول الشرائع- تحريم قتل النفس بغير الحق كما قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33]، (وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، (وتحريم الإثم والبغي) كقوله: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} [الأعراف:33]. (وتحريم الكلام في الدين بغير علم كذلك) فهو من أصول الشرائع، ومعلوم أنه يحرم على الإنسان أن يتكلم في الدين بغير علم. والتوحيد من إخلاص الدين لله إذ ليس هناك توحيد إلا بإخلاص الدين لله. (والتوكل على الله، والرجاء لرحمته، والخوف من الله، والصبر لحكم الله) كل هذه من أعمال القلوب العظيمة. وحكم الله ينقسم إلى ثلاثة أنواع: حكم الله القدري. وحكم الله الشرعي. وحكم الله الجزائي. فحكم الله القدري: هو ما يقدره الله على العبد من صحة ومرض وحياة وموت وفقد أحبة إلى غير ذلك. فالحكم القدري ليس لأحد أن يمتنع عنه، وهو جار على الصغير والكبير، فإذا قدر الله الموت على الإنسان لابد أن يموت، ولا يمكن أن يمتنع. والثاني: حكم الله الشرعي: وهو ما حكم الله به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشريعة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فهذا حكم الله الشرعي، قد يفعله بعض الناس، وقد لا يفعله بعض الناس فيتمردون على الشرع، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، ومن الناس من يصلى، ومنهم من لا يصلي، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فمن الناس من امتثل النهي واجتنب الزنا، ومنهم من ارتكبه. والحكم الثالث: حكم الله الجزائي، وهو كائن يوم القيامة حيث يجازي الله العباد، ويفصل بينهم سبحانه وتعالى في وقت واحد، لا يلهيه شأن عن شأن، كما أنه يرزقهم ويعافيهم، ويصحهم ويمرضهم في وقت واحد، فكذلك يسمع دعاءهم، ويجيب دعاءهم ويحكم بينهم سبحانه وتعالى في وقت واحد، وقوله: (الصبر لحكم الله) يعني: حكم الله القضائي القدري، وقوله: (القيام لأمره) أي: القيام بأمر الله، وهو: توحيد الله وأداء حقوق التوحيد، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تقديم محبته على كل أحد، على الأهل والمال والولد والناس أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن كالسور المكية وبعض المدنيات]. يقول: إن أصول الإيمان أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن في السور المكية، وبعض المدنية، وما ذكره فيه الكفاية وهو معروف.

[3]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [3] لقد كرم الله هذه الأمة، وخصها بخصائص دون غيرها من الأمم، ومن ذلك: أن بعث إليها خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل لها نبياً بعده، بل جعل لها أئمة مهديين يجددون لها أمور دينها، وخصها أيضاً بعدم الاجتماع على الضلالة، وجعلها وسطاً بين الأمم، وسطاً بين اليهود الجافين والنصارى الغالين، وجعل منها الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة، المبشرين برضوان الله والجنة بإذن الله ذي المنة.

خصائص هذه الأمة من الشريعة والهدي

خصائص هذه الأمة من الشريعة والهدي قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: كما أنزل الله من السورة المدنية من شرائع دينه ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة، وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]. وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]. وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. فقال غير واحد من السلف: الحكمة: هي السنة]. وهذا الأمر الثاني الذي خص الله به هذه الأمة وميزها وفضلها به من الشرعة والمنهاج، وهو: ما أنزله الله في السور المدنية، من شرائع دينه، من الأوامر والنواهي، والحدود، والقصاص، وما سنه النبي صلى الله عليه وسلم من الشرائع لأمته، كل ذلك ميز الله به هذه الأمة، وخصها بالعمل به، فتمتثل الأوامر، وتجتنب النواهي؛ إذ أن الله سبحانه أنزل الكتاب والحكمة عليه أي: النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب: هو القرآن الكريم، والحكمة: هي السنة المطهرة، وامتن على المؤمنين بذلك كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]. وامتن بذلك على نبيه فقال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]. وقال ممتناً على المؤمنين أيضاً: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. وأمر أزواج النبي بذكر ذلك فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وكما تقدم فالحكمة: هي السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما امتن الله به على المؤمنين من هذه الأمة.

تعريف الحكمة في القرآن

تعريف الحكمة في القرآن قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال غير واحد من السلف: الحكمة: هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن]. فيما ذكر رحمه الله بيان أن السنة هي الحكمة؛ فإذا جاء أن الله أعطى النبي الحكمة، وأنزل عليه الحكمة، فالمراد به السنة المطهرة، لأنه كما قال: الذي يتلى في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم سوى القرآن هو السنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب) يعني: القرآن (ومثله معه) وهو الوحي الذي أوحاه الله إليه، ومثله معه: وهي السنة المطهرة. وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها، كما يعلمه القرآن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته مثل: الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع والسجود، واستقبال الكعبة]. يعني: أن هذه الشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته فسرها لهم وأنزلها لهم مثل: الوجهة، ويقصد بها: التوجه إلى القبلة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، والمنسك: وهو العبادة، ويدخل في ذلك: الذبائح، كالعقيقة والهدي والأضحية، وقوله: المنهاج، أي: الطريق الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام، ومثل بالصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، والكيفية، فهذا وما تقدم مما خص الله به هذه الأمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين من الماشية، والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له حيث يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]]. كل هذه أمثلة للشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته، وذكر منها هنا فرائض الزكاة ونصبها، ومعلوم أن الزكاة تجب في نصاب الذهب والفضة، وعروض التجارة ومقدارها ربع العشر، ويجب نصف العشر من نصاب الحبوب والثمار إذا كانت تسقى بمؤنة، والعشر إن كانت تسقى بغير مؤنة، هذا كله مما هدى الله به هذه الأمة، ومما يذكر عن الزكاة أيضاً الأنصبة، ومعلوم أن نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، ونصاب الفضة: مائتا درهم، ونصاب المواشي من الغنم: أربعون، ونصاب البقر: ثلاثون، ونصاب الإبل: خمس، هذه كلها أمثلة لفرائض الزكاة، وأما قوله: ومن جعلت له، فيعني به: من هم أهلها أي: الذين يعطون الزكاة، وهم ثمانية أصناف ذكرهم الله في كتابه، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم في المناسك، والمواريث، والعقوبات، والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم: من الأعياد والجمعات والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف والاستسقاء، وصلاة الجنازة والتراويح]. وهنا ما زال المصنف رحمه الله يعدد أمثلة لما خص الله به نبيه وأمته، فذكر صيام شهر رمضان، وقد كان الصيام مكتوباً على من قبلنا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، لكن تحديد شهر رمضان بالصيام هو من خصائص هذه الأمة، ومثل حج بيت الله الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم، فلا يتجاوزون حدوده في المناسك، والمواريث حيث جعل الله للأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، كما فرض الله تعالى أيضاً للآباء والأمهات، والإخوة والأخوات أنصبة في الأموال، وقوله: والحدود أي: التي حدها لهم في المناكح، والمواريث، والعقوبات، والمبايعات، كل هذه يجب أن يقف الإنسان عندها ولا يتجاوزها، وكذلك السنن التي سنها لهم: من الأعياد كالجمع والجماعات في المكتوبة من الصلوات المفروضة، وجماعات الكسوف، وجماعات الاستسقاء، وصلاة الجنازة، والتراويح، كل هذا مما هدى الله له هذه الأمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما سنه لهم في العادات مثل المطاعم والملابس والولادة والموت، ونحو ذلك من السنن والآداب والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض والمنافع والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم]. كل هذا داخل فيما خص الله به هذه الأمة من الشرائع، وذكر هنا ما سنه الله لهم في العادات مثل: (المطاعم) فبين كيف يطعم، وكيف يكسب المال من طرقه الحلال والوجوه المشروعة، ثم ينفقها في مصارفها الشرعية، ومثل: (الملابس) وما يشرع للإنسان عند لبس الثوب، (والولادة) كذلك وما يشرع في تسمية المولود، وحلق رأس الذكر، وإنفاق وزن شعره ذهباً، وتحنيكه، والعقيقة عنه، (والموت) كذلك، فبين ما يفعل في الميت من تغسيله ثم الصلاة عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ونحو ذلك من السنن والآداب والأحكام التي هي حكم الله ورسوله فكل ذلك من خصائص هذه الأمة في السنن والآداب، (وفي الأحكام التي حكم الله ورسوله بينهم كالأحكام في الدماء) وأن القاتل يقتل قصاصاً، إلا إذا سمح أولياء القتيل في الدماء (وكذلك ما شرعه الله في الأموال) وهو أن يكسبها من الوجوه المشروعة، وينفقها في الوجوه المشروعة، (وكذلك ما شرعه الله في الأبضاع) فشرع للناس الزواج الشرعي، وحث على حفظ الأعراض، وأنه ينبغي للإنسان أن يذب عن عرض أخيه فضلاً عن ألا يتكلم فيه لا بالغيبة ولا بالنميمة، وقوله: (والمنافع) يريد ما ينتفع فيه العباد من المآكل والمشارب وغيرها. وقوله: (والأبشار) يعني: ما يصيب بشرة الإنسان، وأن ليس لإنسان أن يعتدي على بشر، وله أن يقتص وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم، إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولاً إليهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]]. وذكر المصنف رحمه الله هنا: أن من خصائص هذه الأمة أن الله سبحانه وتعالى: حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من نعمة الله تعالى ومنته على عباده المؤمنين، كما حبب الإيمان إلى أتباع الأنبياء السابقين، كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8]. وعصم هذه الأمة، فمن خصائصها: أن الله تعالى عصمها من أن تجتمع على ضلالة كما ضلت الأمم من قبلها، ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). ولقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). وقد كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم، ويخرجهم من الضلال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. وأما هذه الأمة فإن نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء فليس بعده نبي، ولهذا عصم الله أمته من اجتماعهم على الضلالة، وكان إجماعهم حجة.

لا ضلالة فيما تجتمع عليه الأمة

لا ضلالة فيما تجتمع عليه الأمة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما مضت عليه جماعة المسلمين]. ومعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، وهذا بإجماع المسلمين، فمن قال: إن بعده نبي فهو كافر بالله. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين عصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، وهذا من فضل الله وإحسانه، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، رواه أبو داود بسند لا بأس به. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). بل لابد أن يوجد في هذه الأمة من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة؛ لأنها لا تجتمع على ضلالة، كما كان الكتاب والسنة حجة، فالقرآن حجة، والسنة حجة، والإجماع حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة وأهل السنة والجماعة يعني: تميز أهل الحق وأهل السنة والجماعة عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما مضت عليه جماعة المسلمين، تميزوا وانحرفوا عن الحق وأهله، وأهل الحق هم أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المنصورة فقد امتازوا عن الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما مضت عليه جماعة المسلمين، أي: أن هذه الطائفة التي تزعم أنها تتبع الكتاب العزيز ولكن تعرض عن السنة طائفة ضالة منحرفة، ويسمون أنفسهم: القرآنيين، ويزعمون أنهم يعملون بالقرآن، ولا يعملون بالسنة، وهذا من أبطل الباطل، فإن كانوا صادقين في عملهم بالقرآن فإن الله أمرهم باتباع السنة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132]. وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فأهل الحق أهل السنة والجماعة امتازوا عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يقتصرون على العمل بالكتاب ويعرضون عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعما مضت عليه جماعة المسلمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن الله في كتابه أمر باتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم سبيله وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]]. فوضح أن الله تعالى أمر في كتابه باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولزوم سبيله وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فهذا أمر صريح بطاعة الرسول وأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يأمر إلا بما فيه طاعة لله، ولهذا قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وهذه الآية تسمى: آية النحلة عند العلماء؛ لأنه ادعى قوم أنهم يحبون الله فامتحنهم بهذه الآية، فجعل علامة حب الله: اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن كان متبعاً للرسول كان علامة على إيمانه، ومن لم يكن متبعاً للرسول كان علامة على زيغه وضلاله. وكذلك قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وهذه الآية فيها نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في النزاع، بل لابد أن يحكم ثم لا يجد في نفسه حرجاً ويسلم تسليماً، أي: يطمئن طمأنينة كاملة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]]. وحبل الله هو دينه، وما جاءكم من الشرع، فمعنى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103] أي: اتفقوا ولا تتفرقوا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]]. هذه الآية فيها ذم لأهل الاختلاف، والآية الأولى فيها الأمر بالاعتصام والنهي عن الاختلاف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]]. وهذه الآية فيها أمر بإخلاص العبادة لله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]]. وهذا واضح في أن الله تعالى أمر الخلق جميعاً أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ومخلصين له الدين أي: مخلصين له العبادة، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]. والدين له معاني: فيأتي بمعنى العبادة كما في هذه الآية. ويأتي بمعنى الجزاء والحساب، مثل قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:17 - 18]. وقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، والدين هو: ما جاء به كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في أم الكتاب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)]. ذكر المصنف رحمه الله هنا قوله سبحانه وتعالى في أم الكتاب التي هي الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وهذا دعاء وسؤال لله أن يهديك الصراط المستقيم، وصراط المنعم عليهم، غير طريق المغضوب عليهم، وغير طريق الضالين، وهذا أنفع دعاء وأجمع الدعاء، وحاجة العبد إلى هذا الدعاء أكثر من حاجته إلى الطعام، بل إلى نفسه التي بين جنبيه. و (المغضوب عليهم) هم اليهود كما قال المؤلف، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). وكذلك من فسد من هذه الأمة فإنه يكون شبيهاً لليهود، فإن كان من فسد من علماء هذه الأمة فيه شبه باليهود، وإن كان من عبادهم فيه شبه بالنصارى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأمر سبحانه في أم الكتاب التي لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، والتي لا تجزئ صلاة إلا بها، أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم: كاليهود، ولا الضالين: كالنصارى]. وهذا الدعاء أمر الله به في أم الكتاب التي هي الفاتحة التي لم تنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، فقد ثبت أنه لم ينزل في التوراة، وهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى، ولا في الإنجيل الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، ولا في الزبور وهو الكتاب الذي أنزله الله على داود، ولا في الفرقان وهو القرآن الذي أنزله على محمد، لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا الفرقان مثل الفاتحة، وهي سبع آيات، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، والتي لا تجوز صلاة إلا بها، فقد أمرنا في آخرها

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد: كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: (ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة). وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)]. والحديث كما ذكره المؤلف رحمه الله ثابت من وجوه متعددة رواها أهل السنن: وهي الكتب التي صنفت على الأبواب مثل: سنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، وسنن النسائي، والمسانيد: وهي الكتب التي ألفت على أسماء الصحابة، يذكر الصحابي ثم يذكر بعده ما له من الحديث، كالإمام أحمد، والبزار، وأبي عوانة وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)، فحدد أن الفرقة الناجية هي: الجماعة. وفي رواية: (من كان على مثل أنا عليه اليوم وأصحابي). فهم الجماعة وهم الذين كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الفرقة الناجية]. والفرق عداها متوعدة بالنار وهم مبتدعة، كغلاة القدرية الذين ينفون علم الله، فإنهم كفار يخرجون من الثنتين والسبعين فرقة، وكذلك الجهمية الذين يسلبون الله أسماءه وصفاته نص على كفرهم جمع من أهل العلم، وذكر ابن القيم أنه كفرهم خمسمائة عالم في شرح الكافية الشافية قال رحمه الله: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان فخمسون في عشرة أي: خمسمائة. واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني فالثنتان والسبعون فرقة هم من فرق المبتدعة، ولا يسلم إلا أهل السنة والجماعة.

الفرقة الناجية وسط في النحل كما أن ملة الإسلام وسط في الملل

الفرقة الناجية وسط في النحل كما أن ملة الإسلام وسط في الملل قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الفرقة الناجية -أهل السنة- وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى حيث {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]]. فالفرقة الناجية، وهم أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحق، وهم الطائفة المنصورة، وهم وسط في النحل أي: بين أهل البدع، فهم وسط بين الجبرية والقدرية، فالجبرية غلوا في نفي أفعال العباد حتى قالوا: إن العبد مجبور على أفعاله، وأفعاله هي أفعال الله. والقدرية: جفوا وفرطوا فقالوا: إن العباد لا يخلقون أفعالهم ولكن الله خلقها، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، ولم يخلقها الله فجفوا وفرطوا. أما أهل السنة فهم وسط، فلم يقولوا بقول هؤلاء، ولا بقول هؤلاء، فقالوا: إن الله تعالى خلق العبد وخلق قدرته وإرادته، والأفعال هي أفعال العباد تنسب إليهم فهي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، ومن العباد فعلاً وتسبباً وكسباً. كما أنهم وسط بين الخوارج والرافضة، فالرافضة غلوا حتى كفروا الصحابة وفسقوهم، وغلوا في أهل البيت حتى عبدوهم. والنواصب -وهم الخوارج- نصبوا العداوة لأهل البيت. وأهل السنة وسط بين مذهب الرافضة وبين مذهب النواصب، وهكذا فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، ولا جفوا كاليهود. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً، وقتلوا فريقاً]. وهذا تتمة قول المؤلف في بيان وسطية الإسلام بين الملل، وفحواه: أن أهل السنة وسط بين فرق المبتدعة، كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم، فهي وسط بين النصارى واليهود، فالنصارى غلوا، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:31]، وقالوا: إن عيسى رب وإله، واليهود جفوا كما ذكر، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، ولم يجفوا كما جفت اليهود، فإن اليهود كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، والقسط: العدل، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً، وقتلوا فريقاً، وهذا من جهلهم، ولفرط خبثهم قالوا: إن عيسى ابن زنا نعوذ بالله. أما النصارى فغلوا فيه وقالوا: إنه ابن الله، وغلوا في أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أرباباً من دون الله، فأهل الإسلام والدين الحق وسط هذه الأمة، فهم وسط بين النصارى، وبين اليهود، فلا يجفون كاليهود، ولا يغلون كالنصارى، وإنما يعظمون الأنبياء ويقولون: هم أنبياء أرسلهم الله لهداية الناس، لكن لا يعبدون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم، وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتخذوهم أرباباً كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]]. وهذا هو شأن المؤمنين، فهم آمنوا برسل الله، وعزروهم أي: عظموهم واحترموهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتخذوهم أرباباً، إن المسلمين حينما عظموا الأنبياء واحترموهم ووقروهم لم يصل بهم هذا التعظيم إلى عبادتهم من دون الله، فلا يعبدونهم ولا يتخذونهم أرباباً؛ لأن العبودية حق الله عز وجل وحده ثم استشهد بالآية كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه؛ لأن الرسل معصومون عصمهم الله من الشرك والخطأ فيما يبلغون عن الله، وعصمهم الله من الكبائر، أما الصغائر فإنها قد تقع منهم، ولهذا قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].

وسطية المؤمنين في المسيح بين شذوذ اليهود وغلو النصارى

وسطية المؤمنين في المسيح بين شذوذ اليهود وغلو النصارى قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك: أن المؤمنين توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقول النصارى، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه]. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهكذا حال الأمة الوسط، وهو حال مؤمني هذه الأمة، فقد توسطوا بين الأمم السابقة في المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويسمى المسيح؛ لأنه يمسح الأرض، وأما الدجال فيسمى مسيحاً؛ لأن عينه اليمنى ممسوحة كأنها عنبة طافية، فأهل الحق من هذه الأمة توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً حتى جعلوه ولد بغي كما زعمت اليهود، بل قالوا الحق: إن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم؛ لأن الله خلقه بكلمة ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء ويثبت كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]. وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91]]. أي: أن المؤمنين لم يحرموا على الله ما حرمه اليهود، حيث حرموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله حينما حولت القبلة: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]. إذ أنه لما حولت القبلة استنكروا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس للصلاة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم وجهه الله إلى الكعبة، وقد كان يقلب وجهه في السماء، ويحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91]، هذه حال اليهود الذين آمنوا بما أنزل الله عليهم فحسب وقالوا: يكفينا ما أنزل إلينا من التوراة، ويكفرون بما وراءه مما سواه، وهو الحق مصدقاً لما معهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)]. وفيه: بيان لطريق أهل الحق واعتقادهم، حيث لا يجوزون لأكابرهم وعلمائهم وعبادهم ولا لأحد أن يغير دين الله، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء كما تفعل النصارى؛ لأن النصارى حرفوا كتاب الله الذي أنزله الله على عيسى، وهو إنجيل واحد، فكثرت الأناجيل حتى بلغت أربعين إنجيلاً، كل هذا من وضع النصارى، فالنصارى جوزوا لأكابرهم وأحبارهم وعلمائهم أن يأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما ذكر الله عن ذلك بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، ولما نزلت هذه الآية في النصارى حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وكان قد أسلم عدي بن حاتم رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فقال: يا رسول الله! ما عبدوهم! وفي لفظ: (لسنا نعبدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أليسوا يحرمون ما أحل الله وتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم). فبين أن عبادتهم: طاعتهم في التحليل والتحريم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، {ِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، فأطاعوا كلما أمر الله به، وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]. وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيماً]. فهو سبحانه له الخلق فلا خالق غيره، وله الأمر فلا آمر غيره، فالخلق خلقه والأمر أمره سبحانه وتعالى، والمراد بالأمر: كلامه سبحانه وتعالى الذي أنزله إلى خلقه من الكتب المبينة للأوامر والنواهي، فالمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، بخلاف أهل الاشتراط فإنهم لا يجعلون الأمر لله، بل يشرعون لأنفسهم شرائع من عند أنفسهم، يقول المؤلف: فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، أي: كما لا يخلق إلا الله فلا يأمر إلا الله، بل يقولون: سمعنا وأطعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه أخبر أنهم قالوا: سمعنا وعصينا، أما أهل الإيمان فأطاعوا كلما أمر الله به وامتثلوه وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]. وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى، ولو كان عظيماً؛ إذ المخلوق مأمور مربوب مقهور مجبر ليس له أن يبدل أمر الله ولو كان عظيماً.

ضلال اليهود والنصارى في وصف الله تعالى

ضلال اليهود والنصارى في وصف الله تعالى

وصف اليهود لله تعالى بصفات المخلوق

وصف اليهود لله تعالى بصفات المخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك في صفات الله تعالى، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك]. إن اليهود -قبحهم الله- وصفوا الله بصفات المخلوق، فقد أخبر الله عنهم بأنهم وصفوا الله بأنه فقير، قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] قال الله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران:181]، وهذا تهديد ووعيد شديد. وكذلك أخبر الله عنهم أنهم قالوا: يد الله مغلولة، فرد الله عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. وقالوا أيضاً: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت؛ لأن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، والسبت ليس فيه خلق، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:38] وأولها الأحد وآخرها الجمعة، وأما السبت فليس فيه خلق، فقالت اليهود -قبحهم الله-: إن الله لما خلق الخلق في ستة أيام تعب واستراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، فأنزل الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: من تعب وإعياء. فهذه مقالات شنيعة لولا أن الله ذكرها في كتابه عنهم لما صدق المسلم أن أحداً يتجرأ ويقول هذا على الله، فكيف يتجرأ هؤلاء الكفرة ويقولون: إن الله فقير، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله تعب واستراح يوم السبت؟! وكون السبت ليس فيه خلق في ذلك حكمة بالغة، وما جاء في صحيح مسلم من أن الله خلق الخلق في سبعة أيام فهذا الحديث حصل فيه خطأ وإن كان في صحيح مسلم، فقد حصل خطأ في رفعه، فالحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، وكعب الأحبار من بني إسرائيل، أسلم وكان يحدث عن بني إسرائيل. فاليهود وصفوا الله بصفات المخلوق الناقصة، ومن ذلك: أنهم وصفوا أنفسهم بالغنى ووصفوا الله بالفقر، وقال الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، قبحهم الله، بل يده سحاء الليل والنهار، لا تنقص خزائنه، ولا يفنى ما عنده.

وصف النصارى المخلوق بصفات الخالق

وصف النصارى المخلوق بصفات الخالق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق، ويثيب ويعاقب]. يعني: أن النصارى -والعياذ بالله- وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب، فجعلوه إلهاً مع الله، وقالوا: إنه ابن الله، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة: الله وعيسى ومريم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فالنصارى رفعوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الإلهية والربوبية فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق، واليهود وصفوا الله بصفات المخلوق الناقصة فقالوا: إنه فقير، ويده مغلولة، وتعب واستراح يوم السبت.

وسطية المؤمنين في وصف الله تعالى بين اليهود والنصارى

وسطية المؤمنين في وصف الله تعالى بين اليهود والنصارى وأما المؤمنون أهل الحق فوسط بين النصارى الذين غلوا، وبين اليهود الذين جفوا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]]. لقد وفق الله المؤمنين وهداهم إلى الحق، فصاروا وسطاً بين ضلالين: ضلال اليهود وضلال النصارى، فاليهود جفوا ووصفوا الله بصفات المخلوق الناقصة، وقالوا: إن الله فقير، ويده مغلولة، واستراح يوم السبت. والنصارى غلوا ووصفوا المخلوق بصفة الخالق فقالوا: إن عيسى يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق، ويثيب ويعاقب. والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى وقالوا: ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه، كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. فهدى الله المؤمنين فلم يقولوا بقول اليهود الذين جفوا، ولم يقولوا بقول النصارى الذين غلوا، بل كان قولهم وسطاً على حسب ما جاء في الكتاب والسنة.

[4]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [4] إن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل الأخرى، وأهل السنة في هذه الملة وسط بين بقية الفرق، فهم في باب الأسماء والصفات وسط بين المعطلة والمشبهة، وفي باب القدر وسط بين القدرية والجبرية، وفي باب الوعد والوعيد وسط بين الوعيدية والمرجئة، وفي باب الصحابة وسط بين الرافضة والنواصب.

التحليل والتحريم عند أهل الكتاب، ووسطية الأمة المحمدية فيهما

التحليل والتحريم عند أهل الكتاب، ووسطية الأمة المحمدية فيهما قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب والكليتين، ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت. وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]، وهذا باب يطول وصفه]. المؤمنون في أمر الحلال والحرام وسط بين اليهود وبين النصارى، وكما أن المؤمنين وسط بين اليهود والنصارى في صفات الله، فهم كذلك وسط بين اليهود والنصارى في أمر الحلال والحرام. وذلك أن اليهود قد حرم الله تعالى عليهم أنواعاً من الطيبات، كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب، وهو شحم محيط بالكرش والأمعاء، ولا الكليتين، ولا الجدي في لبن أمه، وغير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، والسبب في ذلك ظلمهم، فلما ظلموا عاقبهم الله، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]، وكذلك شدد عليهم في أمر النجاسات، حتى إنهم كانوا لا يؤاكلون الحائض، ولا يجامعونها في البيوت، أي: لا يساكنونها ولا يجتمعون بها، فإذا حاضت المرأة جعلوها في مكان خاص، فلا يأكلون معها، ولا يشربون معها، ولا يجالسونها، ولا تتكلم مع أحد. وقد شدد عليهم في النجاسات حتى إن الماء لا يطهر النجاسة عندهم، بل لابد من قرضها بالمقراض. وأما النصارى فقد تساهلوا واستحلوا الخبائث واستحلوا جميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] ولهذا قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وأما المؤمنون فإنهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، كما نعتهم الله بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. فوصفهم الله بأنهم يتقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآيات الله، ويتبعون الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]. قوله: [وهذا باب يطول وصفه]. أي: هذه أمثلة، ولو أراد الإنسان أن يستطرد في الأمثلة لوجد أمثلة كثيرة، ولكن أكتفي بهذه الأمثلة ويقاس عليها بقية الأمثلة.

وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل]. أهل السنة والجماعة وسط في باب أسماء الله تعالى وآياته وصفاته: بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، والمعنى أن هذه الأمة كما أنها وسط بين أهل الملل فإن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق، حيث يقول الله سبحانه في وسطية الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة:143]. وذلك أن النصارى غلوا في المسيح عيسى ابن مريم وجعلوه إلهاً وجعلوه ابن الله، واليهود جفوا في عيسى وقالوا: إنه ولد بغي وولد زنا والعياذ بالله، وأهل الحق -وهم هذه الأمة- وسط بين ذلك، فاعتقدوا أنه عبد الله ورسوله ليس إلهاً ولا ابناً كما تقول النصارى، وليس ولد بغي كما تقول اليهود، وإنما هو عبد الله ورسوله، خلقه الله من أنثى بلا أب لتتم القسمة الرباعية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الناس بني آدم أربعة أقسام: قسم خلق بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم الذي خلقه الله من طين، وقسم خلق من ذكر بلا أنثى، وهي حواء التي خلقت من ضلع آدم، وقسم خلق من أنثى بلا ذكر، وهو عيسى، وقسم خلق من أنثى وذكر، وهم سائر الناس، فتمت القسمة الرباعية بخلق عيسى من أنثى بلا أب، ولله الحكمة البالغة. فكما أن هذه الأمة في الملل وسط فأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط؛ لأن هذه الأمة فرق متعددة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). فهذه الفرق كلها مبتدعة متوعدة بالنار إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق، وهم الفرقة الناجية. فأهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وأهل التعطيل هم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فالجهمية نفوا الأسماء والصفات عن الله عز وجل، فقالوا: ليس بسميع، ولا بصير، ولا عليم، ولا قدير، ولا يوصف بالعلم، ولا بالقدرة، ولا بالسمع، ولا بالبصر، وسلبوا عن الله تعالى جميع الأسماء والصفات، وعلى هذا يكون عدماً، فالشيء الذي ليس له صفات ليس له وجود في الواقع، ولهذا كفرهم الأئمة وكثير من أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، وقالوا: إن الجهمية كفار خارجون عن الثنتين والسبعين فرقة، وكفرهم خمسمائة عالم كما ذكر العلامة ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان والمعتزلة أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فقالوا: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، فمن العلماء من كفرهم ومن العلماء من بدعهم. والأشاعرة أثبتوا الأسماء وأثبتوا سبع صفات، وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة. فهؤلاء يسمون أهل التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته؛ وهذا هو الإلحاد في أسماء الله وآياته، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وسموا بأهل التعطيل؛ لأنهم الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه من الأسماء والصفات ويقولون: ليس بسميع ولا بصير ولا عليم، ولا يوصف بالسمع ولا بالبصر، حتى شبهوه بالعدم، وقد سبق أن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات، فيجعلونه عدماً لا وجود له كالموات الذي لا وجود له؛ لأن كل شيء موجود لابد من أن يوصف بصفات. فهؤلاء يقولون: ليس له طول ولا عرض ولا عمق، ولا لون ولا ثقل ولا خفة، وليس في السماء ولا في الأرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف. هكذا قالت الجهمية والعياذ بالله، ولهذا فإن أهل التعطيل يعبدون عدماً. فأهل السنة وسط بين أهل التعطيل وبين أهل التمثيل الذي يضربون لله الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فأهل التمثيل -وهم أهل التشبيه- وغلاتهم من الشيعة يثبتون الأسماء والصفات لله لكن يشبهونها بصفات المخلوقين، فيقول أحدهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، ورجل كرجلي، واستواء كاستوائي. فشبهوا الله بالمخلوقات، وقالوا: لا نعلم معنى هذه الصفات إلا كما هي عند المخلوق، فالله مثل المخلوقات عندهم، وهم في الحقيقة ما عبدوا الله، وإنما عبدوا صنماً ووثناً تخيلوه، ولهذا قال العلامة ابن القيم: من شبه الله العظيم بخلقه فهو كذاك المشرك النصراني ومراده أن من شبه الله بخلقه فهو مشابه للنصارى حينما عبدوا عيسى وجعلوه إلهاً، فالمشبه شابه النصارى في عبادتهم لعيسى من دون الله، وقال ابن القيم: لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان فالمشبه ما عبد الله وإنما عبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن. ولهذا قال السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً. وغالب المشبهة من غلاة الشيعة، كالبيانية الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان التميمي، والسالمية الذين ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم. ومن المشبهة هشام بن الحكم الرافضي، وقد قال بعضهم: إن الله على صفة الإنسان. فأهل التشبيه غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه، فأهل التعطيل معهم حق ومعهم باطل، وأهل التشبيه معهم حق ومعهم باطل، فأهل السنة أخذوا الحق الذي مع أهل التعطيل وأخذوا الحق الذي مع أهل التمثيل، ونفوا الباطل الذي عند هؤلاء وهؤلاء، فالحق الذي مع أهل التعطيل هو التنزيه، أي: تنزيه الله عن مشابهة المخلوق، لكن عندهم باطل وهو الزيادة في نفي هذا التشبيه حتى وصلوا إلى التعطيل. والحق الذي عند أهل التمثيل هو إثبات الصفات، لكن عندهم باطل وهو الغلو في هذا الإثبات حتى شبهوا الله بالمخلوقات. فأخذ أهل السنة والجماعة الحق الذي مع المشبهة وهو الإثبات، وأخذوا الحق الذي مع المعطلة وهو التنزيه، فخرج الحق لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. فأهل السنة وسط بين المشبهة الممثلة وبين المعطلة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله مبيناً مذهب أهل السنة: [فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يقولون: إن صفات الله معناها كذا أو إنه يشبه كذا، ولا يعطلون الصفات.

وسطية أهل السنة والجماعة في القدر بين القدرية والجبرية

وسطية أهل السنة والجماعة في القدر بين القدرية والجبرية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين لقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات]. كما أن أهل السنة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين المعطلة وبين الممثلة فهم أيضاً وسط في باب خلق الله وأمره بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وهؤلاء هم القدرية، فالقدرية يكذبون بقدرة الله الكاملة، ومشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء، فيقولون: إن الله لا يقدر على كل شيء؛ فهناك شيء لا يقدر عليه الله، وهو أفعال العباد. ولا يقولون بمشيئة الله الشاملة، فيقولون: إن الله شاء كل شيء إلا أفعال العباد فلم يشأها، وكذلك لا يقولون بعموم الخلق لله، فيقولون: إن الله خالق كل شيء إلا أفعال العباد فلم يخلقها، فهم يكذبون بقدرة الله، ولا يؤمنون بقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء، فلا يقولون: إن الله على كل شيء قدير، وإنما يقولون: إنه على ما يشاء قدير، ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل يقولون: هناك شيء ما شاءه الله. فهم يخالفون المسلمين، إذ المسلمون يقولون: الله على كل شيء قدير، والقدرية يقولون: لا، الله على ما يشاء قدير، والمسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والقدرية لا يقولون: ما شاء الله كان، بل يقولون: هناك شيء يكون ولا يشاؤه الله؛ ويقولون: إن أفعال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية لا تعلق لها بمشيئة الله وقدرته، ويقولون: لو قلنا: إن الله خلق المعصية وخلق الكفر وعذب عليها لصار ظالماً، والله عادل لا يجور. ويقولون: إن المعاصي ما شاءها الله، وإنما العباد هم الذين شاءوها وخلقوها وأوجدوها مستقلين. وكذلك الطاعات والإيمان ما خلقها الله عندهم، بل الإنسان هو الذي خلقها، وبنوا على هذا أنه يجب على الله أن يثيب المطيع، ويجب على الله أن يعاقب العاصي، وليس له أن يعفو عنه، ويوجبون ذلك على الله؛ لأن العبد هو الذي كسب الطاعة فيجب على الله أن يثيبه، وهو يستحق على الله الثواب والأجر كما يستحق الأجير أجرته. وأما العاصي فيجب على الله أن يعذبه وليس له أن يعفو عنه، ولا أن يغفر له؛ لأن الله توعده، والله لا يخلف الميعاد. فرد عليهم أهل السنة وقالوا: أنتم فررتم من القول بأنه خلق المعاصي وعذب عليها، لكن وقعتم في شر منه، وهو أنه يقع -عندكم- في ملك الله ما لا يريد، فالله لا يريد المعاصي وتقع، فهل يقع في ملك الله ما لا يريد؟ وكذلك يلزم على مذهبكم أن مشيئة العبد تغلب مشيئة الله؛ لأن الله يشاء الطاعة من العبد والعبد يشاء المعصية فتقع مشيئة العبد ولا تقع مشيئة الله، فتغلب مشيئة العبد مشيئة الله، وهذا من أعظم الفساد. ويلزم كذلك على مذهبكم أن يكون في هذا الوجود شيء لم يخلقه الله، وهو أفعال العباد. فهذه كلها محاذير لا تستطيعون أن تنفكوا عنها. فأما القول بأن الله خلق المعاصي فهذا ليس فيه إشكال؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما خلق المعاصي والكفر لحكمة بالغة، والذي ينسب إلى الله إنما هو الخلق والإيجاد، وهو مبني على الحكمة، فلا تكون شراً بالنسبة إلى الله؛ وإنما تكون شراً بالنسبة إلى العبد الذي باشر المعصية والكفر، حيث يضره ذلك ويسوؤه ويعاقب عليها. ومن الحكم في أن الله تعالى خلق المعاصي والكفر ظهور قدرة الله على خلق المتضادات، ومن الحكم أنه يترتب على خلق المعاصي والكفر عبوديات متنوعة، فلولا خلق المعاصي ما وجدت عبودية الجهاد في سبيل الله، فلو لم يخلق الله تعالى الكفر والمعاصي فأين ستظهر عبودية الجهاد في سبيل الله؟! ومن سيجاهد؟! ولولا خلق المعاصي ما وجدت عبودية الدعوة إلى الله، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الحب في الله والبغض في الله، وعبودية التوبة وغيرها. فالله تعالى أراد خلقها لما يترتب عليها من الحكم فصارت بالنسبة إلى الله خيراً، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، فالشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، وليس في الوجود شر محض أبداً، وجميع الشرور الموجودة نسبية، فهي شرور بالنسبة إلى العبد، وأما بالنسبة إلى الله فهي خير ورحمة؛ لأنها مبنية على الحكمة. فالقدرية من أجهل الناس، ولهذا قالوا: إن الله تعالى ما خلق أفعال العباد ولا أرادها ولا شاءها. فأهل السنة وسط بين القدرية النفاة للقدر والجبرية الغلاة فيه، وهؤلاء الجبرية مفسدون لدين الله، لأنهم يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله وليس له مشيئة ولا قدرة ولا اختيار، فأفعاله كلها اضطرارية بمنزلة حركة المرتعش، وحركة النائم، وحركة الأشجار عند هبوب الريح، فيقولون: إن الأفعال هي أفعال الله، فالله هو المصلي، والصائم، والعباد وعاء للأفعال تمر عليهم مروراً، فالعباد كالكوز والله كصاب الماء فيه، فتُصَب فيهم الأفعال صباً وهي أفعال الله، والعباد مجبورون على أفعالهم. فهم على طرفي نقيض مع القدرية، فالقدرية يقولون: العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات ومعاصٍ، والله لا يقدر على خلقها، وهؤلاء قالوا: الأفعال أفعال الله كلها وليس للعبد اختيار ولا إرادة. وهذا من أبطل الباطل، إذ الإنسان يستطيع القيام والقعود والحركة بغير حركة المرتعش وحركة النائم. وكانت نتيجة هذا المذهب الفاسد أنهم أفسدوا دين الله، فعطلوا الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فعلى مذهب الجبرية يكون قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] لا فائدة فيه، وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] لا فائدة فيه، فيعذرون العبد ويقولون: من ترك الصلاة فهو معذور؛ لأنه مجبور، والزاني معذور. وعلى هذا تبطل الشرائع، وتبطل الأوامر والنواهي، وتكون الشرائع عبثاً، وتكون الأوامر والنواهي عبثاً، ويكون إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً تعالى الله عما يقولون. ومذهب الجبرية أفسد من مذهب القدرية وأقبح، فالقدرية وإن كانوا يقولون: إن الإنسان يخلق فعله إلا أنهم يعظمون الشرائع والأوامر والنواهي، وأما هؤلاء الجبرية فهم يبطلون الشرائع، ويقول المرء منهم: أنا إن عصيت أمره الديني الشرعي فقد وافقت أمره الكوني القدري. ويقول أحدهم معترضاً على الله ساباً له بأنه يكلف العبد وهو مجبور على أفعاله: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء يقولون: مثل الله حينما يأمر العبد بالأوامر والنواهي -وهو الذي يقدر عليه غير ذلك- كمثل شخص يأتي بإنسان موثق ويلقيه في البحر ويقول له: لا يصبك الماء!! فالرب حينما يكلف العباد وهم مجبورون على أفعالهم يصيرون بذلك بمنزلة المكتوف الملقى في البحر حين تطلب منه النجاة، تعالى الله عما يقولون. ويقولون: إن الثواب والعقاب ليس على الأعمال، والرب سبحانه وتعالى إنما ينعم أهل الجنة بمجرد المشيئة والقدرة من دون سبب ولا عمل، فالأعمال الصالحة ليست سبباً في دخول الجنة، والشرك -وكذلك المعاصي- ليس سبباً في دخول النار. ويقولون: إن المشيئة الإلهية تجمع بين المتفرقات وتفرق بين المتماثلات. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وهؤلاء رئيسهم الجهم بن صفوان، وقد اشتهر جهم بن صفون بأربع عقائد: العقيدة الأولى: عقيدة نفي الصفات، فقد أنكر الأسماء والصفات. والعقيدة الثانية: تزعمه للجبرية، فهو يقول: إن العبد مجبور على أفعاله. والعقيدة الثالثة: عقيدة المرجئة، فيقول: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وإن الإنسان إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن؛ ولو فعل جميع الكبائر والمنكرات ونواقض الإسلام، فلا تضره حتى يجهل ربه بقلبه. والعقيدة الرابعة: قوله: إن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة. فهذه عقائد أربع خبيثة اشتهر بها الجهم. فالجبرية يعطلون الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قال الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق فكانوا وسطاً بين القدرية وبين الجبرية، فلم يقولوا بقول الجبرية: إن العبد مجبور على أفعاله، وإنه ليس له قدرة ولا اختيار، بل قالوا: إن العبد له قدرة وله اختيار، ولكن الله سبحانه وتعالى خلق العبد وخلق قدرته وإرادته، وجعله مريداً مختاراً يفعل بقدرته واختياره ما يشاء، ولا يقولون: إن العباد خالقون لأفعالهم، بل يقولون: إن الله خلق العبد وخلق قدرته وإرادته واختياره، والعبد هو الذي يباشر الأعمال بكسبه واختياره وإرادته والله خلق العباد وخلق قدرتهم وإرادتهم، فهم مختارون، ويستطيع الإنسان أن يفعل ما يشاء ويتركه، فالأفعال هي من الله تقديراً وخلقاً وإيجاداً، ومن العباد فعلاً وتسبباً وكسباً ومباشرة. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير خلافاً للقدرية الذين لا يقولون: إن الله على كل شيء قدير، بل يقولون: على ما يشاء قدير، وأما الذي لا يشاؤه فلا يقدر عليه. ويؤمن أهل السنة بأن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]. وقال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذ

وسطية أهل السنة في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة

وسطية أهل السنة في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من الإيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته]. أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية والمرجئة، فكما أنهم وسط في باب الصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وفي باب خلق الله وأمره وسط بين القدرية وبين الجبرية، فهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية والمرجئة. والأسماء المراد بها هنا تسمية الإنسان كافراً أو مؤمناً أو فاسقاً. وأما الأحكام فالمراد بها الحكم على مرتكب المعاصي كالزنا، فهل يحكم عليه بأنه في النار أو في الجنة؟ والوعيدية هم الخوارج والمعتزلة، وسموا وعيدية لأنهم يقولون بوجوب إنفاذ الوعيد على الله، والخوارج والمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يبقى معه شيء من الإيمان، فإذا زنى المسلم كفر عند الخوارج، فيخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والعاق لوالديه يكفر عند الخوارج، ومن أكل الرشوة كفر، فكل من ارتكب كبيرة فهو كافر في الدنيا، وفي الآخرة مخلد في النار، فهذا مذهب الخوارج، وهو تكفير المسلمين بالمعاصي. وأما المعتزلة فقالوا: مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر. فالزاني عند المعتزلة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. وإذا كان كذلك فأين يكون؟ قالوا: يكون في منزلة بين المنزلتين: بين الإيمان وبين الكفر، فهو لا مؤمن ولا كافر. فاتفقت الطائفتان على أنه في الآخرة مخلد في النار، وأما في الدنيا فهم مختلفون، فالخوارج يقولون: خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، بل يكون في منزلة بين المنزلتين. والخوارج يقولون: نسميه كافراً، والمعتزلة يقولون: نسميه فاسقاً فهو لا مؤمن ولا كافر، فهذا هو مذهب الوعيدية. وقد أبطلوا النصوص التي فيها الشفاعة للعصاة وأنهم يخرجون من النار مع أنها متواترة، فأبطلوها كلها وأنكروها، وقد رد عليهم أهل السنة وبدعوهم وضللوهم؛ وبينوا أنه قد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يشفع لأهل الكبائر، وأنهم يخرجون من النار، وهؤلاء قالوا: لا توجد شفاعة، بل العاصي كالكافر مخلد في النار. وأبطلوا النصوص التي فيها أن العصاة يخرجون من النار. وقابلهم المرجئة فقالوا: إذا فعل الكبائر لا يتأثر إيمانه، بل هو مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وإيمان الفاسق السكير كإيمان أبي بكر وعمر عندهم سواء بسواء. والمرجئة طائفتان: الأولى: الغلاة، وهم الذين يقولون: إن الإيمان لا يتأثر بالمعاصي، فالمؤمن كامل الإيمان، ولا تضره معصية حتى لو ارتكب جميع نواقض الإسلام، وما دام أنه قد عرف ربه بقلبه فهو مؤمن ولو فعل جميع نواقض الإسلام، ولو سب الله أو سب الرسول وقتل الأنبياء وهدم المساجد وفعل جميع المنكرات فلا يكفر، ولا يؤثر هذا في إيمانه حتى يجهل ربه بقلبه، وهو مؤمن كامل الإيمان في الدنيا، وفي الآخرة لا يعذب. هذا هو مذهب المرجئة الغلاة ورئيسهم الجهم بن صفوان. الطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء، وهم طائفة من أهل السنة، وهم أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة، يقولون: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، والناس يتساوون في الإيمان، والتفاضل بينهم إنما هو في الأعمال. فعندهم أن الناس يتساوون في الإيمان، لكن الأعمال مطلوبة، ولا يقولون كالمرجئة، بل يقولون: الأعمال مطلوبة، والعاصي يستحق الوعيد ويقام عليه الحد، وهو متوعد في الآخرة بالنار. فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وتفاضل الناس في الأعمال لا في الإيمان. فهؤلاء يسمون مرجئة الفقهاء. وأهل السنة وسط بين المرجئة وبين الوعيدية، فلا يقولون بقول الخوارج: إن العاصي يكفر ويخلد في النار، ولا يقولون بقول المرجئة: إن المؤمن لا تضره المعصية. بل يقولون: إن العاصي ضعيف الإيمان، ولكنه لا يخرج من الإيمان، ولا يكفر بمعصيته إلا إذا مات على الكفر. فالزاني ضعيف الإيمان، والمرابي ضعيف الإيمان، لكن إذا دخلا النار فإنهما لا يخلدان ما دام أن معهما شيئاً من الإيمان، ولا يخلد في النار إلا الكفرة، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. فهم يقولون: إن الزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه وقاطع الرحم ضعيفو الإيمان، فلا يحكمون لهم بالإيمان مطلقاً ولا ينفونه عنهم مطلقاً، بل لابد عندهم من القيد في النفي والإثبات. ففي الإثبات يقول أهل السنة في العاصي: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان، أو فاسق بكبيرته إن كان ارتكب كبيرة، وفي النفي يقولون: ليس بصادق الإيمان، وليس بمؤمن حقاً، ولا تقل: ليس مؤمناً مطلقاً فتوافق الخوارج. وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة فقد يعفى عنه، وقد يعذب، وقد يشفع له فلا يدخل النار. وقد يدخل النار أهل الكبائر ولكن يعذبون على حسب ذنوبهم ويخرجون بشفاعة الشافعين، فنبينا صلى الله عليه وسلم يشفع، وسائر الأنبياء يشفعون، والملائكة تشفع، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فإذا خرجوا تكامل خروج عصاة الموحدين فتطبق النار على الكفرة بجميع أصنافهم، فلا يخرجون منها أبد الآباد. هذا هو معنى قول المصنف رحمه الله: [وهم -أي: أهل السنة والجماعة- في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية -أي: الخوارج والمعتزلة- الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة]. فهم وسط بين الوعيدية وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، ولا يوجد تفاضل بينهم. وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الفساق معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الكامل الذي يستحقون به الجنة، بل يستحق الفاسق دخول النار إذا مات على البدع، أو على السرقة، أو على الخمر من غير توبة، لكن قد يعفو الله عنه، وقد يعذبه ثم يخرج إلى الجنة، بخلاف المؤمن المطيع فإنه بإيمانه يستحق دخول الجنة ابتداء. وعندهم أن العصاة والفساق لا يخلدون في النار إذا دخلوا فيها خلافاً للخوارج والمعتزلة، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وهي الحبة الصغيرة. والمعاصي لا تقضي على الإيمان ولو كثرت، فلابد من أن يبقى شيء من الإيمان حتى ولو مات عاصياً، فلا يزول إيمانه إلا إذا وجد الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر. وأما إذا سلم الإنسان من الكفر الأكبر والشرك الأكبر والنفاق الأكبر فلا بد من أن يبقى معه شيء من الإيمان ولو كثرت المعاصي، حتى إنه يخرج من النار بمثقال حبة من إيمان، وبمثقال خردلة من إيمان. وقد ادخر النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته لأهل الكبائر من أمته، فأهل الكبائر يشفع لهم النبي أربع مرات، ويشفع لهم بقية الأنبياء، ويشفع لهم الملائكة، ويشفع لهم المؤمنون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته.

وسطية أهل السنة والجماعة في الصحابة بين الشيعة والنواصب

وسطية أهل السنة والجماعة في الصحابة بين الشيعة والنواصب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الذين يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكفروا، والأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحلون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته]. أهل السنة وسط في الصحابة بين الغلاة وبين الجفاة، والغلاة هم الشيعة والرافضة، والجفاة هم النواصب، وهم الخوارج، فأهل السنة وسط بينهما: وسط بين الغلاة الذين يغالون في علي كالرافضة، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون: علي أفضل من أبي بكر وعمر، ويقولون: إنه الإمام المعصوم. ويقولون: إن الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا وظلموا وفسقوا وارتدوا وأخفوا النصوص التي تدل على أن الخليفة بعده هو علي، فولوا أبا بكر الخلافة زوراً وظلماً وبهتاناً، ثم ولوا عمر الخلافة زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم ولوا عثمان الخلافة زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الأول وهو الإمام المعصوم علي. ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اثني عشر إماماً بعده؛ ولهذا يسمون الإثني عشرية؛ فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة بعده هو علي رضي الله عنه، ثم الخليفة الثاني الحسن بن علي ابنه، ثم الخليفة الثالث الحسين بن علي، ثم الخليفة الرابع علي بن الحسين زيد العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء في العراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج منه إلى الآن. وقد مضى عليه إلى الآن قرابة ألف ومائتي سنة، وهو شخص موهوم لا حقيقة له؛ لأن أباه الحسن بن علي العسكري مات عقيماً ولم يولد له، فاختلقوا له ولداً وأدخلوه السرداب وهو ابن سنتين أو ثلاث أو خمس سنين. وهم في كل سنة يأتون إلى باب السرداب ويأتون بدابة، ويشترون السلاح وينادون بأعلى صوتهم: يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في زمانه في القرن السابع الهجري: إنه يوجد منهم - أي: الرافضة - أقوام في مناطق بعيدة على المشهد في العراق، وفي أماكن في المدينة وغيرها يقفون أوقات الصلوات في أوقات عينوها لا يصلون، وإذا قيل لهم: لماذا لا تصلون؟ قالوا: نخشى أن يخرج المهدي ونحن في الصلاة فننشغل عنه. وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الرابع، والحسن بن علي تولى الخلافة ستة أشهر ثم تنازل لـ معاوية، وأما الحسين فقد غدر به أهل العراق فقتلوه. وهؤلاء الشيعة يقولون: من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وإمام هذا الزمان عندهم هو المهدي المنتظر الذي دخل السرداب، وهم اليوم لا يعرفون إمامهم، فيكونون قد حكموا على أنفسهم بالكفر. فهؤلاء غلاة يغالون في علي فيفضلونه على أبي بكر وعمر، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وربما جعلوه نبياً، فبعضهم يجعل علياً هو النبي، وهؤلاء مخطئون؛ وهم طائفة من غلاة الشيعة قالوا: إن الله أرسل جبريل بالرسالة إلى علي، ولكنه خان فأوصلها إلى محمد، فخالف أمر الله وأعطى الرسالة لمحمد، وهذا كفر بإجماع المسلمين، ومن اعتقد هذا الاعتقاد فهو كافر، وكذلك من اعتقد أن الصحابة كفروا وظلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد؛ لأن الله زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، وهذا تكذيب لله، وتكذيب الله كفر، ومن قال: إن القرآن غير محفوظ فهو مكذب لله تعالى في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وكذلك من يعبد أهل البيت ويتوسل بهم فهو كافر مشرك. وبعضهم يقول: علي هو الإله، وإن الله حل في علي. وهم النصيرية. فالشيعة طوائف، فالنصيرية يقولون: إن الله حل في علي وإن علياً سيرجع، والمخطئة يقولون بخيانة جبريل، والغلاة منهم يعبدون آل البيت، ويكفرون الصحابة، ويقولون بتحريف القرآن وعدم حفظه. وأهل السنة وسط بين الرافضة الشيعة وبين الجافية وهم النواصب الخوارج الذين نصبوا العداوة لآل البيت، وكفروا علياً، وقالوا: علي كافر، وعثمان كافر، وقالوا: دم علي حلال، ودم عثمان حلال؛ لأنهما كفرا، فـ عثمان كفر؛ لأنه خان، وعلي كفر؛ لأنه حكم الرجال في كتاب الله. وكذلك من تولاهما يستحلون دمه، ويستحلون سب علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما، أي: يرون أن سب علي وعثمان حلال، ويقدحون في خلافة علي وإمامته. فأهل السنة لا يقولون بقول الرافضة الذين يسبون الصحابة ويكفرونهم ويؤلهون علياً أو يجعلونه نبياً، ولا يقولون بقول النواصب الذين يكفرون علياً وعثمان ومن شايعهما ويستحلون سبهما، بل يترضون عن الصحابة كلهم ويترحمون عليهم ويعتقدون فضلهم وسابقتهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، وأنه لا أحد مثلهم، ويعتقدون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة، ثم بقية العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فلا يسبون الصحابة ولا يكفرونهم، بل ينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب، ويعتقدون عدم العصمة لأحد منهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك في سائر الأبواب فأهل السنة هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان]. أي: أن أهل السنة وسط في سائر الأبواب؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فمذهبهم هو الحق، وهم أهل الحق، والحق وسط بين ضلالين.

[5]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [5] لقد وجد في تاريخ الإسلام رجال قاموا به خير القيام، وكان لهم من الصيت والثناء الحسن الشيء الكثير، وكان لهم من الأتباع الكثير، ومع ذلك فهم قد يصيبون وقد يخطئون، وقد يعلمون وقد يجهلون، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وما كان لهؤلاء من الثناء الحسن والقبول عند الناس إنما هو بسبب تمسكهم بالسنة، وتقديمها على كل شيء.

ثناء شيخ الإسلام على عدي بن مسافر وجماعته

ثناء شيخ الإسلام على عدي بن مسافر وجماعته قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وأنتم -أصلحكم الله- قد من الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلي به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب، والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد ديناً سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة، مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته وقضائه وقدره أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك؛ فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين، ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين، وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين]. المؤلف رحمه الله يخاطب أبا البركات عدي بن مسافر الأموي وأتباعه، ويبين لهم أنهم على خير وأن فيهم خيراً عظيماً، وأنهم بريئون من كثير من البدع، فالمؤلف رحمه الله يشجعهم ويحثهم على الالتزام بالسنة والاعتصام بها والبعد عن أهل البدع، ويثني عليهم بما فيهم من الخير والصلاح، فيقول: [وأنتم -يعني: عدي بن مسافر وأتباعه- أصلحكم الله قد من الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله]. يعني: أن عدي بن مسافر ومن معه من الله عليهم بالإسلام، والإسلام هو دين الله، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. قال: [وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب]. أي: أن الله عافاكم من الكفر الذي عليه المشركون وأهل الكتاب: اليهود والنصارى. يقول: [والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد ديناً سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]]. وسبق أن دين الأنبياء هو الإسلام، والإسلام هو دين الله في الأرض وفي السماء، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه، وهو توحيد الله، وإخلاص العبادة له، واتباع كل نبي في الشريعة التي جاء بها، فالإسلام في زمن آدم عليه السلام هو توحيد الله واتباع آدم في ما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله والعمل بالشريعة التي جاء بها، والإسلام في زمن هود هو توحيد الله والعمل بالشريعة التي جاء بها، وهكذا في زمن إبراهيم وموسى وعيسى حتى ختمهم الله بنينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله والعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة الكاملة. فهو يخاطب عدي بن مسافر وأصحابه ويذكرهم بنعمة الإسلام، فيقول: لقد من الله عليكم بالإسلام وسلمكم من الكفر، ومن الله عليكم بلزوم السنة، وعافاكم من كثير من البدع المضلة، مثل بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، كتكفير الروافض الصحابة، وعبادتهم آل البيت، وقولهم بأن القرآن غير محفوظ، وإنكار الجهمية الأسماء والصفات، وتكفير الخوارج المسلمين بالمعاصي. ثم يخاطبهم بقوله: [وأنتم سلمكم الله من هذه الفتن بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته وقضائه وقدره، أو بسب أصحاب رسول الله، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك]. والمعنى: هذه نعمة عظيمة من الله بها عليكم حيث إنكم تبغضون من كذب بأسماء الله وصفاته، وقضائه وقدره، وتبغضون من سب الصحابة، وهذا من تمام الإيمان وكمال الدين. يقول: [ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين، وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين]. وطائفة عدي بن مسافر طائفة فيها خير كثير، وكأنه يؤخذ من كلام المؤلف اتصافهم بقليل من الخطأ، إلا أن حالهم مستقيمة، وهم على خير، ويكرهون أهل البدع، ويلتزمون بالسنة في كثير من أمورهم. ثم يقول ابن تيمية لهم: [وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية وله المكاشفات والتصرفات]. فـ عدي بن مسافر وأصحابه فيهم زهد، لكنه زهد ليس كزهد الصوفية، بل زهد مع الإستقامة، وأحوالهم الزكية معناها: الطاهرة الزكية بلزوم الكتاب والسنة؛ أي: التي يرضاها الله ورسوله. وقوله: [وله المكاشفات والتصرفات] أي: كشف الله له من العلم والبصيرة، ورزقه التصرفات الموافقة للشرع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشايخ الذين كانوا فيكم مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري، وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم]. أي: أن الشيخ عدي بن مسافر وجماعة فيهم أولياء لله يتقون الله ويخشونه، فهم مؤمنون متقون يؤدون الواجبات ويبتعدون عن المحرمات، وفيهم من له لسان صدق في العالمين، أي: أثنى عليهم عباد الله؛ لصلاحهم وتقواهم، فقد كانوا يعظمون السنة؛ فلذلك عظم الله أقدارهم، ورفع منازلهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والشيخ عدي قدس الله روحه كان من أفاضل عباد الله الصالحين، وأكابر المشائخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية، والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك، وله في الأمة صيت مشهور، ولسان صدق مذكور. وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما]. هذا ثناء من المؤلف على عدي بن مسافر وأنه من أهل الصلاح والتقوى، وأن له أحوالاً زكية، ومناقب علية، وأن له ذكراً وصيتاً مشهوراً، فقد رفع الله قدره، وعقيدته السليمة لم يخرج فيها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة، والدعاء إليها، والحرص على نشرها، ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد، ما يعرفه أهل البصيرة]. هذا فيه بيان من المؤلف رحمه الله أن هؤلاء المشايخ مثل عدي بن مسافر وأبي الفرج بن عبد الواحد وشيخ الإسلام الهكاري وغيرهم في أصول الدين الكبار لم يخرجوا عن أصول السنة والجماعة. وغالب ما يقولونه في الأصول الكبار جيد، أي: موافق لأصول أهل السنة والجماعة، لكن قد يوجد في كلامهم بعض المسائل المرجوحة، أي: قد يختارون بعض الأقوال المرجوحة، وقد يستدلون ببعض الأحاديث الضعيفة كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد، وهذه ملحوظات يسيرة يمكن معالجتها، لكن هم في الجملة من أهل السنة والجماعة، ويعظمون السنة، وأما كونه يختار بعضهم الأقوال الضعيفة أو الاستدلال ببعض الأحاديث التي لا تثبت، فهذا غلط إذا ردوه عليه ونبهوه فإنه يتقبل ذلك.

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، لاسيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة والفقه فيهما، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها، وناتج المقاييس وعقيمها مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق]. هذا من إنصاف المصنف رحمه الله، فقد أثنى عليهم وبين ما هم عليه من الدين والفضل والصلاح، ونقدهم في بيان أخطائهم، فيقول: إنه لا يضر أن يكون الإنسان عليه بعض الأخطاء وبعض الملحوظات اليسيرة إذا كان من أهل السنة والجماعة؛ لأنه ليس بمعصوم، ولا يفسق، لكن هذه الأخطاء تميز وتوضح، فكل أحد يغلط ولا يوجد أحد لا يغلط إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم، فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المقالة معناها للإمام مالك رحمه الله، ثم ذكر أن الأخطاء تحصل من كل أحد ولاسيما المتأخرون؛ بسبب بعدهم عن آثار النبوة والرسالة، وبسبب كونهم لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، ولم يميزوا بين الصحيح والسقيم من الأحاديث، وينظم إلى ذلك غلبة الأهواء وكثرة الآراء، والاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق؛ فلذلك يحصل منهم بعض الأخطاء، فتبين لأصحابها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]]. أي: أن هذه الأسباب توجب للإنسان الجهل والظلم في بعض الأحيان، وقد نعت الله بهما الإنسان في قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

المخرج من الضلال يكون بالعلم والعدل

المخرج من الضلال يكون بالعلم والعدل قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا من الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال وقد قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]]. أي: أن العلم والعدل ينقذ الله بهما العبد من الضلال، وقد أقسم الله سبحانه في سورة قصيرة أن جنس الإنسان في خسار وهلاك إلا من آمن، وعمل الصالحات، وأوصى إخوانه بالحق والدعوة إلى الله، وأوصى غيره بالصبر. قال الشافعي في هذه السورة: لوما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]]. أخبر الله أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فالإمامة في الدين تنال بشيئين وهما: الصبر واليقين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

وجوب اتباع السنة في كل شيء

وجوب اتباع السنة في كل شيء قال المصنف رحمه الله: [وأنتم تعلمون أصلحكم الله أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها هي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان. وذلك في دواوين الإسلام المعروفة مثل صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن: مثل سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي وموطأ الإمام مالك، ومثل المسانيد المعروفة كمثل مسند الإمام أحمد وغيره. ويوجد في كتب التفاسير والمغازي وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض، وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به حتى حفظ الله الدين على أهله]. لا زال المؤلف رحمه الله يخاطب عدي بن مسافر وجماعته فيقول: أنتم أصلحكم الله تعلمون أن السنة التي يجب اتباعها ويحمد أهلها ويذم من خالفها هي سنة الرسول، وهي عامة في كل شيء في أمور الاعتقادات وفي أمور العبادات وسائر أمور الديانات، وهذا حث منه رحمه الله بأن يلزموا السنة في الاعتقاد وفي العبادة وفي الديانة. وهذا إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، ثم معرفة ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان، وهذا موجود في دواوين الإسلام المعروفة مثل: الكتب الستة صحيح البخاري ومسلم وكتب السنن سنن أبي داود والنسائي والترمذي وسنن ابن ماجه وموطأ الإمام مالك. والمسانيد المعروفة مثل: مسند الإمام أحمد وهو من أعظم المسانيد، وغيره من المسانيد وكذلك في كتب التفسير مثل: تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير وغيرهما. وكتب المغازي مثل: السيرة لـ ابن هشام ومغازي ابن إسحاق وسائر كتب الحديث، جملها وأجزاؤها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض. وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به حتى حفظ الله الدين على أهله: وهم أهل السنة والجماعة أهل الحديث، فقد حفظ الله بهم الدين على أهله.

جمع السلف للأحاديث والآثار المروية في عقائد أهل السنة

جمع السلف للأحاديث والآثار المروية في عقائد أهل السنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة مثل: حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في طبقتهم، ومثلها ما بوب عليه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في كتبهم. ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي بكر الآجري، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي بكر البيهقي وأبي ذر الهروي. وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة]. يعني: أن السنة قد حفظت والحمد لله، فقد جمعها العلماء ودونوها، فحفظ الله بهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ الله بهم الدين، وقد جمع طائفة من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة والجماعة، وألفوا المؤلفات ومن هؤلاء الأئمة الذين جمعوا الأحاديث والآثار: حماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي، والبخاري، وقد بوب في صحيحه أبواباً وتراجم أظهر فيها فقهه العظيم الذي حير العلماء، فصحيح البخاري هو من أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وامتاز بتراجمه الفقهية العظيمة التي حير العلماء حتى قال بعض العلماء: إن فقه البخاري في تراجمه. وكذلك أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وكذلك المصنفات الأخرى مثل مصنفات أبي بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد وغيرهم. ومن إنصاف المؤلف رحمه الله أنه قال: وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة، فقد يقع فيها أحاديث ضعيفة، ولهم عذر في هذا، فقد ذكروا الأسانيد، وأرادوا أن يجمعوا ما يوجد في هذا الباب، وقد يوجد لهذه الأحاديث الضعيفة ما يشهد لها من المتابعات والشواهد.

أقسام الأحاديث الموضوعة والمكذوبة

أقسام الأحاديث الموضوعة والمكذوبة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد يروي كثير من الناس في الصفات وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قسمان: منها ما يكون كلاماً باطلاً لا يجوز أن يقال فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقاً أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهباً لقائله، فيعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث. مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين وجعل لها إسناداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى]. يقول المؤلف رحمه الله: إن بعض الناس قد يروي في الصفات وفي غير الصفات من سائر أبواب الاعتقادات أحاديث مكذوبة موضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس قد يكذب عليه في الصفات، وبعضهم قد يكذب عليه في أبواب الاعتقاد، وبعضهم قد يكذب عليه في العبادات وغير ذلك. وهذه الأحاديث التي تروى وتنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مكذوبة عليه قسمان: القسم الأول: ما يكون باطلاً لا يجوز أن يقال فضلاً عن أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوضوح كذبه وظهوره، وهذا مثل الحديث الذي وضعه بعض الرافضة فقالوا: (أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه، وفاطمة علاقه، والحسن والحسين خيوطه)، فهذه أشياء واضحة وظاهرة الكذب، فبعضها قد يكون فيه خفاء، وبعضها يكون واضحاً لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقال فضلاً عن أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون هذا الحديث الذي ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً لبعض السلف، أو كلاماً لبعض العلماء، مثل قول بعض الناس: (حب الوطن من الإيمان) وينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله كلام لبعضهم، أو أن يكون حكمة، مثل: (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء)، فبعض الناس يقول: إن هذا حديث وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حكمة لطبيب العرب الحارث بن كلدة. فبعضه يكون مقالة لبعض السلف، وبعضه قولاً لبعض العلماء، وقد يكون مذهباً لبعض الناس فينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك: المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وقد جعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين وجعلوا لها إسناداً ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المسائل لم نرها في زماننا فكأن المؤلف رحمه الله وجدها في زمانه، فيحتمل أنها موجودة الآن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقاً لأصول السنة ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده، فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي؛ لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم هل تسمى نعمة أم لا؟ وفيها أيضاً أشياء مرجوحة. فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموماً ولمن يدعي السنة خصوصاً]. المسائل التي نسبت إلى الشيخ الأنصاري كثيرة منها ما هو موافق لأصول أهل السنة، وإذا خالفها الإنسان لم يحكم عليه بأنه مبتدع؛ لأن المسألة وإن كان بعضها موافقاً لأصول أهل السنة إلا أن فيها ما يخالف، فلذلك إذا خالفها الإنسان لا يحكم عليه بأنه مبتدع، وذلك مثل أول نعمة أنعم الله بها على عبده ما هي، وهذا مبني على أن اللذة التي يعقبها ألم هل تسمى نعمة أم لا؟ فالواجب على المسلم أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث المكذوب، فإن السنة هي الحق، وهي الأحاديث الصحيحة، والباطل هو الأحاديث الموضوعة، فهذا أصل الإسلام عموماً، ولمن يدعي السنة خصوصاً.

[6]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [6] إن دين الله تعالى وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط وإما تفريط، وممن وقعوا في الإفراط ومجاوزة الحد: الخوارج، فقد كفروا المسلمين بالكبائر والمعاصي، ومرقوا من هذا الدين كما يمرق السهم من الرمية، وللمروق من الدين أسباب تجدها مشروحة في هذه المادة.

وسطية الإسلام والتحذير من الغلو فيه

وسطية الإسلام والتحذير من الغلو فيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه وإما تفريط فيه، وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وغير هؤلاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم أو فقاتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (شر قتلة تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه)، وفي رواية: (لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل)]. هذا البحث بين فيه المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن دين الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط، ولهذا قال رحمه الله: وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والغالي هو الذي زاد عن الحد، وهو المُفْرِط. والجافي: هو المقصر الذي يقصر ولا يؤدي الواجبات. فالنصارى مثلاً غلاة، فقد غلو في عيسى فقالوا: إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، واليهود قصروا وجفوا وقالوا: إنه ولد بغي، أي: ولد زنا، وأما أهل الإسلام فهم وسط بين الغالي والجافي، فقالوا: إنه عبد الله ورسوله، فليس إلهاً ولا ابن إله؛ فإن الله ليس له ولد -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وليس هو ولد بغي كما يقول اليهود، وإنما هو عبد الله ورسوله. فتبين بهذا أن دين الإسلام وسط بين الغالي والجافي، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه وإما تفريط فيه، فالشيطان يحرص أن يوقع الإنسان إما في الإفراط أو في التفريط، وذلك مثل قصة الرهط الذين أرادوا أن يزيدوا على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادته في السر، فقيل لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء. فقال هؤلاء الرهط: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما نحن فلا ندري هل غفر لنا أو لا، فلابد أن نزيد، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أنام على فراشي، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، أي: زهداً حتى لا ينشغل عن العبادة، وقال آخر: وأما أنا فلا آكل اللحم. فهذا من الغلو، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهم أنكر عليهم، وخطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وشخص آخر يتساهل ويفرط، فلا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات، فهذا مفرِّط، والأول مُفْرِط، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر، وجاء في بعض الآثار: أن الشيطان يشم القلوب، فإن وجد في القلب رغبة في العبادة وقوة أوقعه في الإفراط والزيادة، وإن رأى فيه تساهلاً أوقعه في التفريط والتقصير.

تلبيس الشيطان على الخوارج

تلبيس الشيطان على الخوارج قوله رحمه الله: (وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه حتى أخرجه عن كثير من الشرائع) وجواب (إذا) الشرطية يحتمل أنه سيأتي، أو أنه مقدر، أي: إذا كان الإسلام الذي هو دين الله قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه فغيره من باب أولى أن يعترضهم الشيطان. فالشيطان قد اعترض كثيراً ممن ينتسب إليه حتى أخرجهم عن كثير من الشرائع، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية، وهم الخوارج، فالخوارج من أعبد الناس، فقد كانوا رهباناً في الليل وأسوداً في النهار، فيصلون الليل، ويصومون النهار، وهم شجعان في الجهاد، فأخرجهم الشيطان عن كثير من شرائع الإسلام فكفروا المسلمين بالمعاصي، وقالوا: من فعل الكبيرة كفر، فمن زنا كفر، ومن سرق كفر، ومن شرب الخمر كفر، فهذا من إخراج الشيطان لهم عن شرائع الإسلام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ لأنهم مارقون من الدين. والمارقون: هم الخارجون بسرعة، فهم يخرجون منه بسرعة، وقد قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فالسهم حينما ترمي به فإنه يخرج بسرعة من الرمية، فكذلك هؤلاء فإنهم خرجوا بسرعة من الإسلام، ففي الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وابن مسعود، وهؤلاء سبعة رضي الله عنهم وأرضاهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم) أي: أنك إذا رأيت كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم لرأيت عبادتك قليلة بالنسبة إلى عبادتهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)؛ لأنهم لا يعملون به، ولا يعملون بالسنة التي هي وحي من الله، ولو تدبروا القرآن وتأملوه ما كفروا المسلمين، ثم قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم)، أو قال: (أو فقاتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (شر قتيل تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوه). أي: أن مقتولهم شر قتيل، والذي يقتلونه هو خير قتيل، وفي رواية: (لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوي لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) أي: من الأجر والثواب، وما زوي أي: ما أخفي لهم، (لنكلوا عن العمل) أي: لاكتفوا بهذا الأجر.

اختلاف العلماء في حكم تكفير الخوارج

اختلاف العلماء في حكم تكفير الخوارج وهذه النصوص استدل بها بعض العلماء على تكفير الخوارج، وقالوا: إن هذه الأدلة صريحة في كفرهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)، والذي يمرق من الشيء فإنه يخرج منه، فدل ذلك على كفرهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم فقال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم)، ثم شبههم بعاد، فقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وعاد قوم هود قوم كفار، فدل على كفرهم. ومما احتجوا به أيضاً ما جاء في رواية: (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه). وذهب الجمهور إلى أنهم مبتدعة وليسوا كفاراً، وقالوا: إنهم متأولون، وفرق بين المتأول والجاحد، فالجاحد يكفر والمتأول لا يكفر، وهذه النصوص تدل على فسقهم وبدعتهم ولا تدل على كفرهم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن هذا هو حكم الصحابة عليهم، فالصحابة حكموا عليهم بأنهم مبتدعة ولم يحكموا عليهم بالكفر. واحتجوا بقول علي رضي الله عنه لما سئل عنهم: أكفار هم؟ قال: لا، من الكفر فروا. والقول بتكفيرهم قول قوي؛ لأن النصوص صريحة بتكفيرهم، وإن كان الجمهور يرون أنهم مبتدعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام]. أي: أن هؤلاء الخوارج لما خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه قاتلهم هو والصحابة رضي الله عنهم؛ عملاً بالنصوص التي فيها الحض على قتالهم، كما سبق في الأدلة: (فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله) وقوله: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فاتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام.

بدعة الرفض وحكم العلماء فيها

بدعة الرفض وحكم العلماء فيها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهكذا كل من فارق جماعة المسلمين، وخرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته من أهل الأهواء المضلة والبدع المخالفة. ولهذا قاتل المسلمون أيضاً الرافضة الذين هم شر من هؤلاء، وهم الذين يكفرون جماهير المسلمين مثل الخلفاء الثلاثة وغيرهم، ويزعمون أنهم هم المؤمنون ومن سواهم كافر، ويكفرون من يقول: إن الله يرى في الآخرة، أو يؤمن بصفات الله وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم التي هم عليها]. أي: أن كل من خرج عن جماعة المسلمين، وخرج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته من أهل الأهواء والمضلين فإنه يقاتل أيضاً مثل الخوارج. ومثل المؤلف رحمه الله بقوله: ولهذا قاتل المسلمون أيضاً الرافضة الذين هم شر من هؤلاء، فالمؤلف يرى أن الرافضة شر من الخوارج، وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما سألوه عن أبي بكر وعمر، وكانوا قبل ذلك يسمون بالخشبية؛ لأنهم يقاتلون بالخشب ولا يقاتلون بالسيف حتى يخرج المهدي الذي دخل في السرداب. ويقولون: ليس هناك جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي الذي دخل في سرداب سامراء في العراق في سنة ستين ومائتين، فإذا خرج قام الجهاد، وأما الآن فليس هناك جهاد، ولا دين، ولا عمل بالشريعة حتى يخرج. وفي زمن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -وهو رجل صالح- سأله الرافضة الخشبية وقالوا: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فترحهم عليهما وترضى عنهما وقال: هما وزيرا جدي رسول الله؛ لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من سلالة فاطمة، وجده الرابع هو علي بن أبي طالب، فلما قال لهم ذلك تركوه ورفضوه، وقال: رفضتموني رفضتموني، فسموا الرافضة، وكانوا قبل ذلك يسمون بالخشبية، فهؤلاء الرافضة يقول عنهم المؤلف: هم شر من الخوارج، ولهذا قاتلهم المسلمون كما قاتل المسلمون الخوارج. وأول ظهورهم في زمن علي رضي الله عنه، فهم السبئية الذين غلو في علي، وقالوا: إنك أنت الإله يقصدون علياً، فلما قالوا: أنت الإله أمر بأخدود يحفر في الأرض، وأججت فيه النيران، فألقاهم وقذفهم فيها، وقال: لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا فلما قذفهم في النار قالوا: هذا هو الإله؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار! فزادوا في غلوهم في علي نعوذ بالله، وقاتلهم المسلمون بعد ذلك في أزمنة متعددة، منها: في القرن الثالث الهجري في أيام العبيديين لما استولوا على مصر والمغرب وغيرها. وقد بين المؤلف رحمه الله مذهب الرافضة فقال: وهم الذين يكفرون جماهير المسلمين، فيكفرون الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة وغيرهم. فهم يكفرون الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، ويعتقدون أنهم ظلمة مغتصبون اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب، ويعتقدون أن الصحابة كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدوا، فولوا أبا بكر زوراً وبهتاناً وظلماً، وأخفوا النصوص التي فيها النص على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي، ثم ولوا عمر بهتاناً وزوراً، ثم ولوا عثمان بهتاناً وزوراً، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الرابع وهو علي، ويزعمون أنهم هم المؤمنون ومن سواهم كفار، فيكفرون أهل السنة والجماعة. ويكفرون من يقول: إن الله يرى في الآخرة؛ لأنهم يرون أنه لا يرى إلا ما كان جسماً محدوداً، والله ليس جسماً محدوداً، فلا يرى، هكذا يزعمون، فعقيدتهم في هذا هي نفس عقيدة المعتزلة. وكذلك يكفرون من آمن بصفات الله وقدرته الكاملة، ومشيئته الشاملة، ويكفرون كل من خالفهم في بدعهم التي هم عليها.

ذكر بعض بدع الرافضة

ذكر بعض بدع الرافضة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإنهم يمسحون القدمين ولا يمسحون على الخف، ويؤخرون الفطور والصلاة إلى طلوع النجم، ويجمعون بين الصلاتين من غير عذر، ويقنتون في الصلوات الخمس، ويحرمون الفقاع وذبائح أهل الكتاب وذبائح من خالفهم من المسلمين؛ لأنهم عندهم كفار، ويقولون على الصحابة رضي الله عنهم أقوالاً عظيمة لا حاجة إلى ذكرها هنا إلى أشياء أخر، فقاتلهم المسلمون بأمر الله ورسوله]. إن من عقائد الروافض أنهم يمسحون على القدمين ولا يمسحون على الخفين في الوضوء، فإذا توضئوا فإنهم يغسلون عضوين ويمسحون عضوين، فيغسلون الوجه واليدين، ويمسحون على الرأس وعلى ظهور القدمين. ويقولون: يجب على الإنسان أن يمسح على ظهور القدمين، ويبلل يده بماء ثم يمسحهما كما يمسح على الرأس، وإذا كان عليه خف وجب عليه خلع الخف ومسح ظهور القدمين. ولهذا يذكر علماء أهل السنة في عقائدهم: ونرى المسح على الخفين، ويقصدون بذلك مخالفة الرافضة الذين يعتقدون أنه لا يمسح على الخفين، فمن كان عليه خفان عند الرافضة وجب عليه خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، ومن كانت رجلاه مكشوفتين وجب عليه أن يمسح على ظهور القدمين.

استدلال الرافضة على مسح القدمين والرد عليهم

استدلال الرافضة على مسح القدمين والرد عليهم سويستدلون بقراءة الجر في آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، واحتج عليهم أهل السنة بقراءة النصب ((وأرجلَكم))، فإنها معطوفة على ((أيديكم)) أي: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم، وأما قراءة الجر فأجابوا عنها بجوابين: الجواب الأول: أن قراءة الجر محمولة على المسح على الخفين، وقراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين. والجواب الثاني: التوسع في لفظ امسحوا في قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم)، فيحمل على معناه العام، فإن المسح العام يشمل الغسل ويشمل إمرار اليد على العضو مبلولة بالماء، أي: يشمل الإسالة ويشمل الإفاضة، والمعنى: امسحوا برءوسكم إفاضة وامسحوا بأرجلكم إسالة وصباً للماء، فالمسح في اللغة يطلق على الغسل، تقول العرب: تمسحت للصلاة. ويؤخرون الفطور والصلاة إلى طلوع النجم، أي: يؤخرون صلاة المغرب حتى يطلع النجم في السماء، وكذلك يؤخرون الإفطار عند الصيام، ويجمعون بين الصلاتين بغير عذر، ويقنتون في الصلوات الخمس كلها، ويحرمون الفقاع وهو: شراب الشعير، لما يعلوه من الزبد. ويحرمون ذبائح أهل الكتاب، ويحرمون ذبائح من خالفهم من المسلمين؛ لأنهم عندهم كفار، فهم يكفرون من خالفهم، ويقولون على الصحابة أقوالاً عظيمة لا حاجة إلى ذكرها هنا، فقاتلهم المسلمون بأمر الله ورسوله.

أسباب المروق من الدين

أسباب المروق من الدين قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها بل قد مرق منها، وذلك بأسباب]. يقول المؤلف هنا: إذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، يقصد الخوارج، فقد انتسبوا إلى الإسلام ومرقوا منه حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فلا يستغرب أن يمرق من الإسلام من انتسب إلى السنة في هذه الأزمنة المتأخرة، فإذا وجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصدر الأول والعصر الذهبي وأفضل العصور، وفي زمن الصحابة والخلفاء الراشدين من يمرق من الإسلام مع عبادته العظيمة، فإنه من باب أولى أن يوجد من يمرق من الإسلام في الأزمنة المتأخرة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها، وذلك لأسباب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، وهو حديث صحيح]. ذكر المؤلف رحمه الله: أنه إذا خرج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من مرق من الإسلام كالخوارج وهم في العصر الذهبي فمن باب أولى أن يخرج في هذه العصور المتأخرة بعض الناس، وذلك لأسباب: أولها: الغلو في الدين، وقد ذمه الله بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، والغلو: هو الزيادة، فالنصارى غلوا وزادوا في عيسى حتى جعلوه إلهاً، فالغلو في الدين قد يخرج الإنسان من الإسلام، واستدل المؤلف بآية النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]، وبآية المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77]. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو بقوله: (إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، وهو حديث صحيح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنها: التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز]. السبب الثاني: من أسباب الخروج عن الدين: التفرق والاختلاف، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، فنهى سبحانه وتعالى عن التفرق، وبين أن أهل الكتاب اختلفوا بعد أن جاءهم العلم بغياً بينهم فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنها: أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها؛ لموافقة ظنه وهواه]. السبب الثالث: من أسباب المروق من الدين: الأحاديث المكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سمعها الجاهل صدق بها، مثل وضع بعض الوثنيين المشركين: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، وهذا كذب وزور، فإذا سمعه بعض الجهال ظنوا أنه صحيح، فيعبدون الأحجار، ومثال ذلك وضع بعض القبوريين لحديث: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)، هذا حديث مكذوب وضعه القبوريون حتى يشجعوا الناس ويغروهم بالشرك وعبادة القبور، وهذه أمثلة لما ذكرها المؤلف رحمه الله من الأحاديث المكذوبة التي يسمعها الجاهل فيصدق بها فيقع في الشرك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأضل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]]. السبب الرابع من أسباب المروق من الدين: اتباع الظن والهوى، فيتبع بعضهم ظنه وهواه حتى يقع في الشرك -نعوذ بالله- وقد ذمهم الله جل وعلا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]، فنزهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم، ونزهه عن الهوى]. نزه الله تعالى نبيه عن داءين مهلكين فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، وهذا قسم من الله، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالنجم والليل والضحى والشمس، وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بالله أو بأسمائه وصفاته، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:1 - 2] أي: محمد، {وَمَا غَوَى} [النجم:2] أي: ليس ضالاً ولا غاوياً؛ لأن الضال: هو الذي يعمل بلا علم كالنصارى وأشباههم، والغاوي: هو الذي يعلم ولا يعمل، فالله تعالى نزه نبيه عن الضلال وعن الغواية.

[7]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [7] لقد ابتدع أهل الباطل أصولاً لم ينزل الله بها من سلطان، ومن تلكم الأصول أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام، وهي كذب وبهتان، بل هي كفر شنيع، فنشروها بين الناس فأحدثت شراً كبيراً، وفساداً عريضاً.

أصول الباطل التي ابتدعها الضلال الظالمون

أصول الباطل التي ابتدعها الضلال الظالمون قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها وصار من أكابر الظالمين، وهي فصول، الفصل الأول: أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان بل كفر شنيع]. الأصل الأول من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف فمرقوا بها من الإسلام: الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم. فهناك أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين السنة، ونحن نعلم يقيناً أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع، ومثلها ما سبق عن القبوريين: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)، وكذلك: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، فهذه من أسباب الكفر. والمؤلف هنا قال: أحاديث في الصفات رووها زائدة عن الأحاديث يعلم باليقين القاطع أنها كذب بل هي كفر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد يقولون من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثاً؛ مثل حديث يروونه: (أن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة)، وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق]. هذا من الأحاديث المكذوبة التي هي سبب في الوقوع في الكفر، فيروون أن الله ينزل عشية عرفة في الحج على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره كما قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]. وفي الحديث: (إن الله تعالى يضع السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع، والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن بيده ويقول: أنا الملك). وفي الحديث الآخر: (ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)، فهذه المخلوقات العظيمة لا تساوي شيئاً بالنسبة لعظمة الله، فالسموات يطويها بيمينه ويضعها على أصبع، والأرضين كلها على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع، ثم بعد ذلك يأتي هذا الخبيث ويضع هذا الحديث المكذوب تعالى الله عما يقولون، ويجعل الرب يقترن بالمخلوقات، ويكون فوقه طبقة وهي السماء، وتحته طبقة وهي الأرض، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهذا من الأحاديث الكفرية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذا من الأحاديث المكذوبة بإجماع المسلمين، ولا يجوز لأحد روايته إلا على وجه بيان أنه كذب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أهل العلم كـ ابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار؛ ليشينوا به على أهل الحديث، ويقولون: إنهم يروون مثل هذا]. أي: مقصودهم من بث مثل هذا الحديث أن يكره الناس أهل الحديث ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يروون مثل هذا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك حديث آخر فيه: (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف)]. أي: أن هؤلاء لضلال يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه حين أفاض من مزدلفة يمشي أمام الحجاج وعليه جبة صوف، فجعلوا على الله جبة صوف، تعالى الله عما يقولون، وهذا كفر شنيع. فقد جعلوا الخالق حقيراً ضعيفاً فوقه بعض مخلوقاته وتحته بعض مخلوقاته، وأنه يحتاج إلى أن يلبس جبة صوف ويحتاج إلى بعض من مخلوقاته، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا حديث فيه: (أن الله يمشي على الأرض)، فإذا كان موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، ويقرءون قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]]. وهذا حديث ثالث من الأحاديث المكذوبة، فيقولون فيه: (إن الله يمشي على الأرض)، فإذا وجدت موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، وهو من أقوال الصوفية، فإنهم كلما رأوا خضرة في الأرض قالوا: قد يكون الله في هذا المكان، تعالى الله عما يقولون، ويقرءون هذه الآية: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [هذا أيضاً كذب باتفاق العلماء، ولم يقل الله: (فانظر إلى آثار خطى الله) وإنما قال: {آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] ورحمته هنا النبات]. أي: أن من آثار رحمة الله النبات الذي أنبته المطر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهكذا أحاديث في بعضها: (أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف)]. وهذا حديث رابع مكذوب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي بعضها: (أنه رآه وهو خارج من مكة)، وفي بعضها: (أنه رآه في بعض سكك المدينة)، إلى أنواع أخر]. كل هذه الأحاديث مكذوبة، سواء: (أن النبي رأى ربه في الطواف)، أو: (رآه وهو خارج من مكة) أو (رآه في وسط المدينة).

اختلاف العلماء في رؤية النبي ربه ليلة المعراج

اختلاف العلماء في رؤية النبي ربه ليلة المعراج والصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه حتى في ليلة المعراج، فالله تعالى لا يراه أحد في الدنيا ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم لما سأله أبو ذر: هل رأيت ربك -يعني: ليلة المعراج-؟ قال: (نور أنى أراه)، وفي رواية: (رأيت نوراً)، وفي حديث أبي موسى: (حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرق سبحات وجه ما امتد إليه بصره من خلقه). فلا يستطيع أحد أن يطيق رؤية الله في الدنيا، لكن رؤيته نعيم لأهل الجنة، وأما في الدنيا فالصواب: أنه لم يره أحد، وهذا باتفاق العلماء إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، فاختلف العلماء هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا؟ فمنهم من قال: رأى ربه، ومنهم من قال: لم يره، والصواب أنه لم يره. ومن قال من العلماء أنه رآه فالمراد: رآه بعين قلبه، ومن قال: لم يره، أي: لم يره بعين رأسه، وهذا هو الصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكل حديث فيه أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين ولا رواه أحد منهم]. أي: أن كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب، وإنما الخلاف في رؤيته له في السماء ليلة المعراج، وأصح القولين أنه لم يره بعيني رأسه، وإنما رآه بعين قلبه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها تنكر ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه كما يروونه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم، وقال لـ عائشة: لا، فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء]. يقول المؤلف رحمه الله: كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الأرض فهذا كذب بالاتفاق، وإنما الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فبعض الصحابة قالوا: رآه، وبعض الصحابة كـ عائشة قالوا: لم يره، فقد قالت لـ مسروق لما سألها: هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري لما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمد رأى ربه فقد كذب. وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه، وروي عن بعض الصحابة، وروي عن الإمام أحمد قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] قال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وفي لفظ: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه ليلة المعراج. والجمع بين هذه النصوص: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وما روي عن بعض الصحابة وعن الإمام أحمد: أنه رأى ربه فالمراد به أنه رآه بقلبه، وما في بعضها أنه رآه فالمراد أنه رآه بعيني قلبه، وما ورد من النصوص عن الصحابة أنه لم يره فالمراد به أنه لم يره بعيني رأسه، وبهذا تجتمع النصوص ولا تختلف وهذا هو الصواب، وهو الذي عليه الجماهير. وبعض العلماء يرون أنه رآه بعيني رأسه، ومن هؤلاء النووي في (شرح مسلم)، والقاضي عياض والهروي، والصواب الذي عليه الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه؛ لأن رؤياه نعيم اتخذه الله لأهل الجنة، ولأن البشر لا يستطيعون أن يروا الله، ولأن الحديث فيه: (أن الله لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما امتد إليه بصره من خلقه). قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره أنه اختلفت الراوية عن الإمام أحمد رحمه الله هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه ولا يقال بعين رأسه ولا بعين قلبه؟ على ثلاث روايات]. نقل القاضي أبو يعلى من الحنابلة الخلاف عن الإمام أحمد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه على ثلاث روايات، الرواية الأولى: أنه رآه بعيني رأسه، والرواية الثانية: أنه رآه بعيني قلبه، والرواية الثالثة: التوقف، فلا يقال رآه بعيني رأسه ولا رآه بعيني قلبه، وأصح الروايات الرواية الثانية، وهي: أنه رآه بعيني قلبه، وهو الذي عليه الجمهور وتدل عليه النصوص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا)، يروى من طريق ابن عباس ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه: (أنه وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري)، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج، فإن هذا الحديث كان بالمدينة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح ثم خرج إليهم وقال: رأيت كذا وكذا)، وهو من رواية من لم يصل خلفه إلا بالمدينة كـ أم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]]. الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) يسمى حديث اختصام الملأ الأعلى، ففيه: (يا محمد! بما يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري يا رب! فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري، وعلمت كل شيء، فقال الله: بم يختصم الملأ الأعلى فقلت: يا رب! في الدرجات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة). يقول المؤلف رحمه الله: هذا الحديث ليس هو الحديث الذي فيه أن النبي رأى ربه في اليقظة؛ لأن هذا الحديث رؤيا في النوم، والحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في اليقظة، فبينهما فرق، وهذا الحديث في المدينة وحديث المعراج في مكة، فلا يشتبه هذا الحديث بذلك الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة كما جاء مفسراً في كثير من طرقه أنه كان رؤيا منام، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة كما في ليلة المعراج]. هذه الرؤيا رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء وحي؛ ولهذا لما رأى إبراهيم الخليل في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل نفذها في اليقظة، فقال الله له: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105]؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينيه في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم قط حديث فيه أن الله نزل له إلى الأرض، بل الأحاديث الصحيحة: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)]. اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه في الأرض، واتفقوا على أنه لم ير أحد ربه غير النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، حتى موسى الكليم، فقد أخبر الله في القرآن الكريم أنه قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لن تراني في الدنيا؛ لأنك لا تستطيع ببشريتك الضعيفة أن تتحمل ذلك، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يصمد لرؤية الله، وهو صخر عظيم، فإذا كان الجبل مع صلابته لم ثبت لرؤية الله وتدكدك وانهار فكيف بالمخلوق الضعيف؟! إذاً اتفق العلماء على أنه لم ير أحد ربه غير النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الأرض وإنما الخلاف في رؤيته في السماء ليلة المعراج على قولين، فمنهم من قال: رآه، ومنهم من قال: لم يره، والصواب أنه لم يره، وهو الذي عليه الجماهير، وكل حديث فيه أن الله نزل له إلى الأرض فهو من الأحاديث المكذوبة، فالأحاديث الصحيحة إنما هي في: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا الدنو يليق بجلاله وعظمته سبحانه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وثبت في الصحيح: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا فيباهي الملائكة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً، ما أراد هؤلاء؟)]. وهذا أمر ثابت: أن الله يدنو منهم ويباهي بهم، وهذا الدنو دنو يليق بجلاله وعظمته، وهو فوق العرش سبحانه، ولا نعلم كيفية هذا الدنو.

ما ورد في نزول الرب في ليلة النصف من شعبان، وحكم قيامها وصيام يومها

ما ورد في نزول الرب في ليلة النصف من شعبان، وحكم قيامها وصيام يومها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روي أن الله ينزل ليلة النصف من شعبان -إن صح الحديث- فإن هذا مما تكلم فيه أهل العلم]. الصحيح أنه لم ينزل، وهذا الحديث ضعيف غير صحيح، وفيه: (أن الله ينزل في ليلة النصف من شعبان فيغفر لعدد شعر غنم كذا)، لكنه حديث ضعيف. وليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي لا تخص بطول صلاة ولا يومها بصيام، فبعض الناس يتعبد ويصلي ليلة النصف من شعبان، ويرى بعضهم أنها ليلة القدر، وهذا باطل، فليلة القدر في رمضان، وبضعهم يصوم في يوم الخامس عشر من شعبان فقط، وهذا لا يشرع، لكن يصوم هذا اليوم مع بقية الأيام البيض فلا بأس بذلك.

عدم ثبوت ما روي أن النبي رأى ربه عندما نزل من حراء

عدم ثبوت ما روي أن النبي رأى ربه عندما نزل من حراء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك ما روى بعضهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من حراء تبدى له ربه على كرسي بين السماء والأرض)]. وهذا من الأحاديث المكذوبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح: (أن الذي تبدى له الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وقال له: اقرأ فقلت: لست بقارئ)]. أي: لم يأت في الأحاديث أن الله تبدى لنبيه، ولكن الحديث الصحيح: (أن الذي رآه في غار حراء هو جبريل، فقد رآه على صورته التي خلقه الله عليها جالساً على كرسي بين السماء والأرض وله ستمائة جناح، وكل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ) أي: لا أعرف القراءة والكتابة، وهذا ليس تحدياً ولا امتناعاً، (فأخذه وضمه حتى بلغ منه الجهد) أي: حتى يتحمل القيام بأعباء الرسالة، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، وهذا ليس امتناعاً منه، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يتعلم القراءة والكتابة، فضمه الثالثة حتى بلغ منه الجهد، فعل ذلك ثلاث مرات لكي يتهيأ للقيام بأعباء الرسالة، وهو أيضاً عليه الصلاة والسلام قد رعى الغنم، وكل نبي رعى الغنم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، قال العلماء: الحكمة هنا حتى يتمرن وينتقل من سياسة الغنم ورعايتها إلى سياسة الأمم والدول والشعوب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]، فهذا أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم]. أول ما نزل عليه من الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]، والشاهد أن الذي تبدى للنبي صلى الله عليه وسلم ورآه في غار حراء هو الملك وليس الله؛ لأن الله لا يستطيع أحد أن يراه في الدنيا لا النبي ولا غيره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض)]. وهذا بعد ما فتر الوحي، فقد أوحي إليه عليه الصلاة والسلام ثم فتر الوحي ثلاث سنين، ثم رجع إليه مرة أخرى، فرأى الملك فقال: (هذا الذي رأيته في غار حراء) أي: في أول البعثة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [رواه جابر رضي الله عنه في الصحيحين، فأخبر أن الملك الذي جاءه بحراء رآه بين السماء والأرض]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ الأربعين حبب إليه الخلاء والانفراد عن الناس، وكان يأخذ من الطعام والشراب ما يكفيه، ثم يخرج من بيته ويذهب إلى غار حراء، وهو غار في الجبل، فيتعبد اليومين والثلاثة، فإذا انتهى الزاد رجع إلى زوجته خديجة وأخذ الطعام وعاد إلى الغار يتعبد، فجاءه جبريل في هذا المكان بالوحي والرسالة، ثم فتر الوحي ثلاث سنوات ثم رجع إليه مرة أخرى فرأى جبريل فقال: (هذا الذي رأيته في غار حراء). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذكر أنه رعب منه، فوقعفي بعض الروايات: الملك]. أي: أخبر أنه الملك الذي جاءه بحراء، وأنه ما بين السماء والأرض، وقال: إنه رعب منه، أي: خاف منه؛ لأنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها وله ستمائة جناح، فخاف من صورته العظيمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فوقع في بعض الروايات: الملك، فظن القارئ أنه الملك، وأنه الله، وهذا غلط وباطل]. أي: جاء في بعض الروايات أنه قال: الملك، فظن الراوي أنه الملك، أي: بالكسر، وهو الله تعالى، وهذا غلط وتحريف وهو من الأوهام في الشريعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فكل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض، وفيه: أنه نزل له إلى الأرض، وفيه: أن رياض الجنة من خطوات الحق، وفيه أنه وطئ على صخرة بيت المقدس، كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم]. هذه قاعدة ذكرها بها المؤلف هنا فقال: كل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو باطل مكذوب، فلا يمكن لأحد أن يرى الله في الأرض. أو فيه: (أن الله نزل له إلى الأرض) فهو كذب، أو فيه: (أن رياض الجنة من خطوات الحق) فهو كذب، أو فيه: (أنه وطئ على صخرة ببيت المقدس)، فكل هذا كذب وغلط. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحداً من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الدجال قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)]. أي: أن كل من ادعى أنه رأى ربه بعينه قبل الموت فهو كاذب ودعواه باطلة؛ لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يراه أحد من المؤمنين بعيني رأسه حتى يموت، وثبت في حديث مسلم: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر يحذر أمته فتنة الدجال، وبين لهم أن أحداً منهم لن يرى ربه حتى يموت].

بيان كون الدجال أعور

بيان كون الدجال أعور قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يظنن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه]. يقول المؤلف: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر تحذيره لأمته من فتنة الدجال، وبين فيها أنه لا يرى الله أحد في الدنيا حتى يموت، فلا يغتر بعض الناس إذا جاءه الدجال في آخر الزمان، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان، وهو أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، فيدعي الصلاح أولاً، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فينبغي للإنسان ألا يغتر بـ الدجال ويتبعه كالكفار.

أحوال المحسنين

أحوال المحسنين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها هو على مراتب كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)]. يقول المؤلف: إن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب على مراتب، من ذلك الإحسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا من اليقين والمعرفة بالله، فإذا كان الإنسان قوي الإيمان فإنه يعبد ربه كأنه يراه، فإن لم يره فإنه يعلم أن الله يراه، فهذا يقع لأهل الحقائق بالمعرفة بالله.

رؤية الله في الدنيا

رؤية الله في الدنيا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما فيها من الأمثال المضروبة بالحقائق]. يعني: أن الإنسان قد يرى ربه في المنام، والرؤيا في المنام غير الرؤيا في اليقظة، ففي اليقظة لا يمكن لأحد أن يرى الله، فالصواب: أنه لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا أبداً، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلق، والصواب أنه في ليلة المعراج لم يره بعين رأسه. وأما رؤيا المنام فيمكن أن يرى الإنسان فيها ربه، وهذا باتفاق الطوائف، ولا ينكر هذا إلا الجهمية، وذلك من شدة إنكارهم لرؤية الله. يقول المؤلف رحمه الله: إن جميع الطوائف أثبتوا أن الله يُرى في المنام إلا الجهمية من شدة إنكارهم، لكن يبقى إشكال وهو: هل يلزم من رؤية الإنسان ربه في المنام أن يكون على تلك الصورة التي رآها؟ يقول المؤلف: لا يمكن؛ لأن الإنسان يرى ربه على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه ويقينه رأى ربه في صورة حسنة، وإذا كان إيمانه ضعيفاً رأى ربه رؤية تشبه إيمانه؛ لأن رؤيا المنام لها حكم آخر يختلف عن حكم رؤيا اليقظة، ولها تعبير وتأويل. إذاً: فالإنسان قد يرى ربه في النوم على قدر إيمانه ويقينه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس إيماناً وأصلحهم يقيناً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضاً من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثلما يرى النائم، وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا]. يقول المؤلف: إنه قد يقع لبعض الناس في اليقظة نظير ما يحصل للنائم، فيرى بقلبه مثلما يراه النائم، ويتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فيقال: إن المراد هنا بالقلب اليقين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه حتى يستيقظ، ويعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام]. يعني: أنه قد يغلب على بعض الناس ما يشهده بقلبه وتجمعه حواسه فيظن أنه رأى ذلك بعين رأسه من قوة الشهود وتجمع الحواس، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين: إنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان]. يقول المؤلف: من الناس من تحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تثنيه عن الشعور بحواسه، يعني: أنه تحصل له مشاهدة في القلب ويقين حتى يُثنى عن الشعور بحواسه وينسى ما هو عليه، فيظنها رؤية بعينه وهي رؤية بقلبه؛ وذلك من شدة الشعور وجمع الحواس حينما يعلم ربه بقلبه، فقد تغلب عليه قوة وشهود الحواس فيظن أنه رأى ربه بعين رأسه، ويكون غالطاً في هذا. ثم قال المؤلف: كل من قال من العلماء المتقدمين والمتأخرين: إنه رأى ربه بعين رأسه فهو غالط؛ لأنه لا يمكن رؤية الله في الدنيا.

رؤية الله بالأبصار في الآخرة

رؤية الله بالأبصار في الآخرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب)]. يعني: أن رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهذا بالاتفاق، فالمؤمنون يرون ربهم في الجنة بأبصارهم وهي من النعيم، بل هي أعظم نعيم أعطاه الله لأهل الجنة، حتى إنهم ينسون ما هم فيه من نعيم الجنة، وكذلك أيضاً يراه المؤمنون في عرصات القيامة. وعرصات القيامة هي: ساحات ومواقف، ومشاهد القيامة متعددة.

رؤية الله في عرصات يوم القيامة

رؤية الله في عرصات يوم القيامة اختلف العلماء هل الكفار يرون الله عز وجل في موقف القيامة أو لا يرونه؟ على ثلاثة أقوال: قيل: لا يراه إلا المؤمنون فقط؛ استدلالاً بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وقيل: يراه أهل الموقف كلهم مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار، وقيل: لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون فقط؛ لأن المنافقين كانوا معهم في الدنيا، ولأحاديث وردت بأنهم يكونون معهم حتى يروا الله ثم يسجدون لله، فيأتي المنافق فيسجد فيكون ظهره طبقاً ولا يستطيع السجود، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)]. هذا حديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري، وفيه: وأن الفردوس أربع جنان: جنتان من ذهب وجنتان من فضة، ثم قال: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) يعني: أنه سبحانه في يوم القيامة يكشف الحجاب فيرونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة)]. هذا حديث صريح بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وأن الله يكشف الحجاب فينظرون إليه، وأن رؤيتهم له سبحانه وتعالى أعظم نعيم يعطونه في الجنة، وهي الزيادة التي في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فالمؤمنون لهم الجنة ولهم الزيادة وهي النظر إلى وجه الله الكريم.

تواتر أحاديث رؤية الله عز وجل يوم القيامة

تواتر أحاديث رؤية الله عز وجل يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة]. يعني: أن هذه الأحاديث التي فيها أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة أحاديث متواترة تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، حتى قال بعض الأئمة: من أنكر رؤية الله في الآخرة كفر، روي هذا عن جماعة من الأئمة. يقول المؤلف: إن هذا متفق عليه بين أهل السنة، وإنما يكذب بها ويحرفها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة الذين يكذبون بصفات الله وبرؤيته، وهم المعطلة، وهم شرار الخلق والخليقة.

منهج أهل السنة في الرؤية

منهج أهل السنة في الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل]. دين الله وسط بين تكذيب هؤلاء الذين يكذبون بالنصوص التي فيها أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وبين تصديق الغلاة الذين يقولون: إن الله يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل، فدين الله وسط بين الغالي والجافي. فالصوفية قالوا: إن الله يراه كل أحد، وأنه ينزل في عشية عرفة ويسامر ويصافح، وأن كل خضرة في الدنيا قد يكون الله فيها، وأنه يرى في بعض سكك المدينة ويرى في الأمكنة. والمعطلة يقولون: إن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقالوا: من قال: إن الله يرى في الآخرة كفر، فالمؤلف يقول: دين الله وسط بين الغالي والجافي، وهو الحق، فنقول: إن الله يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا.

منهج أهل الحلول في الرؤية

منهج أهل الحلول في الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص: إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذٍ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم]. يعني: أن هؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه رآه بعين رأسه هم ضُلاّل من الصوفية وغيرهم، فإن قالوا مع ذلك: إنه يرى في بعض الأشخاص أو في بعض الصالحين أو بعض المردان أو بعض الملوك عظم ضلالهم؛ لأن بعضهم يرون أن الله حل في المخلوقات، ويقولون: إن الله حل في بعض الصالحين، فإذا رأيت الصالح فقد رأيت الله؛ لأن الله حل فيه، نعوذ بالله. وبعضهم يقول: إن الله حل في بعض المردان، والأمرد هو: الذي لا لحية له، أو يقول: إنه حل في بعض الملوك، وكل هؤلاء ظلال وكفار، وهم أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوا الله في صورة عيسى، فالنصارى يقولون: إنهم رأوا الله في صورة عيسى، وهؤلاء الضلال يقولون: إنهم رأوه في كل مكان وفي بعض الملوك أو بعض الصالحين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان ويقول للناس: أنا ربكم، ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها]. يعني: أن هؤلاء الضلال الذين يقولون: إن الله يرى في الدنيا أشد ضلالاً من أتباع الدجال، والدجال هو من بني آدم يدعي الصلاح، ثم النبوة، ثم الربوبية، وهو كافر مكتوب بين عينيه (ك ف ر)، فهؤلاء الذين يقولون: إن الله يرى في الدنيا أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان ويقول للناس: أنا ربكم، ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

أصناف الحلولية والاتحادية

أصناف الحلولية والاتحادية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية، وهم صنفان: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء، كما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام، والغالية في علي رضي الله عنه ونحوه. وقوم في أنواع من المشايخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى. وصنف يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني والبلياني وغيرهم]. ذكر المؤلف رحمه الله فيما سبق: أن من الناس من يضل فيُجوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وذكر أن هؤلاء يسمون بالحلولية والاتحادية، ثم بين رحمه الله أن الحلولية والاتحادية صنفان: الصنف الأول: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء، والصنف الثاني: يعممون القول بالحلول والاتحاد، ومعنى الحلول: هو قولهم: إن الله حل في بعض الناس والعياذ بالله! وهذا كفر وضلال. والاتحادية يقولون: اتحد الله مع بعض الناس وصار معهم شيئاً واحداً، فالاتحادية يقولون: الوجود واحد، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، فقد اتحدا، يعني: صارا شيئاً واحداً، فلا فرق بين العبد والرب، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، وممن يقول بهذا ابن عربي. فالصنف الأول: قوم يخصونه بالحلول والاتحاد في بعض الأشياء لا في جميع المخلوقات، وقوم يعممون في جميع المخلوقات، فيقولون: الله حل في كل المخلوقات، والعياذ بالله! إذاً: فالذين يعممون يقولون: ليس في الوجود إلا الله، فالله هو العبد والعبد هو الله، والرب هو العبد والعبد هو الرب، ولا يوجد وجودان، وإنما هو وجود واحد، فهذا الوجود الذي تراه هو الخالق وهو المخلوق، فأنت الرب وأنت العبد! فهؤلاء يعممون الوجود، وهناك طائفة أخرى يخصصون، فيقولون: الله حل في بعض الأشياء لا في جميعها، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام، فالنصارى يقولون: إن الله حل في المسيح عليه الصلاة والسلام فقط ولم يحل في غيره، ويقولون: إن المسيح هو الله -والعياذ بالله-، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وكذلك الغالية من الرافضة الذين يقولون: إن الله حل في علي، ويقولون: علي هو الإله، والله حل فيه ولم يحل في غيره. وكذلك هناك قوم يخصون الحلول في أنواع من المشايخ، يعني: مشايخ الصوفية، فبعضهم يقول: إن الله حل في بعض شيوخ الصوفية. وهناك قوم يخصون ويقولون: إن الله حل في بعض الملوك، وقوم يقولون: إن الله حل في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى، ولا شك أن هذه الأقوال شر من مقالة النصارى؛ لأن النصارى خصصوا الله بالمسيح، وهؤلاء جعلوه في أنواع من مشايخ الصوفية. والصنف الثاني يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات، ويقولون: الله حل في جميع الموجودات واتحد مع جميع الموجودات، بحيث إن كل مخلوق هو الله؛ لأنه اتحد به، يقول المؤلف: حتى الكلاب والخنازير والنجاسات، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ويقولون: إن الله حل في أجواف الطيور وبطون السباع، كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية، كأصحاب ابن عربي، وابن عربي هذا هو محمد محيي الدين بن عربي وهو رئيس الاتحادية -والعياذ بالله-، وكذلك ابن سبعين وابن الفارض وكلهم من الاتحادية، وهكذا التلمساني والبلياني وغيرهم، وهؤلاء من أكفر خلق الله. فإن قيل: أيهما أشد كفراً الحولية أم الاتحادية؟ وهل الحلولية والاتحادية شيء واحد أو شيئان؟ ف A أن بعضهم يرى أن المعنى واحد، وأن القول بالحلول والاتحاد واحد، ويرى آخرون أن الحلولية والاتحادية صنفان، فالحلولية هم الذين يقولون: إن الله حل في بعض المخلوقات، فيقولون: بوحدة الاثنين؛ أحدهما حل في الآخر، والاتحادية أعظم كفراً فيقولون: اتحد الخالق بالمخلوق، فليس هناك تعدد فالوجود واحد.

عقيدة ابن عربي

عقيدة ابن عربي وهؤلاء رئيسهم ابن عربي، فـ ابن عربي يقول: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف فاشتبه عليه الأمر والعياذ بالله! ومن أقوال ابن عربي: رب مالك، وعبد هالك، وأنت ذلك، العبد فقط والكثرة وهم، فما تراه من الأشخاص توهم وإلا فالوجود واحد، وكل ما تراه مظاهر لتجلي الله ولتجلي الحق، نعوذ بالله! ويقول ابن عربي: إن من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول: علي على ماذا؟ ليس في الوجود إلا هو! نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء من أكفر خلق الله. وابن عربي لا ريب في قوله بوحدة الوجود، وهو يدعي أنه من كبار العارفين، وهناك من يقدس ابن عربي ويعظمه ويحترمه، وهناك من ينتصر له ويقول: إنه من كبار العارفين، وتطبع مؤلفات الاتحادية بورق ثقيل وهناك من يعتذر عن ابن عربي، وابن عربي له مؤلفات منها: الفتوحات المكية، وكتاب فصوص الحكم، وكتابه فصوص الحكم يعارض فيه القرآن، ويفسر القرآن بتفسيرات كفرية إلحادية، فيقول مثلاً: فصل نوح، ويأتي بقصة نوح، فصل هود وعاد، ويقول: إن الوجود واحد، وكل من عبد شيئاً فهو على صواب! فمن عبد الأصنام فهو على صواب! ومن عبد النار فهو على صواب! ومن عبد البشر فهو على صواب! ومن عبد الحجر فهو على صواب! ويكفر بالتخصيص، فيقول: الذي يمنع ويخصص ولا يعبد من البشر أحداً فهذا كافر! ويقول: سر حيث شئت فالله ثمَّ، وقل ما شئت فالواسع الله، وكل شيء تراه هو الله! ومن فروع هذا المذهب أن كل من عبد شيئاً فهو على صواب، ويقول: إن فرعون مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ لأن الله يتجلى في صورة معبود كما تجلى في صورة فرعون، ويتجلى في صور هادٍ كما يتجلى في صورة رجل، فكل من عمل شيئاً فهو على صواب! والذي يمنع من عبادة شيء فهو كافر! والذي يخصص ويقول: لا يعبد إلا شيء واحد فهو كافر، والعياذ بالله! وفسر قصة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وقصة إغراق الله فرعون فقال: إن فرعون أغرق ليزول الحسبان والتوهم؛ فإن فرعون قال: (أنا ربكم الأعلى) فخص نفسه فقط، وكل الناس أرباب، وليس خاصاً به، فلما توهم هذا التوهم أغرق تطهيراً له؛ ليزول الوهم والحسبان، حتى لا يتوهم أنه هو الرب وحده. ويقول: إن موسى عليه السلام لما ذهب لميقات ربه ورجع إلى بني إسرائيل وجدهم يعبدون العجل ومعهم هارون، وهارون نصحهم وعجز عنهم وكادوا يقتلونه، ولما جاء موسى أخذ برأس أخيه يجره إليه من شدة الغضب وذلك عندما أخبره الله أن بني إسرائيل عبدوا العجل، لكن لما رآهم يعبدون العجل اشتد غضبه وألقى الألواح حتى تكسرت من شدة الغضب، وعفا الله عنه؛ لأنه غلطان! فقد ألقاها وفيها كلام الله، ثم أخذ بلحية أخيه هارون - وهو نبي مثله - يجره من شدة الغضب: كيف تتركهم يعبدون العجل؟ فقال له هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] فهو أخوه من أمه وأبيه، لكن قال: (يَبْنَؤُمَّ) من باب الاستعطاف {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. يقول ابن عربي: إنما أخذ موسى بلحية هارون إنكاراً عليه حيث أنكر على القوم عبادة العجل، وقال: لِمَ لم تتركهم يعبدون العجل؟! والعياذ بالله! فالمقصود: أن ابن عربي هذا من أكفر خلق الله لرؤيته وحدة الوجود، ومثله ابن الفارض وابن سبعين والتلمساني، فكل هؤلاء من رءوس الكفر والعياذ بالله! فهم صوفية اتحادية ملاحدة. وهم أشد كفراً من الحلولية؛ لأن الحلولية يثبتون وجودين، ولكن أحدهما حل في الآخر، والاتحادية يقولون: ليس هناك تعدد الوجود، بل هو واحد لا اثنين ولا تعدد، ولهذا يقولون: من قال عن الاتحادية: إنهم حلولية يقولون: أنت محجوب عن معرفة سر المذهب، ولا تعرف المذهب!

طبقات الناس عند ابن عربي

طبقات الناس عند ابن عربي وابن عربي يقسم الناس إلى أقسام: عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة، فالعامة عليهم التكاليف، من صلاة وقيام وزكاة وحج وذكر. ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين. ثم الخاصة، وهؤلاء عندهم طاعات وليس عندهم معاصٍ، والعامة عندهم طاعات ومعاصٍ، وأما الخاصة فإنهم وصلوا إلى درجة ارتفعت عنهم التكاليف وليس عندهم معاصٍ، فكل ما يفعلونه طاعات، حتى ولو فعلوا الكفر والزنا والسرقة فهي طاعات؛ لأنهم تجاوزوا التكاليف. وهناك خاصة الخاصة وهم الذين وصلوا إلى القول بوحدة الوجود والعياذ بالله! ويقول: إن العامة لهم أذكار، وأذكارهم: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. وأما الخاصة فيكفيهم في الذكر لفظ الجلالة، فلا يحتاج أحدهم أن يقول: لا إله إلا الله، بل يقول: الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله فهذه أذكار الخاصة. ومن كان من خاصة الخاصة فلا يحتاج إلى لفظ الجلالة كاملة، بل يكتفي بالهاء من لفظ الجلالة، فتصير: هو، هو، هو، هو، هو، هو وهكذا، فهذه أذكار خاصة الخاصة، وهؤلاء موجودون الآن في كل مكان. فتجد الصوفية في كل مكان، ولهم في كل بلد مئات الطرق، ولكل طريقة شيخ يقودهم إلى النار. فبعض الطرق كفر، وبعضها بدع وهكذا، ولفظ (هو) أو (الله) ليست ذكراً وليس جملة مفيدة، فلفظ الجلالة وحده ليس فيه ذكر، ولا يفيد القلوب إيماناً ولا تقوى؛ إذ لابد للذكر أن يكون جملة مفيدة كالله أكبر، أو سبحان الله، أو الحمد لله، أما الله، الله، الله، الله فهذا ليس ذكراً. وأما خاصة الخاصة فيأخذون الهاء فقط ويقولون: هو هو هو، يقول بعض الناس: ذهبت إلى أفريقيا فوجدت جماعة صوفية يجلسون من بعد العصر إلى غروب الشمس وهم يقولون: الله الله الله الله الله الله الله الله، وبعضهم يدور حتى يسقط ويغمى عليه، نسأل الله السلامة والعافية. ويقول ابن عربي: عندي دليل على أن ذكر خاصة الخاصة (هو)، حتى إنه ألف كتاباً سماه كتاب (الهو) وقال: عندي دليل من القرآن على أن ذكر الخاصة (الله)، فاستدل بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91]، فهذا دليل على أن هذا ذكر الخاصة (الله). ويقول: الدليل على أن ذكر خاصة الخاصة (هو) قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7] فهذا دليل على أن (هو) ذكر خاصة الخاصة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فقلت لبعض الصوفية: لو كان كما تقول: لكتبت الهاء منفصلة عن الكلمة التي قبلها وكتبت: (وما يعلم تأويل هو) لكن الآية فيها أن الهاء مرتبطة بما قبله: (وما يعلم تأويله)، والاتحادية والحلولية لا يؤمنون بالقرآن، لكن هذا من باب التغطية والنفاق وذر الرماد في العيون؛ حتى يدلسوا ويموهوا على الناس أنهم يعملون بالقرآن، وإلا فإن بعض الصوفية لما قيل له: إن القرآن يخالف ما تنكرون، قال: القرآن كله شرك من أوله إلى آخره والحق ما نقول، نعوذ بالله! وكثير من الصوفية الملاحدة إذا أذن المؤذن شتمه وقال: لأنه يذكر الله وهو يريد أن ينسى كل شيء! وإذا نبح الكلب أو نهق الحمار أثنى عليه؛ لأن الحمار والكلب ينسيه، والمؤذن يذكره بالله! وهذا المؤذن يثبت اثنين: أحدهما خالق والآخر مخلوق، والحمار والكلب ينسيه فلا يذكر إلا شيئاً واحداً أنه هو الرب وهو العبد. والخاصة عندما يريدون أن يتوصلوا إلى مرتبة خاصة الخاصة يقولون له: انس كل شيء حتى نفسك، ولا تشاهد إلا الله حتى يغلب الشهود عليك، فيظن أنه هو الله، وأن الله اتحد به، فالمؤذن حينما يذكر الله يثبت اثنين؛ فلذلك يشتمه الصوفية الملاحدة قبحهم الله وأخزاهم. فالمقصود: أن الاتحادية الآن من أكفر خلق الله، والحلولية أخف كفراً؛ لأنهم يقولون بوجود اثنين أحدهما حل في الآخر، والاتحادية يقولون: الوجود واحد، فقد اتحد الخالق بالمخلوق، بل ليس هناك خالق ولا مخلوق بل الوجود واحد، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

مخالفة الاتحادية والحلولية للشرع والعقل والحس

مخالفة الاتحادية والحلولية للشرع والعقل والحس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتاب أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه]. هذا مذهب جميع المرسلين الذين أرسلهم الله ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب: أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم الفقراء إليه. وهذا فيه إبطال لمذهب الحلولية والاتحادية الكفرة، الذين يقولون: الوجود واحد، وخالفوا جميع الأنبياء والمرسلين، وخالفوا جميع العقلاء، فإذا قلت للاتحادية: كلامكم هذا غير معقول مخالف للعقل، وينكره العقل والحس والسمع، قالوا: لن تفهم مذهبنا حتى تخرق الحس والعقل وتلغي عقلك فتكون مجنوناً! فحين تبطل كل هذه الأشياء تفهم المذهب. فيصير بذلك كافراً والعياذ بالله! لأنه يترك الشرع ويلغي عقله ويكون مجنوناً حتى يفهم مذهب هؤلاء الملاحدة، وقالوا: لن تفهم الآن مذهبنا وأنت في إحساسك وشعورك ودينك، بل ألغ دينك وعقلك وشعورك وستفهم المذهب، فأنت الآن محجوب عن معرفة سر المذهب، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من زيغ القلوب. والحلولية خالفوا جميع الأنبياء والمرسلين، وخالفوا ما عليه العقلاء، وخالفوا ما عليه الحس، ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين أن الله سبحانه خالق العالمين ورب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه، وكل من في السموات والأرض سيأتي ربه يوم القيامة معبداً مجبوراً تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، قال الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].

معية الله عز وجل وعلوه

معية الله عز وجل وعلوه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]]. هذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه أهل الحق: أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ومنفصل، فلم يدخل فيه شيء من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو فوق العرش، وهو مع المؤمنين بلطفه وتأييده وتوفيقه وتسديده، فالمعية معية عامة ومعية خاصة. فالمعية العامة: عامة للمؤمن والكافر، فالله مع كل أحد بعلمه، فالمعية العامة معية علم واطلاع وإحاطة ونفوذ القدرة والمشيئة، وهو سبحانه مع الخلق كلهم بعلمه، فيعلم أحوالهم ويطلع عليهم ويحيط بهم، وهم في قبضته وتحت تصرفه، وتنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ولا يمتنعون منه. والمعية الخاصة للمؤمنين، فهو مع المؤمنين خاصة بلطفه وتأييده وتوفيقه وتسديده كما قال تعالى لنبيه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فهذه معية خاصة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، هذه معية خاصة، وأما قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] فهذه معية عامة.

بيان ضلال غلاة الصوفية

بيان ضلال غلاة الصوفية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه! وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً أو صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم، يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً حتى قال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:88 - 93] فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله. وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء]. يبين المؤلف رحمه الله أن هؤلاء الاتحادية والملاحدة والصوفية ضلال كفار؛ لأن هؤلاء الضلال الكفار يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه وراجعه، ويقول: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل، وإنه يحاضر ويسامر ويصافح ويعانق!! وبعضهم يقول كاليهود: إنه يندم ويحزن ويبكي! تعالى الله عما يقولون، فبعض الصوفية يزعم أنه يرى ربه بعينيه، وبعضهم يزعم أن الله يكون في الخضرة! فكل شيء أخضر يكون الله فيه، وهذا معروف عن الصوفية أنهم يقدسون الشيء الأخضر، فتجد عندهم اللمبة التي على الجدران خضراء، والمسبحة خضراء، والسجادة خضراء، وهكذا يقدسون الأخضر مثل النباتات، وكل شيء أخضر يقولون: لعل ربنا موجود فيها. كذلك بعضهم يزعم أنه يحضر في المولد، فعندما يقيم المولد يزعم أن الله يحضر المولد ويسمونها الحضرة، فيقول: إن الله حضر هنا! تعالى الله عما يقولون. وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً أو صبياً ويقول: إن الله حل في هذا! والعياذ بالله! وبعضهم يزعم أن الله كلمه! وكل هؤلاء يقول عنهم المؤلف رحمه الله: يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفاراً. فمن زعم أنه يرى ربه بعينيه في الدنيا أو زعم أنه يجالس الله أو يحادثه أو يراجعه أو عين آدمياً أو صبياً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً، وكفْر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن النصارى قالوا: إن الله حلَّ في عيسى فقط، وأما هؤلاء فقالوا: حل في كل شيء في أشخاص وآدميين كثيرين؛ ولأن هؤلاء ملاحدة زنادقة، واليهود والنصارى أهل كتاب، وكفر أهل الكتاب أخف من كفر الملاحدة والمشركين والوثنيين. فيقول المؤلف: إن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة، كما أخبر الله عنه أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إن الله حل في المسيح أو الذين قالوا: إن الله هو المسيح قد كفرهم الله وعظم كفرهم، فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، بل إن الله كفر الذين قالوا: إن الله اتخذ ولداً فقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم:88 - 89] يعني: أمراً عظيماً، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:90]؛ من عظم هذا القول وهو القول بأن لله ولداً. فهو أمر عظيم تكاد السماوات تتفطر وتتشقق: {وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:90 - 93]، فكل من في السموات والأرض يأتي عبداً لله، فكيف يقال: إن لله ولداً؟! تعالى الله.

منهج السبئية

منهج السبئية فإذا كان الذي يقول: إن الله حل في المسيح والمسيح وجيه نبي كريم يكون كافراً، والله كفره وعظم كفره، فكيف بالذي يقول: إن الله حل في شخص من الأشخاص غير المسيح؟! لا شك أنه يكون كفره أعظم وأعظم. ولهذا قال المؤلف: فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ يعني: أنه الله، فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، وغلاة الشيعة والرافضة يقولون: إن الله حل في علي وإن علياً هو الإله، فهؤلاء كفرة ملاحدة، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وهم أتباع عبد الله بن سبأ الذين غلو في علي، وقالوا: إن علياً هو الله. فلما رأى ذلك علي رضي الله عنه أنكر عليهم وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وجعل فيها الحطب وأضرمها ناراً، ثم قذفهم فيها، ولم يقتلهم بالسيف بل حرقهم بالنار؛ لشدة غضبه عليهم وغيظه منهم، وقال لمولاه: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً فلما عذبهم بالنار زادوا في عبادته وسجدوا له، وقالوا: هذا هو الله الذي يعذب بالنار! نعوذ بالله، والصحابة جميعاً اتفقوا على أنهم يستحقون القتل، إلا أن ابن عباس خالف علياً في كيفية القتل، فكان مذهب ابن عباس أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء؛ وابن عباس استدل بحديث: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، وهذا هو الصواب، لكن علياً رضي الله عنه لم يقتلهم بالسيف من شدة غضبه عليهم، أو لأنه خفي عليه النص الذي فيه: (أنه لا يحرق بالنار إلا رب النار). وكذلك أبو بكر رضي الله عنه وخالد بن الوليد في قتاله لأهل الردة حرق بعضهم بالنار، فلعله خفي عليهم النص، وإلا فقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحراق رجلين بالنار، ثم دعاهما فقال: (اقتلوهما بالسيف ولا تعذبوهما بالنار؛ فلا يعذب بالنار إلا رب النار)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

[8]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [8] لقد حذر ديننا من الغلو والإفراط في الصالحين؛ فإن ذلك بوابة إلى الشرك بالله تعالى، وما خبر قوم نوح عنا ببعيد، ومن الغلو الحلف ببعض المخلوقات من الأولياء وغيرهم، فيعظمها بعضهم حتى يبلغ به الحال أن يحلف بها، وينذر لها، ويصرف لها شتى العبادات من دون الله أو مع الله، وما ذلك إلا بسبب مخالفة الدين، والابتعاد عن شرع رب العالمين.

التحذير من الغلو في الصالحين

التحذير من الغلو في الصالحين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك الغلو في بعض المشايخ، إما في الشيخ عدي ويونس القني أو الحلاج وغيرهم]. يونس القني هو يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القني الزاهد. قال الذهبي في السير: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح. والقني نسبه إلى قرية القنية، والقنية قرية من أعمال دارا من نواحي ماردين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحوه بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه. فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يُعتقد فيه الصلاح كـ الحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله مثل أن يقول: يا سيدي فلان! اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر]. هذا الفصل الثاني بين فيه المؤلف رحمه الله حكم الغلو في الأحياء والأموات، فقال: وكذلك الغلو في بعض المشايخ فمن غلا في بعض المشايخ وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه مشرك كافر مرتد، والعياذ بالله. وسواء كان هذا الغلو في بعض العلماء كالشيخ عدي بن مسافر الذي وجه المؤلف له هذه الرسالة، أو يونس القني، أو الحلاج الذي قتل، أو الغلو في علي رضي الله عنه، أو الغلو في المسيح عيسى ابن مريم، أو غيرهم؛ فكل من غلا في حي، أو ميت، أو في رجل صالح كمثل علي، أو عدي، أو فيمن اعتقدوا فيه الصلاح كـ الحلاج، أو الذي كان بمصر هو الحاكم بن عبيد أو يونس القني وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه يكون كافراً مرتداً، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً؛ لأن هذا مصادم لدين الله، ومصادم للتوحيد الذي بعث الله به رسله. ومن الصور التي يجعل فيها للصالح نوع من الإلهية أن يدعوه من دون الله فيطلب منه الرزق، أو يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، فإنه بهذا اعتقد أنه هو الذي يرزق، قال الله تعالى عن إبراهيم: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:16 - 17]. فمن اعتقد في شخص أنه هو الذي يرزق ويقول: كل رزق لا يرزقنيه شيخ الصوفية فلان أو شيخ الطريقة فلان ما أريده فهذا يكون كافراً، وهذا من الغلو، فيكون مشركاً، فهو يعتقد أن فلاناً يرزق، وهذا نوع من الإلهية، وهو شرك يستتاب منه فإن تاب وإلا قتل، وهكذا إذا ذبح شاة وقال: باسم سيدي فلان، فهذا أشرك بالله لأنه ذكر عليها اسم السيد، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، أو يعبده من دون الله ويسجد له، فإنه يكفر بسجوده؛ لأن السجود عبادة. أو يدعوه من دون الله فيقول: يا سيدي فلان فرج كربتي، أو يا سيدي فلان اغفر لي، أو يا سيدي فلان ارحمني، أو يا سيدي فلان استرني أو يا سيدي فلان ارزقني، أو يا سيدي فلان أغثني، أو يا سيدي فلان أجرني، أو يقول: توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل؛ لأن هذا مصادم للأمر الذي خلق الله الخلق من أجله، وبعث لأجله الرسل، وأنزل لأجله الكتب؛ ولهذا قال المؤلف: فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل معه إلهاً آخر.

بيان كون الغلو في الصالحين وسيلة إلى الشرك

بيان كون الغلو في الصالحين وسيلة إلى الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسر أو وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله. فأرسل الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي]. بين المؤلف رحمه الله أن الذين يدعون مع الله آلهة أخرى إنما شركهم بدعاء غير الله أو النذر لغير الله، وليس شركهم في اعتقادهم أنهم يخلقون أو يرزقون، فالذين يعبدون مع الله آلهة أخرى لا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون، بل يقولون: هذا من خصائص الله، لكن شركهم هو في صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، فيخصونهم بالدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف. فبعض الناس إذا قلت له: إذا دعوت غير الله فهو شرك، قال: أنا ما أعتقد أنه يخلق ويرزق، أنا أقول: إن الله هو الذي يخلق ويرزق وهذا لا يخلق ولا يرزق وليس بيده شيء من الأمر، لكن أدعوه حتى ينقل حوائجي إلى الله ويقربني إلى الله؛ لأنه وجيه، وهو واسطة بيني وبين الله. فنقول: هذا هو الشرك بعينه، فهذا هو شرك المشركين، كما قال عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]،وقال عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فلا يشترط أن تعتقد أنه يخلق ويرزق، بل نقول: لو اعتقدت أنه يخلق ويرزق لكان شركاً في الربوبية أعظم من الشرك في الألوهية، فكونك تدعوه أو تذبح له أو تنذر له هذا شرك في العبادة. ولهذا قال المؤلف: والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسراً وغير ذلك من المعبودات التي كان يعبدها المشركون لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات. وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. إذاً: فهم يعبدونهم لا لأنهم يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون، بل يعبدونهم لأجل القربة والشفاعة فقط. فيقولون: هم أقرب منا إلى الله ينقلون حوائجنا إلى الله، ويشفعون لنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، ودعاء العبادة: كأن يركع له أو يسجد له، ودعاء الاستغاثة: كأن يستغيث به ويستنجد به ويسأله، فهذا وهذا كلاهما نوع من الشرك. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح -يعني: عيسى- وعزيراً والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ثم بين الله تعالى أنهم لا يملكون كشف الضر، يعني: إزالة الضر، ولا تحويله: أي نقله من حال إلى حال، فكيف يعبدون من دون الله؟! قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] يعني: كما قال بعض السلف: هؤلاء الذين تدعونهم هم محتاجون إلي يتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. إذاً: إذا كانوا محتاجين فلا يصلحون آلهة، فالإله الكامل لا يحتاج إلى أحد، وهؤلاء الذين تعبدونهم يحتاجونني ويدعونني كما تدعونني، ويخافونني كما تخافونني.

تفسير الآية التي قطعت عروق الشرك

تفسير الآية التي قطعت عروق الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شرك في الملك، وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه]. هذه الآية يقول العلماء: قطعت عروق الشرك؛ فإن الله سبحانه وتعالى بين فيها أن العابد إنما يعبد معبوداً لما يرجوه من النفع، فلا يعبده إلا ليرجو حصول النفع، والنفع لا يحصل من أحد إلا بأمور أربعة: الأمر الأول: أن يكون المرجو مالكاً للشيء الذي يريده عابده حتى يعطيه. الأمر الثاني: إن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك. الأمر الثالث: إن لم يكن شريكاً للمالك كان معيناً ومساعداً وظهيراً. الأمر الرابع: إن لم يكن معيناً ولا مساعداً صار شفيعاً. وقد نفى الله هذه الأمور الأربعة واحداً بعد واحد مرتباً لها منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى. وتبين بذلك أن المعبودين من دون الله لا يستطيعون نفع معبوديهم بأي نوع من أنواع النفع، فقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] قل لهم يا محمد: ادعوا الذين زعمتم أنكم تدعونهم: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] نفى عنهم الملك، فلا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض على سعتهما وكبرهما وعظم أجسامهما، فكيف تعبدونهم وما عندهم شيء؟! ثم قال سبحانه: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] فنفى عنهم الشركة، وقال: لا يملكون شيئاً، وليس لهم شركة في أي شيء، ثم قال سبحانه: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: ليس لله مساعد ومعين منهم، فهذا الأمر الثالث. ثم جاء الأمر الرابع: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، فقطعت هذه الآية عروق الشرك التي يتعلق بها المشركون، فإن الله بين أنهم لا يملكون، وليس لهم شركة في الملك، وليسوا معينين ولا مساعدين لله وليس لهم الشفاعة إلا بإذن الله.

شروط الشفاعة

شروط الشفاعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]]. أي: من يفعل الشفاعة لابد له من شرطين: إذن الله للشافع، وأن يرضى الله عن المشفوع له، فالشرط الأول دليله قوله: {أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} [النجم:26]، والثاني قوله: {وَيَرْضَى} [النجم:26]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44]]. بين سبحانه وتعالى أنهم لا يملكون شيئاً فكيف تعبدونهم من دون الله؟ وبين أن الشفاعة له سبحانه فقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44].

حال المشركين مع معبوداتهم

حال المشركين مع معبوداتهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] الآية]. يبين سبحانه وتعالى حال المشركين وأنهم إنما يعبدون المعبودات وهي لا تضر ولا تنفع، لكن يقولون: إنها تشفع لنا عند الله، فقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس:18]، فإذا قيل لهم: لم تعبدونها؟ قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فرد الله عليهم بقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] أي: هل تنبئون الله بشيء لا يعلمه وهو سبحانه لا يعلم أن له شريكاً في ملكه؛ ولهذا قال: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18].

توحيد الله أصل الدين

توحيد الله أصل الدين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]]. بين المؤلف رحمه الله أن عبادة الله وحده هي أصل الدين، فأصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده دونما سواه، فمن عبد الله وعبد غيره معه فقد أشرك، ولا يكون موحداً حتى يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة ويتبرأ من عبادة كل معبود سواه. وهذا هو الكفر بالطاغوت، وهو اعتقاد بطلان عبادة كل معبود سوى الله ونفيها وإنكارها والبراءة منها ومن أهلها وبغضها ومعاداتها، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، فالرسل كلهم أرسلهم الله بالتوحيد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فقوله: (أن اعبدوا الله) هذا هو الإيمان بالله، (واجتنبوا الطاغوت) هذا هو الكفر بالطاغوت، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، فكل الرسل بعثوا بالتوحيد.

صور من حرص النبي على تحقيق التوحيد

صور من حرص النبي على تحقيق التوحيد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، وقال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد)، ونهى عن الحلف بغير الله فقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)]. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويخلصه، وتحقيق التوحيد: تبسيطه وتصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمخالفات، فهذا تحقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، كما بوب الإمام العلامة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد فقال: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب. فمن حقق التوحيد وخلصه وصفاه دخل الجنة بغير حساب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويصفيه ويخلصه مما علق به من شوائب الشرك، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت) فهذا من تحقيق التوحيد، فلما قال الرجل: ما شاء وشئت أنكر عليه وقال: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: مثيلاً، والند هو النظير، وقال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد). فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ ف A أن الأولى تشريك بالواو، بمعنى جعل مشيئة الرسول معطوفة على مشيئة الله، والواو تقتضي التشريك والجمع، فهي ممنوعة، لكن (ثم) جائزة، فلك أن تقول: ما شاء الله ثم شاء محمد؛ لأن (ثم) للترتيب والتراخي، فلا تأتي مشيئة العبد إلا بعد مشيئة الله، فجازت (ثم) وامتنعت الواو. والواو لا تفيد الترتيب ولا التراخي وإنما تفيد التشريك، وأكمل من ذلك أن يقول المرء: ما شاء الله وحده، فالأحوال ثلاثة: ما شاء الله وشئت، وهذا شرك، وما شاء الله ثم شئت، وهذا جائز، وما شاء الله وحده، وهذا الكمال والأفضل.

النهي عن الحلف بغير الله

النهي عن الحلف بغير الله وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله فقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وهذا من كمال التوحيد. والإطراء هو: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطروه وأن يجاوزوا الحد في مدحه كما فعلت النصارى؛ فإنهم أطروا عيسى ومدحوه حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية والألوهية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك وقال: (لا يصلح السجود إلا لله)، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وقال لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي)]. قول المؤلف: ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، فلا يقول: والكعبة؛ لأنه شرك، ولا يقول: والأمانة، أو وأبيك، أو ولحيتك وشرفك؛ لأن هذا شرك، ولكن يقول: ورب الكعبة، أما أن يحلف بالكعبة فهذا شرك؛ لأن الكعبة مخلوقة.

النهي عن السجود لأحد غير الله

النهي عن السجود لأحد غير الله ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك فقال: (لا يصلح السجود إلا لله)؛ لأن السجود عبادة، وأما سجود إخوة يوسف وأبويه له فهذا سجود تحية وإكرام، وهو جائز في شريعتهم، وأما في شريعتنا فلا يجوز. وقال: (لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، يعني: من عظم حقه عليها. وقال لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي)، وكل هذا من تحقيقه التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك، وحديث معاذ هذا أخرجه ابن ماجة وعبد الرزاق وابن حبان. عن أيوب عن القاسم الشيباني عن عبد الله بن أوفى قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، قال: وسنده حسن؛ القاسم هو ابن عوف صدوق يغرب.

النهي عن اتخاذ القبور مساجد

النهي عن اتخاذ القبور مساجد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مما فعلوا)، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني). ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة]. من تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وكل شيء صلى فيه الإنسان فقد اتخذه مسجداً، فلا يجوز الصلاة في المقابر؛ لأن الصلاة في المقابر من اتخاذها مساجد، فقال في مرض موته عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر مما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً، فالنبي نهى عن اتخاذ القبور مساجد، والصلاة عندها من اتخاذها مساجد، فمن صلى عند القبور فقد اتخذها مساجد شاء أم أبى، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود لأنهم اتخذوا القبور مساجد، فدل على أن اتخاذها مساجد من الكبائر، ومن وسائل الشرك العظيمة. حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته اهتم بذلك، وكان قبل أن يموت بخمس ليالٍ وهو في شدة المرض يطرح على وجهه خميصة فإذا اغتم كشفها، ثم يعيدها، فقال في هذه الحالة قبل أن يموت بخمس ليال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قال الراوي: يحذر مما صنعوا، يعني: لا تفعلوا كفعلهم، فإن الله لعنهم على هذا الفعل، ومن فعل فعلهم أصابه ما أصابهم، قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبر النبي صلى الله عليه وسلم)، وإنما دفن في بيته خشية أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً). يعني: لا تجعلوا بيتي كالعيد، وفي لفظ: (قبري عيداً)، والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون في بيته، وقوله: (لا تتخذوه عيداً) يعني: لا تكرروا المجيء إليه كما يتكرر العيد، فالذي يكرر المجيء والزيارة في أوقات محددة يكون قد جعله كالعيد. وقوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتصبح كالقبور، فصلوا في بيوتكم. وقوله: (وصلوا علي حيثما كنتم) يعني: في أي مكان من أرض الله، فإن صلاتكم تبلغني، أي: تبلغه الملائكة؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، فإن بناء المساجد على القبور من وسائل الشرك، وهو حرام، ولا تشرع الصلاة عند القبور، فالكثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة، فإذا صلى الإنسان عند القبر تكون صلاته باطلة، ولا تصح الصلاة بمسجد فيه قبر.

آداب زيارة القبور

آداب زيارة القبور قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)]. السنة في زيارة قبور المسلمين أن يدعى لهم، ويترحم عليهم؛ لأن الميت بحاجة إلى دعائك، وهو بحاجة إليك، وأنت لست بحاجة إليه. فالسنة في زيارة قبور المسلمين الدعاء لهم والترحم عليهم، فيستفيد الميت بالدعاء لهم والترحم عليهم، وتستفيد أنت أيها الحي بأن تتذكر الموت فيرق قلبك؛ ففيه فائدة للحي وفائدة للميت، ولهذا قال المؤلف: والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، فكما أننا ندعو لهم في الصلاة عليهم قبل الدفن فكذلك ندعو لهم عند زيارتنا لهم بعد الدفن. قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين مخاطباً نبيه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] أي: لا تصل يا محمد! على أحد من المنافقين ولا تقم على قبره للدعاء عليه، ما السبب؟ قال الله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]. إذاً: فالعلة هي الكفر، فمن كان كافراً فلا يصلى عليه إذا مات، ولا يقام على قبره بالدعاء له بعد الدفن، قال المؤلف: فكان دليل الخطاب -يعني: المطلوب- أن المؤمنين يُصلى عليهم، ويُقام على قبورهم بعد الدفن بالدعاء.

تابع حكم زيارة القبر وأنواعها

تابع حكم زيارة القبر وأنواعها فزيارة القبور قد تكون زيارة شركية، أو زيارة بدعية، أو زيارة شرعية. فالزيارة الشركية كأن يذبح أو ينذر له أو يدعوه، والزيارة البدعية كأن يقرأ القرآن أو يصلي أو يدعو الله عنده، والزيارة الشرعية بأن يدعو له، ويترحم عليه، ثم ينصرف.

تعظيم القبور من أسباب عبادة الأوثان

تعظيم القبور من أسباب عبادة الأوثان قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. قالت طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره فإنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق]. يذكر المؤلف رحمه الله أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، فإذا عظم القبر بالعبادة من دعائه والذبح والنذر له والطواف عنده، صار هذا من أسباب عبادة الأوثان، فالأوثان إنما وجدت لهذا، فقوم نوح لما عظموا القبور وعبدوها من دون الله وجدت الأوثان، قال الله تعالى في كتابه عن قوم نوح إنهم قالوا: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي: يوصي بعضهم بعضاً لا تتركوا آلهتكم، ((ولا تذرن)) أي: لاتتركن، ((وداً)) وهو اسم صنم، ((ولا سواعاً)) اسم صنم آخر، ((ولا يغوث)) اسم صنم ثالث، ((ويعوق)) اسم صنم رابع، ((ونسراً)) صنم خامس. قالت طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها، فلما كان تعظيم القبور بالعبادة ونحوها من أكبر أسباب عبادة الأوثان؛ اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره فإنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، أي: أن التقبيل والاستلام يكون للحجر الأسود فقط، وأما الركن اليماني فإنه يمسح ولا يقبل، فإذا لم يتيسر تركته ولم تشر إليه، وأما الحجر الأسود فإنك تستلمه باليد اليمني وتقبله بالشفتين، فإذا لم يتيسر استلمته بيدك وقبلتها، فإذا لم يتيسر أشرت إليه بعصا ونحوها، فإن لم تستطع أشرت إليه بيدك. فالتقبيل والاستلام يكون لأركان بيت الله، وأما حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقبل ولا تستلم؛ لأنها بيت مخلوق، والكعبة بيت الله، ولا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

حماية جناب التوحيد من الوقوع في الشرك والبدع

حماية جناب التوحيد من الوقوع في الشرك والبدع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك الطواف والصلاة والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا بيتي عيداً)، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]]. يذكر المؤلف رحمه الله: أن الطواف والصلاة من العبادات التي تفعل في بيوت؛ فالاجتماع للعبادات تقصد في بيوت الله وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، كما قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً كقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتخذه الإنسان عيداً، أو يخصص في كل أسبوع يوماً كالجمعة لزيارة القبر، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أو في أوقات أخرى من غير تحديد أوقات معينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا بيتي عيداً)، فكل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، والذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، يعني: يغفر لصاحب التوحيد ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48].

فضل كلمة الإخلاص وآية الكرسي

فضل كلمة الإخلاص وآية الكرسي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة). والإله: الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة به، ورجاءً له، وخشية وإجلالاً وإكراماً]. قوله: (كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه) أي: لأنها أصل الدين وأساس الملة، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وهي مشتملة على عشر جمل، فأول جملة كلمة التوحيد: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا معبود بحق سواه. الحي القيوم: فالحي الذي له الحياة الكاملة، يعني: لا يلحق حياته نقص ولا نوم ولا ضعف ولا موت، والقيوم القائم بنفسه المقيم لغيره. قوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) أي: لأنها كلمة التوحيد التي هي أصل الدين وأساس الملة، وأفضل الكلام وأعظمه. قوله: (والإله: هو الذي يألهه القلب عبادة له واستعانة ورجاءً له وخشية وإجلالاً وإكراماً) هذا هو الإله، ولهذا فإن من أله غير الله فإنه يكون مشركاً.

[9]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [9] القرآن كلام الله بألفاظه ومعانيه، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وقال أهل البدعة والضلال: القرآن مخلوق، ومنهم من قال: هو عبارة عن كلام الله، فخالفوا بذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف.

القرآن كلام الله تعالى

القرآن كلام الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف؛ وروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: مازلت أسمع الناس يقولون ذلك]. قوله: (الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت) هذا مما جاءت به السنة، وهو أن المسلم يقتصد في السنة ويتبعها كما جاءت من غير غلو ولا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، وهو أن يثبت الصفات لله، ومن ذلك الكلام، فإن القرآن كلام الله. ولهذا قال المؤلف: (فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق) كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193 - 194]، فهو منزل غير مخلوق، وقد كفّر العلماء من قال: إن القرآن مخلوق. وقوله: (منه بدأ وإليه يعود) منه بدأ: يعني تكلم الله به، خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: لم يتكلم به، وإنما الكلام معنى قائم بالنفس، وجبريل لم يسمع من الله حرفاً ولا صوتاً، ولكنه اضطر جبريل، ففهم الكلام القائم بنفسه فعبر عنه، فالقرآن عبارة عبّر بها جبريل، وبعضهم يقول: عبّر بها محمد، وبعضهم يقول: أخذه جبريل من اللوح المحفوظ، والله لم يتكلم بحرف ولا صوت. وهذا من أبطل الباطل. وقوله: (وإليه يعود) في آخر الزمان، وذلك إذا ترك الناس العمل به نزع القرآن من الصدور ومن المصاحف، وهو من أشراط الساعة الكبرى نعوذ بالله، فيصبح الناس لا يجدون في صدورهم أو في مصاحفهم آية، نعوذ بالله. (هكذا قال غير واحد من السلف. وروى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: مازلت أسمع الناس يقولون ذلك) أي: يقولون: بأن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره وإن تلاه العباد، وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم؛ فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، وقال تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:2 - 3]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78]. ] وهذا هو الحق المبين، فالمؤلف رحمه الله يقول: (والقرآن الذي أنزله الله على رسوله هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم) أي: أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وسمعه جبرائيل من الله، ونزل به جبرائيل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: (هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم؛ فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً) فإذا قرأت القرآن كنت مبلغاً مؤدياً، والكلام كلام الله، فإذا قرأ أحد هذا الشعر فقال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل قال: هذا البيت لـ امرئ القيس وليس من كلامي وإنما أنا مبلغ مؤد. وإذا قال قائل: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، قلت: هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت تبلغه، وليس من كلامك؛ فالكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً. وكذلك القرآن كلام الله، فإذا قرأه القارئ فهو يقرأ كلام الله، وهو مبلغ له، فالكلام لمن قاله مبتدءاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، والشاهد قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فدل على أن القرآن مسموع، وهذا القرآن في المصاحف كما قال سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، وقال: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:2 - 3] وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78]، فالقرآن كلام الله على أي حال كان؛ فإن قرأه القارئ فالمقروء كلام الله، وإن سمعه السامع فالمسموع كلام الله، وإن كتبه الكاتب فالمكتوب كلام الله، وإن حفظه الحافظ فالمحفوظ كلام الله، فكلام الله مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، معلوم في القلوب.

القرآن كلام الله لفظا ومعنى

القرآن كلام الله لفظاً ومعنى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات)، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. ] قوله: (القرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه): فهذا هو الحق وهو معتقد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة يقولون: إن القرآن ليس بكلام الله لا لفظاً ولا معنى، ولكنه مخلوق من مخلوقات الله، وهذا كفر وضلال. والأشاعرة يقولون: إن القرآن كلام الله معنى لا لفظاً، فالمعنى كلام الله، واللفظ ليس بكلام الله وإنما هو كلام جبريل أو كلام محمد، وهذا نصف مذهب المعتزلة، فالمعتزلة يقولون: إن القرآن مخلوق لفظه ومعناه، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه ليس بمخلوق، فالقرآن اسم للمعنى فقط، أما اللفظ فليس داخلاً في اسم القرآن. وهنا رد المؤلف رحمه الله فقال: (القرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف) كما في الحديث: (من قرأ القرآن فأعربه فله في كل حرف عشر حسنات)، يعني: إذا كان يوضحه ويقرؤه بترتيل وإخراج الحروف من مخارجها، بخلاف من يقرؤه وهو يتتعتع فيه، (فمن قرأ القرآن فأعربه وهو ماهر فيه فهو مع السفرة الكرام البررة، ومن قرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران)، كما في الحديث. ولهذا قال: (وإعراب الحروف هو من تمام الحروف) فمن تمام الحروف: أنك تخرج الحروف من مخارجها، وتلتزم بأحكام التجويد التي وردت، والالتزام بأحكام التجويد سنة وليس بواجب، والقراءة المجودة أفضل من غيرها، وإذا قرأت القرآن ولم تلتزم بأحكام التجويد فلا بأس بشرط أن تخرج الحروف من مخارجها، ولا تسقط شيئاً من أجزاء الحروف، وأما قول الجزري: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم فليس بصحيح، وليس بآثم، بل هو سنة مستحبة؛ فالمطلوب والواجب: قراءة القرآن وإخراج الحروف من مخارجها، فإذا لم تسقط شيئاً من الحروف وأديتها كما هي فقد أديت ما عليك، أما كونك تجود وتلتزم بالمدود كالمد المتصل والمد المنفصل والإدغام بغنة والإدغام بغير غنة، والإخفاء والإظهار والإقلاب، فهذا من باب الكمال والأفضلية لا غير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات). وقال أبو بكر رضي الله عنه: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

الشكل والتنقيط في المصحف

الشكل والتنقيط في المصحف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كتب المسلمون مصحفا فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز ذلك؛ كما كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأن القوم كانوا عرباً لا يلحنون، وهكذا هي المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار في زمن التابعين]. قوله: (إذا كتب المسلمون مصحفاً فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز)؛ لأن العبرة بالكلمة، وأما النقط والتشكيل فهذا من باب التحسين والتجويد؛ ولذلك كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأنهم كانوا عرباً لا يخطئون، ويقال في قصة: إن رجلاً قرأ المصحف من أوله إلى آخره وليس فيه تشكيل ولا تنقيط، ومع ذلك لم يخطئ إلا في كلمة واحدة، وهي قوله عز وجل في سورة الروم: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15]، فقد قرأها: يخبزون، والله أعلم بحال القصة، ولكنها تؤيد ما قاله المؤلف من أن الصحابة كانوا عرباً لا ينقطون ولا يشكلون. ويقال: إن أول من نقط وشكل هو الحجاج بن يوسف وهذا من حسناته، وكان الحجاج بن يوسف فاسقاً مسرفاً ظالماً، فقد أسرف في القتل، ولكن من حسناته: أنه أمر بتشكيل المصحف وتنقيطه. وكانت المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار ليس فيها تنقيط ولا تشكيل، وإنما فيها الكلمات فقط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم فشا اللحن، فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك، وفيه خلاف عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من العلماء، قيل: يكره ذلك؛ لأنه بدعة، وقيل: لا يكره للحاجة إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل؛ لبيان الإعراب، والصحيح أنه لا بأس به]. بين المؤلف رحمه الله: أن الصحابة والتابعين ليسوا بحاجة إلى التنقيط والتشكيل؛ لأنهم عرب، ثم بعد ذلك فشا اللحن في اللسان وفسد بسبب دخول الأعاجم. فلما فتحت الأمصار واختلط الناس بالأعاجم فسد اللسان العربي، فصاروا يحتاجون إلى تنقيط وتشكيل، ثم بعد ذلك وجد علم النحو، ولم يكن الناس بحاجة إليه، ولذلك أمر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي أن يضع مبادئ علم النحو؛ لأن الناس اختلطوا بالأعاجم بعد فتحهم الأمصار، ففسد اللسان، فاحتاجوا إلى التنقيط والتشكيل ووضع علم القواعد، أما قبل ذلك فلم يحتاجوا إلى شيء؛ لأنهم عرب فصحاء؛ ولهذا قال: (ثم فشا اللحن فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك، وفيه خلاف عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من العلماء) فبعض العلماء يكره أن تشكل بخط الحروف، وبعضهم قال: لا يكره، (قيل: يكره ذلك؛ لأنه بدعة، وقيل: لا يكره للحاجة إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل؛ لبيان الإعراب) قال المؤلف رحمه الله: (والصحيح أنه لا بأس به) للحاجة إليه.

إثبات الصوت لله تعالى

إثبات الصوت لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والتصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت) إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليه سلف الأمة وأئمة السنة]. يعني: أنه يجب التصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يتكلم بصوت، وينادي آدم بصوت كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي آدم يوم القيامة، يقول: يا آدم! -بصوت- فيقول: لبيك وسعديك! فيقول الرب سبحانه: أخرج بعث النار. فيقول: يا رب من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة). وفي الحديث الآخر: (إن الله ينادي بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب)، لهذا احتج العلماء: على أن كلام الله يكون بحرف وصوت، وأنكر الأشاعرة أن يكون كلام الله بصوت، وقالوا: إن كلام الله لا يُسمع، فهو معنى قائم في نفسه مثل العلم، ليس بحرف ولا صوت، وهذا باطل.

حكم قول الإنسان: لفظي بالقرآن مخلوق والمداد قديم

حكم قول الإنسان: لفظي بالقرآن مخلوق والمداد قديم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق حيث تلي وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل في أفعال العباد، ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق، وأما من قال: إن المداد قديم، فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]]. كل هذه المباحث تتعلق بالقرآن، والسبب في هذا: أن أهل البدع تكلموا في الباطل؛ فاضطر أهل السنة كـ شيخ الإسلام وغيره إلى الرد عليهم، وإلا فإن هذه الأمور لا تنبغي؛ لأن هذه الأمور معلومة من الدين بالضرورة. ولذلك يقول المؤلف: (وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله غير مخلوق) رداً على المعتزلة الذين يقولون: كلام الله مخلوق، وقالوا: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، يقول المؤلف: (كلام الله غير مخلوق حيث تلي وحيث كُتب) فإن تلي فالمتلو هو كلام الله، وإن كتب فالمكتوب كلام الله، قال المؤلف: (فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة)؛ لأن هذا من البدع، ولأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد. ولأنه إذا قيل إنها مخلوقة يدخل فيه القرآن وهو منزل غير مخلوق، وإذا قيل غير مخلوق يدخل فيه أفعال العباد، ولهذا قال الإمام أحمد في كلمته المشهورة: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع، ولم يقل قط أحد من السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق، وأما من قال: إن المداد قديم فهذا من أجهل الناس -والمداد: هو الحبر الذي يكتب به- والحبر معروف أنه حادث يكتب به، فهذا من أجهل الناس وأبعدهم من السنة، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، فأخبر أن المداد تكتب به كلماته.

القول بأنه ليس القرآن في المصحف

القول بأنه ليس القرآن في المصحف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصية يمتاز بها عن سائر الأشياء]. قوله: (من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال) هذا الكلام يقوله الأشاعرة والكلابية، فالأشاعرة يقولون: ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، والكلابية يقولون: ما في المصحف حكاية عن كلام الله، ويقولون: كلام الله معنى قائم بنفسه، وأما المصحف فليس فيه كلام الله -والعياذ بالله- حتى إن بعض الفسقة يغلو ويدوس المصحف بقدميه، ويقول ليس فيه كلام الله؛ فكلام الله في نفسه لا يسمع، وهذا من أبطل الباطل، ويقولون: إن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وحكاية وعبارة عن كلام الله، أما كلام الله فهو في نفسه لا يسمع، وليس بحرف ولا صوت، وهذا بدعة وضلال، وهو قول المبتدعة والضلال من الأشاعرة والكلابية. وأما القول الحق فيقول: بل القرآن الذي أنزله الله على محمد هو ما بين دفتي المصحف، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصية يمتاز بها عن سائر الأشياء، فالمسلمون يقولون: إن هذا المصحف فيه كلام الله فيحترمونه ويعظمونه ويرفعونه.

القول بأن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة

القول بأن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة فهو مبتدع ضال، كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت فإنه أيضاً مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم فهو ضال، كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله]. وهذا الكلام من ألفاظ أهل البدع، فمن زاد على السنة وقال: ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة فهو مبتدع ضال، لأن هذا مخالف لقول أهل السنة، وكذلك من قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت فهو مبتدع مخالف للسنة، وهذا قول الأشاعرة والكلابية، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم -والمداد حادث- فهو ضال، كمن قال: ليس في المصحف كلام الله فهو ضال، ومن قال: إن الحبر الذي يكتب به قديم فهو ضال.

القول بأن الورق والجلد من كلام الله

القول بأن الورق والجلد من كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة. ] فهؤلاء مبتدعة يقابلهم المبتدعة الذين يقولون: ما في المصحف هو كلام الله، وزاد بعض الجهال أن قالوا: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله، وهؤلاء عكس أولئك، فالأشاعرة يقولون: ليس في المصحف كلام الله، وليس فيه إلا ورق وجلد ومداد وحروف وأصوات ويجوز لك أن تدوسها بقدميك، وليس فيه كلام الله وقابلهم بعض الجهال فقال: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله، فهؤلاء مبتدعة وأولئك مبتدعة، فالجلد ليس بكلام الله، والورق ليس بكلام الله، لكن كلام الله مكتوب في المصحف، وأما الورق والجلد والمداد فليس كلام الله، فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، وهذا الغلو من جانب الإثبات يقابله الغلو من جانب النفي، يعني: أن الأشاعرة الذين يقولون: ليس في المصحف كلام الله غلو في النفي، وهؤلاء الذين قالوا: إن الورق والجلد كلام الله غلو من جهة الإثبات فهؤلاء يقابلون هؤلاء، ولهذا قال المؤلف: هذا الغلو من جانب الإثبات يقابله الغلو من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.

إفراد الكلام في النقط والشكل

إفراد الكلام في النقط والشكل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكل بدعة نفياً وإثباتاً، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل، فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم فهو ضال جاهل، ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن فهو ضال مبتدع، بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه، ويقال: ما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه. ] قوله: (وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكل بدعة نفياً وإثباتاً) يعني: كأن يقال: هذه النقطة من كلام الله أو هذا الشكل من كلام الله، أو هذه النقطة ليست من كلام الله أو هذا الشكل ليس من كلام الله، يقول المؤلف: فهذه بدعة، فلا يقال هذه النقطة من كلام الله، ولا يقال ليست من كلام الله، فالذي يقول: إن هذه النقطة من كلام الله أو ليست من كلام الله فهو مبتدع، والذي يقول: هذه التشكيلة من كلام الله أو ليست من كلام الله فهذا مبتدع أيضاً. يقول المؤلف: (وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل؛ فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم فهو ضال جاهل) والمداد: هو الحبر الذي تنقط به الحروف وتشكل، وهو حبر معروف تركيبه. قوله: (ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن فهو ضال مبتدع) فإعرابه: كالمدود، وكذلك إخراج الحروف من مخارجها، وهذا كله من القرآن، فمن قال: إنه ليس من القرآن فهو ضال مبتدع. ثم قال المؤلف: (بل الواجب أن يقال هذا الكلام العربي هو كلام الله) أي: أن هذا القرآن العربي الموجود في المصاحف والذي نقرأه هو كلام الله، ويدخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت المعاني، ويقال: إن ما بين اللوحين جميعه كلام الله، أي: ما بين الغلاف الأول والثاني، وهذا هو الحق، وكذلك يقال: إن القرآن العربي كلام الله ويدخل فيه حروفه بإعرابها وتدخل فيه معانيه، فنقول: إن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه. يقول المؤلف: (فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً) أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، وإن كان غير منقوط ولا مشكول -كما في المصاحف القديمة التي كتبها الصحابة- كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله. يقول المؤلف: إن الصحابة كتبوا القرآن خالياً من النقط ومن غيره، فيقال: ما بين اللوحين هو كلام الله، وجاء من بعدهم من نقطها وشكلها فيقال: أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله، فإن كان مشكولاً منقوطاً فهو كلام الله، وإن كان ليس بمشكول ولا منقوط فهو كلام الله أيضاً. يقول المؤلف: (فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي)؛ لأنه حصل نزاع في زمنه رحمه الله، فبعضهم قال: إن النقط ليست من كلام الله، والتشكيل ليس من كلام الله، وبعضهم قال: بل هو كلام الله، فالمؤلف يقول: بأن هذه فتنة، ويقول: إن المصاحف القديمة مكتوبة بدون نقط ولا شكل ومع ذلك فهي كلام الله، وإن كانت منقوطة مشكولة فهي كلام الله أيضاً، فلا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه والله أعلم.

[10]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [10] من عقيدة أهل السنة والجماعة: السكوت عما شجر بين الصحابة من الفتن، وعدم الخوض فيها، مع اعتقادهم أن كلا الفريقين لا يخرجون عن مسمى الإيمان، وهو نعت القرآن، الذي هو كلام الواحد الديَّان، واعتقادهم أن الصحابة مجتهدون في ذلك لا يعدمون أجر الصواب، وأجر الخطأ، ومن عقيدة جمهور أهل السنة: عدم لعن يزيد بن معاوية وعدم محبته، وأمره إلى الله، وهو أحكم الحاكمين.

الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة

الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم، فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عليه مْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)]. يقول المؤلف رحمه الله: (وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة) يعني بالصحابة: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرابة: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي كما سبق: هو كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام، ولو تخللته ردة في الأصح، والقرابة: هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، فيجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله بالإنصاف والعدل، لا بالهوى والتعصب، ولا يجوز الغلو في جانب الصحابة كأن يعتقد الإنسان أنهم معصومون، أو أنهم يستحقون شيئاً من الألوهية، كما لا يجوز الجفاء مثل: سب الصحابة وإيذائهم، فكل ذلك من المنكرات العظيمة، فالواجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة، واعتقاد فضلهم وسابقتهم وخيريتهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم. وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر قرابة النبي صلى الله عليه وسلم بدون غلو كما تفعل الرافضة، فإنهم يعبدونهم من دون الله، ومن دون جفاء كما تجفو النواصب من الخوارج وغيرهم، فإنهم جفوا آل البيت وكفروا علياً ومن شايعه، فالواجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة، ويكون ذلك بالترضي عنهم، والترحم عليهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه مثل قوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) وهم الصحابة رضوان الله عليهم ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) وهذا وصفهم ((تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ)) يعني: قواه ((فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله من قوله: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)): أن من أغاظ الصحابة فهو كافر؛ لأن الله أخبر: أنه يغيظ بالصحابة الكفار، قال: فمن أغاظ الصحابة فإنه يكون مرتداً -نعوذ بالله- لأن الله قال: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) فمن سب أو أغاظ الصحابة فإنه يكون كافراً لهذه الآية كما قاله الإمام مالك رحمه الله. قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، وهذا ثناء على الصحابة، ووعد كريم، فكيف يسب الصحابة من يؤمن بالله واليوم الآخر؟! وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عليهمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وهذا: في أهل بيعة الرضوان وكانوا ألفاً وأربعمائة. وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام مسلم عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، فهذا وعد كريم، وقد كانوا ألفاً وأربعمائة، وقال سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحسنى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10]، كلهم وعدهم الله بالحسنى وهي: الجنة، وهو وعد كريم، وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد بن الوليد، لما حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف سوء تفاهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً خالداً بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: المتقدمين في الصحبة، وإلا فـ خالد صحابي، لكن إسلامه تأخر فلم يسلم إلا بعد صلح الحديبية، وعبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين، وبينهم تفاوت في الصحبة، والصحابة طبقات، وهناك طبقة بعدهم: وهم الذين أسلموا يوم الفتح، ويقال لهم: مسلمة الفتح. والسابقون الأولون: هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية وهذا هو الصواب، وقيل: المراد بالسابقين الأولين: من صلى إلى القبلتين بيت المقدس والكعبة، لكن هذا قول ضعيف، والصواب: أن السابقين الأولين: هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وجاهدوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية، فقد سماه الله فتحاً في سورة الفتح فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على عمر قال: أفتح هو؟ قال: نعم. فقال سبحانه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، فلما حصل بعض الكلام بسبب سوء التفاهم بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، فكأن خالداً سب عبد الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً خالداً وكان ممن تأخر إسلامه وتأخرت صحبته: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: المتقدمين في الصحبة كـ عبد الرحمن بن عوف، فلا تسبوا -أيها المتأخرون في الصحبة- أصحابي المتقدمين في الصحبة فإن بينكم تفاوتاً عظيماً: (فوالذي نفسي بيده!) وهذا قسم، وهو الصادق عليه الصلاة والسلام وإن لم يقسم، لكن لتأكيد الأمر، وفيه: إثبات اليد لله عز وجل، قوله: (فوالذي نفسي) أي: نفس النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، يعني: لو أن أحدكم -أيها المتأخرون في الصحبة كـ خالد بن الوليد ومن أسلم بعد الحديبية -أنفق مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فلو أن خالداً أنفق مثل أحد ذهباً، وأنفق عبد الرحمن مداً، والمد: ملء كفي الرجل المتوسط، أو نصف مد لسبق عبد الرحمن لتقدمه في الإسلام على خالد، فإذا كان هذا التفاوت بين الصحابة أنفسهم، فكيف بالتفاوت بينهم وبين التابعين؟ وخالد رضي الله عنه أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، وهناك طبقة بعدهم: وهم الذين أسلموا بعد فتح مكة ويقال لهم: الطلقاء، ومنهم: معاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، وأبوه أبو سفيان، ويقال لهم أيضاً: مسلمة الفتح، فهم طبقات، فإذا كان هذا التفاوت بين الصحابة أنفسهم، فكيف بالتفاوت بين الصحابة ومن بعدهم، فهو أعظم وأعظم.

فضل بعض الصحابة على بعض

فضل بعض الصحابة على بعض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثيرة ليس هذا موضعها] يقول المؤلف رحمه الله: (اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما) يعني: أنهم اتفقوا على تقديم الشيخين في الأفضيلة وفي الخلافة، فاتفق أهل السنة والجماعة: على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، واتفقوا أيضاً: على أن الخليفة بعده هو أبو بكر ثم عمر، وكذلك اتفق الصحابة رضي الله عنهم: على بيعة عثمان بعد عمر، وأن الخليفة الثالث: هو عثمان، وهذا مجمع عليه بين أهل السنة والجماعة، واتفقوا على أن الخليفة الرابع: هو علي بن أبي طالب، فترتيب الصحابة والخلفاء الأربعة في الخلافة متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وأن الخليفة الأول: أبو بكر، والخليفة الثاني: عمر، والخليفة الثالث: عثمان، والخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. واتفقوا أيضاً: على أن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة سواءً بسواء، وأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، إلا أنه وقع خلاف بين بعض أهل السنة في الفضيلة بين عثمان وعلي، فروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن علياً أفضل من عثمان، وقال به بعض العلماء، وقال بعض أهل العلم بالتوقف، والجمهور على أن عثمان أفضل، ثم انقرض هذا الخلاف واتفق على تقديم عثمان على علي في الفضيلة، وهذا في الفضيلة فقط، أما ترتيبهم في الخلافة ففيه إجماع، فمن قدم علياً على عثمان في الخلافة فقد ضل، بخلاف من قدم علياً على عثمان في الفضيلة فهذا لا يضل، وهذه مسألة سهلة خفيفة. ولهذا يقول العلماء: من قدم علياً على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله. وقال بعض التابعين: من قدم علياً على عثمان في الخلافة فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. يعني: احتقرهم؛ وقد أجمع المهاجرون والأنصار على تقديم عثمان ومبايعته بالخلافة بعد عمر، فالخلافة مجمع عليها، لكن الخلاف في الفضيلة بين علي وعثمان، فالجماهير على أن عثمان أفضل، وبعض العلماء توقف، وبعض العلماء قدم علياً على عثمان، ولكن هذا الخلاف انقرض، واتفق العلماء على تقديم عثمان على علي في الفضيلة كتقديمه عليه في الخلافة، والتقديم في الفضيلة أمره سهل مع أنه انقرض، وإنما الأمر المنكر هو تقديم علي على عثمان في الخلافة، فمن قدم علياً على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، وقد احتقر الصحابة من المهاجرين والأنصار المجمعين على تقديم عثمان على علي في الخلافة. ولهذا قال المؤلف في كتابه: (واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً) يعني: اتفق العلماء على أن الخلفاء الراشدين هم الأربعة، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ودل على ذلك الحديث الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً)، فإذا حسبت مدة خلافة الخلفاء الراشدين وجدتها ثلاثين سنة، فـ أبو بكر سنتان وثلاثة أشهر، وعمر عشر سنين ونصف، وعثمان اثني عشرة سنة، وعلي أربع سنين وستة أشهر، والحسن بن علي ستة أشهر، فقد بويع له بالخلافة بعد قتل أبيه رضي الله عنهما، وبقي في الخلافة ستة أشهر، ثم تنازل عن الخلافة لـ معاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين، فإذا جمعت هذه المدة وجدتها ثلاثين سنة. (ثم تصير ملكاً)، وأول ملوك المسلمين: هو معاوية بن أبي سفيان فقد بويع له بالخلافة عام أربعين، وتمت له البيعة، وسمي ذلك العام: عام الجماعة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، يعني: الزموها، والشيء الذي يلزمه الإنسان ويهتم به يعض عليه بالنواجذ، والنواجذ: هي الأسنان التي تلي الثنايا، قال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، يعني: الأمور المحدثة في الدين (فإن كل بدعة ضلالة)، (وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا -يعني: في الفضيلة- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) واتفقوا على أن يقولوا في الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثيرة ليس هذا موضعها).

الإمساك عما شجر بين الصحابة من عقيدة أهل السنة والجماعة

الإمساك عما شجر بين الصحابة من عقيدة أهل السنة والجماعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين فلهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم وما كان من السيئات، وقد سبق لهم من الله الحسنى، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة، أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم)، وهذه خير أمة أخرجت للناس]. يقول المؤلف رحمه الله مبيناً معتقد أهل السنة والجماعة: (وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم) يعني: أن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإمساك -ومعنى الإمساك: هو السكوت- عما شجر بين الصحابة، يعني: عما حصل بينهم من الخلاف، كالنزاع والقتال، فيجب الإمساك عنه، ولا يجوز إفشاؤه. قال المؤلف رحمه الله: (ونعلم أن المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين) أي: في الشيء الذي ثبت عنهم، وبين المؤلف رحمه الله هذا المعنى بشكل أوضح في رسالة العقيدة الواسطية فقال: والمنقول عن الصحابة أنواع: منها: ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنها: ما يوجد له أصل، ولكن زيد فيه أو نقص منه أو غير عليه، ومنها: ما هو ثابت في الصحيح، والثابت في الصحيح بين أمرين: فإما مجتهد مصيب له أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، وإما مجتهد مخطئ فله أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور. ثم نعتقد أن كل واحد من الصحابة ليس معصوماً من كبائر الذنوب ولا من صغائرها، فهم ليسوا أنبياء، والعصمة للأنبياء فقط، فالنبي معصوم عن الشرك وعن الكبائر ومعصوم فيما يبلغ عن الله، أما الواحد من الصحابة فليس معصوماً وقد تقع منه الذنوب، لكن إذا وقع منه الذنب فهناك أسباب المغفرة، فإن ما يحصل من الصحابة اجتهاد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وإن وقع في ذنب محقق فأسباب المغفرة كثيرة: فقد يتوب إلى الله، فإما أن يغفرها الله له بتوبته فيتوب عليه، أو يغفرها له بإقامة الحد عليه في الدنيا مثلاً، أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم، وهم أولى الناس بشفاعته، فإنهم خير قرون هذه الأمة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وهم كانوا مجتهدين) أي: فيما شجر بينهم، إما مصيبين فلهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح، ومغفور لهم ما كان عليهم من السيئات. وقد سبق لهم من الله الحسنى، ووعدهم الله بالجنة، فإن الله يغفر لهم الذنوب المحققة: إما بتوبة، أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك مثل: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير قرون هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم)، وبهذا يتبين أن معتقد أهل السنة والجماعة: الإمساك والسكوت عن الخلافات التي حصلت بين الصحابة فلا تتحدث عنها ولا تنشرها. وبهذا ينبغي ألا تستمع للأشرطة التي سجلها بعض الناس في الصحابة والخلاف الذي بينهم، لأن هذه طريقة أهل البدع، فبعض الناس يسجل أشرطة ينقل فيها النزاع والخلاف والحروب التي حصلت بين الصحابة وينشرها، ويتكلم بالكلام السيئ، مثل أشرطة طارق السويدان، فـ طارق السويدان له أشرطة سيئة عن الصحابة، فلا ينبغي لطالب العلم استماعها، بل ينبغي له البعد عنها والتحذير منها؛ لأنها مخالفة لمعتقد أهل السنة والجماعة، ومعتقد أهل السنة والجماعة هو: السكوت عما شجر بين الصحابة من الخلافات وغيرها، واعتقاد أنهم أفضل وأخير الناس بعد الأنبياء، وأن ما حصل بينهم من اختلاف لا يخرج عن كونه إما مجتهد مصيب له أجران أو مجتهد مخطئ له أجر، وأن ما يروى عنهم من الأخبار لا يخرج عن كون بعضها كذباً لا أساس له من الصحة، وبعضها له أصل لكن زيد فيه بعض الكذب، أو نقصوا فيه، أو غيروه عن وجهه. وبعض الذنوب المحققة صحيح ثابت، لكن هذا الثابت إما أن يمحى عنه بالتوبة أو بالحسنات أو بالمصائب أو بسابقتهم وفضلهم وجهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتبين أن من ينشر ويثير الخلافات بين الصحابة فهو مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة، ويجب هجره وعدم الاستماع لكلامه، ومن ذلك: أشرطة طارق السويدان، فينبغي هجرها وتركها وعدم سماعها والتحذير منها، لما فيها من مخالفة لمعتقد أهل السنة والجماعة بنشر ما شجر بين الصحابة من الخلافات.

الإمساك عما شجر بين علي ومعاوية مع اعتقاد أن كون الحق والصواب مع علي

الإمساك عما شجر بين علي ومعاوية مع اعتقاد أن كون الحق والصواب مع علي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعلم مع ذلك أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه، لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)، وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق] يقول المؤلف رحمه الله: بأن الخلاف والنزاع الذي حصل بين أهل العراق وهم علي رضي الله عنه ومن معه، وبين أهل الشام وهم معاوية ومن معه، بأن الحروب التي حصلت بينهم كانت عن اجتهاد منهم فيها، فهم مجتهدون فمنهم المصيب له أجران ومنهم المخطئ له أجر، ونعلم أن علياً رضي الله عنه أفضل من معاوية وأقرب إلى الحق منه وممن قاتله معه، والدليل على أنه أقرب إلى الحق: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين)، فقوله: تمرق بمعنى: تخرج عن الدين، وهم الخوارج، قال: (تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)، وكان علي هو من قتلهم فصار أقرب إلى الحق من معاوية. يقول المؤلف: (وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حق وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق). والحديث فيه دليل على أن معاوية معه حق وكذلك علي رضي الله عنهما، لكن الأقرب إلى الحق هو علي رضي الله عنه، ومما يدل على ذلك أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمار: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، فقتله جيش معاوية، فدل على أن معاوية ومن معه بغاة، لكن لا يعلمون أنهم بغاة، وذلك أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه بويع بالخلافة من قبل أهل الحل والعقد، فامتنع معاوية وأهل الشام من البيعة، فتكلم بعضهم مع معاوية وقال بأنه يجب عليكم أن تبايعوا، وقد ثبتت البيعة لـ علي فلماذا لا تبايعون؟ فامتنع معاوية وأهل الشام، وقالوا: لا نبايع أحداً مع أننا نعتقد أنك أولى بالخلافة منا، لكن يجب عليك تسليم قتلة عثمان الذين قتلوه حتى نقتلهم، لأن معاوية أقرب الناس إليه، ونخشى أن يزيد طغيانهم وشرهم، فقال علي رضي الله عنه: أنا أوافقكم على ذلك، لكني لا أستطيع أن أسلمكم قتلته الآن، فلا أعرف من الذي قتل عثمان؛ لأنه مندس لا يعرف، وحتى لو عُرف فإن قبيلته تنتصر له فالأمر شديد جداً، فإذا استتب الأمر فإننا نأخذ قتلة عثمان ونقتلهم، فقال أهل الشام: بل أعطونا قتلة عثمان الآن، ومن هنا حصل الخلاف، وهذه أسبابه. فلما رأى علي رضي الله عنه أنهم لم يبايعوه أراد أن يخضعهم بالقوة ولابد من قتالهم، فانضم إلى علي أكثر الصحابة معتقدين أنه على الحق وأن أهل الشام بغاة يجب إخضاعهم؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، فانضم جماهير الصحابة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه الآية، وقالوا: بأن أهل الشام بغاة، والله أمرنا أن نقاتل البغاة إذا لم يفيئوا إلى أمر الله، فلما لم يبايعوا قاتلهم علي رضي الله عنه، فدافعوا عن أنفسهم وهذا سبب الخلاف. ولم ير علي رضي الله عنه أن معاوية وأهل الشام من المؤلفة قلوبهم، فلم يستقر الإسلام في قلوبهم بعد -والمؤلفة قلوبهم: هم الذين دخلوا الإسلام من قريب- وكان معاوية بن أبي سفيان ممن دخل في الإسلام من قديم، فليسوا من المؤلفة قلوبهم، فلم يبق إلا القتال فقاتلوهم، وهذا هو الصواب. فكان الصواب مع علي رضي الله عنه، وكان أهل الشام ومعاوية متأولين، فقالوا: نحن لا نمانع ولا نطالب بالخلافة، وإنما نطالب بدم عثمان لأننا أولياؤه، فأعطونا القتلة ثم نبايع بعد ذلك. ويرى علي رضي الله عنه أنه الخليفة الراشد الذي تمت له البيعة فيجب إخضاعهم له، وأما مطالبتهم بالدم فيكون بعد ذلك، فهذا هو بداية منشأ النزاع. وهذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (ونعلم أن علياً كان أفضل وأقرب إلى الحق).

حكم معتزلي هذه الفتنة

حكم معتزلي هذه الفتنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة كـ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة، وعلى ذلك أكثر أهل الحديث] يعني: أن طائفة من الصحابة اعتزلوا الفريقين، فلم يقاتلوا مع علي ولم يقاتلوا مع معاوية؛ لأن الأمر اشتبه عليهم فقالوا: لا ندري هل الحق مع علي أم مع معاوية؟ وقالوا: بأن النصوص الكثيرة قد جاءت بالأمر بالاعتزال في الفتنة وعدم الدخول فيها، وهذه فتنة، ومنها: (اعتزل الفتنة)، ومنها: (اكسر سيفك في الفتنة)، وكذلك منها: (إذا كنت قائماً فاقعد، وإن كنت قاعداً فاضطجع). فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نجلس في الفتنة وألا نشارك فيها وأن نكسر سيوفنا، فاشتبه الأمر عليهم. وكان سعد بن أبي وقاص ممن اعتزل الفريقين، فلم يقاتل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وكذلك ابن عمر، وأبو بكرة، وأسامة بن زيد، فقد اتعظ لما قتل رجلاً وعنفه النبي صلى الله عليه وسلم وشدد عليه فلم يدخل مع الفريقين، واعتزل سلمة بن الأكوع الفريقين وذهب إلى البادية وتزوج، وقال: إن الرسول أذن لي في البدو، فكان هؤلاء الصحابة ممن اشتبه الأمر عليهم فلم يتبين لهم مع من الحق، ويسميهم بعض الناس: مرجئة الصحابة؛ لأنهم أرجئوا أمر هؤلاء وهؤلاء إلى الله ولم يعلموا أن الحق مع هؤلاء أو مع هؤلاء، وكان الصواب مع علي ومن قاتل معه، وهذا هو الذي عليه جماهير الصحابة، فوجب القتال معه؛ لأنه الخليفة الراشد عملاً بالآية الكريمة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا} [الحجرات:9]، فقال: (قاتلوا) ولم يقل: اجلسوا، قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]، فأكثر الصحابة قاتلوا معاوية عملاً بهذه الآية، ولأنهم بغاة لم يبايعوا، فيجب إخضاعهم حتى لا تكون فتنة، وكل له عذر، فـ علي مصيب وعذره معروف، ومعاوية وأصحابه مجتهدون ولهم عذر، ومن اعتزل الفريقين أيضاً له عذر، فكل له عذر.

فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هم؟

فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هم؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، وآل محمد: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وحرّم الله عليهم الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، وقد قال بعض السلف: حب أبو بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق. وفي المسانيد والسنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس لما شكا إليه جفوة قوم له: (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي). ] يقول المؤلف رحمه الله: (وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها) ويطلق آل البيت على قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، وهم: عمه العباس، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن والحسين، وزوجاته من أهله أيضاً، فكل هؤلاء يطلق عليهم اسم الآل، ويطلق آل النبي على أتباعه في الدين، وهذا هو الصواب، فيشمل القرابة وغيرهم، ولكن قد يطلق آله على قرابته انفراداً إذا قيل: إن الصدقة تحرم على آل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في الصلاة حين تقول: اللهم صل على محمد وآله، فالمراد به: أتباعه على دينه. ويقول المؤلف رحمه الله: (آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: قرابته، (لهم من الحقوق ما يجب رعايتها) فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، والفيء: ما يغنمه المسلمون من أموال الكفار بلا قتال. أما ما أخذ من أموالهم بعد القتال فيسمى: غنيمة، والفرق بين الغنيمة والفيء: أن الغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار بعد القتال، والفيء: ما أخذ من أموال الكفار بدون قتال. فإذا قاتل المسلمون الكفار ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وغنموا أموالهم فإن الأموال تجمع ثم تقسم أربعة أخماس على الغانمين، وينزع الخمس الخامس ثم يقسم خمسة أقسام، فخُمس لله وللرسول، وخمس لقرابة الرسول -وهم بنو هاشم وبنو المطلب- وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل، وهذا معنى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41].

أنواع الصلوات الواردة على النبي وآله وأفضلها

أنواع الصلوات الواردة على النبي وآله وأفضلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها، فإن الله جعل لهم الحق في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال لنا: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)، ويشملهم قرابته المسلمون وأتباعه إلى يوم القيامة، أما غير المسلم فلا يدخل في هذا المعنى، وهذا هو الصواب. قال: (كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) وهذا نوع من أنواع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) فجمع بين محمد وآل محمد في الصلاة، وفي الصلاة على إبراهيم قال: (كما صليت على آل إبراهيم) وهذا نوع من الصلاة، (إنك حميد مجيد) وفي التبريك جمع بين محمد وآل محمد فقال: (وبارك على محمد وعلى آل محمد) وقال في إبراهيم: (كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد). والنوع الثاني: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم) والفرق بينهما أن في الأولى قوله: (آل إبراهيم) وهذه إبراهيم. وهناك نوع ثالث: وهو قوله: (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، وبارك على محمد وأزواجه وذريته). وأكمل ما ورد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قولوا اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد). فجمع بين محمد وآل محمد وإبراهيم وآل إبراهيم في الصلاة وفي التبريك، وفي بعضها: (اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، وكلها حق، لكن أكملها هو الجمع بين محمد وآل محمد وإبراهيم وآل إبراهيم في الصلاة وفي التبريك، وقد خفي هذا على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -مع علمه وحفظه العظيم للصحاح والسنن والمسانيد- فقال: لم يرد الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم في الصلاة، وقد تبعه على ذلك العلامة ابن القيم فقال: لم يرد الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم. والصواب: أنه ورد في البخاري في كتاب الأنبياء قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)، في الصلاة والتبريك. والخلاصة: أنه إذا قيل آل محمد في الصدقة والزكاة: فهم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من العلماء رحمهم الله، والذين حرمت عليهم الصدقة: هم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، قال العلماء: لأنها أوساخ الناس. فلا تحل الزكاة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله تكريماً لهم؛ لأنها أوساخ الناس، فعندما يخرج الإنسان زكاة ماله فإنه يطهر من وسخه، فدل على أن الزكاة هي أوساخ الناس، لكن الله عوضهم بالخمس من الغنيمة والفيء، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]؛ لأنها أوساخ الناس، وقد قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق، وهذا صحيح. وفي المسانيد والسنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس لما شكا إليه جفوة قوم له: (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي) والمراد بهم: أهل البيت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)]. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الخلاصة، فالله تعالى اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وفي اللفظ الآخر: (فأنا خيار من خيار من خيار).

زمن وقوع الفتنة وأسبابها

زمن وقوع الفتنة وأسبابها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده، صار قوم ممن يحب عثمان ويغلو فيه ينحرف عن علي رضي الله عنه مثل كثير من أهل الشام ممن كان إذ ذاك يسب علياً رضي الله عنه ويبغضه، وقوم ممن يحب علياً رضي الله عنه ويغلو فيه ينحرف عن عثمان رضي الله عنه مثل كثير من أهل العراق ممن كان يبغض عثمان ويسبه رضي الله عنه، ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك حتى سبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وزاد البلاء بهم حينئذ، والسنة محبة عثمان وعلي جميعاً، وتقديم أبي بكر وعمر عليهما رضي الله عنهم، لما خصهما الله به من الفضائل التي سبقا بها عثمان وعلياً، وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت وأمر بالاعتصام بحبله]. يقول المؤلف رحمه الله: (وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده) يعني: أن الفتنة حصلت بقتل عثمان؛ لأنه قتل شهيداً مظلوماً وهو خليفة المسلمين، وذلك: أن بعض السفهاء جاءوا وتجمعوا من أقطار الدولة الإسلامية كالبصرة والكوفة ومصر وجعلوا يشيعون عيوب عثمان وينشرونها بين الناس، فعابوا عليه وقالوا: إن عثمان خالف الشيخين أبا بكر وعمر، فخفض صوته بالتكبير، وأخذ الزكاة على الفيء، وولى أقاربه، وأتم الصلاة في السفر، وجعلوا ينشرونها بين الناس حتى تجمع هؤلاء السفهاء وأحاطوا ببيته وقتلوه، فلما قتلوه انفتح باب الفتنة، ثم بويع علي رضي الله عنه، ثم امتنع أهل الشام عن البيعة فحصل القتال. ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: (وَقَدْ كَانَتْ الْفِتْنَةُ لَمَّا وَقَعَتْ بِقَتْلِ عثمان وَافْتِرَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، صَارَ قَوْمٌ مِمَّنْ يُحِبُّ عثمان وَيَغْلُو فِيهِ يَنْحَرِفُ عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ مِمَّنْ كَانَ إذْ ذَاكَ يَسُبُّ علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُبْغِضُهُ، وَقَوْمٌ مِمَّنْ يُحِبُّ علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَغْلُو فِيهِ ينحرف عن عثمان) يعني: انقسم الناس قسمين: قسماً أحبوا عثمان وزادوا في حبه وكرهوا علياً، بل سبوه، وقسماً أحبوا علياً وغلوا فيه، وانحرفوا عن عثمان رضي الله عنه. ثم قال رحمه الله: (ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك حتى سبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وزاد البلاء بهم حينئذ) وهذا مذهب الرافضة: سب الشيخين أبي بكر وعمر، وهذا من الردة. قال المؤلف رحمه الله: (وَالسُّنَّةُ مَحَبَّةُ عثمان وعلي جَمِيعًا)، والترضي عنهما، قوله: (وَتَقْدِيمُ أبي بكر وعمر عليهما رضي الله عنهم) أي: في الفضيلة وفي الخلافة؛ لأن أبا بكر وعمر مقدمان في الخلافة وفي الفضيلة. ثم قال: (لِمَا خَصَّهُمَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الَّتِي سَبَقَا بِهَا عثمان وعلياً جَمِيعًا. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ؛ وَأَمَرَ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ) يعني: لا يجوز للأمة أن تتفرق، بل يجب عليها أن تجتمع وأن تعتصم بحبل الله ودينه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ وَيَعْتَصِمَ بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالِاتِّبَاعِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. فَالرَّافِضَةُ لَمَّا كَانَتْ تَسُبُّ الصَّحَابَةَ، صَارَ الْعُلَمَاءُ يَأْمُرُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَسُبُّ الصَّحَابَةَ، ثُمَّ كَفَّرَتْ الصَّحَابَةَ وَقَالَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُمْ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ] يقول المؤلف رحمه الله: (هذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبناها على العلم والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) يعني: مسألة ترتيب الصحابة في الخلافة، وترتيبهم في الفضيلة، والنزاع الذي جرى بين الصحابة، فهو موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله، وإذا نظرنا إلى النصوص في كتاب الله وسنة رسوله لوجدنا أنها تترضى عن الصحابة وتبين فضلهم وسابقتهم. فقوله: (فَالرَّافِضَةُ لَمَّا كَانَتْ تَسُبُّ الصَّحَابَةَ، صَارَ الْعُلَمَاءُ يَأْمُرُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَسُبُّ الصَّحَابَةَ) يعني: لما كان الروافض يسبون الصحابة كان العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة، (ثُمَّ كَفَّرَتْ الصَّحَابَةَ وَقَالَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ) يعني: الرافضة كفروا الصحابة، بل كفروا أبا بكر وعمر، قال: (قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُمْ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)، فقد بيّن رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول، أن من فسّق الصحابة وكفرهم فإنه يكون مرتداً؛ لأنه مكذب لله؛ ولأن الله تعالى زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، قال عز وجل: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95] وقال سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، هذه كلها تزكية، فالله زكاهم وعدّلهم، فمن كفرهم وفسقهم فقد كذب الله، ومن كذب الله كفر.

أقسام الناس في الحكم على يزيد بن معاوية

أقسام الناس في الحكم على يزيد بن معاوية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ يَتَكَلَّمُ فِي يزيد بن معاوية، وَلَا كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنْ الدِّينِ، ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْيَاءُ فَصَارَ قَوْمٌ يُظْهِرُونَ لَعْنَةَ يزيد بن معاوية، وَرُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ التَّطَرُّقَ إلَى لَعْنَةِ غَيْرِهِ، فَكَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَعْنَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ يَتَسَنَّنُ؛ فَاعْتَقَدَ أَنَّ يزيد كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى. وَصَارَ الْغُلَاةُ فِيهِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضِ، هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ كَافِرٌ زِنْدِيقٌ، وَإِنَّهُ قَتَلَ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقَتَلَ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَهُمْ بِالْحَرَّةِ، لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا كُفَّارًا، مِثْلُ جَدِّهِ لِأُمِّهِ عتبة بن ربيعة وَخَالِهِ الوليد وَغَيْرِهِمَا، وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ مِنْ الِاشْتِهَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِظْهَارِ الْفَوَاحِشِ وأَشْيَاءَ. وَأَقْوَامٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَانَ إمَامًا عَادِلًا هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَقُولُونَ: مَنْ وَقَفَ فِي يزيد وَقَّفَهُ اللَّهُ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَيَرْوُونَ عَنْ الشَّيْخِ حسن بن عدي أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلِيًّا، ومن وقفوا فيه وَقَفُوا عَلَى النَّارِ لِقَوْلِهِمْ فِي يزيد، وَفِي زَمَنِ الشَّيْخِ حسن زَادُوا أَشْيَاءَ بَاطِلَةً نَظْمًا وَنَثْرًا. وَغَلَوْا فِي الشَّيْخِ عدي وَفِي يزيد بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا كَانَ عليه الشَّيْخُ عدي الْكَبِيرُ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، فَإِنَّ طَرِيقَتَهُ كَانَتْ سَلِيمَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ وَابْتُلُوا بِرَوَافِضَ عَادُوهُمْ وَقَتَلُوا الشَّيْخَ حسناً وَجَرَتْ فِتَنٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ]. يقول المؤلف رحمه الله: (ولم يَكُنْ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ يَتَكَلَّمُ فِي يزيد بن معاوية) يعني: في عهد يزيد ما كان أحد يتكلم في يزيد بن معاوية أو يسبه، (وَلَا كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنْ الدِّينِ) لأن يزيد بن معاوية إنما بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه معاوية. (ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْيَاءُ فَصَارَ قَوْمٌ يُظْهِرُونَ لَعْنَةَ يزيد بن معاوية) يعني: كانوا يلعنونه؛ لأنه قتل الحسين حسب زعمهم، (وَرُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ التَّطَرُّقَ إلَى لَعْنَةِ غَيْرِهِ) يعني: بعض الناس يلعن يزيد حتى يلعن غيره، (فَكَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَعْنَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ) يعني: أهل السنة يكرهون أن يلعن أحد بعينه، فلا تقل: فلان عليه لعنة الله، وإنما تلعن على العموم، فتقول: لعن الله شارب الخمر، لعن الله آكل الربا، لعن الله السارق، أما فلان بن فلان ملعون فلا، وهذا هو الصواب، لا نلعن المعين؛ لأنه قد يتوب الله عليه، وقد تمحى سيئته، فلا يلعن بعينه. ثم قال: (فَسَمِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ يَتَسَنَّنُ؛ فَاعْتَقَدَ أَنَّ يزيد كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى) يعني: جاء قوم بعدهم ممن كان ينتسب إلى السنة، فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى، (وَصَارَ الْغُلَاةُ فِيهِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضِ، هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ كَافِرٌ زِنْدِيقٌ وَأَقْوَامٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَانَ إمَامًا عَادِلًا هَادِيًا مَهْدِيًّا) فالناس في يزيد بن معاوية طرفان: طرف يقول: إن يزيد بن معاوية كافر زنديق لأنه قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرف آخر يقولون: إن يزيد كان إماماً عادلاً هادياً مهدياً، وأنه كان من الصحابة أو أكابر الصحابة وأنه من أولياء الله تعالى، وربما اعتقد بعضهم أنه نبي، وكل هذا باطل، والصواب الوسط، وهو أن يزيد بن معاوية ليس من الصحابة، وليس نبياً ولا إماماً عادلاً، ولكنه من ملوك المسلمين الذين لهم حسنات وسيئات، كغيره من الملوك، لا نقول: إنه نبي أو إنه هاد مهدي أو مصلح، ولا نسبه ولا نشتمه، بل نتوقف، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض هؤلاء يقولون: إنه كافر زنديق) وهم طائفة (وإنه قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل الأنصار وأبناءهم بالحرة) وهي: وقعة الحرة المعروفة، هذه الوقعة حصلت بسبب: أن أهل المدينة بقيادة عبد الله بن مطيع خلعوا يزيد، وكان خليفة والخلافة في الشام، فخلعوا في المدينة يزيد، فنهاهم ابن عمر ونصحهم، وقال: لا يجوز الخروج على ولاة الأمور وهذا يسبب الفتن، فلم يسمعوا له ويطيعوه، فأرسل يزيد بن معاوية من الشام جيشاً لقتال أهل المدينة وإخضاعهم؛ لأنهم خرجوا على خلافته، فقاتلهم هذا الجيش وأخضعهم، ويقال: إنه استباح المدينة ثلاثة أيام عقوبة لهم، يعني: كل يفعل ما يشاء ثلاثة أيام، لا يحد من الزنا أو السرقة أو غيرها نعوذ بالله. فإذاً: بعض الناس غلا في يزيد فقال: إنه كافر زنديق؛ لأنه قتل ابن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل أصحابه، وفي وقعة الحرة قتل فيها خلقاً كثيراً من الصحابة وأبناء الأنصار، وفعل فيها ثلاثة أيام كذا وكذا. وأقوام يقولون: إن يزيد إمام عادل هاد مهدي، بل قال بعضهم: إنه من الصحابة، بل قال بعضهم: إنه من كبار الصحابة، بل قال بعضهم: إنه من أولياء الله، بل اعتقد بعضهم أنه من الأنبياء، ويقول هؤلاء الذين يغلون في يزيد: (من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم). يعني: من توقف في يزيد ولم يمدحه ويثني عليه فهذا يعذب في نار جهنم، هكذا يقولون. يقول رحمه الله: [وَهَذَا الْغُلُوُّ فِي يزيد مِنْ الطَّرَفَيْنِ خِلَافٌ لِمَا أَجْمَعَ عليه أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَإِنَّ يزيد بن معاوية وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَا كَانَ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَكَانَ مِنْ شُبَّانِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَا كَانَ كَافِرًا زِنْدِيقًا؛ وَتَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَرِضًا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَكَرَمٌ، وَلَمْ يَكُنْ مُظْهِرًا لِلْفَوَاحِشِ كَمَا يَحْكِي عَنْهُ خُصُومُهُ. يقول المؤلف: (هذا الغلو في يزيد خلاف لما أجمع عليه أهل العلم والإيمان) قلنا: إن بعضهم غلا وقال: إنه كافر زنديق، وبعضهم غلا في مدحه وقال: إنه إمام صالح هاد مهدي، أو إنه نبي.

ذكر الأمور العظيمة التي جرت في خلافة يزيد بن معاوية

ذكر الأمور العظيمة التي جرت في خلافة يزيد بن معاوية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا مَقْتَلُ الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الحسين، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ، فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ، وحض الشمر بن ذي الجوشن الجيوش عَلَى قَتْلِهِ لعبيد الله بن زياد؛ فَاعْتَدَى عليه عبيد الله بن زياد، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى يزيد، أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَمَنَعُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عمر بن سعد بِقِتَالِهِ فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكَانَ قَتْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ قَتْلَ الحسين، وَقَتْلَ عثمان قَبْلَهُ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. ] يقول المؤلف رحمه الله: وجرت في إمارة يزيد بن معاوية أمور عظيمة، أحدها: مقتل الحسين، فقد قتل رضي الله عنه في إمارة يزيد بن معاوية، ويزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه، ولا حمل رأس الحسين إلى الشام، كما يقول بعض الجهال، وبعضهم يقول: إنه حمل إلى مصر، وجعلوا له مشهداً في مصر يسمونه: رأس الحسين. وهناك مسجد يسمونه: مسجد الحسين يطاف به، مع أن الحسين ما جاء إلى مصر، ولا نقل رأسه إلى مصر، ولا شيء من ذلك، بل هو مدفون في العراق، فما الذي أتى به إلى مصر حتى يُجعل له مشهد ومزار؟! فـ يزيد ما أمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه، ولا حمل رأس الحسين إلى الشام، لكنه أمر بمنع الحسين عنه وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله، لا لأنه جاء إلى العراق؛ لأن أهل العراق وعدوه بأنهم سيبايعونه على الخلافة، فلما علم يزيد بذلك أمر بمنعه ودفعه عن الأمر ولو كان بالقتال، فحض الشمر عبيد الله بن زياد على قتله، فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد وأمر عمر بن سعد بقتاله، فقتلوه مظلوماً له ولطائفة من أهل بيته رضي الله عنهم، وكان قتل الحسين من أعظم المصائب، كذلك قتل عثمان كان من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة. قال رحمه الله تعالى: [وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى يزيد بن معاوية أَكْرَمَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابن زياد عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ: كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الحسين، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ، وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِ، وكَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عليه، فَصَارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى، وَأَمَّا خُصُومُهُ فَيزيدونَ عليه مِنْ الْفِرْيَةِ أَشْيَاءَ]. يقول المؤلف: (لما قدم أهلهم) أي: أهل الحسين ومن معه بعد قتل الحسين وقتل من معه، فقد قدم أهل الحسين ومن معه على يزيد بن معاوية فأكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروي عنه أنه لعن عبيد الله بن زياد على قتله؛ لأنه كان والياً على العراق، فـ يزيد بن معاوية لما بلغه ذلك لعن ابن زياد على قتله، وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، يعني: أنا أريد أن يخضعوا للخلافة، (لكن مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصار له، والأخذ بثأره) يعني: كما أن يزيد لم يرض بقتل الحسين، إلا أنه لم ينكر هذا، ولا أظهره، فهو ما رضي ولا أحب ولا كره، ما أحب قتل الحسين، ولا كره قتله، (فصار أهل الحق يلومون يزيد على ترك الواجب مضافاً إلى أمور أخرى، وأما خصوم يزيد فيكذبون عليه، ويزيدون عليه أشياء. [وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ، وَأَخْرَجُوا نُوَّابَهُ وَأَهْلَهُ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ جَيْشًا؛ وَأَمَرَهُ إذَا لَمْ يُطِيعُوهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالسَّيْفِ وَيُبِيحَهَا ثَلَاثًا، فَصَارَ عَسْكَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيَفْتَضُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ جَيْشًا إلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ، فَحَاصَرُوا مَكَّةَ وَتُوُفِّيَ يزيد وَهُمْ مُحَاصِرُونَ مَكَّةَ، وَهَذَا مِنْ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ الَّذِي فُعِلَ بِأَمْرِهِ]. الأمر الأول: قتل الحسين، والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته، وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشاً لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد، هذا معنى الإباحة، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثاً يقتلون من شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشاً إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة.

عقيدة أهل السنة والجماعة في يزيد بن معاوية

عقيدة أهل السنة والجماعة في يزيد بن معاوية [ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة أنه لا يسب ولا يحب] يعني: الذي عليه أهل السنة أن يزيد لا يحب ولا يسب، أي: لا نحبه ولا نسبه. ثم قال رحمه الله: [قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي -يعني: الإمام أحمد بن حنبل -: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد. قال: يا بني! وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت! فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني! ومتى رأيت أباك يلعن أحداً؟ وروي عنه: أنه قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية؟ قال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟ [فـ يزيد عِنْدَ عُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، لَا يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةَ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَلَا يَسُبُّونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ لَعْنَةَ الْمُسْلِمِ الْمُعِينِ؛ لِمَا رَوَى البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حماراً، وَكَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ضَرَبَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُجِيزُونَ لعنه لِأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الظُّلْمِ مَا يجوِّز لعن فَاعِلِهِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَرَى مَحَبَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَوَلَّى عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ؛ وَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ، وَكَانَتْ لَهُ مَحَاسِنُ أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيمَا فَعَلَهُ. وَالصَّوَابُ: هُوَ مَا عليه الْأَئِمَّةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِمَحَبَّةِ وَلَا يُلْعَنُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِلْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ لَا سِيَّمَا إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ عَظِيمَةٍ. وَقَدْ رَوَى البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: (أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو قُسْطَنْطِينِية مَغْفُورٌ لَهُ)، وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يزيد بن معاوية، وَكَانَ مَعَهُ أبو أيوب الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ] يقول المؤلف رحمه الله: (يزيد بن معاوية عند أئمة المسلمين ملك من الملوك لا يحبونه ولا يسبونه) هذا هو العدل والإنصاف، فيزيد بن معاوية ملك من ملوك المسلمين لا يحب ولا يسب، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله ولا يسبونه؛ لأنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين، واستدل بحديث البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلاً كان يدعى حماراً، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن شارب الخمر، لكن لعنه على العموم جائز، وهناك طائفة من أهل السنة يجيزون لعن يزيد، وطائفة يقولون: لا يلعن، والذين قالوا: لا يلعن هم الجمهور، وهذا هو الصواب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُجِيزُونَ لعنه؛ لِإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الظُّلْمِ مَا يجوِّز لعن فَاعِلِهِ، فيقولون: له منكرات ومعاص توجب لعنه، والذين لا يلعنونه يقولون: الأصل في المؤمن أنه لا يلعن. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَرَى محبة يزيد؛ لأنه مسلم وتولى على عهد الصحابة، ويزيد بن معاوية مسلم بايعه الصحابة. فبين المؤلف رحمه الله الصواب، فقال: الصواب في هذه المسألة: هو ما عليه الأئمة من أنه لا يخص بمحبة ولا بلعن، فلا نحبه ولا نلعنه، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً كما تقولون فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى الفاسق بحسنة عظيمة تمحو سيئاته، وقد ثبت في صحيح البخاري أن يزيد فعل حسنة وهي الجهاد في سبيل الله، فقَدْ رَوَى البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: (أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو قُسْطَنْطِينِية مَغْفُورٌ لَهُ)، وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يزيد بن معاوية وَكَانَ مَعَهُ أبو أيوب الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]، فدل ذلك على أنه لا ينبغي لعنه وسبه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَقَدْ يُشْتَبَهُ يزيد بن معاوية بِعَمِّهِ يزيد بن أبي سفيان، فَإِنَّ يزيد بن أبي سفيان كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ خَيْرُ آلِ حَرْبٍ، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الشَّامِ، الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فُتُوحِ الشَّامِ، وَمَشَى أبو بكر فِي رِكَابِهِ يُوصِيهِ مُشَيِّعًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ، فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاكِبِ وَلَسْتَ بِنَازِلِ، إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ بَعْدَ فُتُوحِ الشَّامِ فِي خِلَافَةِ عمر وَلَّى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَانَهُ أَخَاهُ معاوية، وَوُلِدَ لَهُ يزيد فِي خِلَافَةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه، وَأَقَامَ معاوية بِالشَّامِ إلَى أَنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ. فَالْوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ يزيد بن معاوية وَامْتِحَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ يزيد بن معاوية مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَهُوَ خَطَأٌ بَيِّنٌ. ] يقول المؤلف رحمه الله: إن يزيد بن معاوية يشتبه بعمه يزيد بن أبي سفيان وهناك فرق بينهما، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة، وهو أخو معاوية، وأبوه أبو سفيان بن حرب وأبو سفيان أسلم يوم فتح مكة، وأسلم معه ابنه معاوية، وابنه يزيد، فهم من الصحابة معاوية ويزيد، معاوية الذي تولى الخلافة حين تنازل عنها الحسن بن علي، وولِد له يزيد، فتولى الخلافة بعد موت أبيه، فصار يزيد بن معاوية غير يزيد بن أبي سفيان، فـ يزيد بن أبي سفيان هو عم يزيد بن معاوية، ولذا قال المؤلف: (يشتبه هذا بهذا، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة، وكان من خيار الصحابة، وهو خير آل حرب، وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه في فتوح الشام) يعني: يزيد بن أبي سفيان صحابي جليل، وهو خير آل حرب. وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه في خلافته في فتوح الشام، ومشى أبو بكر مع يزيد بن أبي سفيان لما بعثه في فتوح الشام، مشى معه يوصيه ويشيعه، فقال يزيد بن أبي سفيان لـ أبي بكر: يا خليفة رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال الصديق: لست براكب ولست بنازل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. انظر إلى التواضع العظيم، فخليفة المسلمين أبو بكر الصديق الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها مشى على قدميه ليشيع يزيد بن أبي سفيان ويوصيه، فـ يزيد بن أبي سفيان كان يقول: أنت تمشي على الأرض، وأنت خليفة المسلمين، وأنا أركب، هذا لا يمكن، إما أن تركب معي، وإما أن أنزل أنا إلى الأرض ونمشي سوياً، فرفض الصديق وقال: لا أركب ولا تنزل؛ إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، أي: أريد الأجر. فتوفي يزيد بن أبي سفيان بعد فتوح الشام في خلافة عمر، فولى عمر رضي الله عنه مكانه أخاه معاوية، ولاه الشام، وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان، وأقام معاوية في الشام إلى أن حصل ما حصل من الخلاف بينه وبين علي رضي الله عنه لما بويع له بالخلافة، وامتنع أهل الشام عن بيعته حتى حصل القتال. يقول المؤلف رحمه الله: (فَالْوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ يزيد بن معاوية) يعني: أن الواجب الاقتصاد في يزيد، وسلوك مسلك الاقتصاد والعدل، فلا يسب

[11]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [11] إن تفرق الأمة شيعاً وأحزاباً وطوائف سبب من أسباب تمزقها وضعفها وتسلط الأعداء عليها، وإن المؤمنين كلهم أخوة وبعضهم أولياء بعض، وليس من الإيمان أن يولي المسلم أحداً من الناس لأنه في حزبه أو في جماعته بغض النظر عن استقامته ودينه، فالولاء يجب أن يكون لكل مؤمن بكتاب الله وسنة رسوله في أي جماعة أو في أي مذهب مادام متبعاً غير مبتدع.

التحذير من التفريق بين الأمة وامتحانها بما يزيد فرقتها واختلافها

التحذير من التفريق بين الأمة وامتحانها بما يزيد فرقتها واختلافها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَامْتِحَانِهَا بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ شكيلي أَوْ قرفندي، فَإِنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. ] ذكر المؤلف رحمه الله فيما سبق الكلام على الصحابة، وأنه يجب على المسلم الاقتصاد والاعتدال في الصحابة، وليس له أن يغلو في الصحابة ولا في آل البيت فيرفعهم عن مقامهم إلى مقام النبوة أو الألوهية، وليس له أن يجفو الصحابة أو يسبهم، بل يقتصد ويعتدل. ثم قال المؤلف: (وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَامْتِحَانِهَا بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ شكيلي، أَوْ قرفندي) هذه أسماء كأنها ألقاب أو فرق كانت موجودة عندهم في ذلك الوقت، ولذا قال (فَإِنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ) يعني: ينبغي للإنسان المسلم أن يكون انتسابه للإسلام وأن يجتمع المسلمون تحت فرقة واحدة، يقول: أنا من أهل السنة أنا مسلم، لا كما هو موجود في هذا العصر، هذا يسمى إخوانياً وهذا يسمى سرورياً وهذا يسمى سلفياً، كل هذه الأسماء مفرِّقة فالواجب على الإنسان المسلم اتباع الكتاب والسنة، ويجب على المسلمين أن ينضووا تحت راية الإسلام، لك أن تقول: أنا مسلم، أنا متبع للكتاب والسنة، أنا من أهل السنة والجماعة، أنا متبع لآثار السلف من أهل السنة والجماعة، ولذلك جاء في الحديث: (أنه حصل خلاف في بعض الغزوات بين مهاجري وأنصاري فنادى الأنصاري: يا للأنصار، ونادى المهاجري: يا للمهاجرين. فلما تنادوا فيما يزيد التفرقة، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة) والمهاجري والأنصاري اسمان إسلاميان، لكن لما كان هناك تحزب، وتعصب غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة)، أي: لا تتحزبوا وإنما اجتمعوا. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال عن اسمين إسلاميين: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فكيف بغيرها من الأسماء؟! كيف يتفرق المسلمون؟! يجب على كل مسلم أن يحكم الكتاب والسنة، وينظر إن كانت أعماله موافقة للكتاب والسنة فهي حق، وإن كانت مخالفة للكتاب والسنة فهي باطل، وإن كان فيها حق وفيها باطل فيأخذ الحق ويرد الباطل. ولا ينبغي التحزب، بعض الشباب الآن يتحزبون، صار بعضهم ينشغل بهذا، فتراه يسأل: أنت تنتسب إلى الإخوان؟ أنت سروري؟ أنت سلفي؟ وهكذا حتى صار بينهم تحزبات وعداوات ومشاحنات، وتركوا العلم. الواجب على الشاب طالب العلم أن يقبل على العلم، ويترك هذه النعرات وهذه التحزبات والعصبيات، وأن يعمل بالكتاب والسنة، ولا ينتمي إلى هذه الفرق، فهذه الفرق يجب أن تجتمع وتتحد وأن تعمل بكتاب الله وسنة رسوله، ومن خالف الكتاب والسنة سواء كان في العقيدة أوفي العبادة أو في المعاملات فعليه الرجوع إلى الكتاب والسنة. ولهذا المؤلف رحمه الله أنكر على التحزبات في زمانه: كأن يقال أنت شكيلي أو أنت قرفندي، هذه تحزبات كانت موجودة في زمانه، ونحن في زماننا تحزبات، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) كون بعض الناس يقول: أنت سروري أو أنت إخواني أو أنت من أهل كذا، أو أنت من جماعة التبليغ، هذه كلها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، الواجب الانتساب إلى الكتاب والسنة، وسلف الأمة ولهذا قال المؤلف رحمه الله (هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ) إذا قال لك: أنت إخواني أو سلفي أو سروري أو تبليغي فقل له: أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله، أنا من أهل السنة والجماعة، أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وحينئذ تلقمه حجراً وتقطع باب الجدال بينك وبينه. تقول: أنا مسلم متبع للكتاب والسنة، لا أنا إخواني ولا سروري ولا من جماعة التكفير والهجرة، ولا من جماعة التبليغ، إنما أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله، من أهل السنة والجماعة. وما يفعله بعض الشباب من إضاعة الأوقات في العداوات والتحزبات، ويصنفون الناس إلى كذا وإلى كذا، وينشغلون عن طلب العلم، كل هذا من مكر الشيطان وتسويله وخداعه، حتى يفرق المسلمين، وهذه من دسائس الكفرة وأهل البدع الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين، ويريدون أن يفسدوا على الشباب التزامهم واتباعهم للكتاب والسنة، وأن يقطعوا عليهم طلب العلم، والطريق الموصل إلى العلم؛ بهذه التحزبات وهذه الحزازات والعداوات، فالواجب على طالب العلم أن يقبل على طلب العلم، ويدع هذه التحزبات.

موقف السلف ممن يدعو إلى التفرقة والاختلاف والانتساب إلى الأشخاص والجماعات

موقف السلف ممن يدعو إلى التفرقة والاختلاف والانتساب إلى الأشخاص والجماعات قال المؤلف رحمه الله تعالى [وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ معاوية بن أبي سفيان أَنَّهُ سَأَلَ عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: أَنْتَ عَلَى مِلَّةِ علي أَوْ مِلَّةِ عثمان؟ فَقَالَ: لَسْتُ عَلَى مِلَّةِ علي وَلَا عَلَى مِلَّةِ عثمان، بَلْ أَنَا عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ] انظر إلى البصيرة عند ابن عباس حبر هذه الأمة، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه في الدين وأن يعلمه التأويل، وقال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، فـ معاوية لما سأل عبد الله بن عباس قال له: أنت على ملة علي أو ملة عثمان؟ قال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: علي ليس معصوماً وعثمان ليس معصوماً فكلاهما يخطئ ويصيب، وكل الصحابة يخطئ ويصيب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عن الخطأ فيما يبلغ عن الله، قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المعصومة، فأنا على ملة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَكَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ السَّلَفِ يَقُولُونَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّارِ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا أُبَالِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ؟ عَلَى أَنْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ أَنْ جَنَّبَنِي هَذِهِ الْأَهْوَاءَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ، فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ -وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ- مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. ] يقول المؤلف: (وكذلك كان كل السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار) المراد بالأهواء البدع، فهذه الأهواء في النار، (ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم؟ أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء) يعني: كلاهما نعمتان، النعمة الأولى: أن هداك الله للإسلام، والنعمة الثانية: أن جنبك الله البدع، وجنبك هذه الأهواء. ثم يقول المؤلف رحمه الله: (وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ، فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ -وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ- مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) فإذا قيل لك: ما أنت؟ فقل: أنا مسلم أنا مؤمن أنا من عباد الله، أنا من أهل السنة والجماعة، فإذا قال: أنت سروري؟ أنت سلفي؟ أنت إخواني؟ أنت من جماعة الهجرة والتكفير؟ إن قلت أنا سروري، قال: أنت فيك كذا وكذا وكذا، وإن قلت: أنا إخواني، قال فيك: أنت كذا وكذا وكذا، وأنت تغلو في الحاكمية وتترك العبادة وهكذا، وصار الجدال بينك وبينه، فالأسلم لك والأفضل أن تقول: لست سرورياً ولا إخوانياً، ولا من جماعة التكفير والهجرة، بل أنا مسلم من المسلمين المؤمنين من عباد الله، من أهل السنة والجماعة. فتقطع عليه الطريق وتقطع الجدال بينك وبينه، وتنتهي الخصومة وتشتغل بما ينفعك، وتقول: هذه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لها أصل في الكتاب والسنة، فأنا لا أعترف بها.

ذكر الأسماء والألقاب التي يجوز الانتساب إليها وعدم امتحان الناس بها

ذكر الأسماء والألقاب التي يجوز الانتساب إليها وعدم امتحان الناس بها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَدْ يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا مِثْلُ انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، أَوْ إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ، أَوْ مِثْلُ الِانْتِسَابِ إلَى الْقَبَائِلِ كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ، وَإِلَى الْأَمْصَارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا، وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عليها، بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ. ] يعني: الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها ولا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، مثل أن يقول: أنا حنفي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنبلي، فهذه أسماء إلى الأئمة الفقهاء، فيجوز للإنسان أن ينتسب إليها، إذا كان ليس عنده أهلية أن يأخذ بالأدلة فله أن يقلد إماماً من الأئمة، وإذا كان عنده أهلية للنظر فلا يقلد، بل يعمل بالأدلة، ولا يضره كونه يوافق الإمام في الأصول، مثل: شيخ الإسلام حنبلي، لكن ليس مقلداً للإمام، لكن المعنى أنه يوافقه في الأصول: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والعمل بقول الصحابي، وكذلك ابن القيم وغيره يسمون حنابلة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يأخذ بأقوال الإمام أحمد بغير دليل، لا، قد يوافقه في الأصول، فلا يضر هذا، ومع ذلك يجوز للإنسان أن ينتسب ويقول: أنا حنبلي أو حنفي، لكن لا يجوز لأحد أن يمتحن الناس ويوالي ويقول: أنت حنبلي فأوالي الحنبلي، أما الحنفي والشافعي فأبغضهم، أو يقول: أنا حنفي ويوالي الأحناف أو يقول: شافعي ويعادي المالكي أو العكس، فهذا غلط، لا يجوز أن يوالي ولا يعادي على المذاهب. وكذلك أيضاً الانتساب إلى شيخ كالقادري والعدوي، أوالانتساب إلى القبائل كالقيسي واليماني، أو إلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، كل هذه أسماء لا يجب أن يوالى عليها ولا يعادى عليها، قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ)) لأي شيء؟ {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فلا يجوز للإنسان أن يوالي هذا الشخص؛ لأنه من قبيلته، أو يوالي هذا الشخص؛ لأنه من أهل بلده، أو يوالي هذا الشخص؛ لأنه موافق للمذهب، فالموالاة والمعاداة لا تكون إلا في الله، فيوالي في الله ويعادي في الله، فمن كان مستقيماً على أمر الله نواليه، ولو كان من أقصى الدنيا، ولو كان بعيداً، سواء كان من العرب أو من العجم. ومن كان مخالفاً لأمر الله يعادى ولو كان من أقرب الناس إليك، ولو كان أخاك لأبيك وأمك، تعاديه عداوة دينية، أما الموالاة لأجل القبائل أو لأجل الانتساب إلى المذهب، أو لأجل الانتساب إلى البلد كل هذا ما أنزل الله به من سلطان.

صفات أولياء الله

صفات أولياء الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ: هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، وَالتَّقْوَى: هِيَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. ] يقول المؤلف رحمه الله: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ: هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يعني: ولي الله هو المؤمن التقي، له وصفان، الوصف الأول: الإيمان، والوصف الثاني: التقوى، فمن كان مؤمناً تقياً فهو ولي الله، وولي الله هو المؤمن التقي، ولي الله هو الذي يوافق الله في محابه ومساخطه، فيفعل ما يحبه الله، ويترك ما يسخطه الله، هذا هو ولي الله. ليس ولي الله كما يزعم بعض الصوفية هو الذي يتصرف في الكون، هذا كفر وردة، من ادعى أن أحداً يتصرف في الكون فهو كافر مرتد، ومن يسمونهم أولياء يشرعون لهم تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، ويرون أن بعض الأولياء الصوفية تسقط عنهم التكاليف، وأنه لا يسأل عن شيء، وأنك تكون بين يدي شيخك وإمامك كالميت بين يدي المغسل، فالصوفية لهم قبائح، فهم يزعمون أن أولياءهم ترفع عنهم التكاليف، يدخل بعض الصوفية على تلميذه ولا يمنعه من شيء، فيدخل على زوجته ويفعل بها الفاحشة، ولا يُسأل لأنه يجب أن يكون التلميذ بين يديه كالميت بين يدي الغاسل لا يتحرك ولا يسأل. هكذا يقولون والعياذ بالله. هذا من أولياء الشيطان ليس من أولياء الرحمن، بعضهم يزعم أن الولي هو الذي يتصرف في الكون، وأن له تدبيراً مع الله، وهذا شرك أكبر أعظم من شرك كفار قريش، يقول بعضهم: إن بعض الأولياء يتصرف في هذا الكون، ويقولون: هناك أوتاد وأقطاب، قد يكون الولي غير معروف؛ وقد يتصرف في الكون وأنت تراه وعليه ثياب مخرقة ومرمي على زبالة وشعوره وأظافيره طويلة، ولا يؤبه له، هذا حسب زعمهم، أقول: كل هذا من الكفر والضلال نعوذ بالله، إن ولي الله هو المؤمن التقي، بدليل قول الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عليهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، ما ثوابهم؟ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64]. إذاً فولي الله هو المؤمن التقي، وليس الولي كما يزعم الصوفية هو الذي رفعت عنه التكاليف ويفعل الكبائر والكفر ولا يُسأل عما يفعل، أو يزعمون أنه يتصرف في الكون، فهذا كفر وضلال. قوله: (فقد أخبر الله أن أولياءه هم المؤمنون المتقون وقد بين المتقين في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. أي: هؤلاء هم الصادقون، وهذه تسمى آية البر؛ لأن الله تعالى بين خصال البر في هذه الآية، فأهل التقوى هم الذين يفعلون هذه الخصال، والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه. وأصلها توحيد الله عز وجل، وفعل الأوامر، وترك النواهي، هذه هي التقوى.

حال أولياء الله وذكر ما صاروا به أولياء

حال أولياء الله وذكر ما صاروا به أولياء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمَا صَارُوا بِهِ أَوْلِيَاءَ، فَفِي صَحِيحِ البخاري عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عليه، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَني لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ). فَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. فالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:22 - 26]. قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. ] بيّن المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حال أولياء الله وما صاروا إليه، وذكر الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، هذا حديث قدسي منسوب إلى قدسية الله، يعني: كونه كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه فيقول: يقول الله تعالى. فهو من كلام الله لفظاً ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكاماً تختلف عن القرآن، بخلاف الحديث غير القدسي فهو من النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومن الله معنى، أما الحديث القدسي فهو من الله لفظاً ومعنى، ولهذا يرويه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، فهذا الحديث القدسي بين فيه الرب سبحانه وتعالى حال الأولياء ومنزلتهم، فقال: (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)، وفي لفظ: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهذا فيه الوعيد الشديد على من عادى أولياء الله، والولي كما سبق هو المؤمن التقي، أي: من عادى المؤمن التقي فقد بارز الله بالمحاربة، وفي لفظ: (فقد آذنته بالحرب)، وهذا وعيد شديد لمن آذى المؤمنين المتقين، وأنه على خطر عظيم؛ لأنه محارب لله، ومن حارب الله فهو هالك. فقوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) هذه بشارة للمؤمن التقي، وهي أن الله يدفع عنه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، لأن من عادى ولي الله فهو مبارز لله بالحرب، ثم يقول الرب سبحانه: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه) يعني: أن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله هو أن يؤدي الفرائض، والفرائض هي: الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وبر الوالدين وصلة الرحم وهكذا. ثم قال الرب سبحانه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) يعني: فيه أن العبد إذا تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، مثلاً: يتقرب إلى الله بأداء الصلوات الخمس ثم يتقرب إلى الله بأداء السنن الرواتب، وهي: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، ويتقرب إلى الله بصلاة الضحى، ويتقرب إلى الله بصلاة الليل، وسنة الوضوء، وتحية المسجد، كل هذه من النوافل. كذلك يتقرب إلى الله بالصدقة بعد أداء الزكاة. كذلك تتقرب إلى الله بعد صيام رمضان بصيام التطوع صيام الإثنين والخميس صيام أيام البيض صيام ست من شوال صيام تسع من ذي الحجة صيام التاسع والعاشر من شهر محرم. كذلك الحج تؤدي الفريضة ثم تحج نافلة. إذاً: إذا تقرب العبد إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، وإذا صار من أحباب الله يحصل له ما قال الرب سبحانه: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَني لَأُعِيذَنَّهُ) هذه كلها آثار ناتجة عن كون العبد محبوباً لله، وقوله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي) المعنى: أن الله يسدده في جوارحه: في سمعه وبصره ويده ورجله، فلا ينظر بعينيه إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده، ولا يسمع بأذنه ما حرم الله، ولا يتناول بيده ويبطش بيده ما حرم الله، ولا يمشي برجله إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده ووفقه، وليس كما يظن بعض الاتحادية الملاحدة، حيث استدلوا بهذا، قالوا: إن الله حل في العبد (فبي يسمع وبي يبصر) (كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: إن الله حل في العبد فصار سمعه، هذا قول الملاحدة الاتحادية، وهذا من أبطل الباطل، تقول: المعنى: أن الله يسدده في جوارحه، فلا يعمل بجوارحه ما يغضب الله، وإنما يستعملها في طاعة الله، وأيضاً مع ذلك: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) المعنى: أن الله يجيب سؤاله، ويعيذه مما استعاذ، ثم قال الرب سبحانه: (وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) هذا التردد ليس كتردد المخلوق، المخلوق يتردد في الشيء؛ لضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج، أما هذا التردد فهو وصف يليق بالله وجلاله وعظمته، ليس فيه نقص، وإنما هو شيء يليق بجلال الله وعظمته، لا يشابه فيه أحداً من خلقه، وصف يليق بالله ليس كتردد المخلوق الذي يدل على ضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج أو بالعاقبة. وذلك أن العبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يكره عبده المؤمن، ولكن هذا التردد لا يمنع من تغليب إحدى الإرادتين، فتتغلب الإرادة التي قدرها الله، ولهذا قال: (ولا بد له منه) فالعبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يسيء للعبد، ولكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، فالله تعالى يريد للعبد الموت؛ لأنه قدره له، ويريد ما يريده عبده وهو كراهة الموت؛ لأن العبد يكره الموت، لكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، وهو الموت؛ لأنه مقدر ولا بد له منه. يقول المؤلف رحمه الله: (ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ) هذه عرفناها (وَالثَّانِيَةُ: هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ. وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ) الأولى: درجة المقتصدين الذين تقربوا إلى الله بالفرائض فقط، والمقتصدون هم أصحاب اليمين الأبرار؛ لأنهم تقربوا إلى الله بالفرائض وهي الواجبات، ووقفوا عند هذا الحد، ما كان عندهم نشاط لفعل النوافل، وهؤلاء المقتصدون تركوا المحرمات فقط، لكن ليس عندهم نشاط لترك المكروهات كراهة تنزيه، فترى المقتصد يتوسع في المباحات، فهؤلاء يسمون المقتصدين الذين يدخلون الجنة لأول وهلة. الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين أدوا الفرائض، وكان عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات وكان عندهم نشاط فتركوا أيضاً المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا التوسع في المباحات حتى لا يقعوا في المكروهات، هذه درجة عالية، فالسابقون هم أعلى درجة من القسم الأول، وكل من الصنفين يدخل الجنة من أول وهلة، وهناك درجة ثالثة للمؤمنين وهم الظالمون لأنفسهم، الذين يقصرون في بعض الواجبات ويفعلون بعض المحرمات، فهؤلاء ما فعلوا الشرك، لكن فعلوا بعض المعاصي، فهم على خطر من دخول النار، وعلى خطر من عذاب القبر، فقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأهوال والشدائد، وقد يسلمون وقد يعفى عنهم، وقد يدخلون النار وقد يمكثون فيها مدة طويلة، لكن في النهاية لا بد أن يدخلوا الجنة، وهؤلاء يسمون الظالمين لأنفسهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي. وكل من الأصناف الثلاثة من أهل الجنة، لكن الصنفان الأول والثاني وهم المقتصدون والسابقون يدخلون الجنة من أول وهلة ولا يدخلون النار، أما الظالمون فهم على خطر، فقد يعفو الله عنهم، وقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأ

وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَأَوْجَبَ عليهمْ مُعَادَاةَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عليمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:51 - 56]. فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ نِسْبَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلَى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال:75] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]. ] في هذا البحث بين المؤلف رحمه الله أن الله تعالى أوجب على المؤمن أن يوالي أخاه المؤمن، وأن المؤمنين يجب أن يوالوا بعضهم بعضاً، وموالاة المؤمن: يعني نصره وحبه وتأييده والدفاع عنه، والوقوف معه في السراء والضراء، فكما أوجب الله على المؤمن موالاة المؤمنين كذلك أوجب معاداة الكفار، وبغضهم والبعد عنهم، وبغض دينهم، وعدم مصادقتهم ومخاللتهم، فلا يتخذ الكافر صديقاً، ولا يركن إليه، بل على المؤمن أن يبغضه ويبغض دينه. إذاً واجب على المؤمن أن يوالي المؤمنين، أي: ينصرهم ويحبهم ويواليهم ويدافع عنهم، وواجب عليه أن يعادي الكفار ويبغضهم ولا يتولاهم ولا يحبهم ولا يوافقهم فيما هم عليه ولا يعاشرهم ولا يصادقهم، وإنما إذا عاملهم تكون معاملة دنيوية على حسب الحال من البيع والشراء معهم إذا احتاج، وهذا لا يلزم منه موالاة، فقد أوجب الله على المؤمنين موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار. أوجب الله موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين، وقد سرد المؤلف رحمه الله الآيات التي في سورة المائدة والتي نهى الله فيها عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة:51] يعني أيها المسلمون! {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فتولي الكفرة ردة وكفر، أما الموالاة فهي معصية وكبيرة، والموالاة هي: المعاشرة والمخالطة بدون حاجة لا لبيع ولا لشراء ولا للدعوة إلى الله، فيتخذ الكافر صديقاً، أما التولي فهو: محبتهم بالقلب، وينشأ عن ذلك نصرتهم وإعانتهم على المسلمين، فهذا ردة، فمن أحب الكافر بقلبه وأعانه على المسلمين بالسلاح أو بالرأي أو بالمال فهو كافر مثله؛ ولهذا قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فالتولي ردة والموالاة كبيرة. ثم قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:51 - 52] الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52] أي: يوالون اليهود والنصارى، ويقولون: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] وحجتهم هي: أن نتخذ يداً مع اليهود ونتخذ يداً مع المسلمين، فإن انتصر المسلمون قالوا لهم: نحن معكم فأعطونا من الغنائم، وإن انتصر اليهود صاروا معهم وقالوا: نحن معكم، وإنما أظهرنا لهم أننا منهم ونحن معكم، ولهذا كان عبد الله بن أبي يوالي بعض اليهود فإذا قيل له: لماذا؟ قال: أنا أخشى الدوائر. فإذا كانت الدائرة لليهود فيكون لي معهم يد. قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:52 - 54]، هذا هو وصف المؤمنين: يحبون الله ويحبهم الله. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] أي أنهم يعطفون على إخوانهم، ويرقون لهم، ويخفضون الجناح لهم، لكنهم على الكفار أعزة وأقوياء. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:54 - 55]، فهذا هو الإيمان، فولي المؤمن هو الله ورسوله والمؤمنون. من هم المؤمنون؟ قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. ثم علق المؤلف على الآية فقال: فقد أخبر سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنون، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، وكل مؤمن فهو ولي للمؤمنين، وكل مؤمن وليه الله ورسوله والمؤمنون سواء كان منتسباً إلى حرفة، أو كان جزاراً، أو خياطاً، أو بناءً أو مزارعاً، أو تاجراً، أو موظفاً، أو عربياً، أو عجمياً، سواء كان منتسباً إلى نسبة معينة، أو بلدة من البلدان سواءً كانت في المشرق أو في المغرب، أو كان على مذهب الشافعي أو كان مالكياً أو حنفياً، فكل من اتصف بهذه الصفات فهو ولي المؤمن، لا تنظر إلى حرفته ولا إلى بلده ولا إلى نسبته، كل مؤمن تقي متصف بهذه الصفات نتولاه بقطع النظر عن الحرفة وعن النسبة والبلدة والمذهب والطريق. قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]، فالمؤمن ولي أخيه ينصره ويؤيده مهما كان. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72]، فهذه هي أوصافهم، فمن اتصف بهذه الصفات فهو ولي، فيجب على المؤمنين أن يوالي بعضهم بعضاً، فإذا كان مؤمناً مهاجراً مجاهداً آوى ونصر فهذا هو المؤمن الذي يتولى. قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال:75]. وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] لماذا نص

وجوب اتحاد المسلمين حسيا ومعنويا

وجوب اتحاد المسلمين حسياً ومعنوياً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه). وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه). وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة]. سرد المؤلف رحمه الله الأدلة من الكتاب على أن المؤمن ولي أخيه المؤمن ينصره ويتولاه، ثم سرد الأدلة من السنة المطهرة، وقوله: في الصحاح، يعني: من الأحاديث الصحيحة التي وردت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فإذا آلمك عضوك تألم الجسم كله فينبغي كذلك أنه إذا تألم مؤمن يتألم المؤمنون كلهم؛ لأنهم كالجسد الواحد، والأمة الإسلامية جسد واحد، يعني: يشترك أفرادها في السراء والضراء، في الآلام والآمال، فما يحزن أخاك يجب أن يحزنك وما يؤلمه يؤلمك، وما يفرحه يفرحك، هكذا يكون الإيمان التام. وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه). وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهذا حديث عظيم، فلو تدبر وفكر الإنسان في هذا الحديث وطبقه على نفسه فلن يجد حسداً ولا عداوات ولا خصومات ولا نزاعاً بين الناس، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، في أمور الدين وفي أمور الدنيا، فأنت تحب لنفسك أن يوفقك الله للعلم النافع والعمل الصالح، وأن تكون من المحافظين على الصلوات الخمس، ومن المؤدين للواجبات، ومن المنتهين عن المحرمات، فأنت تحب هذا، فيجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فأنت تحب لنفسك من الدنيا أن يرزقك الله مالاً حلالاً فيجب أن تحب لأخيك هذا، وتحب أن يرزقك الله زوجة صالحة فتحب لأخيك مثله، فإذا كنت تحب لنفسك الخير ولا تحبه لأخيك فأنت لم تأتِ بالإيمان الكامل، بل إيمانك ناقص، فإذا كنت تحب لنفسك شيئاً ولا تحبه لأخيك في أمر الدين أو في أمر الدنيا فاعلم أن إيمانك ناقص ولم تؤدِ الإيمان الواجب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، وليس هذا من باب الاستحباب بل (لا يؤمن أحدكم) يعني الإيمان الكامل، وهذا واجب وليس مستحباً. فإذا كنت تحب لنفسك أن يوفقك الله للعلم فيجب أن تحبه لأخيك، فإن لم تحبه لأخيك فإنك لم تأت بالإيمان الواجب، وإيمانك ناقص وعليك أن تحاسب نفسك وتراجعها. وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يكذبه ولا يظلمه)، وفي لفظ له: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه). لا تظلمه لا في مال، ولا في أي أمر من أمور الدنيا، ولا تسلمه للعدو بل تدافع عنه، ولا تخذله.

تأكيد الله على مبدأ الأخوة

تأكيد الله على مبدأ الأخوة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جعل الله فيها عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159]. فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة بالظن والهوى، وبلا برهان من الله تعالى؟! وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم. وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه]. وقد جعل الله في عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض. أي: جعل الله في هذه النصوص عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالمؤمن ولي أخيه قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]. وجعلهم إخوة متناصرين ينصر بعضهم بعضاً، متراحمين يرحم بعضهم بعضاً، متعاطفين يعطف بعضهم على بعض، وهكذا هو حال المؤمن. وأمرهم سبحانه بالائتلاف، فيجب أن يأتلفوا ويتفقوا ويتحدوا وأن تكون كلمتهم واحدة وقلوبهم متفقة، ونهاهم عن الاختلاف، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103] وحبل الله هو: دينه وكتابه، وذم المتفرقين فقال عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، هذا تهديد لهم. يقول المؤلف: فكيف يجوز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة، مثلما يفعل بعض الناس من الفرق الموجودة عند بعض المسلمين الشباب، فهذا الشاب يوالي طائفة الإخوان ويعادي الطائفة السلفية، أو هذا الشاب يوالي طائفة السلفيين ويعادي طائفة الإخوان. إن الموالاة والمعادة لا تكون إلا في الله، وهذه الطائفة إذا كان عندها أخطاء تُبين أخطاؤها فإن رجعوا عن البدع وإلا يُهجروا، أما أن يوالي لأجل الطائفة فقط، فهذا لا يجوز، بل يجب عليك أن تنظر إلى الطائفة التي تريد أن تواليها، فإن كانت على الباطل، وإن كان فيها بدع فيجب ألا يواليها المسلم أما أن يوالي الطائفة فقط لأنهم من أهل بلده، أو لأن هواه يميل إليهم فهذا خطأ، ولهذا قال المؤلف: كيف يجوز مع هذا لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى؟ لكن إذا وجد برهان فلا بأس، وإذا كانت هذه الطائفة عندها بدع فيجب على المسلم أن يهجرها ويبتعد عنها ويتبرأ إلى الله منها فقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان على الاختلاف والتفرق. فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، لأن الخوارج يوالون ويعادون لأجل اعتقادهم الفاسد، ويكفرون الناس بالمعاصي، فمن عصى أو من فعل كبيرة كفروه، وإذا كفروه عادوه واستحلوا دمه وماله وخلدوه في النار، فهؤلاء يوالون ويعادون بالهوى. وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله. وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وهذا أقل ما يكون من الخلاف والفرقة، فإذا وجد أحداً يوافقه على هواه والاه وإن كان غيره أتقى منه، فالأتقى لله لا يواليه؛ لأنه خالف هواه، وهذا يواليه؛ لأنه وافق هواه، فهذا أقل ما في الخلاف، والواجب أن تكون الموالاة لله لا للهوى.

إيثار محاب الله على محاب النفس

إيثار محاب الله على محاب النفس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يداً واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسباً إلى الشيخ عدي]. الآن وجه الخطاب إلى طائفة عدي بن مسافر الأول، فقوله: (أن يكون مثلكم). يعني: شافعي؛ لأنهم كانوا شافعية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه وماله مع ما قد ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟]. فالواجب على المسلم أن يقدم ما قدمه الله ورسوله، ويؤخر ما أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، ويرضى بما رضي الله به ورسوله، فهذا هو المؤمن، وهذه صفة المؤمن الولي، وهذا هو التقي وهو الذي يوافق ربه فيرضى لرضا الله ويغضب لغضب الله، ويوالي في الله ويعادي في الله، ويحب في الله ويبغض في الله، ويكون خوفه ورجاءه من الله، وعطاءه لله ومنعه لله. والولي هو المؤمن التقي والولاية هي موافقة الولي الحبيب فهي محابه ومكارهه، والولي هو الذي يوافق الله ورسوله في محبوباته ومكروهاته، وعطائه ومنعه، وحبه وبغضه، فهذا هو الولي. وأن يكون المسلمون يداً واحدة فبعض الناس يضلل من خالفه فيقول فيه: إنه ظالم أو كافر، وقد يكون الصواب معه ولكن لأنه خالفه قال فيه: ظالم، وكافر، وفاسق، لو حققت ودققت وجدت الصواب معه. فيجب على الإنسان أن يتورع ويحبس لسانه عن صغير التكفير، ويتأمل ويتدبر الأمر، فقد يكون هو المخطئ، ولهذا قال المؤلف: وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافراً أو فاسقاً، فمن أخطأ فلا تضلله ولا تكفره، ومن حصل منه زلة فهذا لا يبيح لك تكفيره، ولهذا قال المؤلف: وقد عفا الله لهذه الأمة الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) وهذه رواية الإمام مسلم، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فخاف الصحابة، وشق عليهم هذا، وجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! أُمرنا بالصلاة والصيام والحج وهذه نطيقها وقد نزلت عليك هذه الآية ونحن لا نطيقها، وهي: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] يعني: ما تبديه لنفسك أو تخفيه فالله يحاسبك به، فمن الذي يستطيع أن يمنع الوساوس في الصلاة مثلاً. فجثوا على الركب وقالوا: (يا رسول الله! لا نطيق هذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فلما اقترأ القوم وذلت بها ألسنتهم نسخها الله وأنزل في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ولما قالوا: سمعنا، أنزل الله في إثرها آية تخفف عنهم وهي: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت). وهذا رواه الإمام مسلم في صحيحه. يقول المؤلف: لا سيما وقد يكون من يوافقكم في شيء أخص من الإسلام. يخاطب عدي بن مسافر، مثل أن يكون مثلكم على منهج الشافعي أو منتسب إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه. يعني يقول: إن بعض الناس يعادي الشخص الذي يخالفه حتى قد يكون موافقاً له في المذهب يكون شافعياً مثله أو منتسباً إلى الطائفة التي أنت منتسب إليها، لكنه يخالف في أمر من الأمور فيبدعه أو يكفره أو يفسقه وقد يكون الصواب معه، ثم تجد بعض الناس يستحل دمه وماله وعرضه، فيغتابه أو يأخذ ماله، أو يستحل دمه وجسده بالضرب، أو بالسجن، أو بالقتل -على سبيل المثال- من أجل أنه خالفه وقد يكون الصواب معه، فكيف يكون هذا الفعل من أفعال المسلم مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن على أخيه.

[12]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [12] جاء الإسلام بجلب المصالح ودفع المفاسد، ومن ذلك أنه حرم كل ما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث على تزكية النفس، وصلاح القلب، ومن أعظم أسباب صلاح القلب تدبر القرآن والخشوع في الصلاة.

سبب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين

سبب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا التفريق الذي حصل من الأئمة: علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14]. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب]. كلام المؤلف كلام عظيم يكتب بماء الذهب، وهذه الجمل التي قرئت كلمات عظيمة ينبغي أن تكتب بماء الذهب لعظم شأنها، وليس المراد أن تكتب بماء الذهب فقط للتجمل، بل لما اشتملت عليه من العلم العظيم المأخوذ من الكتاب والسنة، فجدير بطالب العلم أن يتأمل هذه العبارات ويعمل بها. يقول المؤلف: كيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون السبب في إطلاق هذه المسميات؛ لأن هذا ينتسب إلى بلد، أو لأن هذا ينتسب إلى مذهب، أو لأنه ينتسب إلى فرقة، أو هذا ينتسب إلى قبيلة، ويفرق كل التفريق بين الناس في هذه الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان. والأصل أن التفريق بين الناس يكون بالإيمان والكفر والسنة والبدعة، هذا هو الميزان، فالموالاة والمعاداة تكون على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الأسماء المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فلا يجوز أن تفرق بين الناس بسبب أن هذا موافق لك؛ لأنه من أهل بلدك فتواليه، وإذا كان من غير بلدك تعاديه، أو إذا كان يوافقك في المذهب تواليه وإذا خالفك تعاديه، أو من أهل فرقتك، فهذه الأمور ما أنزل الله بها من سلطان. ثم قال المؤلف رحمه الله: وهذا التفريق الذي حصل من علمائنا ومشائخنا وأمرائنا وكبرائنا هو الذي أوجب تسلط الأعداء علينا، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله. يعني: أن تفرق الأمة وتفرق علمائها وأمرائها وكبرائها أوجب تسلط الأعداء عليهم؛ لأنهم إنما تفرقوا بالباطل لا بالحق، حيث إنهم تركوا العمل بطاعة الله ورسوله، ومن ترك طاعة الله ورسوله وفرق بين الناس في أمور ما أنزل الله بها من سلطان فهو عاصٍ، ومن عصى الله سلط عليه الأعداء وحلت به العقوبات والنكبات، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:14]. انظر إلى قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14] فأخذ الله عليهم الميثاق والعهد، والميثاق ذكره الله في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة:12] والميثاق هو: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة:12]، والجزاء هو {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة:12]، وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14] ولكنهم لم يلتزموا فقال الله عنهم: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]. ولقد جازاهم الله بهذا وذلك بسبب معصيتهم، ثم جاء التهديد أيضاً: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:14]. إذاً الأمر خطير، والتفريق بين الأمة في أمور ما أنزل الله بها من سلطان، والموالاة والمعاداة من أجلها، وترك العمل بطاعة الله يسبب العداوة والبغضاء وتسليط الأعداء، كما أن النصارى لما أخذ الله منهم الميثاق ولم يعملوا به جعل الله بأسهم بينهم، وجعل الله بينهم العداوة والبغضاء؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، فإذا ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وتركوا العمل بطاعة الله وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا وقعت العداوة والبغضاء تفرقوا، وإذا تفرقوا فسدوا وهلكوا، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب؛ ولهذا بين الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس:19]. وذم الله المختلفين في آخر سورة هود فقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]، فاستثنى من وصفهم بالرحمة من الاختلاف، أي: إلا من رحم الله فليسوا مختلفين. {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]. إذاً: فالفرقة عذاب، والجماعة رحمة وصواب.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بين المؤلف الشيء الذي يجمع هذا بعد ذلك فقال رحمه الله تعالى: [وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103] إلى قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، فمن الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى]. هذا الأمر الذي سبق أن ذكرته له شيء يجمعه، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا هو الذي يجمعها، فإذا أمر الناس بالمعروف ونهوا عن المنكر صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم، واستقاموا على دين الله وكانوا أبعد ما يكونون عن الفرقة والخلاف، وسلموا من العقوبات والنكبات في الدنيا والآخرة، ولهذا قال المؤلف: وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103] إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. يقول: كيف يكون جماع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع ومن النهي عن المنكر النهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر كذلك إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله. إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع هذا الأمر الذي سببه استقامة الناس وصلاحهم وسلامتهم من الفرقة والاختلاف والعذاب والنكبات؛ لأن من الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله، فإذا أقام الناس الحدود على من خرج عن شريعة الله وأمروا بالائتلاف والاجتماع سلموا من العداوة والبغضاء والفرقة والاختلاف ثم يسلمون من العقوبات والنكبات وتسليط الأعداء.

حكم المرتد القتل

حكم المرتد القتل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتاً، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ومن فضل أحداً من المشايخ على النبي صلى الله عليه وسلم أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وكذلك من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأن الخضر لم يكن من أمة موسى عليه السلام ولا كان يجب عليه طاعته بل قال له: (إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلم، وكان مبعوثاً إلى بني إسرائيل -كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قلته]. مع أن كل هذه الأعمال التي ذكرها المؤلف أعمال كفرية وشركية تخرج الإنسان عن الإسلام، وتجعله في عداد الوثنية، ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها وأن يرقمها ويجعل تحتها خطاً. الأمر الأول من الأعمال الكفرية: من اعتقد في بشر أنه إله فهو كافر، فمن اعتقد في أي بشر أنه إله يستحق العبادة فهذا كافر بإجماع المسلمين دون خلاف، وإذا مات على هذا الاعتقاد فهو من أهل النار خالداً مخلداً في النار، وكفره أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب خص كفرهم وهذا وثني. ثانياً: من دعا ميتاً فإنه يكون كافراً، ومن قال للميت: يا فلان، ودعاه، وناجاه: أن اشفع لي، حتى ولو نادى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، فهذا كفر وردة، أو قال: أغثني، أو طلب منه الرزق أيضاً، من طلب من شخص ميت الرزق يكون كافراً، أو طلب من الميت أن ينصره على عدوه يكون كافراً. أو طلب منه أن يهديه حتى لو طلب الهداية من الحي، فإذا قال له: اهدني يعني هداية التوفيق والتسديد فقد كفر، أما إذا قال: اهدني إلى الحي يعني اهدني هداية الإرشاد فلا بأس بذلك، وكذلك من توكل على المخلوق أو على ميت يكون كافراً، أو سجد لحي أو ميت وكل واحد منهم يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، وإذا مات على ذلك فهو من أهل النار. ومن أنواع الكفر أيضاً: من فضل أحداً من المشايخ على النبي صلى الله عليه وسلم. فمن فضل أحداً على النبي صلى الله عليه وسلم من شيوخ الصوفية وغيرهم واعتقد أنه أفضل من محمد فهذا مرتد كافر إن تاب وإلا قتل، أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: لا حاجة لي بطاعة الرسول، فأنا أستغني عن طاعة الرسول. وإذا قال شخص: أنا أستغني عن طاعة الرسول بطاعة شيخ الطريقة، أو بطاعة ملك من الملوك، أو بطاعة فيلسوف فهذا يصير مرتداً فإن تاب وإلا قتل. فلا أحد يستغني عن طاعة الرسول؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله. وكذلك من الأعمال الكفرية: من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى، فهذا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً. فموسى عليه الصلاة والسلام من أنبياء بني إسرائيل وهو من أولي العزم الخمسة. ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً سأل موسى فقال: (من أعلم الناس؟ فقال: أنا -يعني في زمانه- فعتب الله عليه؛ لأنه لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: بلى عبدنا خضر أعلم منك، فقال: يا رب! أين أجده؟ قال: بمجمع البحرين). وجعل الله له علامة وهي أن يفقد الحوت فإذا فقده وجده، فسافر وذهب معه فتاه يوشع بن نون الذي كان نبياً بعد وفاته، وقد فتح يوشع بن نون بيت المقدس. فجلسا مجلساً فذهب الحوت، ثم انطلقا فلما أحس موسى بالجوع قال: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] فقال: (إني نسيت الحوت)، فقال له موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64]، فلما ذهب ورجع وجد رجلاً مسجى وسلم عليه، فرفع رأسه وقال: وأنى بأرضك السلام؟! يعني: أن الخضر استغرب منه السلام؛ لأنه في أرض ليس فيها سلام! قال: من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فقال: لم جئت؟ قال: جئت أتعلم ولتعلمني مما علمك الله. فقال -كما في بعض الروايات- أو لم تكفك التوراة التي أنزلها الله عليك؟ ثم جلس معه وتعلم، وهذا يدل على أهمية وفضل طلب العلم، فموسى هو كليم الله ومن أولي العزم الخمسة ومع ذلك ذهب يتعلم من الخضر وهو أقل منه فضلاً، لكن الله أعطاه علماً ليس عند موسى، فجلس موسى يتعلم، قال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] فذهبا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فأوقفها وهم يعرفونه، فوقفت وركبوا، فركبا في السفينة، فلما ركبا جاء بالقدوم وجعل يكسر السفينة، لقد أركبوهم بدون أجرة؛ لأنهم يعرفون الخضر، فجعل يكسر السفينة حتى خرق السفينة ودخل الماء، فصاح موسى: سبحان الله! ناس أحسنوا إلينا وأركبونا بدون أجرة وتخرب سفينتهم؟ {أََخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:71 - 73]، فسمح له، ثم جاءت المسألة الثانية وهي أعظم وأعظم، فجعلا يمشيان فمر بغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأس الصبي ورماه في الشارع، فصاح موسى: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، قال: هذا أمر عظيم كيف أصبر عليه، فشدد عليه الخضر قال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ} [الكهف:75] الأولى قال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} [الكهف:72] وهذه أكدها بـ (لك)، {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75] قال: هذه آخر مرة، فإن اعترضت عليك مرة أخرى نتفارق. فلما ذهبا إلى بلدة فيها جماعة من الناس لؤماء ردوهم ولم يعطوهم الضيافة، فجاء على جدار يكاد أن يسقط فجعل يبنيه، وبنى سوى الجدار وعمله بدون أجرة فاعترض عليه موسى فقال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] كما قص الله علينا في القرآن. والشاهد أن موسى يتعلم ممن هو أقل منه في المكانة، وقد اختلفوا في الخضر هل هو نبي أو عبد صالح؟ والصواب أنه نبي، والجمهور على أنه عبد صالح. والخضر له شريعة مستقلة؛ لأنه يوحى إليه، وموسى له شريعة تختلف عن شريعة الخضر، إذاً: فـ الخضر غير مأمور باتباع موسى في شريعته؛ لأن موسى لم يُرسل إلى الخضر وإنما أُرسل إلى بني إسرائيل وهم قومه، والخضر خرج عن شريعة موسى ويجوز له ذلك؛ لأن شريعة موسى ليست عامة. يقول المؤلف رحمه الله: كذلك من اعتقد أن أحداً من الأولياء يكون مع محمد عليه الصلاة والسلام كما كان الخضر مع موسى -يعني: يخرج عن شريعته- فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. فلو قال شخص: أنا لا ألتزم بشريعة محمد كـ الخضر عندما لم يلتزم بشريعة موسى، فنقول لمن يقول هذا الكلام: أنت كافر؛ لأن الخضر خرج عن شريعة موسى ولم يكفر به، فهناك فرق بين حالك مع محمد، وبين حال الخضر مع موسى، فالأمر الأول أن شريعة موسى ليست عامة إلى الثقلين بل هي خاصة لبني إسرائيل، ومحمد شريعته عامة، فليس لك أن تخرج عنه. ثانياً: الخضر نبي يوحى إليه، وأنت لست نبياً، فمن زعم أنه يجوز له الخروج عن شريعة محمد كما أنه جاز للخضر الخروج عن شريعة موسى فهو مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً. ولهذا بين المؤلف ذلك فقال: لأن الخضر لم يكن من أمة موسى عليه الصلاة والسلام وما كان يجب عليه طاعته بل قال الخضر لموسى: إني على علم من الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وكان موسى مبعوثاً إلى بني إسرائيل كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله.

كفر من كفر المسلمين أو استحل دماءهم

كفر من كفر المسلمين أو استحل دماءهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك من كفر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله فيجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره ولو بالقتل أو القتال، فإذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأكرم المتقون من جميع الطوائف كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضي الله ورسوله وتصلح أمر المسلمين، ويجب على أولي الأمر -وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها- أن يقوموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، ويأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم]. كذلك من كفر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم ببدعة، مثل ما يفعل الخوارج فهم يكفرون الناس بالمعاصي وبالكبائر ففي اعتقادهم أن من زنى كفر، ومن شرب الخمر كفر، ومن عق والديه كفر، فهذا يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره، فإن لم ينزجر إلا بالقتل قتل، وإن كانت طائفة يقاتلون حتى يتوبوا من هذه البدعة. قال المؤلف: فإذا عوقب المعتدي وأكرم المتقون من جميع الطوائف كان هذا من أعظم الأسباب التي ترضي الله ورسوله، ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، ويأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله، فهذا واجب عليهم، فيجب أن توجد طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإن تركت الأمة هذا الأمر فقدت الخيرية التي وصفها الله تعالى بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] أمة أي: طائفة. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فما هي الأمور التي يأمر بها الإنسان؟ وما هي الأشياء التي ينهى عنها؟ وما هو المعروف؟ المعروف: كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر: كل ما نهى الله عنه نهي تحريم أو تنزيه.

أمثلة المعروف التي يجب الأمر بها

أمثلة المعروف التي يجب الأمر بها المؤلف سرد لنا أمثلة للمعروف وأمثلة للمنكر فقال رحمه الله تعالى: [فالأول مثل شرائع الإسلام وهي الصلوات الخمس في مواقيتها، وإقامة الجمعة والجماعات من الواجبات والسنن الراتبات كالأعياد وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح وصلاة الجنائز وغير ذلك. وكذلك الصدقات المشروعة، والصوم المشروع، وحج البيت الحرام. ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره. ومثل الإحسان وهو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك]. فكل هذه الأمور المعروفة تُعد من المعروف، فصلاة الجمعة والسنن الرواتب والأعياد والكسوف والاستسقاء والتراويح وصلاة الجنائز وحج البيت كلها معروفة، ويجب على المسلم أن يأمر بها؛ لأنها من الدين وقد أمر الله بها ورسوله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومثل سائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة، ومثل إخلاص الدين لله، والتوكل على الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجاء لرحمة الله، والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله. ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، والعدل في المقال والفعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق مثل: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:40 - 43]]. فكل هذه أمثلة للأمر بالمعروف، والقاعدة في المعروف هي: كل ما أمر الله به ورسوله، سواء أمر وجوب أو أمر استحباب، وسواء كان من الأمور الباطنة أو الأمور الظاهرة، فالأمور الباطنة مثل إخلاص الدين، والتوكل على الله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجاء لرحمة الله، والخشية من عذابه، والصبر لحكمه والتسليم لأمره، والأمور الظاهرة مثل صدق الحديث، والوفاء في العهود وأداء الأمانات إلى آخر ذلك وهي أمور واضحة.

أمثلة للمنكر الذي يجب النهي عنه

أمثلة للمنكر الذي يجب النهي عنه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله وهو: أن يدعو مع الله إلهاً آخر إما الشمس وإما القمر، أو الكواكب، أو ملكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء، أو رجلاً من الصالحين، أو أحداً من الجن، أو تماثيل أشخاص معينين أو قبورهم أو غير ذلك مما يدعى من دون الله أو يستغاث به أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله]. وهذا هو أعظم المنكرات. والمنكر القاعدة فيه هي: كل ما نهى الله عنه ورسوله، وأعظم المنكرات الشرك بالله، كما أن أعظم الأوامر توحيد الله. ثم يلي أعظم الأوامر بعد التوحيد الصلوات الخمس، وأعظم المنهيات الشرك ويليه قتل النفس، ولهذا بين المؤلف أن أعظم المنكرات الشرك الذي نهى الله عنه ورسوله، وله أمثلة: أن يدعو الإنسان مع الله إلهاً آخر، كأن يدعو الشمس أو القمر أو الكواكب، أو يدعو ملكاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً أو جنياً أو تماثيل أو طقوس يدعوها من دون الله أو يسجد لها أو يستغيث بها فكل هذا من الشرك. ثم يليه بعد ذلك قتل النفوس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حرم الله قتل النفس بغير حقها، وأكل أموال الناس بالباطل إما بالغصب وإما بالربا، أو الميسر كالبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق]. فكل هذه أمثلة للمنكر، وأعظمها بعد الشرك قتل النفس، ثم أكل المال بالباطل عن طريق الغصب أو الربا أو الميسر أو الغش أو الخداع وتنفيق السلعة بالحلف الكاذب وجحد الدين والحق فكل هذا من المنكرات، والبيوع والمعاملات التي نهى الله عنها ورسوله، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق فكل هذه أمثلة للمنكرات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك مما حرمه الله تعالى أن يقول الرجل على الله ما لا يعلم، مثل أن يروي عن الله ورسوله أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها، أو يصف الله بصفات لم ينزل بها كتاب من الله ولا أثارة من علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت من صفات النفي والتعطيل مثل قول الجهمية: إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات، وإنه لا يرى في الآخرة، وإنه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك مما كذبوا به الله ورسوله، أو كانت من صفات الإثبات والتمثيل مثل من يزعم أنه يمشي في الأرض أو يجالس الخلق أو أنهم يرونه بأعينهم، أو أن السماوات تحويه وتحيط به، أو أنه سار في مخلوقاته إلى غير ذلك من أنواع الفرية على الله]. وهذه كذلك من الأمثلة للمنكر، وأكثر الأمثلة التي ذكرها المؤلف هنا تعتبر من الكفريات، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. فالقول على الله بلا علم جعله الله فوق الشرك؛ لأنه يدخل في الشرك وغيره. ومن يروي أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها فهذا من الكذابين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين أو الكذابين). كذلك من وصف الله بصفات لم ينزل بها كتابه، وسواء كانت من صفات النفي أو التعطيل مثل قول الجهمية: إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات إله! فهذا كفر وردة، فقد كفر العلماء من أنكر علو الله على خلقه، وكذلك من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، كفره الأئمة كذلك. ومن صفات الإثبات والتمثيل مثل من يزعم أن الله يمشي في الأرض، أو أن الله يجالس الخلق، أو أنهم يرونه بأعينهم أو أن السماوات تحويه وتحيط به، أو أنه سار في المخلوقات مثلما يقوله الاتحادية، يقولون: إن الله سارٍ في المخلوقات مثلما يسري الدهن ويسري الماء في العود، ومثلما تسري النار في الفحم! فهذا كفر وردة، وكلها أقوال كفرية. نعوذ بالله. وهي من أعظم الفرية على الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فإن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات فأحدث الشيطان عبادات ضاهاها بها مثل أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له، فشرع لهم شركاء وهي عبادة ما سواه والإشراك به، وشرع لهم الصلوات الخمس وقراءة القرآن فيها والاجتماع له، والاجتماع لسماع القرآن خارج الصلاة أيضاً فأول سورة أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، أمر في أولها بالقراءة وفي آخرها بالسجود بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]]. وهذه أيضاً أمثلة للعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فلو شرع الإنسان لنفسه بأن يتعبد لله بزيادة ركعة في الصلوات ففي الرباعية صلى خمساً، أو في الثلاثية صلى أربعاً، أو شرع لنفسه صلاة ثالثة، فكل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وقد تكون كفراً وضلالاً، ثم بين أن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات، فأحدث لهم الشيطان عبادات ضاهاها بها، يعني: ماثلها، فالله تعالى شرع لعباده عبادات، والشيطان أحدث لأوليائه عبادات يماثلون ويضاهون بها ما شرع الله، ومثال ذلك: أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له، وشرع الله لهم أن يعبدوه ويخلصوا له العبادة، فشرع الشيطان لهم شركاء وهي عبادة ما سواه والإشراك به. وشرع الله للمسلمين الصلوات الخمس، وقراءة القرآن والاستماع للقرآن خارج الصلاة، فأول سورة أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، أمر الله في أولها بالقراءة وفي آخرها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]. فالشيطان يشرع لهم أشياء تضاهي هذه العبادات حتى تخرجهم من السنة إلى البدعة. كل هذه أمثلة للمنكرات.

فضل قراءة القرآن وكيفية قراءته الصحيحة

فضل قراءة القرآن وكيفية قراءته الصحيحة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لـ أبي موسى رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. ومر النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي موسى رضي الله عنه وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته، فقال: (يا أبا موسى، مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك. فقال: لو علمت لحبرته لك تحبيراً. وقال: لله أشد أذناً - أي استماعاً- إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته)]. قال رحمه الله: ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة: قراءة القرآن، يعني: أن الصلاة هي أعظم المعروف بعد توحيد الله عز وجل، وأعظم الأذكار فيها قراءة القرآن، قال: ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له، إذاً فالصلاة فيها أقوال وأفعال، فأعظم الأقوال والتي هي الأذكار في الصلاة: قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله عز وجل، وبه تختم الركعة، فالسجود أعظم الأفعال في الصلاة؛ لأن الساجد يعفر وجهه بالتراب ويجعله على الأرض والوجه هو أشرف شيء، وذلك خضوعاً لله عز وجل. وقال تعالى: {وََقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] يعني: وقراءة الفجر، وقرآن الفجر هو صلاة الفجر، فسميت صلاة الفجر قرآناً لأن أطول ما فيها القراءة، فلهذا سميت قرآناً، قال تعالى: {وََقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] يعني: وصلاة الفجر. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فيصعد ملائكة الليل ويبقى ملائكة النهار. قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، فيتأملون ويتدبرون ويتفكرون في الآيات، وكذلك الحديث فكان يقرأ واحد الحديث والباقي يستمعون إليه، أو القصيدة المفيدة التي تحوي على الحكم فيقرأ واحد والباقي يستمعون، أما ما يفعله بعض الناس من الأناشيد الجماعية الآن وتجده يلحن الأناشيد تلحين الغناء، فلا يفرق بينه وبين الغناء، وبعضهم ينشد نشيداً جماعياً، يرفعون فيه الصوت رفعاً واحداً ويخفضونه خفضاً واحداً، هذا معناه أن المستمع إنما يتلذذ بالأصوات وبالنغمات فقط، ويتأمل متى يرفعون الصوت ومتى يخفضون الصوت دون أي فائدة، وهذا فيه مشابهة للصوفية، فنصيحتي للشباب: أن يتركوا ما يسمونه بالأناشيد الإسلامية، فهذه ليست أناشيد إسلامية، والإسلام منها بريء، كونه بصوت واحد ويلحنونها تلحين الغناء، حتى لو لم يلحنوا فلا فائدة فيها، فالمسلم لا يستفيد منها، إلا من النغمات فقط، لكن إذا قرأ واحد قراءة عادية ليس فيها تلحين والباقي يستمعون، سواء كان يقرأ القرآن وهو أعلى الذكر، أو حديث أو قصيدة مفيدة، واحد يقرأ والباقي يستمعون، أما جماعة يقرءون فلا فائدة في ذلك، ولا أحد يتدبر، ولا أحد يتأمل، ولا ينظر إلا إلى النغمات، وهذا من استحواذ الشيطان على بعض الشباب الطيبين والذين عجز عنهم الشيطان أن يسمعوا الغناء فجاءهم من هذا الباب، بحجة أن هذه أناشيد إسلامية وهي ليست كذلك، فكانوا يأمرون واحداً يقرأ والباقي يسمع، وهذا الذي يقرأ لا يلحن تلحين الغناء، فإذا لحن تلحين الغناء ما حصل المقصود، مثلما يفعل بعض الناس يقرء القصيدة لكنه يلحنها تحلين الغناء ويتأوه ويمطط، فهذا لا يجوز، حتى في قراءة القرآن، فبعض القراء والعياذ بالله يغني، وبعض المغنين، يغني قل هو الله أحد، والعياذ بالله. أو يغني بالحديث، حتى الأذان وقراءة القرآن ينبغي أن تكون قراءة عادية فلا يكون فيها تطريب، ولهذا ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن عبد العزيز قال لمؤذن له: أذن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا. فبعض الناس إذا أذن يمطط الأذان تمطيطاً، وتلحيناً، ويأتي إذا انتهى الصوت بصوت آخر بعده، ولهذا قال العلماء: يكره الأذان الملحن وتكره القراءة الملحنة. وبعض المؤذنين يعدم المناسبة فتجده لا تتناسب تكبيراته، فالتكبيرة الأولى قصيرة، فينبغي أن تكون التكبيرات متعادلة، التكبيرة الأولى تعادل التكبيرة الثانية. والشهادة الأولى تعادلها الشهادة الثانية في الطول. وبعض المؤذنين يعجب بأذان المطربين والملحنين فيقلدهم، فالتلحين في الأذان مكروه، كما أن قراءة القرآن تكون بأن يقرأ واحد والباقي يستمعون، فلو قرءوا القرآن بشكل جماعي فهذا ليس مشروعاً إلا إذا كان من باب تعليم الصبيان؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، فلا يقرءون قراءة جماعية، أما أن يقرءوا قراءة جماعية فهذا لا فائدة فيه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون؛ لأن الصلاة تذكر بالله عز وجل. ومر النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي موسى! رضي الله عنه وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته، فقال: (يا أبا موسى، مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك، فقال: لو علمته لحبرته لك تحبيراً). يعني: من أجل استماع النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على ذلك فتحسينها مشروع وليس المراد من قوله: (حبرته لك) الرياء، وإنما المقصود بقوله: (حبرته لك) يعني: باستماعك له، حتى تحصل فضيلة تحسين الصوت، وحتى يستفيد من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد أذناً - أي: استماعاً - إلى الرجل يحسن صوته بالقراءة من صاحب القينة إلى قينته). وهذا من صفات الله، والأذن هو الاستماع، وهي من الصفات التي تليق به سبحانه وتعالى كسائر الصفات. (لله أشد أذناً - أي: استماعاً - من الرجل يحسن صوته من صاحب القينة إلى قينته). يعني: المغنية إلى مغنيته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشايخ كـ معروف الكرخي والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ونحوهم، وهو سماع المشايخ المتأخرين الأكابر كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين وغيرهم من المشايخ رحمهم الله. وأما المشركون فكان سماعهم كما ذكره الله في كتابه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]. قال السلف: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد، فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون ويتخذون ذلك عبادة وصلاة، فذمهم الله على ذلك وجعله من الباطل الذي نهى عنه، فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم، وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله أكابر المشايخ. وأما سماع الغناء على وجه اللعب فهذا من خصوصية الأفراح للنساء والصبيان كما جاءت به الآثار؛ فإن دين الإسلام واسع لا حرج فيه]. وهذا فيه بيان سماع المؤمنين وسماع المشركين، فسماع المؤمنين هو سماع القرآن، يستمعون القرآن وذلك بأن يقرأ أحدهم والباقي يستمعون كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وكما كان عمر يقول لـ أبي موسى الأشعري، وكما استمع النبي صلى الله عليه وسلم لقراءة أبي موسى الأشعري، فهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشايخ ومثلهم معروف الكرخي والفضيل بن عياض وأبي سليمان وغيرهم، سماعهم هو سماع القرآن ومنه سماع الأحاديث أيضاً، سماع القصائد المفيدة. وأما المشركون فسماعهم -كما ذكر الله- هو المكاء والتصدية، أي: الصفير والتصفيق، ويتعبدون بذلك، يقول المؤلف: فكان سماعهم كما ذكره الله في كتابه في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]. قال السلف: المكاء الصفير والتصدية التصفيق باليد، فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون ويتخذون ذلك عبادة وصلاة، فذمهم الله على ذلك وجعل ذلك من الباطل الذي نهاه، والتصفيق ليس من شأن الرجال وإنما هو من شأن النساء، ولهذا إذا صلى في المسجد رجالاً ونساء وأخطأ الإمام في صلاته سبح الرجال وصفقت النساء، فالرجل يسبح يقول: سبحان الله سبحان الله، والمرأة تصفق تنبيهاً للإمام، ويكون التصفيق بباطن كفها اليمنى على ظهر كفه اليسرى تنبيهاً، وذلك لئلا يفتتن بصوتها، ولكن تجد بعض الناس في الحفلات إذا أعجبهم شيء صفقوا ويصفرون أيضاً، وهذا لا ينبغي لأهل الإسلام أن يتشبهوا بالكفرة وبالنساء، بل إذا أعجبك شيء قل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أو سبحان الله سبحان الله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه شيئاً سبح أو كبر. يقول المؤلف: فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم، أي: أنه اتخذ هذا السماع وهو المكاء والتصدية قربة يتقرب إلى الله فقد شابه المشركين، وهذا لم يفعله أحد من القرون الثلاث التي أثنى الله عليهم

وجوب الاعتناء بالصلاة

وجوب الاعتناء بالصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو: الصلوات الخمس المكتوبات، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من العمل أشد إضاعة. وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا، وجعل يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين فإذا ذهبت ذهب الدين كله، وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وقد قال الله في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: إضاعتها تأخيرها عن وقتها ولو تركوها كانوا كفاراً. وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] والمحافظة عليها: فعلها في أوقاتها. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت]. هذا فيه بيان عظم شأن الصلاة وأنها عماد الدين، يقول المؤلف رحمه الله: عماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات؛ لأن الصلوات الخمس هي أفرض الفرائض وأوجب الواجبات بعد توحيد الله عز وجل، وهي صلة العبد بربه، فإذا ترك العبد الصلاة قطع الصلة التي بينه وبين الله، وكيف يرجو الإنسان المدد من الله ويرجو رحمة الله وفضله وجوده وبره وهو قد قطع الصلة التي بينه وبينه؟! وكيف يقر له قرار؟ وكيف يهنأ بعيش؟ وكيف يهنأ بأكل وشرب؟ وكيف يتمتع بالحياة وقد قطع الصلة بينه وبين الله؟!!

[13]

شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [13] الصلاة عمود الدين، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة، وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، وهي آخر ما أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام أمته عند موته، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله.

الصلوات الخمس المفروضات

الصلوات الخمس المفروضات

مكانة الصلاة في الإسلام

مكانة الصلاة في الإسلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به، هو الصلوات الخمس المكتوبات، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من العمل أشد إضاعة. وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا، جعل يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم). وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله. وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله). وقد قال الله في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها كانوا كفاراً. وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] والمحافظة عليها: فعلها في أوقاتها. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت]. هذا فيه بيان عظم شأن الصلاة وأنها عماد الدين، يقول المؤلف رحمه الله: عماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات؛ لأن الصلوات الخمس هي أفرض الفرائض وأوجب الواجبات بعد توحيد الله عز وجل، وهي صلة العبد بربه، فإذا ترك الصلاة قطع الصلة بينه وبين الله، فكيف يرجو الإنسان المدد من الله ويرجو رحمته وفضله وجوده وبره، وقد قطع الصلة بينه وبين ربه؟! وكيف يقر له قرار ويهنأ بعيش؟! ويهنأ بأكل وشرب ويتمتع بالحياة وقد قطع الصلة بينه وبين الله؟! فتارك الصلاة مقطوع الصلة بالله، فصلته بالله مبتورة. فالصلوات الخمس المكتوبات -أي: المفروضات- هي عماد الدين، ولا يقوم الدين إلا بها، فمن ترك الصلاة فلا دين له، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة. والصلوات الخمس هي أول ما أوجب الله من العبادات، فقد شرعت في مكة ليلة المعراج بخلاف بقية شرائع الإسلام، فالزكاة والصوم والحج والأذان والحدود كلها فرضت في المدينة، لكن الصلاة لعظم شأنها فرضت في مكة، وفرضت فوق السبع الطباق، لما تجاوزها نبينا صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: فرضت بدون واسطة بخلاف بقية شرائع الإسلام فإنها تكون بواسطة جبرائيل، فيوحي الله إلى جبرائيل فينزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. أما الصلاة فإن الله كلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من دون واسطة ليلة المعراج فوق السبع الطباق، ولهذا قال المؤلف: وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج، يعني: من دون واسطة. وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا، جعل يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) يعني: الزموا الصلاة واعتنوا بها، وبالأرقاء الذين هم ملك الأيمان وهم العبيد والإماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالعناية بهم، وعدم إيذائهم وظلمهم. والصلاة أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله، ونحو هذا روي عن الإمام أحمد أنه قال: الصلاة آخر ما يفقد من الدين وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء. وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة)، يعني: الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم رأسه الإسلام، وهو: الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة منه وأهله. وعموده الصلاة، وقد قال الله في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] وهذا وعيد شديد، قال العلماء: معنى أضاعوا الصلاة: أخروها عن وقتها ومعنى: غياً: هو شدة العذاب والهلاك، وقيل: واد في جهنم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: إضاعتها: تأخيرها عن وقتها ولو تركوها كانوا كفاراً. فهذا يدل على أن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن ترك الصلاة كفر. وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، والمحافظة عليها فعلها في أوقاتها. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت؛ فإذا كان الذي يؤخر الصلاة متوعد بالويل وهو شدة العذاب، فكيف يكون حال تارك الصلاة؟ فقد دلت النصوص على أنه كافر، قال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وقال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). رواه الإمام أحمد وأهل السنن. والبينية تفصل بين الشيء وغيره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة حداً فاصلاً بين الإسلام وبين الكفر. وقال عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر حبط عمله). رواه البخاري في صحيحه. والذي يحبط عمله هو الكافر، فالنصوص الكثيرة والواضحة تدل على كفر تارك الصلاة، وقد نقل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة.

أعذار تأخير الصلاة عن وقتها

أعذار تأخير الصلاة عن وقتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل، ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار، لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما، لكن يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما، ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما، وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر، ونحو ذلك من الأعذار]. يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهما الظهران أي: الظهر والعصر في وقت إحداهما، فيجمعهما جمع تقديم، فيصلي الظهر مع العصر في وقت الظهر، أو يجمعهما جمع تأخير فيصلي الظهر مع العصر في وقت العصر، وكذلك يجمع بين صلاتي الليل وهما العشاءان، أي: المغرب والعشاء في وقت إحداهما، فيصلي المغرب والعشاء في وقت المغرب، وهذا جمع تقديم، أو يؤخر المغرب إلى وقت العشاء فيصليهما معاً، وهذا جمع تأخير، وذلك لمثل المسافر والمريض. وعند اشتداد المطر إذا تأذى منه الناس في البلد فيجوز الجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم دفعاً للمشقة، ونحو ذلك من الأعذار كالخوف.

الأحوال التي يكون فيها التيمم

الأحوال التي يكون فيها التيمم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أوجب الله على المسلمين أن يصلوا بحسب طاقتهم، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فعلى الرجل أن يصلي بطهارة كاملة وقراءة كاملة وركوع وسجود كامل، فإن كان عادماً للماء، أو يتضرر باستعماله لمرض أو برد أو غير ذلك وهو محدث أو جنب يتيمم الصعيد الطيب وهو التراب يمسح به وجهه ويديه ويصلي؛ ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء]. المسلم يصلي بحسب طاقته، فيصلي قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز صلى على جنبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). يعني: على جنبه الأيمن. زاد النسائي: (فإن لم تستطع فمستلقياً) بأن يستلقي ورجلاه إلى القبلة، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالعاجز عن الوقوف يصلي قاعداً، والعاجز عن القعود يصلي على جنبه، والعاجز على صلاة الجنب يصلي مستلقياً. وكذلك يجب على الإنسان أن يتوضأ، فإذا عجز عن استعمال الماء أو لم يجده انتقل إلى التيمم بالتراب فينوي ويسمي الله فيقول: باسم الله، ويضرب بيديه الأرض ضربة واحدة مفرجتي الأصابع فيسمح بهما وجهه، ثم يضرب بيديه الأرض مرة أخرى وجهه ويمسح يديه ظاهرهما وباطنهما إلى الكفين كما في حديث عمار، ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء. وبعض الناس إذا كان مريضاً في المستشفى لا يصلي، فإذا قلت له: يا فلان لماذا لم تصل؟ قال: يا أخي، إن ثيابي نجسة وفيها دماء ولا أستطيع، لكن إن شاء الله إذا خرجت من المستشفى تطهرت وصليت، فهذا غلط كبير يجب على الزائرين أن ينبهوا المرضى، فالصلاة لا تؤخر عن وقتها، فيجب عليه أن يصلي على حسب حاله، فإن كان لا يستطيع أن يتوضأ بنفسه يوضئه شخص آخر، وإن كان لا يستطيع الاستنجاء بالماء يستجمر بالمناديل أو الورق الخشنة ثم يتوضأ، فإن عجز يتيمم بالتراب للحدث الأكبر أو الأصغر، فإن عجز عن ذلك ييممه من حوله، فينوي ويضرب بيديه التراب ويمسح بهما وجهه ويديه، ويصلي الصلاة في وقتها ولا يعيد. كذلك أيضاً يصلي على السرير، فإذا كان يستطيع التوجه إلى القبلة يتوجه، وإذا لم يستطع فيصلي على حسب حاله، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). ولا يؤخر الصلاة عن وقتها بحجة أنه إذا خرج من المستشفى فإنه سيصلي، فقد يموت ويترك الصلاة. فهذا الأمر ينبغي لطلبة العلم أن ينبهوا المرضى عليه، أنه يجب على المريض أن يصلي على حسب حاله إذا كان العقل معه، وما عجز عنه يسقط، أما إذا فقد العقل ارتفع التكليف، إلا إذا كان في غيبوبة مثلاً لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أيام أو أكثر، فإنه يقضي الصلاة في هذه المدة، أما إذا طالت الغيبوبة وفقدان الشعور لمدة أسبوع أو أسبوعين فيعتبر كالمجنون وكالنائم والمغمى عليه مدة طويلة فيسقط عنه التكليف فلا يجب عليه القضاء.

حكم صلاة فاقد الطهورين

حكم صلاة فاقد الطهورين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك إذا كان محبوساً، أو مقيداً، أو زمناً، أو غير ذلك صلى على حسب حاله، وإذا كان بإزاء عدوه صلى أيضاً صلاة الخوف، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:101 - 102] إلى قوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] إلى قوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]]. وإذا كان الإنسان محبوساً في أرض نجسة؛ وليس عنده ماء ولا تراب أو كان مصلوباً على خشبة، أو كان زمناً بأن مرض مرضاً فلا يستطيع الحركة، فإنه يصلي على حسب حاله، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، أما من فقد الماء والتراب فيسمى فاقد الطهورين، فينوي ويصلي ولا يعيد الصلاة، والدليل على ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، ومعه زوجته عائشة فسقط منها عقد كانت تتجمل به، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم جماعة يبحثون عنه وحان وقت الصلاة وليس معهم ماء ولم يشرع التيمم، فصلوا بغير ماء ولا تراب، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادتها. فدل ذلك على أن الإنسان إذا كان ما عنده ماء ولا تراب فصلى بدون أحدهما فصلاته صحيحة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

كيفية صلاة الخوف

كيفية صلاة الخوف وكذلك إذا كان بإزاء عدوه صلى صلاة الخوف، ولو كان يركض ركضاً، ويومئ بالركوع وبالسجود حتى لا يدركه الأذى، وهذه الصلاة تسمى صلاة المطلوب. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على وجوه متعددة، فإذا كان العدو جهة القبلة كان النبي يصفهم صفين، وكبر وكبروا جميعاً، ثم ركع وركعوا جميعاً، ثم رفع ورفعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وبقي الصف الثاني يحرسهم من خلفهم، ثم قام إلى الركعة الثانية وتقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع وركعوا جميعاً، ثم رفع ورفعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، الذي كان هو الصف المؤخر، ثم لما انتهى من الركعة الثانية قامت كل طائفة وأتت بركعة فسلم بهم جميعاً. وصلى بكل طائفة ركعتين ركعتين. وإذا كان العدو في غير جهة القبلة صلى بهم إلى غير القبلة، ولها وجوه متعددة، قال الإمام أحمد: ثبتت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة أوجه أو سبعة أوجه، وكلها جائزة والله تعالى بينها في كتابه قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101] والضرب في الأرض هو السفر. ثم قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:101 - 102] أي: إذا كانوا خائفين فيصلون ومعهم السلاح، إذا كان فيهم من يشق عليه حمله أو كان مريضاً فيضعه مع أخذ الحذر، ثم قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع). والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فمن العلماء من يقول: يكون مرتداً كافراً لا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين. ومنهم من يقول: يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس والزاني المحصن]. يجب على القادر أن يأمر بالصلاة ولا سيما في بيته، فيأمر الرجال والنساء حتى الصبيان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر). فإذا بلغ الصبي سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة، حتى يبلغ عشراً، فإذا بلغ العشر فيؤمر بالصلاة، فإن رفض الصلاة أو تركها ضُرِبَ ضربَ تأديب لا ضرب تعذيب، فلا يجرح ولا يكسر العظم. فإذا بلغ وامتنع عن الصلاة فإنه يستتاب من قبل ولاة الأمور فإن تاب وإلا قتل. إذاً: الصبي إذا بلغ سبع سنين فإنه يؤمر ولا يضرب إذا امتنع، فإذا بلغ عشر سنين فيؤمر فإن امتنع ضرب، فإذا بلغ خمس عشرة سنة أو نبت في عانته شعر خشن أو احتلم وامتنع عن الصلاة فيستتاب من قبل ولاة الأمور وإلا قتل. فمن العلماء من يقول فيه: يكون مرتداً كافراً لا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين؛ لأنه يكون كافراً، وهذا هو الراجح أو الأصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وقال بعض أهل العلم: يكون مسلماً لكن حكمه حكم مرتكب الكبيرة فيقتل، كقاطع الطريق وقاتل النفس، والزاني المحصن فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، لكن هؤلاء يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون. والصواب: أن ترك الصلاة كفر، وتاركها كافر ولو لم يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين بغير خلاف، كأن يقول: الصلاة ليست واجبة، أما إذا كان يعتقد بقلبه ويقول بلسانه أن الصلاة واجبة، لكن تركها كسلاً وتهاوناً، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء، والصواب أنه يقتل كفراً، وقال آخرون من أهل العلم: يقتل حداً.

أهمية الصلاة ومكانتها

أهمية الصلاة ومكانتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر ههنا، فإنها قوام الدين وعماده، وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات، فإنه سبحانه يخصها بالذكر تارة، ويقرنها بالزكاة تارة، وبالصبر تارة، وبالنسك تارة كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها كما ذكره في سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1]، وفي أول سورة المؤمنين، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]]. هذا فيه بيان مكانة الصلاة وأهميتها، فإنها قوام الدين، يعني: لا يقوم الدين إلا بها، وهي عماد الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة). والشيء الذي هو قوام الدين وعماده هو أهم المهمات، فالصلاة أوجب الواجبات بعد توحيد الله عز وجل، والله تعالى عظمها في كتابه فوق جميع العبادات، ولها ميزة وخصوصية ليست لغيرها، فإنه سبحانه يخصها بالذكر تارة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وتارة يقرنها بالزكاة: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وتارة يقرنها بالصبر: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وتارة يقرنها بالنسك وهو الذبح: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162]. وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها لعظم شأنها، فالله تعالى يذكر أعمال البر ويبدؤها بالصلاة ويختمها بالصلاة لعظم شأنها، قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، ثم ذكر أوصافهم وافتتحها بالصلاة فقال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:29]، إلى أن قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:29 - 34]، فختم الله أعمال البر بالصلاة، ثم قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]. وقال في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] والوصف الأول من أوصافهم الصلاة: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:2 - 9] ختمها بالصلاة، ثم قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].

الكلام عن الفردوس

الكلام عن الفردوس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون]. الفردوس هو أعلى طبقات الجنة وأوسطها، ولا يكون وسط الشيء أعلاه إلا إذا كان مدوراً، فهذا يدل على أن الجنة مدورة ليست مربعة ولا مسدسة، فلو كانت مربعة أو مسدسة لم يكن وسطها أعلاها، فالجنة مدورة مثل القبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن)، وفي لفظ: (وسقفه عرش الرحمن). إذاً: الفردوس أعلى الجنة وسقف الفردوس عرش الرحمن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً]. الحمد لله على التمام، وبهذا نكون قد انتهينا من الرسالة، ويكون هذا الدرس آخر الدروس.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من قال: أنا سلفي

حكم من قال: أنا سلفي Q هل يقول الإنسان أنا سلفي؟ A السلف الصالح هم أهل السنة والجماعة وهم الطائفة الناجية والمنصورة، وهم أهل الحق، وهم أهل الاستقامة، فكل هذه الأسماء تعود لمسمى واحد. وسلف هذه الأمة هم الصحابة والتابعون، والأئمة والعلماء، فإذا قال الإنسان: أنا من السلف الصالح، أو من أهل السنة والجماعة فلا بأس؛ لأن السلف الصالح هم أهل السنة والجماعة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)، فكل من لزم السنة فهو من أهل السنة والجماعة، ويقال: إنه من السلف؛ لأنه تابع للسلف الصالح، ولو كان متأخراً عنهم. وأما قول بعض الناس: إن الفرقة الناجية غير الطائفة المنصورة فليس بصحيح، فالطائفة المنصورة هم الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة، وهم المذكورون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي لفظ: (وهي الجماعة). أي: أهل السنة والجماعة، وفي مقدمتهم العلماء وكل من لزم الحق وإن كان مزارعاً أو تاجراً أو حداداً أو نجاراً أو خبازاً أو خرازاً أو بناءً أو مبلطاً أو دهاناً إذا كان مستقيماً على طاعة الله. والطائفة المنصورة قد تكون في مكان واحد وقد تكون في أمكنة متعددة، وقد تقوى وتكثر في بعض الأمكنة وقد تقل، فقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). ومن ادعى أنه سلفي ويريد بذلك التحزب فهذا ممنوع لا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوها؛ فإنها منتنة). وكذلك من ادعى أنه سلفي وليس بسلفي، قال الشاعر: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك والميزان في ذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فمن كان متبعاً للكتاب والسنة فهو على الحق، أما الأسماء فلا تقدم ولا تؤخر، فالمهم الحقائق.

مفهوم السلفية

مفهوم السلفية Q هل السلفية جماعة حزبية كالإخوان والسرورية والتبليغ؟ A هذا مفهوم خاطئ، بل السلفية اسم شرعي أصيل، يراد به أهل السنة والجماعة وأهل الأثر، وأهل الحديث، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة وأهل الاتباع، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في الفتاوي في رده على قول العز بن عبد السلام، فقال: لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، واعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاًً، فإن كان موافقاً له باطناًَ وظاهراً فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً، وإن كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق، فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، ولا نشق بطونهم. وقال في الفتوى الحموية: واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً. والسلفية: هي الإسلام. وقال الذهبي رحمه الله في التذكرة لما ترجم لـ ابن الصلاح رحمه الله: وكان سلفياً حسن الاعتقاد، بعيداً عن تأويل المتكلمين مؤمناً بما ثبت من النصوص غير خائض ولا معمق. وقال الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله في فتاواه: وليست الوهابية مذهباً خامساً كما يزعمه الجاهلون والمغرضون، وإنما هي دعوة إلى العقيدة السلفية، وتجديد لما اندرس من معالم الإسلام من التوحيد. وقال في وصيته لبعض طلاب العلم: ونوصيكم بالالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فهي جامعة سلفية تعلم طلابها عقيدة أهل السنة والجماعة. وقال العلامة ابن عثمين حفظه الله في شرح العقيدة الواسطية: يخطئ من يقول: إن أهل الجماعة سلفيون وأشعريون وماتريديون، فهذا خطأ فكيف يكون الجميع أهل السنة وهم مختلفون؟ إلى أن قال: وأهل السنة والجماعة هم السلفيون معتقداً حتى المتأخر منهم إلى يوم القيامة إذا كان على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه سلفي. وقال الألباني رحمه الله في مجلة الأصالة في الجواب على سؤال: هل السلفية دعوة حزبية أم طائفية أم مذهبية، أم هي فرقة جديدة في الإسلام؟ فقال: هناك من مدعي العلم من ينكر هذه النسبة زاعماً أن لا أصل لها، فيقول: لا يجوز للمسلم أن يقول: أنا سلفي متبع للسلف الصالح فيما كانوا عليه من عقيدة وعبادة وسلوك. لا شك أن مثل هذا الإنسان لو قال هذا الكلام بعينه، يلزم منه التبرؤ من الإسلام الصحيح الذي كان عليه سلفنا الصالح وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن التسمية الواضحة الجلية المميزة البينة هي أن تقول: أنا مسلم على الكتاب والسنة، وعلى منهج سلفنا الصالح، أو تقول باختصار: أنا سلفي. اهـ. إن الانتساب إلى السلف فخر عظيم يجب أن يفخر به كل مسلم ويعتز به، ونحن نقول لطالب العلم كما قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: كن سلفياً على الجادة. فيجب على طالب العلم أن ينبذ الحزبية وأن يتبرأ منها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمهاجرين والأنصار لما اختلف رجلان منهما، فنادى المهاجري فقال: يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري فقال: يا للأنصار! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها؛ فإنها منتنة). والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان فاعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما من دعوى الجاهلية لأنه صار فيهما تحزب. أما إذا أريد الانتساب إلى السنة وإلى السلف الصالح فلا بأس بذلك. فأهل السنة والجماعة لا يصيرون أحزاباً متعددة، فالمؤمنون حزب واحد هو حزب الله، والكفار هم حزب الشيطان.

حكم التغني بالقرآن

حكم التغني بالقرآن Q قلتم: لا يجوز التغني في الأذان والقرآن وغير ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) فما توجيهكم في ذلك؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن)، وقال أيضاً: (ما أذن الله لأحد ما أذن لنبي يتغنى في القرآن ويجهر به). وثبت في الحديث أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء وقرأ بالتين والزيتون قال الراوي: فما سمعت صوتاً أحسن منه). والتغني: المراد به تحسين الصوت، والغناء الممنوع هو ما يشبه الغناء والتطريب، وفرق بين هذا وهذا، فالتغني المطلوب هو تحسين الصوت في القراءة على وجه لا يشبه تلحين الغناء، أما الغناء الممنوع فهو أن يمطط الصوت ويلحنه تحلين الغناء المطرب الذي يذهب النفوس ويقعدها.

حكم سماع الأشرطة التي تحتوي على الموسيقى أو الدف

حكم سماع الأشرطة التي تحتوي على الموسيقى أو الدف Q ما حكم شراء الأشرطة النسائية التي تحتوي على أناشيد وفيها صوت الدف؟ الشيخ: إذا كان الشريط مشتملاً على موسيقى فهذا ممنوع وحرام، حتى ولو كان بصوت أطفال صغار. أما الدف فهو من شأن النساء في الأعراس، ولا داعي للدف لأن أقل أحواله إضاعة وقت بدون فائدة، والمسلم ولا سيما طالب العلم وقته ثمين فلا يضيعه في سماع الدف وأصوات لا فائدة فيها، بل يشغله فيما ينفعه في طاعة الله عز وجل.

حكم التكبير بصوت جماعي

حكم التكبير بصوت جماعي Q ما حكم التكبير الجماعي عند حدوث ما يسر؟ A هذا مشروع لكن لا يكون بصوت جماعي، فكل واحد يكبر وحده لكن إذا اتفقت بعض الأصوات من دون قصد فلا بأس. أما أن يرفعوا الصوت بالتكبير في صورة جماعية فهذا غير مشروع، إنما المشروع أن يكبروا أو يسبحوا كل واحد على حده.

حكم سماع الأناشيد المفيدة

حكم سماع الأناشيد المفيدة Q ما حكم سماع الأناشيد المفيدة التي تحمس على الجهاد وغيرها؟ A لا بأس بها إذا كان ليس فيها محذور، وينشدها واحد وليست أناشيد جماعية.

حكم الانتساب إلى القادري والعدوي وغيرهما من أهل السنة

حكم الانتساب إلى القادري والعدوي وغيرهما من أهل السنة Q ما وجه تسويغ انتساب الإنسان إلى الشيخ كالقادري والعدوي؟ A كأنه من أهل السنة وكان معروفاً في ذلك الوقت، فانتسب إليه تمييزاً له عن البدع وعن أهل البدع.

بيان معنى قول المؤلف بضلال من قال: إن المداد قديم

بيان معنى قول المؤلف بضلال من قال: إن المداد قديم Q ما المقصود من قول المؤلف: أن من قال: أن المداد قديم، ضال؟ A يعني بالمداد الحبر، الحبر يكون قديماً، فيجعله كالقرآن، والقرآن كلام الله قديم وهو صفة من صفاته، فالله تعالى هو الأول في ذاته وصفاته، هو الأول الذي لا بداية له، وهو الآخر الذي لا آخر بعده، فمن قال: المداد قديم، معناه: الحبر المخلوق يكون قديماً، فيكون رباً مع الله، فمن قال: إن بعض المخلوقات أول، فقد شابه قول الفلاسفة الذين يقولون: العالم قديم، فلا يوجد شيء قديم فكل المخلوقات محدثة، فالله تعالى هو الأول الذي لا شيء قبله، وما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم.

§1/1