شرح الوصية الكبرى

يوسف الغفيص

شرح الوصية الكبرى [1]

شرح الوصية الكبرى [1] أول مسألة وقع فيها الخلاف بين المسلمين هي مسألة السلوك والعمل، وقد افترق الناس فيها إلى فرق شتى، فالخوارج والمعتزلة غلوا في درجة العمل حتى جعلوا من ترك واجباً من الواجبات اللازمة معدوم الإيمان، والمرجئة بخلاف ذلك، فقد أنقصوا من درجة العمل حتى أخرجوه من مسمى الإيمان، والصوفية غلوا في مسألة تطبيق العمل، حتى خالفوا الكتاب والسنة، أما أهل السنة فقد قالوا: إن الإيمان قول وعمل، وفي هذه الوصية الكبرى لشيخ الإسلام كلام عن الصوفية والتصوف، وقد وجهها رحمه الله إلى طائفة من طوائف الصوفية.

حقيقة الخلاف الواقع بين المسلمين

حقيقة الخلاف الواقع بين المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: ففي مقدمة شرحنا لهذا الكتاب نبدأ بذكر مقدمات بين يدي الشرح: المقدمة الأولى: أن أكثر الاختلاف -بل وأكثر المخالفات- الذي يحصل بين المسلمين ليس فرعاً عن آحاد من المسائل، بل هو في الجملة فرع عن فوات الفقه؛ فإن من فاته الفقه الصحيح في الشريعة وقع في المخالفة فضلاً عن الاختلاف. وهناك مخالفة ليست هي المقصود في هذا المقام، وهي مخالفة المعصية المحضة، فهذا باب آخر من العصيان أو الفسوق أو ما إلى ذلك، ولكن أقصد هنا بالمخالفة: المخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى في كتابه عظم هدي السابقين الأولين، فقال جل وعلا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. فلابد لطالب العلم من العناية بأصول المنهج العلمي، ولا يليق بطالب العلم أن يمضي عشر سنين أو أكثر من ذلك وهو لا يعنى إلا بجمع آحاد المسائل، وربما تمضي عليه السنوات في الدروس وهو يجمع في إحدى المسائل، وإن كان هذا علم في الأصل لا ينقص قدره، ولكنه الحصول والتحصيل، فإن هذه المسائل منثورة مبسوطة في كتب الفقه المقارن، فالحصول على مذاهب الفقهاء الأربعة أو غيرهم سهل من حيث الجمع. إنما من حيث الترجيح من حيث منشأ الأقوال ومناطها، وأسباب الاختلاف، ودرجات الترجيح، ومتى يعزم الطالب في الجزم ومتى يقف وما إلى ذلك، هذا فقه واسع، لا بد لطالب العلم من احتماله.

السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيه

السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيه المقدمة الثانية: تتعلق بباب السلوك، وهذا الباب أصل في الإسلام، ولذلك كان من هدي أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل.

مذهب الخوارج والمعتزلة في حكم العمل ودرجته

مذهب الخوارج والمعتزلة في حكم العمل ودرجته وأول مسألة حصل فيها الخلاف بين المسلمين هي مسألة العمل، وقد وقع الخلاف فيها من وجهين: الوجه الأول: المتمثل في حكم العمل ودرجته، وقد صار فيه مذهبان على طرفي نقيض في هذا الشأن: المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في رتبة العمل ودرجته، حتى جعلوا من ترك واجباً من الواجبات اللازمة في العمل قد عدم الإيمان، ويكون كافراً عند الخوارج، وفاسقاً فسقاً مطلقاً ليس معه شيء من الإيمان عند المعتزلة.

مذهب المرجئة في حكم العمل ودرجته

مذهب المرجئة في حكم العمل ودرجته المذهب الثاني: مذهب المرجئة، وإن كانت المرجئة ليست وجهاً واحداً؛ بل هي جملة من الطوائف، ذكر الأشعري في مقالاته أنهم اثنتي عشرة طائفة، لكن يجمعهم جامع واحد في قدر العمل ورتبته، وهو أنهم لم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان. فهذان المذهبان مذهبان منحرفان عن السنة والجماعة في تقدير مسألة العمل من حيث الحكم ومن حيث الرتبة، لا من حيث التطبيق، فإنه لم تشتغل المعتزلة بطريقة تطبيق العمل، ولم تشتغل المرجئة بطريقة تطبيق العمل، بل كانوا يتكلمون عن رتبته من حيث الديانة.

مذهب أهل السنة في حكم العمل ودرجته

مذهب أهل السنة في حكم العمل ودرجته أما أهل السنة والجماعة فذكروا أصلين شريفين في دفع قول الخوارج وفي دفع قول المرجئة، وهو أن الإيمان قول وعمل، وذكروا تحت هذه الجملة أصلين: الأصل الأول: أن أصل الإيمان في القلب. الأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان. وهذا السياق عند أهل السنة والجماعة قد حكى الإجماع عليه جماعة، وهو من الظهور بمكان، وممن حكى الإجماع في هذين الأصلين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. فقول السلف في هذه المسألة آحاد الطلبة والمبتدئين يعرفون أنه قول وعمل، لكن القصور عند بعضهم يكون في فقه هذين الأصلين، وهما: أن أصل الإيمان في القلب، وهو أصل متفق عليه كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية وغيره، والأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان. ولذلك نجد أن بعض أهل السنة المتأخرين من الفقهاء ونحوهم إما أنهم زادوا في درجة الأصل الأول حتى قصروا عن إثبات الأصل الثاني، وإما أنهم زادوا في إثبات الأصل الثاني حتى قصروا عن تحقيق الأصل الأول. وهذا لا يختص وقوعه من حيث الخطأ فيه بمنشق أو بمعارض بيّنٍ للسنة والجماعة، بل قد يدخل مثل هذا الوهم والغلط في فقه الأصول على بعض أصحاب السنة والجماعة المتأخرين أو المنتسبين إليها، وهذا معنى لطيف نبه إليه الإمام ابن تيمية رحمه الله، فقال رحمه الله: "الأصول الجامعة في عقيدة أهل السنة الجماعة -ويقول: في مذهب أهل السنة والجماعة- لا تخفى على آحاد الفقهاء، وإنما الذي يقع فيه كثير من الوهم والغلط عند بعض الفقهاء من أصحاب السنة والجماعة من المتأخرين هو فقه هذه الأصول". إن الأصل الأول هو أن أصل الإيمان في القلب، ولكن بعده أصل آخر وهو واسطة وليس معارضاً له أو مخالفاً له، وهو أن العمل الظاهر أصل في الإيمان، ولا بد أن يقال بهذا وأن يقال بهذا، وهذا ما مضى به الإجماع -كما أسلفت- وما مضت به النصوص المتواترة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس)، وذكر في هذه الخمس أصول العمل، فلا بد أن يقال: إن العمل أصل في الإسلام والإيمان. قد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في الإسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؟ فيقال: إنه فسر به الإيمان في حديث وفد عبد القيس الثابت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن وفد عبد القيس لما جاءوا قالوا: (يا رسول الله! إنا حي من ربيعة، وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، قالوا: فمرنا بأمرٍ فصل نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ...) إلى آخر الرواية في قصة وفد عبد القيس. فهذان الأصلان ضبط بهما السلف حقيقة الإيمان في الشريعة، فهذه هي الدرجة الأولى من الاختلاف في مقام العمل، وهي درجة تتعلق برتبة العمل، وحكمه، وليس بتفسيره وتطبيقه. ثم حدث في أثناء المائة الثانية من الهجرة النبوية العناية بمسألة تطبيق العمل، فظهرت بدايات المخالفة للسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أوائل هذه المخالفة هي من مقارب الاجتهاد، فلا يوصف أصحابها بأنهم خارجون عن السنة والجماعة أو أنهم من أهل البدع الذين لا يضافون إلى السنة والجماعة.

ظهور التصوف والصوفية

ظهور التصوف والصوفية كانت بداية ظهور التصوف عند بعض العباد في زمن التابعين بأوجه تحصيل العبادة، والعناية بمسألة سماع القرآن إلى وجه من المبالغة في الحال عند سماعه، حتى نقل عن جملة -وإن كان هذا النقل كثير منه التحقق من ثبوته صعب لكنه موجود في كتب الصوفية وكتب السلوك وكتب الزهد- كـ عامر بن عبد الله بن الزبير وصفوان بن سليم وعطاء السلمي وجماعة أنهم كانوا إذا قرءوا القرآن سقطوا أو غشي عليهم، وربما نقلت قصص أن فلاناً خر ميتاً أو أغمي عليه حتى عاده الناس ثلاثة أيام أو ما إلى ذلك. هذه الأوجه حصلت، وإن كنا لا نجزم بأنها قد حصلت من زيد أو عمرو، لكنها أحوال نقلت في زمن التابعين، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الجمهور من الفقهاء يرون أن هذه حال قاصرة، ولكن ما دام أنها لم تحصل على جهة التكلف والرياء فإنهم معذورون فيها، ثم يقول: "والنبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون لم يكن يحصل لهم ذلك لكمال أحوالهم، فهي حال قاصرة، ولكنها محتملة في الجملة إذا لم تصدر عن تكلف أو رياء، ولكنها ليست من الحال التي يقصد إلى تحصيلها أو يوصى الناس بها". ثم زاد الأمر فيما يتعلق بمسائل التعبد إلى قدر من الانغلاق الزائد عن الدنيا، حتى ترك أصحابها كثيراً من المباحات، ولربما زاد الأمر إلى ترك بعض المشروعات؛ كالزواج وصلة الأرحام والاختلاط بالأقارب ومصاحبة من تلزم مصاحبته وما إلى ذلك؛ وكانت هذه بداية ظهور ما سمي بالتصوف. ثم ظهر هذا الاسم في المائة الثانية، وصار بعض هؤلاء يسمون بالصوفية، وإن كان أصحاب التاريخ ومن كتب في تاريخ العلوم قد اختلفوا كثيراً في سبب هذا الاسم، فمنهم من قال: إنه نسبة إلى الصفاء، أو إلى الصف المقدم، أو نسبة إلى الصفة التي كان بعض الصحابة رضي الله عنهم من الفقراء يجلسون فيها، أو أوجه أخرى ذكروها، وإن كانت هذه الأوجه لا تصح على أقل أحوالها من حيث النسبة. وأصح ما يمكن من حيث النسبة اللغوية: أن النسبة إلى الصوف وإلى لبس الصوف، وهذا العرض التاريخي ليس هو المقصود، إنما المقصود أن التصوف بدأ بهذه المظاهر من التعبد التي ليست على السنة المحضة، ولكنه قد يحتمل بعض أوجه من حيث العذر، إضافة إلى ترك كثير من المباحات، فصار الزهد والعمل بالإسلام يفسر تفسيراً مجانباً للسنة، ولكنه تفسير لا يأخذ انشقاقاً مطلقاً عن السنة والجماعة، بل كان أصحابه في أوائل أمرهم يعنون باتباع الكتاب والسنة، ويعظمون الدليل، ويعظمون هدي الصحابة وما إلى ذلك. هذه هي الطبقة الأولى في بداية المخالفة في مسألة تفسير العمل في الإسلام، أو تفسير السلوك في الإسلام.

ظهور التصوف المنظم علميا

ظهور التصوف المنظم علمياً ثم ظهرت الطبقة الثانية، وهي ما يمكن أن نسميها بالتصوف المنظم علمياً، فقد استعمل أصحابه تنظيماً علمياً لتفسير السلوك والأحوال والعبادة والعمل بالإسلام، فصاروا يستعملون مصطلح البقاء والفناء كمصطلحين بينهما تقارب، ومصطلح الجمع والتفرقة، ومصطلح الصحو والسكر، ومصطلح الكشف، ومصطلح الذوق، وصاروا يرتبون المقامات: العارف من حيث الرتبة الشخصية، ويأتي دونه المريد، ومتى ينتقل المريد من كونه مريداً إلى كونه عارفاً، والدرجات التي بين هذا وهذا، وصاروا يتكلمون في مسألة المقام والحال. وقد تكون هذه الإشارات عند الصوفية والفرق بين المقام وبين الحال في أواخر المائة الثانية فيما يظهر من حيث الاستقراء، ثم انتشرت فيما بعد في المائة الثالثة، حيث انتظمت أكثر وصارت من المصطلحات الشائعة عند الصوفية، وصار الوصول إلى تحقيق ماهية التصوف يحتاج إلى فقه في هذه الإشارات والمصطلحات. ولا شك أن التصوف الذي وصل إلى هذه الدرجة تصوف غير مشروع وليس على السنة، وقد أغلق باب العمل في الإسلام عن كونه باباً مبنياً على قواعد الفطرة وأصول العقل التي نزل الوحي موافقاً لها.

ظهور التصوف الفلسفي

ظهور التصوف الفلسفي ثم زاد الإشكال -بعد المائة الرابعة- في مسائل سلوك التصوف، فقد ظهر ما يسمى بالتصوف الفلسفي، وصار ممن يشار إليهم في هذا الباب ابن سبعين، والعفيف التلمساني، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في الأندلس صاحب الفتوحات وفصوص الحكم. هذه ثلاث طبقات في مسألة تفسير السلوك، فكانت الطبقة الأولى تفسيراً يختلف عن الهدي العام المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ثم تحول إلى مصطلحات مولدة في الإسلام لا تستطيع أن تحاكمها إلى نصوص الكتاب والسنة، كمصطلح الكشف والذوق والوجد والبقاء والفناء؛ لأنها غير موجودة فيهما، وإذا وجد بعضها فإنه لم يوجد بنفس المفهوم الذي قصد بالاستعمال. فإنه عند تفسيرها نجد أن مساغها عند أصحابها ليس على مساغها في لغة العرب، هذا إذا كانت مستعملة في لغة العرب، وإلا فإن بعضها ليس مستعملاً، بل هو من المصطلحات المولدة، وكما أن المتكلمين يستعملون موضوع الصفات ألفاظاً مثل: لفظ الجوهر ونحوه مما لم يكن مستعملاً عند العرب، فهؤلاء استعملوا أيضاً في تفسير العمل وكنهه وحقيقته هذه المصطلحات، وصارت هذه من الرتب التي ترقى بها وترقى إليها وما إلى ذلك. الدرجة الثالثة في التحول، وهي آخر هذه الدرجات، وقد ظهرت عندما فسر العمل في الإسلام تفسيراً فلسفياً، كما أن المعرفة المتعلقة بالتطبيقات فسرت عند الجهمية والمعتزلة بأثر من أثر المتفلسفة، مما أدى عند الجهمية وأئمة المعتزلة إلى نفي الصفات، فإن هذا لم يكن شأناً من عقل المعتزلة الذي اكتسبوه من قراءتهم لنصوص الكتاب والسنة، بل كانوا يستدلون بدليل الأعراض، ودليل الأعراض يقول عنه أبو الحسن الأشعري: "إنه دليل تلقته المعتزلة من المتفلسفة". فهذا العقل المستعار الذي دخل على المسلمين بأثر الترجمة، دخل أثر منه فيما يتعلق بجوانب العمل. هذا إذا أردنا أن نؤصل هذه المراحل، وإن كان يقال: إن التصوف الفلسفي لم يظهر في القرون الثلاثة ظهوراً بيناً، أما القرن الأول فهو أمر بدهي، وكذلك سلامة القرن الثاني، وإنما كانت له بدايات في أواخر القرن الثالث، لكنه جاء في القرن الرابع، ثم في القرن الخامس صار له شيوع واسع من حيث دخول هذا الأثر. قد يقول قائل: كيف يقال: إن التصوف تأثر بالفلسفة، مع أن المتبادر إلى الذهن أن الفلسفة قضية تتعلق بالأحكام العقلية؟ فنقول: هذا الفهم فهم خاطئ؛ فإن أصحاب الفلسفة التي كانت موجودة قبل الإسلام كانوا على وجهين: الوجه الأول: فلسفة تتعلق بالعقل وأحكامه. الوجه الثاني: فلسفة تتعلق بالنفس وأحكامها. فالفلسفة التي تتعلق بالعقل وأحكامه هي التي دخلت على المتكلمين في معرفة الله ومسائل الإلهيات والصفات ونحوها. والفلسفة المتعلقة بالنفس وأحكامها هي التي دخلت على من يسمون بمتصوفة المتفلسفة، كـ السهروردي وابن عربي وابن سبعين والتلمساني وأمثال هؤلاء. فقد كان الفلاسفة القدماء قبل الإسلام من فلاسفة اليونان أو الفرس أو الهند أو غيرهم عندهم النمط العقلاني، وعندهم النمط الرياضي النفسي؛ ولذلك سمي بعض هؤلاء بالفلاسفة كـ السهروردي صاحب نظريات الفيض والإشراق، وأمثاله. وهذا التأصيل في أثر التصوف كما دخل على المسلمين في مسائل العمل لا بد أن يفقه من حيث اعتبار التحول الذي طرأ. وهذه المسألة -مسألة طبقات أو درجات الصوفية- يأتي إن شاء الله القول فيها فيما بعد؛ لأن كثيراً من أهل العلم -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - يصف بعض الصوفية بأنهم من صوفية أهل السنة أو صوفية أهل الحديث، أو صوفية أهل العلم، أو يقول: فضلاء الصوفية، أو مقتصدة الصوفية. كما أنه في استعمال آخر يقول: غلاة الصوفية، أو من المتفلسفة، أو من المتزندقة، أو ما إلى ذلك من الاستعمالات، فهناك جملة من التقاسيم لدرجاتهم.

خلاصة مسألة السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيها

خلاصة مسألة السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيها هذه المقدمة الثانية تتعلق بوجه مختصر بمسألة العمل، وأن المخالفة فيه ظهرت من جهتين: الأولى: جهة الحكم على يد الخوارج والمعتزلة وقابلتهم المرجئة. الثانية: جهة التفسير على يد الصوفية، أي: تفسير العمل عندما انتظم التصوف بالمصطلحات. إذاً: مسألة العمل في الإسلام بدأ الخلاف فيها من حيث حكم العمل ودرجته على يد الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في حكمه، وقابلتهم المرجئة الذين نقصوا حكمه، وتوسط أهل السنة بأن العمل أصل في الإيمان، مع قولهم: بأن أصل الإيمان في القلب، وهذا لا يعارض هذا، بل هما أصلان مجتمعان. ولما جاء تفسير العمل وطريقة الوصول إليه، وتهذيب النفس وتزكيتها به، بقي القول من حيث الأصل مستقراً إلى أن جاءت المائة الثانية، فظهرت بوادر المخالفة للسنة والجماعة بأوجه من التميز عن سواد المسلمين بأوجه من التعبد، ثم تطور الأمر إلى أن ظهر التصوف المنظم بمصطلحاته التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة، لا نستطيع أن نفسرها تفسيراً نصياً من الكتاب والسنة، ولا أن نفسرها تفسيراً لغوياً، بل هي مصطلحات تفسر بمفاهيم اختلفت فيما بعد عند الصوفية، وصارت كل درجة من الصوفية يفسرون المصطلح بمفهوم يختلف عن الدرجة الثانية. وننبه هنا إلى أنه لا يجوز أن يفسر المصطلح من هذه المصطلحات بوجه غالٍ، ثم يطرد أن هذا هو تفسير سائر طبقات الصوفية لهم. فمثلاً: مصطلح الفناء، هذا المصطلح مقصودهم به الفناء عن وجود السوى، هذا هو الفناء إذا تكلم به ابن عربي، وأمثال ابن عربي كـ التلمساني والسهروردي وابن سبعين وابن الفارض وأمثال هؤلاء، وهو الفناء الغالي، ومنهم من يستعمل الفناء عن شهود السوى، وهذا دونه في الدرجة، وإن كان بدعة. ومنهم من يستعمل الفناء عن إرادة السوى، أي: عن إرادة ما سوى الله، فلا يريد بعمله إلا وجه الله، وهذا المعنى -ولا أقول هذا المصطلح- يقول ابن تيمية رحمه الله: هو فناء أهل السنة والجماعة، وهو الفناء المعروف في كلام الأنبياء والرسل عليهم السلام، وإن كان لفظ الفناء ليس لفظاً وارداً في كلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا يجوز أن يحكم على وجه من الصوفية بحكم عام، أو لا يجوز أن يصدر حكم معين بدرجة ما ويجعل حكماً مطرداً لسائر طبقات أو أوجه الصوفية، بل لكلٍ ما يخصه من الحكم.

أهمية الكتابة والمكاتبة

أهمية الكتابة والمكاتبة قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة]. باب المكاتبات باب من الفقه الذي ينبغي العناية به عند أهل العلم، وأهل الشريعة وبين خاصة المسلمين بوجه عام أياً كان شأن هذه الخاصة إما من أصحاب السلطة والحكم والإمارة، أو من أصحاب العلم، أو من أصحاب الدعوة، أو من أصحاب الجاه عند عامة الناس. فهو من أخص ما يصلح النفوس؛ ولذلك استعمله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل -كما في حديث ابن عباس في الصحيحين- كتابه المشهور، وقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ..) ونجد في هذا الكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل حسن التأتي في المكاتب. وقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان قاصراً وناقصاً، قال عز وجل: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فالجهل والظلم صفتان كاملتان في الإنسان، فمتى ما حرك الإنسان إلى الجهل جهل، ومتى ما حرك إلى الظلم ظلم، فنفس الإنسان قابلة للجهل وقابلة للظلم؛ ولكن يداوى هذا الجهل بالعلم الذي بعث الله به الأنبياء، ويداوى الظلم بالعدل والقسطاس المستقيم والميزان الحق الذي أنزله الله سبحانه وتعالى ليقوم الناس بالقسط.

أهمية الفقه والعدل في الكتابة إلى المخالفين

أهمية الفقه والعدل في الكتابة إلى المخالفين في مكاتبة شيخ الإسلام رحمه الله يظهر حسن التأتي، فإنه وإن كان عدي بن مسافر الأموي رجلاً صوفياً وعليه بعض المآخذ، إلا أنه رجل فاضل في الجملة، لكن أتباعه فيما بعد انحرفوا عن طريقة عدي بن مسافر إلى أوجه من البدع المغلظة، بل دخلت عليهم أصول أعظم من ذلك. ومع ذلك عني الإمام ابن تيمية رحمه الله أن يكتب هذه المكاتبة إلى الذين يقصدون إلى ضبط وتحقيق ما كان عليه الشيخ عدي بن مسافر الأموي، وينفكون عما طرأ على طريقته من الزيادات والبدع، وهذا من حسن العقل وحسن الفقه في أهل العلم، وفي هذا الإمام -أعني: شيخ الإسلام - بوجه خاص؛ لأن دعوة الناس إلى أن يتحولوا من آرائهم وما استقر عليه عامتهم وما ألفوه ونحو ذلك هذا شأن فيه استطالة، ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ما بعثهم الله به من الآيات، كما قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر) ومع ذلك فإنه آمن به من آمن، وكفر به من كفر، بل لم يستجب لهم أكثر الناس، ولا سيما في وقتهم، فإذا كان كذلك فكذلك القائم بالسنة والداعي إلى الحق لا بد أن يكون فقيهاً في دعوته، فإذا لم يحصل رد بعض الخلق إلى السنة المحضة فردهم عن كثير من البدعة، ولو بقي شيء مما هو دون ذلك، فإن ذلك خير من بقائهم على البدع المستحكمة المغلظة. ومن فقه هذا الإمام رحمه الله أيضاً أنه لما تكلم عن المعتزلة -ومعلوم ما هي عقائد المعتزلة- قال: "ومع ذلك فإن بعض أئمة هؤلاء ذهبوا إلى الأنصار العجمية فدعوا أولئك العجم إلى الإسلام فأسلموا على طريقة المعتزلة، فإسلامهم على طريقة المعتزلة خير من بقائهم على الكفر المستبين". فينبغي لطالب العلم في مكاتباته ونصحه أن يقصد إلى تقريب هذا الفهم الذي اختلط ولا سيما عند عوام المسلمين في مسائل العمل حتى غلطوا في مسائل هي أوجه من الشرك في عبادة الله عند المشاهد والقبور وما إلى ذلك، فهذه هي التي ينبغي لطالب العلم في أي بلد كان أن يقصد إلى الاهتمام بها. أما المسائل التي لا توصل العبد إلى البدعة المغلظة فضلاً عن الشرك -والتي قد قال بها خلق من الفقهاء، أو أفتى بها جمع من المعتبرين في الفقه- فإنه وإن كانت خطأ أو كانت تخالف ظاهراً في الكتاب والسنة فهذه ليست هي الأولى، لا نقول أنها تترك، لكن نقول: ليست هي الأولى. فمثلاً: فرق بين القول بأن عندهم إشكالاً وهو أنه إذا أذن مؤذنهم وانتهى من الأذان صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت يسمعه الناس، وهذا منتشر في أكثر بلاد العالم الإسلامي، فهذه المسألة من حيث الحكم لا تصل إلى مسائل البدع المغلظة، لكن إذا كان بجانب هذا المسجد مشهد من المشاهد يدعوه الناس وربما يذبحون عنده وينذرون له وما إلى ذلك، فنقول: فرق بين تصحيح المقامين. وكما أسلفت أن من كان في المقدمة الأولى، ومن كان بصيراً في الاختلاف ترفق بكثير من الأمور. ومن أمثلة ذلك: مسألة تلقين الميت، فإنه قد يقول قائل: هذه بدعة، وأنا لا أقول: إن هذه لا تسمى بدعة، فإنه لو سماها أحد بدعة فهذا له وجهه وقوته، وهي ليست من السنة بلا شك، لكنها ليست من البدع المغلظة، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هي البداية في تقليل الإشكال؛ لأن هناك ما هو أكبر منها، مما يتعلق بمسائل أعظم في أصول العلم أو أصول العبادة، فلو ترك العامة عليها بعض الوقت حتى تقرب نفوسهم إلى السنة، ويرجعون إليها؛ لما كان في الأمر كبير إشكال، أي: أنها مسائل تقبل الصبر؛ لأنه نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يرون تلقين الميت في قبره، ولذلك لما سئل ابن تيمية رحمه الله عن تلقين الميت في قبره قال: "إن كثيراً من الفقهاء حرمها، ومنهم من استحبها، ومنهم من أجازها، قال: والأمر أنها جائزة، وإن كانت ليست من السنة". فالفقه في مراتب المخالفة للسنة من أهم ما يكون من أوجه الفقه. ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك أصلاًً في العلم أو أصلاً في العمل خشية قريش أو مخافة الناس، أو لئلا تنكره قلوب الناس، لكن بعض المسائل التي تحتمل التأخير ترك بعض الأوجه فيها، وترك بعض العمل فيها كمسألة إعادة بناء الكعبة ونحوها، مع أنها مقصودة في هديه عليه الصلاة والسلام. وهذا الأمر يظهر في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم). فمسألة مخافة أن تنكر قلوب العامة هذا مقصد لطالب العلم، وعامة المسلمين اليوم -وخاصة العوام- يقصدون إلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه وسنته عليه الصلاة والسلام، ولكنهم يحتاجون إلى ترفق، ويحتاجون إلى بصيرة، ويحتاجون إلى حسن تأتي في مخاطبتهم. على كلٍ هذا من كلام شيخ الإسلام وحسن تأتيه في هذا المقام، وهذا المنهج الذي ذكرناه لـ شيخ الإسلام في المخاطبة سواء كانت مخاطبة كتابية، أو مخاطبة لفظية، هذا المنهج لا نقول: إنه هو المطرد في كل الأحوال، ولكن يكفي أن نقول: إنه هو الأصل، وقد يخرج عنه في بعض الأحوال. وهذا الأصل يقوم على حسن التأتي في الحروف مع عدم إنقاص الحقيقة الشرعية؛ فإن بعض الناس قد يكون عنده حسن التأتي في الحروف، ولربما زاد عن حسن التأتي إلى قدر من المجاملة، ولكن الإشكال أنه يدخل عنده المجاملة في المعنى، فيهون هذا الأصل، ويجعله بدلاً من كونه أصلاً مجمعاً عليه مسألة قد تقبل الاختلاف أو لا ينبغي التشديد فيها، أو تفريق الناس بسببها، مع أنها أصل من أصول السلف، وأصل من أصول السنة اللازمة التي درج عليها الصحابة. فبعض الناس لا يستطيع حسن التأتي وحسن المخاطبة إلا إذا أنقص الحقيقة والمعنى، وبعض الناس لا يستطيع ضبط المعنى وجمعه إلا بشدة في اللسان، وقوة في المجادلة، ولربما استطالة بالحق على الخلق. والمنهج الذي ذكره الله في كتابه في سير أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن كلماتهم فيها من حسن التأتي لقومهم لتقريبهم إلى الحق، فكلهم يقول: (يَا قَوْمِ)، وإبراهيم عليه السلام يقول لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42]، ويقول: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، والله سبحانه وتعالى لما بعث موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، فهل استلزم حسن التأتي هذا إنقاص الحقيقة الشرعية التي أمروا بها؟ الجواب: لا، وهذا هو الفقه. لكن مع الأسف كثر اليوم من يكون رقيق اللسان لكنه ينقص الحقيقة، فهو لا يحسن التأتي إلا بإنقاص الحقيقة الشرعية حتى يخرق الأصول اللازمة، ويعذر في أمور ليست محلاً للعذر، ويفتح باب للاجتهاد في مسائل ليست محلاً للاجتهاد، وما إلى ذلك. وبعض الناس قد يكون سليط اللسان على الناس، ولربما يستشهد ببعض الآثار أو ببعض الأحوال التي عرضت لبعض أئمة السلف. وهذا بخلاف الأصل الذي بيناه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وانظر إلى التعريض في قوله تعالى: (لَعَلَّهُ)، وذلك لأن النفس إذا لم تعط كلاماً حسناً، فإنها في الغالب لا تقبله، وهذا بينٌ في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فإذا كان اللسان فظاً ولو كان معه السنة لم ينفع؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم معه السنة، والله سبحانه وتعالى يقول له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. أما ما نجده في كلام موسى مع فرعون عندما قال له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102] وهذا الكلام يظهر فيه الشدة والغلظة والبعد عن اللين، فإن هذه الحال عندما يجد الداعية امن المدعو المعاندة والمكابرة، فهنا يستعمل في حقه بعض الكلمات. هذا هو منهج القرآن الذي ذكره الله في أهل الكتاب، وهو في أهل الإسلام المخالفين للسنة من باب أولى؛ فإنه إذا كان هو المنهج مع من كفر بالله، فمع من آمن بالله ورسوله لكن خالف السنة في مسائل يكون من باب أولى. قال الله سبحانه وتعالى مبيناً هذا المنهج: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] هذا هو الأصل، ثم جاء الاستثناء فقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] سواء كان المستثنى متصلاً فيكون الاستثناء بيناً، أو كان منقطعاً فإنه يفسر على وجهه؛ لأن في القرآن كلاماً للأنبياء وفي كلام السلف كلام معروف في بعض المقامات، وإذا أحصينا كم اشتد النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه على من خالفه لوجدنا أنها ليست بقدر مناسب للكلمات التي ترفق فيها عليه الصلاة والسلام مع من خالفه. وقد بين هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر العقيدة الواسطية مبيناً أنها مذهب السلف، فقال: "إن من طريقتهم أنهم يرون ترك الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق". فالاستطالة بغير حق مسألة لا يقع فيها اشتباه، فهي لا تقع إلا عن عدو قاصداً للمعاداة والعدوان، لكن الذي يقع فيه بعض طلبة العلم أحياناً فيما بينهم أو في ردود بعضهم على بعض، أو حتى في ردودهم على من يخالف السنة في مسائل أنهم يستطيلون بالحق، فتجد الطالب معه حق، وهو على السنة ومخالفه على بدعة، وهو على الصواب ومخالفه على الخطأ، لكن لا تجوز الاستطالة بالحق على الخلق؛ لأن هذا يقع بسببه العدوان والفتنة، فضلاً عن عدم قبول الحق، ومقصود الأنبياء ومقصود الرسالات هو تصحيح نفوس الناس وردهم إلى الهدى والصواب. إذاً: المنهج من حيث الأصل هو حسن التأتي في القول، وح

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وأكرم الخلق على ربه، وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا]. ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله سبحانه، وأنه أول من يدخل الجنة، وأول من يستفتح، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم) وجعله الله النبي الخاتم؛ ولذلك كانت أمته خير الأمم، وكان أصحابه خير الأصحاب. ولهذا ينبغي على أتباعه صلى الله عليه وسلم أن يكونوا على جادته وهديه من حيث أن رسالته رسالة عامة، فهي ليست رسالة خاصة بإقليم أو بقوم أو بزمان، بل رسالة مطردة لكل مكان، وصالحة لكل زمان؛ ولذلك إذا حمل الإنسان هذا العلم، فينبغي أن يكون فقيهاً في حمله، فيأتي كل بيئة من البيئات بما يناسبها من الفقه الشرعي، وهذا لا شك أن الحال فيه يختلف، فالفقه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه بمكة ليس هو الذي كان عليه أصحابه بالمدينة، فقد حصل بالمدينة أمور لم تحصل حين كان عليه الصلاة والسلام بمكة، وفي عهد الخلفاء الراشدين حصلت أمور لم تكن موجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الفقه الشرعي الذي ينبغي لطالب العلم أن يقصد إليه. ولذلك من كرم هذا النبي على الله -إشارة إلى أنه خاتم الأنبياء- أن الله سبحانه وتعالى حينما يذكر الأنبياء في القرآن يسميهم بأسمائهم، كقوله تعالى عن موسى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] وكذلك في نداء الله لإبراهيم، وفي نداء الله لعيسى، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ناداه الله باسمه، إنما أخبر عنه باسمه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، لكن لم يناد الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً على وجه النداء باسمه، وإنما ناداه باسم النبوة والرسالة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] .. إلخ. وهذا إشارة إلى قدر عظم نبوته وأنها النبوة الخاتمة، وإذا كان كذلك فعلى من يحمل هذا العلم أن يتخوض فيه بحق وبعدل، وإذا لم تسع نفسه أو طبعه فقد أقول كلمة يراها البعض صعبة لكني أنقلها وأنا مطمئن إليها: الزيادة من العلم عندما لا تلزمه معرفتها في عبادته تركه لهذه الزيادة أولى من دخوله فيها إذا كانت نفسه على هذا الوجه من الانغلاق، فلا يدخل في العلم حتى يربي نفسه على تزكية النفس التي هي من أخص مقاصد المرسلين؛ فإن إبراهيم عليه السلام لما دعا ربه لم يطلب نبياً يعلم الناس فقط، بل قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، فتزكية النفس من أخص مقاصد الرسالات التي نزلت على أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

شرح الوصية الكبرى [2]

شرح الوصية الكبرى [2] اشتملت هذه المادة على ثلاث مسائل: الأولى: وسطية الأمة الإسلامية بين سائر الأمم، الثانية: مسألة الأصول والفروع وبيان أنها تسمية سائغة إذا ضبطت بتفسير صحيح. الثالثة: المحكم والمتشابه، فالقرآن منه محكم ومنه متشابه، والعلم والعمل منه محكم ومنه متشابه؛ فينبغي العناية بمحكم العلم والعمل دون متشابهه.

وسطية الأمة المسلمة بين سائر الأمم

وسطية الأمة المسلمة بين سائر الأمم قال المصنف رحمه الله: [أما بعد: فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله. وجعلهم أمة وسطًا، أي: عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم -بعد ذلك- بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم]. ابتدأ المؤلف رحمه الله في مكاتبته بأصل عام، ثم دخل بعده إلى الكلام في طريقة عدي بن مسافر والتحول الذي طرأ فيها. هذا الأصل العام الذي قد ضمنه جملته العامة هو تقرير المصنف لكون هذه الأمة هي الأمة الوسط، وأن أهل السنة والجماعة هم الوسط في فرق هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم. تقريره لمسألة الوسطية في هذه الصفحات الأولى، وبين رحمه الله المقصود عنده بهذا المنهج، فهو من حيث ابتدأ بالمكاتبة قرر مسألة الوسطية، وهذا المقصود من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله يمكن أن نقول: إن تحته ثلاث مسائل: المسألة الأولى: اعتبار الوسطية من حيث العلم. المسألة الثانية: اعتبار الوسطية من حيث العمل. المسألة الثالثة: اعتبار الفقه لهذه الوسطية.

الوسطية في العلم

الوسطية في العلم أما من حيث العلم فإن أصول الوسطية العلمية هي: الكتاب والسنة والإجماع؛ ولذلك لا يجوز أن يقال عن قول أنه قول وسط فصل إلا إذا انضبط أنه مبني على الكتاب والسنة والإجماع، وأما ما نزل عن رتبة الإجماع من اختلاف الأئمة واختلاف الصحابة فهذا الأصل فيه أنه على السعة، وإن كان الناس من الخاصة والعامة -كما يقول الشافعي - يربون على اتباع ما هو أقرب إلى الدليل، ثم هذا يتفاضلون فيه ويختلف نظرهم فيه. إذاً: اعتبار الوسطية العلمية بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع. والإجماع الذي يذكر هنا هو الإجماع المنضبط الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والقرون الثلاثة الفاضلة. أما بعد ذلك فإن الغالب على ضبط الإجماع أنه يتعذر أو يتعثر، فإن الإجماع الممكن من حيث الانضباط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، أما بعد ذلك فإن الأمة انتشرت، والفقهاء كثروا، وتأخرت وسائل الاتصال في أكثر قرون الأمة، فصار ضبط الإجماع متعذراً في كثير من الأحوال. إذاً: الإجماع المنضبط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، فإذا انضبط إجماعاً فإنه يكون قولاً لازماً تحرم مخالفته بمقتضى الأدلة الشرعية.

الوسطية في العمل

الوسطية في العمل ذلك باعتبار فقه الإجماع وفقه الدليل من الكتاب والسنة لتطبيق العمل عليه، فحينما يقال: إن هذه الأمة هي الأمة الوسط في علمها، فهي الوسط في عملها. فعليه: يكون ميزان العمل في الإسلام هو ما مضى به الكتاب والسنة والإجماع، وأما أوجه العمل التي هي اجتهاد لبعض الفقهاء فهذه مبنية على السعة. وأما أوجه العمل التي هي حادثة في الإسلام، فهذه لا ينبغي أن يبقى الناس على إلفها، وعليه يمكن أن نقول: إن العمل القائم في حال المسلمين ولا سيما في حال عامتهم اليوم ثلاثة أقسام: الأول: عمل مبني على الإجماع، أي: معلوم بالإجماع كالصلوات الخمس، فهذا عمل مجمع عليه بين المسلمين فضلاً عن دلالة الكتاب والسنة عليه. الثاني: عمل هو وجه من الاجتهاد لبعض الفقهاء، وهو إما عمل يتعلق ببعض العبادات المحكمة كالصلاة، مثل بعض الحركات في الصلاة كرفع اليدين وعدم رفعهما وكإشارة الأصبع في التشهد أو عدمها، وكوضع اليدين على الصدر أو عدم ذلك، وكالتورك وعدمه وما إلى ذلك. أو أعمال منفكة عن عبادة معينة تقع بوحدها. فأوجه العمل فيه بين الفقهاء الأصل فيه أنه على السعة ما دام أن هذا الخلاف خلاف معروف وتقدم معتبر. الثالث: عمل مبتدع في الإسلام، وهذا هو الذي ينبغي أن يصرف الشأن في تصحيح أمر المسلمين فيه. أما الوجه الثاني فلست أرى أنه من الحكمة أن يكثر مجادلة الناس فيما هو منه، حتى ولو كان المجادل يرى أن ما جادل به هو الأقرب إلى الدليل، فإن هذا تحته أمران: الأمر الأول: أن هذا الأقرب للدليل إنما هو من حيث نظره، وقد لا يكون الأمر كذلك. الأمر الثاني: أن من مضى على تقليد إمام معتبر يمكن أن ينبه إلى الأمر باختصار، وليس بوجه من الإلزام، أو أنه إذا لم يرجع عن ذلك فقد ترك السنة والجماعة أو ترك طريقة السلف أو ما إلى ذلك. فما كان من الخلاف المعتبر المحقق فإن شأنه على الاحتمال، إنما الذي يصرف العامة عنه ويحذرون منه هو العمل المبتدع في الإسلام، الذي لم يذكره أئمة الفقهاء فضلاً عن وروده في الكتاب والسنة، وهذا أحواله متدرجة بوجه من البدعة الحادثة، ثم إلى بدعة مغلظة، ثم إلى وجه من الشرك، أو ما يقتضي مخالفة أصول الملة مما يقع عند القبور، وإن كنت أقول: إنه ليس بالضرورة أن كلَّ ما يقع عند القبور يكون شركاً، فقد يقع عند القبور ما هو من الشرك الأكبر، وقد يقع عندها ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عندها ما هو من البدع، وقد يقع عندها ما هو من أقوال الفقهاء الشاذة. فمثلاً: فيما يتعلق بالدعاء عند القبر، هناك رأي لبعض الفقهاء أنه يستحب أو يجوز أن يدعو الإنسان لنفسه عند القبر، لكن هذا القول قول شاذ يخالف مذهب جماهير الفقهاء المتقدمين، وكأنه يخالف إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إنما تبناه بعض أصحاب الفقهاء المتأخرين، فهذا من شاذ الأمر. ولذلك نص بعض المحققين على أن هذا وإن جوزه بعض الفقهاء المتأخرين إلا أنه بدعة؛ لأنه لا معنى للدعاء عند القبر، وإنما الذي جاء به التخصيص هو الدعاء للميت صاحب القبر، أما دعاء الإنسان الزائر لنفسه فليس كذلك. وقد يفعل عند القبر ما هو من البدع، كبعض الحركات والأحوال، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأكبر، وإن كان الفاعل له قد لا يكون عليماً بهذا. ولهذا تعميم الأحكام على ما يقع عند القبور ليس له وجه، وكذلك وصف الأعيان بصفة مجملة، هذه ينبغي أن تبقى على إجمالها، أحياناً يقول البعض: فلان قبوري، وهذه الكلمة كلمة مجملة، قد يكون المقصود منها أنه يغفل عما هو من الشرك الأصغر، أو ما هو من الشرك الأكبر، أو ما إلى ذلك. إذاً: تصحيح ما عليه أحوال المسلمين اليوم من الأخطاء في مسائل التعبد ولا سيما ما يقع عند القبور والمشاهد التي بعضها صحيح وبعضها مكذوب، هذا لا بد أن يكون أولاً بالحكمة والاعتدال؛ تقريباً للسنة ودعوة إلى النصوص وإلى صريح النصوص القاضية والملزمة للمؤمنين بترك هذه المنكرات وهذه المبتدعات. وأن يكون باعتدال، وليس بما يحرك النفوس الجاهلة إلى التعصب لما هي عليه من الجهل.

مسألة الأصول والفروع والفرق بينهما

مسألة الأصول والفروع والفرق بينهما المسألة الثالثة: هي فقه الفرق بين الأصول والفروع والمحكم والمتشابه. الأصول والفروع هذه التسمية من حيث الاصطلاح تسمية شائعة في كلام الأصوليين، وفي كلام المتكلمين، وفي كلام الفقهاء بعامة، وهم يعنون بذلك أن الدين ينقسم إلى أصول وفروع. وهذه التسمية لا شك أنها تسمية متأخرة، أي: أنها لم تظهر زمن النبوة ثم الصحابة ثم زمن الأئمة المتقدمين، بل بدأت بدايات من المصطلحات لما بدأ الاصطلاح وكثر، فتجد في كلام الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام أنه يسمي بعض المسائل فيقول: ما هو من الأصول في الدين وما هو من الفروع فيه، فاستعمل مصطلح الأصول ومصطلح الفروع. هذا المثال هو تمثيل بـ أبي عبيد، وهو رد على ما يقوله بعض المتأخرين من أن هذه تسمية مبتدعة على سائر مقاصدها.

مذهب ابن تيمية في مسألة الأصول والفروع

مذهب ابن تيمية في مسألة الأصول والفروع الإمام ابن تيمية رحمه الله عندما تكلم في مسألة الأصول والفروع تكلم فيها على وجهين: الوجه الأول: يذكر هذا التقسيم وهذه التسمية مقراً لها، وهذا مقتضى الشرع والعقل. الوجه الثاني: يذكر هذا التقسيم معارضاً له، ولكن مقصوده بالمعارضة ليس الاصطلاح، إنما مقصوده بالمعارضة الحد الذي ذكره بعض أئمة المعتزلة، ومن نقل عنهم من المتكلمة الصفاتية لما قالوا: إن الأصول هي العلميات، والفروع هي العمليات، فهذا غلط؛ لأنه يستلزم أن تكون الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان من الفروع، وهذا خطأ؛ لأن مذهب السلف درج على أن العمل أصل في الإيمان. أو معارضة لقول بعضهم: إن الأصول هي المسائل المعلومة بدليل السمع ودليل العقل، والفروع هي المسائل المعلومة بدليل السمع وحده، فإن هذا أيضاً حد غير صحيح؛ فإن هناك مسائل أصول لا تعرف إلا بدليل السمع، ككتابة الله سبحانه وتعالى لمقادير خلقه؛ فإنه لولا خبر الله ورسوله بها لما كان لأحد أن يبتدع بأن الله كتب مقادير الخلق، وكنزوله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا؛ فإنه لولا خبر النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لأحد أن يصل بعقله إلى أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا. بخلاف بعض الصفات التي يشهد العقل بها ابتداء، ككونه سبحانه وتعالى سميعاً بصيراً حياً قديراً، فإن هذه مسائل تعرف بالشرع وتعرف بالعقل, وإن كانت المسائل المعروفة بالسمع إذا ورد السمع بها فإن العقل لا يعارضها. إذاً: القول بأن الإمام ابن تيمية رحمه الله رد تقسيم الدين إلى أصول وفروع أو أنكره هذا غير صحيح، بل في كلام شيخ الإسلام استعمال قديم للأصول والفروع، وهذا مقتضى العقل والشرع؛ لأن مسائل الشرع ليست وجهاً واحداً، وكلمة (فروع) ليس فيها إنتقاص لشيء من مسائل الشريعة؛ بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ما هو مقارب لهذا المعنى، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) والشاهد ما تفرد به مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فإذا كان الشارع عبر بهذا التعبير واستعمل هذا اللفظ؛ فلفظ الأصول والفروع ليس بعيداً عن مثل هذا المقصود، فهو لا يوجب النقص.

الوجه السائغ لتسمية (الأصول والفروع)

الوجه السائغ لتسمية (الأصول والفروع) بعض الكتاب يقول: إنه قد يفهم بعض العامة أو حدثاء العهد بالإسلام أن الفروع ليست لازمة في الإسلام. فنقول: هذا الفهم ليس بالضرورة أنه يقع عند العامة وبعض حدثاء العهد بالإسلام، بل كون العامة وحدثاء العهد بالإسلام يعرفون أن الإسلام فيه ما هو أصل وفيه ما هو دون ذلك، وأن من يفرط في الفرع لا ينبغي له أن يفرط في الأصل، ويفهمون أن أصول الإسلام هذه عزم يجب المحافظة عليها، ولا تغلب النفس على تركها، وأن هذه الفروع شأنها دون ذلك، مع كون بعضها واجباً وبعضها مستحباً .. هذا الفهم هو عين الحكمة وعين الفطرة البشرية، بخلاف ما إذا قلت للناس: إن الإسلام جميعه من أوله إلى آخره أصل، فهذا ليس عدلاً ولا حكمة، فإن من ترك إماطة الأذى عن الطريق، ليس كمن ترك الصلوات الخمس، ومن فاتته تكبيرة الإحرام ليس كمن ترك صلاة الجماعة، ومن صلى منفرداً ليس كمن أخر الصلاة حتى خرج وقتها، ومن أخر الصلاة حتى خرج وقتها ليس كمن ترك الصلاة بالكلية، فالأصل أن الناس يعرفون أن دينهم منه ما هو ركن تركه قد يكون ردة وكفراً، ومنه ما هو واجب تركه فسق، وقد ذكر الله سبحانه هذا في كتابه، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] فلما ذكر الإيمان ذكره واحداً، ولما ذكر ما يخالف هذا الإيمان أو ما ينقصه قال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]. فمسألة الأصول والفروع هذه تسمية واسعة إذا ما ضبطت بتفسير صحيح، فقيل: الأصول هي ما أجمع عليها الصحابة والأئمة في مسائل العلم والعمل، والفروع هي ما دون ذلك. ففي العقل والشرع أن المسائل أحد وجهين: إما مسألة مجمع عليها، وإما مسألة مختلف فيها. فإذا رددنا مسائل الشريعة إلى القرون الثلاثة الفاضلة استطعنا أن نصل إلى أن هذه المسألة في القرون الثلاثة إما أن تكون مسألة مجمعاً عليها، وإما أن تكون مسألة قد اختلف فيها الصحابة والأئمة. فما كان من المسائل المجمع عليها فهو أصل قدره على اللزوم، سواء كان الإجماع بوجه علمي، أو وجه عملي، فقد يكون إجماعاً علمياً، كأن يجمعوا على كون هذا العمل مستحباً، فعندما أجمعوا على كونه مستحباً هل صار فعله واجباً، أم أنه انعقد الإجماع على استحبابه؟ انعقد الإجماع على استحبابه، فلا يجوز لأحد أن يأتي بعد ذلك فيقول: إنه مباح وليس مستحباً، فيخفضه، ولا يسع أحداً بعد ذلك أن يقول: إنه واجب، فيرفعه عن قدره السابق. فالمستحب من حيث الفعل يتعلق بفروع الشريعة، ولكن من حيث الجهة العلمية فيه يتعلق بمسألة الأصول، فمن أنكر أن هذا مشروع، كمن أنكر شريعة السواك، فإن إنكاره لهذا يتعلق بمسائل التصديق لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا جئت إلى المستحبات من حيث التطبيق لها، بل وإلى كثير من الواجبات من حيث التطبيق لها، فهذه لا نسميها أصولاً، بل هي من باب الفروع، ولذلك قد يكون الشيء من جهته العلمية أصلاً، ومن جهته العملية التطبيقية فرعاً، وقد يكون الشيء من جهته العلمية والعملية أصلاً، وهذا كالصلاة؛ فإنها من جهة التصديق بوجوبها أصل، ومن جهة إقامتها هي أصل أيضاً.

المحكم والمتشابه والفرق بينهما

المحكم والمتشابه والفرق بينهما أما مسألة المحكم والمتشابه، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] .. إلى آخر الآية، فقد وصف الله سبحانه كتابه بأن منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، وهذا الوصف وصف إضافي، أي: أن القرآن من حيث هو كلام الله محكم؛ ولذلك وصف الله سبحانه كتابه في مقام آخر بأن جميعه محكم، فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1]، ولم يقل: بعض آياته، فالقرآن من حيث هو كلام الله جميعه محكم. والتشابه الذي أضيف إليه إضافة عامة هو التوافق، أي: أنه ليس فيه اختلاف، وهذا من خصائص كلام الله؛ ولذلك قال الله في مقام آخر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فكلام الإنسان لابد أن يدخله خلاف، أما كلام الله فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكذلك الوحي المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالقرآن منه محكم ومتشابه من حيث الإضافة، أي: باعتبار تعلقه بالمكلفين، فبعضه محكم في فقه المكلفين، وبعضه يتشابه على المكلفين شأنه، فيكون متشابهاً؛ ولذلك فإن الذي فيه تشابه عند المكلفين: {والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] سواء قيل: إن الراسخين في العلم يعلمونه، أو قيل: إنهم لا يعلمونه، لكنهم يقولون في كلا الحالين: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].

المحكم والمتشابه في العلم والعمل

المحكم والمتشابه في العلم والعمل المقصود بذكر المحكم والمتشابه بأن العلم منه محكم ومتشابه، وأن العمل منه محكم ومتشابه، وإذا كان كذلك فينبغي لطالب العلم في دراسته لعلوم الشريعة أن يعنى بالمحكم من هذه العلوم، وكذلك في باب العمل. كذلك على المسلمين اليوم خاصتهم وعامتهم -ومصطلح الخاصة والعامة مصطلح لا بأس بالتعبير به، وإن كان مصطلحاً تكلم به بعض الصوفية، لكن الإمام الشافعي استعمله كثيراً، والخاصة هم أصحاب الفقه والإمامة والعلم، أو القصد إلى ذلك، والعامة هم دون ذلك -أن يعتنوا بمحكمات العلم ومحكمات العمل. وقد يقول قائل: هذا الكلام لا يطلع عليه إلا القليل، وأنت تقول: المسلمون، فهل نستطيع أن نصحح؟ فنقول: الإنسان أولاً مكلف أن يبدأ بنفسه ثم بمن يسمع صوته، ثم لماذا ظهرت الآن بعض المظاهر البدعية عند المسلمين وعليها ملايين من أهل الإسلام؟ لأن النفس البشرية -وننبه إلى أن فقه النفوس أمر مهم، فإن البعض -خاصة من السلفيين- يدرسون العلوم دراسة تجريبية، وهذا خطأ، فإن هناك مسائل لابد للإنسان أن يتعلم فقهها ليصل فيها إلى تصحيح نفسه وإلى طريقة مخاطبة الغير- فنقول: لأن النفس البشرية موصوفة بالظلم والجهل والضعف وما إلى ذلك، وهذا موجود في القرآن، وليس بالضرورة أن تذهب إلى كتب علم النفس، هذا في القرآن في صفات النفس البشرية، فإن الله لما ذكر النفس قال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19]، فهذه الكلمات التي في توصيف النفس البشرية لا بد أن يكون طالب العلم فقيهاً فيها، ومع الأسف أنه أصبح العلم عن أحاديث الأحكام فقط، هذه هي أم العلم، وأما الباقي فإنها آداب، ولا تحتاج إلى عناية كبيرة! مع أن هذا المنهج ظاهر في صنيع المحدثين الذي كتبوا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يصنفوا في الأحكام فقط، فقد صنف البخاري فاختار ما صح عنده لكن في سائر أبواب الدين، بل حتى إنه لم يبتدئ بكتاب العبادات، بل بدأ بما هو قبل ذلك: باب الوحي والعلم والإيمان، ولما صنف مسلم فعل كذلك، ولما صنف أصحاب السنن فعلوا كذلك، فكانوا يذكرون أحاديث أصول الدين أولاً، ثم يذكرون أبواب الفقه ومسائل الآداب والأخلاق في سائر مواردها التي نزلت بها. بل إننا نجد ذلك في القرآن، فإن ذكر القصص وتفصيل القصص في القرآن هو لقصد العبرة، وليس كمعلومات مجردة، قال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، وهذه في أول السورة، وفي آخرها قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111]، ونجد أن قصة موسى عليه السلام ذكرت في أكثر من موضع في القرآن، مع أنها في كثير من هذه المواضع فيها تقارب؛ لأن هذه تعطي العابد والسالك وطالب العلم والمسلم والمؤمن منهجاً، والله سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بإخوانه الأنبياء، فما بالك بمن هو من أتباع الأنبياء واتباع هذا النبي، فهو أولى بهذا الاقتداء وهذا الفقه والتدبر لقصص الأنبياء، وأحوال النفس والإنسان وما إلى ذلك. أحياناً بعض الشعراء يصل إلى معنى يعبر به عن مقصود، فالمتنبي يقول في شعر له: خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب وهذه حقيقة كثير من عامة المسلمين اليوم، فهو يقول: (خلقت ألوفاً لو رحلت من الصبا) أي: أنا في سن الشيب الآن، وكل إنسان في الشيب يقول: مات الشباب، لكن لو جاء قرار واضح أنه ستنقل الآن من عتبة الشيب إلى مرحلة الشباب وستصبح شاباً لانتقلت وما ترددت، لكن سألتفت إلى الشيب باكياً، فلماذا يبكي على الشيب؟ يقول: لأني ألفته، والإنسان من طبيعته أنه يألف. فالناس هكذا العوائب النفسية هي التي تتسلط على كثير من عقول المسلمين اليوم، وهذا إن شاء الله سنخصص له درساً في فقه مسألة التقليد، والتعصب في مسائل السلوك وما إلى ذلك وكيف يصحح ذلك، وكيف يتجه العوام من المسلمين، لا أقول إلى طريقة زيد أو عمرو أو مذهب أحد، وإنما إلى هدي الكتاب والسنة والحكمة والموعظة الحسنة. فمسألة المحكم والمتشابه ينبغي لطالب العلم دائماً أن يضعها في ذهنه، وأن يصرف جمهور وقته في محكم العلم والعمل، وأن لا يعطي المتشابه إلا قدراً يسيراً، أم أن يمضي طالب العلم كثيراً من وقته، ومن عمره أمام المجتمع وأمام الناس، وفي متشابه العلم، أو متشابه العمل، فهذه الحال نحن نحاول أن نصححها للعامة، لكن كيف نصححها للعامة وطلبة العلم هم يعيشونها في أنفسهم، بل إننا نجد أحياناً أن بعض العوام عنده من المحافظة على محكمات العمل أكثر مما عند كثير من طلبة العلم، ونحن لو تأملنا هدي السلف الأول، وأجل السلف الأول هم الصحابة؛ لوجدنا أن هديهم عامته -إذا لم يكن جميعه- في محكم العلم ومحكم العمل. بل حتى الأسئلة التي هي نوع من المتشابه ما كان الصحابة يسألونها؛ ومن ذلك: أنه لما حدث رسول الله عليه الصلاة والسلام في مسألة كتابة العمل فقال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة أو من النار) لم يسأل كبار الصحابة: ففيم العمل؟ وإن كان قد سأل بعض من حضر من الصحابة، لكن هذا السائل لم يكن من أئمة وكبار الصحابة؛ بل لم يكن يمثل أيضاً أكثر الصحابة، ثم هذا السائل ليست هذه حاله على الدوام ولا على الغلبة، بل هي حال عرضت له، وكان سؤالاً يعرض لكثير من النفوس، لكن جمهور الصحابة ما سألوا، ولم يكونوا رضي الله عنهم تركوا السؤال لأنه لم يرد عندهم هذا السؤال؛ بل لأن من فقه حقائق الشريعة فقهاً مناسباً وتخلص من العوائد والتعصب والإلف والتقليد غير الشرعي؛ حصل له محكم العلم، ومحكم العمل، وصار يعيش فقهاً في نفسه، وطمأنينة وسكينة وما إلى ذلك. فأنا أحببت أن أشير في هذه القواعد الثلاث إلى أن منهج الوسطية يقوم على ثلاثة أصول: العلم، والعمل، ثم النتيجة في الأصل الثالث. وهي مسألة فقه الأصول والفروع والفرق بينهما، وفقه المحكم والمتشابه، وأن ما يجب على طالب العلم أن يمضي عمره فيه هو محكم العلم ومحكم العمل، وأن يدعو الناس من باب أولى إلى المحكم في هذا والمحكم في ذاك. والمصنف من أول الكلام بدأ يتكلم عن الوسطية، وأن هذه الأمة وسط بين الأمم، ومعنى الوسط أي العدول الخيار، ثم إن أهل السنة والجماعة وسط في طوائف هذه الأمة. أما مسألة عدد طوائف هذه الأمة فالله أعلم بها، فقد جاءت الأحاديث الصحاح أن هذه الأمة يقع فيها افتراق؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) فدلت هذه النصوص، ودل الواقع التاريخي أيضاً أن هذه الأمة حصل فيها افتراق، وجاء في حديث مشهور في السنن والمسند: (وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين) فإذا صح هذا الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ- قيل: إن فرق هذه الأمة ثلاث وسبعين، وإذا لم يصح قيل: العدد الله أعلم به، وحتى لو صح الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ، واختيار المؤلف- فإن طريقة السلف أنهم لا يرون الاشتغال بتعيين هذه الطوائف الثنتين والسبعين الخارجة عن السنة، وحينما لم يشتغل السلف بهذا فإن هذا هو مقتضى الشرع ومقتضى العقل؛ لأن الإنسان لا يعلم ماذا بقي من أيام الله في هذه الفترة، فلربما أن كثيراً من هذه الفرق لم تحدث، وأنت إذا رجعت إلى الأسماء التاريخية إن اعتبرت أصولها قلت: هي أقل من ثنتين وسبعين، وإذا اعتبرت فروعها الزائدة عن الثلاث والسبعين إلى المئات، جزمت بأنها أكثر من ذلك، ومن هنا كان الفقه أن لا يجزم في التعيين، وإنما يسلم بأن هذا على السنة وهذا ليس على السنة. فالمقصود أن المصنف تكلم في أول هذه الرسالة عن وسطية أهل السنة والجماعة باعتبارها مسائل، وقال: إن المحافظين على أصول العبادات: الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان، والحج، والزكاة، ويحافظون على الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته .. إلى آخر أركان الإيمان الستة، فلكونها مسائل بينة لم يسع الوقت للتعليق على كل واحدة منها بعينها إنما علق على المقصود بالوسطية، وأن الوسطية تنبني على هذه الأصول الثلاثة: أصل العلم، وأصل العمل، ثم الفقه في هذين الأصلين بالتفريق بين الأصول والفروع، والتفريق بين المحكم والمتشابه.

شرح الوصية الكبرى [3]

شرح الوصية الكبرى [3] للصوفيه أقسام ودرجات ذكرها أهل العلم والمقالات، فهناك صوفية الحقائق، وصوفية الرسم، وصوفية الأرزاق، أما من حيث الحقائق فهناك صوفية أهل الحديث، وصوفية المتكلمين، وصوفية المتفلسفة، ولكل أقوال وأحوال يختلف بها الحكم على كل منها بحسبها، فينبغي فقه هذه الأقوال والأحوال على حقيقتها لمن يريد الحكم على أي منها أو على أي أحد ينتسب إليها.

أقسام الصوفية ودرجاتهم

أقسام الصوفية ودرجاتهم ثمة تقاسيم لأهل العلم والمقالات -بل وللصوفية أنفسهم- لدرجات المتصوفة، ونقف باختصار مع بعض التقاسيم التي ذكرها الإمام ابن تيمية رحمه الله. فقد ذكر في كلامه جملاً من التقاسيم، ومن أخصها تقسيمان: التقسيم الأول: يقول فيه شيخ الإسلام: "الصوفية ثلاثة أقسام: صوفية الحقائق، وصوفية الرسم، وصوفية الأرزاق".

صوفية الحقائق

صوفية الحقائق ومقصوده بصوفية الحقائق: من قصدوا إلى تحقيق معاني التصوف بطرقهم أو بالطرق التي يعتبرونها، فإن قيل: فما هي الطرق التي قصدوا إلى تحقيق معاني التصوف والسلوك والتعبد بها؟ قيل في جوابه: هذا مما يختلفون فيه كثيراً، فإن منهم من هو في تصوفه على طريقة المتفلسفة، ومنهم من هو في تصوفه على أصول كلامية، ومنهم من هو في تصوفه على أصول مجملة من الكتاب والسنة وهدي السلف الأول، لكنه أخطأ في ذلك. فصوفية الحقائق درجات، ولكن مقصوده بذكرهم أنهم المشتغلون بنظم التصوف وتطبيقه وتفسيره، ويغلب على صوفية الحقائق أنهم يستعملون لتفسير هذا أسماء كثيرة، كالفناء والبقاء، والجمع والتفرقة، والكشف والوجد، والسكر والصحو، وما إلى ذلك. فإن قيل: فما تفسير هذه؟ فأقول: لا ينبغي لمن أراد أن يكتب جواباً أو تعريفاً أو ما إلى ذلك أن يبني على مثل تعريفات الجرجاني لمثل هذه الأسماء؛ فإن هذه الأسماء أو هذه المراميز -كما يسميها الصوفية كـ ابن سينا من المتفلسفة أو كـ أبي حامد الغزالي - هذه المراميز كل طبقة أو كل مدرسة من الصوفية تفسرها بدرجة تختلف عن غيرها. فمثلاً: إذا استعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي كلمة (الجمع) فإنه لا يصلح أن تفسر بالتفسير الذي يفسره التلمساني؛ فإنه لما صنف منازل السائرين -وهي رسالة له في التصوف- وذكر فيها الأحوال وما إلى ذلك، شرح هذه الرسالة العفيف التلمساني، والعفيف التلمساني هو من متفلسفة الصوفية، بل يقول ابن تيمية: "ليس فيهم من هو أجلد منه في هذا الباب"، بل يجعل تمسكه بفلسفة الصوفية أكثر من تمسك ابن عربي بها، لكن ابن عربي كان أشهر عند العامة. فالمقصود: أن التلمساني لما فسر كلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، فسره تفسيراً غالياً مقارباً لطريقة متفلسفة الصوفية، لكن لما جاء من ليس صوفياً في المفهوم بالكلمة وهو ابن القيم رحمه الله، فشرح رسالة الهروي في كتابه مدارج السالكين، تباعد عن كثير من مقاصد الصوفية، ليس المتفلسفة بل حتى من دون المتفلسفة، بل حاول أن يقرب مقاصد الهروي بمراميزه وجمله وحروفه إلى المعنى المعروف عند أئمة السنة والجماعة المتقدمين. وهذا يدلك على أن تفسير كلام الصوفية ينبغي أن يكون بعلم وعدل، فلا ينقص عن قدره الذي كتبوا عليه حتى لا يخدع العامة بإنقاص، ولا يزاد في العدوان فيفسر الكلام تفسيراً غالياً من قائل لم يكن على هذه الدرجة. إذاً: هذه صوفية الحقائق، وهم المشتغلون بنظم التصوف وتفسيره، ثم هم درجات شتى.

صوفية الرسم

صوفية الرسم القسم الثاني: صوفية الرسم، ومقصود ابن تيمية بصوفية الرسم يبينه بقوله: "هم الذين اهتموا بشعار التصوف من حيث اللباس والآداب الوضعية"، وليس المقصود بالآداب الوضعية أنها خارجة عن أصول الإسلام مطلقاً، وإنما المقصود أنها آداب يختص المتصوف بها، ويختص كل صاحب درجة بشيء منها، فالمريد له آداب معينة أمام العارف، وهذه يسمونها بالآداب الوضعية لحركة الجلوس والحضور وما إلى ذلك. وفي الغالب أن هؤلاء ليسوا مرحلة تاريخية انتهت، بل ما زال هذا قائماً إلى الآن وبشكل كثيف، والإمام ابن تيمية لم يرد أن صوفية الرسم ليس عندهم من التصوف إلا اللباس والآداب الوضعية، لكن المقصود أنهم لم يدخلوا في عمق التصوف، بل يعنون بالذكر، ويعنون بالصلاة، ويعنون ببعض القربات، ويعنون ببعض الانتفاء عن بعض الملذات، وما إلى ذلك من الطرق التي يرسمها الصوفية، ولكن الغالب عليهم أنهم يعنون بالرسم وبالآداب الوضعية، أي: اللباس والآداب التي درج عليها المتصوفة.

صوفية الأرزاق

صوفية الأرزاق القسم الثالث: وهم من سماهم بصوفية الأرزاق، وهؤلاء أقل تأثراً بحقيقة التصوف ونظمه من القسم الثاني فضلاً عن القسم الأول. وهؤلاء تسموا بالتصوف وانخرطوا في بعض حضور مجالس التصوف كسباً للأوقات؛ فإنه من المعلوم أن الوقف في الشريعة أحد أوجه البر والإحسان، وله نظم معروف في الفقه، لكن لما كان بعض المسلمين والصالحين والقاصدين للخير من أهل المال يوقفون -وهذا جرى عليه عمل كثيرين في كثير من الأمصار- بعض الدور وبعض الأماكن وبعض الأرزاق على الصوفية، أو يقولون: على فقراء الصوفية، أو ما إلى ذلك، ولقلة ذات اليد في كثير من بلاد الإسلام؛ صار كثير من العامة يقصد إلى أن ينتسب ويدخل في هذا الاسم حتى يجرى عليه شيء من الوقف، فيكون داخلاً في الحكم شرعاً. وعليه: فصوفية الحقائق هم الخاصة وفي الغالب هم من المتصوفة أصحاب النظم والمعرفة، ثم كثير من العامة أكثر ما يكونون عليه هم من صوفية الرسم وإن أصابوا شيئاً من تصوف الحقائق، وكثير من العامة أيضاً هم من صوفية الأرزاق وإن أصابوا شيئاً من تصوف الرسم وتصوف الحقائق. فليس مقصود الإمام ابن تيمية وليس المقصود من القول أيضاً هنا أن نقول: إن صوفية الرسم عندهم براءة مطلقة من تصوف الحقائق، ولا أن صوفية الأرزاق كذلك، إنما المقصود أن يفقه طالب العلم أنه قد ينتسب إلى التصوف من يكون الغالب عليه شعار التصوف لسبب عاشه في بيئته أو إلف عاشه في مجتمعه، فيكون عنده بعض الغلط، وبعض السقط، وربما انتسب لاسم من الأسماء التي عندهم بدع مغلظة، لكنه ليس عليها ولا يعملها ولا يفقهها ولا يصل إلى درجتها، فمثل هؤلاء يقربون إلى السنة والجماعة؛ لأنهم في جملة أحوالهم على السنة وإن انتسبوا إلى من انتسبوا إليه وهم يجهلون كثيراً من حاله، أو يظنون في حاله كثيراً من الخير. إذاً: في تقييم التصوف يراعى هذا التقسيم، وهو من أهم التقاسيم التي ينبغي أن تطبق اليوم، إلا أنه ليس كل من حمل هذا الاسم يلزم أن يكون ضالاً مضلاً خارجاً عن السنة إلى البدع المغلظة في الإسلام، بل قد يكون عنده وجه من الضلال أو وجه من الخطأ أو وجه من الابتداع، لكن لا يلزم أنه قد استحكم في البدعة، وقد أشرت إلى أن جمهور العامة من المسلمين برآء من الاستحكام في البدعة، والإقامة عليها، بل إذا دعوا إلى أصول الهدى والحق فإنهم مقاربون لها، وليس عندهم تمسك مطلق بما يخالفون ذلك.

أقسام الصوفية من حيث الحقائق

أقسام الصوفية من حيث الحقائق التقسيم الآخر: وهو يتعلق بمفهوم التصوف ومعانيه، وقبل أن نذكر هذا التقسيم نبين أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا ذكر الصوفية تارة يذكرهم بالاسم العام، فيقول: الصوفية أو المتصوفة، وتارة يذكرهم في سياق إضافي، وإذا ذكرهم في سياق إضافي نجد أن الإضافة يتباعد قدرها، فمثلاً: نجده تارة يقول: مقتصدة الصوفية، وتارة: محققو الصوفية، وتارة: فضلاء الصوفية .. إلى أمثال ذلك. ومن الملاحظ في هذه التعبيرات أنها تعبيرات مقاربة، بل ربما يستعمل ما هو أكثر من ذلك. ولكنه بالمقابل يستعمل جملاً وسطاً حينما يقول مثلاً: مبتدعة المتصوفة، ومنحرفة المتصوفة، هذا نعتبره إضافة تقرير تمثل الدرجة الثانية، ليس فيها وصف بالغلو المطلق، ولكنه أيضاً ليس كالألفاظ والاستعمالات الأولى. ثم نجد كذلك أنه يستعمل إضافات أشد، وهي الإضافات القوية، وذلك حينما يقول مثلا: ً غلاة المتصوفة، ضلال المتصوفة، وربما يستعمل سياقاً فيه لفظ الزندقة، وربما يحكم على بعض المقالات بحكم تام في القوة، كأن يقول: إن هذا القول مخالف لأصول دين المسلمين، وهو من البدع المغلظة المخالفة لقول عامة المسلمين من الصوفية وغيرهم .. فلماذا هذا؟ لأن هذا هو الواقع من حيث الحقائق؛ فإن التصوف اسم عام قد يدخل تحته المقتصد، ويدخل تحته المتوسط -إن صح التعبير- ويدخل تحته الغالي. فليس التصوف بسائر أوجهه غالياً، وفي المقابل ليس التصوف بسائر أوجهه مقتصداً، بل من بعد القرن الثاني -أي: من القرن الثالث إلى اليوم- ما زال التصوف منه ما هو قد يكون مقتصداً، ومنه ما هو فوق ذلك، ومنه ما هو من التصوف الغالي الذي لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يخفف في شأنه؛ لمنافاته لأصول مقاصد دين الإسلام. هذه الاستعمالات لكلام شيخ الإسلام لما ذكر التقسيم من حيث الحقائق قال: "إن الصوفية ينقسمون إلى ثلاثة أقسام"، وهذا التقسيم مبني على مقدمات، فإنه من المعلوم في منطق الكلام أنه يقال: المقدمات والنتائج، فهذه النتائج جاءت عن ثلاثة أنواع من المقدمات: فيقول: صوفية أصحاب الحديث، هذه درجة أو طبقة. وصوفية أصحاب الكلام، أو صوفية المتكلمين. وصوفية المتفلسفة. الآن جعل المصنف منهج أهل الحديث والسنة والجماعة مقدمة بنى عليها بعض الصوفية فأنتجوا التصوف تحتها، فأصبحت المقدمة في الجملة مقدمة سنية، والنتيجة التصوف الذي أنتج من هذه المقدمة. وثمة تصوف أنتجه أصحابه تحت مقدمات من المعرفة الكلامية، وثمة تصوف أنتجه أصحابه أو حصلوا نتيجته تحت مقدمات فلسفية.

صوفية أهل الحديث

صوفية أهل الحديث أما التصوف الذي أنتجه أصحابه تحت مقدمات سنية فهذا في كتب الصوفية بخاصة أهله نوعان: النوع الأول: أعيان من العلماء والعباد المتقدمين الذين لم ينتسبوا إلى الصوفية أو إلى اسم التصوف، ولا يحفظ عنهم بإسناد متصل صحيح إليهم أنهم كانوا يسمون أنفسهم صوفية، ومن أمثلة هؤلاء: الفضيل بن عياض؛ فإن كتب الصوفية تذكره وتجعله من طبقاتها وأئمتها، كما في حلية الأولياء، وطبقات الصوفية وغيرها، مع أنه لا يحفظ -فيما أعلم- أن الفضيل بن عياض كان ينتسب هذه النسبة، وإن كان قد اشتهر بمقامات من الزهد والعبادة، لكن لم يعرف عنه أصل أو فعل -ولو دون الأصل- يخالف مقاصد الشريعة أو دلائلها، بل عامة ما نقل عنه حتى ولو خالفه غيره من الأئمة فهو مما يسع فيه الاجتهاد، فلا يصل إلى باب البدع. فإنه من المعلوم أن المسألة إذا قبلت الاجتهاد لا يسمى أحد قولي المجتهدين بدعة، فإن البدعة ما خالف السنة الصريحة، أما ما خالف السنة باجتهاد معين فإنه لا يجوز أن يسمى بدعة، وإلا للزم أن مالكاً إذا رأى رأياً في الشريعة فخالفه الشافعي أن يسمى قول الشافعي عند المالكية بدعة، ويسمى قول مالك عند الشافعية بدعة، وهذا لا معنى له ولا وجود. فالبدعة: هي ما خالف صريح السنة، وليس ما خالف السنة باجتهاد مجتهد، حتى لو كان المجتهد إماماً فرأى أن السنة مضت بهذا فينظر، فإن كان غيره من المجتهدين ولا سيما من السابقين له قد خالفه في هذه المسألة، ولم يروا أن السنة مضت بها وجاءت بها أو حكمت بها؛ فإن المسألة تبقى على الاجتهاد، ويختار المقلد بل وغير المقلد ما يراه أقرب إلى الدليل وأقرب إلى مقاصد الإسلام. والمقصود من هذا أن ثمة جملة من متقدمي العباد سماهم الناس صوفية، ولم يحفظ أنهم كانوا يتسمون بهذا الاسم. النوع الثاني: صوفية أصحاب الحديث والسنة، وهم قوم تسموا بهذا الاسم، ولكنهم لم يستعملوا أصولاً مختصة خارجة عن السنة والجماعة كالفلسفة أو علم الكلام ونحو ذلك، وإن كانوا لما حصلوا تصوفهم هذا بمقدمات السنة والجماعة، أخطئوا في كثير من التحصيل. والإشكال الذي وقع عند هذه الطبقة -مع أن مقدماتها في الجملة هي مقدمات السنة والجماعة- هو أنهم اجتهدوا في فقه بعض إشارات القرآن -إن صح التعبير؛ لأنهم يسمونها كذلك- ففسروا بعض مقامات التعبد التي في القرآن أو في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأوجه يعلم عند المحققين من الأئمة أنها ليست في السنة، فضلاً عن أن هؤلاء العباد وإن بنوا على مقدمات السنة والجماعة لم يكن كثير منهم -ولا سيما بعد المائة الثالثة- من المعروفين بعلم الرواية والتفريق بين الصحيح والضعيف، بل التفريق بين الحديث وبين الموضوع، أي: الحديث الثابت المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الموضوعات، فبنوا كثيراً من المقامات والأحوال على أحاديث موضوعة، فجاءهم الإشكال من هذه الأوجه: غلط في تفسير بعض كلام الله سبحانه وتعالى. غلط في تفسير بعض أوجه التعبد بالسنة. روايات موضوعة بنوا عليها. فدخل على مثل هؤلاء كثير من البدع حتى تحولت إلى نوع من الالتزام والانتظام في مذهبهم. ولذلك يغلب على هؤلاء أنهم لا يخرجون بأصول مغلظة على السنة والجماعة، وإن كان عندهم كثير من البدع في الأقوال، وكثير من البدع في الأفعال، ومحققوهم يتباعدون عن أكثر هذا، فيكون عندهم سلامة في الجملة من كثير من هذه البدع، وإن كانوا لا ينفكون عنها مطلقاً. ثم تحصيل أحوال الأعيان هذا مما يضيق الإنسان عنه، ولا أقول: مما يضيق المقام عنه، بل مما يضيق الإنسان عنه لتعذر الوصول إلى تمامه في الجملة.

صوفية المتكلمين

صوفية المتكلمين أما صوفية المتكلمين فمراد المصنف بهم: أن علم الكلام أسسه أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة، وهو العلم الذي استعملوه في مسائل معرفة صفات الله وغيرها، وهذا العلم الشائع في كتب التعاريف وفي مقدمة ابن خلدون وفي غيره من الكتب أنهم يقولون في تعريفه: "هو تحصيل العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"، أو ما يقارب هذا المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ فإن العقل لم يذم عند السلف ذماً مطلقاً، ولا نجد في القرآن ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ذم العقل، بل في القرآن أن الله سبحانه ذكر العقل محركاً وموجباً للهداية، فنجد في قول الله تعالى في الكفار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] أنه لم يذكر العقل منافياً للديانة أو منافياً للإيمان، بل محركاً إليه، ولهذا لما وصف المعاندين قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. ولا شك أن ثمة عقلاً فاسداً وهو ما سماه القرآن ظناً؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى حال المشركين قال سبحانه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]. وأما العلم العقلي فليس منافياً للقرآن ولا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الشريعة مضت على أن الإنسان إذا سقط عقله سقط تكليفه، فكيف يقال: إن العقل معارض للأدلة؟! والمقصود أن علم الكلام يمكن أن نعرفه بأنه: علم مولد من الفلسفة، مع جملة من كليات العقل، ومجمل الشريعة. هذا هو علم الكلام الذي نظمه المعتزلة وأمثالهم كمقدمة لتحصيل المعرفة: هو علم مولد في جمهور مقدماته من الفلسفة، وأدخل عليه أصحابه تقريراً له بعض المقدمات الكلية من العقل الصحيح، وبعض الكلمات المجملة من القرآن، ولكن المقدمات التفصيلية فيه ليست مقدمات قرآنية ولا مقدمات عقلية صحيحة، بل هي مقدمات فلسفية، وإنما قيل: إنه علم مولد؛ لأنه ليس فلسفة صريحة منقولة، فالفلسفة المنقولة ما ظهرت إلا بظهور المتفلسفة الصرحاء كـ أبي نصر الفارابي، والحسين بن سينا، وقبل هؤلاء يعقوب بن إسحاق الكندي؛ فهؤلاء صرحوا باسم الفلسفة وانتسبوا للفلسفة انتساباً صريحاً. والمعتزلة والجهمية -وهم الذين ابتدءوا علم الكلام في الإسلام كمقدمة للديانة وتحصيل معرفة الله وصفاته وأفعاله- كانوا مائلين عن التصوف؛ لأن هؤلاء يبنون أمورهم على العقل، والتصوف ينبني على المقدمات أو على أحوال النفس، فكانوا مائلين عنه، لكن لما ظهرت المدارس الكلامية فيما بعد والتي تسمى بمدارس متكلمة الصفاتية، وهي المدارس التي ينتسب أئمتها للسنة والجماعة، ويجافون المعتزلة وقدماء المتكلمين في أصول كثيرة، ولكنهم متأثرون بهذا العلم، بل متقلدون لجملة من أصوله، وقد انتظم هذا في مدارس مشهورة في بلاد العراق، وفي بلاد ما وراء النهر على يد أبي منصور الماتريدي في بلاد العجم. المهم أنه ظهر في بعض شيوخ هذه المدارس من جمع بين التصوف وبين علم الكلام، ومن أوائل هؤلاء الذين مزجوا بينهما مزجاً بيناً: القشيري؛ فهو ينظم علم الكلام نظماً ويستعمله كمقدمات وكنتائج، مع أنه من كبار الصوفية. قد يقول قائل: قبل ذلك كان الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله. فيقال: الحارث بن أسد غلب عليه التصوف، واستعمل نتائج بعض المتكلمين وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو يعد مقدم متكلمة الصفاتية، وهو ممن ينتصر للسنة والجماعة، وإن كان بقي عليه بقية من علم الكلام؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه ودين، فكان له انتصار مشهور للسنة، وأن القرآن ليس مخلوقاً، والرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، لكنه قال مقالته المشهورة في الصفات، أن القرآن حكاية أو عبارة، وهي مقالة لا أصل لها في كلام السلف". المهم أن الحارث بن أسد المعروف بزهده وعبادته وأحواله أخذ نتائج ابن كلاب الكلامية، وإن كان متصوفاً، لكنه ليس كالحال التي سار عليها القشيري في جمعه بين التصوف وعلم الكلام. ثم جاء بعد ذلك الإمام أبو حامد الغزالي فصنف كتاباً على طريقة المتكلمين من الصفاتية، أو على طريقة الأشعرية من أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو من المنتسبين للسنة والجماعة. فلما صنف أبو حامد الغزالي بعض هذه الكتب -ككتاب قواعد العقائد وقانون التأويل وما إلى ذلك- نظمها نظماً كلامياً على الطريقة التي تقلدها أبو المعالي الجويني وأمثاله من النظار والمتكلمين، ولكنه اشتغل بالتصوف حتى غلب عليه، وفي تلك الأثناء وكأن هذا بدأ من المائة الرابعة وما بعدها- ومن يدرس في كتب أبي حامد قد يقول: إنه قد تغيرت أحواله فترك هذا العلم إلى التصوف وما إلى ذلك، فنقول: كلا! الغزالي صرح بطريقة كان ابن سينا يستعملها، وهي أن المذهب الشخصي لا يلزم أن يكون واحداً؛ ولذلك صنف أبو حامد كتباً في الوعظ معروفة وهي التي غلب بذكرها في الإتيان. وصنف كتباً كلامية وصنف كتباً في السلوك والتصوف الخالص، ولذلك يقول ابن تيمية: "إنه من خاصة المسلمين -يعني: أبا حامد - في التأله والعبادة، وله رجوع مشهور في آخر أمره إلى الحديث والعناية به". فيقول الغزالي مجيباً عن هذا الاختلاف في مقولته وتصانيفه: "إن المذهب ثلاثة: المذهب الجدلي -ويعني به: مذهب المجادلة- وهذا لدفع صول الصائلين على الإسلام، ويكون بالطرق النظرية، فندفع عن الإسلام صول أهل البدع المغلظة"، ويقصد بهم الغزالي إلى المعتزلة، ثم يقول: "وندفع صول من ليسوا من أهل الإسلام"، ويقصد بهم المتفلسفة أو الفلاسفة القدماء. ولذلك لما رد أبو حامد على الفلاسفة قال في بعض كتبه: إنا في ردنا على الفلاسفة استدعينا كلام أصحابنا المتكلمين، وكلام النظار من غيرهم، وإن كانوا يخالفونهم؛ لأننا أمام عدو قد صال على مقاصد الإسلام وأصوله. ويقصد بهم: المتفلسفة الذين قالوا بقدم العالم ونحو ذلك، فـ الغزالي يسمى هذا المذهب: مذهب الجدل، أي: للمجادلة. ثم يقول: "المذهب الثاني المذهب العام"، ويجعله للعامة، يقول: "ويكون هذا بالزواجر والدواعي"، يعني بالترغيب والترهيب، يقول: "هذا هو الذي يناسب حال أكثر العوام". ثم يقول أبو حامد: "المذهب الثالث هو مذهب اليقيني"، يقول: "وهذا سر بين العبد وبين ربه، ولا يكشف منه العبد إلا القدر الذي يجوز كشفه لمن هو أهل له"، حتى إنه فصل بعض الكلام في جواب له لمن سأله عن بعض أحواله في التصوف ذكر بعض الأحوال حتى وقف ثم قال: فكان مما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر ولـ أبي حامد ترقيات في هذا الباب من التصوف اشتد في بعضها إلى أوجه مستغربة عليه. فالمقصود: أن مثل هذه الطريقة التي حصلت وجد من ينظر في أصوله العلمية النظرية على طرق المتكلمين، وفي مسائل السلوك ينظر على طرق الصوفية. ومن هنا اندمج علم الكلام مع التصوف، وصار كثير من المتصوفة في أصولهم النظرية على أصول كلامية، وفي مسائل السلوك على طرق صوفية معينة تختلف درجاتها، وهذا التصوف سماه الإمام ابن تيمية رحمه الله: صوفية المتكلمين.

صوفية المتفلسفة

صوفية المتفلسفة أما صوفية المتفلسفة فإنه يشير بهم إلى الصوفية الذين نقلوا مقدمات فلسفية كان بعض فلاسفة الفرس أو الهند أو اليونان يتقلدونها لتحصيل التعبد الذي كانوا يعيشونه، وهو التعبد -تعبد أولئك الهند أو الفرس أو ما إلى ذلك- التعبد الشركي الذي لم يكن يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى، فاستعملوا بعض هذه الطرق والأوجه وأدخلوها لتحصيل معرفة الله وعبادته سبحانه وتعالى. فهذا هو التصوف الفلسفي، وقد ظهرت له نظريات من أشهرها: نظرية وحدة الوجود، ونظرية الحلول والاتحاد، وبين الحلول والاتحاد بعض الفرق المعروف، ولهؤلاء أسماء مشهورة، وقد اشتهروا عند العامة أنهم صوفية، ولكنهم من حيث المقدمات بنوا على مقدمات فلسفية دخلت عليهم من الفلسفة التي ترجمت وانتشرت في العالم الإسلامي في أواخر دولة بني أمية وما بعد ذلك. ومن أخص هؤلاء: ابن سبعين، والحلاج، والتلمساني المسمى بـ العفيف، ومحيي الدين ابن عربي الأندلسي، وجملة من هؤلاء. فهؤلاء تقلدوا التصوف الفلسفي، وهذا هو أشكل مراحل التصوف؛ لأنه انحرف عن مقاصد التعبد الأولى التي كان عليها الشيوخ العارفون من قدماء المنتسبين إلى التصوف، كـ الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، ومعروف الكرخي، وشقيق البلخي، وسهل بن عبد الله التستري، بل والجنيد بن محمد، وحتى مثل أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، وإن كان الهروي متأخراً، لكن كان القدماء كـ إبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض، وعطاء الواسطي، وصفوان بن سليم، وأمثال هؤلاء من العباد، ممن قد يسلم اسم التصوف بحقهم، وممن لا يسلم اسم التصوف بحقهم، بل كانوا بعيدين عن هذه الحال، بل حتى الصوفية الذين تباعدوا عن ذلك لم يصلوا إلى هذه الدرجة كتصوف الهروي أو حتى كتصوف أبي حامد الغزالي. وينبه إلى أنه قد يدخل على بعض أصحاب هذه الدرجات كلمات أو إشارات من الدرجة الثانية، ولربما استعمل بعضهم ما هو من الدرجة الثانية كـ أبي حامد الغزالي؛ فإنه ربما استعمل بعض الكلمات أو الإشارات التي لا توجد إلا في تعبيرات صوفية المتفلسفة.

كيفية الحكم على الأشخاص

كيفية الحكم على الأشخاص أقول: إنه كقاعدة عامة -ولا سيما في التصوف- يحكم على قول الشخص، من حيث المعرفة بحقائق الأقوال. وقد يقول قائل: إن هذا يطول تتبعه. فأقول: إن الأمر كذلك، بل ربما نقول: لا ينتهي تتبعه، ولهذا فإن الفقه الصحيح الذي ينبغي أن يربى عليه الخاصة والعامة من المسلمين هو أن يعرفوا حقائق السنة والهدي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العلم والعمل، فمن عرف الهدي الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، وفقه سبيل السنة والجماعة، فإن هذا يستطيع أن يميز ما يخالفه من جهة، بل ويستطيع أن يبين درجة هذه المخالفة من جهة أخص. فهما أمران يحصل عنهما أمران: أولاً: أن يعرف أصول السنة والجماعة بالعلم والعمل، ولكن المعرفة اللفظية الجملية لا تكفي وحدها، بل لا بد أن يعرف ذلك ويفقهه، وإلا لو أردنا أن نأتي على جمل الاعتقاد كجملة: الإيمان قول وعمل، فهذه الجمل بعمومها لا بد منها، لكن من يتكلم في الكلمات المخالفة أو المذاهب المخالفة أو يريد أن يصحح لأصحابها لا يكفي في حقه العلم المجمل الذي قد يكفي للعامة، بل لا بد أن يفقه هذه الجمل من السنة، فيكون عالماً فقيهاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أصول السنة التي أجمع عليها السلف، فإذا ما كان فقيهاً عالماً استطاع بعلمه في الجملة وبفقهه لها أن يعرف ما يخالف ذلك، ولا يكفي هذا، بل ويعرف -وهذا هو الأهم- درجة المخالفة؛ لأن بعض البدع وإن سميت بدعة كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "لا تكون موجبة للخروج عن السنة والجماعة"، فمثلاً: قول مرجئة الفقهاء، وهو القول الذي تقلده حماد بن أبي سليمان ثم أبو حنيفة وجملة من أهل العلم، هذا القول يقول الإمام ابن تيمية عنه أنه من بدع الأقوال، وليس من بدع العقائد التي يضلل فيها المخالف، ومعنى يضلل المخالف أي: يخرج عن السنة، حتى يقال: هذا من أهل البدع والضلال. مع أن حماد بن أبي سليمان يقول: إن العمل لا يسمى إيماناً، ومن المعلوم أن من بدع الإرجاء بدع الجهمية الغالية، وهي بدعة قد نص الإمام أحمد وابن مهدي ووكيع بن الجراح رحمهم الله على أن القول بها كفر، فهذه تسمى إرجاء وهذا يسمى إرجاء، وبينهما أقوال وسط دون هذا وفوق ذاك. إذاً: الذي أوصي به طلبة العلم أن لا يعرفوا أصول السنة والجماعة علماً مجملاً أو ككلمات مجملة، بل لا بد من فقه ذلك، والعناية بمقام الفقه، وهو مقام -مع الأسف- قد قل اليوم، ومن الأدلة على قلته، ولاسيما في هذا العصر: أنه يوجد كثير من تصادم -إن صح التعبير- أهل السنة بعضهم مع بعض، أو بعبارة ربما هي الأشجع عند البعض أو أكثر شيوعاً: من تصادم السلفيين بعضهم مع بعض، ليس في قضايا هينة، بل في قضايا مثل مسألة الإيمان، ومسائل من هذا القبيل، وأحياناً خوض يقبل الاجتهاد مع ما لا يقبل الاجتهاد، وما هو ضابط مذهب السلف، وما هو الذي ليس بمنضبط مع مذهب السلف، حتى ربما بدّع بعضهم بعضاً وضلل بعضهم بعضاً، وربما اكتملت الأمور إلى نوع من الإغلاق الأخلاقي، فهذا يرمي هذا بأنه متأثر بأصول كذا، وهذا يرمي هذا بأنه متأثر بأصول المرجئة، وما إلى ذلك. وهذا سببه قلة الفقه، ومع قلة الفقه أحياناً تكون قلة الدين والورع عند بعض الناس، وإلا فإن من صدق مع الله في تدينه، واجتهد في طلب الحق يهدى ويسدد إليه؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} [العنكبوت:69] أي: بذلوا الجهد {فِينَا} [العنكبوت:69] أي: المخلصين لله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. إذاً: هذه هي الدرجات الثلاث، وعليه كنتيجة لهذا يقال: إن التصوف تأثر إما بأصول كمقدمات من السنة والجماعة، فأخطأ من أخطأ من الصوفية في تفسيرها، أو غلوا ببعض مقاماته عليه الصلاة والسلام التي ظهر فيها زهده وانفكاكه عن الدنيا، حتى جعلوها أحوالاً عامة، أو عطلوا بعض مقامات سنته أو هديه ببعض. فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتكلف في مطعمه ومشربه ومأكله، ولربما تقلل من الحال، وهذه أحوال معروفة له عليه الصلاة والسلام، وربما صادف شيئاً من سعة الحال فأصابها، وكذلك في لباسه عليه الصلاة والسلام، وفي كثير من شأنه، فلربما أخذ البعض منهم وجهاً وترك وجهاً آخر. إضافة إلى معنى أشار إليه بعض أهل العلم، وذلك أنه يوجد في كتب التراجم -كما في تاريخ بغداد أو في كتب الذهبي ولاسيما المطولة بقصد التراجم كالسير ونحوه- في تراجم بعض الأئمة الذين لم يضافوا إلى التصوف كالإمام أحمد والشافعي وبعض أئمة بغداد ونحوهم من المحدثين أحوال نقلت عنهم، مثل أنه بقي على لباس معين كذا من السنين، أو أنه ترفع عن كذا، أو أنه تباعد عن لبس بعض أنواع الملابس، فهذه أحوال أصدق ما يقال فيها: إنها ليست سنة، وليس فلان وفلان من الناس محلاً للاقتداء به، ولكن لا يشنع على من ذكر عنه ذلك لأنه قد خالف السنة؛ لأن مثل هؤلاء الكبار كـ أحمد رحمه الله وأمثاله ما كانوا يأمرون الناس بها، بل كما يقول ابن تيمية رحمه الله: "بعض النفوس الصالحة لا ينتظم صلاحها إلا بترك بعض المباحات"، يقول: "وترك بعض المباحات لا على وجه التحريم لها، بل على وجه إصلاح النفس بتركها، وأن النفس إذا انطلقت إلى ترف مباح تأثرت به"، يقول: "هذه أحوال تحصل لبعض الخاصة من الأئمة، فهي ليس محلاً للاقتداء، ولكنها إذا صدرت من مثل أحمد وأمثاله فليست محلاً للإنكار؛ لأنهم لم يفعلوها على وجه التغيير للسنة، ولا على وجه الدعوة إليها، وإنما هي من فقه إصلاح الحال، والناس يختلفون في ذلك". فبعض الناس إذا اغتنى صلحت حاله، واستقر دينه، وبعض الناس إذا كان فقيراً صلح حاله واستقر دينه، فإذا اغتنى تكبر، وبعض الناس إذا كان فقيراً ربما انشغلت نفسه عن العبادة بطلب المال أو بالتفكير فيه .. وهلم جرا، وهذه أمور يختلف الناس في وضعها.

لا يحكم على أحد بأنه صوفي بمجرد انتسابه إلى الصوفية

لا يحكم على أحد بأنه صوفي بمجرد انتسابه إلى الصوفية إذاً: التصوف قسم عام، والأسماء الحادثة أو التاريخية لا يجوز أن يصنف أصحابها الذين ينتسبون إليها بسبب أنهم كتبوا إلى فلان من الناس، ولنفرض أن زيداً من الناس -حتى نبتعد عن الدخول في أسماء معينة- له كتاب في التصوف، فصل فيه كلاماً غالياً، ثم توفي وصار رجلاً مشهود الحال في مصر من الأمصار، فصار كثير من العامة فيما بعد ينتسبون إلى زيد هذا، فهل يلزم بالضرورة أن من انتسب إليه يكون على معتقده وعلى حكمه؟ الجواب: لا يلزم، وحينما نقول: لا يلزم، ليس معناه أنه لا يمكن أن يوجد، بل قد يوجد، فبعض الأتباع قد يكونون أضل من بعض الشيوخ، وهذا موجود؛ فإن بعض المتأخرين أبعد من بعض متقدميهم، وهذا مثاله في أتباع عدي بن مسافر الأموي، فإنه كما يشير المصنف في كلامه أن عدي بن مسافر في جمهور أمره على السنة، وإن كان عليه بعض الأخطاء في مسائل من العلم أو العمل. لكن لما جاء من بعده وهو من أهل بيته بعد وفاته، وتولوا خلافته في دعامة هذه الطائفة وهذه الرتبة، جاء من بعده من المقتصدين، ثم جاء من بعده مقتصداً، ثم جاء الثالث فغلا في مذهب عدي بن مسافر غلواً زائداً، وانحرف به إلى بدع مغلظة، ودخل عليه شيء من الكلام في وحدة الوجود، وغلا في يزيد بن معاوية حتى وصل بـ يزيد بن معاوية إلى مقامات غالية نقلت فيه أحوال منكرة مستغربة، فهؤلاء الذين تأخروا من المنظرين لطريقته زادوا عليه، فالعامة الذين ينتسبون إلى المسافرية أو إلى عدي بن مسافر أو ما إلى ذلك، لا يلزم بالضرورة أنهم بهذا اللاحق الذي غلا ولا بـ عدي بن مسافر الذي كان من المقتصدين في الجملة. إذاً: النسبة إلى الأسماء الحادثة وحدها لا تكفي في درجة الحكم، لكن قد تكفي في إعطاء حكم عام، كأن تقول: الانتساب إلى هذا الاسم بدعة، فهذا نسميه حكماً عاماً، لكن أن نصل إلى حكم مفصل أو تطابق الحكم على الغالي مع غير الغالي، فإن هذا ليس وجهاً من العدل الذي جاءت به الشريعة. وتوضيح ذلك: أن الباطنية في التاريخ انتسب إليهم كثير من العامة، ومن المعلوم أن العامة في نظام الباطنية لا يكشف لهم الباطن، وقد يكشف شيء من الباطن بقدر يسمونه بما تحتمله النفوس، ولا يكشف لهم سائر ما في الباطن، فهؤلاء وإن كان انتسابهم مذموماً، لكنهم لا يصلون إلى درجة أئمة القائمين بهذا الغلو من البدعة. فالتصوف اسم ظهر في أثناء المائة الثانية، وانتسب إليه قوم صالحون مقتصدون هم في الجملة على السنة والجماعة، وانتسب إليه قوم دون ذلك عندهم بدع كثيرة في مسائل العمل، وانتسب إليه قوم أدخلوا عليه شيئاً من الأصول العلمية المولدة في الإسلام كعلم الكلام ومقدماته، وإن كان أثره ليس مباشراً، أو كالفلسفة الصوفية التي نقلوها عن بعض فلاسفة الفرس ونحوهم، وإن كانوا لم ينقلوها نقلاً مطلقاً في سائر مواردها، ولكنهم تأثروا بتلك النظريات الغابرة في التاريخ التي كان عليها بعض الفلاسفة، وهذا ما مثله باطنية المتصوفة المتفلسفة، وإن كان لفظ الباطنية ليس مطابقاً بالضرورة للفظ المتفلسفة، فإن الباطنية انتسب إليها من الصوفية من ليس فلسفياً، فالمتفلسفة من الصوفية هم أضيق الدرجات وأشكالها.

موافقة الإسلام للفطرة وسهولة أحكامه ومسائله

موافقة الإسلام للفطرة وسهولة أحكامه ومسائله كتوجيه عام: فإن الإسلام معرفة وعبادة جاء على الفطرة وعلى أصول العقل، وجاءت محكماته في العلم والمعرفة أو في العمل والتعبد كمسائل لا تستدعي محاولة وتطويلاً في الاجتهاد. وهذا يظهر في الصحابة زمن النبوة وزمن الاستجابة الأولى، فقد كان الإسلام أصوله ومعانيه -ولا سيما المعاني المحكمة، كأصول العلم والإيمان المتمثلة في الإيمان بالله وملائكته إلخ، وأصول العمل كالصلوات الخمس والجمعة ورمضان والحج وأصول الأخلاق، وأصول المعاملات- كان يفقهها الصحابي المقارب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء وأئمة الصحابة، وكان يعرفها ويفقهها كذلك الأعرابي الوافد، كان يعرفها بسيط العلم، وكبير العلم، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ولم يكن في زمن النبوة تفسير الإسلام أمراً مشكلاً. ولو جمعنا سؤالات الصحابة في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنها سؤالات خاصة وسؤالات قليلة، حتى في مسائل النفس وأحوالها كان لدى أئمة الصحابة من الاستقرار والظهور شيء كثير. وقد حصل في بعض الأحوال -كما في حديث أبي هريرة وابن مسعود في الصحيح- أن أناساً قالوا: (يا رسول الله! إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان) وهذا ليس إشارة منه إلى طلب هذه الدرجة، فإن هذه الدرجة لم تحصل لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل لم تحصل لرسول الله وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحصلت لبعض المؤمنين صادقي الإيمان لكنهم دون درجة الصديقين وأئمة الصحابة المقدمين كالخلفاء الأربعة، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ذلك صريح الإيمان) من حيث أن الشيطان انقطع عن التأثير في الحقيقة فرد الله كيده إلى الوسوسة، كما في رواية ابن مسعود: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة). فلم يكن عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم إشكال، بل حتى الأعراب الذين كانوا يفدون كانوا يفقهون الإسلام فقهاً مباشراً، وبهذا يتبين أن تحويل الإسلام في القرون التي مضت أو في هذا العصر في طريقة تعبده أو في معارفه وعلومه وعقيدته إلى نوع من التطويل والتعقيد، سواء الذي تمثل في نظريات المتكلمين حتى كتبوا نظريات لا يستطيع أن يستوعب ما فيها المتعلمون فضلاً عن العامة، وكذلك في مسائل التعبد بطرق متكلفة مرتبة لا يستطيع أن يسلك السالك فيها وحده، فأولى للمسلمين خاصة وعامة في كل مكان من أرض الإسلام أن يقصدوا إلى ترك التعصب للأسماء والطوائف، وأن يقصدوا إلى التعصب لمن لا يجوز التعصب شرعاً إلا له من الأشخاص وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الاقتداء باسم القرآن، فيقتدوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدوا إلى سنته الصحيحة المحفوظة، ويتباعدوا عما ليس معروفاً عنه عليه الصلاة والسلام في كتب الحديث المعروفة عند المسلمين، كالكتب الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وأمثالها. وإن كان قد يقع في السنن أو المسند أو الموطأ ما لا يكون من الصحيح، لكن في الجملة أن هذه الكتب السبعة وموطأ الإمام مالك هي دواوين الإسلام الجامعة للسنة، بخلاف بعض الكتب المتأخرة التي غلب عليها المتروك أو الموضوع، مما أدخل في كتب كثير من شيوخ الصوفية، وإن كان كثير منهم قد لا يكون عارفاً بذلك. ومثال ذلك: أبو حامد الغزالي رحمه الله، فإنه مع علو درجته في العلم، فهو فقيه شافعي وأصولي من كبار الأصوليين، وله معارف وعلوم معروفة في الإسلام، ومع ذلك نجد أنه يستدل بموضوعات، حتى إنه قال عن نفسه -ولم يقل هذا عنه غيره-: أنا مزجى البضاعة في الحديث. فنجده يأتي بالصحيح والضعيف وأحياناً يأتي بالموضوع، لكن مع ذلك في كلام أبي حامد خير كثير لمن أحسن القصد إليه والوصول إليه. ولذلك لما سئل شيخ الإسلام عن كتابه إحياء علوم الدين قال في جوابه: "أما الإحياء فغالبه جيد، لكن فيه ثلاث مواد فاسدة، فيه مادة من ترَّهات الصوفية -الترهات أي: شبه الأساطير- ومادة من الأحاديث الموضوعة، ومادة فلسفية"، وهي من تأثر أبي حامد بالفلسفة التي كان إماماً في الرد عليها. هذا جملة التعليق على ما يتعلق بطبقات الصوفية، ومقصود هذا التعليق أن الداعي إلى السنة والجماعة يجب أن يكون داعياً بعلم وعدل، وأن من انتسب لهذا الاسم -يعني: التصوف- يجب عليه أن يكون قاصداً لاتباع الكتاب والسنة وهدي السلف الأول من الشيوخ والعباد الصالحين الذين كانوا على مقصدٍ بين، وعناية بينة في اتباع ما هو معروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وقد ذكرت لذلك أمثلة من الشيوخ المتقدمين المسمين بالتصوف، كـ إبراهيم بن أدهم، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد بن محمد، وإن كان الأبين شرعاً-إنما نقول هذا الكلام لأن التعصب والإلف استهلك نفوس كثير من العامة- والأوجب أن التعبد يكون بما مضى به الدليل من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون من مشكاة فلان أو فلان من الناس، فإن التعصب للأعيان -حتى لو كان للصالحين الأبرار- لا يصح. إنما الذي يتعصب له هو الحق الذي بعث الله سبحانه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولذلك كان من فقه الأئمة المتقدمين رحمهم الله أنهم إذا أجمع الصحابة أخذوا بإجماعهم، وإذا اختلف الصحابة إما أنهم يتخيرون في اختلافهم، وإما أنهم يقيسون المسألة، ويقيسون أحد قولي الصحابة بما هو الأشبه بأصول الشريعة. فليس المقصود أن يصحح الانتساب مطلقاً، ولكن الاقتصاد في التصحيح أيضاً مطلوب من حيث الحكمة والعدل، وإلا فإن من انتسب لأشرف الأسماء، وهو الإيمان والإسلام الذي وصف الله به الأنبياء، فلا نعلم نسبة في شرع الله، بل وليس في الكتاب المنزل اسم أشرف من هذين الاسمين وما رادفهما، مما ذكره الله سبحانه أو سمى به أولياءه؛ فإن الله تعالى سمى إبراهيم عليه السلام مسلماً، ولما ذكر الله درجات المؤمنين قال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] هذه هي الأسماء الشرعية التي ينبغي للمسلمين أن يقولوا بها، وهي: اسم الإيمان والإسلام والصديق والشهيد والصالح والولي وما إلى ذلك. أما الأسماء المبتدعة والمصطلحات المبتدعة في الإسلام فهذه لا تزيد المسلمين خيراً ولا قرباً إلى السنة، ولا إلى هدي أصحاب الرسالة عليهم الصلاة والسلام، وإمامهم الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.

شرح الوصية الكبرى [4]

شرح الوصية الكبرى [4] جماعة عدي بن مسافر هي من أرسل إليهم شيخ الإسلام الوصية الكبرى، وقد ذكر في أولها بعض ما هم عليه من خير وصلاح، كانتسابهم إلى الإسلام لا إلى الأشخاص، وانتسابهم إلى السنة لا إلى البدعة ... وغير ذلك مما هم عليه من الحق، من باب العدل مع المخالف، ودعوته إلى الكتاب والسنة، وهذا من فقه شيخ الإسلام وحسن تأتيه.

الانتساب إلى الإسلام لا إلى الأشخاص

الانتساب إلى الإسلام لا إلى الأشخاص قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأنتم -أصلحكم الله- قد مَنَّ الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب. والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]]. الدعوة والتشخيص في مسائل التعبد ينبغي أن يقرب المسلمون إلى الحق باسم الإسلام، وليس من العقل ولا من الذكاء ولا من الحكمة أن تكون الدعوة إلى أسماء، حتى ولو كان من العلماء؛ لأنه -أحياناً- بعض العوام المغاربة لا يعرفون أكثر أئمة المشارقة، وعوام المشارقة لا يعرفون بعض أئمة المغاربة، بل أكثر من ذلك فبعض علماء المغاربة ما وصلوا إلى بعض علماء المشرق والعكس، وأحياناً بعض الأسماء عند قوم تكون أكثر قبولاً من بعض الأسماء، ولكن هناك أسماء مسلمة في أي مصر من الأمصار، فهذه الأسماء الثابتة التي لا يمكن لشخص أن يجادل حولها، هي أولى ما ينبغي أن تنطلق الدعوة باسمه، أن هذا هو الإسلام أن هذا هو الذي دل عليه القرآن، أن هذا مقتضى السنة، أن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا هدي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. فهذه الأسماء والإضافات الشرعية المحكمة أضبط في قلوب الناس، وأضبط حتى في دين الناس، وأكثر اقتداء للكتاب والسنة من بعض الأسماء التي قد لا تكون صحيحة، وبعضها قد يكون صحيحاً ولكن قد يكون في بعض الأمصار شأنه مشكلاً. ومن المعلوم قصة بعض العلماء، لما قال: إن الإمام أحمد بن حنبل ليس فقيهاً، وهو من كبار المفسرين، وماذا فعل به بعض العامة في بغداد. فأحياناً تقع مثل هذه الأحوال، حيث يألف العامة اسماً، ويعادون غيره، أو يبلغهم عن غيره شيء يقتضي معاداته .. والمقصود أن بعض الأسماء -أحياناً- يصيب بعض مراحلها في التاريخ بعض الارتباك، ثم قد تأتي أحوال أخرى وينطلق هذا الاسم مرة أخرى.

انتساب كثير من الصوفية إلى السنة لا إلى البدعة

انتساب كثير من الصوفية إلى السنة لا إلى البدعة قال رحمه الله: [وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة] هذا شأن يوجد في كثير من الصوفية، وأنهم ينتسبون إلى طريقة الأئمة، وينتسبون إلى السنة والجماعة، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة المطابقة العلمية في الحقيقة، لكن الانتساب من حيث هو عمل شرعي فاضل يجب الإشادة بذكره، ويحمد صاحبه؛ فإن من ينتسب للسنة والجماعة حتى لو أخطأ ما أخطأ فإنه ليس كمن ينتسب إلى طائفة مبتدعة تذم أئمة السنة والجماعة أو ما إلى ذلك. فينبغي أن يحرص الناس على النسبة للسنة والجماعة، فما دام أنهم ينتسبون إلى الإسلام، فيقصدون إلى مرحلة أخص وهي أن ينتسبوا للسنة والجماعة، ويكون هذا المعنى قائماً في نفوسهم. ثم إذا أدخلوا في السنة حدثوا بصريح الحديث، وصحيح السنة، وآثار الصحابة، وبكلام الأئمة الذين لهم قدم صدق عندهم، فإذا كانوا حنفية حدثوا بكلام أبي حنيفة، وكلام أئمة أصحابه كـ أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وإن كانوا شافعية حدثوا بكلام الشافعي وأئمة أصحابه، وإن كانوا مالكية حدثوا بكلام مالك، وأئمة المالكية وفقهائهم وهلم جرا. [مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية]. هذه من البدع المغلظة، فبدعة الروافض في الصحابة، وبدعة الجهمية في صفات الله وتعطيلها، وبدعة الخوارج في تكفير المسلمين والغلو في الدين، وبدعة القدرية في مسألة أفعال العباد، حيث أنكروا خلق الله سبحانه وتعالى لأفعال عباده، مخالفة لجماهير المسلمين. فهذه من أصول البدع المغلظة التي طرأت في الإسلام، فيقول المصنف: إنكم -يعني: أتباع عدي بن مسافر - عافاكم الله من البدع المغلظة، وفضلكم الله بالانتساب للسنة والإسلام.

ابتعاد بعض الصوفية عن تعطيل الأسماء والصفات وسب الصحابة

ابتعاد بعض الصوفية عن تعطيل الأسماء والصفات وسب الصحابة قال المصنف رحمه الله: [بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته] يشير إلى طرق الجهمية التي تعطل الأسماء والصفات، وهذا الإطلاق لمصلحة التحذير، وهو من باب التوسع، فإنه من المعلوم أن الذي يكذب بالقرآن أو بنصوص القرآن في الأسماء والصفات لا يكون مسلماً، والذين وقعوا في هذا الابتداع في تاريخ الإسلام من المعتزلة ونحوهم، الأصل فيهم أنهم لا يقولون بالتكذيب، وإن كانوا يعطلون الأسماء والصفات بما يسمونه تأويلاً، والمصنف يسميه في بعض كتبه -كالواسطية- تحريفاً. [أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك]. سب الصحابة رضي الله عنهم مخالف للعقل فضلاً عن الشرع؛ لأن الصحابة هم الجمع الذين رووا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحتى القرآن؛ فإن الله تكفل بحفظه، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وبقي في صدورهم رضي الله عنهم مما سمعوه من نبيهم حتى جمع القرآن في عهد أبي بكر، ثم انضبط ورتب شأنه في خلافة عثمان. فمن يتكلم في الصحابة فإنه يخالف هذه المقاصد في ضبط مادة الإسلام الأولى؛ ولذلك يقول الله سبحانه في كتابه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فلما ذكر السابقين الأولين سماهم بأسمائم: المهاجرين، والأنصار، أما من بعدهم فقال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ولم يقل: من بعدهم، فعلم أن الصحابة رضي الله عنهم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وهم على الحق، وبقوا على الحق؛ لأنهم لو كانوا قد انقلبوا بعده للزم أن يكون متبعاً لهم فيما بعد قد اتبع ضلالة، وهذا مما نفاه القرآن، فلما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، علم أنهم باقون على أصول العلم والحق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يجوز قصر السابقين على آل البيت وبعض أئمة آل البيت؛ لأن الآية ذكرت المهاجرين، والمهاجرون يشمل كل من هاجر إلى المدينة، وآل البيت يدخلون في المهاجرين لأنهم من قريش، ولا شك أنه من هدي السنة والجماعة محبة الصحابة ومحبة آل البيت، لما لهم من الاختصاص بقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: (والذين نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي). لكن الأنصار هم بيت آخر لا يدخلون في مسمى آل البيت، ومع ذلك جاء النص القرآني بذكر رضا الله سبحانه وتعالى عنهم.

ذكر شيخ الإسلام لما في أتباع عدي بن مسافر من صلاح ودين وجهاد

ذكر شيخ الإسلام لما في أتباع عدي بن مسافر من صلاح ودين وجهاد قال المصنف رحمه الله: [فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين]. إذا كتب الكاتب أو تكلم المتكلم، ولو في قوم عندهم بدع، لكن في علمه وفقهه أنهم دون غيرهم من أهل البدع، فينبغي أن يميز ما هم عليه من الخير وانفكاكهم عن البدع المغلظة؛ فإن من أهم المقاصد في فقه الدعوة أن لا يزيد هؤلاء القوم عن هذه البدعة إلى بدعة أشد منها، بل يقصرون عن التمام في البدع، ويردون عما هم عليه من البدع إلى السنة. إما إذا كتب الإنسان كتاباً فيه الذم والسب والطعن والتهجم، ومع ذلك يطالبهم بأن يرجعوا إلى الحق، فإن النفوس أحياناً لا تقوى على ذلك، وهذا إذا عرض هذا في بعض الصور من بعض الأئمة فلكونه وصل إلى اجتهاده رأى أن الحكمة تقتضيه: وقد يقول قائل: هذا هو منهج السلف. فنقول: هذا له مثالات، لكن فرق بين أن يكون له مثالات عند السلف وبين كونه هو المنهج الوحيد عند السلف، فإنه لا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو المنهج المستعمل -أعني طريقة الذم والطعن والتبرؤ-. فمثلاً: في رد الدارمي على بشر بن غياث، نجد أن كلام الدارمي رحمه الله كلام علمي منظم، فيه رد وإبطال لشبه بشر ودعواه، لكن مع ذلك قد اشتد عليه في الكلام والذم، فهذا المنهج لا نقول: إنه لا يستعمل أبداً، بل إذا وجد المقتضي عند من هو من أهل العلم أن يصل إلى هذا الأسلوب مع معين؛ لأنه رأى عليه مكابرة أو معاندة أو ما إلى ذلك، فهذا مقام يقتضيه مقامه، لكن أن يكون هذا هو الشأن العام لمن ضل متأولاً أو جاهلاً، أو من ضل في بدعة وهي من بدع الأقوال، أو من كان في بدعة فوق ذلك لا تصل إلى حد البدع المغلظة، فإن هذا ليس منهجاً مطرداً. والله سبحانه قد أوضح هذا المنهج في كتابه الكريم، حيث بين أن مجادلة من كفر بالرسالة لا تكون إلا بالتي هي أحسن، فقال عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وعندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وهذا حسن تأتي، لكنه عليه الصلاة والسلام -وحاشاه عن ذلك- ما نقص الحقيقة، فقال: (أسلم تسلم)، أي: إذا لم تسلِم فلن تسلَم، هذا هو مفهوم الكلام: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، وهذا من الترغيب؛ لأن في سنته -كما في حديث أبي موسى وابن عمر وغيرهما-: (ثلاثة يعطون أجرهم مرتين)، وذكر عليه الصلاة والسلام منهم: (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم -أي: محمداً عليه الصلاة والسلام- فآمن به واتبعه، فله أجران). ثم يقول له: (وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) قيل: إنهم عوام النصارى، وقيل غير ذلك، ثم قرأ الآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]. فهذا كان ضبطاً لحقائق التوحيد، ولا يوجد أي إنقاص له في خطابه عليه الصلاة والسلام، لكن كان حسن التأتي؛ ولذلك يقول أنس كما في الصحيح: (كتب رسول الله إلى كل جبار يدعوهم إلى الله)، ولما قيل له عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليهم، قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أبعث لعاناً). فالمؤمن لا يليق به -وخاصة طالب العلم- السب والذم لخلق الله، حتى لو كانوا مخالفين له في بعض المسائل، فإن المخالف يقرب إلى الحق، وإذا اقتضى المقام شدة -ولا أقول: لعناً، فإن عامة السلف لا يرون استعمال اللعن في الأعيان من المسلمين- أو تصريحاً بمقام، أو ذكراً لاسم شرعي؛ فإن هذا فقه يذكره من يذكره من أعيان السلف كأحوال، لكنها ليست هي وحدها المستعملة في فقهه. وللإمام أحمد رضي الله تعالى عنه كلمات لبعض المخالفين فيها قوة، وله بعض الكلمات فيها من حسن التأتي والترفق، فهذا فقه شرعي. وعلى طالب العلم أن يبحث عنه في آثار بعض أهل العلم، ومع أن هذا بحث جيد، لكن أجل من البحث في آثار بعض أهل العلم أن يبحث في القرآن، فإن فيه سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقصصهم في منهج فقه الدعوة، والدعوة إلى الحق، وتصحيح الأخطاء وما إلى ذلك. هذا هو المقصود من قصص الأنبياء، وليس المقصود ذكر النظام التاريخي الموجود في بعض الحضارات، وأن نعرف ما هو اسم فلان وما هو اسم فلان؛ حتى إنه في كثير من قصص الأنبياء لا يذكر الاسم، ففي قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]، فلم يذكر الاسم، ولم يعرف الرجل؛ لأنه لا يهم الاسم؛ فإن الاسم -أي اسم كان- لا يقدم ولا يؤخر، وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام يقول الله سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65]، ففي سياق القرآن لم يصرح بالاسم، لكن جاء النبي عليه الصلاة والسلام بمقام الخبر وما عنده من الاختصاص وصرح عليه الصلاة والسلام باسم الخضر، وإتيان موسى إليه، والسبب هو أن موسى قام في بني إسرائيل، فقام رجل فقال: يا موسى! هل أحد أعلم منك؟ فقال: لا. ولم يكن عليه الصلاة والسلام -يعني: موسى- نبياً خاتماً عاماً للثقلين الإنس والجن، فعتب الله عليه كما في حديث ابن عباس في الصحيح قال: (فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه)، ثم بين الله سبحانه صفة هذا الرجل فقال: (فَوَجَدَا) أي: موسى وفتاه {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، أي: جمع له مقام العلم مع الرحمة، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: "علم بلا رحمة لا ينفع"، فهو استطالة على خلق الله، ويقول: "رحمة بلا علم لا تنفع". ونلاحظ في هذا العصر أن البعض عنده شيء من العلم، لكن عنده قسوة على الناس، ولو خلي بينه وبين بعض الناس لفعل الأفاعيل، وهذا ليس هدياً ولا منهجاً حتى لأئمة السلف مع أهل البدع؛ ونجد مثل ذلك في موقف الإمام أحمد رحمه الله من المعتزلة؛ فإنه قبل أن يأتي المأمون وتبدأ فتنة خلق القرآن، كان يذم القول بخلق القرآن، ويحذر من أهله، لكنه ملجم لنفسه بلجام الشريعة ولجام العدل، لكن لما تسلط المعتزلة وبعض قضاتهم في زمن المأمون العباسي وأفتى بعض قضاة المعتزلة بقتل الأئمة، ثم رجع الأمر وتحسنت الحال زمن المتوكل العباسي، لم يقل الإمام أحمد رحمه الله: هذه بهذه، وأصدر فتوى بقتل فلان وفلان أو ملاحقة فلان وفلان. وهذا فقه شريف، ولا شك أن منهج السلف هو المنهج الذي يجب أن نكون عليه، لكن ينبغي أن نكون فقهاء فيه، وهذا المذهب ليس أكثر من الكتاب والسنة؛ لأن مذهبهم محصل من الكتاب والسنة، فليتفقه الطالب في كلام الله قبل كل شيء، ثم فيما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما كتب الحديث المشهورة كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك رحمهم الله. [وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين]. وهذا ثناء عليهم بما هم عليه من الخير، وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، فهو فعلاً عظيم الروم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد في الأمر أو أعطى الرجل ما ليس له، بل هذا اعتراف بالشيء الواقع. كذلك المؤلف هنا يعترف بما لهم من الخير، ولا بد للإنسان أن يعترف؛ فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الناس قال سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذا عام حتى في الكفار؛ ولذلك لما قصد أهل الإيمان والإرادة الصادقة قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. ومن عدل الله سبحانه أنه لا يظلم الكافر؛ فإن الكافر إذا فعل حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه بها، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما الكافر فيعطى بحسناته ما عمل به لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).

استخدام شيخ الإسلام لبعض مصطلحات الصوفية في رسالته الموجهة إلى أتباع عدي بن مسافر

استخدام شيخ الإسلام لبعض مصطلحات الصوفية في رسالته الموجهة إلى أتباع عدي بن مسافر قال المصنف رحمه الله: [وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية، والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات]. من فقه شيخ الإسلام أنه استعمل معهم المصطلحات التي تستعملها المتصوفة، مثل: المكاشفات والتصرفات، مع أن هذه مصطلحات مولدة لم توجد في الكتاب والسنة، ومع ذلك يقول: لهم مكاشفات، أي: مكاشفات صالحة، وتصرفات صالحة، والمقصود بالكشف: هو انكشاف بعض المعنى أو بعض المفهوم وبعض الحال، وهذا منه أوجه غالية ومنه أوجه مقتصدة. فالمصنف مع فقهه بمذهب السلف تجوز في التعبير في المخاطبة، فاستعمل معهم الألفاظ التي لم تكن معروفة عند أئمة السلف لوجه أخص. [وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشايخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري، وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم]. مصطلح العارف من المصطلحات الشائعة، وهو من وصل إلى درجة المعرفة والقدوة، فصار قدوة يقتدى به، وليس الإشكال في التصوف أن صاحبه يسمى عارفاً أو يسمى قدوة؛ فإن هذه أمور فيها كثير من التجوز إذا اقتضت مصلحة المراجعة إلى ذكرها، ولذلك نجد أن المصنف يستعمل مثل هذه التعبيرات. [والشيخ عدي -قدس الله روحه- كان من أفاضل عباد الله الصالحين، وأكابر المشايخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك]. مسائل السلوك ولدخول كثير من العوارض في وقت مبكر من التاريخ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في التعليق على بعض المسائل، وهي مسألة تأثير الإرادة في أفعال العباد، قال كلمة أحياناً قد تقال في مقامات أخرى، قال: "هذا المقام مقام وأي مقام، ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام، وقد خاض فيه خلق من البصراء والفاحصين والمكاشفين، فعامته فهموا صحيحاً، وقل منهم من عبر فصيحاً"، هذا لا يلزم أن يطرد في كل المسائل. لكن هناك مسائل أن القاصدين إليها قصدوا حقاً، وربما أنهم فهموا وجهاً من الحق لكن عبروا عنه بحروف محدثة، فهذا نمط إن صح اللفظ. ومنهم من قد يكونون لم يفهموا صحيحاً، بل فهموا باطلاً وعبروا باطلاً، وهذا نمط آخر. لكن أحياناً بعض التعبيرات هي التي تفسد بعض المعاني، ومثال ذلك: الهروي رحمه الله، فإنه في بعض كلامه لو استعمل كلمات مأثورة في تعريفه لبعض المقامات والكلام وابتعد عن بعض المصطلحات المولدة؛ لكان كلامه من أجود الكلام وأنفعه، وأيضاً أبو حامد الغزالي في كلامه أحياناً يتكلم بلغة مقاربة، ويقصد بذلك مخاطبة العامة من المسلمين، فيكون كلامه إذا تكلم للعامة من أجود الكلام وأنفعه؛ ولذلك يعتبر إماماً في السلوك، أي: من حيث وصوله إلى بعض المعاني الصحيحة، وإن كان قد زل في مقامات في مسائل السلوك إلى أوجه مستغربة، بل أوجه منكرة كما سبق التنبيه عليه. [وله في الأمة صيت مشهور، ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما]. عدي بن مسافر -كما أشار ابن تيمية في مواضع- قد لخص عقيدته من عقيدة الشيخ أبي الفرج الأنصاري.

انتساب كثير من الصوفية إلى السنة والجماعة مع وجود بعض البدع فيهم

انتساب كثير من الصوفية إلى السنة والجماعة مع وجود بعض البدع فيهم قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد مع ما يعرفه أهل البصيرة]. كثير من الصوفية يكونون على قصد السنة والجماعة والعناية ببعض أصولها الكبار، لكنهم لا ينفكون عن بعض البدع والطرق المحدثة في الإسلام، أو الجهل في الصحيح والضعيف من الحديث واستعمال بعض الموضوع فيما يقررونه ويستقبلونه، وهذا نوع من التصوف، أو نوع من الحال الذي صار لكثير من الصوفية الذين ينتسبون للسنة والجماعة. [وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما]. كثر في المتأخرين مثل هذا، ولذلك من أراد أن يحاسب الناس محاسبة دقيقة فإذا رأى من زل في كلمة أراد أن يجافيه أو يجافي ذكره، أو ينفيه عن السنة والجماعة نفياً مطلقاً، فإن هذا لا يسعه مع أحد؛ لأن المتأخرين من الفقهاء والنظار وأصحاب السلوك كثر فيهم مثل ذلك، أي: دخلت عليهم بدع. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "شعار أهل البدع المغلظة ترك الانتساب للسنة والجماعة وسبيل السلف". أما من انتسب للسنة والجماعة وسبيل السلف فهذا يكون فيه قرب، وفيه موافقة في كثير من الأصول، وإن كان قد يخطئ فيما هو من الأصول أو ما هو دون ذلك، إما في العلم والنظر، وإما في العمل والسلوك والأحوال، فيوزن كل أحد بقدره. فقد تعرض أحياناً بعض البدع اللفظية، أو بعض البدع الفعلية، حتى إن شيخ الإسلام يقول: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة"، ثم بين أنهم لم يعرفوا أن هذا القول أو الفعل بدعة، ويكون هذا في مسائل ليست من مسائل الأصول، ولا يكون حال أولئك أنهم في جمهور أمرهم على البدعة، بل يكونون من أصحاب السنة في الأصول والعلم والعمل، لكن حدثت لهم بعض الكلمات أو بعض الأقوال التي اخطئوا السنة فيها. ولذلك لما ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام مسألة الإيمان في كتاب الإيمان، قال رحمه الله: "إن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر -يعني: في مسمى الإيمان- يقول: أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر على فرقتين"، ثم ذكر الفرقة الأولى وهي قول عامة السلف، وهو إجماع متقدم قبل ظهور بدعة حماد بن أبي سليمان، وهو أن الإيمان قول وعمل، ثم ذكر قول حماد، وإن كان لم يسمِّه. والشاهد: أنه سماهم: من أهل العلم والعناية بالدين، ثم أجاب عن قولهم، ولما انتهى من الجواب عن قولهم وأدلتهم، وأراد أن يذكر قول الجهمية والغالية من المرجئة قال في ختم الكلام: "وهؤلاء وإن خالفونا -يعني: مرجئة الفقهاء- إلا أنهم وقعوا في قول يقع الغلط في مثله"، ثم ذكر القول الذي هو -كما يصفه- ليس من قول أهل الملل، ويعني به قول الغالية من المرجئة. [مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق، فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]]. لذلك كلما اختصر مقصود الإسلام أمام العامة فهذا هو الأحسن والأفضل، ولا يطول بأسماء طائفية أو أسماء سطحية أو ما إلى ذلك، بل يقال: إن الإسلام هو ما بعث الله به رسوله، ويدعى إلى دين الإسلام، وإلى نصوص الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين، وما أجمع عليه الأئمة المهديون، كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين المقتدى بهم، دون الخصائص التي قد تعرف في بيئة ولا تعرف في بيئة أخرى، أو تعرف في مصر ولا تعرف في مصر آخر، وما إلى ذلك. وهذا من فقه التجديد في الدعوة إلى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وهو أن الهدي يربط بصاحب الهدي، والوسطية ليست مكتسبة بأعيان، إنما هي مكتسبة عند من يضاف إليها بقيامه بالسنة والهدي الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.

السنة التي يجب اتباعها وذم مخالفها

السنة التي يجب اتباعها وذم مخالفها قال المصنف رحمه الله: [وأنتم تعلمون -أصلحكم الله- أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان]. من فقه المصنف أنه إذا خاطب أصحاب السلوك أو أصحاب التصوف أكد مسألة العناية بمعرفة السنة الصحيحة من غيرها؛ لأن هذا الاختلاط دخل على كثير من أرباب السلوك، وعنه -أي: هذا الاختلاط- وقعت كثير من البدع والتصورات في الإسلام عند كثير من العامة من المسلمين. [وذلك في دواوين الإسلام المعروفة]. ذكر هنا دواوين الإسلام، وابتدأ بذكر البخاري ومسلم وكتب السنن، ثم ذكر بعد ذلك بعض المصنفات، وليس بالضرورة أن نقرأ الأسماء، لكنه بعد أن ذكر كتب البيهقي وبعض كتب المتأخرين عن طبقة الأئمة المتقدمين قال: [وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة]. وهذا شأن يعرفه أصحاب الاختصاص بالحديث. [وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات، وعامة أبواب الدين أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم]. انتشر في بعض كتب الصوفية بعض الأحاديث الموضوعة، كقولهم بأن الله ينزل إلى الأرض، مع أن الحديث الصحيح: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ربه مشاهدة مبصراً له في حياته، وما إلى ذلك من الروايات التي لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث، ولا سيما إذا اعتبرت هذه الروايات كنوع مفاصل في تقريب مسائل السلوك والتعبد ونحو ذلك. [وهي قسمان: منها ما يكون كلامًا باطلاً لا يجوز أن يقال، فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم]. هذا هو المنكر من الموضوعات المخالفة لأصول الإسلام، والقسم الثاني -وهذا مهم لطالب العلم أن يفقهه- قال: [والثاني: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا. أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله]. هذه في الحقيقة ينبغي لطالب العلم أن يكون فقيهاً فيها، وهي أن أصول المنهج الشرعي في العلم والعمل والدعوة وما إلى ذلك تتلقى عن محكم نصوص الكتاب والسنة، والهدي المطرد الذي كان عليه السلف أهل القرون الثلاثة الفاضلة. أما الكلمات أو المثالات المختصة ببعض السلف فهذا فقه له قدره وله شأنه، لكن يجب أن يجمع مع نظيره الذي قد يكون بوجه ما يخالفه في الحال، فقد يكون هذا السياق فيه من الخفض، وهذا فيه من الرفع. وبعض طلبة العلم -أحياناً- لا يفقه في نصوص الكتاب والسنة، ومنهج التعامل مع المخالف شيئاً، وقد سأل أحد الطلبة هذا السؤال فقال: هل نناظر أهل البدع؟ فقيل: نعم. إذا كان المناظر أهلاً والمصلحة الشرعية تقتضي ذلك. قال: لكن هذا يشكل عليه أنه خلاف مذهب السلف. فقيل له: كيف خلاف مذهب السلف؟ قال: لأن فلاناً سئل: أنتكلم مع أهل البدع؟ قال: لا، قيل: ولا كلمة؟ قال: ولا كلمة. فهنا الإشكال ليس من كلام هذا الإمام؛ لأنه جواب في حال معينة، لذا قد تجد عالماً اليوم قد يُسأل: أنتكلم مع أهل البدع؟ فيقول: اعرضوا عنه؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، فهذا فقه يناسب مقامه، لكن أن يفترض أن هذا هو المنهج المطرد، وهو أن السني لا يكلم البدعي، لا على سبيل الدعوة ولا على سبيل النصح ولا على سبيل التوجيه، فليس بصحيح. والذي نقصده أن كلمات أئمة السلف رحمهم الله هي فقه واجتهاد، تجمع مع غيرها من كلامهم وكلام نظرائهم حتى يكون المنهج منهجاً منضبطا مطرداً على أصول الحكمة التي كان عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة من ضلوا سواء السبيل من أجناس الكفار، فضلاً عن المبتدعة المخالفين في شيء من مسائل وأصول الإسلام.

التفريق بين السني والبدعي

التفريق بين السني والبدعي قال المصنف رحمه الله: [وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة]. التفريق بين السني والبدعي يكون بالأصول المحكمة التي انضبط فيها الإجماع، كإثبات صفات الله سبحانه وتعالى، وأنه منزه عن التعطيل والتشبيه والتمثيل، وإثبات أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، وإثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وأنه قضى مقادير الخلق وخلق أفعال العباد، وكتب مقاديرهم، وهو بكل شيء عليم، وإثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وعذاب القبر ونعيمه، وإثبات عدالة الصحابة. هذه هي الأصول التي تميز السني من البدعي، أما بعض الاجتهادات الخاصة التي عرضت، فإن هذا فقه يختلف. ولتتضح الصورة نذكر قصة الإمام أحمد بن حنبل مع داود بن علي الأصبهاني صاحب المذهب الظاهري، وهو من كبار الأئمة فقهاً وعلماً؛ فإنه لما ذهب إلى خراسان سألوه: هل القرآن محدث؟ فقال: محدث -هكذا تقول الرواية- لأنه وجد أنه في سياق القرآن: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2]. وكان الإمام أحمد رحمه الله ينهى عن هذه الكلمة، فلما جاء داود بن علي قال ابن الإمام أحمد لأبيه: هذا رجل من أهل أصبهان يستأذن عليك، قال: من هو؟ -وكان بين داود وبين ابن الإمام أحمد تلاطف- قال: داود، قال: ابن من؟ قال: ابن علي، قال: لا يدخل؛ إنه بلغني عنه أنه قال كذا وكذا. فهذا مثال يصدق فقهه فيما يناسب حال الإمام أحمد، وهو اجتهاد وصل إليه. وفي هذا العصر كان للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بعض الاجتهاد مع بعض الناس، فلا يلزم بالضرورة أن يكون هذا منهجاً مطرداً لسائر الطلبة وسائر الناس. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في آخر غزوة، وهي غزوة تبوك، والتي نزل القرآن مفصلاً في شأنها، وقد تخلف من تخلف من الصحابة عنها، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر المنافقين الذي تخلفوا عن الغزوة، لكنه هجر بعضاً من أصحابه، حتى نزل القرآن بتوبتهم، وأثنى عليهم. ولما روجع النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، فكذلك يجب أن نقول اليوم: لا يتحدث الناس أن أهل السنة يبغي بعضهم على بعض، ويشتت بعضهم بعضاً، ويكذّب بعضهم بعضاً، ويرمي بعضهم بعضاً بالضلال والبدعة وما إلى ذلك في أمور قد يكون بعضها يحتاج إلى مراجعة، وقد يكون بعضها من يسير الاجتهاد. [وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة]. بعض المتأخرين أصحاب السنة لما حرصوا على تمييز السني من البدعي ذكروا بعض التفاصيل التي يضيق كثير من عامة أهل السنة بل وبعض خاصتهم أن يدركوها؛ لأنها ليست من مسائل الأصول، وإن كان العلم بها علماً فاضلا، ً وفرق بين قولك: إن العلم بها علم فاضل، وبين قولك: إنها من الأصول التي من لم يتقلدها ويعلمها ويصرح بذكرها يكون خارجاً عن السنة والجماعة. إذاً: الأصول التي تميز هي الأصول المحكمة في صريح القرآن ومتواتر السنة، وإجماع الصدر الأول، القرون الثلاثة الفاضلة. أما بعض التفاصيل فهذه يقع فيها الوهم أحياناً، ويقع فيها الغلط، ويقع فيها التأخر، سواء كانت في مسائل علمية أو عملية، ولا بأس أن يسمى هذا الوهم غلطاً أو خطأً، بل لا بأس أن يسمى بدعة، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه خارجاً عن السنة والجماعة خروجاً مطلقاً؛ فإن الأئمة رحمهم الله لما قال حماد بن أبي سليمان مقالته لم يجعلوه من أهل البدع المطلقة، يقول الإمام ابن تيمية: "لم يكن الأئمة من أهل الكوفة وغيرهم يترددون أن هذا القول بدعة، ولكن مع ذلك لم يجعلوا حماداً وأمثاله من الكوفيين من أهل البدع المطلقة، فضلاً عن المغلظة، أي من الخارجين عن السنة والجماعة مطلقاً". فالمقاربة فيها عقل، وفيها حكمة، وفيها قصد إلى تحقيق الشريعة؛ لأن الله أمر بأصلين، قال سبحانه: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] وقال معه: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فكما أن طالب العلم يعنى بضبط السنة، أيضاً من تحقيق السنة وهدي السلف العناية بالاجتماع على الحق، وأن لا يتفرق الناس شيعاً مع أنهم على أصول من الحق واحدة، وإنما اختلفوا في أمر يحتمل الخلاف فيه، أو قد يقع الغلط في مثله. وهذا الاختلاف إما في أمر يحتمل الخلاف، وهو الاجتهاد المأذون فيه، أو في أمر قد لا يكون مأذوناً بالاجتهاد فيه، لكنه نوع من ضيق المسائل الذي -كما قال أبو عبيد - قد يقع الغلط في مثله، وإذا كان أبو عبيد قد قال هذا عن مرجئة الفقهاء، مع أن قولهم كان مخالفاً لظواهر النصوص البينة، فكيف هو دون ذلك من تفاصيل المسائل التي تخفى على كثير من أهل العلم، فضلاً عن العامة. فهذه المسائل التي يقع الغلط في مثلها، فضلاً عن المسائل التي تقبل الاجتهاد، لا ينبغي أن تكون مفرقة بين المسلمين، فضلاً عن أن تكون مفرقة بين أهل السنة بعضهم مع بعض، وإنما في الأصول المحكمة وهي الأصول التي انضبطت إجماعاً بيناً مستقراً شائعاً عند الصحابة والأئمة. [فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا]. هذا أصل، وهذا فقه عظيم لهدي الإسلام عموماً، ولمن يدعي السنة خصوصاً.

شرح الوصية الكبرى [5]

شرح الوصية الكبرى [5] الوسطية الشرعية هي المنهج الحق الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام، وجعل هذه الأمة أخص الأمم في تحقيق هذه الوسطية، وأهل السنة والجماعة هم أهل الوسطية في هذه الأمة، أما من خالفهم فإنهم انحرفوا عن الوسطية إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط، ومنهم الصوفية، الذين خرجوا عنها لموجبات عرضت لهم، ظنوها حقاً وهي بخلاف ذلك.

الوسطية الشرعية

الوسطية الشرعية تقدم أن أول مسألة من مسائل أصول الدين ظهر فيها الخلاف هي: مسألة العمل، وقد طرأ الخلاف في مسألة العمل في ابتدائه من جهة رتبة العمل وحكمه، وقلنا: إن المخالفين في رتبة العمل وحكمه ابتدأ الأمر بالخوارج، ثم قاربتهم المعتزلة، ثم قابلتهم على جهة المقابلة المضادة طرق المرجئة، هذا من حيث الرتبة والحكم للعمل. أما من حيث الجهة الثانية وهي مفهوم العمل وتطبيقه، فهذه كانت بداية الغلط فيها في أثناء المائة الثانية من الهجرة ببعض الأغلاط التي سبقت الإشارة إليها، أي: لم تكن على عصر النبوة وإن كان الجمهور من الفقهاء قد يعذرون في كثير منها أو أكثرها. ثم تميز هذا المنهج في مفهوم العمل وتطبيقه بظهور اسم الصوفية بطرقها الخاصة، وظهرت أوجه التصوف على ثلاث درجات: الاختصاص بالاسم والشيء من العمل الذي لا أصل له، ثم الدرجة التي بعدها التصوف المنظم بمصطلحاته المعروفة التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة في الإسلام، ومصطلحات رمزية، هذا نسميه: التصوف المنظم بمصطلحات رمزية مولدة، كمصطلح الكشف، والوجد والسكر والصحو والفناء، وأمثال ذلك. ثم تغلظ التصوف بأثر الفلسفة وظهور التصوف الفلسفي المباعد للحقائق الشرعية التي كان عليها أئمة السلوك والعبادة في أول الأمر. وقد تكلمنا عن هذا الأمر كمقدمة، ثم بعد ذلك تحدث شيخ الإسلام عن الوسطية الشرعية، والوسطية الشرعية هي المنهج الحق الذي بعث الله به الأنبياء، وجعل هذه الأمة هي أخص الأمم في تحقيق هذه الوسطية، وقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ليس معناه أن الأنبياء الآخرين لم يبعثوا بالوسطية، وإنما معناه: أن أتباع هذا النبي هم أخص الأمم لتحقيقها، ولذلك قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. ومن جهة الآية يعلم أنه لا يجوز أن يقوم بالشهادة على الناس إلا من حقق منهج الوسطية الشرعية، أما من لم يكن وسطاً بل كان إما صاحب خفض وإنقاص للحقائق الشرعية، وإما صاحب رفع وغلو، فإن هذا لا يجوز أن يكون شاهداً على أحد من المسلمين، لا من أهل الصواب ولا من أهل الخطأ؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وكان أئمة السنة المحققون أنصف لمخالفيهم من المخالفين أنفسهم بعضهم مع بعض. وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض طوائف الشيعة نصوا -في بعض كلامهم- على إنصاف أهل السنة لهم أكثر من إنصاف بعضهم لبعض. ومن أمثلة ذلك: مسألة التكفير في كلام أئمة السنة المحققين، فإنهم أعدل بل لا يوجد من الطوائف من اعتدل في هذه المسألة كاعتدال الأئمة.

الخروج عن الوسطية الشرعية

الخروج عن الوسطية الشرعية إن الخروج عن الوسطية ليس الذي يبتلى به هم فقط أهل البدع الخارجون عن السنة والجماعة، بل إن بعض المتأخرين من أصحاب السنة والجماعة قد يعرض لهم أوجه إما من الخفض وإما من الرفع في مقامات من مقامات العلم، أو من مقامات الحكم على المخالف، حيث يكون هذا الحكم خارجاً عن الوسطية الشرعية التي كان عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. ومن الأمثلة على ذلك: إذا جئت إلى مسألة أحكام المخالفين من أهل القبلة، قد تجد في كلام بعض المتأخرين من الزيادة ما ليس مذكوراً في طرق الأئمة المتقدمين، فضلاً عن النصوص الشرعية: نصوص الكتاب والسنة. ومن مثال ذلك: ما يقع في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب المنازل؛ فإن له عناية بالانتصار لمذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وكلامه في الأسماء والصفات حسن في الجملة، لكنه اشتد على المخالفين في هذه المسائل ونحوها؛ حتى إنه لما تكلم عن أبي الحسن الأشعري وصفه بأوصاف مغلظة، فقد ذكر في كتابه (ذم الكلام) أن أبا الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ، وأنه مات متحيراً، ووصف هذا الطائفة بنوع من الزندقة وما إلى ذلك. ولا شك أن هذا تجاوز للعدل وتجاوز للقسطاس المستقيم الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولذلك تجد في حكم المحققين كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أصحاب أبي الحسن ما هو من العدل في تحقيق السنة وضبطها، مع بيان ما هم عليه من الصواب في مسائل، وما هم عليه من الغلط والبدعة في مسائل أخرى. قال شيخ الإسلام عن كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره: "وأما من قال منهم -أي: الأشاعرة- بما في كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة". وليس المقصود هنا الكلام عن اسم أو طائفة معينة، وإنما المقصود أن نعلم أنه قد يعرض لبعض الفضلاء المنتسبين للسنة والجماعة أو من هم من أصحابها بعض الخفض والإنقاص، أو بعض الرفع والزيادة، فالحكم على المخالف يعتبر بأصول الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين والأئمة المتقدمين. وفي هذا العصر أصبحت كلمة الوسطية فيها نوع من الاقتباس لمناهج لا تحكي وسطية شرعية، فنجد أنه ربما حمل اسم الوسطية على نوع من المجاملات، أو الخفض في تقرير مسائل الشريعة، وإسقاط حقائق الأصول، وإسقاط قدرها، والتهوين من شأن البدع وما إلى ذلك تحت اسم الوسطية في المنهج، وبالمقابل قد يوجد ما يقابل ذلك. فالوسطية الشرعية هي المنهج الشرعي الذي يجب على طالب العلم أن يعتبره. وقد تقدم أن الوسطية تعتبر بثلاثة أصول: الأصل الأول: اعتبار العلم بالنص الذي هو الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي الجامعة لعلم المسلمين وعقيدتهم. الأصل الثاني: اعتبار فقه النصوص بالقواعد التي مضت بها الشريعة، والمقاصد التي بعث الله بها الأنبياء، وإننا نتكلم عن علم وعن فقه، أما العلم فهو العلم بالدليل: الكتاب والسنة والإجماع، وأما فقه الدليل فهو اعتبار هذا الفقه بقواعد الشريعة ومقاصدها. الأصل الثالث: التفريق بين الأصول والفروع، وبين المحكم والمتشابه، وقد تقدم الكلام عن مفهوم الأصول والفروع وما قيل في ذلك. هذه هي الوسطية التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وإذا تكلمنا عن المنهج المخالف له في مسألة السلوك، فهو ما طرأ في طبقات الصوفية الثلاث: الأولى: طبقة المقتصدين من الصوفية. الثانية: طبقة من فوق ذلك. الثالثة: طبقة الغلاة من الصوفية.

موجبات الخروج عن الوسطية الشرعية عند الصوفية

موجبات الخروج عن الوسطية الشرعية عند الصوفية الخروج عن الوسطية الشرعية بأصولها الثلاثة يكون القول فيه على وجهين: الوجه الأول: يتعلق بالخاصة. الوجه الثاني: يتعلق بالعامة. فإن الناس إما خاصة وإما عامة، وهذا الاصطلاح ليس اصطلاحاً بدعياً، بل هو اصطلاح مستعمل في حقائق الكلام وكلام العرب، وقد استعمله بعض الأئمة المعتبرين كالإمام الشافعي؛ فإنه يوجد في كلامه في الأم والرسالة ونحوها ذكر الخاصة والعامة. والمقصود بالخاصة: الخاصة من أهل العلم والإمامة في السلوك ونحو ذلك، والعامة: هم من عوام المسلمين الذين لا يصلون إلى هذه الرتبة من الفقه بأصول الشريعة أو الإمامة في وجه من أوجهها. فإذا جئنا للخاصة والعامة في الصوفية، وعرفنا أنهم طبقات مختلفة: فمنهم المقتصدون، وهم من يسميهم ابن تيمية بفضلاء الصوفية، ومقتصديهم ومقاربيهم للسنة والجماعة، أو يسميهم أصحاب السنة والحديث، أو جئنا إلى من فوقهم من المتأثرين بطرق المتكلمين ونحوها، أو جئنا للغلاة المتأثرين بأوجه الفلسفة، فإن الخاصة موجب خروجهم عن الوسطية أمور، وسنذكر هنا أمراً واحداً بالتفصيل؛ لأن المصنف أشار إليه في هذه الرسالة، وهو الاجتهاد المخالف للشريعة، هذا هو الموجب للخروج عن أصول الوسطية الثلاثة في حق الخاصة، وهو أخص الموجبات، ولا نقول: هو الموجب الفرد. أما إذا جئنا للعامة فإن أخص موجبات الخروج عن الوسطية في حقهم هو التعصب، وسيأتي بيانه لاحقاً. أما أصول الوسطية الثلاثة فقد يكون الخروج عنها خروجاً مقتصداً في حق مقتصدة الصوفية الذين يسميهم ابن تيمية: فضلاء الصوفية. وقد يكون الخروج عن الوسطية الشرعية بأصولها الثلاثة فوق هذا، وهذا يكون في حق من هم فوق هذه الدرجة، وقد يكون الخروج عن هذه الوسطية خروجا غالياً، وهذا يكون في حق الغلاة ولعله بهذه الطريقة قد انتظم رسم المنهج.

الاجتهاد المخالف للشريعة

الاجتهاد المخالف للشريعة إذا تكلمنا عن الاجتهاد فقد يكون من المستغرب الكلام عن مصطلح الاجتهاد في مسائل السلوك؛ لأن المألوف أن مسألة الاجتهاد مسألة من مسائل أصول الفقه، فإن جمهور كتب الأصوليين تكلمت عن مسألة الاجتهاد، وعن الشروط التي يجب أن تتوافر في المجتهد: من علمه بالحلال والحرام، والناسخ والمنسوخ، واللغة وما إلى ذلك، وهذا الذي يذكرونه في الجملة يقصدون به المجتهد في فقه فروع الشريعة. ولكن هذه الكلمة -أعني: كلمة الاجتهاد- كلمة عامة لا تختص بمسائل الفقه المتعلق بالعبادات أو بالمعاملات، بل هذا التضييق لهذه الكلمة ليس حكيماً، ويمكن أن يقال: إن الاجتهاد ينقسم إلى: اجتهاد شرعي، واجتهاد مخالفٍ للشريعة، وهذا التقسيم لا من جهة الشريعة، ولا من جهة اللغة، ولا من جهة الحقائق البشرية المجردة؛ لأن اجتهاد الإنسان قد يكون اجتهاداً مأذوناً فيه، وهذا حتى في التصرفات العادية البعيدة عن الشريعة، قد يجتهد الإنسان في عمل فيكون مخطئاً في تحركه بهذا الاجتهاد وقد لا يكون كذلك. فإذا قلنا: إن الاجتهاد ينقسم إلى قسمين: اجتهاد شرعي، واجتهاد مخالف للشريعة، فالسؤال: هل يلزم من الاجتهاد الشرعي أن يصل صاحبه إلى الصواب؟ الجواب: لا؛ فإن الاجتهاد الشرعي قد ينتج عنه في حق المجتهد صواب، وقد ينتج عنه في حق المجتهد غلط وخطأ، وهو في الحالين على وجه من الشريعة وقبولها، وهذا ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر). إذاً: الاجتهاد الشرعي قد يقع عنه صواب في حق المجتهد، وقد يقع عنه غلط، ولكن إذا جرى المجتهدون في مسألة من مسائل الشريعة باجتهاد شرعي، فإنه وإن غلط بعضهم إلا أنه يلزم حكمة وشرعاً أن بعضهم يصل إلى صواب، فلا يمكن أن سائر المجتهدين من الأئمة يضلون الصواب في المسألة؛ لأن الله سبحانه وتعالى مضى قدره أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة. أما الاجتهاد المخالف للشريعة فهو بحسب الأبواب، إذا تكلمت في باب العقائد والتصديقات فله كلام، وإذا تكلمت في باب الفقه وما يتعلق به فله كلام، وإذا تكلمت في باب السلوك -وهو الباب المقصود هنا- فله كلام. فأقول: إن الاجتهاد الذي ابتلي به الخاصة من الصوفية -وهو اجتهاد مخالف للشريعة- له ثلاث صور قد تكون هذه الصور متداخلة مع أبواب أخرى من أبواب الإسلام لا تختص بالسلوك، لكن في هذا الباب نقول: الاجتهاد له ثلاث صور، كل صورة تختلف بوجه ما، ونقول: بوجه ما لأن طبقات الصوفية -كما تقدم- قد تكون مقتصدة معتدلة، وقد تكون فوق ذلك، وقد تكون غالية.

الاجتهاد مع وجود النص

الاجتهاد مع وجود النص أما الصورة الأولى التي تختلف بوجه قد يكون مقتصداً وقد يكون فوق ذلك، وقد يكون غالياً مع الأصل الأول الذي هو بناء العلم على الدليل من الكتاب والسنة والإجماع، فهي هو ما نسميه: وجود الاجتهاد مع النص، أو استعمال كثير من الخاصة من الصوفية للاجتهاد مع النص، وهناك القاعدة الشرعية: أنه لا اجتهاد مع النص. وليس المقصود بذلك أنهم اجتهدوا في أوجه من العبادات أو العمل في السلوك والأحوال والمقامات تختلف مع النصوص خاصة؛ فإن هذا قد يكون وجهاً، لكن قد لا تطرد أمثلته المتقابلة. لكن عندنا قاعدة أضبط، وهي أن النصوص الشرعية مضت بأن العبادات توقيفية، وهذا يعتبر قضاء نص، وحكم نص، بل حكم نصوص منضبطة؛ فمن أوجد صورة من صور العمل والسلوك -سواء صورة قلبية نطبقها في الحالة القلبية، أو صورة الحركة والعمل- وليس فيها نص معين، فإن هذا حتى لو قصد بها القربة إلى الله، ورأى أن فيها صلاحاً لنفسه أو ما إلى ذلك، فما دام أنه استعمل هذه الصورة على جهة التعبد ولا يوجد فيها نص، فتسمى هذه الصورة إذا صدرت من الخاصة اجتهاد مع النص. حتى لو قال: إن هذه الصورة تقربه إلى الله، أو ما إلى ذلك، فإن هذا وحده ليس كافياً، بل لا بد أن تكون هذه القربة التي توصل العبد إلى ربه من الطرق والعبادات التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويشرعها لأمته. وعليه فهذا الوجه من الاجتهاد هو اجتهاد مع النص، وقد يكون هذا النص نصاً صريحاً منع من هذه العبادة ونهى عنها، كمن أراد أن يصوم فلا يفطر أو يقوم فلا يفتر، فنقول: إنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يمنع التعبد بهذا الوجه، كما في قصة النفر في حديث أنس وغيره. لكنّ هذا المقام يطرد أكثر؛ لأن العبادات المحدثة لم تحدث كلها في زمن النبوة حتى ينص النبي صلى الله عليه وسلم على منعها، بل إن القليل هو الذي حدث ونص النبي صلى الله عليه وسلم على منعه، وقد يحدث في القرن شيء لم يحدث في القرن السابق. فقد يقول قائل: ما الدليل على أن هذه الصورة من الذكر أو السجود أو القيام في زيارة القبر أو أي عمل من الأعمال، ما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على منعها؟ فنقول: الدليل أن النصوص قضت أن العبادة توقيفية، بل هذا من أخص أصول الإسلام، يقول الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13]، ويقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فإذا اعتبرنا هذه القاعدة فإن الفوات الذي دخل على كثير من خاصة الصوفية -حتى مقتصديهم وفضلائهم- إنما دخل عليهم من جهة أنهم اجتهدوا في عبادات من الذكر والصلاة والقيام والأحوال القلبية يجدون فيها تقريباً إلى الله -أي: تقريباً لنفوسهم إلى الله ومحبة وما إلى ذلك- ولم يلتفتوا إلى جهة أخرى مقصودة في الشريعة، بل هي من أخص أصولها، وهي المطابقة لصريح الهدي؛ فإن الأصل في العبادات التوقيف. وإذا تأملت أحوال الصوفية في سابق تاريخهم وفي حالهم اليوم، وجدت أن ثمة صوراً كثيرة من العبادات التي قد يكون التأخر إنما دخل عليها من جهة الزمان أو من جهة التخصيص في مكان، أو نحو ذلك من العوارض التي تمنع شرعية العبادة، وذلك مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معلوم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من أشرف القربات، بل قد تكلم أهل العلم في وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين أمراً فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. لكن طرق الصلاة والسلام على رسول الله هذه قد يدخلها بعض الصورة المتكلفة التي تعتبر محدثة في الإسلام. وقد يكون أصل العبادة مشروعاً ولكنه اتخذ صورة أو زماناً أو مكاناً من التخصيص ليس على تشريعه دليل، فهذا ما نسميه: الاجتهاد مع النص، وهذا كثير في الأفعال التي دخلت على الصوفية، أنهم اجتهدوا في عبادات هي من حيث الأصل قد تكون مشروعة، فالذكر أصله مشروع، فهو عبادة أثنى الله سبحانه وتعالى على من يقوم بها، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الماهيات يجب أن تكون مطابقة للشريعة. وهنا مسألة مهمة: وهي أن المطابقة للشريعة هي مطابقة فقهية، بمعنى: أن بعض الصور قد يختلف الفقهاء في جوازها أو في كونها مشروعة، وقد تقدم أن ثمة أمثلة تكلم فيها الفقهاء فإذا وصلت المسألة إلى انفكاك عن فقه الفقهاء المتقدمين، وعرف أن الفقهاء المتقدمين لا يرون تحصيل هذه الصورة من العمل من فقه الشريعة، فهذا هو الذي نستطيع أن نسميه: اجتهاداً مع النص. أما إذا كانت هذه الصورة من العمل جوزها بعض الفقهاء المتقدمين وفقهها من بعض النصوص، وإن خالفه من خالفه، ففرق بين فعلها والقيام بها، وبين إنكارها وتبليغها، فإن التبديع لا يصح إلا إذا انضبط أن هذه الصورة مخالفة لصريح السنة. أما إذا كان -مثلاً- مالك أو الشافعي أو الأوزاعي أو الثوري جوز فعلاً من الأفعال وفقهه من النصوص، وخالفه الجمهور في ذلك، فهذه المسألة لا تصل إلى درجة أن نسميه اجتهاداً مع النص، وإن كان بعض الناس ظهر له أن النص جاء بخلافها، فهذا أمر لا تناهي له. فالذي نقصده بالاجتهاد مع النص: هو تلك الصور من الفعل والعبادة والحركة التي ربما أصولها شرعية لكن تطبيقها الخاص لم يقر عند أحد من الفقهاء المتقدمين. وهذا يختلف مع الأصل الأول من أصول الوسطية، وهو إحكام العلم بالكتاب والسنة والإجماع، ونقول الإجماع؛ لأنه إذا لم يوجد إجماع بل وجد خلاف بين المتقدمين، فمن اختار وجهاً فلا نقول إنه اجتهد مع النص إذا رأينا أن اجتهاده ليس صواباً، بل هذا يدخل في الاجتهاد الشرعي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخطأ فله أجر).

الاجتهاد في فقه النص على غير قواعد الشريعة

الاجتهاد في فقه النص على غير قواعد الشريعة الصورة الثانية من صور الاجتهاد التي دخلت على الخاصة، هي ما نسميها: الاجتهاد في فقه النص على غير قواعد الشريعة التي مضى عليها السابقون الأولون، وهذا وجد عند كثير من خاصة الصوفية أو أكثرهم، وصورته: أنه فقه لكثير من النصوص في مسائل السلوك والعمل على غير القواعد التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فليس هذا من الفقه، بل إن هذه الأوجه من المحدثات والبدع في السلوك، وقد ترسم هذا الفقه لما انتظم التصوف، فأصبح كثير من الصوفية يفسرون كثيراً من النصوص بالتفسير الرمزي، فيجعلون الآية رمزت إلى معنى في الفعل، وظهرت رمزية بمصطلحاتها، وصاروا يفهمون -مثلاً- من خلع النعلين في قصة موسى معنىً من التعبد والقيام، حتى صنف من صنف منهم تحت هذا الاسم كتاباً. فمسألة الرمزية والإشارة -مع أن مصطلح الإشارة موجود في تنظيم الأصوليين، وهو ما يسمى بدلالة الإشارة ودلالة الإماء وما إلى ذلك -لكن مفهوم الرمزية هذه أو المراميز- كما يسميها ابن سينا والغزالي المراميز والإشارات- هو في تحصيل معاني قلبية يتعبد بها بالقلب، أو معاني حركية، أي: تقوم في حركة العمل الظاهر، من خلال سياقات من القرآن أو من السنة لم يكن الصحابة يفقهونها، فيسمى هذا فقهاً، أي: أنهم فقهوها من نصوص، لكن هذا الفقه لم يبن على قواعد الشريعة التي مضى على فقهها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

تفسير النصوص بالظاهر والباطن

تفسير النصوص بالظاهر والباطن وقد تمثل هذا أكثر -أي: أنه تجاوزت مسألة الإشارة وأنه في هذه الآية أشار إلى هذه العبادة أو هذه الحركة، أو هذا العمل القلبي- تمثل بظهور مصطلح الظاهر والباطن، وصار النص له دلالة تقود إلى عمل ظاهر، ودلالة تسمى بدلالة الباطن، فصار للنص تفسير ظاهر وتفسير باطن. وهذه المسألة -مسألة الظاهر والباطن- التي شاعت في كلام كثير من خاصة الصوفية، هي التي أوجدت اجتهاداً في فقه النص على غير قواعد الشريعة، وهو على غير قواعد الشريعة لأنه لم يكن السابقون الأولون يفهمون أن النص له فقه ظاهر وفقه باطن، فبمجرد هذا الافتراض وإيجاد هذا المعنى المنفصل فإن هذا من الاجتهاد؛ ولذلك فإن كثيراً من أوجه الحركة والعمل أخذت هذا المعنى الذي يسمونه: الظاهر والباطن، وما زال الأمر هنا محاولة في تحصيل مناهج السلوك عندهم من خلال النصوص، ولكن تحت نظرية الرمز والإشارة، وتحت نظرية الظاهر والباطن. هذا الاجتهاد نسميه: الاجتهاد في فقه النص على غير القواعد التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وقد تمثل هذا في الرمزية والإشارات بفرض الظاهر والباطن في النص ظاهراً. ومن المعلوم أن أئمة الصحابة -وهم أبو بكر وعمر وأمثالهما من السابقين الأولين- لم يكن عندهم شيء من هذا الفقه، وإن كان -وهذا من باب ضبط المسائل- لـ علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم بعض الكلمات التي اتكأ عليها من يتكلم في الظاهر والباطن، ومن ذلك قول علي رضي الله عنه كما روى البخاري معلقاً: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وكقول ابن مسعود: (ما أنت محدث قوم حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، وهذا معناه أن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما كانا يفقهان أن للنصوص ظاهراً وباطناً، وهذا غير صحيح، وإنما هذا من باب أن بعض المسائل الشرعية قد لا يحدث بها ابتداء بعض العامة قبل أن تسكن قلوبهم بأصول هي أجل منها في الشريعة، فإن التسليم بالأصول يقود إلى التسليم بالفروع؛ ولذلك كان منهج الأنبياء أنهم يخاطبون أقوامهم المشركين بالأصول، فأول ما قام النبي صلى الله عليه وسلم داعياً للعرب لم ينههم عن شرب المسكرات، إنما ابتدأهم بمسألة التوحيد، فمن وحد الله وجعله هو وحده سبحانه المستحق للعبادة وسلم بالنبوة وأن محمداً رسول الله صار عنده التسليم، وإذا تحقق التسليم تحققت الاستجابة، سواء فقه العلة أو لم يفقهها. فهذا هو مقصود علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أن بعض الكلام قد لا يحدث به العامة، مثل بعض أحاديث الفتن أو ما إلى ذلك، مثل من يكون غارقاً في المعاصي، فقد لا يناسب أن يحدث بأحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي صحيحة، لكن فيها قدر من التخويف. ومثال ذلك: إنسان يرتكب معصية معاكسة النساء، فلا يقال له: إن رجلاً -كما في حديث أبي أمامة في الصحيح- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني خالفت امرأة بالمدينة وأصبت منها كل شيء إلا النكاح، فأعرض عنه، ثم أعرض عنه، ثم قال: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114])، فهذا الحديث يحدث به قوم دون آخرين؛ لأنه من أحاديث الرجاء، وهي تناسب مقاماً، وأحاديث الخوف تناسب مقاماً، فـ علي وابن مسعود رضي الله عنهما لم يكونا يتكلمان عن نظرية الظاهر والباطن. أيضاً نجد أن العرب الجاهليين لم يكونوا يفقهون أن هذا الكلام -كلام الله أو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام- له في لسانهم فقه ظاهر وفقه باطن؛ بل إن إرادة معنيين مختلفين من المتكلم الواحد إرادة ممتنعة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "إذا قيل: للنص ظاهر وباطن، أي: معنى ظاهر ومعنى باطن، فإن كان الظاهر موافقاً للباطن فلا جديد، وإذا كان الباطن مخالفاً للظاهر فإرادة معنيين مختلفين إرادة ممتنعة"، أي: إذا كان المعنى مضاداً للمعنى فهذا ممتنع من المتكلم. هذه هي الصورة الثانية من صور الاجتهاد، وهي تختلف مع الأصل الثاني، وهو فقه النص بقواعد الشريعة ومقاصدها، وهذا الاختلاف قد يكون اختلافاً غالياً أو مقتصداً أو بينهما.

اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة

اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة الصورة الثالثة من صور الاجتهاد التي دخلت على الخاصة منهم، وهي من صور الاجتهاد المخالف لقواعد الشريعة، ونسميها: اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة؛ فإن الصورة الأولى والثانية هي التي ترسم الأعمال المفردة الخاصة من الأحوال والمقامات، إما الظاهرة وإما الباطنة في السلوك، فوجد لدى الخاصة إشكال في ضبط هذه الأعمال والحركات والأحوال والمقامات؛ إما لموجب اجتهاد مع النص، وإما لموجب اجتهاد في فقه النص على غير قواعد الشريعة، فوجدت عندهم كثير من الأحوال القلبية والحركات الظاهرة التي لا أصل لها شرعاً: إما مطلقاً وإما من حيث التطبيق الخاص. فالذي لا أصل له مطلقاً كالرقص والحركات المفتعلة التي لم توجد زمن النبوة لا بشكل ولا بآخر، فهذه -وإن قال من قال: إنه يحصل تحتها حضور قلبي أو ما إلى ذلك- لا أصل لها في هدي المرسلين ودينهم، بل بعض الحركات التي يفعلها الغلاة من هؤلاء أحياناً تكون أشبه بالخرافات والأساطير، وإن كان مقتصدوهم وعارفوهم برآء من هذه الأحوال. والصورة الثانية: أن تكون عبادة لها أصل شرعي، ولكنها من حيث التطبيق الخاص لا دليل عليها، كبعض تطبيقات الذكر وما إلى ذلك. أما الصورة الثالثة من صور الاجتهاد فنسميه: اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة؛ فإن الشريعة لها منازل، أجلُّها معرفة الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، هذا هو أجل مقامات الشريعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى)، ولما ذكر الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته) .. إلخ، وقال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ولما ذكر الله سبحانه أهل الإيمان قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فذكر أصول المنازل، ولما قال الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] بين صفات المتقين وهي المنازل العالية، ولما ذكر: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] جاء في صفتهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة:112] الآية. فواضح من سياق نصوص الكتاب والسنة أن الشريعة لها منازل، وأن منازل الناس تكون بحسب تحقيقهم لمنازل الشريعة؛ فإن الله سبحانه لم يجعل المؤمنين وجهاً واحداً، بل قال سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] .. الآية، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]. إذاً: لا خلاف في أن الشريعة منازل، وأجل منازلها معرفة الله وعبادته، وهذا ما تجمعه كلمة التوحيد وهي شهادة أنه لا إله إلا الله؛ فإنها تضمنت معرفة الله وإفراده في العبادة. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تدل على توحيد الألوهية؛ لأنها كلمة تتضمن الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى والإقرار بألوهيته؛ فمن شهد أنه لا إله إلا الله وحقق هذه الشهادة فإنه يكون مفرداً لله سبحانه وتعالى بالعبادة، فإن معناها: لا معبود بحق إلا هو سبحانه، ومن عبد الله وأفرده في العبادة فقد آمن بربوبيته، فتكون الربوبية متضمنة لتحقيق الألوهية. وأهل العلم يقولون: توحيد الألوهية يتضمن الإقرار بالربوبية، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، ولذلك لما أقر المشركون بجملة الربوبية جاء سياق القرآن ملزماً لهم بالإقرار بتوحيد الألوهية. فمن الغلط أن تجعل هذه الكلمة في مفهوم الربوبية، وهذا الغلط هو ما فسر به كثير من المتكلمين كلمة الشهادة، فقالوا: معناها: لا خالق إلا الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الإله المعبود بحق، وإذا كان هو الإله المعبود بحق، فهذا يتضمن الإقرار بكونه هو الخالق والرب والمالك والمدبر. إذاً: نقول: الصورة الثالثة من صور الاجتهاد المخالف الذي دخل على بعض خاصتهم: الاجتهاد في ترتيب منازل الشريعة على غير المنهج الذي اطردت به نصوص الكتاب والسنة. ومن الأمثلة المبسطة لهذا: أن أخص ما يقرب العبد إلى الله هو أداء الفرائض، كما ثبت في الصحيح في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه)، فأخص القرب هي الفرائض، وأخص الفرائض العملية هي الصلوات الخمس .. وهلم جرا. فإذا غلب على قوم أنهم يعنون بشيء من الأحوال التي قد تكون مبتدعة، أو قد لا تكون مبتدعة ولكنها ليست من الرتب العالية في الشريعة، واشتغلوا بها عن العبادات الشرعية -سواء كانت من عبادات الباطن أو عبادات الظاهر، أي: من عبادات القلب أو عبادات العمل- فإن هذا اختلاط في ترتيب منازل الشريعة.

مصطلح الشريعة والحقيقة عند الصوفية

مصطلح الشريعة والحقيقة عند الصوفية يوجد هذا الاختلاط الذي دخل على كثير من الخاصة في مصطلح متداول في كلام كثير من خاصتهم، وهو ما يسمى بالشريعة والحقيقة، حتى أدى الأمر عند جملة منهم إلى الفصل بين الشريعة وبين الحقيقة. ولذلك غلب شهود مقام الربوبية -وهذا عند كثير من خاصة الصوفية حتى بعض المقاربين للسنة كـ الهروي صاحب المنازل- عن شهود مقام الألوهية؛ فـ الهروي يقول: "إن العارف والمحقق -أي من وصل إلى الحقيقة- لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة"، وليس معناه أنه يقول: يفعل الحرام ولا يبالي، لكن يقول: إن مسألة الاستحسان للحسنة والسيئة يتجاوزها إلى مسألة الشهود لحقيقة الرب المدبر الذي العبد يتدبر ويتحرك من جهته. ولهذا مالوا إلى مسألة عدم تعليل أحكام الشريعة، وهذا أصل نظري كان أصله من الجهمية، ثم دخل على كثير من متكلمة الصفاتية وكثير من المتصوفة، فهم يرون أن العلة في أفعال الرب سبحانه وتعالى أنه يأمر بما يشاء لمحض المشيئة وليس لحكمة معينة، وينهى عباده عما يشاء لمحض المشيئة وليس لحكمة معينة، فجردوا فعله سبحانه وتعالى عن الحكمة، وهذا من باب -في نظر الصوفية- أن هذا هو المقصود الإلهي الأول، أنه لتحقيق معنى العبودية تتبع المشيئة المطلقة، دون أن يشهد العابد والعارف -كما يقول الهروي - معنىً مناسباً يقوده إلى القيام بهذا العمل، أو معنىً مناسباً يقوده إلى ترك العمل، بل يكون المحرك لفعله هو مطابقة المشيئة المطلقة. فالمقصود أن ترتيب منازل الشريعة ترسم عند كثير من الخاصة بما سموه: مصطلح الشريعة والحقيقة، وجعلوا العارف هو من وصل إلى مقام الحقيقة، وجعلوا للحقيقة منازل، ثم تختلف درجاتهم في منازل الحقيقة بحسب الطبقات، فمنهم مقتصد ومنهم فوق ذلك، ومنهم من يكون غالياً في تفسيره للحقيقة. فالتفريق بين مسألة الشريعة والحقيقة من الاجتهاد الذي دخل عليهم في ترتيب منازل الشريعة، وهذه الصورة من الاجتهاد تختلف بوجه مع الأصل الثالث من أصول الوسطية، ولذلك قلنا: إن الفقه المعتبر عند المتقدمين هو التفريق بين الأصول والفروع. فإن من منازل الشريعة الصحيحة: أن للشريعة أصولاً وفروعاً، وقد تقدم أنه لا إشكال في هذا المصطلح، فإن توحيد الله وما إلى ذلك يسمى أصولاً، وهذا لا أحد يجادل فيه إلا ربما ناقص العقل والتفكير، لكن الذي قد يتردد فيه بعض الناس عند كلمة الأصول هو: ماذا يقابلها؟ ففي كلام الأئمة من السلف يكثر ذكر مسألة أصول الدين .. أصول السنة .. أصول الإيمان .. فكلمة الأصول مستفيضة في كلام أئمة الشريعة. إنما الذي لم يستفض هو مصطلح التقابل: أصول وفروع، وإن كان بعضهم كـ أبي عبيد القاسم بن سلام قد صرح به، وكذلك الشافعي، ثم لما انتظمت الاصطلاحات نبه الإمام ابن تيمية إلى الغلط الذي دخل في تفسير هذا المصطلح. إذا: ً فقه الأصول والفروع وفقه المحكم والمتشابه هذا هو المنهج الذي تنضبط به منازل الشريعة: أن يفرق العابد والعارف والسالك بين العبادات والسلوك الأصول وبين العبادات والسلوك الفروع، كما قال الشارع عليه الصلاة والسلام: (أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، مع أن إماطة الأذى عبادة وقربة إلى الله سبحانه وتعالى إذا وقعت على جهة التقرب، ومع ذلك ليست هي كالصلاة، وصلاة الضحى ليست كالصلواتالخمس، بل إن الشارع فضل بين بعض الصلوات بعضها على بعض، فذكر نصوصاً في بعضها لم تذكر في غيرها، وكذلك النوافل، فراتبة الفجر هي أجل الرواتب .. وهلم جرا. فهذا فقه بين في الشريعة، كان الصحابة يفقهونه فقهاً ظاهراً بيناً لا جدال فيه. إذاً: الصورة الثالثة من صور الاجتهاد المخالف للشريعة التي دخلت على كثير من خاصتهم هي اجتهادهم في ترتيب منازل الشريعة على غير ما مضت به النصوص، وانتظم هذا في مصطلح الشريعة والحقيقة، وهذا يختلف بوجهٍ -قد يكون هذا الوجه مقتصداً، أي: ليس مطرداً، وقد يكون فوق ذلك، وقد يكون غالياً- مع الأصل الثالث من أصول الوسطية الشرعية، وهو فقه الفرق بين الأصول والفروع والمحكم والمتشابه. ونتج عن ذلك أن اشتغل كثير من هؤلاء بأوجه من العمل أقل ما يقال فيه: إنه متشابه، فاشتغلوا به عن المحكم، فضلاً عن العمل المبتدع في الإسلام الذي هو أوجه من الغلو، فهذا شأن ابتلي به كثير منهم، وإن كان لم يطرد عند أئمتهم العارفين من السابقين الذين كانوا على قصد من السنة والجماعة، وكثير من هؤلاء قد يكون سماه الناس صوفياً وهو لم يتسم بذلك، إلى غير تلك التعليقات والتقييدات التي سبق أن أشرت إليها. فهذه النظرية التي دخلت على الصورة الثالثة من صور الاجتهاد -وهي مسألة الشريعة والحقيقة- أدت عند الغلاة إلى الفصل بين الشريعة وبين الحقيقة، حتى صار المقصود عند الغلاة منهم هو الوصول إلى الحقيقة وليس إلى تحقيق أو إلى رتبة الشريعة.

مصطلح الشريعة أجل من مصطلح الحقيقة

مصطلح الشريعة أجل من مصطلح الحقيقة لا شك أن مصطلح الشريعة أجل من مصطلح الحقيقة؛ لأن مصطلح الشريعة أصله حرف شرعي، فإن الله ذكر مسألة الشرع والتشريع في مثل قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى:13] وما إلى ذلك، فوصل الغلو عند بعض الخاصة إلى الفصل بين الشريعة وبين الحقيقة، حتى صار عند كثير من هؤلاء الغالية أن أوصلوا كثيراً من الشريعة العملية لأحوال ومقامات جعلوها من الحقيقة التي هي في نظر غاليتهم أجل من الشريعة. وإن كان ليس كل من تكلم بالشريعة والحقيقة منهم يلزم أن يكون على هذا الفصل، بل منهم من يكون مقتصداً في تقرير هذا المعنى، ومنهم من يكون غالياً فيه. هذه الصور الثلاث من صور الاجتهاد هي التي أوجدت عند الخاصة خروجاً عن الوسطية الشريعة، وقد ابتلي الخاصة بهذا الاجتهاد، وهم قد لا يسمونه اجتهاداً، وإنما يسمونه ذوقاً أو كشفاً أو مقاماً أو حالاً أو ما إلى ذلك، فهو حال اجتهاد بمعنى: حركة في رسم مفهوم السلوك وتطبيقه، وهو إما اجتهاد مع نص، والنص هنا إما نص كلي وإما قاعدة كقاعدة أن العبادات توقيفية، وإما أنه اجتهاد في فقه على غير قواعد السابقين الأولين لتحصيل العبادة والفعل من أوجه من النصوص، وإما أنه اجتهاد في ترتيب منازل الشريعة على غير الترتيب الذي مضت به النصوص. هذه الصور الثلاث هي التي ابتلي بها كثير من الخاصة أو أكثرهم، وإن كانت مخالفتهم فيها قد تكون مخالفة مقتصدة، وقد تكون فوق ذلك، وقد تكون غالية؛ فإن من الصوفية مقتصدين، أي: مقاربين للسنة والجماعة في الجملة، ومنهم فوق ذلك، ومنهم من يكون غالياً في تصوفه.

ظهور الانفصال عند المسلمين في أبواب الشريعة بعد ظهور التصوف

ظهور الانفصال عند المسلمين في أبواب الشريعة بعد ظهور التصوف هنا مسألة: وهي أنه لما ظهر اسم التصوف وانتظم هذا الاسم في أواخر المائة الثانية، ظهر إشكال لم يكن له وجود في زمن القرون الثلاثة الفاضلة، فإنه لما حصل ما يمكن أن نسميه: انفصال بين العلوم، بدأ المسلمون -حتى الخاصة منهم- ينقسمون، فتجد أن بعض الخاصة مشتغل بفقه الفروع، وأمضى جل عقله وتفكيره ونظره في تحصيل مسائل الفروع على مذهب معين، والانتصار لهذا المذهب، وتحرير المذهب، ولذلك قد تجد في أعيان الفقهاء المتأخرين من هو ليس من أهل حسن القول، لا نقول: من أهل السلوك في شخصه، فهذه أحوال بينه وبين الله، الأصل فيهم العلم والفضل، لكن في تقريرهم وكتابتهم ليس لهم اشتغال بتكييف وتقرير مسائل السلوك، وليس لهم اشتغال ربما بما هو ألصق بالفروع التي يتكلمون بها وهي مسائل الحديث؛ ولذلك ظهر عند كثير من الفقهاء الاستدلال بالضعيف أو بالمتروك أحياناً في الانتصار لمذهب من المذاهب الفقهية، فظهر من يشتغل بالفقه اشتغالاً محضاً، ووجد من يشتغل بعلم الحديث اشتغالاً محضاً، ووجد من يشتغل بالوعظ اشتغالاً يغلب عليه، ومن يشتغل بالسلوك والتصوف اشتغالاً يغلب عليه، ومن يشتغل بالكلام والجدل والنظر اشتغالاً يغلب عليه. وهذا حقيقته نوع من الانفصال في حركة العلوم، ابتدأت فيما يظهر من أواخر القرن الرابع، ثم انتشرت انتشاراً ذريعاً في القرن الخامس والقرن السادس. وهذا الإشكال امتد إلى هذا العصر، ولذلك يلاحظ في العالم الإسلامي أن الوعاظ يغلب عليهم أنهم ليسوا من أهل الفقه والعلم المتين، مع أنه قد يكون عندهم شيء من العلم اليسير.

ظهور التعصب والتكلف بسبب الفصل بين أبواب الشريعة

ظهور التعصب والتكلف بسبب الفصل بين أبواب الشريعة فهذا الانفكاك أدى إلى نوع من الشعور الداخلي أحياناً لدى المشتغل بالفقه أن الذي يشتغل بمسألة الصحيح والضعيف والعلل ليس على شيء كبير، وأن مسألة دراسة الإسناد انتهت مع الزهري والإمام أحمد ويحيى بن سعيد وابن معين، ومن يشتغل بالحديث يرى أن الذي يشتغل بالفروع إنما يجهد ذهنه في تقليد وتحصيل مذهب، وأن اشتغال الفقهاء المتأخرين كان فيه قدر من التكلف، وكذلك المنقطعون للسلوك. وفعلاً ربما وجدت أوجه من التكلف في هذا الانفصال، وأنا أقول هذا الكلام لأصل إلى هذه النتيجة. ولذلك لما تكلم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم عن مسائل التشبه بغير المسلمين من أهل الكتاب أو غيرهم قال: "إن التشبه قد يدركه كثير من العامة، ومع الأسف يدركه كثير من الخاصة على أنه في اللباس"، ولذلك تجد بعض الإخوة الآن ينكرون على عوام الناس وربما على الأطفال أحياناً بعض مظاهر اللباس الذي فيه تشبه بغير المسلمين، وهذا فقه جيد، لكن بعض طلبة العلم أحياناً قد يبتلون بأوجه من التشبه بأهل الكتاب، ربما هي أشكل شرعاً -أي أشد شرعاً- من تشبه صبي في لباس معين. يقول ابن تيمية رحمه الله: ومن أخلاق الأمم الكتابية المنحرفة عن كتابها ما ذكره الله في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113]، يقول ابن تيمية: وهذا الخلق عند منحرفة أهل الكتاب قد دخل كثير منه على أهل الإسلام، فترى صاحب العلم والشريعة -أي: المشتغل بالعلوم- لا يرى صاحب الزهد والعبادة على شيء، وترى صاحب العبادة والأحوال والمقامات لا يرى صاحب العلم على شيء، وترى صاحب الجهاد ما يرى أصحاب العلم على شيء .. ولربما بعض أصحاب العلم لا يرون أصحاب العبادات على شيء وهكذا. وهذا ليس مختصاً بأهل الكتاب، بل هذا خلق مباين للإسلام الذي بعث به الأنبياء عليهم السلام؛ فإن الله لما ذكر أجناس الكفار ذكر المفترقين على كتب الأنبياء ووصفهم بقوله سبحانه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وهذا كثير منه اليوم سببه نقص العقل، وقد يكون عنده شيء من العلم لكن ما عنده هذا العلم مع الفقه فيه.

اشتغال الإنسان بما يناسب نفسه وطبيعته

اشتغال الإنسان بما يناسب نفسه وطبيعته لذلك نقول: من أمانة الإنسان -لأنه سيحاسب على كل قوله- إذا لم يجد عقلاً متيناً في الحكمة والفصل والتصحيح والتضعيف للأقوال والأفعال فليبتل نفسه بما آتاه الله؛ لأن الله يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48]. بعض الناس يدرك من نفسه وطبيعته - قد تكون وراثية أو غير وراثية- أنه رجل حاد، رجل شديد، رجل لا يحتمل الأخذ والعطاء، فلابد أن يكون الإنسان عاقلاً مع نفسه، ويعيش -إن صح التعبير- سلاماً مع نفسه. فإن أبا ذر رضي الله تعالى عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر) لاحظ الحقيقة والتشخيص النبوي والوضوح، فلا يعني إذا كنت طالب علم أنك ستصير طالب علم، وإذا كنت داعية أنك ستصير داعية، قال: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرنّ على اثنين) أي: حتى اثنين لا تتأمر عليهم. لكن لما تشوف بعض الصحابة رضي الله عنهم إلى الإمارة، ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض تشوقهم، بل قصد عليه الصلاة والسلام إلى أن يعطي الإمارة قوماً كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه أفضل منهم في المقام؛ لأن الإنسان الذي يصلح لكل شيء هم الرسل والأنبياء؛ وذلك لأن الله اصطفاهم واختصهم. أما من لم يكن نبياً ولا رسولاً فإنه يصلح لأشياء ولا يصلح لأشياء، والقدماء كانوا متعقلين في تناولهم الأمور، فهذا أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان فقيهاً، حتى قال الشافعي رحمه الله: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة "، لكن لم يتيسر له الاشتغال بعلم الحديث، فلم يركب فيه صعباً، وهكذا العاقل، فالشيء الذي لا يحسنه لا ينبغي أن يركب فيه صعباً، خاصة في مسائل الدين والفتوى والحكم والفصل بين الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خولة بنت حكيم في البخاري: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة)، فهذا فيمن يتخوض في مال الله بغير حق، فما بالك بمن يتخوض في دين الله بغير حق؟! ومن المعلوم أنه ليست هناك نظم للفصل: هذا يصلح لهذا وهذا لا يصلح لهذا، لكن يجب أن يحاسب الإنسان نفسه ويتبصر في الأمور، ولا يقول القول إلا وقد اطمأنت نفسه إليه، ولا يستبعد أن يتوقف في كثير من المسائل؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فلا يستنكف أن يتوقف في مسائل وأن يعرض عن مسائل وأن يقول: لا أدري، في مسائل .. وغير ذلك من آداب الشريعة التي تجدونها مبسوطة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

تقصير كثير من أهل السنة في الكلام عن السلوك بحجة أنه من اختصاص الصوفية

تقصير كثير من أهل السنة في الكلام عن السلوك بحجة أنه من اختصاص الصوفية الشاهد: أنه لغلبة مسائل السلوك في تاريخ الإسلام بعد المائة الثالثة على الصوفية؛ أصبح هناك تقصير عند كثير من أصحاب السنة والجماعة في تقديرهم لمسائل السلوك، وكأن القول في السلوك لا يقول فيه إلا واعظ قليل العلم، ولربما أحياناً قليل العقل. أما أنها مسائل تختص بالتصوف، فهذا ليس بصحيح؛ فإن فقه الإسلام والعبادة -بمصطلح أصح- والعمل هو من أصول الإسلام، ومن المعلوم أن السلف يقولون: الإيمان قول وعمل، فيجب أن يكون أهل السنة والجماعة وأصحاب السنة والجماعة على قدر من العناية بفقه مسائل السلوك وترتيبها والقول فيها. والصوفية الذين تكلموا في ذلك لا أحد يجادل في أن كثيراً من الكلام الذي قاله المحققون والمقتصدون منهم أنه كان كلاماً حسناً، وقد تقدم جواب ابن تيمية لمن سأله عن كتاب إحياء علوم الدين لـ أبي حامد الغزالي، وأبو حامد إمام في مسائل السلوك على تصوفه المعروف، وله إمامة في أصول الفقه، وإن لم يكن إماماً مطلقاً على تحقيق السنة والجماعة، كما يقال: الإمام الشافعي؛ لأن البعض يستشكل قولنا: هذا إمام، فنقول: هو إمام في فقه الشافعية، وفي أصول الفقه، فإن له كتاب المستصفى، وهو من أخص كتب الأصول التي نظمت مسائل الأصول، مع أنه متأثر بإشكالية معروفة، وهي إشكالية علم الكلام، لكنه ليس من الأئمة الذين يحملون الإمامة المطلقة، كما حملها الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد أطلق هذا اللفظ الإمام ابن تيمية رحمه الله لما عرض له القول في عبد الله بن سعيد بن كلاب، فقال رحمه الله: "وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه ودين"، فمسألة الإمامة مسألة إضافية. فمسائل السلوك أولى بالفقه فيها من عنده أصول محققة، وهي أصول السلف، وأصول أئمة السنة والجماعة، وذلك حتى لا يكون هذا الباب متاهة لعوام المسلمين في أوجه من البدع والمحدثات في الدين، أو الاشتغال بالمتشابه من العمل عن محكمه، فضلاً عما قد يصل إليه من درجات الغلو والخرافات والأساطير.

شرح الوصية الكبرى [6]

شرح الوصية الكبرى [6] دين الله تعالى وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، فقد وجد من أهل البدع من غلا في دين الله وأفرط، ومنهم الخوارج الذين غلوا في جانب العبادة حتى مرقوا من الدين كما مرق السهم من الرمية.

الإفراط والتفريط كلاهما مذموم

الإفراط والتفريط كلاهما مذموم قال المصنف رحمه الله: [وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه]. التفريط يغلب على أهل المخالفة والمعصية، والإفراط هو الذي يتحرك به الشيطان ليضل به من هو قاصد للعلم والسنة والتدين، فهؤلاء يحركهم الشيطان، ويتحرك الشيطان إليهم بعبارة أصدق، فيدخل عليهم من باب الإفراط. والإشكال في هذا الأمر أن شعور العبد بتأثير الشيطان عليه في مسائل المعاصي والمخالفات شعور مكشوف ومباشر؛ فإن الذي يسرق يعلم أنه أتى معصية بأثر الشيطان وتهوين الشيطان لها، وما إلى ذلك، لكن الإشكال أن الذي يقع في الإفراط لا يدري أن ذلك من تأثير الشيطان وإضلاله، والمشكلة اليوم أن كثيراً من العوام وبعض الخواص تربوا على أنه كلما شب الإنسان في قضية من القضايا، وكلما أعطى أحكاماً مغلظة أشد، فمعناه: أن لديه تديناً أكثر وصدقاً أكثر وصلاحاً أكثر، وهلم جرا من المعاني؛ لأن هذا هو الصالح، وهذا هو السلفي الصحيح، والسني الصحيح والذي لا تأخذه في الله لومة لائم .. وما إلى ذلك. وقد ينشأ هذا عن صلاح في النفس، وهذه قوة، لكن القوة توزن بميزان الشريعة؛ فإن أول فتنة انشق أصحابها عن جماعة المسلمين وعن صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام هي فتنة الخوارج، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج ولم يذكرهم بترك العبادات، بل قال عليه الصلاة والسلام: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم).

إفراط الخوارج في العبادة

إفراط الخوارج في العبادة قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرًا ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة]. قوله: (من أعبد) أي: من أكثر هذه الأمة عبادةً وورعاً، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية. قال المصنف رحمه الله: [وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف]. هذه النصوص متواترة، قال الإمام أحمد رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه"، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حديث الخوارج من هذه الأوجه، وأخرج البخاري طرفاً منه، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي رضي الله عنه بذهب من اليمن في أديم مقروض .. فقسمة النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد!)، فلم يقل: حقي يا محمد، إنما قال: اعدل يا محمد! وهذه هي الإشكالية، فإن هذا الرجل قل أدبه أكثر من اللازم لما قام أمام النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو الإمام العدل. فأحياناً بعض هذه الصور النفسية توجد لدى البعض من الناس حينما يرى أن نفسه -إن صح التعبير كما في بعض الكتابات- نفس ملائكية، أي: يرى نفسه نفساً فاضلة؛ فتجده ينظر إلى الآخرين على أنهم ليسوا جادين في التمسك بالسنة، وفي الغيرة على دين الله، وحدود الله، والغيرة على المسلمين، والاهتمام بقضايا المسلمين. فمسألة الانطلاق من المبدأ السامي الصحيح لا يلزم بالضرورة أن الإنسان يأمن على نفسه أن يكون الشيطان قد وظف هذا المبدأ في نفسه بمعنى يخالف الشريعة، فهذا الرجل قال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، فقام خالد بن الوليد -وفي رواية: عمر بن الخطاب والروايتان في الصحيح- فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي)، وهذا من فقه الشرع، أن مسائل القرائن لا تعتبر في مسائل الظاهر كثيراً، فإن هناك مسائل من الظاهر مثل مسألة الدماء فلا يستبيح الإنسان دم المسلم بقرائن، ومثال ذلك: قصة أسامة بن زيد -كما في الصحيحين من أوجه- أنه لما قاتل أسامة رجلاً من المشركين، فلما أدركه بالسيف بعد أن لاذ منه في شجرة ورأى أن أسامة رضي الله عنه قاتله، قال الرجل: لا إله إلا الله، فواضح من جملة القرائن المحتفة أن الرجل إنما قالها تعوذاً؛ لأنه خرج يقاتل المسلمين، فهو لم يفكر بالإسلام، فلماذا لم يأته الإسلام إلا لما رأى السيف؟! فلما قتله أسامة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال له: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السيف -وفي رواية: إنما قالها تعوذاً- قال: أفلا شققت عن قلبه؟)، ومعنى كلمة: (أفلا شققت عن قلبه؟) أن القرائن لا تحكم هذا التصرف. ففي هذه النصوص من الفقه ما ينبغي لطالب العلم أن يعتبره، وهذا من أجل الفقه، فهو أهم من أن تعرف فرعاً في مسألة في تفاصيل معاملة من المعاملات أو شيء من هذا، فإن هذا هو الفقه الأكبر، وهو فقه العقائد، وفقه مقاصد الشريعة الكلية. وكما قال أبو حنيفة عن باب العقائد والتوحيد أنه الفقه الأكبر، حتى ذكر له كتاب في هذا، وإن كان الغالب أنه ليس له. والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعله أن يكون يصلي. قال خالد: يا رسول الله! وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس بقلبه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم)، هكذا في رواية الصحيح، فكيف لم يؤمر أن ينقب عن قلوب الناس مع أن الرجل قد تلفظ وقال: اعدل يا محمد! ومع ذلك لم ير رسول الله عليه الصلاة والسلام قتله، حفظاً لمقاصد الإسلام العامة، وكما قال في عبد الله بن أبي: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

شرح الوصية الكبرى [7]

شرح الوصية الكبرى [7] وقع في عهد الصحابة رضي الله عنهم قتال تعددت أنواعه وأسبابه، فقد وقع في عهد أبي بكر رضي الله عنه قتال للمرتدين، وفي عهد علي رضي الله عنه وقع القتال للخوارج، وهذان مما أجمع عليهما الصحابة، لكن وقع في عهده رضي الله عنه قتال بين الصحابة أنفسهم، حكمهم فيه بين مجتهد مصيب له أجران، ومجتهد مخطئ له أجر واحد.

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة قال المصنف رحمه الله: [وغير هؤلاء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ـ أو فقاتلوهم ـ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)]. شرع الشارع عليه الصلاة والسلام قتالهم، والقتال حصل في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وسوف نستطرد هنا في تلخيص مسألة عارضة، وهي أن القتال الذي وقع في زمن الصحابة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: قتال أبي بكر لمن خالف في زمنه، وهم ثلاث درجات، وهو ما سمي بقتال المرتدين. الثاني: قتال الصحابة في إمارة علي للخوارج. الثالث: القتال الذي حصل بين الصحابة، بين علي ومعاوية في صفين وفي معركة الجمل.

قتال أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة

قتال أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة فالأول: وهو الذي في زمن الصديق رضي الله تعالى عنه، فهو ثلاث درجات: الأولى: قوم ارتدوا عن أصل الإسلام، ورجعوا إلى عبادة الأوثان، فهؤلاء لا جدال بين سائر المسلمين أنهم كفار مرتدون. الثانية: قوم جحدوا وأنكروا وجوب الزكاة، وهؤلاء أيضاً بالإجماع أنهم أهل ردة، وإنما قيل بالإجماع لأنه منضبط، وإلا فهناك شذوذ من بعض الفقهاء المتأخرين من أصحاب الشافعي تكلم في ترددٍ في كون هؤلاء من أهل الردة، فهذا عند بعض أصحاب الشافعي وغيره لا يعتبر. الثالثة: قوم امتنعوا من دفع الزكاة لـ أبي بكر وأمرائه وسعاته، وتحيزوا بالسيف على منعها، وإن كانوا لم يظهروا جحد وجوبها، هذا هو اللفظ الصحيح، أما الجزم بأنهم لم يجحدوا وجوبها فهذا ليس بلازم؛ لأن هذا الامتناع يقود إلى قدر من الشك في بقائهم على الإقرار بها أو عدمه، فيقال: إنهم منعوا دفعها وتحيزوا بالسيف وإن لم يظهروا إنكار الوجوب. فهؤلاء أيضاً قاتلهم الصديق والصحابة، والذي مضى عليه كلام جمهور المتقدمين بل عامتهم، حتى حكاه بعض المتقدمين إجماعاً للصحابة -كما يشير إليه أبو عبيد، وكما يذكره ابن تيمية لعامة أهل السنة المتقدمين- أن هؤلاء أهل ردة، وإنما الردة لحقتهم بهذه الأمور المجتمعة، وليس بمحض ترك الزكاة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن هذا مذهب أئمة المدينة كـ مالك وأمثاله وأئمة العراق وما إلى ذلك"، وإن كان المشهور عند الفقهاء من أصحاب الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وبعض أصحاب أحمد، أن هؤلاء بغاة وليسوا أهل ردة، بل ذكر الخطابي رحمه الله أن الجمهور من الفقهاء على أن هؤلاء من أهل البغي وليسوا من أهل الردة, فهذه من المسائل التي تختلف فيها طريقة جمهور المتأخرين عن طريقة جمهور المتقدمين.

قتال علي بن أبي طالب للخوارج

قتال علي بن أبي طالب للخوارج القسم الثاني: وهو قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج، وقتال الخوارج الذين كفروا المسلمين وكفروا علياً والصحابة رضي الله عنهم، واستحلوا دماءهم -وهم الذين حدث النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم- قتال مشروع بالنص والإجماع. أما النص فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم - بالروايات المستفيضة-: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله، لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له من الأجر لنكل عن العمل) إلى غير ذلك. وأما الإجماع فهو إجماع الصحابة على تصويب علي في القتال، وإن كان بعض الصحابة لم يشارك فيه لسبب، لكن لم يظهر أحد من الصحابة الإنكار على علي بن أبي طالب في قتالهم. لكن قتال الخوارج ليس قتال ردة؛ لأنهم ليسوا مرتدين وليسوا كفاراً، بل هم عند جماهير السلف وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الخوارج الأولى في ظاهر مذهب الصحابة أنهم مسلمون ولكنهم مبتدعة باغون ظالمون"، وإن كان كثير من الفقهاء المتأخرين -ويحكى هذا رواية عن الإمام أحمد - كفروا الخوارج، وهذا غلط مخالف لعامة فقه الصحابة، فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه نطق بتكفيرهم، بل سنة الصحابة -مع إجماعهم على قتالهم- في قتالهم جروا فيهم بسنة المسلمين. فإن هناك فرقاً بين سنة الحرب مع المسلمين، وبين سنة الحرب مع الكفار، فهم جروا فيهم بسنة المسلمين، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يقسموا الغنائم من أموالهم وما إلى ذلك، ومن هنا أخذ شيخ الإسلام والإمام أحمد من المتقدمين أن علياً والصحابة لا يرون كفرهم وردتهم، وفي مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة أن علياً رضي الله عنه سئل: (يا أبا الحسن أكفار هم؟) وانظر إلى فقه علي ودينه؛ لأن من جمع الدين والفقه فهذا هو المستقيم، قال: (من الكفر فروا. فقيل: يا أبا الحسن! أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً)، وهذا من فقه الاستنباط عنده رضي الله عنه، قيل: (فما هم؟ قال: هم إخواننا بغوا علينا)، ثم قال جملة لا بد لطالب العلم أن يتفقه فيها، قال: (هم إخواننا بغوا علينا أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا)، وهذا هو الأمر الخطير، وهو أن الإنسان يدخل فتنة فيكون أعمى أصم فيها، ولذلك استطال الأمر بهؤلاء الخوارج حتى قتلوا علياً رضي الله تعالى عنه. وقد استدل من يقول بكفر الخوارج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمرقون من الدين)، فيقال: هذا من حيث كلام العرب لا يدل على الكفر، وباختصار: أولى الناس بفقه كلام النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا الحرف يدل على كفرهم نصاً أو ظاهراً لقضوا به؛ لأنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ما ترددوا في قتالهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع قتالهم. أما من يقول: نحن متعبدون بالنص. فنقول: هذه هي الإشكالية في المسائل الوسطية، أن فقه النص لا بد أن يكون على قواعد السابقين الأولين.

القتال الذي وقع بين الصحابة

القتال الذي وقع بين الصحابة القسم الثالث: وهو الاقتتال الذي حصل بين الصحابة رضي الله عنهم أنفسهم في معركة الجمل، وأشد منه في معركة صفين، وهذا القتال فيه جملتان: الجملة الأولى: أن الأصل عند أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فينبغي أن يقال للعامة -وهذا جواب الإمام أحمد لبعض العامة الذين سألوه عن الخلاف الذي وقع بين الصحابة-: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. لكن هذا الإمساك الذي يذكره أئمة السنة في كتب أصول الدين لا يعني عدم التحقيق لجمل وكلمات بينة في السنة، ومن هذه الكلمات: أن علياً هو الخليفة الراشد بعد عثمان، وأن خلافته حتى مع قتال معاوية ومن معه له أن خلافة علي خلافة شرعية، وقد قال الإمام أحمد: من لم يربع بـ علي بالخلافة فهو أضل من حمار أهله، فخلافة علي بن أبي طالب خلافة شرعية. ومن الجمل المحكمة: أن علياً أولى بالحق من غيره. ومن الجمل المحكمة: أن المقاتلين له طائفة باغية من حيث كونهم طائفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (تقتل عماراً الفئة الباغية)، ولذلك يقول ابن تيمية: "ولم يشك أئمة السنة في أن علياً أولى بالحق من غيره، وأن مقاتليه أو أن الطائفة المقاتلة له باغية، وإن كانوا يترددون في تسمية أعيانهم"، لأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف الطائفة، ولا يلزم من هذا أن يوصف المعين، ولا سيما إذا كان المعين صحابياً، بل يوقف كما وقف النص ويقال: الطائفة باغية. إذاً: الإمساك عما شجر بين الصحابة هو أصل عند أهل السنة، لكن لا يفهم منه أن لا يقال بهذه الكلمات البينة التي جاءت بها النصوص ومضى عليها الأئمة.

حكم القتال الذي وقع بين علي ومعاوية

حكم القتال الذي وقع بين علي ومعاوية ثم حصل القتال بين علي ومعاوية في معركة صفين، فهل هذا القتال قتال مشروع، أم ليس قتالاً مشروعاً؟ لأهل العلم ثلاثة أقوال: الأول: أنه ليس مشروعاً. الثاني: أنه مشروع. الثالث: التوقف. أما الذين قالوا: إن هذا القتال قتال مشروع، فجميع من قال بذلك من المتقدمين لا يختلفون في أن الصواب فيه مع علي، وإن كان بعض أصحاب المذاهب من المتأخرين تكلموا بخلاف ذلك، فهذا لا يعتبر، ولم يقل أحد من المتقدمين إن الصواب مع معاوية وليس مع علي. وأما من توقف فإنه أعرض عن الفصل في هذا المقام لتردده فيه. وأما من قال: إنه ليس مشروعاً، فهذا يقول ابن تيمية عنه: "إنه مذهب الجمهور من أهل السنة والحديث"، فهم مع تفضيلهم لـ علي، وأنه الخليفة الرابع، وأن مخالفيه هم الطائفة الباغية، إلا أنهم لا يرون القتال مشروعاً، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وقد بين شيخ الإسلام أن أكثر الصحابة الذين أدركوا الفتنة بين علي ومعاوية لم يشاركوا في المعركة، ويذكر في ذلك رواية عن ابن سيرين يقول ابن تيمية عنها في منهاج السنة: "إن هذا من أصح الأسانيد على وجه الأرض إلى ابن سيرين "، يقول ابن سيرين: "إنه لم يشارك في القتال بمعركة صفين من الصحابة إلا بضع وثلاثون صحابياً"، مع أن مجموع الجيشين والعسكريين كانوا بالآلاف، فيستنتج شيخ الإسلام أن جمهور الصحابة الذين أدركوا الفتنة كانوا معرضين عن القتال، ويذكر لهذا أمثلة، من أخصهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وغيرهم. فإن سعداً اعتزل الفتنة، وكان أسامة بن زيد موالياً لـ علي، لكنه لما وقع القتال كتب لـ علي بن أبي طالب يقول -كما في الصحيح-: (يا أبا الحسن! لو كنت في شق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره)، وهذا فقه متين، فلا يلزم من أن الإنسان مشى خطوة أن يمشي العشر الخطوات الباقية، فقد يمشي في وضوح شرعي خطوة واثنتين وثلاثاً، لكن إذا جاءت الخطوة الرابعة في أمر ليس فيه وضوح فإنه يتوقف؛ فإن المسألة ليست مسألة تبعية أن الجماعة مشوا فيمشي معهم، بل إذا جاءت الخطوة الرابعة ووجد أنه لم يطمئن إليها شرعاً فمن العقل والحكمة والدين أن يقف، وهذا ما فعله أسامة بن زيد، فقد كان موالياً لـ علي، لكن لما ظهرت الفتنة ووصل الأمر إلى السيف، كان صريحاً، فكتب إلى علي يخبره أن ذلك ليس جبناً ولا خوفاً ولا تردداً في قدرك، أو تغير رأي، وإنما خطوة ما وضحت لي شرعاً، قال: (يا أبا الحسن! لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، لكن هذا أمر لم أره)، فما قال: أقلد علي بن أبي طالب، بل تعبد الله بما يعلم من الشريعة. وكذلك سعد بن أبي وقاص مع أنه خبر القوم بعد علي اعتزل، ولم يكتف بالاعتزال في المدينة، بل ذهب في إبله في الصحراء، وجاء في الصحيح أنه كان إذا أقبل عليه أحد كره ذلك، مع أن الناس كانوا في فتنة لكن الإنسان بطبيعته بشر، وأهم شيء يكون تصرفه على علم، وأن يعرف من نفسه الاستطاعة؛ لأن من أخص شروط التكليف: القدرة والاستطاعة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فحتى سعد رضي الله عنه كان يكره أن يأتيه أحد، ولما أقبل إليه ابنه ورآه سعد مقبلاً -كما في الصحيح- قال: (أعوذ بالله من شر هذا الراكب)، فاعتزل الأمر اعتزالاً تاماً، مع أن سعد بن أبي وقاص هو صاحب معركة القادسية، وأول من رمى في سبيل الله بسهم، والذي لما استحرس النبي من يحرسه جاءه سعد، فقد كان إماماً في الشجاعة والفقه والعلم، ومن السابقين والعشرة المبشرين، فقد اجتمعت فيه صفات الخلافة وليس المشاركة فحسب، ومع ذلك لما فقه أن هذه فتنة ابتعد عنها. فالدين عظيم والشريعة عظيمة، وأنا أؤكد هذه المعاني لأنها في هذا العصر منقوصة كثيراً، فبعض الناس إذا مشى خطوة لا يقف إلا في الخطوة المائة، هذا ليس منهجاً شرعياً، وهدي الصحابة أنهم كانوا مقتدين بفقه القرآن الذي قال لهم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. علي يعلم أن القتال مشروع، وأنت لا تعلم فلا تقاتل، ولذلك فرق بين من يرى أن العمل دين، فهذا معذور عند الله إذا كان من أهل العلم الذين يؤهلون لهذا العمل والحكم.

أسباب خروج الخوارج ومروقهم من الدين

أسباب خروج الخوارج ومروقهم من الدين قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام]. وقد استطرد المصنف في تقريب هذه المسألة إلى أن يصل يذكر أن هذا المروق من السنة والديانة كان بأسباب فيقول:

الغلو

الغلو [منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه]. الغلو هو سبب انحراف كثير من الأمم عن دينها؛ فإن أول ما ظهر الشرك في بني آدم كان بسبب الغلو في الصالحين، وكان من فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه لما صنف كتاب التوحيد ذكر فيه باباً قال فيه: "باب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين"، مع أن محبة الصالحين في الأصل مشروعة، لكن لما زاد الأمر إلى الغلو تطور الأمر من كونه مجرد غلو بدعي إلى كونه شركاً. فالغلو في الدين لا خير فيه؛ لأنه يقود إلى الهلكة، قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون).

التفرق والاختلاف

التفرق والاختلاف [ومنها: التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز]. وهو التفرق المذموم والاختلاف المذموم، فإن الاختلاف كما يقول الإمام الشافعي: "الاختلاف وجهان: محمود ومذموم"، فالاختلاف المذموم هو الذي يكون خارجاً عن أحد الأصول الثلاثة: إما أن يكون خارجاً عن النصوص، أو عن قواعد فقهها، أو عن ترتيب منازل الشريعة، فهذا اختلاف مذموم. وأما الاختلاف المقبول في الشريعة فهو ما يصل إليه أهل الاجتهاد على القواعد الشرعية الصحيحة، وهذا وجه من السعة، كاختلاف المجتهدين في بعض الفروع، ولذلك لما صنف بعض الفقهاء كتاباً جمع فيه بعض أقوال الفقهاء، وذكره للإمام أحمد، قال له الإمام أحمد: ماذا أسميته؟ قال: يا أبا عبد الله! سميته: كتاب الاختلاف، فقال الإمام أحمد: بل سمه: كتاب السعة. فهذا الاختلاف سعة، ويكون رحمة إذا ما فسر بوجه صحيح.

شرح الوصية الكبرى [8]

شرح الوصية الكبرى [8] التعصب والتقليد المذموم من أخص الموجبات لخروج كثير من العامة عن الوسطية الشرعية في منهج السلوك والتعبد، بل وفي باب العقائد، كما هو الحال عند الصوفية والخوارج ونحوهم.

التعصب والتقليد من موجبات الخروج عن الوسطية الشرعية

التعصب والتقليد من موجبات الخروج عن الوسطية الشرعية نتكلم هنا عن موجب خروج كثير من العامة من المسلمين عن الوسطية الشرعية التي بعث الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فنقول: إن أخص الموجبات لخروج كثير من العامة عن الوسطية في منهج السلوك والتعبد: هو التعصب والتقليد، فإن هذا الموجب هو أكثر ما يؤثر على نفوس العامة، وهذا من جهة أن العوام ليسوا أهل علم، ومن هنا سموا عامة باعتبار أنهم السواد الأعظم، وهذا شأن مطرد في سنة الله سبحانه وتعالى الكونية، وهو أن أكثر الناس لا يكونون من أهل العلم المتين والاختصاص المبين في علوم الشريعة، وإن كانوا يعلمون من الإسلام أصولاً يقوم بها أصل دينهم، لكن العلم المفصل مختص بأولي العلم. فهؤلاء العامة الذين عندهم غلط أو انحراف في منهج السلوك والتعبد، أكثر ما يوجب خروج هؤلاء عن الوسطية الشرعية هو التعصب والتقليد. وهذان الاسمان: التعصب والتقليد، التحقيق فيهما أنهما ليسا من الأسماء المترادفة، بل بينهما قدر من التقارب، ولكن اسم التقليد أكثر قبولاً من اسم التعصب.

التعصب

التعصب إذا قيل: هل التعصب مذموم بإطلاق؟ قيل: قد استعمل بعض أهل السنة -كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- لفظ التعصب مضافاً إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: "إن أهل السنة والجماعة ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، مع أن التسمية الشرعية الأولى أن يسمى ما يقع معه صلى الله عليه وسلم: اتباعاً واهتداءً واقتداء، فهو الذي يتبع اتباعاً مطلقاً، ويهتدى به اهتداءً مطلقاً، ويقتدى به اقتداءً مطلقاً. والمقصود أن هذا الاسم غلب في كلام العرب على ما هو من التجمع الذي لا يكون عاقلاً ولا رشيداً؛ فهو في أكثر موارده ليس من الأسماء الممدوحة، فإذا تعلق بغير النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التقرير فإنه ليس ممدوحاً، فإنه لا يجوز التعصب لأحد من أعيان المسلمين، لا من أئمة الفقه ولا من أئمة السلوك ولا من أئمة العقائد، بل يجب أن يكون هذا الاسم بعيداً عن حال العامة من المسلمين.

التقليد

التقليد أما التقليد فإنه اشتهر في كلام أهل العلم كمصطلح علمي، فنجد أنهم يذكرون المجتهد ويجعلون مقابله المقلد، فهو أقرب إلى الاعتبار بكثير من مصطلح التعصب. وإذا أخذت مسألة التقليد كجملة عامة في تقرير أهل العلم لها فإنه يقال: إن الجمهور من أهل العلم يرون جواز التقليد فيما يناسبه من المواضع، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وجمهور الأئمة ذهبوا إلى جواز الاجتهاد وجواز التقليد كل بحسبه"، أي: يكون الاجتهاد مشروعاً في مقام، ويكون التقليد جائزاً، وربما صار مشروعاً في حال معينة. أما كون التقليد بإطلاق لمعين دون النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً، فإن هذا ليس مذهباً لأحد من الأئمة المعتبرين، ونعني بقولنا: (بإطلاق) أي: باطراد في سائر المسائل وسائر التفاصيل.

الاقتداء

الاقتداء وهناك لفظ ثالث -وهو كلمة شرعية- وهو لفظ الاقتداء، وهذا اللفظ إذا ذكر في القرآن فإنه يذكر معلقاً بالوحي، يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فهو لم يقل: فبهم اقتده، وإنما قال: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) أي: بما بعثوا به من الوحي، فالاقتداء حقيقته الاتباع للوحي. ولذلك من اتبع إماماً من الأئمة في مسألة على وجه من الدليل البين للمتبع، فإن هذا يسمى مقتدياً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بـ أبي بكر وعمر رضي الله عهما، وبين للناس أنهم إن يقتدوا بهما يرشدوا فهذا الاقتداء إذا كان مفصلاً على دليل الوحي فهو الاقتداء المشروع، وهذا لا يسمى تقليداً محضاً، فضلاً عن أن يسمى تعصباً. وعليه: فليس المقصود من الكلام في التعصب أن يقال: إن المسلمين يجب أن يكونوا أهل اجتهاد، فإن هذا الطلب ليس طلباً شرعياً، ولا طلباً عقلياً، فإن جمهور المسلمين لا يسعهم لا شرعاً ولا عقلاً أن يكونوا من أهل الاجتهاد، بل التقليد وأجلّ منه الاقتداء سنة ماضية في شأن المسلمين، ولاسيما من بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لما كثر العامة، وفتحت البلاد، وانتشر سواد المسلمين، فإنه يتعذر هنا شرعاً وعقلاً أن يتحول جميع الناس إلى أهل اجتهاد. ولذلك أمر الله في كتابه عند عدم العلم بسؤال أهل الذكر، ودل ذلك على أن المسلمين وأهل الإيمان يكون فيهم من هو من أهل الذكر والعلم، ويكون فيهم من هو ليس كذلك. إذاً: التعصب في عامة موارده ليس اسماً شرعياً ولا مناسباً للعقل والحكمة، ولذلك غلب التعصب كاسم في كلام الجاهليين على التجمع الجاهل، كالتعصب لولاءات قبلية وثارات جاهلية ونحو ذلك. أما التقليد فإنه أرفق من هذا بكثير، فقد استعمله أهل العلم كمصطلح علمي، وتكلم جمهورهم في جوازه، إلى غير ذلك. والناظر إلى ما عليه أهل الإسلام من قرون مضت يجد أنهم يتجافون عن مصطلح التعصب، ولا ينتحلونه؛ لما فيه من قلة الاهتداء بالشريعة، والتحيز الجاهل، وآثار العزم بغير علم، إلى غير ذلك، وإنما يستعملون إما مصطلح التقليد، وهو الذي غلب على أتباع الفقهاء، أو مصطلح الاقتداء، وهو الذي غلب على أصحاب الاختصاص في مذهب العقائد أو السلوك. ولا شك أن الاعتبار ليس بمجرد الأسماء، وإنما الاعتبار بحقائق المعاني والأحوال؛ فإن أهل السلوك من طوائف الصوفية يستعملون كلمة القدوة؛ فإذا بلغ بعض الخاصة عندهم مبلغاً سموه قدوة، وصار من تعريفه ولقبه: الشيخ العارف القدوة، فهذا الاقتداء وتعيين أحد به هو من باب استعمال هذه الكلمة التي أصلها شرعي، لكن هذا التخصيص لا بد أن يكون مبيناً على القواعد الشرعية، وهذا من حيث ظاهر الحال، ولكن من حيث حقيقة الحال، فإن التعصب وإن سمي في بعض الأحوال في حال كثير من الفقهاء تقليداً، أو في حال بعض أهل الاختصاص بعقائد غير أهل السنة والجماعة أو طرق في السلوك سمي تقليداً أو اقتداء؛ فإنه في حقيقة حاله وفي جمهور حاله إما أن يكون تعصباً، وإما أن نسميه تقليداً ليس مشروعاً، والتقليد إذا لم يكن مشروعاً ولا جائزاً فإنه هو التعصب. فهذه الأحوال هي التي تغلب من حيث الحقيقة، أعني التعصب الجاهل، والتقليد الذي لا تجيزه الشريعة، ولا تقره أصول الحكمة والعقل.

الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز

الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز قبل أن نتكلم عن بعض صور التقليد والتعصب في باب السلوك، نذكر مسائل: المسألة الأولى: الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز هذه وجدت زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أهل علم إلا أنهم مراتب، وقد وجد في تاريخ الصحابة وفي هديهم رضي الله تعالى عنهم التعظيم لبعض أئمتهم أكثر من بعض، فكان من كثير من الصحابة عناية بكلام أبي بكر وكلام عمر، وفقه علي وعثمان، وفقه زيد في الفرائض، وعلم معاذ بن جبل بالحلال والحرام .. وما إلى ذلك، وكان الصحابة يسألون أئمتهم، كما كانوا يسألون أم المؤمنين عائشة عن بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فكان هذا جزءاً من السؤال في العلم، وهو جزء من الاقتداء، وقد يكون من التقليد الجائز الذي عرض في سيرة الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في الصحيح لما أقبل أبو موسى رضي الله تعالى عنه في الحج فأفتى الناس في مسائل، وكان عمر رضي الله عنه -وهذا في خلافته- يفتي الناس بغير ذلك، فلما سمع أبو موسى بهذا قال: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتأد؛ فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا. فترك أبو موسى بعض الذي كان يراه هو الأقرب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه وراعى في ذلك مقام الخليفة عمر رضي الله تعالى عنه. وكذلك ما جاء في وقوف بعض الصحابة في بعض المسائل عن إظهار المخالفة، كإتمام عثمان رضي الله تعالى عنه، فاقتدى به ابن مسعود اقتداءً معيناً وليس اقتداء مطرداً، والاقتداء المعين هنا أنه صلى خلفه تماماً؛ لأن الإتمام جائز، وترك به السنة، ولما قيل لـ ابن مسعود في هذا قال: (إن الخلاف شر) فقد وجد في هدي الصحابة ما هو من الاقتداء المشروع وفي بعض الأحوال ما هو من التقليد الذي يسمى في الشريعة جائزاً، لكن هذا التقليد الذي عرض لبعض الصحابة لا يكون حالاً عامة، وإنما يكون في وجه معين أو واقعة معينة؛ لمصلحة ولحكمة كلية أو شرعية راجحة، كتحصيل الاجتماع، وترك الافتراق، وما إلى ذلك. أما التقليد بغير علم، والتقليد بما يعلم أنه منافٍ للشريعة وتجويزه فضلاً عن التعصب، فإن هذا لم يكن من هدي أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأما من بعد الصحابة فإنه في المائة الثانية ظهرت بعض مقدمات التعصب في مسائل السلوك، وقد سبق ذلك فيما يتعلق بمسائل العقائد التي بدأ الانحراف فيها في آخر خلافة الخلفاء الراشدين، ومن هنا يمكن أن نقسم ما يتعلق بالتعصب إلى وجهين: الوجه الأول: ما هو من الميل العام الذي لا يصل إلى درجة الانتظام والتحيز المطلق، فهذه أحوال عرضت في أواخر عهد الصحابة، وفي المائة الثانية. أما في المائة الثانية فإنه لما ظهر السلوك صار بعض الأصحاب والمريدين والعامة، يعطون مشايخهم بعض الاختصاص والإجلال والتسليم والتبعية ما ليس مشروعاً، لكن هذا لم يكن شأناً منتظماً تحت اسم طائفي، أو تحت تجمع مدرسي ينتسب إليه. ثم ظهر في الإسلام ما يمكن أن نسميه -وهذا هو الذي يعيشه المسلمون من قرون، وهو من أشكل ما قام في تاريخ المسلمين- التعصب المنظم، ونقصد بمصطلح التعصب المنظم: التحيز والاختصاص بمدارس معينة، إما في باب العقائد، وإما في باب السلوك، وينتهي سند هذه المدارس والطوائف إلى أعيان، أي: أسماء رجال عرضوا في تاريخ الإسلام، ومعنى أنهم عرضوا في تاريخ الإسلام أي: أنهم ينقطعون إلى سنة ما في تاريخ الإسلام، حتى لو كانت هذه السنة في أثناء المائة الثانية أو في أواخر المائة الأولى أو ما إلى ذلك. وقد يقول قائل: إنه ظهر من التقليد المنظم ما يتعلق بمسألة المذاهب الفقهية. فأقول: إن ما يتعلق بالمذاهب والمدارس الفقهية شأنه دون ما يتعلق بمسائل العقائد ومسائل السلوك التي انتظمت عند البعض على أوجه من العقائد والاختصاص العقدي. وهذه الأوجه الثلاثة وهي: العقائد والسلوك والفقهيات، نجد أنه من حيث الاقتضاء الشرعي -أي: التجويز الشرعي- ومن حيث الاقتضاء الممكن عقلاً أن الفقهيات هي الأولى أن تظهر ابتداء، أي: التي لو ظهرت مبكرة لما كان في ظهروها كثير من الإشكال. لكن المفارقة في تاريخ المسلمين أن أول تعصب وتحيز واختصاص ظهر هو فيما لا يسع التحيز فيه والاختصاص، وهو باب العقائد، ثم جاء بعده الاختصاص والتحيز في باب السلوك، ثم آخر ما ظهر التحيز أو الاختصاص الفقهي.

التعصب في باب العقائد

التعصب في باب العقائد فيما يتعلق بالتعصب المنظم في العقائد كانت بدايته على يد الخوارج والشيعة، فهما أول طائفتين نظمتا مبدأ الاختصاص العقدي عن سواد المسلمين، ثم ظهرت الطوائف والمدارس المختصة عن أهل السنة والجماعة، أو عن سواد المسلمين وأئمتهم وعلمائهم على يد القدرية والمرجئة والجبرية والجهمية، ثم جاءت فيما بعد موجة ما يسمى في باب العقائد بمدارس متكلمة أهل الإثبات، أو مدارس متكلمة الصفاتية، وهي جيل من المدارس العقدية أخف بكثير من المدارس العقدية الغالية الأولى، وهي جيل مدرسة ابن كلاب، ومدرسة أبي منصور الماتريدي، ومدرسة أبي الحسن الأشعري. وإنما قلنا: إنها أخف بكثير؛ لأن شعار أهل البدع المغلظة كما يذكر ابن تيمية ترك الانتساب للسنة والجماعة، كالجهمية، والمعتزلة والخوارج، فما كانوا ينتسبون للسنة والجماعة، فهؤلاء أهل البدع المغلظة. ثم ظهر جيل من المدارس فيما بعد أخذوا جملاً من جمل السلف، وانتسبوا إليهم، وعظموا أصول السنة العامة، ولكن دخلت عليهم إما أصول كلامية وإما غير ذلك، وإما مجموع من هذا وهذا. فالمقصود أن هؤلاء هي المدارس العقدية المختصة، وأعني بكلمة (المختصة) أي أنها تختص برجل ينتهي سند المدرسة إليه. ولكن أصحاب الجيل الثاني من المدارس ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وهذا لا يعني أن الجيل الثاني تاريخياً جميعه ينتسب للسنة والجماعة؛ فإن بعض المدارس الغالية في العقائد لم تظهر إلا في التاريخ الثاني من الإسلام، والذي هو بعد عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي بعض مدارس المتفلسفة والباطنية، وهؤلاء كانوا غلاة، بل أكثر من غلو جمهور من تقدمهم، وهم مع ذلك لا ينتسبون للسنة والجماعة. إذاً: المدارس العقدية انقسمت إلى قسمين: الأولى: أصحابها لا ينتسبون للسنة والجماعة، وهؤلاء من يسميهم ابن تيمية بأهل البدع المغلظة. الثانية: أصحابها ينتسبون للسنة والجماعة، ويوافقون أهل السنة وأئمة السنة في مسائل وبعض الأصول، ولكنهم يختلفون معهم في حقائق بينة.

حكم التعصب في باب العقائد

حكم التعصب في باب العقائد وهنا مسألة: هل التعصب العقدي له وجه جائز من حيث أن مدرسة السلف مدرسة يتعصب لها؟ الجواب: هذا الكلام فيه قدر من الإجمال؛ فإن الحقيقة الشرعية الموجودة في القرآن هي أن ما يتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة -أو ما سماه الشارع بما روي عنه في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة- لا يختص بأحد بعينه، وهذا هو جوهر الفرق في باب العقائد بين المدارس التي خالفت أهل السنة والجماعة، وبين مذهب أهل السنة والجماعة. وقد يقول قائل: جوهر الفرق أنهم لا يقتدون بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه المدارس حتى التي انتسب أصحابها للسنة والجماعة ينتهي سندها العلمي إلى ما قد يسمى بالمؤسس أو المؤسسين، وليس المهم أن يتفق من هو المؤسس، فمثلاً: الاعتزال، من هو مؤسسه؟ هل هو واصل بن عطاء، أم عمرو بن عبيد أم رجل آخر؟ هذا لا يهم، لكن المهم أن هذه المدارس انطلقت بأسماء، فالخوارج انطلقوا بأسماء، فإنه لا يوجد ذكرهم في خلافة عمر بن الخطاب، فضلاً عن خلافة أبي بكر، فضلاً عن زمن النبوة، ولا توجد نظرية الخوارج وطائفة الخوارج ومذهب الخوارج، وإن وجدت المقدمة من ذلك الرجل الذي قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه سيخرج من بضع هذا قوم. إذاً: هي حادثة، وهذا هو معنى البدعة في الإسلام، وقد كان تعبيره عليه الصلاة والسلام بيناً في ذلك، وذلك لما كان يقول في مقدمة خطبته -كما في حديث جابر في الصحيح-: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) فلفظ الحدوث هنا لفظ بين، أي: أن فيها حدوثاً، بمعنى أنها طرأت على الإسلام وهي ليست منه. وهذا يميز مدارس العقائد كلها الخارجة عن أهل السنة والجماعة؛ لأنها تنتهي إلى أسماء، وقد يكون اسماً واحداً، وقد يختلف أهل التاريخ والمقالات في اسم من الأسماء، وهذا ليس مهماً، بل المهم أن هناك تأكداً علمياً بيناً أنها تنتهي إلى أسماء، وهذا الانتهاء يعني: تحويل العقائد إلى اجتهاد؛ لأنه إذا سألت سؤالاً شرعياً وعقلياً: ما معنى أن يختص فلان من الناس في قرن من القرون بمذهب عقدي كي ننسبه إليه؟ قد يقال كما يقوله بعض مدارس العقائد المنتسبة للسنة والجماعة: ما قاله هو عين ما قاله ورتبه من كان قبله من الأئمة. وإذا كان ما قاله ورتبه هو عين ما قاله قبله أئمة السنة فأي معنى لاختصاصه والانتساب له؟ وأما إذا كان له اختصاص فيه فإن هذا يعني أن مسألة العقيدة تحولت من كونها مسألة الأصول في الإسلام والقطعيات في الإسلام، والمعرفة الأولى في توحيد الله سبحانه وأسمائه وصفاته، وقدره والإيمان به، وما إلى ذلك من الأصول التي توافرت فيها النصوص وأجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف رحمهم الله -تحولت إلى وجه من الاجتهاد الخاص الذي يرسمه أحد الراسمين له في قرن من قرون الإسلام. وهذا غير مقبول لا شرعاً ولا عقلاً: أن تتحول العقائد إلى نظريات اجتهاد، ولا سيما إذا كان الشخص ذا تحول، فإننا نجد أن بعض هؤلاء قد يكون في أول أمره معتزلياً، ثم تحول عن عقيدة المعتزلة إلى مذهب آخر .. وهلم جرا. وبهذا يعلم علماً شرعياً وعلماً عقلياً أن انتهاء السند في مذهب من مذاهب المسلمين إلى رجل بعينه يدل على أن هذا المذهب مذهب بدعي في الإسلام.

عدم تعصب أهل السنة لشخص معين في العقائد

عدم تعصب أهل السنة لشخص معين في العقائد فإن قال قائل: أليس أهل السنة والجماعة يقولون عن أحمد بن حنبل: إنه إمام أهل السنة والجماعة؟ فالجواب: بلى، يقال عن أحمد وعن مالك وعن أبي حنيفة وعن الشافعي وعن جملة من الأئمة، وهذا من اللقب الشائع المستفيض الذي كل من استفاض فضله وعلمه ودينه من الأئمة سموه إماماً لأهل السنة والجماعة، ولا يختص بالسابقين، بل يسمى أيضاً من هو من اللاحقين بهذا الاسم، لكن ما معنى الإمامة هنا؟ معناه: أنه جامع لهذا العلم، فقيه فيه، قائم بالعمل، والدعوة إليه، وليس معناه أنه ابتدأ تاريخ مذهب أهل السنة والجماعة من أحمد بن حنبل أو مالك أو الشافعي أو الثوري أو غيره؛ ولذلك ابن تيمية رحمه الله في مناظرته في الواسطية لما كان يقرر هذا المعنى، وأن العقائد ليس صحيحاً أنها تختصر بتاريخ رجل عرض في تاريخ المسلمين في المائة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو غيرها، كان بعض مناظريه من متكلمة الصفاتية يقولون ذلك للسلطان، فقال له السلطان الذي كانوا يتناظرون بين يديه: لو سميت هذا الذي كتبته في الواسطية: مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومذهب الحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا المذهب موجود قبل أن يولد الإمام أحمد. وهذه هي الحقيقة العلمية هنا، أن الإمام أحمد أو غيره إذا سمي بإمام أهل السنة ليس معناه أن المذهب ترسم أو ابتدأ أو انتظم من جهته، والله سبحانه وتعالى قد فضل النبيين بعضهم على بعض، وكذلك أتباع الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فيكون بعض الأئمة أقوم بالسنة وأهدى فيها وأكثر فقهاً فيها وما إلى ذلك، فيميز بمثل هذا اللقب. إذاً: لا يوجد عند أهل السنة والجماعة تعصب لشخص معين في العقائد؛ لأن التعصب لمعين يعني الانفكاك عن غيره، ولا يوجد عند أهل السنة والجماعة رجل معين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرع التعصب له بعينه في العقائد، على معنى أن هذا الأمر يختص به وينفك عن غيره، وهذا بخلاف غيره من المذاهب، فإن مدرسة الماتريدية -مثلاً- مع انتساب أصحابها للسنة والجماعة، إلا أن نظارهم وعلماءهم فضلاً عن العامة منهم ينتهي سندهم إلى أبي منصور الماتريدي الحنفي، وهذا الانتهاء هو المشكل؛ لأنه إذا كان ما نظمه الماتريدي هو ما عليه أئمة السنة القدماء من أئمة الحنفية وغيرهم، وليس له اختصاص فيه، فإنه لا يوجد معنى للانتساب المختص به في باب العقائد. وقد يقول قائل: إنه استعمل في بعض البيئات مصطلح الوهابية انتساباً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الشيخ إنما تكلم كاختصاص في باب العقائد، وفي باب توحيد الله سبحانه وتعالى. فيقال: إن القاعدة مطردة؛ فإن الشيخ رحمه الله -أعني الإمام محمد بن عبد الوهاب - لم يأت إلى الدعوة باسم طائفي ينتسب هو إليه أو ينتسب إليه أبو أو جده، بل حقيقة ما أتى به الشيخ رحمه الله أنه منهج في تجديد الدين يقوم على الكتاب والسنة وما مضى به الإجماع عند الأئمة، وعند التأمل فيما أتى به الشيخ رحمه الله يظهر أنه في باب توحيد الله، وهو باب بين في الشريعة، لكن لما كثرت البدع والخرافات في تاريخ المسلمين المتأخر صار عند كثير من العامة من المشكل والمستغرب. فما أتى به الشيخ ليس اسماً طائفياً، وكذلك أتباعه من بعده لا ينتحلون هذا الاسم؛ فإننا لا نجد أحداً من علماء الدعوة ومن بعدهم ومن انتظم في فقه هذه الدعوة يسمي نفسه وهابياًً أو ينتسب هذه النسبة، بل الأصل أن الوهابية اسم سماهم به إما أعداؤهم أو من يخالفهم، وقد لا يصل إلى درجة العداوة المطلقة، فهو ليس اسماً متعبراً به لا عند الشيخ ولا عند أتباعه، بل هم يعدون أنفسهم جزءاً من أهل السنة والجماعة الذين يوجدون في سائر بقاع المسلمين، لكن الإمام رحمه الله عني بتقرير توحيد العبادة وتخليص كثير من العامة من مظاهر الشرك والخرافة والبدع، وهذا شأن بين في كتبه، وليس له اختصاص بكلمة واحدة في التوحيد عن أئمة سبقوه كالأئمة الأربعة ومن قاربهم، فضلاً عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وأما في باب الفقه فمن المعلوم أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله من حيث الأصول، مع أن الشيخ رحمه الله ليس من المتعصبين ولا من الغلاة في التقليد، بل نقل عنه كلمة تبين أنه رحمه الله ليس من المتعصبة في باب الفقه، هذه الكلمة قالها تعليقاً على كتابي: الإقناع والمنتهى، فإن ما انتهى إليه صاحب المنتهى وصاحب الإقناع من النتائج يجعله المتأخرون من الحنابلة هو المذهب. ومع ذلك نقل بعض علماء الدعوة عن الشيخ رحمه الله كلمة قال فيها: "أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد نفسه".

التعصب والتقليد في باب السلوك ونتائجه

التعصب والتقليد في باب السلوك ونتائجه أما باب السلوك -وهو الباب الأصل المقصود هنا- فإن التقليد المنظم فيه بدأ في المائة الثانية، وذلك عند ظهور اسم التصوف، حيث أصبح جملة من العامة يتعصبون لبعض العارفين والناسكين، لكنه لم يظهر أثناء المائة الثانية إلى آخرها كمدارس صوفية منتظمة. بل وجدت تجمعات بأسماء أولئك الزهاد والعباد، وصار لهم أصحاب يختصون بهم وبطريقتهم. ولما كان العارفون والنساك والعباد أثناء المائة الثانية الغالب عليهم أنهم في أصولهم على السنة والجماعة، لم يكن هذا التقليد والتعصب يتولد عنه كثير من الإشكال، أو البدع المغلظة، وإن لم يكن هذا التقليد والتعصب شرعياً في باب السلوك. لكن لما ظهرت المدارس والانتماءات الصوفية، صار هناك تميز تحت هذه الدائرة، وإذا طرأ علينا سؤال: هل التعصب في باب السلوك من حيث الأصل قدره في الإشكال مثل التعصب والاختصاص في باب العقائد؟ الجواب: لا؛ فإن باب السلوك من حيث الأصل يتعلق بتزكية النفس وإصلاحها، وهذا الباب يدخل الاجتهاد في كثير منه، بخلاف باب العقائد؛ فإنها كلمات وجمل ومعانٍ واحدة منضبطة لا يجوز الزيادة عليها ولا النقص منها، ولا أخذها على سبيل التفقه والاجتهاد؛ لتعدد الرأي واختلافه، أما باب السلوك وفقهه فإن فيه سعة أكثر. ثم بعد ظهور اسم التصوف وظهور الصوفية المتأثرين بالأصول الكلامية والفلسفية، تحول باب السلوك إلى أثر عقدي. إذاً: ما يتعلق بالسلوك قدر منه يقبل الاجتهاد، فقد يختلف بعض العارفين والسلوكيين والنساك في تقريب العبد إلى حقائق الإيمان الشرعية، وإذا جئت إلى هدي الإسلام الأول وهدي الصحابة رضي الله عنهم. وجدت أن بعضهم يغلب عليه الجهاد، وبعضهم يغلب عليه الصوم، وبعضهم يغلب عليه كثرة ذكره وصلاته وقيامه بالليل وصيامه بالنهار، وبعضهم كثر اشتغاله بالعلم، فكانت النفوس مختلفة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه من يسأله عن فضائل الأعمال ربما أجاب بأجوبة لا أقول: مختلفة، وإنما متنوعة، فلما جاءه عبد الله بن بشر -وكان رجلاً قد اشتد في سنه- أوصاه بالذكر وقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) وهكذا. فهذا التنوع في تأديب النفس وتزكيتها إذا كان على قواعد الشريعة وهديها فإنه يدخله كثير من الاجتهاد، وبحسب اختلاف الطباع والنفوس والأحوال فيه. لكن لما تعلق التصوف بكثير من التصورات والمعاني العلمية العقدية أصبح كثير من هذا الاجتهاد لا يعد من الاجتهاد السائغ الجائز، فضلاً عن المشهور، بل أصبح اجتهاداً بدعياً، وبهذا نتج عن التعصب في باب التصوف والسلوك جملة من الإشكالات:

التسليم المطلق لطريقة الشيخ المقتدى به

التسليم المطلق لطريقة الشيخ المقتدى به الأول: التسليم المطلق لطريقة الشيخ المقتدى به، وهذا التسليم المطلق ليس تسليماً شرعياً، فإنه لا يجوز التسليم بطريقة شخص بعينه من أهل الإسلام وكأنها هي الطريقة المحققة الفاضلة شرعاً، وقد شاع هذا التسليم في عوام الصوفية، فمن كان منهم مقتدياً بشيخ ما من الشيوخ فإنه يجعل طريقته هي الطريقة الفاضلة، ولربما جعلها هي الطريقة الموصلة للحقيقة، وأن غيرها قد لا يكون كذلك.

الامتياز في باب السلوك

الامتياز في باب السلوك الثاني: الامتياز، وأعني به: الانحياز بالنسبة إلى معين في باب السلوك، حيث يجعل هؤلاء العامة لأنفسهم من الامتياز بهذا الاسم ما ليس هو من طرق الشريعة، حتى يتميزوا عن العامة من غيرها، مع أن كثيراً من العامة الذين يخالفونهم في مصر من الأمصار قد يكون كثير منهم أفضل من هؤلاء، وأزكى حالاً وأتبع للسنة. والامتياز بحد ذاته بدعة، إلا إذا انتظم هذا الامتياز تحت اجتهاد يمكن قبوله ولا يكون مطلقاً، فإن الامتياز إذا كان مطلقاً أي -مطرداً- فإنه لا يكون امتيازاً مشروعاً. وهذا الامتياز يقع كثير من تحققه عند كثير من عوام الصوفية تحت ما يسمى بالآداب الوضعية الخاصة، وهي الآداب التي تكون من العامة للخاصة، كطريقة الدخول والسلام والجلوس بين يديه، فيكون هناك من التخصيصات والرسوم الوضعية التي ليس لها أصل في نصوص الشريعة ونصوص النبوة. مع أن باب الأدب ورعاية الأخلاق وحسن التأتي باب مشروع في الإسلام، ولا أحد يجادل فيه، لكن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم -مع أنه هو صاحب هذه الأمة ورسولها وإمامها- لا يجد أنه كان يرتب لأصحابه طرقاً معينة، بل كان يعلمهم آداب الاستئذان، وآداب الدخول والخروج بذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وتقديم اليمنى ونحو ذلك، هذه هي الآداب الشرعية، أما أن لهم حركة معينة في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والقيام من عنده وما إلى ذلك، فضلاً عما هو أكثر من ذلك، كمسألة التبرك بآثاره التي لا تكون مستساغة لا عقلاً ولا شرعاً، فإن مثل هذه الأوضاع والآداب الوضعية التي انتشرت في عوام الصوفية في كثير من قرون المسلمين ليست آداباً مشروعة. فصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف له أصحابه كثيراً، وإن كان ورد في بعض المناسبات كقصة الحديبية أن أصحابه قاموا بين يديه قياماً خاصاً ما كان مألوفاً، حتى إنه لما انصرف رسول قريش قال لقريش -كما في صحيح البخاري وغيره-: (لقد أتيت الملوك فما رأيت رجلاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً) وذلك لأن الصحابة أظهروا شيئاً خاصاً، فقد قام المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف، وعندما كان رسول قريش يمد يده للحية النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المفاوضة كان المغيرة بن شعبة يكف يده بنعل السيف، وفعل كذلك الصحابة بعض الأمور التي كانت خاصة بذلك المجلس، أما في جمهور مجالسه عليه الصلاة والسلام فقد كان غير متكلف الحال، اقتداء بهدي إخوانه المرسلين عليهم السلام الذين كانوا يقولون لقومهم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. والمقصود أن هذه الآداب الوضعية والمراسيم الصوفية التي يوجد فيها قدر من الإذلال للعامة، وأحياناً الخروج إلى شيء من البدع، والوصول إلى شيء من التبركات في الأشخاص التي لا تكون تبركات مشروعة، كالانحناء بين يديه. فمثل هذا من البدع، وقد يصل إلى أوجه مغلظة من الحكم الشرعي، كالانحناء والتقبيل لركبته مثلاً، أو ما إلى ذلك، فهذه كلها من الأمور المتكلفة في الإسلام. فهذه الرسوم ليست رسوماً شرعية، وينبغي لشيوخ السلوك والعارفين وأهل الاقتداء وأولياء الله سبحانه وتعالى من المعاصرين أن يقوموا كما قام صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، على قدر من اختصار الحال -أي عدم التكلف- في هذه الأمور، والإتيان بالأخلاق والسنن الشرعية؛ كالسلام، وحسن التأتي، وحسن الأدب، ومراعاة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، والمحافظة على الأوقات المناسبة في الدخول والجلوس، هذه هي الآداب الشرعية. أما المراسيم الخاصة حتى في شكل اللباس، كتخصيص لباس معين وهندام معين وشكل معين لطائفة من المسلمين بالانتساب لهذا الرجل أو ذاك، فمثل هذه الاختصاصات لم تكن مشروعة في الإسلام، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث لم يأمر أصحابه بتغيير طريقة لباسهم التي كانوا عليها في جاهليتهم، وإنما أرشدهم إلى هديه في اللباس؛ كنهيه صلى الله عليه وسلم عن إسبال الثياب كبراً في حق الرجال، فكان هذا من باب الضبط لآداب الشريعة. فهذا ما يمكن أن نسميه بالامتياز في مسائل الرسوم، وهو وجه من وجوه التعصب، وإلا فما معنى أن يمتاز الإنسان بنظام في رسم حركته ومجلسه ولباسه وآدابه الوضعية وما إلى ذلك؟ لأنه إما أنه لا معنى لها إذا كانت جائزة، وقد يقول قائل: ما هو الحرام في أن يلبس الإنسان بطريقة معينة؟ فنقول: الإنسان حر في لباسه ما دام أنه في حدود ما أذن الله به، لكن الاقتصار على نظام معين في اللباس كتجمع خاص عن جمهور أهل مصر من المسلمين، أو عامة المسلمين، هذا لا شك أنه ليس مشروعاً، فضلاً عما إذا كان الأمر يصل بهذه الرسوم إلى بدع أو إلى محرمات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة في أدب الأخلاق: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فلا ينبغي للعارف وصاحب العبادة والنسك أن يمتاز أمام الناس، وأن يظهر حاله بنوع من الإشارة المعينة التي تدل عليه، بل عليه أن يكون بعيداً عن التكلفين: تكلف الإظهار وتكلف الإضمار، فإن بعض الناس -أحياناً- يتكلف في الإضمار، وفي هضم نفسه وتبذل نفسه، وفي تحطيم نفسه -إن صحت الكلمة- إلى وجه ليس مشروعاً، فإن الشريعة لم تأمر بهذا التكلف: لا في الإظهار ولا في الإضمار.

التدرج الصوفي والرتب الصوفية

التدرج الصوفي والرتب الصوفية الثالث: التدرج الصوفي، أو الرتب الصوفية، وهي ترقي المريد من كونه في درجة إلى درجة أخرى، فيمر بدرجة الفتوى -مثلاً- ثم ينتقل عنها إلى درجة أخرى، حتى يصل به الأمر إلى درجة العارف، ثم يكون قدوة .. وهلم جرا. وهذه الرتب لا أصل لها في الإسلام، ولا شك أن الإيمان يتفاضل، وأن المؤمنين يتفاضلون، لكن تفاضل الإيمان لم يوكل في الإسلام إلى رجل بعينه هو الذي يرتب مراتب الناس في الإيمان، حتى الرسول عليه الصلاة والسلام مع ما كان ينزل عليه من الوحي لم يكن يشتغل أمام أصحابه بترتيب الدرجات على اطراد، فقد ميز أبا بكر وعمر، وذكر العشرة المبشرين بظهور أحوالهم في الإسلام، أما أنه كان يتتبع عليه الصلاة والسلام ذلك فلا. ولذلك من فقه عمر -كما في البخاري وغيره- أنه قال: إنا كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله ينزل عليه الوحي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فمن أظهر لنا خيراً قبلناه، ومن أظهر لنا خلاف ذلك أخذناه به. أي: أصبحت الأمور تعتبر بالظواهر، وليس المقصود بالظواهر الظواهر البسيطة، بل ظواهر الفقه، فإن الشخص قد يظهر الصدق من حاله، وتقوم القرائن على الصادق وعلى غير الصادق. لكن نظرية ترتيب الداخلين في هذا الانتظام إلى درجات في التقوى، وتنقل الإمام تنتقل هذه من هذه الدرجة الشرعية الدينية وأصبح في هذا اليوم أو في هذا التوقيت أو في هذه السنة في هذه الدرجة، ثم انتقل إلى تلك الدرجة التي هي أرقى من هذه. هذا لا معنى له في العقل، فضلاً عن الشرع، فقد يكون في حاله الأولى التي كانت أنزل في النظم الصوفي أكرم عند الله وأتقى. فالولاية والتقوى في شريعة الله سبحانه تعتبر بما قاله سبحانه في كتابه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. وإذا تأملت القرآن وجدت أن الله سبحانه إذا ذكر الأسماء المطلقة في الغالب، وهي أسماء الكمال الشرعية؛ تجد أن لها تعريفاً يتبعها في سياق الآيات، وهذا حتى لا تترك إلى فهم خاص، كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي: أصبح عندهم الإيمان والديانة في قلوبهم وفي أعمالهم، واتقوا ربهم قدر ما يستطيعون، هؤلاء هم الأولياء، وليست الولاية درجة تمنح إما من شخص معين له مقام أكبر، أو تمنح بتوافق العامة على أن هذا هو الولي بعد فلان، أو هو الخليفة بعد فلان، فإن هذا قد يقبل في الأوجه السياسية -مثلاً- أو غيرها، لكن في مثل هذه الطرق لا يمكن أن تكون الأمور شورى، أي: يكون فلان هو الولي من بعد فلان، أو أن فلاناً يوصي بالولاية من بعده لفلان، فالولاية لم تكن يوماً من الأيام في فقه الإسلام الأول مسألة وصايا: أن فلاناً أوصى أن الولي من بعده أو أن العارف من بعده أو القائم بهذا الأمر من بعده يكون فلان بن فلان، أو تدخل أحياناً مسألة الوراثات الشخصية الخاصة. وينبغي على الداعية والعالم أن لا يصطدم مع العوام في تصحيح هذه المخالفات، فإننا نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين، والاصطدام معهم ليس من الحكمة، لكن ليكون هناك منهج وسطي معتدل حكيم عاقل في التصحيح، وإلا فلست أرى أن من الحكمة أن ينفر الإنسان الناس، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)، ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند هذه الكلمة بقوله: "إن مقصود علي أن بعض العامة ينبغي أن لا يحدث بما هو من السنة أحياناً في بعض المقامات؛ لأنه يقول: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ولو كان مراد علي أنهم لا يحدثون بغير السنة لما قال: أتريدون أن يكذب الله ورسوله، فهذا فقه ينبغي أن يوصل إليه. لكن التصحيح أيضاً مطلب، فليس هناك معنى لأن يبقى المسلمون على إلف وتقليد وتعصب ليس مشروعاً لهم في كتاب ربهم أو في سنة نبيهم، ولكن نوصي هنا بحسن التأتي وحسن الفقه، والرفق في تصحيح بعض هذه الأوضاع الموجودة عند المسلمين اليوم. وقد يكون عند البعض طموح في أن يتجرد الناس عن كل تبعية، وهذا ليس منهجاً ممكن التطبيق في الحال، بل قد يكون في هذا المنهج قدر واسع من المثالية. لكن ما يتعلق بباب العقائد هذا لا يجوز التساهل فيه؛ بل ينبه الخاصة والعامة أنه لا يجوز لأحد أن يختص بعقيدة عن عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو يتميز باسم خاص عن هدي السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم. أما باب السلوك فهو باب أوسع بكثير من الباب الأول؛ لأن هناك درجات ومدارس وطبقات من التصوف هي في جمهور أصولها على السنة والجماعة، لكن اختلفت بعض طرائقهم. فينبغي في مثل هؤلاء أن يخفف عندهم جانب التعصب في هذه الرسومات والامتيازات والرتب وما إلى ذلك، وليس بالضرورة أن يطالبوا بالانطلاق على وضعهم الخاص، فإن هذه المطالبة -وإن كان أحياناً قد يكون لها وجه ما- مطالبة مثالية، تقود إلى تنفير كثير من هؤلاء عن السنة واتباعها إلى مزيد من التعصب والجهل في مثل هذه المقامات. فهذا الباب باب من الحكمة والفقه، لا تنقص فيه الحقيقة الشرعية، لكن تعرف رتب وتفاضل الحقائق الشرعية، وأن بعضها يسع فيه الاجتهاد، وبعضها قد يقع الغلط في مثله، كما يقول أبو عبيد في قول مرجئة الفقهاء: "وبعضه غلط لا يقع المسلم في مثله؛ بل هو وجه من الضلالة البينة".

الاختصاص النسبي

الاختصاص النسبي الرابع: من صور التعصب هنا ما يمكن أن نسميه: الاختصاص النسبي، وهو الطريقة التي توصل العابد إلى مقام المعرفة والحقيقة، والتصوف كما هو معلومأصله يقوم على النفس، وهذا الاختصاص النفسي، أعني: اختصاص هذه المدرسة أو هذا التجمع في السلوك باختصا ... ص نفسي تحصل به الأحوال والمقامات الشرعية، وهذا الاختصاص شائع اليوم، أعني بهذا الاختصاص الطريقة التي توصل العابد إلى مقام المعرفة والحقيقة، وهذا -مع الأسف- يستعمل فيه كثير من الأوجه التي هي من البدع والمحدثات في الإسلام. فتجد أن ثمة طريقة معينة للذكر لها رسم معين في لفظها، ولها رسم معين في وقتها، ولها -أحياناً- رسم معين في كيفية وطريقة الجلوس لها، كترديد -مثلاً- (الله)، بدون إضافة أو وقوع في جملة مركبة، (الله .. الله .. الله)، أو (هو)، وهذه النظم في الطرق في تحصيل السلوك، أو الاختصاص النفسي بهذه، أو تعويد النفس أنها لا تتحرك بإيمانها الصحيح أو معرفتها الصادقة إلا تحت هذه الطرق المحدثة -هذا هو من أشكل ما يعيشه التعصب السلوكي اليوم، بل من قرون كثيرة. وليس المقصود هنا أن ندخل في الحكم بمثل هذا الأمثلة؛ فإن هذا باب آخر، لكن من المعلوم أن الذكر المشروع هو: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو ما إلى ذلك من الجمل التي هي كلام عند العرب، كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... واسم وفعل ثم حرف الكلم أما هذا الاسم المقطوع والمجرد فإنه لا يكون معرفاً بحكم وذكر شرعي صحيح، وإن كان البعض قد يستدل أحياناً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، فليس مقصوده عليه الصلاة والسلام هنا أن الناس يتعبدون بهذه الكلمة، ولو كانت هذه الكلمة تذكر في الذكر وحدها وهي الاسم العظيم لله سبحانه وتعالى لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره وفي تسبيحه لربه سبحانه وتعالى، إنما المقصود هنا أنهم لا يعرفون الله؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: (حتى لا يقال: لا إله إلا الله)، وإن كانت هذه الرواية ليست في الصحيح. المقصود من هذا: أن ما يتعلق بالاختصاص النفسي بطرق، وأن الإيمان يحصل بهذا الاختصاص، ويرون أن غيره من أهل الإسلام الذين معهم في هذا المصر لا يعرفون هذه الخاصية النفسية الصحيحة الموصلة لليقين، والولاية والمعرفة وما إلى ذلك، فهذه الطرق من الاختصاص النفسي في التعبد بدعة في الإسلام. بل ليس هناك اختصاص في الإسلام لأحد، والعبادة الظاهرة والباطنة مفتوحة بهدي الإسلام وشريعته لكل المسلمين، فكل مسلم يمكنه ويسوغ له أن يعبد الله سبحانه وتعالى؛ بكل ما هو مشروع في عبادة الله، إما بصلاة، أو بذكر، أو بصيام، أو بحج، أو بقراءة قرآن، أو ما إلى ذلك. أما أن الوصول إلى الحقيقة والولاية يكون بطريقة معينة، فهذا ليس بصحيح. فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخص طرقاً معينة من العبادة الشرعية وجعلها موصلة للولاية، لا منهجاً خاصاً في الذكر، ولا غير ذلك، بل كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. والإيمان عند أهل السنة والجماعة: اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويجمع بقول السلف: الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل واعتقاد، فيقال: الإيمان اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والتقوى يقاربه كما هو معروف، وإن كانت أوسع متعلقاً بباب الترك. وعليه فمبدأ الاختصاص العبادي والسلوكي ليس له أصل في الإسلام، والاختصاص المذموم هو الاختصاص الذي يكون تحت انتظام لطائفة أو مدرسة معينة في السلوك، أما أن بعض المسلمين تكون نفسه قابلة للصيام أكثر من قبولها وقوتها على الجهاد والقتال مثلاً، فإن هذا شأن بدني، وشأن موجود زمن الصحابة رضي الله عنهم، فبعض النفوس تقوى على الصيام، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على قيام الليل، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على كثير من الذكر، وبعضها تقوى على غير ذلك، فهذا التفاضل والاختلاف والتنوع ليس هو المقصود هنا؛ فإن التنوع شيء والاختصاص شيء آخر. فالتنوع يعني المحافظة على أصول الإسلام؛ كالصلوات الخمس وأركانها، مع اختيار في المشروعات والمستحبات هذا هو التنوع الذي كان يعيشه الصحابة، أما الذي نقوله هنا -وهو ليس مشروعاً- فهو الاختصاص بطرق معينة، كأن يكون هناك مجموعة أشياء لا بد للإنسان أن يطبقها، مثل: ذكر في كل جمعة بطريقة معينة، حضرة بطريقة معينة، جلسة بطريقة معينة، إحياء ليلة من السنة بطريقة معينة، هذه التخصيصات لتحصيل الوصول النفسي والولاية ليس عليها آثار شرعية بينة، وهذا واضح في قراءة هدي الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى في هدي الشيوخ العارفين من بعد الصحابة، كـ الفضيل بن عياض، أو إبراهيم بن أدهم، أو شقيق البلخي، أو حتى مثل الجنيد بن محمد من مقتصدة الصوفية، لا نجد أنهم يلتفتون إلى مثل هذه الطرق. وهذا إذا كان الاختصاص فيه قدر من المقاربة، فما بالك إذا كان الاختصاص بوجه من الغلو الذي يؤدي إلى تعطيل كثير من الشرائع، كما هو عليه الغالية من الباطنية، فإن هذا شأنه أنكر وأبعد.

البعد عن علم الشريعة المفصل

البعد عن علم الشريعة المفصل الخامس: البعد عن علم الشريعة المفصل، فمن آثار التعصب عند العامة: أنهم لما سلموا للخاصة، وصاروا يجعلون التعبد قدراً من السر، أي: أنه نظرية تلقي مجردة، فكأن أسرار هذا التعبد هي عند هذا العارف، فيكون له من الأسرار والحقائق ما لا يصل إليه العامة، ومن هنا تبدأ نظرية الرتب والترقي، حيث يكون المترقي يبحث عن الوصول إلى درجة اليقين والمعرفة، فتحول السلوك في الإسلام داخل هذه المدارس إلى نوع من السر، فإنه ليس أمام المقتدي أو المريد إلا أن يتحرك بما يرسم له، وهذا لم يكن منهجاً شرعياً في أول الإسلام. بل في الإسلام أن العبادة فرع عن العلم؛ فهذا البخاري رحمه الله -وهو من فقهاء المحدثين- يقول في صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل"، فالعبادة لم تكن في الإسلام نوعاً من السر الخاص، ولم يكن له عليه الصلاة والسلام شيء من العبادة في السر الخاص، على معنى أنها عبادة ليست مكشوفة للأمة. وهذا بخلاف القيام بوجه من العبادة بعيداً عن أعين الناس؛ فإن هذا باب معروف، وباب مشروع، وفي كتاب الله تعالى في وصف المؤمنين: أن في صفاتهم ما يتضمن إظهار الخير والمعروف، وفي صفاتهم ما يتضمن القيام به على وجه من البعد عن أعين الناس، ومن المعلوم أنه عرض لرجال -ليسوا من كبار الصحابة- في زمن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث أنس وغيره- أن للرسول صلى الله عليه وسلم عبادة خاصة، فجاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم -أي: بيوت أزواجه- فسألوا عن عمله في السر، فما رأوا فيه كبيراً عن عمله الظاهر، أي: لم يكتشف هؤلاء السائلون أنه صلى الله عليه وسلم كان عنده أسرار خاصة في اتصاله بربه، بل كان له أحوال من قيام الليل وذكر الله يعلمها أصحابه، وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث بها الصحابة، فلم تكن مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأشياء، مثل الوصال، ونهى أصحابه عنه، وهذه مسائل معروفة في الشريعة، أما أن العبادة لها أنظمة في سر النفس هي التي تترقى بها، فهذا ليس كذلك، والتوفيق في الإسلام هو اتصال بعبادة الله وحده كما شرع الله ورسوله. فمسألة السر هذه مسألة محدثة، سواء سميت سراً، أو طبقت بطريقة معينة تحت هذا المفهوم، وهذا الانتظام في أن الولاية درجة من اليقين يترقى فيها بالسر، هذا هو الذي أبعد العامة عن العلم المشروع؛ ولذلك كثر في الصوفية -حتى من الخاصة منهم- الجهل بمعرفة الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، حتى إنك تجد بعض الرموز الكبار من العارفين والسالكين في الإسلام كـ أبي حامد الغزالي، والذي له من الفضائل والاختصاص والتأله والديانة والنسك فضلاً عن العلم في الفقه والأصول ونحو ذلك، تجده يقول عن نفسه: "إن بضاعته في الحديث مزجاة"، ولذلك ذكر في إحياء علوم الدين أحاديث صحيحة، ودخل عليه شيء من الأحاديث المتروكة بل والموضوعة. فهذا التعصب عند العوام قاد إلى البعد عن العلم الشرعي، ولا يتبادر إلى الذهن إذا قلنا: العلم الشرعي، أن المقصود أنهم لم يتعلموا تفصيل الأحكام الموجودة في كتب الفقهاء والمذاهب الفقهية وما إلى ذلك، فإن هذا نوع من العلم الشرعي، لكن المقصود بالعلم الشرعي هنا: هو العلم الشرعي في السلوك، كمعرفة صور الذكر المشروعة الثابتة في البخاري ومسلم وكتب السنة المعتبرة، وكمعرفة صور العبادة المشروعة، فالعناية بهذه العلميات التي هي صور العمل المشروع فيه فقر كثير في هذا الباب.

منهج تصحيح الانحراف في باب السلوك

منهج تصحيح الانحراف في باب السلوك هذه الأوجه الخمسة هي التي مثلت صور التعصب، وقبل أن ننتقل عن هذه الجملة وهي التعصب في السلوك أؤكد كلمة سبقت، وهي: أن باب السلوك فيه نسبة من الاجتهاد، وإن كانت الصوفية الغالية رتبت مفهوم السلوك والتصوف على العقائد والتصورات والتصديقات التي ابتدعوها، أو دخلت عليهم من بعض الطرق الكلامية أو الفلسفية أو غير ذلك. ومن هنا يجب أن لا يبدأ منهج التصحيح لمسائل السلوك بالأقل، بل يجب أن يبدأ التصحيح في الأمور التي تخالف أصولاً شرعية، أما الأمور التي يحتمل شأنها وإن كانت خطأ فهذه يتأخر القول فيها، وأما الأمور التي تقبل الاجتهاد وتقبل التنوع فهذه ينبغي أن يوسع فيها. ويمكن أن يقال: إن المسائل قد تكون إجماعاً صريحاً شائعاً من أصول الإسلام البينة، فهذه يبتدأ بذكرها، ولا يجامل أحد فيها، وهناك مسائل قد تكون وجهاً من الإجماع عند الأئمة وكبار أهل العلم، لكنها تخفى على كثير من العامة، بل وبعض المتأخرين من أهل العلم، فهذه لا بأس أن يتأخر في تصحيحها، وهي التي قال عنها أبو عبيد: "في أمر قد يقع الغلط في مثله"، هذا مع أن مرجئة الفقهاء خالفوا الإجماع، ولم يكن أبو عبيد رحمه الله مختصراً للحقيقة الشرعية، بل رد على هذا المذهب رداً مفصلاً في كتابه، لكنه أشار هذه الإشارة، ولم يجرد أصحابها، بل قال: "هم من أهل العلم والعناية بالدين". أما ما كان خطأ محتملاً، وكثير منه يسع فيه الاجتهاد والتعدد، فهذا يتأخر في أمره، وأما المطالبة لأهل السلوك أو أهل التصوف بمطالب حرفية معينة هي اجتهاد لبعض طلاب العلم أو نحوهم، فإن هذه المطالبة في الغالب لا تكون مطالبة حكيمة، فالسير بالفقه، والترقي في التصحيح، وعدم الإقرار على البدع، ومعرفة أوجه التصحيح، والعناية بكليات الشريعة وأصول الدين وأصول العقائد وأصول السلف، هذه هي التي يقصد إلى العناية بها ابتداءً. وأما ما دون ذلك فيترقى في تصحيحه؛ لأن هؤلاء العامة ألفوا كثيراً، وقد ترفق أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في دعوة قومهم؛ وذلك لأنه بلا شك أن موجب التعصب والعوائد والتقليد هي التي تحاصر عقول كثير من عوام المسلمين اليوم، ليس في باب السلوك فقط، بل في أمور كثيرة؛ لأن النفس ألوفة، ولا سيما إذا دخلت في مسائل الالتزامات والمراسيم الخاصة، فيكون الإنسان من العامة أحياناً مندمجاً في هذا الاجتماع أو هذا التجمع. أضف إلى ذلك أنه إذا جاءت مسألة الأرزاق ومن يسميهم ابن تيمية بصوفية الأرزاق، فإن الجانب المادي والاقتصادي يكون أحياناً مؤثراً في تعصب كثير من العامة، ولكن طالب العلم والعارف بالسنة وهدي السلف لا بد أن يكون بصيراً، ويعنى بالتصحيح في الأصول الكلية. وأقول: إن أخص ما يجب التصحيح فيه اليوم هو توحيد الألوهية؛ فإنه -مع الأسف- هو الذي ينتشر عند كثير من عوام المسلمين اليوم الغلط فيه؛ إما ببدع، أو بشرك أصغر، أو بما هو في حقيقة الشريعة وجه من أوجه الشرك الأكبر، ومظاهر المشاهد وما عندها من البدع والخرافات والفلسفات هذه يجب أن يكون هو الهم الأعظم لتصحيح مبادئ الإسلام الكلية الأولى؛ فإن هذا هو المقصود الأول في دين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما التفاصيل بعد ذلك فيكون الإنسان فقيهاً في القصد إلى تصحيحها، وما تحتمله سعة الشريعة فينبغي أن لا يشدد فيه. لكن من الذي يحدد أن هذا تحتمله سعة الشريعة أو لا تحتمله؟ أقول: من لا يجد في نفسه علماً وفقهاً واسعاً فينبغي له أن لا يجعل نفسه فيصلاً في الأمور؛ فمثلاً مسألة توحيد العبادة مسألة محكمة، لا تستطيع أن تقول لشخص: انتبه لا تصحح؛ لكن هناك أمور قد لا يكون الإنسان أو حتى طالب العلم على بصيرة في درجة حكمها من الشريعة، فمثل هذه الأمور لا يعزم فيها بشيء إلا حيث يعلم علماً بيناً أن الشريعة قدمته.

التمذهب والتقليد الفقهي

التمذهب والتقليد الفقهي كتكميل للقول في التعصب، وقد أشرت إلى ظهور التعصب الفقهي، أو نسميه: التقليد الفقهي، مع أن الاسمين بينهما اختلاف. أقول: إن التقليد الفقهي هو آخر هذه الانتظامات وجوداً، مع أنه من حيث الإمكان الشرعي العام ومن حيث الاقتضاء العقلي هو أفضل شرعاً وعقلاً من وجود التعصب العقدي والتعصب السلوكي؛ وذلك لأن الجانب الفقهي الذي هو مسائل الفروع، كثير منها -أو أكثرها- يدخلها الاجتهاد، فإن المختلف فيه من مسائل الفقهاء أكثر من المجمع عليه بين الفقهاء، فإن المختلف فيه بين الفقهاء قد تكلم فيه الأئمة بكلام ظهر لأجله في تاريخ الإسلام مدارس، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وقد كانت أكثر من العدد الموجود، ثم انتظمت أو استقرت على أربع مدارس، وهي مدرسة: المالكية -بعبارة أصح؛ لأن مالكاً ما قصد أن يصنع مدرسة-، مدرسة المالكية والحنبلية والشافعية والحنفية. هذا الذي يسمى بالتمذهب، أو المذهبية الفقهية، هل يقال أنها صحيحة أو ليست كذلك؟ أولاً: هذا الاسم -أعني: التمذهب- يمكن أن يختصر القول فيه بأنه اسم مشترك، وهو من حيث الواقع التاريخي تمثل في وجهين: الوجه الأول: يسمى سائغاً شرعاً. الوجه الثاني: يسمى مذموماً شرعاً. فإن التقليد منه ما هو سائغ، ومنه ما ليس كذلك.

التمذهب الجائز

التمذهب الجائز إذا كان التمذهب على معنى التراتيب على أصول إمام معين من المجتهدين الأوائل في فقه الاستنباط، فالتمذهب الذي يقتصر على هذا الوجه تمذهب جائز، لا نقول: إنه مشروع شرعية خاصة، لكنه جائز؛ لأن القول بأنه مشروع يلزم منه جعل باب الاجتهاد ليس مشروعاً أو ليس فاضلاً، وهذا هو الذي عليه المحققون من المنتسبين للمذاهب الأربعة، فهم متمذهبون، ولكن على معنى التراتيب العلمية، وباب التراتيب العملية ليس له علاقة بمسألة السنة والبدعة، بل إنه هذا اختيار خاص، فإنه من المعلوم أن عقيدة المسلمين وأصول دينهم يستدل عليها بالكتاب والسنة والإجماع، أما مسائل الفروع وما يدخلها من التفاصيل، وما يدخلها من النوازل التي قد لا تتناهى، فإن صريح النصوص لا يجمع هذه الأفعال التي تحدث من المكلفين، يقول ابن رشد: "إن النص له حد أو مجموعة من النصوص نزلت على هذه الأمة وأوحى الله إلى هذه الأمة، أما أفعال المكلفين فهي غير متناهية، وتحته صور، ومن هنا ظهر مصطلح الأدلة المختلف فيها، فما لم يوجد فيه نص أو إجماع فيعمل فيه بقول الصحابة، وإذا اختلف الصحابة فيعمل فيه بقياس، وهو إلحاق الفرع بالأصل، أو قياس الشمول، وإذا لم يوجد نص ولا إجماع أيعمل بالمصطلحة المرسلة؟ وإذا لم يوجد نص ولا إجماع أيعمل بعمل أهل المدينة كما يقوله مالك وجماعة؟ أيضاً: النص نفسه، نجد أن دلالة النص يمكن أن تقسم إلى أوجه، مثل: المنطوق والمفهوم، ثم المفهوم جملة من الصور والدرجات، هل تطرد هذه في العمل والتشريع والحكم أم لا؟ وعلى كل حال هذا باب واسع في أصول الفقه. فأئمة السلف -ومنهم الأئمة الأربعة- جميعهم متفقون في الفقه أنه يستدل بالكتاب والسنة والإجماع، لكن الاختلاف في المسائل التي ليست صريحة في هذه الأصول الثلاثة، من أين تؤخذ؟ فـ أبو حنيفة له منهج في اعتبار طرق وأصول معينة يستدل بها إذا لم يجد نصاً ولا إجماعاً، ولـ أحمد وكثير من أهل الحديث طريقة، ولكثير من أهل المدينة طريقة، فهذا منطق شرعي مقبول، ووضع شرعي أو حالة وجدت لا إشكال فيها شرعاً، ولما جاء أصحابهم وانتظم علم الحديث، وكتبت كتب المحدثين، وتأصلت الأمور في صدر الإسلام الأول؛ وجد هناك الأصحاب الذين يقتدون بهذا الإمام أو ذاك، فاشتهر هؤلاء الأئمة الأربعة، مع أن أصول أبي حنيفة أو مالك أو أحمد ليست خاصة به، بل ما ذكره أبو حنيفة عليه كثير من الكوفيين، والأصول عند أحمد في قول الصحابي وتقديمه وما إلى ذلك عليها كثير من أهل الحديث، وما عليه مالك عليه كثير من أئمة المدينة النبوية، لكنها ظهرت بأسماء هؤلاء. فالمنتمي لهذه المذاهب الفقهية -كمن ينتمي للشافعي، أو لـ أبي حنيفة أو لـ أحمد أو لـ مالك - إذا كان انتماؤه على معنى أنه قلد أحد هؤلاء الأئمة في اختياره في الأصول التي يستدل عليها فهذا جائز. لكن المشكلة اليوم أن البعض يسقطون المذهبية من أولها إلى آخرها وليس هناك بديل منتظم في القواعد الشرعية كمنهج يكون عليه نظام الاستدلال، حتى لا يقع الفقيه أو طالب العلم في الاضطراب، ولذلك نجد أنه عند المتقدمين انتظام في الاستدلال، فتقديم قول الصحابي عند أحمد على جمهور صور القياس كتقديم أبي حنيفة للقياس على كثير من قول الصحابة في بعض المسائل، فهذا له انتظام؛ ولذلك نجد أن طريقته في كتاب الصلاة هي الطريقة في كتاب الزكاة وهي الطريقة في البيوع .. وهلم جرا. فلا بد من وجود منهج ينتظم، وهذا موجود حتى عند ابن حزم؛ فإنه لما قال: أنا أنطلق من النص ليس إلا؛ فإن هذا كمبدأ شرعي وسلفي ومفهوم إيماني لا أحد ينازع فيه؛ لأن الناس متعبدون بما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن تحصيل الأحكام الفقهية غير المتناهية من نص الكتاب أو نص السنة لا بد أن يكون له منهج، فالقياس داخل في النص، فهو إلحاق فرع بأصل، ومسألة المنطوق والمفهوم، وأن المفهوم مأخوذ من النص هل يعتبر أم لا يعتبر؟ وهلم جرا. فليس هناك انفكاك مطلق عن النص، بل حتى في فقه المتقدمين؛ فإنهم صرحوا بقول الصحابي، مع أن قول الصحابي قد يبدو أنه أكثر انفكاكاً عن النص من القياس؛ لأن القياس إلحاق الفرع بأصل لاتفاقهما في العلة، فقد يبدو للبعض -كما بدا لكثير من الكوفيين- أن القياس أولى من كلام كثير من الصحابة، والإمام أحمد كان له اعتبار، وبعض المحدثين كان لهم اعتبار آخر. على كل حال: هذه مسائل محتملة في التنظير لأصول فقه المسلمين وتشريعهم وعبادتهم؛ لذلك نقول باختصار: من انتحل التمذهب الفقهي كترتيب علمي واختيار علمي فهذا سائغ، والدليل على ذلك إذا أردت مثالاً بسيطاً للإدراك: الآن لو أن شخصاً ما قلد عالماً من العلماء السابقين أو المعاصرين في مسألة معينة، سألهم فأجابوه فاقتنع بجوابهم، مثلاً: قال له: هل أصلي صلاة تحية المسجد في وقت ما؟ فقال: لا، فاقتنع بجوابه، أو قال: نعم، فاقتنع بجوابه بدليل ذكره أو نحو ذلك، فهل يقول أحد: إن هذا من البدعة أو من المحرم أو من المنكر في الإسلام؟ الجواب: لا، بل هذا موجود ولم يزال موجوداً، وهو مقر حتى في القرآن في قول الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. فكذلك الفقيه الحنبلي أو المالكي لما رأى أن أصول مالك في الاستدلال أجود من أصول أبي حنيفة، انتسب إليها حتى ينتظم فقه، وهكذا.

التمذهب المذموم

التمذهب المذموم فالمقصود: أن من انتظم لإمام من كبار المجتهدين في أصول فقهه وطريقته في الاستدلال، فهذا ترتيب علمي، ولا يدخل في الحسابات الدينية الخاصة، وأما من اتخذ التمذهب الفقهي بمعنى الاطراد في التسليم لسائر الفروع الفقهية المقولة في المذهب، واعتبار العمل والفتوى بها، وإغلاق النفس عن البحث في الدليل، فهذا هو التقليد المذموم، فإذا ذكر له دليل في مسألة من المسائل على خلاف قول المذهب ولم يستطع الجواب عنه، لكنه يبقى مع ذلك مصراً على هذا المذهب، فهذا وجه من التقليد المذموم الذي لا ينبغي للعالم أن يكون عليه. لكن التمذهب من حيث الواقع التاريخي وجد من هو على الوجه الأول، وهم المحققون من المتمذهبين، ووجد من هو على الوجه الثاني، فهذا موجود وهذا موجود، وبهذا يعلم أن إنكار التمذهب مطلقاً ليس لازماً شرعياً، ليس هو اختصاصاً عقدياً، ولو كان اختصاصا ًعقدياً لكان الاختصاص باسم فقيه بدعة، لكنه اختصاص فيما يسوغ فيه التعدد، وكقاعدة شرعية وعقلية: إذا ساغ التعدد والاجتهاد شرعاً واختلف الرأي فلا يسوغ -بل هذا هو الممكن- ولا يمكن شرعاً ولا عقلاً إلا اختيار رأي واحد. ومثال ذلك: أن مالكاً يرى أن عمل أهل المدينة حجة، والجمهور لا يرونه حجة، فهل يمكن القول بجمع الجميع، كما جمعناهم في قولهم: الإيمان قول وعمل؟ الجواب: لا؛ لأن قولهم: الإيمان قول وعمل هم مجتمعون عليه، لكن في هذه التراتيب الفقهية هم مختلفون، فانتسابك لـ مالك كترتيب في أصول الاستدلال أو لـ أبي حنيفة أو للشافعي أو لـ أحمد انتساب لا إشكال فيه من جهة الشرع ومن جهة الحكمة العقلية العامة. لكن إذا زاد الأمر عن هذا الترتيب العلمي إلى درجة التسليم المطلق لسائر فروع المذهب وأصحابه الذين كتبوه، والبعد عن النظر في الدليل واتباع السنة، فلا شك أن هذا من التقليد المذموم، وهو تعصب لا يجوز إقراره.

إمكان الاجتهاد لمن توفرت لديه آلته وموجباته

إمكان الاجتهاد لمن توفرت لديه آلته وموجباته لكن أيضاً يقال من باب الاعتدال: من قام فيه موجب الاجتهاد الشرعي، وانتظمت الحال عنده، فلا يلزمه أن يبني بالضرورة على أحد هذه المذاهب. بل إذا اجتمع له في اجتهاده أنه بنى على أصول الأئمة المتقدمين المعتبرة، فلم يخرج بوجه من الشذوذ، فإن هذا مما يقر؛ لأن باب الاجتهاد لم يغلق في الإسلام، ولا يجوز لأحد أن يقول في يوم من الأيام: إن المسلمين اليوم لا بد أن يكونوا مقلدين وأن الاجتهاد انتهى؛ بل متى ما وجد المجتهد وتوفرت فيه آلة الاجتهاد فإنه لا بد أن يجتهد، ويجب عليه أن يجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد، بمعنى: يجب عليه أن يجتهد في المسائل التي لم يسبق لأحد فيها قول، وهذه القضية اليوم قائمة في تاريخ المسلمين فيما يسمى: بالنوازل. فالنوازل لا بد من مجتهد فيها، وقد يرد المجتهد هذه النوازل إلى الأصول الشرعية والنصوص، لكن إن لم يكن على رتبة عالية في الاجتهاد فإنه يرد هذه المسائل إلى فروع فقهية سابقة، فيحاول أن يخرج هذه المسألة النادرة على فرع مذهبي سابق، وهذه في نظري -مع أنها هي المتداولة اليوم- لا تبشر بخير في وضع المسلمين، فإنه قد تأتي نازلة في مسألة فتجد أن بعض علماء العصر يضيقون عنها، ثم يأتي شخص قد أتعب نفسه في البحث فيقول: يوجد عند الحنفية في حاشية كذا، أو بعض الحواشي المتأخرة في كتب الحنيفة أو المالكية فرع يمكن أن ترد المسألة لذلك الفرع. لكن: ما هي المواصفات التي كان ذاك الفقيه الحنفي الذي جاء في القرن التاسع أو الثامن بحيث أنك تجعل هذه النازلة تحكم هذا الحكم؟ الأولى هنا أن هذه النازلة ترد إلى النصوص، وأن يتوافر في المسلمين من عنده ملكة الاجتهاد وحسن المنهج والفقه لقواعد السلف الأول في الاستدلال وما إلى ذلك، وهذا شأن إنما يشار به إلى أن إغلاق باب الاجتهاد ليس منهجاً معتدلاً، ولا من الحكمة. لكن الذي يجب أن يقال: إن الاجتهاد لا بد أن يكون منضبطاً بحسب الأصول.

القول الوسط في حكم التمذهب

القول الوسط في حكم التمذهب إذاً: ذم التمذهب بإطلاق ليس حكيماً، وإلزام الناس به ليس حكيماً، فإذا وجد من لا يفكر بالتمذهب ويقول: أنا الآن لا يلزمني أن أتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، بل أتبع ما يفتي به الإمام أو العالم فلان من فقهاء الأمصار الموجودين، كما نقلد الفقه الذي قاله وكتبه الشيخ الألباني رحمه الله، فيقال: هذا وجه من الفقه ووجه من العلم، ووجه من التقليد السائغ، ومن يقلد بعض العلماء -كالشيخ ابن باز مثلاً- في سابق من الأمر، أو يقلد عالماً من المالكية أو الشافعية أو الحنفية في بلده، ومن يروم الوصل إلى تقليد أحد المذاهب الأربعة كما هو عليه كثير من عوام المسلمين؛ فهذا يقر، مع تنبيه هؤلاء إلى التقليد السائغ والتقليد غير السائغ، وهو أن التقليد -بغض النظر عن الاسم المقلد- إذا تعدى إلى ترك الدليل فإنه لا يكون سائغاً. لكن من الذي يستطيع أن يقول: إن هذا التقليد تعدى إلى ترك الدليل أو لم يتعد؟ إذا خالف قولك هؤلاء العامة من أهل هذا المصر، كما يقول البعض أحياناً: في بلدنا يضعون أيديهم على الصدر بعد الرفع من الركوع، فيتمذهبون بالمذاهب التقليدية الفقهية، ولا يطبقون السنة في إسبال اليدين، فإن هذه مسألة محتملة، وهو هنا قد جعل التقليد مقابل الدليل، وهذا ليس حكيماً؛ التقليد لا يقابله الدليل، بل التقليد يقابل الاجتهاد، وإلا فالأصل أن المقلد يقلد عالماً بنى على دليل. فمثل هذا الأمر الذي يراه بعض الحريصين على السنة، مع أنه حرص فاضل لكن ينبغي أن يكون معتدلاً؛ لأنه من كثر علمه بفروع الفقهاء وأقوالهم يحمسه ذلك في الخلاف الفقهي، فصار يرجح لأن هذا هو الظاهر وهذا هو الأقرب، وهذا ليس بحكيم، ولا سيما إذا كان المذهب هو مذهب الجمهور من الفقهاء، فينبغي لطالب العلم أن يترفق في مخالفته، ويجب عليه أن يقتدي بالدليل في سائر موارده، لكن يعرف للجمهور المتقدمين قدرهم. أحياناً نسمع من بعض طلاب العلم عن قول من الأقوال: إن هذا القول لا دليل عليه، مثلاً: هل غسل الجمعة واجب أم ليس بواجب؟ فيقول: غسل الجمعة واجب، وهذا هو السنة، وهو الصريح في الصحيحين من حيث أبي سعيد: (غسل الجمعة واجب على محتلم)، فإذا قيل له: والقول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، قال: هذا القول لا دليل عليه، وإذا رجعت وجدت أن القول بأن غسل الجمعة ليس واجباً هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور من المتقدمين، بل حكي الإجماع عليه، وليس المراد هنا أن نقول هو الراجح، كلا! فإن هذه مسألة سهلة ليس المراد أن نقول: إنه راجح ولا أن نقول إنه مرجوح، لكن المقصود: هو أن لا يتربى الإنسان على منهج (لا دليل عليه) مع أنه قول الجماهير، وذلك لأجل ظاهر ظهر له من بعض النصوص، مع أن الظاهر أنه جواب، والأجوبة بينة، ومن يستقرأ النصوص لا يأخذ من حديث أبي سعيد الوجوب الذي هو الإلزام؛ لأن النبي نطق بكلمة الوجوب في مسائل قد أجمع سائر الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين على أنها ليست فرض عين، كقوله في الصحيح: (خمس تجب للمسلم على أخيه) مع وجود الإجماع على أن هذه ليست من فروض الأعيان. أيضاً لو أكملنا هذا الحديث كما في رواية الصحيح عند مسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه) فقوله: (وسواك) معطوف، والتقدير اللغوي هنا والسواك واجب، البعض قد يقول: هذه دلالة الاقتران، وهي ضعيفة، مع أن هذا لا علاقة له بدلالة الاقتران لا من قريب ولا من بعيد. فأحياناً البعض -إن صحت العبارة- يختطف بعض الكلمات الأصولية أو القواعد الأصولية اختطافاً غير رشيد، فيستعملها بطريقة ليست منتظمة ولا صحيحة، وتقدير الكلام عند العرب هنا بين: (وسواك) أي: وسواك واجب، لأن الاسم هنا قطع عن تكملة جملته وخبره. فالشاهد: لم يقل أحد بأن السواك واجب، والقضية لست قضية مماحكة، فتقول: لا، نقل عن إسحاق بن إبراهيم أنه يرى الوجوب، فليست القضية قضية معاداة، بل إنها قضية وصول إلى حكم شرعي معتدل. فالذي أقصده: أن ترك التمذهب يجب أن يكون معتدلاً، وليس التمذهب ينزع من الإنسان كونه سنياً أو سلفياً، بل من تمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة واقتصد في تمذهبه وعني بالدليل، فهذا إذا كانت أصوله على السنة والجماعة فهو من أهل السنة والجماعة، ومن ترك التمذهب لتقليد إمام، أو لكونه من أهل الاجتهاد، فهذا أيضاً شأن واسع إذا انتظم أمره. هذا ما يتعلق بمسألة التمذهب الفقهي، وعليه نجد أن التقليد والتعصب بدأ بالعقائد، ثم في السلوك، ثم في باب الفقه، وباب الفقه هو أوسعها وأرفقها، فأصله على الجواز، وجملته الجامعة ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الجمهور من الأئمة يذهبون إلى أن التقليد جائز، والاجتهاد جائز، فمن كان أهلاً للاجتهاد صار حكمه فيه إليه، ومن كان ليس كذلك صار حكمه إلى وجه من التقليد. والتقليد أوسع من التمذهب فقد يكون التقليد لأحد المذاهب الأربعة، وقد يكون التقليد لعالم متأخر في تاريخ المسلمين اجتمع له فقه واسع وإمامة في الدين، كبعض العلماء الذين سبقت الإشارة إليهم. هذا جملة القول في مسألة التعصب الذي هو موجب خروج جمهور العامة من أهل السلوك والتصوف عن الوسطية الشرعية إلى أوجه مبتدعة، أو على أقل الأحوال إلى أوجه مخالفة للسنة.

شرح الوصية الكبرى [9]

شرح الوصية الكبرى [9] الغلو من أسباب الخروج عن الوسطية الشرعية، ومن صوره الغلو في المشايخ والصالحين، وأشد منه الغلو فيمن يعتقد فيه الصلاح مع أنه بخلاف ذلك، والواجب أن يدفع هذا الغلو بالتمسك بالسنة، والاقتصاد في السنة؛ فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.

الغلو في المشايخ ومن يعتقد فيه الصلاح

الغلو في المشايخ ومن يعتقد فيه الصلاح قال شيخ الإسلام قدس الله سره: [وكذلك الغلو في بعض المشايخ: إما في الشيخ عدي ويونس القيني أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوه، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه. فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح؛ مثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كـ الحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر]. الحاكم الذي كان بمصر هو الحاكم العبيدي؛ فإن العبيديين الذين بنوا القاهرة في مصر أسسوا كثيراً من الأحوال المعمارية والمدنية، حكموا مصر مائتي سنة، وهم على مذهب الباطنية، ثم انتهى أمرهم بمجيء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. والمقصود هنا: أن من يُتعصب له من الشيوخ قد تكون حاله المعروفة والمستفيضة أنه من الأولياء والصالحين وأهل الاقتداء، لكن الإشكال الأكثر أن يكون المقتدى به يظن فيه أنه من أهل الولاية والصلاح مع أن عنده انحرافاً عن السنة وأصول السنة والجماعة؛ ولذلك قال المصنف: (فيمن يعتقد فيه الصلاح كـ الحلاج)؛ فإن الحلاج كان رجلاً مائلاً إلى التصوف الفلسفي، وله كلام في وحدة الوجود، ونقلت عنه أمور كثيرة وكتب على وجه من الانحراف في الديانة، فلم يكن رجلاً محمود الحال، وقد افتتن به كثير من العامة، لكن هذا الافتتان من العامة ببعض الخاصة المنحرفين عن أصول السنة وأصول الإسلام العامة، لا يجوز أن يحكم على المفتتنين بهذا المعين بالحكم الذي يحكم به على ذلك المعين؛ لأن العامي قد يظن فيه خيراً، وخاصة في باب التصوف؛ فإن الخفاء فيه كثير؛ لأن السر فيه كثير، واللغة فيه لغة تقوم على الرمز، حتى إن ابن تيمية رحمه الله كان يقول: "إني كنت وبعض الإخوة نقرأ في الفتوحات المكية لـ ابن عربي " مع أنه إذا قرأت في آخر كلام ابن تيمية وجدت ماذا يقول في ابن عربي؛ وذلك لأن بعض كلام هؤلاء يكون مقبولاً، وبعضه يكون مجملاً، وبعضه قد لا يصل إليه العامة، فلا يلزم أن العوام يعطون حكم الخواص باطراد، بل نظرية الاتباع والقياس هذه إنما تقال في الأمور الكلية، كالقول: إن الانتساب لهذا الرجل بدعة، أما الحكم التفصيلي فإن كل معين يعطى حكماً تفصيلاً بحسب ما علم من حاله المعين، أما أن يقال: أتباع فلان كلهم على مذهب فلان وعلى حكم فلان، فهذا ليس بلازم. [أو يونس القيني ونحوهم، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده]. في كلام بعض أهل العلم أن الرسل بعثوا بتوحيد الألوهية، وأن توحيد الألوهية حقيقته يتضمن القول في الربوبية، فمن لم يعبد الله سبحانه الخالق الرازق لم يحقق لا توحيد الألوهية ولا توحيد الربوبية. لكن فقه توحيد الربوبية مهم، وهذا لا يعني التقصير في العناية بتوحيد الألوهية، لكن إنما كان مهماً لأنه هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وهو أصل الدين الذي هو التوحيد، والتوحيد واحد، وهو معرفة الله وإفراده بالعبادة، وتقسيم أهل العلم للتوحيد إنما هو من باب الترتيب العلمي. فالتوحيد حقيقته الشرعية معرفة الله، كما يقول ابن تيمية: "التوحيد معرفة الله وعبادته" أي: إفراده بالعبادة" فقضايا توحيد الربوبية تخفى على كثير من العوام، وهناك مصطلحات يجب الابتعاد عنها؛ فمثلاً: مصطلح الولي مصطلح شرعي، ومصطلح العارف وإن كان مصطلحاً ليس منصوصاً عليه شرعاً، لكن شأنه مقارب الحال، فهو لا يحمل معنى بعيداً مخالفاً للشرع؛ لأن العارف من المعرفة، والمقصود بالمعرفة هنا المعرفة بالشريعة والحقائق الشرعية، فهو مصطلح فيه سعة إذا ما اقتصد في تفسيره. لكن ظهرت مصطلحات في بعض أحوال السلوك؛ كمصطلح القطب والغوث، فهذه المصطلحات يجب أن يبتعد عنها الخاصة والعامة من المسلمين السالكين؛ لأن فيها إدخالاً لمسائل التأثيرات القومية لبعض الشيوخ، وإعطاءهم بعض هذه الخصائص، وهذا من أوجه الانحراف عن توحيد الربوبية.

دفع الغلو بالاقتصاد في السنة

دفع الغلو بالاقتصاد في السنة قال المصنف رحمه الله: [ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن، وسائر الصفات]. الرابط بين مسألة الغلو والاقتصاد في السنة: هو أن دفع التعصب ودفع الغلو لا يجوز أن يكون بغلو مطابق، وهذا يفوت على كثير من العامة المتبعين للسنة، ويجعلهم يتعصبون أكثر لما هم عليه من الخطأ، فقد يكون بعض العوام من المسلمين ضل على هذا الوجه فأول ما يأتيه من يتكلم باسم السنة والدعوة للدليل تفاجأ بطبيعة خاصة عنده، إما ضيق في الخلق أو شدة في التعامل، أو غلظ في الإنكار أو مبالغة في التخطئة، أو أحياناً تصل الأمور إلى تكفير فيما لا يصل الأمر فيه إلى ذلك. وهذا يزيد الأمر تعصباً وإغلاقاً، ولذلك لا بد لدفع الغلو والتعصب الموجود والشائع عند كثير من عوام المسلمين اليوم لهذه الأوجه المحدثة في الإسلام، أن يكون ذلك اقتصاداً في السنة واتباعها والدعوة إليها. إذاً: يدفع هذا التعصب بالاقتصاد في السنة؛ وإذا قيل: الاقتصاد في السنة فإنه يجمع معنيين: المعنى الأول: هو اتباع السنة، وهذا يؤخذ من ذكر السنة. المعنى الثاني: هو الفقه والاعتدال، وهذا تأخذه من كلمة الاقتصاد. فمن يريد أن يصحح الغلو في مذهب آخر بغير السنة فلن يصل إلى نتيجة صحيحة، ومن يقصد إلى السنة لكن بغير اعتدال وحكمة واقتصاد فهذا ربما زاد الأمر سوءاً، ولو كانت أصوله العلمية أصولاً صحيحة؛ لأن الناس في التصحيح يحتاجون إلى علم، وهذا من المبادئ الأساسية، وليس من الآداب العامة، فإن بعض الناس لا يرى العلم إلا إذا قيل: قال الشافعي .. قال الحنفية .. قال فلان .. أي معرفة الفقه المقارن، والمذاهب العقدية والوصول إلى الآراء، وهذا سهل، لكن فقه الخلاف في العقيدة وفقه الخلاف في الفقه وفي أصول الفقه والسلوك هذا أمر مهم. والناس في التصحيح يحتاجون إلى أمرين: الأخلاق والعلم، فإن الذي يأتي الناس بأخلاق بدون علم لا يصلح السماع منه؛ لأنه ينقلهم من خطأ إلى خطأ آخر، وهذا مثل ما يوجد في بعض الجماعات الدعوية الذين عندهم أخلاق لكن ما عندهم علم شرعي يقودهم إلى تحقيق السنة واتباع السلف، فتجدهم يدعون الناس بمجرد الطريقة الأخلاقية العامة، لكن لا يهمهم انتقلوا من أين إلى أين! ومن يأتي أيضاً بالعلم وحده لا يفيد؛ لأن النفوس المتعصبة آلفة، والمشركون مع أنهم على جاهلية جهلاء إلا أن تعصبهم أغلق عندهم الحقيقة، مع أنها واضحة جلية، وفي ذلك يقول أبو طالب: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا وهذا ليس مقارنة للمسلمين اليوم بالجاهليين، لكن من باب الأولى، أي: إذا كان الجاهلي الذي يدرك أنه على جاهلية وعلى خرافة وعلى أسطورة، وعلى كفر، لكن حجته: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] فكيف بمن عنده أصول يدرك أنها من الإسلام، وأنه على جزء كبير من الإسلام؟! ولذلك في أول مخاطبة لـ شيخ الإسلام لهذه الطائفة قال: "قد منّ الله عليكم بالانتساب للإسلام، ثم يقول: منّ الله عليكم بالانتساب للسنة"، مع أن الذين خوطبوا بهذا الكلام لم يكونوا على طريقة عدي بن مسافر الأولى، بل هؤلاء قد دخلت عليهم كثير من الانحرافات. فهكذا الفقه الأخلاقي للوصول إلى الحقيقة، والتصحيح، والدعوة إلى السنة، واتباع السلف رضي الله عنهم.

خطأ امتحان الناس بمصطلحات معينة

خطأ امتحان الناس بمصطلحات معينة أحياناً يمتحن الناس بمصطلح معين هل يقولون به أو لا يقولون به؟ فبعض الناس لا يرى أن يقول به؛ لأنه يرى أن فيه إجمالاً، ويريد أن يعبر بكلمة أكثر تفصيلاً، أو بكلمة جاءت في القرآن، أو في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود هنا: كما أنه يذم امتحان الناس بالانتساب إلى أسماء معينة، فيعاب امتحان الناس بالاعتداد بكلمات أو عدم الاعتداد بها، أو بالتزامها أو عدم التزامها. فإن التعبير واسع، واللغة واسعة، فقد يأتي بعض الشيوخ وبعض طلبة العلم باصطلاح معين في تقرير وجه من الأصول أو من السنة أو ما إلى ذلك، فلا ينبغي أن يكون هذا الاصطلاح -حتى لو كان صحيحاً- أن يكون شعاراً ملزماً يفرق به بين صاحب السنة ومن ليس كذلك، ففرق بين قولك: إنه يستعمل، فهذا لا بأس به، وفرق بين قولك: إنه استعمال مشروع، فهذا أيضاً يتوسع فيه، وفرق بين قولك: إنه من ترك ما يتضمنه هذا المعنى فإنه ينكر عليه، فإن بعض الناس قد يوافق المعنى، لكنه لا ينسجم مع هذا الاصطلاح. وهذا الفقه نجده في كلام أئمة السلف فإننا نجد جواباتهم متنوعة، فمنهم من يقول: السنة هدي الصحابة، فهل نقول: إن في كلامه نظراً؛ لأنه لم يقل: الكتاب والسنة وهدي الصحابة؟ الإمام أحمد يقول: "لا يتجاوز القرآن والحديث" فلم يذكر كلام الصحابة في هذه اللفظة. وبعضهم يذكر القرآن ولا يذكر السنة، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103] وهكذا. فعندما يكون الذين يستعملون هذه الكلمات يتواردون على مقصود واحد، ومعنى واحد فهذا مما يوسع فيه. لكن يكون الأمر مشكلاً حينما يقول القائل: القرآن، ويقف؛ لأنه لا يسلم بحجية السنة، فهذا لا يقال عنه: إنه استعمل كلمة استعملها الزهري من قبل؛ لأن هذا يختلف، فإننا إذا رجعنا إلى التضمن تحت كلمة الزهري وجدنا أن مقصوده بالقرآن ما جاء به القرآن، ومما جاء به القرآن اتباع النبي، ومما جاء به القرآن اتباع سبيل السابقين الأولين، فهذه كلمة جامعة. وعليه: فوضع كلمات معينة كشعار منزل هي المعبرة عن منهج أهل السنة فقط، هذا ليس منهجاً صحيحاً، بل كل استعمال استعمله السلف فإنه يسوغ استعماله: كالكتاب والسنة والإجماع .. التمسك بالسنة .. التمسك بالأثر .. التمسك بالقرآن .. وهكذا. أما من يكون عنده لحن في القول، وحينما يذكر القرآن يقصد بذلك: ترك فرضية السنة، أو حينما يقول: السنة ولا يقول: هدي الصحابة؛ وهو يشير بذلك إلى عدم الاعتداد بهدي الصحابة وفقههم فهذا باب آخر. أما داخل منهج أهل السنة العام، ففرق بين القيود البيانية والقيود الشرعية اللازمة؛ فمثلاً: سهل بن عبد الله التستري لما قيل له: ما الإيمان؟ قال: الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا لم يكن على السنة فهو بدعة. فهذا كلام صحيح، لكن كلمة (اتباع للسنة)، هل يلزم كل إمام قال: الإيمان قول وعمل ونية أن يقول: واتباع للسنة؟ الجواب: لا؛ لأن من يقول: الإيمان قول وعمل، لا يقصد دخول الأقوال البدعية. فما دام أن المتكلم إمام من أهل السنة والجماعة، ويتكلم عن الإيمان في الكتاب والسنة، وهذا واضح من السياق، فاجعل هذا -إن صح التعبير على أقل تقدير- اجعله من باب: وحذف ما يعلم جائز، فإذا ضاقت بك الأمور فاجعل هذا من باب حذف المعلوم، وهو لسان معروف عند العرب، بل ومعروف حتى في القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. أحياناً بعض أهل العلم يرى أن هناك تقصيراً في السنة أو في اتباع السلف، ونحو ذلك، فيذكر بعض هذه القيود، فنقول: هذا فقه، فإذا استدعى المقام أن يذكر هذا القيد فليذكر، وإذا استدعى المقام أنه لا يلزم ذكره، فلا يلزم ذكره، ومن لم يذكره وهو من أصحاب السنة لا ينكر عليه أو يقال أنه مخالف للسنة. فالذي أقصده باختصار: أن امتحان الناس بالأسماء كما يقول ابن تيمية: لا أصل له، فكذلك امتحانهم بكلمات اختصت بفقيه أو عالم، امتحانهم بهذه الكلمات معصية، بل الناس يمتحنون بكلمات القرآن والسنة وما توارد عليه الإجماع، إلا إذا كان له كلام أو أحوال تنافي ما هو من السنة فهذا- كما أسلفت- باب آخر. أما الذي قد يعرض أحياناً لبعض طلاب العلم فيكون له طريق معينة، وكلمات معينة يريد أن يجعلها شعاراً ملزماً، فقد تقبل في بيئة ولا تقبل في بيئة أخرى، ومن هنا ذكرت من أنواع فقه كلمات الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام. من الأمور التي ختم بها الإمام ابن تيمية هذه الرسالة: مسألة أنواع من الغلو التي طرأت على كثير من أهل السلوك، وكما أشرت إلى أن هذا يتمثل إما في باب المعرفة والتصديقات، أو في باب توحيد الألوهية، وهذه هي التي يغلظ على من يدعو إليها، وهي فتنة العامة بما يخالف أصول التوحيد في ربوبية الله سبحانه وتعالى وألوهيته وعبوديته. ثم ذكر الفتن التي تقع عند القبور، وما يلحق بذلك، فهذا أيضاً له أمثلة يمكن أن تقرأ في عرض كلامه. إلى هنا نصل إلى نهاية التعليق على هذه الرسالة أو بعبارة أخرى: على منهج هذه الرسالة في مسائل السلوك والتعبد، وما دخلها من الإفراط أو التفريط أو الغلو في بعض الصور، وفقه التصحيح في هذا المقام، والله تعالى أعلم.

§1/1