شرح الواسطية - يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

شرح العقيدة الواسطية [1]

شرح العقيدة الواسطية [1] أول من اشتغل بتقسيم الدين إلى أصول وفروع، وإلى حقيقة ومجاز هم أئمة النظر من المتكلمين ومن اشتغل بشأنهم من الفقهاء ممن كتبوا في أصول الفقه. أما منهج أهل السنة والجماعة في ذلك فهو قبول هذه التقسيمات والحدود باعتبار الاصطلاح اللفظي مع اشتراط أن تنزل هذه الاصطلاحات على معان مناسبة.

مقدمة شرح العقيدة الواسطية

مقدمة شرح العقيدة الواسطية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وندعوه ونتوسل إليه بأنه الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق. اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك خاصمنا وإليك حاكمنا، اللهم فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم الطف بعبادك المسلمين في قضائك وقدرك، اللهم اكف الإسلام والمسلمين شر أعدائهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم شتت شملهم، وأذهب أمرهم. اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا قوي يا عزيز، اللهم شتت شملهم وأذهب أمرهم، واجعل الدائرة عليهم، واحفظ بلاد المسلمين وثغورهم وأعراضهم ودينهم من شر عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز. ثم أما بعد: فإن دراسة العلم الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام هو قربة لله سبحانه وتعالى، وهو تعظيم لله عز وجل ونصر له؛ فإن الله يقول: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] ومن نصره سبحانه وتعالى العلم بما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام، وأشرفه العلم بمسائل أصول الدين التي بعث بها سائر الأنبياء والمرسلين، وبعث بها كذلك خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يختلف عن إخوانه من الأنبياء والمرسلين في تقريرها، لكنه زادها بياناً، ووضوحاً، وزادها هدىً وقرباً إلى المسلمين، وصارت رسالته عليه الصلاة والسلام محفوظة بحفظ الله لكتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. ومن شريف وفاضل كتب السنة والجماعة المصنفة في الاعتقاد الرسالة الواسطية لـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والتي كتبها الشيخ رحمه الله إلى بعض علماء واسط، حيث ذكر أنه طلب منه أن يكتب له شيئاً في معتقد أهل السنة والجماعة وفي أصولهم، فكتب هذه الرسالة.

خصائص الرسالة الواسطية

خصائص الرسالة الواسطية إن الحديث عن هذه الرسالة وعظمها وفائدتها يطول، لكن أحب أن أشير إلى ثلاث خصائص فيها: الخاصية الأولى: أنها رسالة جامعة؛ فإن ثمة رسائل في أصول الاعتقاد للشيخ -أي: لـ شيخ الإسلام - وغيره ممن قبله أو بعده من علماء السنة والجماعة لكن كثيراً من هذه الرسائل مختصة بباب من أبواب أصول الدين، كالرسالة الحموية لـ شيخ الإسلام نفسه، فإنها مختصة بمسائل الأسماء والصفات، وكبعض الرسائل المصنفة في القدر أو مسمى الإيمان أو غير ذلك من مسائل الاعتقاد. أما هذه الرسالة فهي رسالة جامعة، ذكر فيها المصنف جمهور مسائل أصول الدين، ولا سيما المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة، وإن كان رحمه الله فصَّل في باب الأسماء والصفات تفصيلاً لم يفعل مثله في غيره من الأبواب، وذلك لعظم شأن هذا الباب ولكثرة الاختلاف فيه؛ ولأن الاختلاف فيه هو أخص مسائل الخلاف بين أهل القبلة، فإن سائر الأغلاط التي وقعت عند الطوائف في مسائل أصول الدين لا يقع لها من الشأن والتغليظ ما وقع لأقوال المخالفين في مسائل الإلهيات -مسائل الأسماء والصفات-. الخاصية الثانية: أنها رسالة متأخرة في الجملة، فهي ليست من الرسائل المكتوبة زمن الأئمة المتقدمين، مع أن القراءة في كتب المتقدمين لها اختصاص من وجهٍ آخر ولها فضل السبق، لكن هذه الرسالة كتبها إمام متأخر في الجملة، أي: أنها كتبت بعد استقرار مقالات الطوائف في عقائد المسلمين، ومسائل أصول الدين؛ فإن المقولات المأثورة عن سلف الأمة من المتقدمين لم يقع فيها ذكر لمخالفة متكلمة الصفاتية من الكلابية والماتريدية والأشعرية وغيرهم؛ فجاءت هذه الرسالة منبهةً إلى تميز مذهب السلف، ليس فقط عن المذاهب التي عرف عن المتقدمين أنها مخالفة للسنة والجماعة كالجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرها، والتي انضبطت مخالفتها، بل جاءت كذلك مميزة له عن كثير من الأقوال والمذاهب التي انتسب أصحابها إلى السنة والجماعة؛ فإن جمهور متكلمة الصفاتية من المنحرفين عن هدي السلف ينتسبون إلى السنة والجماعة، فجاءت هذه الرسالة مبينةً لهذا الوجه الذي وقع من جهته معظم الانحراف الذي دخل على أصحاب الأئمة الأربعة. فإنك إذا نظرت إلى أتباع الأئمة الأربعة من المتأخرين، رأيت جمهور هؤلاء معرضين إعراضاً بيناً عن مقالات البدع المغلظة التي تحدث فيها أئمة السلف رحمهم الله كبدع الجهمية المحضة، أو بدع المعتزلة المحضة، أو بدع القدرية المحضة. مع أنه قد دخلت عليهم مقالات متكلمة الصفاتية في مسائل أصول الدين. وهذا الدخول إما أن يكون اتباعاً محضاً لهذه المذاهب، وهذه طريقة متكلمة الفقهاء من الأحناف والشافعية والمالكية، وإما أن يكون تأثراً عاماً، وهذه طريقة مقتصديهم ممن تأثر بهذه المذاهب المخالفة للسنة والجماعة. الخاصية الثالثة: أن مصنفها رحمه الله كتبها بلسان الشريعة، أي: تقصد في مسائلها وحروفها ألفاظ الشريعة ومسائلها؛ وقد بين رحمه الله ذلك في رسالته، وهذا المنهج بيِّنٌ من خلال قراءة هذه الرسالة. وهذه الرسالة يمكن القول فيها: إنها شرحٌ للإيمان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المتفق عليه، فإن المصنف لما ذكر مقدمته قال: أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، قال: وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره. وهذا الأصل الجامع للإيمان هو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل، وهو مجمل ما ذكره الله سبحانه وتعالى في خواتيم سورة البقرة. فجاء المصنف شارحاً لهذه الأحرف الشرعية، وقصد في شرحها أيضاً الأحرف الشرعية، فالرسالة بعيدة عن اللغة الكلامية أو المنطقية، كما أنها بعيدة أيضاً عن لغة الرد، فإن معظم هذه الرسالة بلغة التقرير لمعتقد أهل السنة والجماعة. ولا شك أن ثمة فرقاً بين لغة الرد وبين لغة التقرير لمسائل الاعتقاد. وهنا أنبه إلى أنه قد يقع لبعض من يقرر في مسائل أصول الدين، أو يتحدث عن ذلك في كتاب أو درس، أو من يشتغل من طلبة العلم بدراسة معتقد أهل السنة والجماعة؛ أنه يقع لبعض هؤلاء بعض القصور في إدراك مسائل الاعتقاد، وذلك أن بعضهم يتناول المسائل على لغة الرد، والأصل أن المعتقد يؤخذ تقريراً، أي: يؤخذ جملاً من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، وأما الرد فإنه لا يتناهى؛ فإن البدع والاختلاف والمعارضة والخروج عن أصول السنة والجماعة لا يمكن أن يتناهى بزمنٍ أو بجملٍ معينة. فهذه الرسالة هي رسالةٌ مقررة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وأما الرد فإنه درجة ثانية يشتغل به فيما بعد. لذلك لم يذكر المصنف أسماء الطوائف إلا على قدر الحاجة؛ وذلك حين يقصد تمييز مقولة أهل السنة والجماعة عن غيرهم. وقد قصد المصنف بكتابة هذه الرسالة بلسان الشريعة أن تكون مقربةً للنفوس، فإن في زمنه رحمه الله شاع مذهب متكلمة الصفاتية، لكنه مع هذا لم يذكر مذهب الأشعرية بالتصريح، وإنما أبان أن طريقة السلف تختلف عن طريقة هؤلاء المتأخرين، فهو يشير إليهم ببعض الأسماء المجملة التي ليس فيها تخصيص لهم، وقصده من هذا رحمه الله: أن تكون رسالته جامعة لهم على قول الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع الذي يصرح المحققون من الأشاعرة بأنهم يقصدون إليه.

شرح مقدمة الواسطية

شرح مقدمة الواسطية قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً، أما بعد]. هذه المقدمة يقع في كتب شروح الواسطية -بل ويقع في كتب الشروح بعامة- تعليق على جمل فيها من جهة اللغة؛ كالباء في قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وتعلق الجار بالمجرور وما إلى ذلك، ثم تفسير الحمد، قالوا: ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح وما إلى ذلك؛ ولهذا أرى أن التعليق على هذه المعاني من الأشياء المتداولة المكررة، ولكن أحب أن أنبه أن هذا النظم الذي يقدم به الأئمة في كتبهم أشرفه ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبه، وهو قوله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه إلخ، هو من النظم الشرعي الذي قد يقع به هداية أقوام من الكفر إلى الهداية؛ فإن ضماداً -والحديث رواه ابن عباس، كما في الصحيح- قدم مكة وكان من أزد شنوءة، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني سمعت ما يقول الناس، وإني أرقي من هذه الريح فهل لك؟ -أي: فهل لك أن أرقيك أو أداويك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. وذكر عليه الصلاة والسلام بين يدي حديثه هذه الخطبة، فلما قال: أما بعد، قال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فقال له ضماد: يا محمد! لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام! فهذه الأحرف الشرعية المأخوذة إما اقتباساً وإما نقلاً من كلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم لها شأن باعتبار نظمها؛ فإنها جمل شرعية جامعة لمسائل التوحيد ومسائل الحق ونحو ذلك، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يستفتح بها. ويقع في كتب الشروح -ولا سيما المتأخرة- أنهم يعلقون كثيراً على مسألة الابتداء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ فمنهم من يقول: إن هذا اتباع لحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر) ثم يأتي التعقيب بأن هذا حديث لا يثبت، ثم يأتي الالتماس بأوجه. وهذا فيما أحسب من غريب الحال، فإن هذه المسألة ينبغي أن تتجاوز، فإن البداءة بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) بداءة مناسبة، بل كأنها بداءة فطرية؛ فإن القرآن بدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، بل حتى العرب في جاهليتها كانت تبدأ كتبها ومراسلاتها باسم الله، وإن كانت لا تنطق بهذا التصريح الشرعي. فمثل هذه التعليقات -فيما أرى- لا ينبغي لطالب العلم كثرة الاشتغال بها وكأنها من التحقيق؛ بل ينبغي في مثل هذه المسائل البينة الواضحة تجاوز النظر فيها إلى المسائل التي لها الأهمية والأولوية لينصرف إليها التأمل والبحث والنظر. قول المصنف: (فهذا اعتقاد) هذه اللفظة -اعتقاد- ليست مستعملة في الأحرف الشرعية النبوية فضلاً عن أحرف القرآن، ولكن درج كثير من أهل السنة والجماعة -بل وغيرهم من الطوائف- على تسمية ما يختص بمسائل أصول الدين بالمعتقد. وهذه الكلمة من جهة اللغة تدل على ما يقع في القلب من المعاني والعلم، فإن الاعتقاد محله القلب. ونحن نعلم أن الأصول الشرعية التي يقال: إنها أصول الدين، ليست بالضرورة مقصورةً على المحال القلبية وحدها. وهذا يستدعي أن نعلق على مسألة شاعت في كتب المتأخرين ممن كتب في أصول الدين أو مسائل أصول الفقه ونحوها، وهي تقسيم الدين إلى أصول وفروع.

مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع

مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع نذكر قاعدة بين يدي هذا التقسيم، وهي أن جمهور التقاسيم سواء كانت في باب الاعتقاد أو باب الشريعة فضلاً عن مسائل العلم الأخرى كمسائل اللغة ونحوها، جمهور هذه التقاسيم اصطلاح، فينظر إليها باعتبار المعاني، أما باعتبار الألفاظ، فإن الأصل أنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكن الشأن يكون باعتبار معانيها، فهل هذه الألفاظ والمصطلحات وضعت لها معانٍ مناسبة للمعاني الشرعية التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ هناك أمثلة كثيرة: كتقسيم الدين إلى أصول وفروع، وكمسألة الحقيقة والمجاز، والآحاد والمتواتر، وغير هذه التقاسيم، وإنما ذكرت هذه التقاسيم الثلاثة؛ لأنه يقع خلط كثير بين القول فيها باعتبارها ألفاظاً ومصطلحات، وباعتبار كونها من عوارض المعاني. فنقول: تقسيم الدين إلى أصول وفروع، أو القول بمسألة الحقيقة والمجاز، أو القول بمسألة تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، النظر في هذا باعتباره من عوارض الألفاظ يقال: إن الأصل أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن النظر يكون باعتبارها من عوارض المعاني؛ فمن قسم الدين إلى أصول وفروع، قيل له: هذا مصطلح أمره يسير، أما من جهة المعاني، فإن ثمة إجماعاً بين المسلمين أن الدين ليس درجةً واحدة، بل منه مسائل كلية، ومنه ما دون ذلك، ومنه ما هو ركن، ومنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، وأن ثمة مسائل تسمى أصول الدين، ومثل هذا المعنى متفق عليه بين سائر المسلمين على اختلاف طوائفهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم -بل وجميع الأنبياء والمرسلين- بيّن هذا الأمر. وقد تكلم شيخ الإسلام وطائفة في نقض هذا التقسيم، لكن هذا لا يعني أنهم لا يصوبون أن تسمى مسائل توحيد الألوهية والأسماء والصفات وإثبات أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بمسائل أصول الدين؛ فإن تسميتها بمسائل أصول الدين مجمع عليه بين المسلمين، ولا ينازع فيه أحد. وإنما تكلم شيخ الإسلام في نقض هذا التقسيم باعتباره من عوارض المعاني، فإن من استعمله وضع له حداً -أي معنى- ليس مناسباً للاعتبار الشرعي، وإن شئت فقل: ليس مناسباً للحد الشرعي. وذلك أن أول من اشتغل بهذا التقسيم ليس أئمة السنة والجماعة، بل طوائف من أئمة النظر من المتكلمين ومن اشتغل بشأنهم من الفقهاء ممن كتبوا في أصول الفقه أو في فقه الشريعة، فصاروا يقولون: إن الأصول هي المسائل المعلومة بالسمع والعقل، ويقصدون بالسمع الكتاب والسنة، والفروع هي المسائل التي دليلها السمع وحده. ومن الحدود المشهورة في كتبهم -أيضاً- أنهم يقولون: إن مسائل الأصول هي المسائل العلمية، ومسائل الفروع هي المسائل العملية إلى غير ذلك من الحدود. فهذه الحدود لا شك أنها حدود باطلة؛ فإنه لا يصح أن يقال: إن مسائل الأصول هي ما دل عليه السمع والعقل، والفروع هي ما دل عليه السمع وحده، فإن ثمة مسائل في أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع وحده، والعقل لا يحيلها، ولكنه لا يدل عليها كمسائل الغيب المحضة، فإنها مسائل علمت بالسمع، والعقل لا يدل عليها، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لو لم يحدث بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، لم نعلم ذلك؛ لأن هذه المسألة لا يدركها العقل ولا يعلمها قبل ورود خطاب الشرع. إذاً: ثمة مسائل في أصول الدين في باب الأسماء والصفات والشفاعة والغيب واليوم الآخر والقدر وما إلى ذلك ليست معلومةً إلا بالسمع، والعقل لا يدل عليها، وإن كان لا يجحدها. والعكس كذلك؛ فإن ثمة مسائل معلومة بالسمع والعقل وهي لا تعد من مسائل الأصول، بل تعد من مسائل الفروع أو مما هو دون الأصول. أما قول من قال: إن مسائل الأصول هي المسائل العلمية -وهذا يوافق التعبير الذي يقول: هي مسائل الاعتقاد- وأن المسائل العملية لا تكون داخلةً في مسائل أصول الدين .. فهذا غلط أيضاً؛ لأنه لا يطرد، فإن ثمة مسائل علمية -أي: مسائل محلها عقد القلب- ومع ذلك ليست من الأصول بإجماع السنة والجماعة، بل بإجماع المسلمين أنها ليست من مسائل أصول دينهم، ومن ذلك مثلاً: الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في سماع الميت لصوت الحي، فإن هذه مسألة علمية محلها عقد القلب، ولكن بالإجماع لا تعد من مسائل أصول الدين. وثمة مسائل عملية تعد بإجماع المسلمين من مسائل أصول الدين كمسألة الصلاة والزكاة والحج، فإنها أركان في الدين وأركان في الإسلام. فهل يصح أن يقال: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع؟ الجواب: التقسيم باعتباره اصطلاحاً لفظياً لا بأس به، لكن بشرط أن ينزل على معنىً مناسب، وحين يقال: لا بأس به .. فهذا من باب الجواز، وليس من باب أن هذا التقسيم يقصد إلى تقريره وذكره في مسائل أصول الدين أو في تقرير طريقة أهل السنة والجماعة أو منهجهم، لكنه أمر واسع لا ينبغي الإغلاظ في شأنه. وأما أن هذا التقسيم بدعة، فنقول: إنه لا يكون بدعة إلا إذا قصد منه معنىً لا يكون مناسباً؛ وإلا فهو من حيث الجملة لا بأس بإطلاقه، وإن كان لا يقصد إليه، فإن السلف لم يقصدوا إلى ذكره والتحدث بلغته.

مسألة تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد

مسألة تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد هو تقسيم وارد في الكتب المتأخرة لعلم مصطلح الحديث. وقد وقع في كلام بعض المتقدمين كالإمام الشافعي رحمه الله ذكر متواتر السنة، ولكن التقسيم الذي وجد في كتب أصول الفقه ودخل على كتب المصطلح المتأخرة هو تقسيم باعتبار حده لا أصل له. ذلك أنهم يقولون في حد المتواتر: هو ما رواه جماعةٌ عن جماعةٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب. واختلفوا في هؤلاء الجماعة كم يكون عددهم، لكن جمهور ما يذكرونه يقارب العشرة، فعلى قولهم: لا يكون الحديث متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه عنه من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، إما من صغار الصحابة وإما من التابعين، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة بحيث يصل العدد إلى ألف. والسوء في هذا الحد في نتيجته أيضاً، فإنهم قالوا: إن الاعتقاد لا يحتج فيه إلا بمتواتر. وهذا الكلام الذي وضعه أئمة النظار من المعتزلة ومتكلمة الصفاتية، حقيقته إبعادٌ للسنة في الجملة عن الاستدلال في مسائل أصول الدين .. فإنه لا ينطبق شرط المتواتر اللفظي إلا على عدد قليل جداً من الأحاديث، لهذا نجد أن أهل المصطلح -كـ ابن الصلاح ونحوه- البعيدين عن شر هذا العلم الكلامي المقاربين للسنة والجماعة لا يتعرضون لذكر هذا الحد؛ لأن مثاله إن لم يكن معدوماً، فإنه يسير جداً. وهذا يلخص نتيجة: أنه ليس هناك متواتر لفظي من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا جملة يسيرة من الأحاديث، وهذا على أحسن تقدير إن لم نقل: إنه لا مثال له من جهة السنة، فهو إن ثبت فله مثال أو مثالان أو أمثلة ليست بالكثيرة، وهذا يستلزم أن جمهور كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي اتفق المحدثون عليه، واتفق عليه الصحابة، بل واتفقت عليه الأمة -لولا مخالفة هؤلاء النظار- والذي هو مبنى معتقدها مع كلام الله سبحانه وتعالى؛ أنه لا يصلح حجة في مسائل الاعتقاد ومسائل أصول الدين. ونحن إذا بحثنا عن أصل الانحراف الذي وقع في مسائل أصول الدين عند المسلمين وجدناه في الإعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فإن أول انحراف وقع في مسائل أصول الدين هو قول الخوارج الذين ظهروا في آخر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذين حدث النبي عليه الصلاة والسلام بشأنهم، وذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما تواتر عنه، حتى قال الإمام أحمد: (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه). وقال شيخ الإسلام: (إن حديث الخوارج متواتر). وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: ذي الخويصرة - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وكان أول هؤلاء ظهوراً هو هذا الرجل الذي قام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وطعن في السنة، والسنة هنا هي قسمه صلى الله عليه وسلم للذهب الذي بعثه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن، فقام هذا الرجل وطعن في قسم النبي صلى الله عليه وسلم، لما قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، وحقيقة هذا الطعن أنه طعنٌ في السنة النبوية. كذلك لما ظهر هؤلاء القوم الذين حدث النبي بشأنهم، كان أخص ما فارقوا به أصول المسلمين أو استوجب مخالفتهم لمعتقد الصحابة رضي الله عنهم هو عدم أخذهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أخذوا جملاً مجملةً من القرآن كقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] وكقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ونحو ذلك، وتركوا مفصل السنة الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الجهنمية، مع أن الصحابة كانوا يحدثون به بين ظهرانيهم. وهذا يقود إلى نتيجة: وهي أن نظرية تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، والتي هي مذكورة في كتب أصول الفقه وكتب المتكلمين في أصول الدين، ودخلت على الكتب المتأخرة في علم مصطلح الحديث .. هذه النظرية يظهر تطبيقها جلياً في أفعال الخوارج وأقوالهم؛ فإن الخوارج لم يعتبروا هذه النصوص، وإنما اعتبروا القرآن وحده، فكأنهم يقولون: إنه لا يحتج بهذه النصوص التي رواها الصحابة لكونها ليست قطعية .. ولأنه قد يدخلها الخطأ إلى غير ذلك. فلما ظهر علم الكلام في قرن التابعين، وظهر النظار، كتبوا هذه النظرية التي رافقت بعض ألفاظها ألفاظاً تكلم بها أئمة الحديث من المتقدمين، فإن لفظ التواتر ولفظ الواحد من الألفاظ المستعملة في كلام متقدمي أئمة الحديث، فلما تشابهت الألفاظ لم يتبين كثيرٌ من المتأخرين الحد الذي يقصده المتقدمون من أئمة الحديث بلفظ الواحد من الحديث أو ما رواه الواحد، فإنهم لا يقصدون بما رواه الواحد ما تقصده أئمة النظار بالآحاد، وكذلك المتواتر الذي ذكره الشافعي وغيره لا يقصدون به المعنى الذي يذكره النظار من المتكلمين. إذاً: هذا الحد لا شك أنه حد باطل؛ لأنه يستلزم أن جمهور السنة النبوية لا يصح أن يحتج بها في مسائل الاعتقاد، وهذا مبني على مسألة، وهي أن مسائل الاعتقاد لا بد أن تكون قطعية، وأن القطعي: هو الذي يثبت بعلمٍ قطعي، وأن العلم القطعي لا يثبت إلا بالمتواتر الذي شرطه أن يكون رواه جماعةٌ عن جماعة إلخ، وأما ما عدا ذلك من الرواية والبلاغ والخبر فإنه يكون ظنياً، والظن لا يناسب أن يكون معتقداً للمسلمين. ولا شك أن هذه الحدود وهذه التقارير لا تصح؛ فإن سائر معتقد أهل السنة والجماعة -ولا شك- ثبت بعلمٍ قطعي، ولكن الاختلاف مع هؤلاء النظار ليس في هذا، وإنما فيما يثبت به العلم، وما يكون دون ذلك من الظن، فإن المتفق عليه بين السلف أن الحديث إذا اتفق عليه المحدثون، وجرى عليه الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقع بشأنه اختلاف، فإنه يفيد علماً ضرورياً قطعياً، وإن كان مخرجه من جهة الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام من جهة رجل أو رجلين أو نحو ذلك.

فقه الأسماء الشرعية

فقه الأسماء الشرعية مسألة الأسماء -ولا سيما الأسماء الشرعية فضلاً عن الأسماء الاصطلاحية- لا بد لطالب العلم أن يفقهها. فإن جمهور الاختلاف -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- الذي وقع في مسائل أصول الدين؛ بل وفي مسائل الشريعة بين كثير من المتأخرين يرجع إلى عدم فقه الأسماء الشرعية. أن المتتبع لنصوص القرآن يجد فيها إشارة إلى أن العلم ليس بلازم لقيام الحجة، وإنما يكفي مجرد السماع والبلاغ، فإن الله سبحانه وتعالى وصف المشركين بالجهل، وبأنهم لا يسمعون، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] فهذه النصوص تبين: أن قيام الحجة على الكافر لا يلزم له العلم، وإنما مجرد السماع، وأما فقه النص وفهم المراد من الخطاب فإن هذا ليس بلازم؛ لأن الله كفر المشركين من العرب ووعدهم سقر مع أنه وصفهم بأنهم لا يعلمون وبأنهم لا يسمعون ولا يعقلون إلى غير ذلك. ثم نجد أن الله سبحانه وتعالى في القرآن نفسه يقول عن هؤلاء الكفار: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وهذا يدل على أن القوم ليس فقط عندهم معرفة مجملة، بل -أيضاً- معرفة مفصلة. ويقول الله تعالى عن أخص من أظهر الكفر برب العالمين وهو فرعون ومن معه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فكيف يوصف من عندهم اليقين -يقين النفس- ومن عندهم المعرفة التي كمعرفتهم لأبنائهم بأنهم لا يعلمون؟! فقد يظن باعتبار فساد ذوق اللغة وعدم فقه الأسماء الشرعية وسياقها في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذا من باب التناقض، وأن وصف الإنسان بكونه مستيقناً يتناقض مع وصفه بكونه جاهلاً لا يسمع، ولا يعقل. وبعض الناظرين من غير أولي التحقيق قد يظن أن قيام الحجة لابد فيه من الإدراك والفهم والفقه، ويستدل بمثل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وبقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]. وبعضهم يذهب إلى الرأي الآخر، فيقول: إن الله سبحانه قال عن المشركين: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] فمعناه: أنه لا يلزم لقيام الحجة على الكافر أن يكون يسمع. وقال بعض المعاصرين ممن تكلم في هذه المسألة: إن الله سبحانه يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان:44] كما لو أن بعضهم عنده إدراك، وبعضهم ليس عنده الإدراك للفقه، لكن مع ذلك قضى بكفر الجميع؛ لأن السياق: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان:44] فمعناه: أن ثمة معشراً منهم يسمعون ويعقلون. وكل هذا الاختلاف والاضطراب وتوهم التناقض في الآيات القرآنية راجع إلى عدم فقه المصطلحات القرآنية: (لا يعلمون) (لا يفقهون) (لا يسمعون). فهذه الأسماء الشرعية لابد من فقهها، وجمهور الاختلاف إنما دخل على الناس في مسائل أصول الدين بل وفي غيرها من عدم فقههم لها.

شروط أولي التحقيق والفقه للأسماء الشرعية

شروط أولي التحقيق والفقه للأسماء الشرعية هذه الأسماء الشرعية لا يكون التحقيق فيها إلا لمن اجتمع له شرطان:

الشرط الأول: الفقه

الشرط الأول: الفقه الشرط الأول: الفقه، أي: يكون فقيهاً، حسن النظر، حسن التأمل، ولا يقع هذا إلا لمن أحسن التدبر لكتاب الله سبحانه وتعالى .. فإن هذه المسائل ليست مسائل جزئية مصنفة في كتب الفقه: كمسألة الوضوء من لحم الإبل، أو زكاة الحلي، أو الوقوف في عرفة إلى الغروب، فهذه مسائل يسهل النظر فيها، والخطأ فيها يسير، والوصول إلى محصل الأقوال والدليل فيها يقع ببحث يسير. لكن هذه المسائل الاستقرائية كمسائل الأسماء الشرعية وسياقها في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لابد فيها من فقه، ومن لم يكن له فقه فإنه يختلط ولا بد.

الشرط الثاني: الاتباع

الشرط الثاني: الاتباع الشرط الثاني: الاتباع، فمن كان من أولي الفقه ولكنه ليس من أهل الاتباع فإنه يختلط، وأحياناً تنغلق عليه النصوص، فلربما ألزم نفسه بفقهٍ انتحله لنفسه؛ لأنه يرى أن هذا هو الاقتداء بقول الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف من خالف. وهذا المزلق من أخص مزالق الانحراف. فإنه -لا شك- أن الاعتبار بكلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن يمتنع شرعاً أن يكون ما يجب اعتباره من كلام الله ورسوله مخالفاً لهدي الصحابة وهدي السلف رضي الله عنهم. ولهذا نجد أن حماد بن أبي سليمان لما قصر في مسألة الاتباع، وتأمل بنفسه مسألة الإيمان، وجد أن الله في القرآن يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] ففرق بين الإيمان وبين العمل، فظن أن هذا يعني أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان. قد يقول قائل: إن هذا ليس بحجة له؛ لأن هذا من باب عطف الخاص على العام. أقول: هذا جواب معروف ذكره جماعة من علماء السنة، لكنه إن لم يكن ضعيفاً فإنه ليس قاطعاً في الحجة. وشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه لا يستحسن هذا الجواب عند التحقيق، ويرى أن التحقيق في غيره، وسيأتي -إن شاء الله- الجواب المحقق عن هذا في مورده. وإذا نظرت إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام وجدت مواضع لا يفهمها إلا أهل التحقيق من أولي الفقه والاتباع؛ ففي حديث جبريل يقول صلى الله عليه وسلم: (هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). لكنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس -كما في حديث ابن عباس في الصحيحين وجاء من رواية أبي سعيد عند الإمام مسلم - قال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم). فذكر لهم ما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وهذا يدل أن جوابه صلى الله عليه وسلم يقع فيه هذا التنوع. أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيح-: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). أيضاً جاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه، أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه برد أبيض، فأتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله -وفي لفظ: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله- إلا حرم الله عليه النار، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) وفي رواية: (وإن شرب الخمر). وفي حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك في الصحيحين لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار عتبان وقد ضعف بصره واتخذ مكاناً يصلي فيه، فطلب من الرسول أن يصلي فيه تبركاً بأثره الحسي في حياته عليه الصلاة والسلام، فجاء النبي يصلي فيه ومعه معشر من الصحابة، والرسول في صلاته في بيت عتبان، قال: فوقعوا في مالك بن الدخشم، وهو رجل طعن فيه بعض الصحابة بالنفاق، ثم برأه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته لم يقل: إني أعرف الرجل، ولم يشر إلى حقيقة تختص بـ مالك بن الدخشم، وإنما قال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطاله). فذكر عليه الصلاة والسلام في سنته وعداً. ولما ذكر الوعيد قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يدخل الجنة قتات) وفي الصحيح: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) وفي الحديث في البخاري: (عبدي بادرني بنفسه -لما قتل نفسه- حرمت عليه الجنة) بل في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) وإن كان لفظ التأبيد ليس محفوظاً على الصحيح. في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين لما قال: (يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟!) لا تقل: مؤمن: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. ومع ذلك يقول الله تعالى في من قتل عمداً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178]. ويقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ويدخل فيها الفاسق بإجماع المسلمين. وقد ذكر الله المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فقال تعالى عنهم في سورة التوبة: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56] وفي سورة الأحزاب قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] فأدخلهم في سورة الأحزاب بالإضافة وأخرجهم في سورة التوبة، لم يدخلهم في سورة الأحزاب فحسب؛ بل قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18]. والمقصود: أن هذه السياقات الواردة في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام وأسماء الإيمان والدين لابد من فقهها. ومن التمس وجهاً واحداً، فإنه يقع إما في الإفراط إن أخذ بعض النصوص التي تقوده إلى الإفراط، كمن لم يعرف من كلام الله سبحانه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم في الوعيد إلا مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء:14] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] وما إلى ذلك من أحاديث الوعيد التي سبق الإشارة إلى شيء منها .. فإنه يقع في الإفراط ولا بد؛ لأنه يرى أن هذه هي النصوص. وكذلك: من لم يعرف إلا نصوص الوجه الآخر، فإنه يقع في التفريط في هذا الباب؛ وهذا الباب قد انضبط الجمع فيه، ودُرئ الإفراط والتفريط في نتائجه المقولة في الآخرة من جهة الخلود في النار أو عدمه. ولكن الذي يقع به وهم عند بعض المتأخرين وبعض المعاصرين هو في تقدير مسائل الكفر والتكفير وقيام الحجة وعدم قيام الحجة، فإنه يقع نزاع في مسائل لم تنطق بها النصوص أصلاً، كمسألة فهم الحجة هل يشترط؟ على قولين: القول الأول: أنه يشترط، والقول الثاني: أنه لا يشترط، وهذا كله من التكلف اللفظي. والمعاني الشرعية -ولا سيما هذا المعاني الكبار- إنما تعتبر بحقائقها التي تجمع تحتها سائر النصوص التي قد تبدو لمن ليس له فقه أن ظاهرها التعارض.

شرح العقيدة الواسطية [2]

شرح العقيدة الواسطية [2] سنة الله الجارية في خلقه أن يفترقوا إلى فرق ومذاهب شتى، وقد حصل هذا الافتراق في هذه الأمة، كما حصل عند من سبقها من يهود ونصارى، لكن لا تزال في الأمة المحمدية الفرقة الناجية، وهي أوسط الفرق وأعدلها.

افتراق المسلمين إلى فرق ومذاهب

افتراق المسلمين إلى فرق ومذاهب قال المصنف: [أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة]. النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أن أمته ستفترق، وهذا متواترٌ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، تلقته الأمة -أعني: أهل السنة والجماعة- بالقبول، ولم ينازع فيه أحد من أئمة الحديث، فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، وفي وجه: (حتى يأتي أمر الله). هذا الحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم المتلقى بالقبول يدل على أن ثمة افتراقاً سيحدث. أيضاً ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاف في نصوص كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق). فمثل هذا النص وما في معناه يدل على أن ثمة افتراقاً. أيضاً الاختلاف والافتراق من جهة الوقوع لا أحد ينكره، فإن الأمة وقع فيها افتراق واختلفت، وصار فيها طوائف متحيزة لمذاهبها وأصولها. فمثل هذا مما لا ينبغي إنكاره أو التكلف في إنكاره. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أهل السنن وغيرهم من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما- أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) وهذا الحديث لا يختص وحده بذكر مسألة الافتراق في هذه الأمة، وقد أخرت ذكره؛ لأن فيه طعناً من جهة صحته. لكن من أراد أن يرفع هذا الافتراق، ويقول أنه لا وجود له، وأن الأصول السلفية وغير السلفية لا فرق بينها، وإنما هذا اجتهاد للمحدثين، وهذا اجتهاد لبعض النظار .. وهلم جرا، ويدفع ذلك بأن الحديث المروي في الافتراق -وهو حديث: (افترقت اليهود إلخ) - حديث ضعيف .. فقد جاء أمراً متكلفاً وارتكب شططاً؛ فإنه لو سلم جدلاً أن الحديث ضعيف -ليس بَيِّنَ الصحة والثبوت، وإن كان الأظهر فيه أنه ثابت- فإن الحكم لا يختلف؛ لأن الحديث المتواتر بيَّن أن الأمة سيقع فيها اختلاف، وأن طائفةً منها ستختص بالصواب، وإن كان اختصاصها بالصواب لا يلزم منه أن سائر ما يقع لغيرها من الأقوال والأفعال يكون باطلاً، بل يقع لهم قدر من الصواب إما مجملاً وإما مفصلاً، ولكن الذي اقتدى بسنة النبي صلى الله عليه وسلم على تفصيلها هم أصحاب هذه الطائفة الناجية المنصورة.

الفرقة الناجية من فرق المسلمين

الفرقة الناجية من فرق المسلمين هذه الطائفة ليس لها اختصاص بزمانٍ أو مكان أو جهة علمية كالحديث أو الفقه أو نحوه، إنما جاء في خصائصها أنها متبعة لكتاب الله سبحانه وتعالى ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكل من اعتبر هذين الأصلين ولم يخرج عنهما إلى غيرهما، ولم يتكلف إفساد شيء منهما، فإنه يكون منها؛ فإنه ليس هناك طائفة من طوائف أهل القبلة الخارجة عن السنة والجماعة تعتبر هذين الأصلين. ويقع عند بعض العلماء الكبار من المحققين المعاصرين أنهم يضيفون -كثيراً-: فهم السلف الصالح، وهذه الإضافة إضافة حسنة في الجملة -ليس المقصود الاعتراض عليها- لكنها ليست شرطاً لابد من ذكره. فإذا قيل: إن الطائفة الناجية المنصورة إنما هي معتبرة بالكتاب والسنة لكان هذا كافياً. وقد يقول قائل: إن كثيراً من الفرق الإسلامية تقول: إنها على الكتاب والسنة، ولكن لا أحد منها يقول: إنه على فهم السلف. فأقول: إن الاستقراء الدقيق لسائر هذه الطوائف بلا استثناء يُعلم به أنه ليس هناك طائفة تعتبر أقوالها بالكتاب والسنة وحدهما؛ إنما يقع أحد أمرين: إما أن هذه الطائفة تجعل مع الكتاب والسنة أصولاً في الاستدلال، وهذا وقعت فيه جمهور الطوائف المخالفة للسنة والجماعة، وإما -وهو حال معتقدي المخالفين من الطوائف- أنهم لم يدخلوا أصولاً في الاستدلال إلا أنهم لا يعتبرون دلالة الكتاب والسنة على الإطلاق، كقولهم أن خبر الآحاد لا يحتج به في الاعتقاد. قد يقول قائل: إن التفسير لهذا الكلام حقيقته فهم السلف الصالح. فنقول: نعم، ومن هنا نقول: إن من أضاف هذا القيد فقد أضاف كلاماً حسناً، وكأنه -بحسب الحدود المعروفة في المنطق- قيدٌ بياني؛ وذلك لأن إجماع السلف الصالح لا يخرج عن الكتاب والسنة، فإذا قلت: إن معتبر هذه الطائفة هو الكتاب والسنة فقد أصبت، وإذا قلت: إن معتبرها الكتاب والسنة والإجماع فقد أصبت. وقد ورد هذا التنوع في كلام السلف من الصحابة والأئمة، فإننا نجد أنهم يذكرون الكتاب والسنة تارة، وتارة يذكرون الكتاب والسنة والهدي أو الإجماع، أو ما إلى ذلك من الأحرف المعبرة عن هذا المعنى الفاضل. وهذه الطائفة مختصة بهذا الأمر، وهو أنها معتبرة بدليل الكتاب والسنة، وهي الطائفة الناجية -أي: من عذاب الله سبحانه وتعالى- وهي المنصورة، وكأن لفظ النجاة -والله أعلم- إشارة إلى نجاتها في الآخرة، ولفظ النصر إشارة إلى حالها في الدنيا، وكأن هذا هو موجب هذا التعبير وهذا التعبير، وليس هناك اختصاص لهذه الفرقة الناجية عن الطائفة المنصورة أو عكسه.

شرح قول المصنف: (إلى قيام الساعة)

شرح قول المصنف: (إلى قيام الساعة) قال المصنف: [أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة]. قوله: "إلى قيام الساعة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة). مع أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم -في الصحيح وغيره- أنه قال: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق)، ولا تقوم حتى لا يقال في الأرض: (الله الله) وهذا من التعبير العربي الواسع، فإن قوله: (حتى تقوم الساعة) ليس بالضرورة أن يدل على أن الساعة تقوم عليهم، بل عند قيامها؛ فإن من أمارات الساعة الريح التي يبعثها الله سبحانه وتعالى؛ فتأخذ نفوس المؤمنين، حتى يبقى الكفار فعليهم تقوم الساعة. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تقوم الساعة)، وبهذا يتبين أنه ليس معارضاً لخبره: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق).

شرح قول المصنف: (أهل السنة والجماعة)

شرح قول المصنف: (أهل السنة والجماعة) قال: [أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة]. أهل السنة: أي هم المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قد يقول قائل: لِمَ لم يقل: أهل القرآن؟ الجواب: أنه ليس المقصود بالسنة هنا الحديث الذي هو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل معنى السنة هنا أعم من ذلك، فإنه يراد بالسنة في هذا السياق ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، فسنة المرسلين هي رسالتهم، ويمكن أن يقال: إن أهل السنة هنا بمنزلة أهل الرسالة، فقوله: (أهل السنة) أي: المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته ليس فقط ما قاله صلى الله عليه وسلم، بل ما بعث به، وأخصه القرآن الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، ثم ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى نبيه من الأقوال، وكذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأفعال الشرعية. قوله: "والجماعة" يقع في كلام بعض المتكلمين وأهل البدع أن هذا الاسم -يعنون "الجماعة"- دخل عليهم لما اجتمع الناس على معاوية رضي الله عنه، وهذا كله تكلف، فإن الجماعة لفظٌ شرعي، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فيقصد بالجماعة الاجتماع. وفي هذا إشارة إلى أن الإصابة الشرعية معتبرة بشرطين: الأول: الفقه .. وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بقول المصنف: "السنة". الثاني: الاتباع أو الاقتداء، وهو قوله: "الجماعة". وهذا يستلزم نتيجةً شرعية لا بد من فقهها: أن ثمة تلازماً بين السنة والاجتماع، أو أن ثمة تلازماً بين الفقه وبين الاتباع .. وهلم جراً من المعاني. فمن اختص بفقه -ولاسيما في المسائل العامة التي تكلم فيها السلف- ليس عليه أثر صريح من كلام السلف فإنه ينكر عليه مهما أظهر للناظر أو للسامع أنه بناه على النصوص، وهذه النصوص من لم يفقهها فإنه يقع له اختلاطٌ كثير، ليس في مسائل الفقه، بل في مسائل فوق ذلك. وأضرب لذلك مثلاً: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج فوصفهم بقوله المتواتر عنه: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى رصافه فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى قذده فلا يجد فيه شيئاً، قد سبق الفرث والدم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجه: (قتل ثمود) وفي وجه: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) وفي وجه: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل). فهذه الأحرف النبوية قد تقود الناظر فيها ابتداء -ولا سيما أنهم خرجوا على المسلمين، وكفروهم واستباحوا دماءهم، وأنهم لم يعتبروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم- إلى أن هؤلاء قومٌ كفار، وأن الذي كفرهم هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: (يمرقون من الدين) ليس أي مروق، بل: (كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله .. قد سبق الفرث والدم) كالسهم إذا دخل رمية فخرج وليس فيه أي أثر لفرث أو دم، وكأنهم خرجوا من الإسلام لم يبق معهم منه أي أثر. فالأحرف فيها كنايات قوية في ذمهم وفي مروقهم وبعدهم عن السنة وما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الصحابة رضي الله عنهم مع كل هذه النصوص لم يتطرق -حسب ما نقل في الرواية- إلى صحابي واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد تكفيرهم، فإنهم لما ظهروا بآيتهم الحسية وبقتالهم للمسلمين، وبتكفيرهم لأئمة الصحابة الذين أدركوهم، وبسلهم السيف على المسلمين، لم يختلف الصحابة في قتالهم، لكن لم ينقل أي اختلاف عن الصحابة في كونهم ليسوا كفاراً، فقد أجرى فيهم علي بن أبي طالب والصحابة معه رضوان الله عليهم أجمعين سنة المسلمين، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يغنموا الأموال، ولم يسبوا النساء والذراري. بل لما قتل أحدهم علياً رضي الله عنه، وأدخل علي الدار قال: (إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم). فقوله رضي الله عنه: (فإن حييت فأنا ولي الدم)، يدل على أن الرجل مسلم؛ لأنه لو كان كافراً مرتداً لم يكن لـ علي رضي الله عنه ولاية في دمه، ولكان حكمه القتل مطلقاً: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا ليس توانياً من علي رضي الله عنه؛ فإنه لما ظهر الكفر الصريح البواح ما تردد رضي الله عنه -بل ربما فعل أمراً عده بعض الصحابة من الزيادة- في قتل من أظهره، فإنه لما ظهر المؤلهة التناسخية -وهي فكرة زندقية فلسفية نقلت من بلاد فارس وأدخلها قوم يظهرون التشيع، وليس لها أثارة لا في العقل ولا في الشرع ولا حتى في ديانة أهل الكتاب- وألهوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أحرقهم بالنار، فاعترض ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة على مسألة الإحراق، وقال ابن عباس رضي الله عنهما -كما في البخاري -: (لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه). فهذا الباب يحتاج إلى فقه واسع، ومن العجب أن ترى بعض طلبة العلم لا يجزم في بعض المسائل -وهي مسائل فقهية مفصلة- ويقول: إني متوقف فيها، مع أنها مسائل قد درست وصرح بدراستها، وضبطت في كتب الفقهاء. لكن تراه في هذه المسائل الاستطرائية وفي شأنها تخبط كثير، إفراطاً وتفريطاً فإن التفريط فيها ليس بعيداً من جهة قدره وانتشاره عن الإفراط، فالإفراط موجود ولكن التفريط والتقصير في تحقيق هذه المسائل موجود أيضاً.

أصول أهل السنة والجماعة في أصول الإيمان

أصول أهل السنة والجماعة في أصول الإيمان [وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره]. قصد المصنف رحمه الله أن يكون ما يذكره في معتقد أهل السنة والجماعة من باب التفصيل للإيمان الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فإن هذه الأصول من الإيمان هي التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل لما فسر الإيمان، ومن هنا فإن سائر جمل المصنف التي يذكرها في باب الأسماء والصفات أو في باب الإيمان ومسماه، أو باب القدر، أو باب اليوم الآخر؛ هي داخلة في الإيمان بالله؛ فإن الإيمان بجميع ما هو من شرع الله سبحانه وتعالى -العلمي والعملي- من الإيمان به سبحانه وتعالى. كذلك سائر هذه التفاصيل التي يذكرها المصنف رحمه الله هي من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل؛ لأن الدلالات يتنوع موردها، فقد يدل السياق على معنىً من المعاني بدلالة المطابقة أو بدلالة التضمن أو بدلالة التلازم، فسائر هذه المعاني تقع على هذا الوجه. ويمكن أن يقال: إن هذه التفاصيل العقدية التي ذكرها المصنف رحمه الله وغيره في معتقد أهل السنة والجماعة حقيقتها الإيمان بالله سبحانه وتعالى. والمصنفون إذا ذكروا الإيمان فتارةً يريدون به القول في مسماه والرد على المرجئة بذلك، وتارةً يريدون به مسائل الاعتقاد والأصول على الإطلاق. والطريقة الأولى هي طريقة البخاري في صحيحه، والثانية هي طريقة الإمام مسلم في صحيحه، فكتاب الإيمان في صحيح البخاري هو على الطريقة الأولى، أي: القول في مسماه، فقد ذكر البخاري رحمه الله فيه مسمى الإيمان والرد على المرجئة في ذلك. أما الإمام مسلم فإنه لما وضع في صحيحه كتاب الإيمان قصد بذلك أصول الاعتقاد، ولهذا ضمنه جمهوراً من أحاديث أصول الاعتقاد في التوحيد والقدر والشفاعة وغير ذلك.

الطريقة المثلى لتدريس العقيدة

الطريقة المثلى لتدريس العقيدة قول المصنف: (وهو الإيمان بالله إلخ) مما يبين أن معتقد أهل السنة والجماعة لا يخرج عن الأصول التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا ينبه إلى مسألة، وهي: أن ما أحدثته الطوائف من أقوال بدعية في مسائل أصول الدين لا يوجب الزيادة على ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يبقى معتقد أهل السنة والجماعة هو المعتقد الذي كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من بعده. ولهذا كانت الجمل المستعملة في كلام أئمة السلف التي لم ترد بألفاظها في كلام الله ورسوله أو في كلام الصحابة هي -في الغالب-: إما جملٌ سياقها يقع على النفي، أو جملٌ يقصد بها درء شبهة ودفع باطل قد طرأ على الحق. مثلاً: شاع في كلام أئمة السنة والجماعة إذا ذكروا مسألة القرآن القول بأن القرآن غير مخلوق؛ مع أن هذه الجملة من جهة حرفها لا وجود لها في الكتاب والسنة أو في كلام الصحابة رضي الله عنهم، وإنما الذي في القرآن أنه كلام الله؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. وهذا الأمر -وله أمثلة كثيرة في كلام السلف- يبين لنا أنه حين يقرر المعتقد الواجب على سائر المسلمين أن يتبعوه، وهو معتقد أهل السنة والجماعة والمعتقد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة كلها، وأوجب على الأمة أن تتبعه، فإن هذا المعتقد يجب أن يذكر بطريقة التقرير ابتداءً؛ فإنها الطريقة المعتبرة في القرآن والسنة. أما ذكر هذا المعتقد بطريقة الردود وجمل النفي من غير ذكر لجمل الإثبات، فإن هذا ليس من منهج أئمة السلف، فضلاً عن كونه غير معرف بالحق، فإنك لو خاطبت من خاطبت من المسلمين من خاصتهم أو عامتهم بجمل من النفي، فإنهم يعلمون من هذه الجمل أن هذا المنفي ليس حقاً، لكن تعيين الحق من جهة كونه كلاماً مثبتاً مفصلاً قد لا يصلون إليه. قد يقول قائل: إن النفي يستلزم إثبات الضد، فإذا عرف المسلم (أن القرآن غير مخلوق) علم أن السلف يرون أن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، وأن هذا رد لقول من قال: إنه مخلوق من الجهمية والمعتزلة ونحوها. فأقول: إن متكلمة الصفاتية يبطلون بدعة الجهمية من جهة عمومها، فينفون أن القرآن مخلوق، ومع هذا فإنهم -أعني عبد الله بن سعيد بن كلاب من بعده من متكلمة الصفاتية- لا يثبتون معتقد أهل السنة والجماعة من كون القرآن هو كلام الله بحروفه، وأن كلام الله سبحانه وتعالى يقوم بذاته ومشيئته، وأنه بحرف وصوت مسموع إلخ. فالمقصود من هذا: أن تقرير المعتقد في سائر المسائل لا ينبغي أن يعتبر ابتداءً بمسألة النفي أو الرد، وإنما يعتبر بجمل التقرير، وهي الجمل الخبرية أو الجمل الأمرية التي سياقها خبري، ولكنها وقعت أمراً من الشارع، أي: ألفاظها ألفاظ خبرية، ولكنها جاءت في سياق الأمر أو التشريع. والمصنف رحمه الله هنا أتى على هذا القصد الفاضل بقوله: (وهو الإيمان بالله). وهذا أيضاً تأكيد لما سلف من أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وبموجب هذا فإن سائر الطوائف التي يقال عنها أنها مخالفة للسلف هي قبل ذلك مخالفة للإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام.

صور ورود الإيمان في النصوص

صور ورود الإيمان في النصوص قول المصنف رحمه الله: [وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره]. هذا الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في بيان الإيمان، وسائر هذه الجمل الشرعية جمل عقدية، فإن الإيمان بالله والملائكة والكتب والقدر واليوم الآخر هي من محل القلب. ومن هنا ظن كثير من الطوائف -ولا سيما المرجئة- أن الإيمان هو التصديق، وأهل السنة والجماعة لم يذهبوا بعيداً عن هذا الأصل الذي ذكره الشارع؛ فإنهم وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل، فإنهم يقولون: إن أصل الإيمان في القلب. ولهذا فإن الشارع إذا ذكر الإيمان ومعه التفاصيل التي هي تبع لهذا المعتقد؛ فإنه يذكر الإيمان على جهة الاختصاص، وهذا هو الذي وقع في حديث جبريل عليه السلام؛ فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان هو المعتقد، وجعل الإسلام هو العمل، وهو عليه الصلاة والسلام في حديث عبد القيس فسر الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام. وهذا أمر يأتي التفصيل فيه، ولكن يقال هنا: إن السلف وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل إلا أنهم لا يختلفون أن أصل الإيمان في القلب، وأن التصديق هو الأصل في هذا الإيمان، وهو التصديق الذي يقع معه إذعان.

ما اجتمع عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه

ما اجتمع عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه قال المصنف رحمه الله: [وهو الإيمان بالله وملائكته إلخ]. المصنف في رسالته، بل جمهور من كتب من أهل السنة والجماعة في أبواب أصول الدين يعنون -إذا ذكروا مسائل أصول الدين- بالجمل الخبرية التي وقع في مناطها كثيرٌ من الاختلاف، وهذا تحته تعليقان: الأول: أن هذه الجمل الكلية من معتقد المسلمين جمهورها متفق عليه بين سائر أهل القبلة. فمثلاً: حين يقال: إن ثمة خلافاً بين الطوائف في مسائل الأسماء والصفات، فهذا لا شك أنه ثابت، ولكن إذا اعتبرت كليات هذا الباب وهو القول بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص .. إلى غير ذلك من هذه الكليات؛ فإن المسلمين جميعاً قد اتفقوا عليها، ولا يعقل أن أحداً ينتسب إلى الإسلام أو إلى شريعة نبي من الأنبياء صدقاً ينتقص الرب سبحانه وتعالى أو يقول بأنه ليس مستحقاً للكمال. وفرق هنا بين الأقوال الدالة بمنطوقها على ذلك، وبين الأقوال التي تستلزم هذا أو تتضمنه، ولكن صاحبها لا يقصد بها هذا المفهوم؛ فأقوال الجهمية -بل ومن دونهم- تعطيل للرب سبحانه وتعالى عن صفات الكمال، ولكن هذا التعطيل هو إما من جهة التضمن، وإما من جهة اللزوم في مذاهبهم. أما أنهم صرحوا بهذا التعطيل حرفاً وقصدوه، وعرفوا أنه من النقص، فهذا لم يقع لهم ولم يقع لأحد من أهل القبلة. الثاني: جمهور المصنفين في معتقد أهل السنة والجماعة -والمصنف في هذه الرسالة- يذكرون المسائل التي هي محل نزاع من جهة تفاصيلها. فمثلاً: قد يقول قائل: إن مسائل الربوبية -بل وحتى مسائل الألوهية- لا نراها تفصل في الكتب التي تذكر معتقد أهل السنة والجماعة، فإنه وإن كان ثمة كتب من كتب أهل السنة والجماعة مختصة بهذا الباب -كتوحيد العبادة؛ ففيه مصنفات كثيرة- لكن عند النظر فيما صنف في المعتقد نجد أن جمهور هذه الكتب لا تذكر مسألة توحيد العبادة إلا على قدر من الإجمال، ولا تذكرها تصريحاً، والمصنف في هذه الرسالة لم يعن بتقرير هذه المسألة. وكأن هذا إشارةٌ -والله أعلم- إلى أن السلف رحمهم الله ومن بعدهم من أتباعهم اشتغلوا بذكر الأصول التي صارت مورد نزاع. وهذا يبين أن توحيد الربوبية من جهة حقائقه، أو بتعبير أدق: من جهة نتائجه: ليس مورد نزاع، فإن هذا الأصل من حيث هو كلي كان المشركون مقرين به، وإن كان يقع لهم انحراف عن بعض تفاصيله بما هو من الشرك، لكن مسائل الربوبية لم يشتغل السلف رحمهم الله بتفصيلها وتقريرها: كمسألة إثبات وجود الله وأنه الخالق وأنه الملك وأنه المدبر إلى غير ذلك. وإن كانوا فصلوا في باب الأسماء والصفات الذي حقيقته أنه من أخص مقامات الربوبية لله سبحانه وتعالى، فإن غرضهم بتفصيل مسألة الأسماء والصفات هو بيان أن الله سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفات، وأنها صفات تقوم بذاته، وهذا درءٌ للقول الذي أحدثته الجهمية والمعتزلة من القول بأن الرب سبحانه لا يقوم بذاته شيءٌ من الصفات، وإن كانت سائر طوائف المسلمين تثبت ما هو من أحكام الصفات، وإلا فإن من نفى الصفات -أي: من نفى قيام الصفات بالذات- ونفى أحكام الصفات، فإنه لا يكون من الإسلام في شيء، بل ولا ينتسب إلى ديانة نبي من الأنبياء صدقاً. فإن الجهمية والمعتزلة وإن قالوا: إن الرب سبحانه وتعالى لا يقوم بذاته صفة العلم أو القدرة أو السمع أو البصر أو ما إلى ذلك، لكن لا أحد منهم يصف الله سبحانه وتعالى بضد ذلك، فإنهم وإن لم يقولوا بأنه يقوم بذاته العلم، فإنهم لا يصفونه بالجهل وهلم جراً. وأيضاً فإنهم يثبتون أحكام الصفات، أي: كون الرب سبحانه وتعالى لا يعزب عنه شيء، فهذا المعنى من جهته حكماً تثبته الجهمية والمعتزلة وسائر من نفى الصفات، وإن كانوا لا يثبتونه صفةً تقوم بذات الرب سبحانه. إذاً: باب الربوبية لم يشتغل الأئمة بتفصيله كمسألة وجود الله ونحوها؛ لأن القرآن نفسه لم يذكر هذه المسألة على التفصيل التقريري للمؤمنين باعتبارها مسألةً فطرية، وباعتبارها محل إقرار عند جمهور الناس، وإن كان -كما أسلفت- يقع للمشركين انحراف -بل شرك- في بعض تفاصيل الربوبية. وأما مسألة الألوهية: وهي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، فهذه المسألة هي أخص مسألة تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشركو العرب كانوا مخالفين في هذا الأصل، بل هو أصل مخالفتهم هم وغيرهم من المخالفين للرسل، بل يمكن أن يقال: إن العرب لم يكونوا على إظهار للمخالفة في مسائل الأسماء والصفات، بل كان القرآن بين ظهرانيهم يسمعونه، ومع ذلك لم يعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء في باب الأسماء والصفات أو أن العقل يمنع شيئاً من ذلك. وهذا المعنى من جوابات أهل السنة والجماعة على المعتزلة والجهمية الذين زعموا أن العقل يمنع ثبوت هذه الصفات، فيجيب عليهم أهل السنة بأن العرب لم يعترضوا على شيء من هذا بما يقال: إنه من الطرق العقلية التي لا تختص بأمة من الأمم. فالذي ذُكر في القرآن على التفصيل هو توحيد العبادة الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة. فهنا يقال: هل توحيد العبادة من المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة؟ هنا جهتان: الجهة الأولى: أن يقال: إنها مسألة حدث فيه نزاع نظري. الجهة الثانية: أن يقال: إنها مسألة حدث فيها انحرافٌ عند كثير من الطوائف. أما على الاعتبار الأول فيقال: إن هذه المسألة باعتبار أصولها مسألة محكمة، بمعنى: أنه لم يسوّغ الشرك على الإطلاق أو يبطل التوحيد على الإطلاق أحد من الطوائف إبطالاً نظرياً، نعم وقع في كلام بعض علماء السنة والجماعة من المتأخرين ومن أخصهم الإمام ابن تيمية رحمه الله أن المتكلمين لم يشتغلوا بتقرير توحيد الألوهية، وهذا حق، فإنك إذا نظرت كتب المتكلمين من سائر طوائف المتكلمين لا ترى أن لهم اشتغالاً بتقرير هذا التوحيد، ولكن هناك فرقاً بين كون القوم لم يشتغلوا بتقريره -ولا شك أن ذلك تقصير وافتيات على الأصول- وبين كون القوم لا يقرون به أو حتى لا يعرفونه. ولهذا: إذا قيل: إن المتكلمين لا يعرفون هذا التوحيد، فإن هذا القول على هذا الإطلاق ليس بصحيح، إلا إذا فسر بمعنىً صواب، فإذا فسّر بأنهم لا يفرقون بين توحيد الله والشرك به فهذا لم يقع لطائفة من الطوائف، بل إن الرازي مثلاً -وهو من المتكلمة المتأخرين من الأشاعرة- إذا ذكر بعض مسائل الشرك الأكبر ذكر أن هذا كفرٌ وخروج من الملة بإجماع المسلمين. إذاً يقال: إن الذي وقع عند طوائف المتكلمين هو عدم تحقيق هذا الأصل الشريف وهو توحيد العبادة؛ لأنهم لم يشتغلوا بتقريره وبيانه والدعوة إليه والدفاع عنه .. فهذا الحق قصر فيه هؤلاء المخالفون، وليس هو أول تقصيرهم أو خروجهم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم. أما أن القوم ينكرونه أو لا يؤمنون به أو ما إلى ذلك من المعاني، فهذا ليس بصحيح، فإنه لم يقع لطائفة من الطوائف من أهل الكلام أنها نظّرت في كتبها لمسائل الشرك وأقرتها، وأبطلت مسائل توحيد العبادة وردتها. إذاً: هذا الأصل وهو توحيد العبادة من جهة كونه أصلاً نظرياً لم يقع فيه اختلاف نظري، لكن الذي وقع هو انحراف في تطبيقه وتحقيقه، وهذا الانحراف جمهوره وقع عند القاصدين إلى مسائل العمل، ممن دخل باسم التصوف أو العبادة أو ما إلى ذلك؛ فإن جمهور هؤلاء العباد المتأخرين المنحرفين عن سبيل السنة والجماعة ومن يتبعهم من العامة وقع لهم انحراف أو تقصير في هذا التوحيد، فضلاً عن الشيعة؛ فإنهم أيضاً منحرفون في كثير من مسائل هذا التوحيد. إذاً: هذا التوحيد وقع فيه بين طوائف المسلمين انحراف؛ بل يوجد عند بعض الطوائف انحراف يصل إلى حد الشرك الأكبر أحياناً، لكنه يقرر بوجهٍ من العمل، ليس على جهة كونه شركاً أكبر مضاداً للتوحيد، بل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنما يقع من المخالفة في العمل عند طائفة من هؤلاء يحسبون أنها من الإيمان الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: مع أنه يعلم بالضرورة أنها من الشرك الذي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبطاله). فهو انحراف شائع، إما شرك أصغر وإما بدع، وتارةً يكون شركاً أكبر، وهذا الانحراف ليس مخصوصاً بهؤلاء وهؤلاء، بل حتى عند كثير من المتكلمين يقع شيءٌ من ذلك في بعض المسائل، ولا سيما بعدما امتزجت كثير من مسالك الصوفية بمسالك المتكلمين.

امتزاج التصوف بعلم الكلام

امتزاج التصوف بعلم الكلام إذا نظرت إلى من أحدث النظر وعلم الكلام من أئمة الجهمية والمعتزلة وجدت أنهم بعيدون عن المسالك العبادية -مسالك العمل- ولهذا ليس بينهم وبين الصوفية شيء من التوافق، حتى بدأ هذا العلم -أعني علم الكلام- يقرب إلى التصوف وبدأ التصوف يقرب إليه. وكان لهذا موجبات، من أخصها: ظهور المعتزلة البغدادية، والذين كانوا متشيعين لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فحصل بين التشيع وبين الاعتزال قدر من التآلف والاختلاط، وإلا فإن أصول الشيعة كانوا على مذهب التشبيه في الصفات، ثم انحرفوا إلى مذهب التعطيل على طريقة معتزلة بغداد. فهذا التآلف -مع ما هو معروف عند الشيعة من الغلو في آل البيت كـ الحسين بن علي وغيره- جعل مسائل النظر تدخل على هذه المسائل الأخرى من العمل، فصار هذا الانحراف النظري يشاركه انحراف في مسائل العمل. ثم لما ظهر المتفلسفة المحضة -وهم الفلاسفة الذين يصرحون بالفلسفة ويجعلونها طريقاً صريحاً لهم، ولا سيما فلاسفة المشرق كـ أبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا وأمثال هؤلاء- كان من طرقهم التي أحدثوها أن الناظر لا يلزم بالضرورة أن يكون له أخذٌ واحد، بل يكون له أخذ من جهة النظر، وأخذ من جهة العمل، فقرروا بذلك طريقاً مخترعاً، وهو أن المذهب الشخصي للواحد -أي: المعتقد للشخص الواحد- لا يلزم أن يكون معتقداً واحداً، بل يكون متعدداً. ومن هنا تجد ابن سينا في بعض كتبه رجلاً عقلانياً نظرياً، يأخذ الطريقة العقلانية التجريدية المبالغة في العقلانية والتجريد؛ حتى لا يعتبر كثيراً من أدلة العقل، وهي الأدلة الحسية وما إلى ذلك، معتبراً أن هذه الأدلة -كما يزعم عن أرسطو وغيره- هي من الدلائل الخطابية أو من الدلائل الجدلية، وأن برهان اليقين لا يكون بمثل هذه الدلائل. ثم تجده بعد أن استعمل طريقة التجريد العقلي الغالية في الأخذ بالعقليات والبعد عن مسائل الحس وما يتعلق بها، تجده في كتب أخرى له رجلاً صوفياً إشراقياً يعتبر مسائل النفس والعمل وما إلى ذلك، ويبتعد عن مسائل النظر والعقل. فالاختلاط عند هؤلاء المتفلسفة لم يقتصر عليهم؛ إذ لما ظهر متكلمة الصفاتية، وكان خلق منهم قد اشتغل بالفقه، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الكلام، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الحديث، صار أتباعهم إلى مثل هذه الأنحاء. فجاء -مثلاً- أبو حامد الغزالي، وهو من متكلمة الأشعرية، من أصحاب أبي المعالي الجويني، فصرف المذهب الأشعري عن صورته الأولى التي كان عليها الأشعري ومتقدمو أصحابه، وانحرف به انحرافاً باطلاً، وإن كان المذهب من أصله ليس على السنة المحضة، فوضع أبو حامد الغزالي للمذهب الأشعري منهجاً ذكره في كتابه (ميزان العمل)، وصرح بأن المذهب ليس واحداً، بل ثمة المذهب الجدل، وثمة المذهب اليقين، وثمة المذهب العام، فجعل علم الكلام مذهباً للجدل والدفع عن عقيدة المسلمين كما يقول، وجعل المذهب اليقين طريقة التصوف، الذي هو سر -كما يقول أبو حامد - بين العبد وبين ربه، وجعل للعامة مذهباً ثالثاً يخاطب به العامة من الناس الذين لا يعرفون طريق النظر ولا يؤهلون لطريق اليقين والتصوف. فهذه الطريقة التي قررها الغزالي في كتبه انتشرت عنده وعند غيره، ومن هنا يعلم أن الانحراف -أعني الانحراف في توحيد العبادة- لم يختص بالصوفية أو الشيعة فقط، بل وقع حتى عند بعض النظار الذين قرروا مثل هذه المسائل.

شرح العقيدة الواسطية [3]

شرح العقيدة الواسطية [3] الخلاف في أصول الدين لم يكن موجوداً في أول الإسلام، بل ولا حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان أول ظهوره بعد توسع دولة الإسلام في عهد عمر ومن بعده عثمان رضي الله عنهما، إذ دخل في الإسلام أقوام كان لهم أديان وثقافات سابقة، وكانت هذه الثقافات أساساً في ظهور أفكار مخالفة للمنهج القويم، خصوصاً عند من لم يصْفُ إيمانه ولم تستقم عقيدته من أهل تلك البلاد.

منهج ابن حزم في أسماء الله وصفاته

منهج ابن حزم في أسماء الله وصفاته قال المصنف رحمه الله: [ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل]. يستعمل المصنف رحمه الله طريقة الإدخال على هذا الأصل الشريف الذي هو أخص الأصول، وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. قول المصنف رحمه الله: (ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) استعمل المصنف رحمه الله لفظ الوصف، مع أن هذا اللفظ لم يرد في القرآن، ولا في جمهور الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا في بعض الروايات التي اختلف موردها عند المحدثين، بمعنى أنه: قد يتعذر الجزم بأن هذا التعبير هو الحرف الذي عبر به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا فإن أبا محمد ابن حزم رحمه الله لما ذكر في كتابه (الفصل) ما يتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في مسائل الأسماء والصفات، كان مما ذكره أن هذا اللفظ لفظ مخترع، لا يضاف إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يرد في الكتاب والسنة .. وهذه طريقة متكلفة من أبي محمد ابن حزم، فإن هذا الإمام مع سعة علمه وسعة فقهه وفضل ديانته رحمه الله إلا أنه لما ذكر تقرير المعتقد عند أهل السنة والجماعة اختلط الأمر عليه في كثير من الأبواب. فهو من جهة ذم البدع والرد على أهل البدع من سائر الطوائف قد أغلظ في الرد حتى على الطوائف التي لم يغلظ عند محققي من أهل السنة المتأخرين شأنها بدرجة التغليظ الذي قاله ابن حزم، وكذلك المقالات التي لم يغلظ في شأنها بعض أئمة السنة الكبار. ومع هذا فإن ابن حزم في هذا الباب شديد التمسك، لدرجة أنه وقع له قدر من الزيادة فيه، أعني: في الامتداح والحث على التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، والذم للمذاهب المخالفة، فإن من طرق ذمه أنه يكفر بعض الأعيان من المخالفين، وهذه الطريقة ليست مستعملة في كلام متقدمي من السلف، كما أنه قد يزيد في ذم بعض الأقوال بما لم يقع مثله في كلام السلف أو في كلام محققي أهل السنة والجماعة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهو في باب الانتساب لمذهب أهل السنة والجماعة محقق، بل عنده زيادة في التحقيق أيضاً، لكنه في باب التقرير مقصر. هنا مسألة أحب أن ينتبه لها ولا سيما عند المتأخرين: وهي أن ثمة فرقاً بين الانتحال وبين التقرير، فإن طائفة من المتأخرين من أصحاب الأئمة ينتحلون السنة والجماعة، لكنهم يقصرون عند تقريرها، ففرق بين مقام تقرير المذهب وبين انتحاله -أي: الانتساب إليه- والولاء له والذم لمخالفه .. فهذا الأخير سهل التحصيل في الغالب، لكن الشأن الأعظم في تقرير جمل الحق وتفاصيلها. وهذا نجده عند أبي محمد ابن حزم، فإنه إذا انتهى إلى التفاصيل فإنه يبتعد عن الصواب، ومن أخص ذلك -بل هو أخص باب غلط فيه- باب الأسماء والصفات، فإنه انتهى فيه إلى نتيجة مركبة من مقالات أهل السنة والجماعة ومن مقالات المعتزلة، بل بعض طرقه -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- هي من طرق الفلاسفة التي لم تصرح بها حتى المعتزلة. إذاً: قوله في هذا الباب قولٌ مختلف وملفق ومركب من غير مادة، ولهذا لا يعتبر قوله في باب الأسماء والصفات؛ فإن غلطه فيه أكثر من صوابه، ولكنه رحمه الله في باب الإيمان والأسماء والأحكام قال كلاماً حسناً، وذكر معتقد أهل السنة والجماعة بصورةٍ حسنة، وإن كان حتى في هذا الباب -أعني باب الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان- عنده غلط فيه، لكن صوابه أكثر من خطئه فيه، فطريقته ليست منتظمة على جهة واحدة. إذاً: عند التحقيق فإن أبا محمد رحمه الله ليس ممن يؤخذ عنه التفاصيل، وكأن هذا -والله أعلم- هو المنهج اللائق بهذا الإمام حتى في فقهه؛ فإنه رجل محقق في النظر والبحث وتتبع الدليل، ولكن من جهة منهجه الفقهي فضلاً عن منهجه العقدي فإنه يقع له تقصير كثير. ولهذا فإن من اعتبر منهجه رحمه الله على طريقة الاستفادة بعد النظر في أقوال السلف وفي أقوال الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة وأئمة الاجتهاد من متقدمي السلف فإنه يقع له استفادة كبيرة من كلام ابن حزم: من تبيين بعض الأدلة أو التعليق عليها أو حسن الاستدلال أو المعارضة أو ما إلى ذلك. ومن تأثر بطريقة ابن حزم في الفقه فضلاً عن الاعتقاد فإنه في الغالب يقع عنده كثير من الغلط والشذوذ والتقصير، والذي يعجب منه أن من يتأثر بطريقة ابن حزم لا يوافق ابن حزم على بعض أصوله، فمثلاً: ابن حزم لا يعتبر القياس، ومع ذلك فإن من تأثر بطريقته في الفقه لم يعتبر طريقته في الأصول، فإنه يرجح كثيراً من المسائل باعتبار أن الدليل فيها عند الفقهاء هو وجه من القياس، والقياس ليس معتبراً في الاستدلال عنده.

من أصول أهل السنة أن الله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص

من أصول أهل السنة أن الله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص قول المصنف رحمه الله: [ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه]. من أصول أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص. قال الإمام أحمد: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث). هذا الأصل الذي هو من أشرف وأخص أصول أهل السنة والجماعة هو أصل فطري باعتبار جمله الكلية، وهو أيضاً أصل عقلي باعتبار جمله الكلية وكثيرٍ من التفاصيل أيضاً، وهو أصل مفصل باعتبار دليل السمع. فإن المشركين الذين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم من أجناس الكفار لم يقع عندهم إعراض عن هذا التوحيد، أو إبطال لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، ومن هنا تعلم أن هذا التوحيد هو الأصل في معتقد المسلمين، وأن الخروج عنه هو من الخروج عن صريح الكتاب والسنة.

ظهور الخلاف في مسائل أصول الدين

ظهور الخلاف في مسائل أصول الدين لما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع بين المسلمين اختلافٌ في مسائل أصول الدين، نعم قد حدثت الردة وارتد كثير من قبائل العرب، وقاتلهم الصديق في القتال المعروف بقتال المرتدين، لكن لم يحدث نزاع في مسائل أصول الدين بين المسلمين لا في المدينة النبوية ولا في بوادي العرب، حتى جاءت خلافة عمر، وأسلمت كثير من البلاد التي لم تكن كالجزيرة العربية في أمية أهلها، ففتحت العراق وبلاد أخرى، وكان أهل هذه البلاد المفتوحة أصحاب علمٍ سابق، ونظر سابق، وأصحاب ديانات سابقة؛ فهذه البلاد التي فتحت زمن عمر رضي الله عنه وفي زمن عثمان رضي الله عنه .. أسلم أهلها من جهة الجملة، لكن إسلامهم لا يستلزم أنهم أصبحوا من أهل الإيمان والتحقيق، فإن الله سبحانه قال عن الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فأهل هذه البلاد أسلموا إسلاماً عاماً، وكثير منهم صار من المؤمنين الصادقين ومن أولياء الله سبحانه وتعالى، لكن في كثير منهم تقصير وفسوق وظلم وغير ذلك. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه كما وجد النفاق في المدينة النبوية، فإن النفاق العلمي ظهر ووجد في مثل هذه الأمصار العراقية والشامية وغيرها، والتي فتحت زمن الخلافة الراشدة، فهذه الأمصار كثير من أهلها عندهم قدر من عدم التحقيق في هذه الأبواب الشرعية. وهذه البلاد -أيضاً- كان عندها شيء من الثقافات السابقة، فأهالي العراق وبلاد فارس كانت موطناً للفلسفات: فلسفات اليونان التي في أعالي العراق، وفلسفات الفرس، وفلسفات الهند، وهي فلسفات متداخلة. هذه الفلسفات والأقوال والطرق بقي منها شيء، وكذلك بقي قومٌ على أصل دينهم وملتهم لم يدخلوا الإسلام فهذا الإسلام المعروف تاريخياً هو إسلام عام لا يعني تحقيق الإيمان، فقد كان في هؤلاء المقصر وفيهم الظالم وفيهم الفاسق وفيهم المنافق النفاق العلمي وما إلى ذلك.

ظهور الخوارج

ظهور الخوارج ومن هنا: فإن أول نزاع حدث في مسائل أصول الدين هو نزاع الخوارج، لما خرجت الخوارج وكفرت مرتكب الكبيرة من المسلمين. ولكن الخوارج لم تأخذ هذه المقالة -وهي القول بأن مرتكب الكبيرة كافر- من ديانة سابقة أو نظرية من النظريات المعروفة في الديانات المخالفة لدين الإسلام أو حتى لدين المرسلين، بل هي مقولة دخلت على الخوارج لموجبات، أخصها: الطعن في السنة النبوية، حيث لم يعتبروا رواية الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عدم الفقه لكتاب الله سبحانه وتعالى، ولو اعتبرت الخوارج الأولى القرآن، فإن القرآن صريح في أن أهل الكبائر ليسوا كفاراً. ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولو كان الزنا كفراً لكان حكمه في كتاب الله القتل؛ لأنه (من بدل دينه فاقتلوه)؟ ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى يقول في قتل العمد: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فسوغ العفو فيه، وجعل القاتل أخاً، ولم يسقط عنه حق الأخوة.؟ ألم تر أن الله سبحانه يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]؟ ولم يأمر بالقتل من باب الردة ... ؟ إلى غير ذلك. والخوارج ليسوا معذورين في مسألة السنة، بل حتى القرآن؛ فإن سائر الأصول التي ضلوا فيها محققة في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن مسائل الأسماء والصفات، والقدر، والشفاعة، والإيمان ومسماه، والأسماء والأحكام وغيرها هي صريحة في كتاب الله، كما أنها أيضاًأيضأيضاً صريحة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود: أن مقولة الخوارج هي في هذا الوجه، مع ما في نفوس الخوارج من الشدة التي لم يقيدوها بهدي الشارع، وهدي الشريعة، والتي جاءت بأن تكف النفوس عن طباعها، فإن النفوس تميل إلى هذه الشدة، والله لما ذكر الإنسان من جهة جنسه قال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فإذا انفك الإنسان عن هدي الرسالة فإنه يميل إلى الشدة الكامنة فيه.

ظهور الشيعة

ظهور الشيعة ثم ظهرت الشيعة في ذلك التاريخ، فظهر ثلاثة أصناف من الشيعة: مفضلة لـ علي رضي الله عنه لم تسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، واشتهرت الشيعة السابة، وهؤلاء وهؤلاء نقول: إنهم من أهل الأهواء. ثم ظهرت الشيعة المؤلهة لـ علي بن أبي طالب، وهذا القول ليس له مورد من الاشتباه في النصوص أو في الإسلام أو في حقوق آل البيت أو نحو ذلك.

أقسام البدع التي ظهرت في الإسلام

أقسام البدع التي ظهرت في الإسلام هذه الطريقة التي نتدرج في ذكرها الآن نحب أن نصل فيها إلى نتيجة وهي: أن البدع المخالفة للسنة والجماعة أو البدع المخالفة لمذهب السلف تنقسم في الجملة إلى قسمين:

القسم الأول: بدع غير منقولة

القسم الأول: بدع غير منقولة القسم الأول: بدع لم تنقل من خارج الإسلام إلى الإسلام، وإنما هي ضلال وعدم اقتداء من أصحابها بفهم كتاب الله والأخذ بهدي الرسول وأصحابه؛ كبدعة الخوارج وجمهور بدع المرجئة وغير ذلك.

القسم الثاني: بدع منقولة

القسم الثاني: بدع منقولة القسم الثاني: بدعٌ ليس عليها أثارة من هدي الرسالة، بل هي بدع منقولة، وإن كان أصحابها لما نقلوها بما يظهرونه وينتسبون به إلى الإسلام استعملوا معها جملاً من جمل القرآن الكلية. وبهذا يتبين أن البدع المخالفة ليست وجهاً واحداً، وهذا يقودنا بعد ذلك إلى مسألة أحكامها. فمن القسم الثاني -وهي البدع المنقولة- بدعة الشيعة المؤلهة لـ علي بن أبي طالب، فإن هذه البدعة لا يجوز ولا يعقل أن يقال: قد اشتبه عليهم هذا الأمر؛ فهؤلاء ليسوا مسلمين، ولا هم من الإسلام ولا من اليهودية ولا من النصرانية في شيء؛ بل هم قومٌ نقلوا بدعتهم هذه من أحد المذاهب الفلسفية التناسخية الموجودة في بلاد فارس والهند، وهي موجودة إلى الآن في بلاد الهند، ولهذا ترى أن أصحابها ممن يميلون إلى هذا المذهب ينتحلون مثل هذا القول. ومسألة تناسخ الأرواح نظرية مغرقة في التاريخ عند كثير من أهل المشرق من عبدة الأوثان الغالين في شركهم ووثنيتهم. ومن البدع المنقولة التي ظهرت: بدعة القدرية الغلاة، الذين قالوا: إن الله سبحانه لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، فلم يثبتوا العلم السابق، ومن لم يثبت العلم السابق فليس من الإسلام في شيء، وهذه البدعةٌ بدعة منقولة، كان عليها طائفة من فلاسفة اليونان، تكلموا في مسألة الواحد الأول، وهل المعدوم يمكن العلم به أو لا يمكن العلم به، وقالوا: إن المعدوم شيء لا يمكن العلم به. والمقصود أن بدعة القدرية الغالية هي من بدع الزنادقة المحضة، وأصحابها كفار بإجماع أهل السنة والجماعة، بل وبإجماع المسلمين حتى القدرية منهم، وهذا من طريف الحال، فإن أئمة القدرية من غير الغلاة هم المعتزلة، ومع ذلك فإن أئمة المعتزلة كالقاضي عبد الجبار في كتبه يصرح بأن القدرية الغالية -أي: الذين ينكرون علم الرب بما سيكون- كفار، وأن الملة بريئة منهم. ومن البدع المنقولة بدعة نفي الصفات، وهي أكثر هذه البدع إشكالاً لكونها اختلطت على كثير من القاصدين إلى السنة وإلى الحق، فبدعة تأليه علي بن أبي طالب، وبدعة القدرية الغلاة لم تشكل على أحد، فلم ينتحلها إلا الزنادقة، ولكن بدعة نفي الصفات تختلف عنهما؛ باعتبار أن شأنها اشتبه على كثير من الطوائف فيما بعد، فدخلت على بعض من لا يصح أن يضاف إلى الزندقة والإلحاد. هذه البدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا أصل لها حتى في العقل، وإنما هي نظرية منقولة، نقلها أئمة النظار الذين حدثوا في الدولة الإسلامية الأموية إذ ذاك، وهي نظرية منقولة من الفلسفة اليونانية، وبخاصة فلسفة أرسطو طاليس، فإن فلسفته تنتهي إلى نفس الطريقة التي يذكرها الجهم والجعد، ومن بعدهم أبو هذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام وأمثال هؤلاء من أئمة النظر من الجهمية والمعتزلة. ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (درء تعارض العقل والنقل): (إن سائر البدع التي حدثت بين أهل القبلة يقع عند أصحابها استدلالٌ بالكتاب والسنة واشتباه في بعض مواردها، إلا بدعة الجهمية، ولهذا كان من فقه بعض المتقدمين من السلف -كـ ابن المبارك - أنهم يخرجون الجهمية عن أهل القبلة). وهذا لا يلزم منه أن عبد الله بن المبارك رحمه الله يرى أن كل من وقع له قول من أقوال الجهمية وقال به أنه لا يضاف إلى أهل القبلة، بل هذا من تحقيقه أن هذه البدعة بدعةٌ دخلت على المسلمين من مذهب وثني كافر بمسائل الربوبية، فضلاً عن الألوهية. ولهذا لما جاء من صرح بمسائل نفي الصفات -وهو ابن سينا وأبو نصر الفارابي - بعد أن كان المتكلمون يجملون هذا القول ولا يصرحون بالانتساب لأئمة الفلاسفة اليونان، لما جاء المصرحون بهذا المذهب في القرن الرابع وما بعده -ومنهم أبو الوليد ابن رشد مع فقهه وانتسابه للشريعة، لكنه انتحل طريقة الفلسفة المحضة- صرحوا بأن نفي الصفات على هذه الطريقة التجريدية هي الطريقة التي كان يذكرها أرسطو في كتبه. إذاً هذا مذهب منقول؛ وكأن هذا من التعليق على ما سبق القول فيه في مسألة فهم السلف الصالح، حين قلنا: إن هذا القيد قيد حسن بياني، لكن من قال: إنه على الكتاب والسنة، وقد عرف عنه أنه من أصحاب السنة والجماعة لا يستدرك عليه، ولا يقال: إنه لم يذكر الجملة الثالثة وهي فهم السلف الصالح، إلا إذا كان المقام يستوجب ذلك، كالبيان في مقام خاص أو كان القائل لهذا الكلام يعرف عنه إسقاط فهم السلف أو إسقاط الإجماع. فإننا لو استدركنا هذا الاستدراك لاستدركنا على جمهور الأئمة المتقدمين، فإنه يقع في كلامهم أن طريقتهم هي الأخذ بالسنة، وتارة يصرحون بمسألة الإجماع، وتارة يسكتون عنها؛ لأن ثمة تلازماً، فإن من قال: إنه على الكتاب، فإنه إن لم يعتبر السنة فإنه لم يعتبر الكتاب، كما قال الله عن المشركين: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في خطبة الوداع التي شهدها الخاصة والعامة يقول: (وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله) ولا يصح لأحد أن يقول: لماذا لم تذكر السنة؟ ومثله إذا قيل: الكتاب والسنة .. وهلم جراً. فهذا الذكر لفهم السلف الصالح ذكر شريف، لكنه من الأمور البيانية التي لا تلزم إلا إذا قام موجبها. القصد: أن بدعة نفي الصفات بدعة منقولة؛ ولهذا يتعامل معها على أنها من منكر القول وزوره.

الشبهات التي قامت عليها بدعة نفي الصفات

الشبهات التي قامت عليها بدعة نفي الصفات بدعة نفي الصفات أحدثها الجعد والجهم وأمثالهما، وهذا باعتبار العلم التاريخي، وقد يكون هناك من تكلم بها قبلهم ممن لم ينضبط النقل عنهم. فهذه البدعة أحدثها الجعد والجهم، لكن الذي نظرها وقررها وأشاعها هم أئمة المعتزلة، الذين انضبطت لهم مدرسة في العراق، ودخلت على كثير من الأمصار في فارس وبلاد ما وراء النهر. والمعتزلة -فضلاً عن الجهمية الغالية الذين ينفون الأسماء والصفات- لم يقع لهم في كتبهم أنهم اعتبروا نفي صفة من الصفات بآيةٍ من كتاب الله فضلاً عن حديث من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو معتبرٌ بما يسمى دليل العقل، وهو دليل الأعراض. وهذا الدليل عبارة عن نظرية مولدة على أحسن تقدير، ومعنى هذا الكلام أن هذا الدليل مركب من جمل شرعية عامة، وجمل عقلية عامة، لكن هذه الجمل العقلية الكلية أو الجمل الشرعية الكلية لا تؤثر في نتيجة هذا الدليل، إنما المؤثر في نتيجة هذا الدليل هو القسم الثاني منه، وهي المقدمات الفلسفية التفصيلية، المتلقاة عن أرسطو أو غيره. فالذين تكلموا في نفي صفات الرب سبحانه وتعالى إما من الجهمية والمعتزلة، وإما من الفلاسفة المحضة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم، وإما في نفي ما هو من الصفات كمتكلمة الصفاتية من الأشعرية وغيرهم؛ هذه الطوائف في نفيها لما نفته ترجع إلى ثلاثة من الأدلة الفلسفية الكلية: الدليل الأول: دليل الأعراض، وهو أشهر هذه الأدلة، وهو المستعمل عند جمهور المعتزلة وجمهور متكلمة الصفاتية. الدليل الثاني: دليل التركيب، وهو الغالب على طرق الفلاسفة كـ ابن سينا وابن رشد. الدليل الثالث: دليل التخصيص، وقد انتحله بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية كـ أبي المعالي الجويني ونحوه. ومن طريف الحال أن دليل الأعراض لم يستدل به نفاة الصفات فقط، بل حتى المشبهة من المتكلمين قد استدلوا به، فإن المتكلمين وإن كان جمهورهم معطلة نفاة للصفات إلا أن خلقاً منهم على طريقة التشبيه والتمثيل، فـ محمد بن كرام -وهو من المجسمة- كان من أرباب علم الكلام، الذين يعتبرون دليل الأعراض. فأقوال المجسمة، بل وحتى المشبهة كـ هشام بن الحكم وأمثاله من متقدمي الشيعة الرافضة، وكذلك المعطلة من نفاة الصفاة أو ما هو منها؛ مدار أقوال جميعهم على دليل الأعراض في الجملة، ومتفلسفتهم يستعملون دليل التركيب، وبعض متأخريهم يستعملون دليل التخصيص. ودليل الأعراض دليل فلسفي باعتبار جوهره، وإن كان فيه جملٌ عقلية كلية وجمل شرعية كلية، وذلك مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذه جملة كلية يستعملها معطلة الصفات في مثل هذا الدليل، وأما تفاصيل الدليل وحقيقته فإنها مقدمات فلسفية منقولة. فعلم الكلام وإن لم يكن فلسفة محضة -بل فيه جمل من الشريعة وفيه جمل من العقل، ولهذا تجد أن أصحابه تأولوا الشريعة والنصوص إليه- إلا أنه مولد من الفلسفة، أما فيه من الجمل العقلية أو الشرعية فإنها ليست مؤثرة في الجملة في نتائجه، وإنما نتائج هذا العلم من نفي صفات الرب سبحانه وتعالى معتبرة بالمقدمات الفلسفية، ولا يعترض معترض بأن أئمة النظار ككثير من أئمة المعتزلة كانوا يردون على الفلاسفة في مسألة قدم العالم وغيرها -فلا شك أن المتكلمين لهم ردود مشهورة على الفلاسفة- لكنهم وإن ردوا عليهم إلا أنهم قد انتحلوا كثيراً من مادتهم وأصولهم. إذاً: هذه البدعة -بدعة نفي الصفات- ليس لها أصل في نصوص الأنبياء، فإن قال قائل: إنا إذا نظرنا كتب المعتزلة وجدنا أنهم يستدلون على نفي الصفات بشيء من مفصل النصوص، كقول الله تعالى في الرؤية: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]. نقول: القاعدة السالفة على وجهها: أن المعتزلة لا تستدل على قول من أقوالها في الصفات بمفصل النصوص، وأما هذان الدليلان فإن المعتزلة تعتقد وتقرر في مذهبها أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممتنعة، بمعنى أننا لو سلمنا جدلاً أن قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] بمعنى: لا تراه الأبصار، وأن هذا في الدنيا والآخرة، لو سلمنا جدلاً بهذا المعنى، فهذا المعنى ليس هو مذهب المعتزلة، لأن المعتزلة عندهم مذهب زائد يستلزم هذا الأصل وما فوقه، بمعنى: أن هذه الآية لو سلمنا جدلاً أنها تقتضي نفي الرؤية على الإطلاق فإنه ليس فيها إلا نفي الرؤية، لكن المعتزلة تقول: إن الرؤية ممتنعة، وتعلم أن الشيء المنفي يبقى غيباً، فقد ينفى لامتناعه، وقد ينفى لعدم إرادة الله له، أو لعدم قيام سببه؛ فإن النفي لا يلزم منه أن الشيء ممتنع؛ فلو كانت المعتزلة صدقت في الوقوف على الاستدلال بالآيتين لقالوا: الرؤية منفية بآية الأنعام وآية ذكر موسى لكن -الله أعلم- هل هي ممكنة في حق الله أو ممتنعة؛ فإنهم لو قالوا بهذا المذهب لقلنا: اشتبهت عليهم النصوص كما اشتبه قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة:20] على الخوارج، لكن المعتزلة تكفر في كتبها من يعتقد أن الرؤية ممكنة وإن قال بنفيها؛ لأن مجرد القول بالإمكان يستلزم -عندهم- أن الله في جهة، والقول بالجهة يستلزم أن الله جسم، وكل هذا يعتبر عندهم من الكفر الصريح بالله سبحانه. فيتبين عند التحقيق أن القوم لا يستدلون على قولهم بمفصل، ومن هنا استعملوا ما يسمى بالتأويل لنصوص الأسماء والصفات، وما استعملوا التأويل إلا لكون النصوص من الكتاب والسنة لا توافق قاعدتهم العقلية الكلامية، ولو كانت توافقها ما احتاجوا إلى ما يسمى بالتأويل. بل فوق ما يسمى بالتأويل تحصل عندهم قانون صريح: عند تعارض العقل والنقل، يعنون بالعقل علم الكلام الذي هو العلم الفلسفي المنقول إلى المسلمين. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: إن العقل لا يعارض النقل، لكن العقل الذي قرره المعتزلة يعارض النقل؛ لأنه عبارة عن نظرية قررها قوم -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ليسوا مشركين في الألوهية فحسب، بل هم من أئمة الملاحدة في الربوبية، فهي منقولة عن أرسطو طاليس وغيره، الذي لا يثبت رباً خالقاً للعالم، -وإن كان أرسطو يعتبر من أقربهم إلى دين الأنبياء- فضلاً عن المثاليين كـ أفلاطون وغيره. فهذا العقل الذي زعموه هو الفلسفة التي نقلوها وقربوها إلى دين المسلمين؛ ولهذا ظهر عندهم هذا القانون تعارض العقل والنقل، ولا شك أنهم أتوا بضلال، وبكفر، وبزندقة نقولها إلى المسلمين، وبالطبع فإن الباطل والحق يقع بينهما التعارض ولا بد. ولهذا لما جاء محققوهم -وأعني بكلمة (محققيهم) من يصرحون بحقيقة هذا المذهب الذي أحدثه الجهم والجعد والمعتزلة- المصرحون من أصحاب هذا المذهب، منعوا التأويل، وأبطلوا مسألة التأويل، كما هي طريقة ابن سينا الذي قال: إن القرآن مليء بإثبات الصفات، وليس فيه إشارة إلى التوحيد أصلاً -أي: إلى الحق أصلاً- ولهذا جعله كتاباً للعامة، وليس كتاباً للخاصة. فهذه البدعة لا بد أن يعرف فيها هذا القدر، وإذا عرف فيها هذا القدر، فهي من جهة أصلها نقول: إنها بدعة كفرية زندقية دخلت على هذا الوجه. لكن إذا جئنا إلى الأعيان، فإنه يقال: إن بدعة نفي الصفات دخلت على خلقٍ ممن يعرف عنهم أنهم من أهل الديانة والإسلام مع ما فيهم من الظلم والتقصير والبدعة والخطأ، فجمهور من تكلم بهذه البدعة من متكلمة الصفاتية وجمهور المتأخرين من المعتزلة الذين انتسبوا للفقهاء؛ لا يضافون إلى الزندقة والكفر، فإن ثمة فرقاً بين المقالة وبين أصحابها. فإن المقالة قد تكون في حال كفراً وزندقة، ثم يدخلها قدر من الاختلاط والشبهة وما إلى ذلك، أو ينتحلها بعض من انضبط علمه أو انضبطت ديانته عند المسلمين، فتشتبه عليه ويظن أنها من مقالات العلم والإيمان؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن بدعة الجهمية التي اتفق السلف على أنها كفر دخلت على خلق من أهل العلم والإيمان، قال: (بل دخلت على خلقٍ ممن هم من أهل الولاية عند الله سبحانه وتعالى). ولهذا فإن الطريقة التي اعتمد عليها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي ومن يدور في فلكه من المتأخرين في تكفير الأشعرية هي طريقة مبالغ فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي مبالغ في ذم الجهمية وتكفيرهم) فإذا كان هذا الحكم في قوله عن الجهمية فمن باب أولى قوله في الأشعرية، مع أن الهروي نفسه -مع أن له كثيراً الفضائل- عنده بدع لو أخذ بها على منهجه لربما لزمه حكم يقارب الحكم الذي ألزم به الأشعرية.

معنى التحريف والتعطيل

معنى التحريف والتعطيل قال: [من غير تحريف ولا تعطيل]. التحريف في اللغة: الميل. وإنما ذكره المصنف لكونه مستعملاً في القرآن، فإن الله لما ذكر اليهود ذكر أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فكل من لم يهتد في هذه المسألة فإنه محرفٌ لكتاب الله، وأيضاً هذا ليس من الزيادة على الجهمية؛ لأن بدعتهم بدعة منقولة؛ ولهذا فإنهم محرفون للنصوص، والقول بأنهم من أهل التحريف هو حكم مناسب في حقهم. قوله: (ولا تعطيل). التعطيل: هو الخلو والفراغ، كما في قول الله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45] والمقصود: أنهم سلبوا الرب سبحانه وتعالى ما يجب له من صفات الكمال، وقد ذكر المصنف لفظ التعطيل؛ لأن السلف عبروا به، ولأنه مناسب لحقيقة مذهب نفاة الصفات.

معنى التكييف والتمثيل

معنى التكييف والتمثيل قال: [ومن غير تكييف ولا تمثيل]. هذه إبانة لمذهب المشبهة، وإن كان المشبهة ليسوا كمذهب المعطلة في الانتشار والظهور، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك عند قوله: [فهم وسط بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة]. والتكييف: حكاية كيفية الصفات، أي: تعيين كيفية لصفات الله، كالقول بأن لله يدين كيدي المخلوق، أو أن الله جسم لا كالأجسام أو ما إلى ذلك، فتعيين الكيفية للصفة في الإثبات أو النفي هو من طرق التكييف. والتمثيل: هو ذكر مثال للصفة، وهو تشبيه الرب سبحانه وتعالى في باب أسمائه وصفاته. وقد ذكر المصنف رحمه الله لفظ التمثيل؛ لأنه هو المنفي في كتاب الله، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وأما لفظ التشبيه، فلم يذكره، لكون السياق فيه لفظ أشرف منه، فهو اللفظ المذكور في القرآن. وبعض الناظرين يرى أن لفظ التشبيه لا يسوغ التعبير به؛ لأنه ما من شيء وآخر إلا وبينهما قدر من الاشتباه .. وهذا تكلف في تعليل المسائل، بل لفظ التشبيه في باب الأسماء والصفات تواطأ الأئمة وأهل السنة على نفيه. والإمام ابن تيمية رحمه الله يذكر أن باب الأسماء والصفات فيه قدرٌ مشترك من المعنى لابد من ثبوته في الاسم، وأن هذا القدر المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يعقل به الخطاب .. فمن نهى عن التعبير بلفظ التشبيه فقد أبعد وزاد، وإن كان الأولى والأقوم في اللفظ باعتباره وارداً في القرآن وفي المعنى أيضاً التعبير بنفي التمثيل، لكن من عبر بنفي التشبيه، فهذا قولٌ مناسب، ولا سيما أن السلف والأئمة قد استعملوه.

عظم مسألة الأسماء والصفات

عظم مسألة الأسماء والصفات بين المصنف رحمه الله في مقدم رسالته أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم أبان بعد هذا جملاً مفصلة تدخل في هذه الأصول الشرعية، فابتدأ بذكر مسألة الأسماء والصفات، فقال: (ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل). فهو بعد أن ذكر أصول الإيمان الستة التي هي مبنى معتقد أهل السنة والجماعة؛ ابتدأ عند التفصيل بذكر مسألة الصفات. وقد يقول قائل: لماذا لم يبدأ بذكر مسألة توحيد العبادة؟ نجيب عن ذلك بجواب مجمل نوضح به طريقة المصنف، فنقول: إن مراده بهذه الرسالة تمييز معتقد أهل السنة والجماعة عن غيرهم، وإنما ذكر هذه المسألة -أعني مسألة الأسماء والصفات- لأنها من جهة مناطها فيها قدر واسع من النزاع بين طوائف المسلمين، وإنما علق النزاع بمناط هذه المسألة الشريفة -وهي مسألة الأسماء والصفات- لأن مبدأها الكلي ليس فيه خلاف بين المسلمين؛ من جهة أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال وأنه منزه عن النقص؛ فإن باب الأسماء والصفات محصله إثبات الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، والتنزيه له سبحانه وتعالى عما لا يليق به، فهذا القدر الكلي متفق عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من الطوائف ينازع في هذا. وإنما اختلف أهل القبلة في مناط الكمال ما هو، وفي مناط النقص ما هو، وعن هذا تفرع نفي الصفات عند المعتزلة، ونفي جملة من الصفات -وهي ما يتعلق بصفات الأفعال- عند متكلمة الصفاتية كـ عبد الله ابن كلاب وأتباعه، وأبي الحسن الأشعري وأتباعه، وأبي منصور الماتريدي وأتباعه، وعن هذا المناط الكلي تحصَّل مذهب أهل السنة والجماعة المثبت لأسماء الرب سبحانه وتعالى وسائر صفاته التي ثبتت في الكتاب والسنة. إذاً: إنما ابتدأ المصنف بذكر مسألة الصفات على التفصيل باعتبارها أخص مسائل النزاع بين أهل القبلة، فإن سائر ما اختلف فيه المسلمون لا يصل قدره إلى مسألة الصفات، فهي أعظم مسألة حصل فيها النزاع؛ ولهذا انقرض عصر الصحابة رضي الله عنهم ولم يحدث في هذه المسألة نزاع، بخلاف بعض المسائل كمسائل الإيمان والأسماء والأحكام، فإن النزاع فيها حصل، وقد أدرك جملة من الصحابة، وحين يقال: إنه أدرك جملة من الصحابة، لا يعني ذلك أن أحداً من الصحابة أخذ هذا الخلاف أو اعتبره، وإنما المقصود: أن بعض المسلمين قد أحدث شيئاً من البدع في مثل مسائل الأسماء والأحكام والإيمان، ومن الصحابة بقية؛ بخلاف مسألة الأسماء والصفات، فإن شأنها يختلف؛ فهي أجل مسألة حصل فيها النزاع؛ ولهذا لم يذكر المصنف مسألة توحيد العبادة المتعلقة بصرف العبادة لله وحده والبراءة من الشرك؛ لأن هذه المسألة من جهة أصولها النظرية ليس فيها نزاع بين أهل القبلة. والمقصود بأهل القبلة طوائف المسلمين من أهل السنة أو غيرهم. فمسألة توحيد العبادة أو توحيد الألوهية ليس في أصول مسائلها النظرية نزاع بين المسلمين. وحين يقال: إنها ليست مسألة نزاع فهذا باعتبار أصولها النظرية الكلية، وإلا فمن جهة الوقوع ثمة خلل كبير لا يختص بأهل البدع، بل يقع حتى عند بعض العامة من أهل السنة، كمسائل شرك الألفاظ أو بعض مسائل التوسل التي هي نوع من البدع أو الشرك، فمثل هذا يقع بين جملة من العامة، فضلاً عن بعض الطوائف التي يكون منهجها موجباً لمثل هذا الجهل والغلط في توحيد العبادة، كما يقع عند جملة من الصوفية أو الشيعة أو غيرهم. فلا نزاع في هذه المسألة باعتبار أصولها النظرية ولا أحد من المسلمين يقول: إنه يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله، وإن كان بعض أعيانهم قد يقع منه شيء من صرف العبادة لغير الله، لكن لا يتحقق له أن هذا مما يخالف القاعدة الأصل. ويذكر بعض أهل السنة والجماعة أن المتكلمين لا يذكرون توحيد العبادة، وهذه جملة ينبغي أن تفقه على وجهها، فإنهم -أعني المتكلمين- في كتبهم لا يذكرون هذا التوحيد، ولا يبنون الأصول عليه، وهذا قدر ثابت عنهم، وأما أنهم لا يؤمنون به أو لا يعتبرونه من التوحيد أو ما إلى ذلك، فليس كذلك؛ بل جميع المسلمين يتفقون على أصل توحيد العبادة، وإن كانت بعض الأصول النظرية فضلاً عن بعض التطبيقات العملية يقع فيها خلل واسع عند جملة من العامة وبعض نظار الطوائف، وخاصة طوائف الشيعة أو طوائف الصوفية؛ ولهذا لم يذكر شيخ الإسلام رحمه الله مسألة توحيد العبادة؛ باعتبارها مسألة مسلَّمة بين المسلمين. وأما مسألة الصفات، فكما أسلفت: قد وقع النزاع في مناطها، وأما من جهة أصلها -الذي هو إثبات الكمال لله- فهي محل اتفاق.

قاعدة في إثبات الأسماء والصفات والفرق بينها وبين باب الإخبار

قاعدة في إثبات الأسماء والصفات والفرق بينها وبين باب الإخبار الإثبات لاسم من أسماء الله سبحانه وتعالى أو صفة من صفاته عند أهل السنة والحديث معتبر بمورد النص المفصل، فلابد أن يكون مبنياً على دليل مثبت له: إما من كتاب الله، وإما من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا بد للناظر في مسائل الأسماء والصفات أن يعرف فرقاً عند أهل السنة والجماعة بين مورد الإثبات وبين مورد النفي؛ فإنا إذا ذكرنا الإثبات للأسماء والصفات قلنا: إنه مبني على مفصَّل النصوص؛ فلا يثبت اسم من الأسماء ولا صفة من الصفات، إلا وقد ثبتت وجاءت به النصوص؛ إما مطابقةً وإما تضمناً. والمطابقة نعني بها التصريح بالصفة كالرحمة والعلم والسمع أو التصريح بالاسم كالعليم والسميع والبصير. والتضمن مستفاد من باب الإخبار عن الرب سبحانه وتعالى، والذي يقول فيه أهل السنة: إن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء. فهذا -أعني باب الأخبار أو باب الإخبار، ولك أن تقول هذا وهذا والثاني أقرب- مبني على النصوص المفصلة من جهة التضمن. فإذا قال قائل: كيف يقال: إن باب الإثبات مبني على النصوص مع أن أهل السنة يتوسعون في باب الإخبار، أو يفرِّقون بين باب الأسماء وباب الإخبار عن الرب سبحانه وتعالى؟ فيقال: إن باب الإثبات مبني على النصوص المفصلة، لكن دلالة النصوص قد تكون مطابقة، وهذا ما يصرح به في الأسماء كالسميع والبصير ونحوها، أو في الصفات كالسمع والبصر والرحمة والعلم، أو تقع الدلالة تضمناً، وهذا يفيد ما يسمى بباب الأخبار، ولهذا يخبر عن الرب سبحانه وتعالى ببعض الأفعال وبعض الإضافات التي هي على طريقة الأسماء في اللغة الإضافية، وإن كان هذا الاسم الإضافي لم ترد به النصوص على التصريح، فيقال: إن هذا ليس من الأسماء الحسنى، وإنما هو من باب الإخبار. فإذا قيل: من أين جاء الدليل على الإخبار؟ قيل: دلت عليه نصوص من الصفات تضمناً، وقد يؤخذ هذا التضمن من صفة واحدة، وقد يكون هذا المعنى الإخباري أُخذ تضمناً من أكثر من صفة أو أكثر من اسم. وهنا تكون النتيجة: أن باب الإثبات للأسماء والصفات أو الإخبار عن ذلك مبني على مورد النصوص، إما مطابقة وهو ما يسمى صفةً أو اسماً، وإما تضمناً وهو ما يسمى في اصطلاح أهل السنة باب الإخبار، وهذا مصطلح فيه قدر من التأخر، وإن كان قد ذكره الشيخ أبو عثمان الصابوني رحمه الله وجمعه، وذكره الإمام ابن تيمية من بعده. فباب الإثبات مبني على النص، فإن كان مطابقة، قيل: هو اسم أو صفة بحسب مورده، وإن كان تضمناً، فهو باب من الخبر الذي قد يكون محصَّلاً من اسم واحد أو صفة واحدة، وقد يكون محصَّلاً من أكثر من ذلك. ومن هنا ذكر الدارمي رحمه الله الحركة من باب الإخبار عن الله، وهذا لفظ فيه قدر من النزاع من جهة: دخوله في باب الإخبار أو عدم دخوله. ولهذا يقال: إن باب الإخبار قد يقع في بعض إطلاقاته أو بعض حروفه قدر من التردد بين الأئمة، فهذا لا ينبغي أن يُشكل على معتقد أهل السنة والجماعة، وليس هو من باب الخلاف بينهم في الصفات، فإن ما صرحت به النصوص من اسم أو صفة، فإنهم مجمعون عليه، وأما باب الإخبار فكما ترى أنه محصَّل من جهة دلالة التضمن، وقد يكون هذا التحصيل فيه قدر من النزاع، وقد يكون في اللفظ الذي أريد للمعنى المحصل قدر من التردد؛ ولهذا لا عجب أن يقع بين جملة من أهل السنة قدر من التردد في هذا، ولا سيما وقد اشتغل كثير من المتأخرين بهذا الباب -أعني باب الإخبار- فتوسع ابن مندة رحمه الله في كتاب الأسماء والصفات، ومثله البيهقي في هذا الباب في كتابه الاعتقاد، كذلك ابن مندة في كتاب الإيمان أو كتاب التوحيد. وأنبه إلى أن شيخ الإسلام رحمه الله أحياناً يستعمل لفظ الاسم على مورد الخبر، فهنا لا يقال: إن شيخ الإسلام يجعل هذا المورد من الأسماء الحسنى، فإنه ربما قال: وعند جمهور أهل السنة أن الله يسمى كذا؛ مع أن هذا الاسم الذي أورده بمثل هذا السياق لا ترى أن النصوص جاءت به على التصريح، فمثلاً قوله: (وعند جمهور أهل السنة من أصحابنا وغيرهم أن الله يسمى دليلاً) فهذا ليس من باب أن الإمام ابن تيمية يجعل الدليل من الأسماء الحسنى التي هي على سياق السميع والعزيز والحكيم .. إلى غير ذلك، فكلمة (يسمى) في مثل هذا السياق لـ شيخ الإسلام هي بمعنى: يخبر عنه بذلك، وتعلم أن الألفاظ مشتركة، فإنك لك أن تقول في سائر الأسماء والصفات أنها خبر عن الله، فإن هذا باب فيه لفظ مشترك واسع.

باب التنزيه (النفي) وقواعده

باب التنزيه (النفي) وقواعده نفي النقص أو التنزيه للباري سبحانه وتعالى عما لا يليق به هل هو مبني على مورد النصوص، أم أنه ليس مبنياً على مورد النصوص؟ نقول: الجواب عن هذا السؤال يقع باعتبار المراد بهذه الجملة، ومعنى هذا: أنه لك تقول: إن التنزيه أو النفي مبني على مورد النصوص، ولك أن تقول: إنه ليس كباب الإثبات من جهة بنائه على مورد النصوص، وكلا الجوابين صحيح، ومن هنا قد يقع للمتأمل في كلام أهل السنة أنهم تارةً يسوون بين البابين -أعني: باب الإثبات وباب النفي- فيقولون: إنه يُثبت لله ما أثبته لنفسه، أو يوصف الباري بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، ويُنفى عنه ما نفاه عن نفسه. وشيخ الإسلام تارةً يستعمل الطريقة الأولى التي يُفهم منها التسوية بين باب الإثبات وباب النفي، وتارة يُفهم من كلامه -كما هي طريقته في الرسالة التدمرية- أن ثمة فرقاً بين البابين، وأن باب النفي ليس مبنياً على مورد النصوص كباب الإثبات، وكلا الاستعمالين صحيح، ولكن يفقه المعنى المراد، فإن مرادهم حين يقولون: إن باب النفي مبني على النصوص؛ أي: أن كل نقص لا يليق بالله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعلم أن النصوص سواء المجملة أو المفصلة قد جاءت بنفيه؛ ولهذا سائر ما يمكن أن يفرض من المعاني التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى يصح أن يقال: إنها منفية بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإنها منفية بمثل قول الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وإنها منفية باعتبار منافاتها لصفات الكمال المفصلة. وبهذه الطريقة فإن كل نفي يمكن أن يستدل عليه بالنصوص النبوية أو القرآنية المجملة أو المفصلة، فهذا مقصودهم حين يقولون: إن الإثبات والنفي مبنيات على النصوص. وقد يفرقون بين البابين، كـ شيخ الإسلام في مواضع من كتبه، حيث يقول: (إنه لا يصح الاعتماد في باب النفي على مورد النصوص) ومراده بهذا أن النصوص في كتاب الله لم تفصِّل بالتعيين مورد النفي والتنزيه، فإن عامة صفات النقص لم يذكرها الله سبحانه وتعالى تصريحاً في القرآن؛ بل الذي ذُكر مفصلاً من صفات النقص قدر يسير منها؛ كالظلم في قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وكالنوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى غير ذلك؛ فالمعاني التي لا تليق بالله لم يذكر منها مفصلاً في النصوص إلا قدر يسير، فمثلاً: صفة الجهل ما نطقت بها النصوص نفياً بالتصريح؛ فلا يقل قائل: أين الدليل في نفي هذه الصفة عن الله على جهة التصريح؟ فإن هذه الصفة يُعلم أنها منفية بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وكذلك يُعلم أنها منفية بأن الله أثبت لنفسه صفة العلم، والعلم والجهل متقابلان، فإذا ثبت أحدهما لزم نفي الآخر .. إلى غير ذلك من الطرق؛ ولهذا قد يقال: إن مورد التنزيه ليس مبنياً على النصوص على مثل هذا المعنى، وقد يقال: إنه مبني على النصوص على مثل ذاك المعنى، فهذا لفظ مجمل قد يقع فيه الإطلاق على هذه الجهة أو على هذه الجهة.

شرح العقيدة الواسطية [4]

شرح العقيدة الواسطية [4] إن تعريف التأويل بأنه: صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز لقرينة ليس له معنى يعرف لا في لسان العرب ولا في كلام الصحابة، فضلاً عن أن يكون مراداً في نصوص الكتاب والسنة. وما وقع فيه أهل الكلام وبعض طوائف المنتسبين إلى الإسلام من تأويل في أسماء الله وصفاته إنما هو نوع من التحريف؛ لأنه تأويل لها على غير المعنى الذي أراده الله تعالى.

التأويل ومعانيه

التأويل ومعانيه قال المصنف رحمه الله: [من غير تحريف ولا تعطيل]. عبَّر المصنف هنا بلفظ التحريف، ومراده التأويل؛ إذ لا توجد طائفة من طوائف المسلمين تُصرِّح بأن شيئاً من كتاب الله يقبل التحريف، أو أن ما تقوله في القرآن هو من باب التحريف، لا في باب الأسماء والصفات ولا في غيره، واللفظ المستعمل في هذا المراد هو لفظ التأويل، لكن المصنف لم يقل: من غير تأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد في النصوص القرآنية والنبوية ولا حتى في كلام الصحابة مورد الذم، بل ذُكر مورداً فاضلاً مناسباً، فإن التأويل في كتاب الله أو في سنة نبيه إما أنه يقع على معنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وإما أنه يقع على معنى التفسير. وإذا تحققت في النظر وجدت أن المعنى الأول والثاني مادتهما واحدة، فالكل تفسير: إما تفسير المعاني، وإما أن يكون الحقيقة التي يئول إليها الشيء. وعلى مثل هذا المعنى وذاك جرى الخلاف بين طائفة من السلف في الوقوف على قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] فإنه إذا وقف هاهنا كان المراد الحقيقة التي تئول إليها الأشياء، وهذه الحقيقة التي يؤول إليها أمر الغيب اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، وإذا كان الوقوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] كان التأويل هنا بمعنى التفسير، فإن تفسير القرآن يعلمه الراسخون في العلم. فهذا المعنى وذاك المعنى هو المستعمل في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل. وأما التأويل الذي قال فيه أصحابه ونظَّاره: أنه صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز لقرينة؛ فإن هذا التأويل بهذا الحد ليس له معنى يعرف لا في لسان العرب ولا في كلام الصحابة؛ فضلاً عن أن يكون مراداً في نصوص الكتاب والسنة. فمراد المصنف هنا حين قال: (من غير تحريف)؛ أي: من غير تأويل، ولكنه لم يعبر بلفظ التأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد مورد الذم في النصوص، وإنما الذي ذمه الله في كتابه هو التحريف الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل. فمن تأوَّل صفات الباري على غير معناها، وعلى غير موردها من جهة اللغة، فهو في نفس الأمر قد وقع في قدر من تحريف معاني الكتاب والسنة، ومن هنا ناسب أن يسمى المصنف هذه الطريقة المستعملة عند المتكلمين تحريفاً. وهذا التأويل هو مسألة نظرية بخلاف مسألة التعطيل؛ حين قال المصنف: (من غير تحريف ولا تعطيل)؛ فإن لفظ التعطيل ليس لفظاً نظرياً عند أصحابه. والتعطيل لفظ أطلقه السلف على طريقة الجهمية ومن شاركهم فيها من المعتزلة أو غيرهم، ومعناه: الخلو والفراغ، فهم لما نفوا صفات الباري عطَّلوا الباري عن كماله اللائق به. وهذا دارج في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين؛ وهو أنهم يسمون نفي الصفات تعطيلاً؛ أي: تفريغاً عن الكمال.

قاعدة التأويل عند المبتدعة وسبب القول بها

قاعدة التأويل عند المبتدعة وسبب القول بها التأويل عند أهل البدع يراد به صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة. وهذه القاعدة وهي قاعدة التأويل -ويجب أن ندرك أنها قاعدة أكثر من كونها تعريفاً أو رسماً لاسم من الأسماء- من أخص قواعد المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات. فإن أول من أحدث نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى هم الجهمية، وشاركهم في هذا المعتزلة، وهم مادة واحدة في هذا الباب. لم يكن نفي القوم من أوائل النظَّار لصفات الباري ناشئاً عن نظر في كتاب الله سبحانه وتعالى، فحصَّلوا منه نفي الأسماء أو نفي الصفات أو نفي ما هو منهما؛ ولكن القوم يخالفونك في الجواب؛ بل هم يصرحون بأن النصوص لم تنطق بالنفي، وإنما نطقت بالإثبات، ولكنهم تأولوا نصوص الإثبات ولم يتأولوا نصوص النفي؛ فنصوص النفي كقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ليس فيها نزاع بين أحد من المسلمين؛ فهي على ظاهرها أو على وجهها؛ إنما الذي هو مورد النزاع هو نصوص الإثبات. فهم إنما أرادوا إثبات المعتقد الذي يعتبرونه معتقداً للمسلمين؛ فاتخذوا هذه الطريقة المسماة بطريقة المتكلمين، وهذا يبين لنا مسألة مهمة؛ وهي أن الفرق بين أهل السنة والجماعة وبين سائر الطوائف ليس مبنياً على آحاد النصوص، بل هو مبني على الأصول أو ما يسمى بالمنهج. قد يقول قائل: لم اتخذوا طريقة علم الكلام وتركوا الطريقة التي عليها أئمة السنة والحديث؟ فأقول: هذا لضعف فقههم في طريقة أهل السنة، ولسببٍ مهم آخر قد لا يكون مشهوراً، وهو أن القوم أرادوا تقريب هذه الطريقة إلى قوم من الزنادقة والفلاسفة الذين لا يدينون بالإسلام أصلاً، فأرادوا الرد عليهم بتقرير عقيدة المسلمين بنفس مادتهم .. وهذا هو أول إشكال وقعت فيه المعتزلة وأمثالها، وهو أنهم أرادوا إثبات معتقد المسلمين والرد على الفلاسفة بنفس مادة الفلاسفة التي سموها علم الكلام الذي نقول: إنه محصل من الفلسفة من جهة جوهره، وإن كان فيه قدر من الشريعة واللغة والعقل، فهذا القدر هو باعتبار تفريعه أو ما يتعلق بمسائله وبحوثه. فأرادوا ذكر معتقد المسلمين، فبدءوا بمسألة وجود الرب سبحانه وتعالى، فلما أراد القوم إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى، قالوا: الدليل على وجوده هو وجود العالم، والعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، وظنوا أن هذا هو قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] وثمة فرق بين دليلهم على إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى وبين طريقة القرآن، فإن قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ليس هو في مورد إثبات وجود الرب؛ فإن هذا بديهة؛ بل هو في مورد إثبات جملة من معاني الربوبية التي لم يحقق الإيمان بها جملة من المشركين .. فهنا فرق بيِّن. وبعد أن قال هؤلاء: إن الدليل على ثبوت وجوده هو حدوث العالم، أرادوا إثبات حدوث العالم، فإن منازعيهم من الفلاسفة يقولون: إن العالم قديم، فأراد هؤلاء إثبات حدوث العالم، فبم استدلوا على حدوث العالم؟ هنا انقسموا إلى قسمين: - تعداد جهميتهم ومعتزلتهم قالوا: إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالصفات التي سموها الأعراض. - تعداد متكلمة الصفاتية منهم كـ ابن كلاب والأشعري والماتريدي: إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالحركة، وأنه لا يبقى على زمان واحد. فأثبتوا وجود الله بهذه الطريقة التي عليها جملة من الإشكالات: أولاً: أنها طريقة مُتكلَّفة. ثانياً: أنها استلزمت عندهم لوازم باطلة. ثم جاءوا إلى صفات الباري سبحانه وتعالى، فلم يمكن للجهمية والمعتزلة أن تثبت صفات الله على طريقتهم؛ لأن دليل حدوث العالم عندهم هو اتصافه بالصفات، فلزم أن يكون الرب على خلاف هذا العالم؛ فلو أثبتوا صفات الله -على زعمهم- لوصفوه بالحدوث، ومن هنا نفوا الصفات. ثم لما جاء الأشعري وترك الاعتزال وأعلن توبته منه، تمسك بأصل الاعتزال في باب الصفات، وقال: إن الدليل على حدوث العالم هي الأعراض والصفات، ولكن ليس جميعها، وإنما المتحرك منها، فالدليل على حدوث العالم: أنه متحرك ولا يبقى زماناً واحداً ثابتاً. وهذا مما يبين لك غلط من يقول بأن الأشعري رجع إلى معتقد أهل السنة، بل المسألة فيها تفصيل. فإن الأشعري -ومن قبله ابن كلاب - وكذلك قرينه -أعني: قرين الأشعري - الماتريدي، التزموا نتيجة لهذه القاعدة نفي بعض الصفات، وهي كل صفة من صفات أفعال الرب المتعلقة بمشيئته وإرادته، ومن هنا نفى القوم من هؤلاء أو هؤلاء: إما سائر الصفات، وإما صفات الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة. ومن هنا وقع الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والكلابية فيما يسمى عند أهل السنة بالتعطيل، وهو نفي الأسماء والصفات أو نفي الصفات أو نفي جملة من الصفات. وقد نفى أولئك القوم الصفات أو ما هو منها وهم لم ينظروا في دليل القرآن: أهو مثبت للصفات أم ناف لها. فلما نفوا الصفات على هذا الدليل الذي جعلوه مثبتاً لحدوث العالم -وهو ما يسمى عند القوم بدليل الأعراض- رجعوا إلى القرآن، فوجدت المعتزلة أن القرآن يثبت الصفات لله، ونتيجتهم التي يرون أنها لازمة لإثبات وجود الله تقول بالنفي، وكذلك لما رجع ابن كلاب والأشعري والماتريدي إلى القرآن وجدوا أن القرآن في أكثر من مائة موضع؛ كما يقول الرازي من الأشاعرة؛ يقول: (إن القرآن في أكثر من مائة موضع يثبت مسألة الحركة) أي: الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة. فوجد هؤلاء وهؤلاء أن القرآن خالف نتيجتهم العقلية. مما سبق يتبين أن القوم نفوا الصفات أو نفوا ما هو منها لا تفريعاً عن أدلة من القرآن؛ بل بناءً على أصل باطل ابتدعوه. ومن هنا كان خلاف هؤلاء في الصفات يختلف عن خلاف الخوارج .. ، وذلك لأن الخوارج لما كفَّروا مرتكب الكبيرة استدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] .. {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] بخلاف هؤلاء، فليس عندهم على نفي الصفات أو ما هو منها أدلة مفصَّلة من القرآن؛ بل المعتبر عندهم دليل واحد، وهو ما يسمى بدليل الأعراض؛ وهو دليل ليس له أصل في الشرع ولا معنى في لغة العرب؛ إنما هو منقول من الفلسفة التي كان عليها جملة من الملاحدة اليونان، وهذا الدليل أنتج عند المعتزلة والجهمية وأمثالهم نفي الصفات، وأنتج عند ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وأبي منصور الماتريدي نفي صفات الأفعال. فلما رجع القوم إلى كتاب الله .. وجدوه يخالف ما هم عليه، فأرادوا أن من تهمه مخالفتهم له؛ فأما السنة فإنهم يخرجون منها بمخارج كثيرة، من أخصها: جهلهم بالسنة؛ فإن كثيراً من النصوص لا يعرفونها، وحين نقول: جهلهم بالسنة؛ ليس من باب التجني عليهم، فإن عامة أهل الكلام من أجهل الناس بالسنن والآثار، وفيهم جهل واسع بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن آثار الصحابة. ثم ما يثبتونه من السنة يخرجونه على مورد الظن وأنه من باب الآحاد، وأنه لا يحتج بالآحاد في العقائد إلخ. ولكن لما نظروا القرآن وجدوا أن للقرآن تفصيلاً على خلاف طريقتهم؛ فرجعوا إلى لغة العرب؛ فحصَّلوا من لغة العرب نظريةً زعموها أصلاً في اللغة وهي محدثة، وإن شئت فقل على سبيل التنزل: إنها بدعة في اللغة، فكما أنك تقول: إن هذه بدعة في الشرع، فهذه بدعة في اللغة، ذلك هو ما زعموه بأن اللغة منقسمة إلى حقيقة ومجاز، فاستدعوا مسألة الحقيقة والمجاز ليبنوا عليها قانون التأويل الذي يقول: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة. وصرف نصوص الصفات عن ظاهرها إلى معاني لا يشترط عندهم فيها إلا شرط واحد، وهو أن يكون المعنى الذي صُرف اللفظ إليه لا يتعارض مع مذهبهم. لقد وجدوا أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات على التفصيل في كتابه، فأرادوا بمسألة التأويل أن ينفوا إثبات القرآن للصفات، وأن يجعلوا القرآن غير معارض لطريقتهم التي نفوا بها الصفات أو ما هو منها، فقالوا: إن سائر ما أثبته القرآن من الصفات والأفعال، فإنه يؤوَّل؛ بمعنى: يُصرف من الحقيقة إلى معنىً مجازي. فقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] مشكل على طريقة القوم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يتصف بفعل، وهذا متفق عليه بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم؛ لأن العالم يتصف بالفعل. فهم لذلك يلجئون إلى التأويل بأن يقولوا: إن المقصود جاء ملك، فإذا كان المجيء متعلقاً بملك، فإن هذا لا يعارض قاعدتهم في نفي الصفات؛ لأن الملك جزء من العالم المخلوق، والعالم المخلوق يتصف بالأفعال؛ فهذا هو معنى التأويل عندهم؛ صرف الألفاظ التي ملئ القرآن بذكرها عن ظاهرها إلى معاني لا تتعارض مع ما أصلوه. وهذا يبين لنا أن القوم لم يستعملوا لغة العرب لفهم القرآن بها عند تقريرهم للمذهب -أي: لمذهبهم-، بل كان ذلك لدرء معارضة القرآن لمذهبهم. إذاً: هم وضعوا المذهب كاملاً بعيداً عن لغة العرب، وبعيداً عن دلالة القرآن والسنة! وهذا يكفي المسلمين خاصةً وعامةً دليلاً على فساد هذه الطريقة، وأنها طريقة مخترعة مخالفة لطريقة الرسل، وأن طريقة نفي الصفات تخالف حتى طريقة أهل البدع الأخرى كالمرجئة والخوارج؛ فإن هؤلاء على ما فيهم بنوا كثيراً من أقوالهم على مفصل من القرآن فهموه غلطاً؛ بخلاف هؤلاء؛ فإنهم بنوا المذهب كاملاً خارجاً عن اللغة؛ فإن دليل الأعراض ليس مبنياً على ذوق العرب، فالعرض في لغة العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر، والجوهر عند العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر إلخ. فهو دليل غير مبني على اللغة ولا على النصوص، إنما هو منقول من الفلسفة. ولكن لما تحصَّل

فساد التأويل الذي حرف به المبتدعة النصوص شرعا وعقلا ولغة

فساد التأويل الذي حرف به المبتدعة النصوص شرعاً وعقلاً ولغة ذكر المبتدعة للتأويل حداً قالوا فيه: التأويل هو صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة .. فنقول: هذا الحد للتأويل فاسد شرعاً وعقلاً ولغةً.

فساد التأويل شرعا

فساد التأويل شرعاً أما فساده الشرعي فباعتبار كونه بدعةً لم تذكر في كلام الله ورسوله ولا في كلام الصحابة، ولو كان القرآن يفقه بهذه الطريقة في مورد الأحكام أو في مورد الأخبار، للزم أن يشير الصحابة رضي الله عنهم أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن نفسه إلى هذه الطريقة، فهذه الطريقة مخالفة للشرع باعتبار كونها بدعة. فإن قالوا: إن التأويل مذكور في القرآن. قلنا: الذي ذكر في القرآن ليس على هذا المعنى؛ بل على معنى التفسير أو على معنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء.

فساد التأويل عقلا

فساد التأويل عقلاً وهو فاسد من جهة العقل من أوجه؛ من أخصها: أن أصحابه قالوا: إن التأويل هو صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة. فنقول لهم: النص بذاته هل يفيد الحق، أم أنه يفيد الباطل، أم أنه لا يفيد هذا ولا هذا؟ فإن قالوا: إن النص بذاته يفيد الحق الذي يزعمونه هم حقاً، قلنا: إذاً لا نحتاج إلى شيء يقال له: صرف ودليل وقرينة. وإن قالوا: إنه لا يفيد حقاً ولا باطلاً. قيل: هذا ممتنع؛ لأن القرآن قد نزل القوم يعرفونه وهم عرب، فلا بد أن يفهموا عنه معنى؛ إما أن يكون هذا المعنى حقاً وإما أن يكون باطلاً. أما كون الآية لا يفهم منها لا الحق ولا الباطل، فهذا ممتنع. إذاً: النص بذاته قبل مسألة القرينة والصارف وغير ذلك إما أن يفهم عنه حق وإما أن يفهم عنه الباطل، فإن فهم عنه الحق فإنه لا يحتاج إلى تأويل، ونبقى على طريقة أهل السنة. بقي عند القوم أن يقولوا: إن النص بذاته من حيث هو لا يفهم عنه إلا الباطل الذي لا يليق بالله، وهو النقص، وتنقيص الباري كفر به، فاستقر اللازم العقلي على أن النصوص عند القوم لا يفهم منها إلا الباطل. وكون نصوص القرآن المقدس الذي هو كلام الله لا يفهم منه إلا الباطل ممتنع عقلاً، فلنا أن نقف على هذا الجواب، ونقول: إنه يمتنع عقلاً أن تقول: إني أومن بهذا القرآن، وأنه من عند الله، وأنه محفوظ من الغلط، ثم تأتي وتقول: إنه لا يفهم عنه إلا الباطل؛ فهذا تناقض في العقل. ولكنا نزيد التقرير العقلي إضافة ونقول: وإذا كان النص لا يفهم عنه إلا باطلاً؛ فإن الحق إذاً تحصَّل بالدليل الصارف، فقد صار الدليل الذي يسمونه قرينة ليس مجرد قرينة أو صارف، وإنما هو محصل تام للحق. إذاً يكون النص ليس له مورد في الحق لا باعتبار ذاته ولا باعتبار تأثير الدليل الصارف عنه؛ بمعنى: أن القوم لو قالوا: إن النص بذاته لا يفهم عنه إلا باطل، ولكنا نفهم الحق عن النص إذا قارنه الدليل، نقول: الجواب العقلي هنا أن الحق الذي زعمتم عرف من جهة الصارف وحده؛ فإذاً ما كان ينبغي لكم أن تطيلوا هذه المسألة؛ وتقولوا: إننا فهمنا من النص كذا، فمثلاً: قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] إذا صرف بقولكم: جاء ملك من الملائكة، لم يكن له أثر على تقريركم للتوحيد إيجاباً، وكان مجرد فعل من أفعال المخلوقين كسائر أفعالهم، وهم يستدلون بقيام الناس وقعودهم على نفي الصفات من هذا الوجه؛ فيكون قولهم في مثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] على هذه الطريقة.

فساد التأويل من جهة اللغة

فساد التأويل من جهة اللغة فساد التأويل من جهة لغة العرب مسألة أشكلت على كثير من المتأخرين وترددوا فيها. والتحقيق: أن التأويل -الذي يعرفه أصحابه بقولهم: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة- فاسد من جهة لغة العرب .. لأن هذا الحد مبني على فرض لغوي، إذا صح هذا الفرض اللغوي أمكن صحة هذا التأويل من جهة اللغة، وإذا بطل هذا الفرض اللغوي بطل هذا الحد للتأويل من جهة اللغة. هذا الفرض اللغوي هو أن لغة العرب على زعم هؤلاء تنقسم إلى حقيقة ومجاز. فنقف مع مسألة الحقيقة والمجاز.

مسألة الحقيقة والمجاز

مسألة الحقيقة والمجاز أولاً: حتى لا يرى في كلام شيخ الإسلام، أو حتى في كلام ابن القيم؛ وإن كان ابن القيم تارة يخلط بعض المعاني مع بعض، ولكن باعتبار كلام شيخ الإسلام رحمه الله، ولا بأس أن أقول هذه الكلمة ليس من باب الطعن على ابن القيم رحمه الله، ولكن بعض الذين ردَّوا على الشيخين -أعني: ابن القيم وابن تيمية رحمهم الله- في المسألة تتبعوا كلامهم فوجدوا أن ابن القيم رحمه الله يستعمل الإقرار لمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً في كلامه، ومن هنا قال قوم من المتتبعين: إنه تناقض؛ فهو ينفي الحقيقة والمجاز تبعاً لشيخه، ولكنه يطبقها في كلامه، ويصرِّح بمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً. والتحقيق أن أكثر ما أثبته الإمام ابن القيم حين يذكر الحقيقة والمجاز هو من باب التقسيم اللفظي، ولكنه أحياناً قد يُدخل عليها شيئاً من الأثر المتعلق بمعاني الألفاظ، وليس بمجرد صورها اللفظية. أما فيما يتعلق بـ شيخ الإسلام فإن منهجه في هذه دقيق، وشيخ الإسلام له كلمات أحب أن تكون مقدمة بين يدي الجواب عن مسألة الحقيقة والمجاز، فهو يقول: (مسألة الحقيقة والمجاز إما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، وإما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض المعاني، فهذا هو القدر الذي ينازع فيه أرباب النظر من المعتزلة وغيرهم). إذاً: القدر المنكر عند شيخ الإسلام في مسألة الحقيقة والمجاز ليس هو صورها اللفظية، أو مصطلحها اللفظي؛ ففي قوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] لك أن تقول: إن هذا من المجاز اللغوي، باعتبار أن المقصود: سل أهل القرية. فتسمية ما يقع من هذا النوع مجازاً هو اصطلاح، كما أن المصطلحين سموا الفاعل والمفعول والحال والتمييز .. إلى غير ذلك. وإنكار شيخ الإسلام لذلك هو باعتبار كون هذا التقسيم من عوارض معاني اللغة، وهذا هو مراد المتكلمين في تقريرهم. فنقول: إن هذه النظرية نظرية الحقيقة والمجاز- لا تصح لغةً، بل هي ممتنعة من جهة اللغة، وامتناعها حين تتأمل تعريف المتكلمين للحقيقة والمجاز، فقد قالوا: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. هذا التعريف للحقيقة والمجاز تضمن ذكر الوضع وذكر الاستعمال، وكأن بين الوضع والاستعمال اختلافاً، فإذا قرأت تعريف المجاز تبين لك أن هؤلاء يفرقون بين وضع اللغة وبين استعمالها .. فهم يفرضون أن ثمة فرقاً بين وضع اللغة وبين استعمالها، والسؤال هنا: من الواضع للغة؟ ومن المستعمل؟ السؤال الثاني: أيهما أسبق الوضع، أو الاستعمال؟ السؤال الثالث: ما مثال الوضع في اللغة؟ وما مثال الاستعمال؟ هذه سؤالات ترد على النظرية وتشكل عليها، فيتبين أنها فاسدة من جهة اللغة. السؤال الأول: ما الفرق بين الوضع وبين الاستعمال؟ السؤال ليس له جواب محصِّل لنتيجة؛ فإذا قالوا: إن الواضع للغة هم العرب، وإن المستعمل للغة هم العرب؛ قلنا: لا يمكن أن يحصل فرق في الخارج بين الوضع وبين الاستعمال؛ فما الذي يجعل هذا النطق العربي وضعاً، وذلك النطق العربي الآخر استعمالاً؟! ومن هنا احتاج القوم -ولا سيما منظِّري المعتزلة من أهل اللغة- إلى البحث في مبدأ اللغات، ومن أين جاءت اللغة. ففي كتب أصول الفقه -ناهيك عن كتب علم الكلام وبعض كتب اللغة- نجد بحثاً في مسألة مبدأ اللغة، فقيل: إنها من آدم، وقيل: إنها من تعليم الله لآدم، وقيل: إنها من تعليم الملائكة، وقيل: إنها من الجن. وسائر هذه الأقوال غاية ما يقال فيها: أنها أقوال ممكنة، لكن يمتنع الجزم بواحد منها. وقول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة:31] نؤمن به على وجهه، لكن تسلسل اللغات وكيف تحصلت هو أوسع مما يدل عليه قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]. وقد يقال: إن الاستعمال هو استعمال العرب، وعلى الترتيب الزماني: الوضع يسبق الاستعمال؛ فالوضع هو الأول ثم جاء الاستعمال؛ وغاية ذلك أن الاستعمال معلوم وهو استعمال العرب، أما الوضع فهو مجهول، ولا يمكن أن يبنى المعلوم على المجهول؛ فإن المجهول لا يفيد بذاته؛ فمن باب أولى ألا يكون مفيداً لغيره. وإذا تتبعت كلام محققي المعتزلة -وهم أئمة النظر في هذا الباب- وجدت أنهم يقولون: إن الوضع هو الكلمة المفردة، وإن الاستعمال هو الكلمة المركبة، بمعنى أنك تقول: اللفظة كاليد -مثلاً- هي التي يسمونها وضعاً، والمركب يسمونه استعمالاً، فهم حتى لا يلتزموا مسألة القدم التاريخي التي لا يستطيعون اكتشافها، قال بعض محققيهم: إن المسألة ليست مبنية على التعاقب التاريخي، إنما هي مبنية على أننا نريد بالاستعمال الجمل المركبة كقولك: جاء زيد، فهذا يسمونه استعمالاً، وأما كلمة: (زيد) أو كلمة (جاء) فيسمونها وضعاً. فيقال لهم: إن هذا أيضاً من باب الممتنع تحصيلاً؛ لأنه لا يعقل أن عربياً يقول: يد، ويسكت؛ بل لا يوجد في لسان بني آدم لا من العرب ولا من غيرهم كلام على هذه الطريقة. فهذا تكلف على اللغة، لا حقيقة له في الخارج؛ لأنه لا أحد ينطق بلسان لا عربي ولا غير عربي إلا وهو يتكلم بجملة، ولا يعقل أن أحداً يتكلم بلفظ مفرد، إلا في حالة واحدة: إذا قال حرفاً مفرداً، سواء كان اسماً أو فعلاً أو صفة؛ لأن بقية الجملة معلوم تقديراً؛ فإذا قيل له: كيف زيد؟ قال: حسن. فإنه قال: حسن؛ ولكن التقدير: زيد حسن، وحَذْفُ ما يعلم جائز باتفاق ألسنة بني آدم، ولا أحد ينازع في هذه البديهة العرفية، فعند بني آدم كلهم أن المعلوم من الكلام يحذف، وهذا ليس خاصاً بلغة العرب، بل هو في كل لغات بني آدم. إذاً: على هذه الطريقة لا يوجد لغة إلا استعمالاً، ولا يوجد لغة تسمى وضعاً. وقال بعض محققيهم لإثبات الوضع: إننا إذا نظرنا اللغة وجدنا أن العرب تقول: اليد، وتريد بها الجارحة، وتقول: اليد، وتريد بها في سياق آخر النعمة، والجواب عن هذا ليس مشكلاً، فنقول لهم: ما المانع عقلاً ولغةً أن يراد بهذا اللفظ أكثر من معنى، والسياق نفسه هو الذي يحدد واحداً من هذه المعاني. فإن قالوا: إن اللفظ الواحد لا يكون إلا لمعنىً واحد، ولا يكون لبقية المعاني، قيل: هذا تحكم على اللغة، فإن اللفظ الواحد يمكن عقلاً ولغةً أن يدل على أكثر من معنى؛ أما عقلاً فإن العقل لا يمنع ذلك، وأما لغةً فإن العرب إذا تأملت كلامها وجدت أنها تستعمل الحرف الواحد أو الكلمة المفردة الواحدة في أكثر من سياق، وفي كل سياق تدل على معنى. فإن قالوا: الدليل على أن هذه اللفظة تستعمل في معنىً واحد كحقيقة وفي البقية كمجاز، أن اللفظ إذا أطلق تبادر منه معنىً أخص، فإذا قيل: يد، لا تتبادر النعمة، وإنما تتبادر اليد الجارحة، قيل: إن اليد إذا أطلقت فالتحقيق العقلي يقول: إنه لا يتبادر أي معنى منها، فالعقل لا يعين لها معنى لكونها لفظاً مجرداً، ثم لو سُلِّم جدلاً أن الذهن يتبادر إليه ابتداءً -إذا قيل: يد اليد الجارحة- فهذا باعتبار أن استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى هو الأكثر في اللغة، فلكثرته ولشيوعه صار هو المتبادر، والكثرة والقلة ليست ميزاناً لمسألة: وضع اللفظ لهذا المعنى أو ذاك. وما المانع أن لفظ (اليد) وضع في اللغة لأكثر من معنى، فاللغة لا تمنع ذلك، والعقل لا يمنع ذلك. إن قالوا: إذا كان وضع لأكثر من معنى فما الذي يحدده؟ نقول: الذي يحدده السياق، ولن نحتاج عندها إلى دليل صارف؛ فإن اللفظ إذا وضع لمعاني مختلفة، فإن السياق نفسه يستلزم تحديد واحد من المعاني، قد يكون المعنى المحدد هو الشائع كاليد الجارحة، وقد يكون غيره. فحين قال عروة بن مسعود لـ أبي بكر: (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك). ما تبادر إلى ذهن أحد ممن سمعوا هذه الكلمة أو قرءوها أن عروة يقصد اليد الجارحة التي يزعم القوم أنها هي الحقيقة في لفظ اليد، وهي الأكثر استعمالاً، بل إن حَمْلَ كلام عروة بن مسعود على اليد الجارحة حمل ممتنع؛ بمعنى أن تفسير الكلام به ممتنع. ولهذا يمتنع أن كلاماً عربياً يقبل أكثر من معنى مختلف إلا لأحد موجبين: إما أن يكون الناظر فيه ليس عنده كمال في تحقيقه؛ فربما تردد في أكثر من معنى، وإما أن يكون المتكلم بهذا السياق لم يذكره فصيحاً بيِّناً، ومعلوم أن القرآن يمتنع أن يقال فيه: إنه ليس فصيحاً بيِّناً، ويمتنع أن يقال: إن المسلمين عجزوا عن فهم كلام الله على معنىً مناسب؛ لأنه إذا كان كذلك، فإن الكلام بذاته لا يكون بيِّناً. وأصل نظرية المجاز والحقيقة باعتبار كونها من عوارض المعاني من المعتزلة، وأما باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا استعمله قوم كـ أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي عبيدة معمر بن مثنى، واستعمله الإمام أحمد وجملة من الناس، وهذا -كما أسلفت- اصطلاح، وهم يريدون بقولهم: (مجاز اللغة) ما تجوزه اللغة وتأذن به، أما باعتبار كونها من عوارض المعاني فهو منطق اعتزالي أُدخل على اللغة. ومن هنا يتبين أن هذه مسألة مفتاتة على اللغة، فإذا قال: فما يقول القوم فيه أنه حقيقة ومجاز ما حقيقته في اللغة؟ أقول: إن عامة ما قال أصحاب نظرية الحقيقة والمجاز باعتبارها من عوارض المعاني أنه من باب المجاز هو في اللغة لا يخرج عن نوعين: النوع الأول: لفظ مشترك اسُتعمل في غير معنى باعتبار تعدد السياق، كلفظ اليد؛ فإنه وضع لأكثر من معنى، وكلفظ العين وضع لأكثر من معنى .. وهلم جراً. وقد يكون هذا اللفظ له ثلاثة من المعاني هو في أحدها أظهر، وقد يكون متساوياً بين المعاني. فأحياناً قد يكون الاشتراك اشتراكاً محضاً يستلزم قدراً من التساوي في المعاني، وقد يكون اللفظ في أحد المعاني أظهر. إذاً: القسم الأول مما قال القوم فيه أنه من باب المجاز هو ألفاظ من ج

تنزيه الله سبحانه عن التمثيل والتكييف

تنزيه الله سبحانه عن التمثيل والتكييف قال المصنف رحمه الله تعالى: [من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى كمثل شيء وهو السميع البصير]. أراد المصنف بقوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل). درأ مسألة التشبيه عن مذهب أهل السنة والجماعة، فإن الإثبات عندهم مبني على الاختصاص، ومعنى ذلك: أن إثبات الأسماء والصفات يختص بالله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال المصنف: (من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل).

التكييف والتمثيل والفرق بينهما

التكييف والتمثيل والفرق بينهما التكييف: هو ذكر كيفية لصفة من الصفات، فإن كل كيفية يذكرها ذاكر أو يتخيلها متخيل، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عنها. والتمثيل: هو ذكر مثال للصفة. والتكييف والتمثيل كلاهما على معنى التشبيه. فإن قيل: فما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق من جهة أن التكييف هو حكاية كيفية للصفة، ولو لم تكن هذه الكيفية على مثال سابق، وأما التمثيل فإن فيه قدراً من القياس بين شيئين؛ إذ هو ذكر مثال للصفة. ثم قال: [بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]. ومن هنا يتحصل -كما سيقرر المصنف فيما بعد- أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط بين التعطيل وبين التشبيه والتمثيل، وإذ قد تبين أن التعطيل فرع عن دليل العقل الذي زعمه أصحابه كذلك، وإلا فهو في الحقيقة ليس من حكم العقل وقضائه، فإن التشبيه والتمثيل مذهب لقومٍ من المتكلمين، وهو فرع عن الدليل نفسه كما سيأتي. [بل يؤمنون بأن الله سبحانه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]. قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذه جملة من كتاب الله، وقد اتفق المسلمون على إمضائها، ولا أحد من طوائف المسلمين يعارض في شأن هذه الجملة ودلالتها، ولهذا تُعد هذه الجملة من الجمل التي تذكرها سائر الطوائف في ذكر توحيد الصفات، فأما النفاة للصفات أو لما هو منها، فلا شك أنهم يذكرون هذه الجملة ومعناها؛ إذ ينصرون مذهبهم بما يظنونه مناسباً. وأهل السنة والجماعة يذكرون أن مذهبهم وسط بين التعطيل والتمثيل، فيقولون: إن الله ليس كمثله شيء مع إثبات الأسماء والصفات له. فإن قيل: فالمشبهة هل يؤمنون بهذه الجملة من كتاب الله؟ قيل: الجواب: نعم، فإن من وصفوا بأنهم مشبهة من الطوائف ليس أحد منهم يذهب إلى أن الباري سبحانه وتعالى مماثل مماثلة مطلقة للمخلوقين أو لشيء من المحدثات والممكنات، بل هذا مذهب لم يقل به أحد من المنتسبين إلى قبلة المسلمين، صحيح أن مذهب التشبيه والتجسيم عرف عن قوم من متقدمي الشيعة الإمامية كـ هشام بن الحكم وهشام بن سالم وداود الجواربي وأمثال هؤلاء، وعُرف ذكر التجسيم فيما بعد عن جملة من متأخري الحنفية أتباع محمد بن كرام السجستاني الحنفي، إلا أنه لا أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول بمماثلة الباري لأحدٍ من خلقه، فإن نفي هذا القدر من المعنى كما هو منطوق الجملة القرآنية متفق عليه. فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] معناه الكلي: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن المماثلة المطلقة لأحدٍ من خلقه، وهذا المعنى الكلي قد اتفق سائر القبلة عليه، حتى من قال منهم بالتجسيم كقوم من متقدمي الشيعة والرافضة، أو طائفة من متأخري الأحناف أتباع محمد بن كرام. لكن هؤلاء المشبهة وإن كانوا يؤمنون بهذا المعنى الكلي، إلا أن الآية نفسها دليل على إبطال مذهبهم، فإنهم لم يحققوا قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] حين قالوا: إنه جسم، وحينما صاروا إلى قدر من المشاكلة والقياس في إثبات صفات الباري سبحانه وتعالى وأفعاله؛ فلا شك أن القوم عندهم قدر من التشبيه والتجسيم المخالف لكمال الرب سبحانه وتعالى، ولا شك أن القوم -أعني المشبهة- مخالفون لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. ولكن لا يفهم من ذلك أن طائفة من الطوائف الإسلامية تذهب إلى أن صفات الباري كصفات المخلوقين؛ إذ لا أحد يقول بذلك من المسلمين البتة، وإن حكى ذلك بعض المتأخرين من أهل السنة أو غيرهم؛ كبعض الأشعرية ولا سيما في مقام الرد على الأحناف، وكالمعتزلة حين يتحدثون عن المشبهة؛ فإن حكاية أقوال الطوائف بعضهم عن بعض قد يقع فيه قدر من الاستطالة، وإن كان أئمة السنة والجماعة المتقدمين لم يقع منهم استطالة في ذكرهم لأقوال مخالفيهم، ولكن المتأخرين منهم قد يقع من بعضهم بعض الاستطالة في ذكر أقوال المخالفين، وذلك بأخذ المخالفين بلوازم أقوالهم، ومثل هذا لا يُعد مذهباً لأصحابه، وإنما المذهب المعتبر هو ما نطق به القوم. ولهذا نقول: إنه لم يقع في كلام السلف رحمهم الله أن ذكروا أقوال المخالفين على غير وجهها، لكن المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة قد يقع منهم زيادة في ذكر أقوال مخالفيهم، سواء كان هذا الفقيه -باعتباره منتسباً لأحد الأئمة الأربعة- ينتسب إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة المحضة، أو كان ينتسب إلى طريقة كلامية، فإن بعض الحنابلة -كمثال- زادوا في ذكرهم لأقوال الأشعرية، وكذلك بعض الأشعرية زادوا في ذكرهم لأقوال السلفية من الحنابلة .. وهلم جراً. وهذا أمر مطرد ليس في الفقهاء الذين مروا في القرون المتأخرة، بل يوجد قدر منه في هذا العصر، فمثلاً: حين تُذكر أصول المدرسة الأشعرية -كمثال- ترى بعض الباحثين يجعل لها أصولاً مبنيةً، وحين يقرر أصول هذه المدرسة بالمسائل والدلائل: (ماذا يثبتون من الصفات، ما هو مصدر التلقي عندهم). تجد أنه يقرر أصول هذه المسألة حسبما يذكره محمد بن عمر الرازي في كتبه. ولا شك أن طرد منهج الأشعرية في الدلائل والمسائل على طريقة الرازي ليس من العدل، فإن ثمة فرقاً بين طريقة الرازي وبين طريقة الجويني فضلاً عن طريقة القاضي أبي بكر الباقلاني، فضلاً عن طريقة أبي الحسن الأشعري نفسه، ولا سيما في آخر آحواله التي نصر فيها -ولا سيما في المنهج- مذهب أهل السنة والحديث. إذاً الاستطالة لا يسلم منها أحد من الطوائف المتأخرة حتى المنتسبين للسنة والجماعة منهم، وهذا مما ينبغي لطالب العلم أن يدركه: وهو أن المتكلم وإن كان سنياً فليس بالضرورة أن سائر ما ينقله عن غيره يكون نقلاً عدلاً وصواباً، وليس بالضرورة أن يكون موجب هذا الغلط هو الكذب المحض، بل قد يكون موجبه غلط في الفهم أو في النقل أو ما إلى ذلك، وكلنا يعلم أنه وقع حتى في بعض الكتب المتقدمة -كالسنة لـ عبد الله بن أحمد - نقل واسع في ذم أبي حنيفة ورميه بكثير من البدع، مع أن جمهور ذلك لا يثبت منه شيء. فباب الاستطالة هو باب من أحوال النفس والإرادات، وليس معتبراً بالعقائد، فحينما يكون الرجل سنياً أو سلفياً فليس بالضرورة أن كلامه عن الآخرين يكون على طريقة الصواب والجزم، بل قد يقع منه غلط في النقل، ومن ذلك -كما أسلفت- ما وقع من بعض الحنابلة أو غيرهم، ومن ذلك أيضاً ما يذكره كثيراً أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فإنه سني في الجملة ولا سيما في باب الأسماء والصفات، ولكنه إذا ذكر أقوال المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات زاد عليها زيادة كثيرة، ورماهم بكثير من اللوازم إلى حد الزندقة، كما صنع مع مخالفيه من الأشعرية، وإن كانت الاستطالة عند مخالفي أهل السنة أكثر منها فيهم، وهذا -كما أسلفت- في متأخري المنتسبين إلى السنة والحديث، وليس في أئمة السلف.

الجمع بين التنزيه وإثبات الصفات

الجمع بين التنزيه وإثبات الصفات قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] يقال: ليس كمثله شيء، سواء كان هذا الشيء موجوداً كالحس، أو كان موجوداً مفارقاً، أو كان شيئاً متصوراً، أو كان شيئاً مفروضاً، أي: أن الرب سبحانه وتعالى منزه عن سائر موارد التشبيه والمماثلة، ليس كمثله شيء؛ سواء كان هذا الشيء موجوداً في الحس كأحوال بني آدم وأفعالهم وصفاتهم؛ فإن الباري ليس كمثلها. أو كان هذا الشيء موجوداً، ولكن وجوده ليس حسياً، وإنما هو وجود مفارق لا يراه الناس ولا يعلمه المخاطبون، فإن الرب سبحانه وتعالى ليس كمثل هذا الشيء. أو كان هذا الشيء من الأشياء المتصورة في العقل، فإن كل صفة من الصفات تصور العقل لها كيفية، فإن هذا التصور الكيفي الذي حكم به العقل يعلم أن الله سبحانه منزه عنه. أو كان هذا الشيء ليس متصوراً في العقل ولكن الذهن يفرضه، وفرض الذهن هو قبل التصور، ويُقصد من هذا الإطلاق بيان أن الله سبحانه وتعالى منزه تنزيهاً مطلقاً عن المثيل والشبيه، فإنه سبحانه وتعالى كما في صريح الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وهذه الآية من أخص ما اعتصم به أهل السنة والجماعة في أن الإثبات لا يستلزم التشبيه، فإن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فإن الإثبات هنا جاء في مورد النفي، أي: جمع بين الإثبات والنفي في سياق واحد؛ فدل على أن الإثبات ليس معارضاً للنفي المذكور في القرآن، بل إن الإثبات لا يكون لائقاً بالله سبحانه وتعالى إلا إذا تضمن هذا التنزيه، وإلا فإن مطلق الإثبات ليس تنزيهاً، فإن الصفات يشترك فيها الخالق والمخلوق، واختصاص الباري سبحانه وتعالى ليس بأصل الصفة، فإن الله يوصف بالكلام، والمخلوق يوصف بالكلام، والله يوصف بالعلم، والمخلوق يوصف بالعلم .. إلى غير ذلك، وإنما اختصاص الباري سبحانه وتعالى أن ما أضيف إليه من الصفات لا يكون مماثلاً لما أضيف إلى المخلوق من الصفات، فإن صفات الباري متعلقة بذاته، وكما أن ذاته منفكة عن ذوات المخلوقين فإن صفاته سبحانه وتعالى كذلك.

شرح العقيدة الواسطية [5]

شرح العقيدة الواسطية [5] من عقيدة أهل السنة أنهم لا ينفون صفة من صفات الله التي وردت في القرآن، ومنهجهم في ذلك أنهم يثبتونها من باب التسليم لله عز وجل والامتثال له، مع إثباتهم لها من باب أن المعاني التي دلت عليها مما يحكم العقل بوجوبه في حق الله تعالى، وأنها تعد من الكمال.

وجه إثبات الصفات عند أهل السنة

وجه إثبات الصفات عند أهل السنة قال المصنف رحمه الله: [ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلام عن مواضعه]. (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه) أي: أن أهل السنة والجماعة لا ينفون صفةً من الصفات قد نطق القرآن بها. فإن قيل: هل عدم نفيهم لصفة من صفات الله التي نطق القرآن بها هو من باب التسليم المحض، أم أنه من باب التسليم والتحقيق العقلي؟ فالجواب: أن ذلك من باب التسليم ومن باب التحقيق العقلي. والمراد من ذلك: أنه لا يفهم أن أهل السنة -كما يرميهم مخالفوهم- أثبتوا هذه الأسماء مع أن ظاهرها التشبيه، أو أثبتوا هذه الصفات مع أن ظاهرها التشبيه، أو على طريقة بعض المخالفين تستلزم التشبيه؛ فيدَّعون أن السلف أثبتوها من باب التسليم المحض ومن باب الديانة المحضة. بل الصواب: أن السلف أثبتوا الأسماء والصفات تسليماً لله سبحانه وتعالى وامتثالاً، وأثبتوا هذه الأسماء والصفات من باب التحقيق العقلي. ومعنى قولنا: (من باب التحقيق العقلي) أن المعاني التي دلت عليها هذه النصوص يحكم العقل بوجوبها في حق الله سبحانه وتعالى، وأنها في حكم العقل تعد من الكمال. فإن المذهب عند السلف وإن كان يبنى على التسليم، إلا أنه يقال: ما من صفة من صفات الله نطق القرآن بها وذكرت مضافةً إلى الله إلا علم بحكم العقل أنها صفة كمال تليق بالله سبحانه وتعالى.

أقسام الصفات من حيث حكم العقل بها

أقسام الصفات من حيث حكم العقل بها تنقسم الصفات المذكورة في القرآن إلى قسمين -وهذا تقسيم اصطلاحي-: الأول: صفات تعرف بحكم العقل قبل ورود الشرع، ولهذا يُصدِّق بها جمهور من يقر بالربوبية ولو كانوا من المشركين عبدة الأوثان، كاتصاف الله سبحانه وتعالى بالعلم، فإن المشركين في جاهليتهم كانوا يؤمنون بأن الله عليم، وكاتصاف الله سبحانه وتعالى بالقدرة، فإن المشركين -فضلاً عن المسلمين- يقرون بذلك، ولا شك أن الإقرار بعلم الرب سبحانه وتعالى وقدرته وعزته وما يتعلق بهذا النوع من الصفات هو إقرار يُعلم بالفطرة، فإن الله فطر الخلق على ربوبيته، ومن أخص معاني ربوبيته أنه بكل شيء عليم. أليس الرب سبحانه وتعالى قال في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]؟ فهذه الفطرة محصلها أن الخلق قد أقروا لله سبحانه وتعالى بالربوبية، ومن أخص معاني ربوبيته أنه قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير إلى غير ذلك. ولا يقل قائل: هذا توحيد الربوبية، وكلامنا في توحيد الأسماء والصفات! لأننا نقول: إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، إنما هو اصطلاح، وإلا فإن المشهور عند المقسمين من العلماء الذين تقدم شأنهم شيئاً ما أن التوحيد ينقسم إلى توحيد العلم والخبر، وإلى توحيد الإرادة والقصد والطلب وما يتعلق بذلك، باعتبار أن الأسماء والصفات باب من أبواب الربوبية، ولكن خصها بعض أهل العلم بالذكر باعتبار أن مادتها وقع فيها نزاع بين أهل القبلة، بخلاف بعض معاني الربوبية الأخرى، وكل هذا مما يُستعمل عند أهل العلم، ولا إشكال في ذلك. وتحصل من هذا أن باب الربوبية من أخص أبوابه باب الأسماء والصفات. القسم الثاني: صفات لا تُعلم إلا بعد ورود الشرع، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) يقال: إن هذه الصفة علمت بالسمع، وأما العقل فإنه لا يدل عليها ابتداءً. لكن مع قولنا: إن ثمة جملةً من الصفات لا يدل عليها العقل ابتداءً، ولم تُعرف إلا بخبر الرسل ونزول الكتب؛ فإن هذا النوع من الصفات المعلوم بالسمع وحده فضلاً عن الذي يُعلم بالعقل ابتداءً، يقضي العقل بتصديقه، فإنه لائق بالله سبحانه وتعالى. ومن هنا عُلم أن سائر الأسماء والصفات مبنية على التسليم وعلى حكم العقل، سواء كان هذا الحكم حكماً قبلياً قضى به العقل قبل ورود الشرع، أم كان حكماً تقريرياً. وقد يقول قائل: لماذا لا نقف ونقول: إنه مبني على الكتاب والسنة؟ نقول: إنما نذكر مسألة العقل؛ لأن المخالفين عامة مخالفتهم زعموها من موجب العقل، فلا بد أن نبين أن العقل موافق للنقل.

معنى الإلحاد في أسماء الله

معنى الإلحاد في أسماء الله قال المصنف رحمه الله: [ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يمثلون صفات الله]. (ولا يلحدون في أسماء الله وآياته) الإلحاد من جهة أصل اللغة: هو الميل، وما ذكر منه في كتاب الله فإنه في حق قوم من المشركين؛ ولهذا ترى أن شيخ الإسلام يستعمل طريقة يحتاج الاستعمال لها إلى كثير من النظر والتأمل، وحين يقال: يحتاج الاستعمال لها إلى كثير من النظر والتأمل، لا يعني هذا التغليط لها، وإنما يعني هذا أنها لا تستعمل إلا بقدر مناسب، فإن شيخ الإسلام كثيراً ما يسوق الآيات التي ذكرها الله في شأن الكفار -إما من مشركي العرب أو من اليهود والنصارى- أو الآيات التي ذكرها الله عن المنافقين، فيذكرها شيخ الإسلام في كثير من كتبه في مورد ذم المخالفين للسلف من أهل البدعة، ومثل هذا ينبغي أن يتبين مراده منه. فيقال: إن سائر ما يذكره المصنف في كتبه من هذه الآيات التي نزلت في حق قوم من الكفار لم يرد بها مسألة الأسماء والأحكام، بمعنى: أن هؤلاء يأخذون حكم الكفار، ولم يرد بها إلا مسألة المشابهة في الأفعال أو المشابهة في الأقوال؛ فإنه لا شك أن بعض المسلمين قد يقع منهم مشابهة في الأقوال أو في الأحوال والأعمال لقوم من الكفار، وبهذا يكون ذكر مشابهتهم لقوم من المشركين أو اليهود أو غيرهم ليس مشكلاً، لكن لا ينبغي أن يفهم أنه يعطي حكم المسلمين من أهل البدع حكم الكافرين من عبدة الأوثان أو غيرهم. وذكره لمسألة الإلحاد يقصد به مسألة التعطيل، فإن عدم التحقيق لإثبات الأسماء والصفات هو نوع من الميل عن الحق في آيات الله وأسمائه وصفاته، ومن هنا سمي قول المعطلة إلحاداً من هذا الوجه، وإن كان المتبادر في اصطلاح المتأخرين أن الإلحاد إذا ذكر يقصد به الزندقة المحضة، وهذا ليس مراداً في مثل هذا المورد. قوله: (ولا يمثلون صفاته) أي: أن أهل السنة والجماعة لا ينفون شيئاً من الصفات، ولا يحرفونها بما يسمى تأويلاً، بل يثبتونها على موردها القرآني أو النبوي، وكما أنهم لا يعطلونها بالتأويل والتحريف والإلحاد -الذي هو الميل بها عن حقها الذي قصد بالخطاب- فإنه لا يمثلون صفاته بصفات خلقه، أي: لا يجعلون شيئاً من الصفات مشابهاً لصفات المخلوقين.

الاشتراك بين الخالق والمخلوق في الاسم أو الصفة إنما هو اشتراك في الاسم المطلق

الاشتراك بين الخالق والمخلوق في الاسم أو الصفة إنما هو اشتراك في الاسم المطلق هنا مسألة في مسألة التشبيه لا بد من التحقيق فيها، فإنك إذا نظرت في كتاب الله سبحانه وتعالى وجدت أن بعض الصفات -بل وبعض الأسماء- التي أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه تضاف إلى الخلق. فمثلاً: قال الله عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] وقال عن الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] فترى أن السياقين فيهما قدر من الاشتراك، وقال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ولما ذكر عبده المخلوق قال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وقال عن نفسه سبحانه وتعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقال عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فسمى نفسه رحيماً، وسمى نبيه رحيماً بالمؤمنين. بل إن هذا قد يقع في آية واحدة، فإن الله يقول: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] والصفة المشتركة هنا هي صفة الرضا. وقال عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:23] وقال عن عبده: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] وسمى نفسه العزيز، وقال في كتابه: {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] إلى غير ذلك. فهناك قدر مشترك في ذكر الأسماء والصفات، وهذا صريح في كتاب الله، فضلاً عن غيره. فهذا الذي في القرآن من هذا الاشتراك هو اشتراك في الاسم المطلق، والعقائد -والمعاني جملةً سواء كانت في باب الخبر أو باب الطلب- لا تؤخذ من الألفاظ المجردة، أي: المقطوعة عن الإضافة والتخصيص، سواء كانت اسماً أو فعلاً ليس له مقارن من القول أو الحال، وإنما تؤخذ المعاني من الجمل المركبة، والجمل عند العرب هي ما كوِّن من المبتدأ والخبر أو كوِّن من الفعل والفعال، هذه هي الجمل التي تحصل المعاني، وأما ما قصر عن ذلك فإن الكلام لا يكون عندها مفيداً، فإنك إذا ذكرت مبتدأً ولم تذكر خبره، والسياق والحال لا يدلان على خبره، فإنك لم تذكر شيئاً مفيداً، ولا يمكن أن يستفاد من تلك الكلمة معنى. فالاشتراك المذكور في مثل الآيات السالفة إنما وقع في اللفظ المطلق، لا في السياق المركب، فإن الذي يريد أن يذكر هذا الاشتراك سيقول: إن صفة الرضا أضيفت إلى الله وأضيفت إلى المخلوق، وإن السمع أضيف إلى الله وأضيف إلى المخلوق .. وهلم جراًَ من الصفات. وقد عني الإمام ابن تيمية بتقرير ذلك في كتبه ولخصه في الرسالة التدمرية، فذكر أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل بعد الإضافة والتخصيص عقلاً؛ لأن الاسم المطلق لا وجود له في الخارج، وإنما توجد حقيقته في الخارج بعد إضافته أو تخصيصه، فإذا ما أضيف أو خصص تعلق به معناه في الخارج والوجود. فهذه الأسماء وإن اشتركت بعضها بين الخالق والمخلوق، إلا أن ما يليق بالله أضيف إليه، وما يليق بالمخلوق أضيف إليه، فما كان مضافاً إلى الله فإن معناه يكون مناسباً للموصوف به، وما أضيف إلى المخلوق فإن معناه يكون مناسباً للموصوف به. فالتشبيه والتمثيل الذي نفته النصوص في مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هو الاشتراك فيما كان من المعاني مضافاً مخصصاً، أما الاسم المطلق فإن النصوص لم تنفه. ولو قال قائل: ألا يكون كمال التحقيق لتنزيه الله عن التشبيه والتمثيل أن ننفي مشابهة الباري لخلقه في الاسم المطلق والاسم المقيد؟ قلنا: التشبيه الذي نفته النصوص هو ما كان من الأسماء مضافاً مخصصاً أو مقيداً .. إلى غير ذلك، وأما الاشتراك في الاسم المطلق فإن هذا الاشتراك ليس هو المنفي في النصوص، وتسميته تشبيهاً فيه نظر؛ لأن التشبيه مبني على القياس، وليس في الاسم المطلق مقيس ومقيس عليه؛ لأن الاسم المطلق لم يضف إلى أحد بعينه. والتحقيق أن هذا لا يمكن أن يسمى تشبيهاً؛ لأن التشبيه يستلزم وجود المشبه والمشبه به، والاسم حال إطلاقه وتجريده عن الإضافة والتخصيص لا يمكن أن يتحصل منه مشبه أو مشبه به، إنما المشبه والمشبه به وجوده وثبوته فرع عن إضافة الاسم، إذا قلت: هذا باب زيد وهذا باب عمر، فهنا لك أن تقول: إن باب زيد مشابه لباب عمر .. فهنا أثبتنا تشبيهاً، لكن إذا ما قلنا: (باب). فلا يمكن لقائل أن يقول: إن هذا اللفظ تضمن تشبيهاً، فإن قال: تضمن تشبيهاً، فإنا نقول له: أين المشبه وأين المشبه به؟ فحين يقول: باب زيد وباب عمر. يكون ثمة مشبه ومشبه به، أما إذا قال: (باب) فإننا نقول: إنه لفظ مشترك. ومعنى كونه مشتركاً: أنه يمكن أن يذكر على غير مورد وعلى غير سياق وعلى غير دلالة. إذاً: التشبيه الذي نفته النصوص ليس هو الاشتراك في الاسم المطلق .. وذلك لأسباب عقلية شرعية، أهمها: أن الاسم المطلق يمتنع ثبوت المشبه والمشبه معه، ومن هنا امتنع أن يسمى وروده تشبيهاً. فلو قال قائل: أليس النفي حتى في الاسم المطلق أبلغ في تنزيه الله عن خلقه؟ قلنا: ليس النفي في ذلك أبلغ؛ لأنه لولا هذا الاشتراك في الاسم المطلق لما تحصل العلم بأسماء الله وصفاته، ولذلك بعض المعطلة الذين بالغوا في مسألة تنزيه الله سبحانه وتعالى، لما وجدوا القرآن يذكر العلم مضافاً إلى الله ومضافاً إلى العبد، ويذكر الرحمة مضافةً إلى الله ومضافةً إلى العبد؛ قالوا: إن هذا من باب الاشتراك اللفظي. ومراد المناطقة بالاشتراك اللفظي أن اللفظ هو اللفظ، ولكن ليس هناك أدنى نسبة من المعنى بين المرادين، وقالوا: إن هذا من باب التنزيه. مثلاً: الكلام الذي أضيف إلى المخلوق: هو ما يعبر به من القول الذي هو بحرف وصوت. والكلام الذي أضيف إلى الله قطعوا عنه أدنى نسبة من المعنى تتعلق بالكلام الذي أضيف إلى المخلوق، وجعلوا الاشتراك اشتراكاً لفظياً. وهذا ليس من التنزيه، بل هو عند التحقيق من التعطيل؛ لأنه لو قيل في أسماء الله وصفاته: إن ما ذكر منها مضافاً إلى المخلوق هو من باب الاشتراك اللفظي الذي معناه أنه لا توجد أدنى نسبة مطلقة ولا مقيدة من المعنى بين المضافين، لاستحال أن يعلم ما يتعلق بربوبية الله؛ فإذا قال الله عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] لم نفقه معنى كونه سميعاً بصيراً. فإذا قيل في باب الأسماء والصفات: إن ما أضيف منها إلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي، قلنا: هذا ممتنع؛ لأنه يستلزم عدم فهم الخطاب القرآني المضاف إلى الله. ومن هنا أبطل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة، وهي ما زعمه الرازي مذهباً لـ أبي الحسن الأشعري، وقال: إنه غلط على الأشعري في هذا المسلك، والأشعري وأئمة المتكلمين يعلمون فساد هذه الطريقة التي تقول: إن هذا من باب المشترك اللفظي. فإن قيل: إذاً ثمة نسبة، قلنا: إن هذه النسبة هي في المطلق، والمطلق ليس هو من باب التشبيه؛ لأنه لا يمكن أن يحصل منه مشبه ومشبه به، فهي نسبة كلية لا وجود لها في الخارج، بها يعلم ويفقه الخطاب؛ ولهذا جميع المسلمين ومن يعرف لغة العرب حتى من الكافرين إذا قرءوا قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] فقهوه، ولم يستلزم فقههم له أن الباري يكون مشابهاً ومماثلاً للمخلوقين، وذلك مما يدل على أن الإثبات مناسب للعقل والفطرة، ولو كان صاحبها ليس على دين المسلمين. ولهذا لم يعترض أحد ممن وصفهم القرآن بالسفه والجهل من مشركي العرب على آية من آيات الأسماء الصفات؛ مما يدل على أنها مناسبة لعقولهم، مع أنهم ما فتئوا يبطلون القرآن حتى قالوا: إنه سحر يؤثر، وحتى قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كاهن ومجنون .. إلى غير ذلك. فلو كان من قضاء العقل عندهم أن صفات الباري منتفية أو أن الإثبات يستلزم التشبيه، لاعترضوا على كتاب الله بذلك؛ كما اعترضوا في مسألة البعث؛ كما في مثل قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78].

تنزيه الله عن السمي والكفء والند وعن أن يقاس بخلقه

تنزيه الله عن السمي والكفء والند وعن أن يقاس بخلقه قال المصنف رحمه الله: [لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى]. (لا سمي له ولا كفء له ولا ند له) هذه الأسماء الثلاثة معناها متقارب، لكن كل اسم من هذه الأسماء له اختصاص بمورد أكثر من الآخر، ولكن ليس منها واحد يتضمن معنى يمتنع أن يكون مراداً في الآخر. والمصنف ليس من طريقته ذكر المترادفات في مثل هذه التقارير التي يقصد منها التحقيق، لكن ذكر المترادف أو المتضمن للآخر هو من باب التحقيق للمعنى، فهو لا سمي له ولا كفء له ولا ند له. وكل اسم يمكن أن يفسر بمعنى الآخر، وإن كان تفسيره بالمعنى الآخر لا يلزم أن يكون من باب المطابقة، فقد يكون من باب التضمن أو نحو ذلك. فينزه الباري عن السمي والكفء والمثل؛ لأن الله يقول: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ويقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ويقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فنفي هذه الأسماء الثلاثة بيِّن. قول المصنف: (ولا يقاس بخلقه).

وجه نفي المصنف للقياس

وجه نفي المصنف للقياس قد يقول قائل: إن المصنف هنا نفى القياس، مع أنه لم يذكر في الكتاب أو السنة نفي القياس. فيقال كجواب مجمل: إن المصنف إنما نفى القياس المقيد، ولا شك أن هذا النفي على هذا التقييد نفي صحيح. وأما الجواب المفصل فنقول: إن متأخري أهل السنة يقولون: إن القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: قياس الشمول. الثاني: قياس التمثيل. الثالث: قياس الأولى. فقياس التمثيل: هو ما يعطى فيه الفرع حكم الأصل. فيقال عندهم: إن قياس التمثيل والشمول مما ينزه الباري عنه، فلا يستعمل في حق الله تعالى قياس الشمول ولا قياس التمثيل. وقياس الشمول: هو ما يستوي فيه جميع أفراده بمعنى العموم. وقياس التمثيل: هو ما يعطى حكم الأصل للفرع، وهو المستعمل في الجملة عند الفقهاء. قالوا: ولكن يستعمل في حق الله قياس الأولى، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]. وقبل أن نبين مراد أهل السنة بقياس الأولى، ونذكر القاعدة المشهورة التي ذكرها ابن تيمية وجماعة تحت مسألة قياس الأولى المضاف إلى الله، نقول: التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافاً إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه، فإنه فرع عن الإضافات والتخصيصات والتقييدات، أي: فرع عن الجمل؛ ومن هنا يقال: إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى. فإن قال قائل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] قيل: نعم، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لفظ القياس في مثل هذا المورد، والمثل الأعلى هو غير القياس وإن وافق جملةً مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فإننا نسميه المثل الأعلى، ولا يصح أن نسميه من باب القياس، ولا سيما إذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى. فمحصل هذا: أن لفظ القياس لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى ولا تقريره في مورد الأسماء والصفات ابتداءً، لكن إذا تُكلِّم مع المخالفين، فإنه لا بأس هنا أن يُتكلَّم مع أهل الاصطلاح من باب البيان باصطلاحهم، فيقال: إن ما ذكرتموه مسمى بقياس الأولى نثبته على أنه المثل الأعلى. وأما من فسر (المثل الأعلى) في الآية القرآنية بأنه: القياس الأعلى، فهذا ليس بصحيح، وإنما المثل بمعنى الوصف، وليس بمعنى القياس الأعلى أو القياس الأولى. ومن هنا لا ينبغي أن يذكر في تقرير معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون في حق الباري قياس الأولى؛ لأن هذا اللفظ فيه غلط من أصل اللغة، وإنما يقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب لا يقاس بخلقه. وأما ما يسميه هؤلاء بقياس الأولى فإن المناسب منه هو ما سماه القرآن بالمثل الأعلى. ولك أن تقول: إن المثل الأعلى المذكور في القرآن أخص مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فلما لم يكن بينهما تطابق امتنع أن يطلق هذا الاسم الشرعي على هذا الاسم الاصطلاحي، باعتبار أن الاسم الاصطلاحي أوسع في المراد من الاسم الشرعي. ولكن إذا ذكر القول مع المخالفين، قيل: ما يسمى بقياس الأولى هو من حيث معناه المناسب ثابت، ولكن اللفظ يُتردد فيه. وهنا قاعدة ينبغي لطالب العلم السلفي والسني -وللمسلم عموماً- أن يفقهها: وهي أن ما يصح في مورد الرد -سواء كان الرد على مخالف من المسلمين أو كان الرد على أحد من ملل الكفر- لا يستلزم أن يكون صحيحاً في مورد التقرير، فإن ذكر العقيدة إما أن يكون تقريراً ابتداءً للمسلمين، وإما أن يكون من باب الرد، فما صح في مقام الرد على المخالف لا يلزم بالضرورة أن يكون صحيحاً -أو على أقل تقدير مناسباً- لمقام التقرير. وهذا يبين: أن مقام التقرير أضيق من مقام الرد، فما يقع فيه كثيرون من نقل ما استعمله بعض أهل السنة في مقام الرد إلى مقام التقرير ليس مناسباً. ولهذا ما ذكرت مسألة القياس -قياس الأولى وما يتعلق بها- إلا في مقام الرد على المخالفين في مسألة القياس، أما في أصل تقرير السلف والمتقدمين فليس لهذا الاسم مورد من جهة التقرير، فينبغي دائماً أن تبنى العقيدة عند المسلمين على مقام التقرير القرآني أو النبوي، وأما مقام الرد فإنه يتوسع في شأنه عند الأئمة.

شرح العقيدة الواسطية [6]

شرح العقيدة الواسطية [6] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بأسماء الله وصفاته كما أخبر عن نفسه سبحانه في كتابه أو على لسان رسوله؛ فإن الله تعالى أعلم بنفسه من غيره، ورسله صلوات الله عليهم أعلم به سبحانه من سائرخلقه.

قبول ما ورد في القرآن من أسماء الله وصفاته

قبول ما ورد في القرآن من أسماء الله وصفاته قال المصنف رحمه الله: [فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً]. (فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه) وهذه ضرورة عقلية، وضرورة شرعية، والمصنف هنا يستعمل باب الضرورات، وهي المعاني المسلمة. وهذه طريقة فاضلة في الجدل، وهي مستعملة في القرآن، وهي: الاستدلال على المختلف بالمؤتلف، أي: أن تستدل على المختلف فيه بالمؤتلف عليه أو بالمتفق عليه. ومن استعمالها في القرآن: أنه لما خالف المشركون في توحيد العبادة وإفراد الله بالتوحيد، ذكر الله سبحانه وتعالى إقرارهم بتوحيد الربوبية؛ من باب الاستدلال على المختلف فيه مع المشركين -وهو الألوهية- بالمتفق عليه معهم وهو الربوبية. وهي طريقة معروفة حتى في علم الجدل والمنطق. فالمصنف يقول: (فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه). ولما كان أعلم بنفسه فإن ضرورة حكم العقل توجب أن يؤخذ ما يتعلق بأسمائه وصفاته مما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولما امتنع أن يكون أحد من خلقه أعلم به سبحانه وتعالى من نفسه، وجب تصديق سائر ما ورد في القرآن من أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته. قوله: (وأصدق قيلاً) أي: قولاً {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] (وأحسن حديثاً) أي: أبلغ. الغلط في المعاني: إما أن يكون سببه العجز عن البيان، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك. وإما أن يكون سببه فساد الإرادة، والله سبحانه وتعالى لا أحد أصدق منه. فلما كان بيانه سبحانه وتعالى لخلقه في هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، علم أن معاني الآيات في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته على ظاهرها. ولا يجوز لأحد أن يقول: إن المسلمين اختلفوا فيها كما اختلف فقهاؤهم في آيات الأحكام، فإنه يقال: إن باب الأحكام مبني على تحصيل الحكم المختص، وأما باب الخبر فإنه مبني على التصديق والتكذيب، وآيات الصفات هي من باب الخبر، والخبر ليس أمام العقل فيه إلا أحد أمرين: إما التصديق وإما التكذيب، بخلاف آيات الأحكام فإنها لتحصيل الحكم المختص. وعامة ما يذكره سبحانه وتعالى في كتابه: أمر ونهي. والأمر والنهي إذا ذكرت معانيها المفصلة، قيل: قد يكون الأمر على الإيجاب، وقد يكون الأمر على الاستحباب، وقد يكون الأمر على الإباحة، والنهي قد يكون من باب التحريم، وقد يكون من باب الكراهة والتنزيه. فلما وجد هذا التفصيل في الأحكام جاز اختلاف الفقهاء فيها بخلاف مورد الخبر. ومما يدل على هذا المعنى: أنك لا ترى أحداً من طوائف المسلمين ينازع في دلالة قصص الأنبياء، بل كلهم يصدقون بها على معنىً واحد في الجملة ولا يختلفون في تفسيرها، وقد تقدم معنا أن مخالفة من خالف في باب الأسماء والصفات ليست فرعاً عن النظر في آيات القرآن، إنما هي فرع عن علم الكلام.

معنى الرسول ومعنى النبي

معنى الرسول ومعنى النبي [ثم رسله صادقون مصدقون]. الرسل عليهم الصلاة والسلام أخص من الأنبياء، وظاهر القرآن أن كل رسول فإنه نبي، وليس كل نبي رسولاً .. هذه قاعدة بينة من مجموع النصوص، وأما الفرق بين النبي والرسول، فإن المتأخرين من أهل السنة وغيرهم تكلموا فيه كثيراً، ومن أشهر التفريقات المتداولة في الكتب المتأخرة: أن الرسول من أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه، وأن النبي هو من أوحي إليه شرع ولم يؤمر بتبليغه. وهذا الحد مع شهرته هو من أفسد الحدود، بل إنه مناقض للشرع والعقل، فإن النبي إذا أوحى الله إليه شرعاً فكيف يمكن أن يقال: إنه لم يأمره بتبليغه؟! ومعلوم أن جميع الأنبياء والمرسلين أتوا قومهم بـ (بلغوا عني ولو آية)، فالتبليغ يؤمر به كل من آمن بالله تعالى، حتى العامة، فإنهم مأمورون بالتبليغ بما يقدرون عليه. والله سبحانه وتعالى ذم الذين كتموا العلم ونبذوه وراء ظهورهم أو لم يبلغوه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم) كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصحيح. ودلالة النبي لا يلزم بالضرورة أن تكون سائرها نزلت بوحي خاص، وإنما عرفها من مجموع رسالته، فإذا كان واجباً عليه الدلالة على أوجه الخير العامة، فما بالك بالوحي الخاص؟ وهذا التعريف لا يعلم من أين دخل على كتب العلماء، والغريب أن ثمة بعض المسائل فيها أقوال مناقضة للشرع ومناقضة للعقل، كما سلف في تعريف التواتر، وأن الحديث المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة .. إلى آخره، وبهذا التعريف لا يكون له مثال من جهة السنة، أي: أن السنة ليس منها شيء متواتر، والنتيجة أن السنة لا يحتج بها في العقائد إلا بحديث أو حديثين أو عشرة. فمثل هذه الحدود هي من الحدود الباطلة التي دخلت على بعض كتب العلماء. فإن قيل: فما التحقيق في معرفة الفرق بين النبي والرسول؟ قيل: الذي دلت عليه مجموع النصوص دلالة بينة أن الرسالة أخص من النبوة، وأن كل رسول فإنه نبي، ولا يلزم أن يكون النبي رسولاً.

ما يوجبه اتباع الرسل من قبول ما أخبروا به عن الله

ما يوجبه اتباع الرسل من قبول ما أخبروا به عن الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم رسله صادقون مصدَّقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون]. هذا من باب المقارنة بين طريقة أهل السنة وطريقة المخالفين، من جهة أن أهل السنة والجماعة قصروا طريقتهم على الاتباع والتسليم لكل ما جاءت به الرسل، وأن الحق الواجب في باب الأسماء والصفات وغيرها قد علم بمجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، بل وغيره من المرسلين به إجمالاً وتفصيلاً. قوله: (بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون). هذا نوع من التعريض بطريقة مخالفي أهل السنة، فإن مخالفيهم من أهل التعطيل أو التشبيه والتمثيل بنوا مخالفتهم على الطريقة الكلامية، وقلنا سابقاً: إن الطريقة الكلامية محصَّلة من الفلسفة، ولا شك أن أرباب وأساطين الفلسفة يصح أن يقال فيهم: إنهم من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ولا سيما إذا عرفت أن كبار أئمتهم الذين ينتسب إليهم من انتسب إلى الإسلام كـ ابن سينا وغيره؛ لم يكونوا ينتسبون إلى دين سماوي أصلاً، ولا حتى من الأديان المحرَّفة، كـ أرسطو طاليس؛ فإنه لم يكن على دين من أديان الرسل؛ بل كان قبل النصرانية، وقبل المسيح ابن مريم بثلاثمائة سنة. وعلم الكلام محصَّل من الفلسفة، والفلسفة جمهور أساطينها لم يكونوا على دين من الأديان السماوية؛ ولا سيما الفلسفة التي دخلت على المسلمين؛ فإن أربابها كـ أفلاطون وأرسطو طاليس وأمثالهم لم يكونوا على شيء من أديان الأنبياء، ولا حتى الأديان التي دخلها التحريف. والمعتزلة وغيرهم من المتكلمين بنوا أقوالهم على مقدمات الفلاسفة، والفلاسفة يصح أن يقال فيهم: إنهم من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون. ولهذا قال بعض محققي المتكلمين والفلاسفة كـ ابن سينا: (إن الأقوال المقولة في الأسماء والصفات ليس فيها إلا أحد قولين: إما قول الأنبياء وأتباعهم، وإما قول الفلاسفة وأتباعهم). فجعلوا سائر الإثبات الذي عليه أهل السنة والجماعة فرعاً عما جاءت به الكتب السماوية، وجعلوا أقوال المخالفين من النفاة فرعاً عن أقوال الفلاسفة، فليس هنا إلا قول الأنبياء أو قول أئمة الفلسفة، وقول المتكلمين فرع عن الفلاسفة، وقول أهل السنة فرع عما جاء به الأنبياء والمرسلون. [ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]]. هذا ذكره الله في كتابه، لكن ليس في المورد الذي اختلف فيه أهل القبلة، وإنما هو في ذم المشركين أو غيرهم كأهل الكتاب الذين زعموا أن المسيح ابن لله سبحانه وتعالى، أو في قوله سبحانه عن اليهود: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] أو في المشركين الذين زعموا أن له سبحانه وتعالى صاحبةً وولدا، فقال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] إلى غير ذلك، فهذا معنى قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] فهو تنزيه لله عما وصفه به الكفار. ولكن ما حصل من بعض أهل القبلة هو من المخالفة، والآية عامة في الدلالة؛ لمناسبة المعنى لذلك. [فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات]. من أخصِّ قواعد أهل السنة: أن هذا الباب عندهم معتبر بالإثبات والنفي؛ لأنه مبني على طريقة القرآن، وإذا قرأت القرآن وجدت أن الله سبحانه وتعالى قد جمع فيما سمَّى ووصف به نفسه بين الإثبات والنفي، الإثبات لكماله والنفي لما لا يليق به سبحانه وتعالى.

ما يقتضيه اكتمال الدين من إعراض عن علم الكلام

ما يقتضيه اكتمال الدين من إعراض عن علم الكلام [فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاءت به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين]. كل من آمن بالأنبياء والمرسلين لزم ضرورةً أن يكون متبعاً لهم، فإن مقتضى الإيمان بالنبوة والرسالة الإيمان بأن ما جاء به الرسول حق، فإذا تحقق أن ما جاء به الرسول حق، استلزم هذا الإعراض عن غيره، حتى لو فرض جدلاً أن هذا الحق الذي حدَّث به الرسول أو شيئاً منه يمكن أن يُعرف من غير مشكاة النبوة، فلو فرض هذا جدلاً، فإن المكلَّف لا ينبغي له أن يسعى إلى غير مشكاة النبوة، باعتبار أن النبوة والرسالة تضمنت الحق كله. ومن المسلَّمات التي يُستدل بها في مقام النزاع: أنه يُعلم أن الله أكمل لهذه الأمة دينها، وكمال الدين إنما كان ببلاغ النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، والدين قد كمُل دلائل ومسائل، وهو أصول وفروع، فلو كان الناس محتاجين في شيء من أصول دينهم أو حتى فروعه في مقام الدلائل أو المسائل إلى شيء لم يُذكر في الكتاب أو في السنة، للزم من ذلك أن الله لم يكمل لهذه الأمة دينها. فلمَّا علم ضرورةً أن الله قد أكمل لهذه الأمة دينها، كان هذا الدين إنما يكمُل بالبلاغ النبوي.

شرح العقيدة الواسطية [7]

شرح العقيدة الواسطية [7] جميع طوائف المسلمين يقرون بأن باب الأسماء والصفات بني على الإثبات والنفي، ولكن أهل السنة امتازوا في هذا الباب بطريقتهم المبنية على منهج القرآن، وهي أنهم يثبتون التفصيل فيما يتعلق بالأسماء والصفات المثبتة، ويثبتون الإجمال في الأسماء والصفات المنفية، وعند وجود الإجمال في المثبت من الأسماء والصفات فهو لا يخالف التفصيل بل يدل عليه.

قواعد النفي والإثبات إجمالا وتفصيلا

قواعد النفي والإثبات إجمالاً وتفصيلاً

ما ورد في سورة الإخلاص من الأسماء والصفات

ما ورد في سورة الإخلاص من الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله: [وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]]. قوله رحمه الله: (وقد دخل في هذه الجملة) يعني بـ (هذه الجملة) قوله: (وقد جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات). فأراد المصنف هنا أن يبيِّن لك طريقة القرآن والحديث في ذكر الإثبات وذكر النفي، ولك أن تقول هنا: إن جمهور طوائف المسلمين يسلِّمون أن هذا الباب -أعني: باب الأسماء والصفات- مبنيٌ على الإثبات والنفي، فهذا في الجملة محل إقرار عند جمهور الطوائف. ولكن طريقة أهل السنة والجماعة في هذه الجملة مبنيَّة على منهج القرآن، فإنه إذا قيل: إنه قد جمع سبحانه فيما سمَّى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات، فإن ثمَّة طريقةً بينةً في كتاب الله في مقام الإثبات وطريقةً في مقام النفي، حيث أن المفصَّل ذِكْرُه في القرآن والحديث هو الإثبات، وأما النفي فإن الأصل فيه في القرآن هو الإجمال. ولك أن تقول: إن الأصل في الإثبات هو التفصيل، وإن الأصل في النفي هو الإجمال، وإذا قيل: الأصل في الإثبات التفصيل؛ فإن الإثبات كذلك يقع مجملاً، ومجمله يُعلم ضرورة أنه لا يعارض المفصل؛ بل يدل عليه. أما مجمل الإثبات في الأسماء، فهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] فهذا إثبات للأسماء الحسنى، ولكنه إثبات مجمل، وأما الإثبات المجمل للصفات، فهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأكمل. وقال قوم من أهل السنة والجماعة عند تفسير الآية وبيان معناها: إن كل كمال لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه ثبت للمخلوق، فإن الخالق أولى به. فهذه قاعدةٌ مقرِّبة إلى بعض المعاني المناسبة، ولكن لك أن تعتبر أنها ليست قاعدة لازمة لفقه هذا الباب، وكأن الاستغناء عنها أولى؛ لأنه قد يعترضها بعض التطبيقات التي تُوجب كثيراً من الغلط عند بعض المطبِّقين لهذه القاعدة. ولهذا ينبغي لطالب العلم ألا يبني فقهه على مثل هذه الحدود والضوابط التي تُسمى في بعض الكتب بالقواعد، فإذا ما قيل: (إنها قاعدة) انقدح في ذهن السامع لها أنها جامعة مانعة، وأنها قاعدة كلية، وأنها محكمة من جهة الشريعة .. إلى غير ذلك؛ وإذا تحققت وجدت أنها حد ونظر مناسب، لكنه يحتاج إلى كثير من الفقه؛ إذ ربما تخلَّف نظرهم من جهة فقهها، فرتَّبوا عليها بعض التطبيقات التي لا تناسبها، فهي قاعدة صحيحة، ولكنها ليست من أصول القواعد في هذا الباب .. فهذا مقام الإثبات المجمل. وأما الإثبات المفصل الذي قلنا: إنه الأصل في الإثبات، فهو ما تراه في كتاب الله مفصلاً لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته؛ كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23] وكقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] إلى آخره، وكمفصَّل الصفات في قول الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا} [المائدة:119] وغير ذلك. وأما النفي فإن الأصل فيه الإجمال، كقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وقد يقع النفي في القرآن مفصلاً كقول الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] وقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى رضي الله عنه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام). وسبب ورود النفي المفصل في القرآن أو في شيء من السنة، هو وجود قدر من المناسبة التي تستدعي ذلك، وهو يُذكر في مقام يستلزمه أو يستدعيه، أما أن يكون منهجاً مطرداً، فهو ليس كذلك في الكتاب أو في السنة. وما من إثبات مفصَّل إلاَّ ويستلزم نفياً مفصَّلاً، أو يتضمنه، وإن كان لم يصرح بذكره، فإن ذكر العلم يستلزم نفي الجهل، من باب أن العلم والجهل متقابلان، وثبوت أحد المتقابلين يسلتزم نفي الآخر. [وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]]. ابتدأ المصنف رحمه الله بذكر سورة الإخلاص لوجوه، من أخصها: أن هذه السورة قد جُمع فيها بين النفي والإثبات، ولأن هذه السورة فيها ذكرٌ للإثبات المفصَّل والإثبات المجمل، وفيها ذكر للنفي المفصَّل وللنفي المجمل. فهذه السورة ذُكر فيها النفي بمقاميه، والإثبات بمقاميه، فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] * {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] هو إثبات مفصل لاسمين من أسماء الله: (الله)، (الصمد). فإن قال قائل: فأين الإثبات المجمل؟ قلنا: الإثبات المجمل هو في هذين الاسمين، فإنهما باعتبار كونهما من أسمائه المختصة (الصمد) و (الله) هو وجه كونهما في مقام التفصيل، وأما وجه كونهما في مقام الإجمال، فباعتبار أن هذين الاسمين فيهما دلالة عامة على الكمال؛ ولهذا سائر أوجه الكمال تكون مناسبة لهذين الاسمين، ولك أن تقول: إن أوجه الكمال المطلقة التي تليق بالله سبحانه وتعالى يدل عليها هذان الاسمان من باب دلالة اللزوم، فإن الله لما قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص:1] عُلم أنه متكلم .. لماذا؟ لأنه سمَّى نفسه الله، أي: المألوه المعبود محبةً وتعظيماً، والذي يُعبد محبةً وتعظيماً لا بد أن يكون متكلماً. فمن هنا رأيت أن هذا الاسم -وهو (الله) - فيه دلالة على مقام الإجمال باعتبار أنه يستلزم الكمالات. فإن قال قائل: وما الدليل على أنه يستلزم الكمالات؟ قلنا: لأن معناه يستلزم الكمالات من الصفات، والدليل على هذا: أن الله لما ذكر عبودية قوم موسى للعجل قال: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فدلَّ على أن مقام الاستحقاق للعبودية يقتضي أن يكون المعبود متكلِّماً. ومن هنا نقول: إن هذين الاسمين -أعني: الصمد والله- هما في مقام التفصيل، وهذا بيِّن، ولكنهما كذلك في مقام الإجمال، أي: الدلالة على الكمالات؛ فإن عامَّة ما ذكر من مفصل الكمالات يكون متضمناً أو مستلزماً لهذين الاسمين؛ ولهذا نقول: إن اسم الله دلَّ على الكلام، وإن اسم الله دلَّ على السمع والبصر، والدليل على ذلك أن الله هو المألوه المعبود، ولا بد أن يكون سميعاً بصيراً، ولهذا قال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42]. وتضمَّنت هذه السورة النفي في مقامين: المجمل والمفصَّل، فقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] هو نفيٌ مجمل، وقوله سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] هو نفيٌ مفصل. فكانت هذه السورة جامعة في باب التوحيد؛ فهي جامعة لمعنى الألوهية في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص:1] وجامعة لمعنى الربوبية في جملة سياقها، وجامعة لمعنى الأسماء والصفات حسبما تقدم، فتضمنت تحقيق التوحيد في موارده الثلاثة: الألوهية والربوبية والأسماء والصفات على أتمِّ تحقيق؛ ولهذا سميت هذه السورة بسورة الإخلاص. قال المصنف: (التي تعدل ثلث القرآن). أما أنها تعدل ثلث القرآن فهذا ثابت في السنة، وقد تكلَّم العلماء في معنى كون هذه السورة تعدل ثلث القرآن، ومن أشهر أقوالهم المعروفة والمذكورة في كتب الشروح للعقيدة الواسطية وغيرها: إن القرآن ينقسم إلى خبر، والخبر منه قصص وعقيدة تتعلَّق بمعرفة الله وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكام. فهي ثلاثة أقسام: القصص والمعتقد -وهو الإيمان بالله ومعرفته- والأحكام، وهذه السورة تضمنت المعتقد، وإن لم يذكر فيها القصص ولا مفصَّل الأحكام، والقرآن جاء على هذه الأقسام الثلاثة. فإذا فُسِّر هذا الحرف النبوي بمثل هذا المعنى فإنه يكون لائقاً به، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا لا يستلزم أن يكون تحصيلاً محضاً لمراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فربما كان مراده عليه الصلاة والسلام أوسع من ذلك. فالظاهر أنها تعدل ثلث القرآن باعتبار الأجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيعجزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟) فلما سأله الصحابة قال: ((قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن) فكأن هذا في مقام الثواب. ولك أن تقول: إنه يمكن أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم في مقام المعاني وفي مقام الثواب، ولكن إذا حُمل مراده عليه الصلاة والسلام على مقام الثواب، فثمَّة مسألة لا بد منها، وهي: هل من قرأ (قل هو الله أحد) يكون له من الأجر ما يثبت لمن قرأ عشرة أجزاء من القرآن ويكون مماثلاً له، وإنما يتفاضلان باعتبار عوارض من الحال المقترنة بهما كأن تقول: إن هذا أخشع وهذا أكثر إخلاصاً، لكن باعتبار أصل العمل؛ فإن الأجر بينهما على التماثل المطلق، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تعدل ثلث القرآن)؟ الجواب: لا .. لأن النصوص ليست صريحة بأن المراد من حرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مقام الثواب .. هذه جهة. فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم) قيل: هذا وجه ممكن أنه أراد الثواب، ولكن لعلَّه عليه الصلاة والسلام أرا

ما ورد في آية الكرسي من الأسماء والصفات

ما ورد في آية الكرسي من الأسماء والصفات [وما وصف به نفسه في أعظم آية بكتابه، حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] أي: لا يثقله ولا يكرثه {حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]]. أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، والدليل على ذلك: ما جاء في صحيح البخاري: أنها أعظم آية في كتاب الله. وهذه آية جامعة للتوحيد كله بسائر معانيه، باعتبار أن فيها تحقيقاً لمقام المعرفة ولمقام العبودية لله سبحانه وتعالى، وباعتبار أن فيها رداً على المخالفين المكذبين للرسل، فهي قاعدة في التوحيد في مقام التقرير، وهي قاعدة في التوحيد في مقام الرد على المخالفين، ومن هنا صارت أعظم آية في كتاب الله باعتبار عظم معناها. وهذه الآية يقال فيها قول مقارب لما قيل في سورة الإخلاص من جهة شمولها لقاعدة المصنف التي ابتدأ بذكرها.

مسألة الكرسي

مسألة الكرسي المشهور الذي عليه جمهور أهل السنة أن الكرسي هو موضع القدمين لله، هذا هو قول الجمهور، وليس في ذلك نصٌ صريح من السنة، ولكنه مرويٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه، ولم يظهر فيه نكارة عند المتقدمين من السلف، ومن هنا فإن هذا القول هو أجود ما يُفسَّر به هذا الحرف من كتاب الله.

فضل آية الكرسي

فضل آية الكرسي قال المصنف رحمه الله: [ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح]. يشير المصنف إلى أن ما ورد في حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان: (أن من قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) كأنه مناسب لمعناها، ولا شك أن ثمَّة مناسبةً بين هذا الفضل -الذي هو أنه لا يقربه شيطان- وبين معنى الآية، ولكن من جهة التعيين، فإن التعيين ليس فرعاً عن المعاني، وإنما هو فرع عن التوقيف؛ لأنك إذا قلت: إنه فرع عن المعاني؛ فإنه قد يقال في آيات كثيرة وسور كثيرة بعض هذه المعاني.

الحي الذي لا يموت

الحي الذي لا يموت [وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]]. يذكر المصنف الآيات التي جمعت بين الإثبات والنفي، فقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] هنا إثبات مفصل، وهو ذكر لمقام النفي المفصل الذي هو من باب تحقيق الكمال.

الإطلاق والتقييد في ذكر أسماء الله وصفاته

الإطلاق والتقييد في ذكر أسماء الله وصفاته [وقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]]. هذه أسماء مقترنة، والله سبحانه وتعالى في سياق القرآن يذكر ما يتعلق بأسمائه وصفاته على طريقة مُحكمة. وقد سبق التنبيه إلى أن بعض المتأخرين حتى من أهل السنة -وهذا يكثر في هذا العصر عند كثير من طلبة العلم والباحثين- ينقلون الأسماء المذكورة في باب الأسماء والصفات من سياقاتها على سبيل الإفراد والعد. وهذا الإفراد والعد لها يخرجها عن سياقاتها، فيسلبها ذلك تحقيقها للكمال، ولذلك يجب أن يُلتزم مورد النصوص، فما ذكر في النصوص مطلقاً يُذكر فرداً مطلقاً، وما لم يُذكر في النصوص إلا مقيَّداً فإنه لا يناسب أن يذكر في حق الله فرداً مطلقاً، وهذه قاعدة لا بد من فقهها. فالعلم والسمع والبصر ذُكرت في النصوص مطلقة ومقيدة، ولهذا ناسب أن تُذكر مطلقة وناسب أن تذكر مقيَّدة، ذكرت مقيدة في مثل قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ولكنها جاءت مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58]. ولكن جملةً من الصفات ولا سيما ما يتعلق بصفات الأفعال لم تأت في النصوص إلا مقيَّدة، فلا يجوز الخروج بها عن مورد النصوص بقطعها عن التقييد إلى حال مطلقة من الإفراد؛ كالمكر والكيد وأمثال ذلك من الأفعال التي ذكرت مقيدة؛ ولذلك لا تذكر إلا مقيدة؛ لأن هذا هو الكمال. ففي قول الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] لا يُناسب أن يقال: ومن صفاته المكر على الإطلاق، وإنما يبيَّن هذا المعنى؛ فإن الله لم يذكره في القرآن إلا مبيناً؛ وهذه المقيَّدات من الصفات والأفعال لم تستعمل في القرآن في مورد الأسماء، بخلاف ما كان من الصفات مطلقاً، فإنه اسُتعمل في القرآن في مورد الأسماء كالسميع والبصير والقدير والعزيز والحكيم ونحو هذا. فلا بد لطالب العلم -وللمسلم عموماً- أن يلتزم هدي القرآن وطريقة القرآن في هذا. قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ذكر الله (الأول) ثم قال: (والآخر) باعتبار أن الكمال على هذا الوجه من التحقيق، وهذا قدر من البيان، وقال: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] وهذا أيضاً قدر من التحقيق للكمال. ولكن هنا سؤال: هل هذا من باب تحقيق الكمال بياناً، أم أن الكمال لا يقع إلا بهذا الاقتران في الذكر؟ فإذا لم يحصل الكمال إلا بالاقتران، لم يجز أن يُعبَّد أحد باسم وقد فُكَّ عن الآخر، فلا يجوز أن يسمى أحد: عبد الأول، أو عبد الآخر، أو عبد الظاهر أو ما شابه ذلك. فأقول: الصواب أن كل اسم وحده يدل على الكمال المطلق، وإنما ذُكر في القرآن مقترناً من باب البيان لتحقيق الكمال، وليس من باب أن الكمال لا يحصل بواحدٍ إذا اختص. وهذه الأسماء (الأول والآخر والظاهر والباطن) فسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال كما ثبت في الصحيح: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) فقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء) هذا من أصل مُعتقد المسلمين: أن الله سبحانه وتعالى ليس شيء معه -أي: يقارنه بالزمان- فإن الله سبحانه وتعالى ليس له زمان يختص به، وهو سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء.

مسألة تسلسل الحوادث

مسألة تسلسل الحوادث هناك مسألة عُرفت في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهي مسألة تسلسل الحوادث، وهل لها أول أو ليس لها أول؟ وليس الغرض أن ندخل في هذه المسألة، ولكن أحب أن يكون بيناً أن شيخ الإسلام رحمه الله قد أصاب في هذه المسألة، وأن كل من ردَّ عليه أو بين غلطه، فهو في الغالب لم يفهم مقصوده؛ فإن كلامه رحمه الله لا يستلزم قدم شيء من الحوادث، وإذا قيل عن الشيء بأنه حادث، فإن كل حادث مسبوق بالعدم، ومن هنا امتنع أن يكون شيء أول ليس قبله شيء إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن تسلسل الحوادث قدر واسع يُقره العقل، وهو الذي حصَّله شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه، ولا سيما في بعض رسائله أو كتبه المطولة كدرء التعارض. فالمقصود: أن كلام الشيخ رحمه الله في هذه المسألة ليس فيه شيء من الغلط، بل هو كلام محكم ليس معارضاً للنصوص فضلاً عن معارضته للعقل. وقوله: (والظاهر فليس فوقك شيء) أي: ليس فوقه شيء، لا في فوقية الذات ولا في فوقية القدر وفوقية الصفات والقهر، ومن هنا دلت الآية والحديث على علو الرب سبحانه وتعالى. وأما قوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) فإن معناه: أي: لا يخفى عليك شيء.

إثبات صفتي العلم والحكمة

إثبات صفتي العلم والحكمة قال المصنف رحمه الله: [وقوله سبحانه: {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]. وقوله: (العليم الحكيم) قطع المصنف الآية عن السياق، لأن العليم أو الحكيم استعمل في القرآن على سبيل الإطلاق، ومن موارد الإطلاق أن يُستعمل اسماً، فكل ما استعمل اسماً عُلم أنه مطلق.

العلم بالأشياء كليها وجزئيها

العلم بالأشياء كليها وجزئيها [{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2]]. وهذا علمٌ مُفصِّل، فإن علم الرب سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء، وهو يعلم الأشياء كليَّها وجزئيَّها، وقد كذبت الفلاسفة الذين تكلموا في مسألة العلم بالجزئيات، ومن هنا كفرهم جمهور المسلمين من أهل السنة أو من المتكلمين بهذه المسألة.

مفاتيح الغيب

مفاتيح الغيب قال المصنف رحمه الله: [{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] .. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]]. مفاتح الغيب فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أن مفاتح الغيب هي الخمس المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] إلى آخر الآية. القول الثاني وهو الصواب: أن مفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله، وأن هذه الخمس منها، لكن لا يُجزم أن قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] تعلَّق بهذه الخمس وحدها، بل هذه منها، وأما تفصيلها وكمالها وسائر مواردها فالله أعلم به. [وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]]. هذا مما اختصَّ الله سبحانه وتعالى بعلمه، وهو أنه يعلم ما في الأرحام. وقد يقول قائل: إن الطب الحديث أصبح يكشف ما في رحم المرأة أهو حي أو ليس حياً، ويكشف ما في رحم المرأة أهو ذكر أو أنثى قبل الولادة. الجواب: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرحام، و (ما) من صيغ العموم، والطب بحاله الحاضرة أو القديمة أو المستقبلية لا يمكن أن يصل إلى العلم المطلق لما في الأرحام، فعلم من ذلك اختصاص الباري بالعلم المطلق. والذي يعلمونه إنما هو شيء مشاهد وليس شيئاً غيبياً، ولهذا لا يستطيعون العلم إلا باصطحاب الحس والمشاهدة، وذلك باستخدام وسائل التصوير. [وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12]]. قرن سبحانه وتعالى مسألة القدرة بمسألة العلم، وذلك لأن القدرة فرع عن العلم الذي أحاط الله سبحانه وتعالى به سائر الأشياء، فهو على كل شيء قدير، فقدرته لا تفارق علمه، ومن هنا فإنه على كل شيء قدير وفي نفس الحال بكل شيء عليم.

شرح العقيدة الواسطية [8]

شرح العقيدة الواسطية [8] من المعلوم عند أهل النظر ومن يقرون بأصل وجود الله وربوبيته من المسلمين وغيرهم أن ذات الباري سبحانه وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين، فإن كانت ذاته بالفطرة والعقل مباينة لذوات المخلوقين، فإن الصفات تكون ثابتة للذات. وكما أن بعض الصفات التي يتصف بها الرب جل وعلا لا تصح إضافتها إلى المخلوقين، فإن بعض الصفات يمكن إضافتها إلى الخالق والمخلوق على الحقيقة، ولكنها إضافتها إلى الله تكون على وجه يليق به سبحانه، كما أن إضافتها إلى المخلوق تكون على وجه يليق به.

إثبات صفتي السمع والبصر

إثبات صفتي السمع والبصر [وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58]]. وهذا إثبات لاسم السميع والبصير، وكل اسم في كتاب الله أو سنة نبيه فإنه يتضمن صفة، وهذه الصفة إما أن تكون مطابقةٍ للاسم وإما أن تكون لازمةً له، فالارتباط بين الأسماء والصفات قائم على قاعدة الدلالات، فإنك تقول: إن اسم العليم يدل على صفة العلم بالمطابقة، ويدل على صفة الحياة، بالتلازم والتضمن، فإن العليم لا بد أن يكون حياً.

إثبات مشيئة الله وإرادته

إثبات مشيئة الله وإرادته [وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39]]. هذا إثبات لمشيئته، ومشيئته سبحانه وتعالى عامة لكل شيء، وهناك فرق بين المعاني التي ذكرت بها الإرادة وبين المعاني التي ذكرت بها المشيئة، فإن الإرادة تُذكر ويراد بها الأمر، وتذكر ويراد بها معنى المشيئة، وهو الذي يسمَّى عند بعض أهل السنة بالإرادة الكونية أو الإرادة القدرية. [وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]]. يعلق الله سبحانه وتعالى سائر الحوادث بمشيئته، وهذا هو تحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى، ومشيئته الشاملة لكل شيء تُذكر في القرآن: إما مجملةً وإما مفصلة، وتفصيلها لا يختص بالخير، بل في بعض أوجه الفساد في الأرض وأوجه الشر يذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا بمشيئته وإرادته. ولكنَّ الإرادة والمشيئة العامة -أعني: الإرادة الكونية- غير الإرادة الشرعية. وخالف في ذلك خلق من الصوفية الذين وقعوا فيما يسمَّى بالفناء عن شهود السوى. ولمزيد من الإيضاح أقول: إن الفناء على ثلاثة أقسام: الأول: فناء عن وجود السوى، وهذا فناء غلاة الصوفية كـ ابن عربي وابن الفارض والتلمساني وأمثال هؤلاء. الثاني: فناء عن شهود السوى، وهذا فناء متوسطيهم الذين يشهدون مقام الربوبية ويسقطون به مقام الألوهية -أي: مقام الأمر والنهي- وهؤلاء عندهم قدر من المعارضة بين القدر والشرع. الثالث: فناء عن إرادة السوى، وهذا مقام توجد فيه مخالفة. ويستعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتابه (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) شيئاً من الغناء عن شهود السوى؛ فـ أبو إسماعيل المعروف بشيخ الإسلام الهروي الحنبلي صاحب المنازل، وهو ذو مقام فاضل في الصفات، لكنه صوفي مغرق في التصوف، وعنده أصول أخرى من الأخطاء. والإمام ابن القيم رحمه الله لمَّا شرح المنازل اعتذر كثيراً لـ أبي إسماعيل، وهذا الاعتذار الذي سلكه ابن القيم في مدارج السالكين كأنَّ بعضه ليس مناسباً، وينبغي أن يكون الحق أغلى وأعلى من قدر أبي إسماعيل الأنصاري أو غيره. ولا شك أن الهروي رحمه الله كان من المجاهدين الصادقين في علمهم وفي ديانتهم، هذا فيما يتعلق بحكمه العام، وأما مآله فهو إلى الله، ولكنه ممن يُرجى له الخير الكثير، فإنه إمام وعالم وناصر للسنة في مقامات وصاحب ديانة. ومقام التقريرات التي غلط فيها في كتابه صرفها ابن القيم رحمه الله -أو صرف كثيراً منها- إلى معاني تُناسب أهل السنة. وهذا ليس من المناسب، بل كان الأنسب أن يُقال: إن الهروي أخطأ في هذا الكلام، فإنَّ المتكلم إذا تكلم بكلام على مرادٍ ما، وهذا الكلام من جهة حروف اللغة يمكن أن يحمل على مرادٍ آخر، فلا يحقُّ لمن نظر هذا الكلام أن يحمله على معنىً ممكن ومؤلِّفه وصانعه والمتكلِّم به قد أراد به مراداً آخر، بل يجب أن يقال: إنه غلط. كما أن التلمساني -وهو المسمى بـ العفيف - قد تكلَّف في حمل كلام أبي إسماعيل على مراد غلاة الصوفية، فـ ابن القيم أبعده عن مرادات ضلاَّل الصوفية، والتلمساني أرجع كلام الهروي إلى مرادات الغلاة من الصوفية، وكان ينبغي أن يُوقف عند كلام الهروي على مراده، ويبيَّن أن مراده غلط، ولا سيما أنه استخدم ألفاظ الصوفية التي لا تحتمل التأويل ولا الاعتذار، خاصة أنه استخدم فصيح اللغة الذي فيه قدر من السعة في التعبير. فما حصل في كتاب المدارج ينبغي أن يُتفطَّن له، ومن أخطاء الهروي كذلك أنه بالغ في تقرير بعض مقامات العبودية، وفي قصر النفس عليها. وهذا التنبيه لا يُقصد منه التعليق على حال الإمام ابن القيم رحمه الله، لكن يُقصد منه أن كتاب المدارج -وهو كتاب في السلوك والتربية- كتاب شديد، أي: أنه لا يستطيع أن يقيم عليه حالاً شخص عنده تفرُّد أو عنده مقاربة لأحوال الصوفية وتفرُّداتهم. بمعنى: أن من أراد أن يُطبِّق كتاب المدارج كتربية عامة للمسلمين، فإنه يجد أن تطبيقه عزيز جداً؛ لأن فيه تعلقاً بأحوال لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يذكرها للأمة، لأنها نوع من الإهلاك للنفس، فإن النفس كما ذكر الله شأنها في القرآن خُلقت على حالين: الخير والشر، والله سبحانه وتعالى ألهم هذه النفس فجورها وتقواها، ففيها قدر واسعٌ من الشر والقبول له، وفيها قدر واسعٌ من الخير والقبول له. فالتدقيق في أحوال النفس من جنس التدقيق الذي كان عليه الحارث بن أسد المحاسبي قد يؤتي نتيجة فاضلة لبعض الخاصة، لكن العامة لا يستطيعونه، ولا سيما أن أهل السنة ليس عندهم طريقة للخاصة وطريقة للعامة، والهروي وجّه رسالته هذه للخاصة، فهو لم يوجهها لخاصة الخاصة، ولم يوجهها للعامة، لكن قصد بها الخاصة، وهم أصحابه من الصوفية، من ذوي الصُحبة العامة. [وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]]. الشاهد من سياق الآية هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] فحُكْمه سبحانه وتعالى مبنيٌ على إرادته، والحكْم الأصل فيه: أنه الفصل بالحق. لكن قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) فذكر الحكْم في غير مورد الصواب. فنقول: إنه الأصل فيه، بمعنى: أنه إذا أُطلق فإنه يراد به الصواب، ولكن إذا ذُكر في مقام الغلط فلا بد أن يكون مقيَّداً؛ ولهذا يقال: إذا حكم فاجتهد فأخطأ. [وقوله: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]]. هذه إرادته سبحانه وتعالى العامَّة التي هي بمعنى المشيئة؛ لا بمعنى الأمر، فمعنى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] من شاء الله هدايته شرح صدره للإسلام، ومن شاء الله ضلاله، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً. وهذه الآية من كتاب الله سبحانه صريحةٌ في إبطال مذهب المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، وإن الله لا يهدي ولا يُضل؛ فإنها صريحة بأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهدايته فضل، وإضلاله عدل، فليس معنى: (أن الله يضل من يشاء) أنه يصرف قلب أحد أراد الإيمان عنه؛ فإنه لم يقع في الحس أن أحداً أراد الحق والإيمان إلا ويُسِّر له هذا المراد.

إثبات صفة المحبة

إثبات صفة المحبة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]]: بعد أن ذكر المصنف رحمه الله قاعدة مطردة عند أهل السنة والجماعة في باب أسماء الرب سبحانه وصفاته شرع بعد ذلك في ذكر الآيات من القرآن الدالة على جملة من الأسماء والصفات. وعُنِي بذكر هذه الآيات على طريقةٍِ فيها قدر من التفصيل، وهذه العناية موجبها ابتداءً أن هذا الباب عند عامة المسلمين من أهل الإثبات من السلف والفقهاء وغيرهم مبني على النصوص؛ فمن قواعد أهل السنة والجماعة أن باب الأسماء والصفات باب توقيفي. ولهذا لا عجب أن يستطرد المصنف بذكر هذه الآيات المتضمنة للأسماء والصفات. وهنا مقام آخر وهو: أن الإثبات لهذا -الخبري وهو باب غيبي في جملة تفاصيله- لا بد أن يكون معتَبَراً بالخبر. فإنه وإن قيل: أن الكليات في باب الأسماء والصفات تدرَك بالعقل، وأن بعض الصفات تدرَك بالعقل، فلا شك أن العلم بتفاصيل هذا الباب لا بد أن يكون متلقَّى عن الدليل الخبري القرآني أو النبوي. وهنا مسألة عُنِي المصنف رحمه الله بتقريرها، فإنه يقول: إن هذا الباب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى مفصلاً في كتابه، لا بد أن يفقه فيه معناه، فإن الله وصف نفسه في القرآن بالإثبات والنفي، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وهذا الإثبات الذي غلب عليه التفصيل في القرآن، بعض ما ذُكِر منه مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى قد جاء ذكره مضافاً إلى العبد المخلوق. وهذه المسألة تعد عند الطوائف أصل فقه هذا الباب، ولهذا لا بد من العناية بها، فإن الله ذكر رحمته وعلمه ومحبته، وبتعبير آخر: ذكر العلم، والرحمة، والمحبة، والسمع، والبصر، مضافةً إليه، أي: أنها صفات من صفاته. وجملة هذه الصفات قد جاء ذكرها في القرآن مضافةً إلى العبد، وهذا واضح في السياق الذي ذكره المصنف؛ ففي قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ذكر لصفة المحبة أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه في قوله: {يُحِبُّهُمْ} [المائدة:54] وأضاف الصفة إلى عبده بقوله: {وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وهلم جراً. وإن كان لا يلزم أن كل صفة اتصف الرب سبحانه وتعالى بها يصح أن تكون مضافةً إلى العبد، لكن لا شك أن قدراً من الصفات المفصلة في القرآن، أضيفت إلى الله في سياق، وأضيفت إلى العبد في سياق آخر. وقد ذهب السلف رحمهم الله إلى أن الإضافتين كليهما على الحقيقة، فهذه إذا أضيفت إلى الله صفة له على الحقيقة، وإذا أضيفت إلى العبد فهي صفة للعبد على الحقيقة، ولا يلزم من ذلك التشابه والتماثل؛ لأن صفة الله أضيفت إليه فهي لائقة به، وصفة العبد أضيفت إليه وهي لائقة به. وكما عُلِم بإجماع أهل الفطرة ومن يقرون بأصل وجود الله وربوبيته من المسلمين وغير المسلمين أن ذات الباري سبحانه وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين أجمعين، من بني آدم وغيرهم، فإذا كانت ذاته بالفطرة والعقل وإجماع عامة العقلاء من المسلمين وغيرهم؛ مباينة لذوات المخلوقين؛ فإن الصفات تكون تابعة للذات؛ بل إن الذات لا يمكن أن تنفك في العقل والوجود عن صفاتها؛ ولهذا يمتنع أن ذاتاً قائمة بنفسها تكون موجودة إلا وهي متصفة بجملة من الصفات. وجملة كثيرة من الوهم الذي دخل على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم في باب صفات الله انبنت على أن الصفات منفكة عن الذات، أو كما يعبرون: أن الصفات قدر زائد على الذات، وهذا كله لغوٌ في العقل والوجود، فإنه لا يمكن أن ذاتاً توجد منفكةً عن صفاتها، ولا يمكن أن يقال: إن الصفات قدر زائد على الذات، بل هذا التقسيم أمر يفرضه العقل، وكثير من الآراء التي تكلم بها المخالفون للسلف وزعموا أنها من العقل، حقيقتها أنها من فرض العقل، وليست من حكمه. وكما قلت سابقاً -وهذه قاعدة ينبغي أن يستفاد منها في سائر العلوم، ليس في هذا الباب وحده، بل حتى في مسائل الأصول، والفقه، والتقاسيم، وتنزيل المسائل، وتحصيل موارد النزاع في المسائل، إلى غير ذلك-: إن ما يسمى في المنطق والقواعد بالسبر والتقسيم، أو ما يسمى عند الأصوليين وكثير من الفقهاء بتحصيل مورد النزاع في المسائل، هذا كله ينبني على تحكم العقل، أي: فروضات العقل، فلا بد أن يفرق الناظر وغيره من طلبة العلم بين أمرين: بين الشيء الذي يفرضه العقل فرضاً، وبين الشيء الذي يتصوره العقل ويحكم به. فإن ما فرضه العقل لا يكون له حقيقة علمية إلا إذا قبل العقل تصوره وتحكيمه، أما إذا عرض عرضاً للعقل، فهذا لا قيمة له. فطوائف المبتدعة يقولون: إن العقل يفرق بين الذات والصفات، ونسميه فرضاً في العقل؛ ولكن العقل لا يمكن أن يتصوره. والمسائل التي يفرضها العقل ليست هي من العقل، بل هذا أول المنازل لتحصيل المعارف، وهو من تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه القوة في الإنسان ليعلم بها الأشياء ويعرف بها الحقائق. فالمقصود أن هذا الباب لا بد من فقهه على هذا الاعتبار، فإن سائر ما أضافه الله إلى نفسه لائق به، وسائر ما أضيف إلى العباد لائق بهم، ومن هنا يمتنع أن تكون صفة واحدة من صفاته سبحانه وتعالى مشابهة أو مماثلة لصفات المخلوقين، وليس الجواب عن هذه الإضافة وهذه الإضافة أن يقال: إنها -أي: هذه الصفات- حقيقة في العبد وهي مجاز في حق الله، فإن هذا حقيقته التعطيل لصفات الله سبحانه وتعالى، فإن الصفة من هذه الصفات إذا أضيفت إلى مخلوق في سياق، وأضيفت إلى مخلوق آخر في سياق آخر، لم يلزم من ذلك تماثل الصفة التي أضيفت إلى مخلوقَين في سياقين مختلفين، وموجب عدم تماثل الصفة أن ذات المخلوق الأول تختلف عن ذات المخلوق الثاني، فإذا كان الأمر كذلك، علم أن ما أضيف إلى الله من الصفات يمتنع أن يكون مماثلاً لصفة مخلوق، لأن الصفة تابعة للذات، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء. وإذا قيل: إن إثبات صفة لله أضيفت إلى العبد يستلزم التشبيه والتمثيل. قلنا: هذا حقيقته القول بإنكار وجود الله؛ لأن العقلاء من المسلمين وغير المسلمين الذين أقروا بوجود الله -وهم عامة بني آدم- يقولون: إن الله موجود، وإن هذه المخلوقات موجودة، ومع ذلك لم يكن وجوده سبحانه وتعالى كوجود المخلوقات، بل جميعهم يتفقون على أن وجوده سبحانه وتعالى وجود أزلي، وهذا هو معنى كونه رباً ومعنى كونه خالقاً، ولو كان وجوده مسبوقاً بالعدم لما كان رباً خالقاً. فإذا كان وجوده باتفاق العقلاء من المسلمين وغيرهم يختلف عن وجود غيره من المخلوقات -والعالم وما فيه من الحوادث- دل ذلك على أن لفظ الوجود لفظ أضيف إلى الله وأضيف إلى هذه المحدثات جميعها، ومع ذلك اختلف مراده واختلف معناه في حق الله وحق خلقه. وهذه قاعدة: أن كل من عارض في صفة من الصفات وزعم أن إثباتها يستلزم أن تكون مشابهة للصفة المضافة إلى المخلوق، فإنه يبين غلطه ومفارقتُه للحق بذكر صفة الوجود، فيقال له: إنك تؤمن بأن الله موجود، والمحدثات موجودة، ووجودهما مختلفان، فوجوده تعالى هو -كما يسمى- وجود واجب، ووجود المخلوقات وجود ممكن، أو بعبارة أخرى: وجود الله وجود لا أول له، وهو وجود أزلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء)، ووجود المحدثات مسبوق بالعدم. ويعارَض كذلك ويغلَّط بصفة العلم، فإن الله يتصف بالعلم، والمخلوق يتصف بالعلم، فمن قال: إن العلم في حق المخلوق حقيقة وفي حق الله مجاز -ومعنى المجاز عند أهل المجاز أنه ما صح نفيه- فحقيقة قوله نفي العلم عن الله، وهلم جراً. فهنا تعلم أن هذا الباب -باب الأسماء والصفات- لا بد أن يعتبر فيه سياق القرآن، ومن هنا قصد المصنف إلى ذلك. وهذه الآيات التي ذكرها المصنف هي في تقرير صفة المحبة، وصفة المحبة: من صفاته سبحانه وتعالى المضافة إلى نفسه، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في غير موضع، كما ذكر المصنف هنا، وذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعناها عند أهل السنة والجماعة كغيرها من الصفات، أن الله سبحانه وتعالى يوصف بالمحبة. ولكن أنبه إلى أمر مهم سبق الإشارة إليه ولا بد من تقريره على وجه أكثر تفصيلاً، فأقول: إن القاعدة المعروفة عند أهل السنة من أن الله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يلتزم فيها بالسياق الذي ذكره الله سبحانه وتعالى. فصفة المحبة لم يذكرها الله سبحانه وتعالى من صفاته المطلقة، وإنما ذكرها من صفاته المضافة في مقام مختص، فإنها ما ذكرت إلا في حق المؤمنين، ولهذا فإن معنى محبته سبحانه وتعالى على الحقيقة: أنه يحب المؤمنين محبة تليق به سبحانه وتعالى، ليست كالمحبة التي تضاف إلى المخلوق.

تأويل صفة المحبة عند أهل البدع

تأويل صفة المحبة عند أهل البدع وأهل البدع مع هذه الصفة على قسمين: - غلاتهم يفسرون المحبة بالنعمة والحوادث المخلوقة، وهذه طريقة المعتزلة ومن وافقهم. - تعداد من انتسب منهم للسنة من المتكلمين المخالفين كالأشاعرة ونحوهم يفسرون محبة الله سبحانه وتعالى بالإرادة، فيقولون: المحبة هي إرادة الإنعام. فأما من فسر المحبة بالنعمة، فلا شك أنه مخالف لصريح القرآن؛ فإن ثمة فرقاً بين نعمته سبحانه وتعالى وبين فعله، ولا يكون هذا المذهب إلا عند معطلة الصفات. وإنما الذي التبس على كثير من أهل العلم المتأخرين وقلدوا فيه بعض المتكلمين، أنهم يفسرون محبة الله بإرادة الإنعام، فمثلاً: في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] يقولون: معنى ذلك أنه يريد الإنعام عليهم. ولا شك أن هذا من التأويل المخالف للسنة، فإن ثمة فرقاً في اللغة وفي الشرع وفي العقل بين صفة الإرادة وبين صفة المحبة. حتى إذا قيل: إنها إرادة الإنعام، فإن إرادة الإنعام في العقل والشرع لا تستلزم المحبة، فإن الله سبحانه وتعالى أنعم على سائر بني آدم نعماً، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ولا شك أن نعمه التي تفضل بها على عباده من المسلمين وغير المسلمين، هي بإرادته بضرورة الشرع والعقل. فإذا قيل: إن المحبة المذكورة في حق المؤمنين هي إرادة الإنعام، فلن يكون هناك فرق بين المؤمنين وغيرهم؛ لأن إرادة الإنعام لا تختص بالمؤمنين، فالكفار يسمعون ويبصرون، وما إلى ذلك، أي: قد أعطاهم الله جملة من النعم الظاهرة التي لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، وحتى إذا قيل أنهم حرموا أعظم النعم وهي نعمة الهداية، فالمقصود أن الله أعطاهم جملة من النعم، وهذا بيِّن في الحس، هذه النعم بإرادته تعالى؛ فإنه لا يمكن أن يكونوا حصلوا هذه النعم من ذوات أنفسهم. فعُلم أن إرادة الإنعام لا تختص بالمؤمنين، بل تقع إرادة الإنعام لقوم من الكفار ابتلاءً وغير ذلك، لأنه لو لم ينعم عليهم سبحانه وتعالى لما استطاعوا القيام بالأمر، فلو كانوا لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فلا يمكن أن يكلَّفوا؛ فهذه النعم لا بد منها لقيام التكليف وما إلى ذلك. إذاً: هذا التفسير غلط من جهة اللغة، فإن ثمة فرقاً عند العرب بين المحبة وبين إرادة الإنعام، والإنسان قد يريد الإنعام على شخص لا من باب محبته إنما من باب دفع شره أو من باب تحصيل مصلحة أو ما إلى ذلك من الإضافات والمتعلقات. فهذه جهة تبين الغلط المحض في هذا التفسير. الجهة الثانية: أن يقال: لماذا لا تفسرون المحبة هنا بوجهها الصحيح؟ قالوا: إن هذا يستلزم التشبيه. فنقول: إن كل معنىً من التشبيه فرضتموه في صفة المحبة فإنه يلزمكم في صفة الإرادة. فهم لم يثبتوا المحبة على ظاهرها؛ لأن هذا عندهم من التشبيه. نقول: أنتم فسرتم المحبة بالإرادة، فعندكم أن الله متصف بالإرادة، والمخلوق متصف بالإرادة، فإن قلتم: إن المحبة هي كذا وكذا في المخلوق، ويلزم أن تكون في حق الله كذلك وهذا لا يليق بالله، قيل: والإرادة كذلك. فإذا كان معنى المحبة الذي يليق بالمخلوق لا يليق بالله، فكذلك أيضاً: الإرادة اللائقة بالمخلوق لا تليق بالله. فإن قالوا: إرادة الله تختلف عن إرادة المخلوق. قلنا: فمحبة الله تختلف عن محبة المخلوق. فما من شيء يفرون منه في صفة المحبة، إلا ويلزمهم في صفة الإرادة، ومهما قالوا من التفريق في صفة الإرادة، فإنه يلزمهم في الصفة الأخرى. الفرق بين تأويل المعتزلة وتأويل متكلمة الإثبات: الفرق بين تأويل المعتزلة وتأويل متكلمة الإثبات من الأشاعرة والكلابية والماتريدية أن متكلمة الإثبات في الغالب لا يؤولون الصفات بالمخلوقات؛ بل يؤولون الصفات بصفات أخرى يثبتونها؛ وذلك لأنهم يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، فصار ما ينفونه إذا ورد ذكره في القرآن تأولوه على الصفات التي يثبتونها؛ فهم يثبتون صفة الإرادة، فإذا جاءهم ذكرٌ لصفة المحبة وصفة الغضب وصفة الرحمة وما إلى ذلك من الصفات، تأولوا هذا النوع على معنى الإرادة، فصارت المحبة إرادة الإنعام، وصار الغضب إرادة الانتقام، وهكذا. وأما الغلاة كالمعتزلة فإنهم يؤولون الصفات بالمخلوقات، وهؤلاء الرد عليهم أظهر؛ لأنهم مخالفون لصريح القرآن مخالفةً تامة. ويقال عن الفئة الأولى -الأشاعرة والماتريدية والكلابية-: إن كل من تأول صفة ورد ذكرها في القرآن على معنى صفة يثبتها هو وطائفته فراراً من التشبيه، فإنه يلزمه في الصفة التي أثبتها مثل ما يلزمه في الصفة التي نفاها، ولا فرق.

تميز أهل السنة في العبودية لله من فقههم لصفات الله

تميز أهل السنة في العبودية لله من فقههم لصفات الله إن المعاني التي تذكر في مقام العبودية عن محبة الله لا يدركها أولئك المتكلمون، وهذا يبين أن مسألة الأسماء والصفات ليس صحيحاً أنها من المسائل النظرية، بل هي من المسائل الإيمانية المتعلقة بالعبادة. ونقصد بهذا أن محبة الله سبحانه وتعالى لما فسرها من فسرها من المتكلمين بإرادة الإنعام، صاروا إذا ذكرت هذه الصفة في القرآن في مقام العبودية يقصر فهمهم عنها. مثلاً: الأصول الثلاثة للعبادة، وهي أصول العبودية عند الصحابة رضي الله عنهم، وهي عبادته سبحانه وتعالى محبة، وعبادته خوفاً، وعبادته رجاءً؛ ترى كثيراً من الصوفية ومن تأثر بهم، وكذلك بعض المتكلمين الذين تكلموا في الأحوال ومسائل العبادة والسلوك إذا ذكروا الخوف فسروه بالخوف من العذاب أو من عذاب جهنم، وإذا ذكروا رجاء الله قالوا: يعبد سبحانه وتعالى رجاء جنته، وما فيها من النعيم. ولا شك أن تفسير الخوف والرجاء بهذا تفسير قاصر؛ لأن أعظم الرجاء ليس هو رجاء الجنة، بل أعظم الرجاء هو رجاء محبته سبحانه وتعالى ورضاه؛ ولهذا قال تعالى في سياق ما وعد به المؤمنين: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، فرضاه سبحانه وتعالى ومحبته لعباده أعظم رجاء منهم إليه مما في جنته سبحانه وتعالى من النعيم. وكذلك الخوف؛ فإنه لا شك أن الخوف من النار من الخوف الشرعي ومن الخوف العبادي؛ لكن أشرف الخوف في مقام العبودية هو الخوف من سخطه وغضبه ومقته وما إلى ذلك. فبفقه هذه الأسماء والصفات يقع لأهل السنة في مقام الأحوال والسلوك ما لا يقع لغيرهم من التقرير. إذاً: قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] إثبات لصفة المحبة. وكذلك قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] إثبات لها كذلك. وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7] إثبات لها كذلك. هذه الآيات الثلاث فيها قدر آخر من المعنى فيه اشتراك، فإن الله علق محبته لعباده بمقام العدل. فإن قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ذكر لمقام العدل، فإن أشرف مقامات العدل: الإحسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في الصحيحين، وهذا عدل من جهة، وإحسان من جهة أخرى. ولهذا نقول: إن كل عدل فإنه إحسان، وليس صحيحاً ما يتبادر أن الإحسان هو الأمر الذي يقع على سبيل التفضل، أو أن الإحسان هو الأمر الذي لا يكون واجباً، وأن الأمر إذا كان واجباً لا يسمى إحساناً، بل الإحسان هو الفعل لما يستحق، سواء كان هذا الاستحقاق على الوجوب أو لم يكن كذلك. ولهذا لما ذُكِرَتْ مقامات العبودية، جُعِل أشرفها مقام الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه). وكذلك قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7] هذه كلها تحقيق لمبدأ العدل. ولهذا مِن أشرف مسائل العبودية المتعلقة بحقوق الخلق أن يكون العبد على قدر من العدل والإحسان. ولهذا لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المخرج من الفتن -كما في حديث عبد الله بن عمر في الصحيح- قال: (فمن أحب أن يُزَحْزَح عن النار ويُدْخَل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. ثم قال: وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه).

إثبات صفة الرحمة وأن الله غفور رحيم ودود

إثبات صفة الرحمة وأن الله غفور رحيم ودود قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]]. من صفاته سبحانه وتعالى (الرحمة)، وثمة فرق بين ذكر رحمته وبين ذكر محبته، فإن الله سبحانه ذكر رحمته صفةًَ، وذكر سبحانه أن من أسمائه: الرحمن، ومن أسمائه: الرحيم، ولم يجعل من أسمائه المحب، وما إلى ذلك، وذلك لأن مقام الرحمة أوسع من مقام المحبة، ولهذا تعلقت رحمته بجميع خلقه من المسلمين وغير المسلمين، بخلاف محبته، فإنها لم تتعلق إلا بأهل الإيمان والطاعة، وكأن هذا هو الفرق أو الموجب لكون المحبة لم تذكر في باب الأسماء، وإنما ذكرت في باب الصفات، بخلاف الرحمة فإنها ذكرت اسماً وذكرت صفةً، لأن الرحمة أوسع، بمعنى أنها متعلقة بسائر مَن خلق الله. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة -: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدة، فبها يتراحم العباد، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأبقى تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة)، وجاء في بعض الروايات في الصحيح: (إن الله خلق مائة رحمة)، وهذا لا يُشْكِل، ولا يجوز أن يكون حجة لمعطلة الصفات على أهل السنة، لأن الرواية الأخرى المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (إن الله خلق مائة رحمة)، وتعلم أن صفات الله ليست مخلوقة، بل هي قائمة بذاتها. فهنا قاعدة: (إن بعض ما ذكر صفة في القرآن أو في السنة، قد يذكر على معنى المفعول والأثر)، بمعنى أن الرحمة قد تذكر صفةً، وقد تذكر في مقام آخر، ويراد بها الأثر الذي يقع عن الرحمة، كقوله تعالى مثلاً: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] فأنت تقول: إن هذه النعم هي آثار رحمة الله. أليس كذلك؟ وعن السمع تقول: هذه رحمة الله أو نعمة من الله. فهل السمع هو الصفة القائمة بذات الرب؟ كلا؛ لأن السمع أو البصر أو العقل أو الصحة أو ما إلى ذلك، هي أشياء مخلوقة. فهذه تقول: إنها آثار لرحمة الله، فهذه الآثار تارةً تسمى آثاراً وتارةً تسمى باسم موجبها وهي الصفة، فتسمى نعمة أو رحمة أو ما إلى ذلك من الأسماء. فقوله: (إن لله مائة رحمة) المقصود به الآثار (إن الله خلق مائة رحمة) أي مائة أثر، وهي الرحمة المخلوقة التي تقوم في نفوس الناس، وبها يتراحمون، قال: (وأبقى تسعاً وتسعين) أي من آثار رحمته، وإلا فإن رحمته سبحانه وتعالى لا تحد بعدد. وفي قوله تعالى:: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] مسألة مهمة، وهي أن الله يكتب على نفسه، هذه جاء ذكرها في القرآن وجاء ذكرها في السنة في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب في كتاب عنده فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي). وفي رواية: (إن رحمتي سبقت غضبي) والحديث رواه البخاري من رواية ابن عباس وأبي هريرة. فهذه الكتابة المضافة إلى الله سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:54]، (إن الله كتب في كتاب عنده) تثبت على ظاهرها، ولا تُتأوَّل؛ فإن القاعدة فيها كغيرها، أنها تثبت على ظاهرها. وقد ذكر المتأخرون مسألة: هل للعباد على الله حق واجب، أم ليس كذلك؟ فتكلمت المعتزلة بقدر واسع من الإيجاب على الله، وذلك أن أفعال العباد عندهم مخلوقة للعباد، وأن الله يثيب العباد على محض أفعالهم، وليس من باب رحمته. وهم قوم يبنون قواعدهم على المعاوضة، ولهذا توسعوا في إثبات الكتابة على الله بما لم يقع مثله في الشرع. وبالغ قوم كالأشعرية ونحوهم بنفي ذلك. والصواب أن ما ذكر مما ورد في النصوص في هذا الباب فهو حق على ظاهره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق العباد على الله؟ وما حق الله على العباد؟) فللعباد حق عليه سبحانه وتعالى أن لا يعذب من لم يشرك به؛ وهذا الحق ليس مما ينقص مقام الربوبية.

إثبات صفة الرضا

إثبات صفة الرضا قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]]. في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] إثبات لصفة الرضا. والمعتزلة وغيرهم من المعطلة: أوَّلوها بالنعم. والأشاعرة: تأولوها بالإرادة. وقد تبيَّن ما في المسلكين من الغلط.

قاعدة في الصفات الفعلية

قاعدة في الصفات الفعلية قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93]]. فيه إثبات غضبه سبحانه وتعالى، وإثبات لعنه، ولكن غضبه ولعنه لا يذكر مطلقاً، بل يذكر مضافاً. ويعاب على كثير من المتأخرين من أهل السنة أنهم قرروا صفات الله سبحانه وتعالى بوجه ليس له أصل في القرآن، فلا يفرقون بين ورود صفة العلم وبين ورود صفة المكر، ولا شك أن هذا ليس من الكمال. فتجدهم يقولون: ومن صفاته: العلم، والرحمة، والغضب، والمكر، والقدرة، والعزة، مع أن مقامها في القرآن ليس واحداً، فهناك جملة من الصفات جاء ذكرها اسماً، أي: سمي الله سبحانه وتعالى بمدلولها، فصار من أسمائه الرحمن، والعليم، والسميع، والبصير. ولا شك أن ما جاء ذكره من الصفات اسماً، فهو مبني على الإطلاق، وأما ما لم يرد بذكره اسم، فقد يكون له وجه من الإطلاق، وقد يكون له وجه من الإضافة. فلا بد أن تلتزم هذه القاعدة في تقرير صفات الرب سبحانه وتعالى؛ لأن الله ما ذكر المكر صفة مطلقة له، فلا يحق لأحد أن يقول: إن من صفاته: المكر، والقاعدة في هذا الباب مبنية على اللغة وعلى العقل، والاعتبار الأول للعقل، واللغة أداة للفهم، فهي وسيلة يتوصل بها إلى مدلولات العقل بحسب تخاطبات بني آدم، ولهذا لا يلزم أن تكون اللغة هي العربية، إنما نزل القرآن بلغة العرب، لكن نزلت التوراة والإنجيل بغير العربية، وجمهور كتب الأنبياء لم تكن بالعربية، فليس بالضرورة أن نقول: لغة العرب، وإنما نقول: اللغة. ومن جهة حكم العقل على المعاني يختلف المعنى المطلق عن المعنى المضاف المقيد، ولا أحد من العقلاء يعطي المعاني المضافة أحكام المعاني المطلقة، فكما أن التقييد للمطلق وهم، فكذلك الإطلاق للمقيد وهم، والمعنى المقيد في العقل يختلف عن المعنى المطلق. وهناك معانٍ إذا قيدها العقل فسدت؛ لأن العقل لا يقبلها إلا مطلقة، ولا تكون كمالاً إلا مطلقة، فلو قيد علم الله سبحانه وتعالى بأشياء دون أشياء، فإن ذلك لا يكون كمالاً؛ بل يكون نقصاً؛ لأنه يستلزم أن ثمة قدراً من المتعلقات يلحقها الجهل؛ وكذلك الصفات المقيدة لا يجوز إطلاقها؛ لأنها إذا أطلقت أصبحت نقصاً. فليس من صفات الله المطلقة: المكر؛ لأن هذه الصفة على الإطلاق ليست مدحاً، ولهذا ذكرها الله سبحانه وتعالى مقيدة. فيجب أن يُلْتَزَم سياق القرآن في الصفات. تذكر ولا إلا بألفاظ القرآن والسنة، أو بتعبير من المتكلم؛ لكن يكون هذا التعبير موافقاً لسياقها المذكور في القرآن أو في السنة.

مسألة لعن المعين

مسألة لعن المعين قال المصنف رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93]]. في هذه الآية إثبات: غضب الله على قاتل المؤمن وإثبات لعن الله له، هذا هو المعنى المراد في الآية، وفيها مسألة أخرى، وهي لعن المعين من الفساق، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر بعض الكبائر ولعن أصحابها، فهل يلعن أصحابها أم لا يلعنون؟ أما لعن الجملة: فقد جاء ذكره في القرآن والسنة، مثل: لعن آكل الربا، ولعن السارق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، كما في حديث عائشة في الصحيح، فهذا اللعن للنوع لا بأس به. أما لعن المعين: كسارق بعينه، أو قاتل بعينه، أو ما إلى ذلك ممن لُعن في القرآن أو في السنة نوعه، فالجمهور من السلف -وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وكبار المتقدمين- أن هذا لا يجوز؛ لأن هذا لم يرد ذكره في النصوص. ولعن النوع لا يستلزم لعن المعين، ولا سيما إذا اعتبرت قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر. فإنه لا يلزم أن يلحقهم اللعن على معناه؛ لأنه قد يغفر الله لهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقد يغفر له ولو لم يتب، ومن هنا لا يلزم أن يكون هذا اللعن لاحقاً له. إذاً: عندنا جهتان في عدم لعن المعين: الجهة الأولى: أن هذا ليس له سلف في تفصيل القرآن والسنة وهدي الرسول وأصحابه. الجهة الثانية: جهة المعنى، فإنك تقول: إذا كانت قاعدة أهل السنة: أن الله قد يغفر لأهل الكبائر، أو لمن لُعنوا من أهل الكبائر مغفرة محضة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى ولو لم يتوبوا، فقد يغفر الله لهم عفواً وفضلاً، وقد تكون لهم حسنات أكثر من سيئاتهم، إلى غير ذلك. فإذا غفر الله لهم لم يلحقهم اللعن، ولم يلحقهم الوعيد؛ لأن اللعن من الوعيد .. ومن لعن معيناً كمن لعن سارقاً مثلاً، فهذا اللاعن إما أن يكون لعْنُه للسارق يقصد به الإخبار، فلعنه على جهة الإخبار لا يجوز، لأن الإخبار جزم، والجزم ليس سائغاً؛ لأن الله يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وإما أن اللاعن يلعن المعين لا من باب الإخبار، وإنما من باب الدعاء، فلعنُه دعاءً فيه إغلاق للرحمة. وقد يقول قائل: على هذا يلزم أن لا يجوز الدعاء على أحد. نقول: ليس كذلك؛ لأن ثمة فرقاً بين مطلق الدعاء وبين الدعاء باللعن ونحوه. ومن هنا ترك أئمة السنة كـ أحمد وغيره اللعن للمعين من الفساق، وسوَّغه جماعة من أصحاب الأئمة كـ ابن الجوزي، وكـ أبي حامد الغزالي. ومع ذلك نقول: إن هذه المسألة ليس فيها إجماع، وقد حكى بعض المتأخرين إجماع السلف على عدم جواز لعن المعين الملعون نوعُه في القرآن أو في السنة، وهذا الإجماع ليس بصحيح، نعم هو المشهور في مذهب المتقدمين، وهو المنقول في جوابات كثير من الأئمة، لكنه ليس إجماعاً؛ فالجزم بالإجماع لا وجه له؛ لأن هذا الإجماع لم ينضبط. إذاً: ذكرنا وجهين لمنع لعن المعين: الوجه الأول: التأسي بالسلف الذين ما كانوا يلعنون. الثاني: أن في اللعن قدراً من الإغلاق. بعض المتأخرين يقول: إن سبب عدم جواز اللعن للمعين: أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله والإقصاء المطلق، ومرتكب الكبيرة كالسارق -مثلاً- مُسلِم؛ فلا يُدعَى عليه بالإقصاء المطلق عن رحمة الله؛ لأن الإقصاء والطرد والإبعاد عن رحمة الله إنما يكون في حق الكفار. وهذا وإن كثر في كلام بعض المتأخرين، إلا أنه ليس بصحيح؛ لأنه لو كان هذا هو المعنى لما أمكن لعن حتى النواة. إذا فُسِّر اللعن بأنه: الطرد والإبعاد المطلق عن رحمة الله، لما أمكن اللعن حتى للنواة، إلا على طريقة بعض الصوفية، الذين يقولون: إن اللعن هنا من باب التخويف، وليس من باب الحقيقة، وإلا لو لحق اللعن، ولو لواحد، فإنه يكون قد أبعد عن رحمة الله مطلقاً، وليس له أدنى حظ من الرحمة. ومن هنا فسروا اللعن المذكور في النوع بأنه ليس على الحقيقة، وإنما هو من باب الزجر والتخويف. وهذا ليس بصحيح. بل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ما من وعيد ذكر في القرآن أو في السنة إلا وله حقيقة، وما من وعد ذكر في القرآن أو في السنة إلا وله حقيقة). وقال رحمه الله: (ومع أن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -فيما جاء في الكتاب والسنة- قد تحقق من قولهما أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة وإن كانت غير مقيدة في القرآن إلا أنه لما جاء ذكر وعيده ولعنه وغضبه سبحانه وتعالى لجملة الفساق علم أن المغفرة المحضة لا تلحقهم). ولهذا كان من إجماعات أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر: أن قوماً منهم يعذبون، وقوماً منهم يغفر لهم، ولم يقل أحد من السلف: إن جميع أهل الكبائر قد يغفر لهم، بل أجمعوا على أن قدراً منهم يعذبون، وهذا صريح في نصوص الشفاعة، وهذا هو تحقيق الوعيد، وغفرانه سبحانه وتعالى لجملة منهم هو تحقيق الوعد. فإذاً: قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] هذا وعد، والوعد والوعيد كثيرٌ في القرآن، فكل وعد أو وعيد لا بد له من حقيقة، ولا يمكن أن يكون المقصود به مجرد التخويف. ولكن لما قال بعض أئمة السنة المتقدمين في بعض نصوص الوعيد: إنها على ظاهرها، أو قالوا جملة نحو ذلك، ظن بعض المتأخرين أن مقصود السلف أنها لا حقيقة لها، وإنما يقصد منها مجرد التخويف. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن فسر قول بعض المتقدمين من السلف بهذا، فهذا حقيقته أنه لم يفقه قول الله ورسوله، ولم يقدر قول السلف حق قدره، بل ليس في الكتاب ولا في السنة وعيد إلا وله حقيقة)، وأما مجرد التخويف الذي معناه أنه لا حقيقة له، فيُنَزَّه الباري سبحانه وتعالى عنه، لأن حقيقته الوهم، ولا يمكن أن يتأثر مخاطب إذا عرف أن هذا الوعيد ليس له حقيقة. وليس معنى هذا أن كل وعيد مطلق يلزم كل معين، فإننا نعلم أن الله يغفر لقوم من أهل الربا، وقوم من أهل الزنا، وقوم من أهل الخمر، ومن أهل السرقة، إلى غير ذلك، ومغفرته سبحانه وتعالى قد تكون بتوبة، وقد تكون بحسنات ماحية، وقد تكون بمصائب مكفرة، وقد تكون بدعاء. والإمام ابن تيمية ذكر عشرة أسباب مسقطة للوعيد والعقوبة: التوبة واحد منها. إذاً: كأن من الوهم أن يقال: اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله بإطلاق، وهذا التفسير ورد في كلام المفسرين كثيراً، وحُكِي حتى عن بعض المتقدمين، وهذا الإطلاق فيه نظر؛ لأن الله لعن بعض الفساق ومعهم أصل الإيمان، فليس المقصود من لعنهم: الطرد والإبعاد المطلق عن رحمته. إذاً: ليس الموجب لعدم لعن المعين أن اللعن هو: الطرد والإبعاد المطلق، بل الموجب ما تقدم من التأسي، وما فيه من الإغلاق أو الجزم.

مسألة قبول توبة القاتل

مسألة قبول توبة القاتل قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} [النساء:93]: المراد مسلماً، سواء كان فاسقاً أو براً صادقاً، وليس الوعيد فقط خاصاً بمن قتل من يكون من أهل الإيمان المحقق، فإن الإيمان هنا يراد به أصل الإيمان وليس الإيمان المطلق. من قتل مؤمناً متعمداً هل له توبة أو ليس له توبة؟ الجمهور من السلف والخلف على أن له توبة. وصح عن ابن عباس -فيما رواه مسلم وغيره من رواية سعيد بن جبير - أن القاتل عمداً ليس له توبة، وهذا المذهب لا شك أنه ليس بصحيح، وإن قاله ابن عباس رضي الله عنهما، فإن القرآن والسنة متواتران على أن كل أحد له توبة حتى المشرك، وابن عباس يقول بهذا، فإذا كان المشرك له توبة، فمن باب أولى أن القاتل عمداً يكون له توبة. فإن قيل: إن القاتل عمداً تعلق به حق آدمي. قيل: فيلزم على هذا أن كل من تعلق به حق آدمي لا توبة له، وهذا لا يقول به ابن عباس؛ فهذا مذهب ضعيف لا شك في ضعفه. لكن ما معنى قول ابن عباس؟ حَكى ابن حزم أن ابن عباس يذهب إلى أن القاتل عمداً يعذب، وهذا ليس بصحيح، ولم يقله ابن عباس، وابن عباس أفقه من هذا، إنما ابن عباس يقول: (لا توبة له)، وليس معناها أنه يعذب؛ بل المعنى أنه يوافي ربه بالذنب، وإذا وافى ربه بالذنب صار عند ابن عباس وغيره تحت قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. إذاً: فرقٌ بين أن يقال: إن ابن عباس يقول: (لا توبة له) وبين أن يقال: إن ابن عباس يقول: إنه يعذب ويدخل النار. وأشد من ذلك غلطاً: قول من قال: إن ابن عباس يقول: إنه مخلد في النار. إذاً: هناك غلطان في الكتب المتأخرة على ابن عباس: من يقول: إنه يعذب بقدر ذنبه، ثم يخرج من النار. فهذا ابن عباس لا يجزم به. وأشد منه غلطاً من يقول: إن ابن عباس يقول: إنه يخلد في النار. فهذا لا يمكن أن يذهب إليه ابن عباس، وهو الذي ناظر الخوارج في مسألة الكبيرة. إنما المنضبط عن ابن عباس أنه يقول: (لا توبة له)، أي: أنه يوافي ربه بالذنب. وقد جاءت رواية أخرى عن ابن عباس تدل على رجوعه. هل رجع ابن عباس أو لم يرجع؟ هذه مسألة مختلف فيها، والأظهر: أنه لم يرجع عن قوله رحمه الله ورضي عنه؛ ولكن هذا قول قاله باجتهاد وقد خالف النصوص، فلا إشكال في ترك قوله.

مسألة قتل المسلم لنفسه

مسألة قتل المسلم لنفسه أشكل على قوم من أهل العلم ما ورد في قاتل نفسه من النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) فصار بعض المتأخرين يقولون: إن قتل النفس عمداً يستلزم الخلود في النار، وصار بعضهم يتوقف في من قتل نفسه عمداً، هل يخلد في النار، أم أن مآله إلى الجنة. أما الذين يقولون: إنه يخلد في النار، فهم لا يحققون هذا مع قاعدتهم المعروفة في أهل الكبائر عند سواد أهل السنة والجماعة؛ بل عامة المسلمين أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار. لكن الذي ينبغي أن ينبه إليه وهو الذي وقع فيه بعض أهل العلم حتى من المعاصرين: أنهم توقفوا في من قتل نفسه: هل يخلد في النار، أم أن مآله إلى الجنة. فقالوا: الله أعلم، هذه مسألة مشكلة، الأصول تقول: إنه كأهل الكبائر، والنص يقول: (خالداً مخلداً فيها أبداً). وهنا قاعدة فاضلة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن وهي من باب أولى فيما أشكل من أحرف السنة، مع أن القرآن من جهة الثبوت قطعي، بخلاف السنة، فإن منها ما هو قطعي الثبوت، ومنها ما هو ظني، والظن يتردد إلى درجات كثيرة. الله سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فدل هذا على أن في القرآن محكماً ومتشابهاً. والوارد من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يكون فيه بعض المتشابه، وسبب التشابه هنا قد يكون جهة الثبوت، وهذا هو الغالب، ولهذا ليس هناك نص من السنة انضبطت صحته عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف نصاً صريحاً في كتاب الله أو يخالف قاعدة. وقاعدة: أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله، وأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، من القواعد القطعية في القرآن والسنة. فقد تكون هناك بعض النصوص المشكلة؛ لكن إذا تأملت فيها وجدت أنها ليست قطعية الثبوت. فهل يقال فيها بالرد؟ الجواب: لا يلزم أن يقال فيها بالرد والتكذيب، كما يسلكه بعض المتكلمين، أن ما خالف القطعي من الظني يكذبونه ويردونه، أي: يبطلون صحته، ثم هم في تحديد القطعي على إشكال، فهم يختلفون حتى في تحديدهم لِمَا هو قطعي. فإن المنهج المعتدل عند السلف: أنهم لا يبطلونه رداً، ولكنهم يفسرونه على معنىً يناسب القاعدة القطعية. فكل ما كان من الأحرف مشتبه الثبوت لا يلزم ردُّه؛ لكن لا يصح أن يفسر بما يعارض القطعي. فهذا الحديث الذي ثبت في البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة فيه قوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) يعارض بظاهره القاعدة التي تنص على أنه لا يخلد في النار إلا الكفار. وعلى هذا نقول: لا يمكن أن يكون هذا الحديث على المعنى المتبادر، وهذا أجود من أن نقول: لا يمكن أن يكون الحديث على ظاهره؛ لأنه ربما كان هناك فساد في ذوق اللغة عند أكثر المتأخرين، وعصرنا داخل في هذا الإشكال. فإذا أردت أن تفسر الحديث أو القرآن تفسيراً لغوياً فلا تعتبر الكلمة المفردة، وجمهور التفسير اللغوي للقرآن والسنة لا يعتمد على الكلمات المفردة، وإنما يعتمد على السياقات. العرب كانوا يتذوقون اللغة، ولاسيما الجاهليين منهم. فكونك تحس ذوق اللغة ليس أمراً سهلاً، ولا يتحقق ذلك من خلال نظرك في قاموس أو في معجم أو ما إلى ذلك، فإن اللغة لسان، وليست علماً يُتَعَلم، ولهذا ما كان علماً محدداً أمكنك أن تكتبه، بخلاف الشيء إذا ما كان ذوقاً، إذ ليس له نظام يستطيع أحد ضبطه. صحيح أن علماء اللغة وضعوا القواميس ودرسوا البلاغة وما إلى ذلك؛ لكن بقي أن اللغة أُفُقُها أُفُقٌ واسع. فأولاًَ: هل قوله (خالداً مخلداً فيها أبداً) يلزم من لغة العرب التأبيد المذكور في حق الكفار؟ فأقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال هذا الحرف وهو: (خالداً مخلداً فيها أبداً) فإننا نعلم أن اللغة لا تستلزم ما يتبادر إلى الأذهان من التأبيد؛ إذ لو كانت اللغة تستلزم هذا المعنى للزم من ذلك أن النبي يريد هذا المعنى، وهو أن من قتل نفسه يحبط عمله، ولو كان مؤمناً براً صالحاً صائماً قائماً، لكنه تضايق من مشكلة في الدنيا، فتعجل وقتل نفسه. والخلاصة أنه ليس لدينا إلا أحد فرضين: إما أن تكون هذه الكلمة (أبداً) لم يقلها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه طريقة قد ذكرها الإمام الترمذي، والحديث وإن كان في البخاري ومسلم، إلا أن لدينا قاعدة مهمة وهي: (أن ما خالف قطعياً من نص صريح أو قاعدة محكمة قد يُتَرَدَّد في ثبوته)، وهذا يُتَرَدَّد في ثبوته، ولو كان في البخاري ومسلم. وقد يقول قائل: كيف يصح ذلك وقد قال الإمام ابن تيمية وغيره: (إن ما اتفق عليه الشيخان فهو متفق عليه بين أهل الحديث)؟ فأقول: هذه القاعدة قد تصح وقد لا تصح، وكذلك نحن لم نتردد في صحة الحديث، فالحديث لا شك أنه ثابت، إنما ترددنا في قوله: (أبداً). فـ الترمذي وجماعة يقولون: إن هذه الرواية وهم. وفي ظني أن هذا قريب، ولا سيما أن هذا الحديث في رواية البخاري ومسلم مداره على الأعمش، فلم يذكر هذه اللفظة إلا الأعمش في روايته، وقد رواه غيره ولم يذكروا هذه اللفظة، فهي لفظة غريبة من جهة علم الحديث، ولَمَّا كان هذا اللفظ غريباً مداره على رجل واحد -وإن كان إماماً إلا أنه من المدلسين، وإن احتمل الأئمة تدليسه- كان مما لا يجوز أن تعارض به أصول شرعية مطردة وقواعد سلفية قاطعة، خاصة أن أئمة السلف قرروا قاعدة أهل الكبائر ولم يستثنوا شيئاً، ولم يعلق إمام من أئمة السلف من أهل القرون الثلاثة الفاضلة على هذا الحديث بما تبادر عند المتأخرين من أن معناه تأبيد القاتل لنفسه كالكافر في نار جهنم. إذاً: إما أن هذا الحرف وهم، فلا إشكال، وإما أن يكون هذا الحرف ثابتاً في نفس الأمر وقد قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، فنعلم أن اللغة لا تستلزم ذلك؛ لأن القواعد المحكمة قاطعة في هذا السياق، ولا يجوز أن يتردد في كون مَن قتل نفسه متعمداً من المسلمين الذين مآلهم إلى الجنة، وإن لحقهم الوعيد.

شرح العقيدة الواسطية [9]

شرح العقيدة الواسطية [9] عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات الفعلية لله عز وجل، وهم في ذلك يخالفون سائر الطوائف، سواء الذين ينكرون الصفات جملة كالجهمية والمعتزلة، أو الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها كالأشاعرة.

إثبات الصفات الفعلية

إثبات الصفات الفعلية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]]. هذه الآيات التي ذكرها المصنف هي تابعة لما سبق ذكره من النصوص في تفصيل الأسماء والصفات، لكن المصنف رحمه الله عني بتقرير صفات الأفعال؛ لأن متكلمة الصفاتية تأولوا هذا النوع من الصفات ولم يثبتوه، فصارت عناية المصنف رحمه الله بذكر هذا النوع من الصفات أظهر؛ فإن الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وجمهور المسلمين تحقق عندهم الإنكار لقول الغلاة من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة، وإنما الذي التبس شأنه على كثيرٍ من المنتسبين للسنة والجماعة -سواءٌ كانوا من الفقهاء أو من الصوفية أو من المتكلمين- ما يتعلق بباب الصفات الفعلية، إذ أن كبار متكلمة أهل الإثبات كـ عبد الله بن سعيد بن كلاب والأشعري وأبي منصور الماتريدي وأمثالهم أولوا هذا النوع من الصفات، فالتبس شأنه على كثير من أهل العلم، ولهذا اعتنى المصنف رحمه الله بذكر آيات الأفعال، وقد بيَّن في مقام آخر أن هذا النوع من الصفات مذكورٌ في القرآن في أكثر من مائة موضع. فقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] فيه إثبات لسخطه سبحانه وتعالى، وهي صفة قائمةٌ بذاته، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته وإرادته. ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، الأسف هنا: هو الغضب، أي أغضبونا: أي لما غضب الله سبحانه وتعالى عليهم انتقم منهم، وكذلك قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] في ذكر شأن المنافقين، فإن هذا فيه إثبات لكرهه سبحانه وتعالى.

صفة السخط والكره والمقت والغضب

صفة السخط والكره والمقت والغضب تكلم بعض المتأخرين من أهل السنة في مثل هذه الصفات، فقالوا: إن الكره والسخط والمقت وأمثال هذه الصفات، تعود إلى صفة واحدة من أصول الصفات، فكلها ترجع إلى صفة الغضب أو أمثال ذلك. وهذا التفصيل فيما أرى ليس له هنا حاجة، والصواب أن تذكر هذه الصفات على وجهها. أما أن يقال أن سخطه سبحانه وتعالى هو غضبه أو ليس هو إياه، فهذا لا شك أن فيه افتياتاً على النصوص، من جهة التوحيد بين الصفتين. صحيح أن ثمة قدراً مشتركاً بين صفة السخط وصفة الغضب توجبه اللغة، لكن لا شك أن مدلول السخط في اللغة ليس هو مدلول الغضب. فالمقصود: أن بعض المتأخرين من أهل السنة قالوا: إن السخط والمقت والأسف وأمثال ذلك تعود إلى صفة واحدة، وهي الغضب، أو ما يقاربها، فجعلوا لجملة من هذه الأفعال أصولاً من الصفات، وهذه الطريقة ليست فاضلة، وكأن فيها أثراً من طريقة متكلمة الصفاتية، الذين أرجعوا جملةً من الصفات إلى صفة الإرادة، فيجب أن تبقى هذه النصوص على ظاهرها، فإذا ذكر الله سخطه، قيل: هذا سخطٌ اتصف الرب سبحانه وتعالى به في هذا المقام، وليس فيه مادة من النقص المنافية للكمال حتى يعاد إلى صفة جامعة له. وكذلك قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [غافر:35] والمقت: هو أشد البغض، أو هو درجةٌ من البغض ولكنه من أشده، وكأن السخط والمقت، وإن صح أنها تعود إلى عام، فإنها من البغض، لكنها تكون على معنىً يختص بها، أي أن البغض يكون على درجات، كما أن المحبة عند أهل اللغة وغيرهم درجات، فيكون بعضها أخص من بعض.

صفة الإتيان والمجيء

صفة الإتيان والمجيء قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]]. قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) هذا الإتيان مضاف إلى الرب سبحانه وتعالى، والآيات التي ذُكر فيها إتيان الرب ومجيئه هي من أكثر الآيات التي أبطلها أهل التأويل، وتأولها عامة المتكلمين من المنتسبين إلى السنة وغيرهم، ودخل تأويل هذه الصفة وصفة المجيء على كثير من فضلاء أهل العلم، فقالوا: إن الإتيان هنا ليس إتياناً على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ثم ذكروا جملةً من المعاني المجازية. وصفة الإتيان والمجيء وقع فيها من التأويل أكثر مما وقع في غيرها. فإن قيل: أليس القاعدة عند المخالف تكون واحدة؟ قيل: المخالف ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مخالفاً نظاراً منتظماً على مذهبٍ واحد كنظار المتكلمين سواءٌ كانوا من المعتزلة أو غيرهم، وإما أن يكون من غير المتكلمين. فإذا كان المخالف من أهل علم الكلام الذين انتظموا على وجه واحد، لم تضطرب قاعدته، وإن كان غير ذلك فقد تجده يثبت بعض الصفات وينفي بعضها؛ فبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة تجدهم يثبتون كثيراً من صفات الأفعال، فإذا ذكروا رحمة الله ومحبته وغضبه ونحو ذلك، ذكروها على الإثبات، لكنهم إذا ما أتوا لذكر صفة الإتيان، تأولوها، وكأنهم رأوا في هذه الصفة من عدم المناسبة لإثباتها أظهر مما وقع لهم في غيرها من الصفات. فهذا الإتيان قد جاء ذكره في القرآن مضافاً إلى الرب سبحانه، فإنه يقول: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ومحل هذا الإتيان هو يوم القيامة، وفي هذه الآية إتيان مضافٌ إلى الرب وإتيان مضافٌ إلى الملائكة، فالذين تأولوا هذا النوع من الصفات جعلوا الكلام فيه حذفاً، وقالوا: إن هذا من باب حذف المضاف، وتقدم الإشارة إلى أن هذا ممتنع من جهة اللغة ومن جهة العقل، وذلك أن المحذوف في لغة العرب وغير العرب يلزم أن يكون معلوماً، أما إذا كان المحذوف مجهولاً، بل كان المحذوف يمتنع العلم به، فإن هذا الحذف لا يجوز في خطاب الأخبار الإيمانية، بل هذا لا يقع إلا من مكذبٍ أو من قاصدٍ للتكذيب. فإنك ترى أن هذا خبرٌ قصد الله سبحانه وتعالى من المكلفين أن يؤمنوا به، فإذا كان فيه محذوفٌ يمتنع العلم به، فإن التصديق به يكون ممتنعاً؛ لأن ظاهره ليس مراداً. وإنما قلنا: إن المحذوف هنا ممتنع العلم؛ لأنه يمكن أن تقدر جملة من الأشياء. فمنهم من قال: إن المقصود هنا: إتيان الملائكة، وهذا ينقضه آخر الآية؛ فإن الله يقول: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ففرق بين إتيانه وبين إتيان الملائكة. ومنهم من قال: إنما يأتي أمره، أو قضاؤه أو ما إلى ذلك. فلما كان المحذوف متعدد الإمكان، عُلم أن تعيين واحد يكون ممتنعاً من جهة العقل ومن جهة اللغة نفسها، فلما امتنع العلم بالمحذوف دل على أن الخطاب على ظاهره. فإنك هنا أمام أحد حقيقتين: إما أن يكون الخطاب على ظاهره، وإما أن يكون الخطاب فيه حذف، فإذا كان الخطاب فيه حذفٌ -وإن كان أصله من جهة اللغة مسلماً- إلا أنه لا يمكن في هذا السياق؛ لأن العلم بالمحذوف ممتنع، والذي تحذفه العرب في كلامها، وكذلك غيرها من الأمم -فإن كل لغة بني آدم فيها حذف- إنما هو ما يعلم علماً واجباً، أو علماً ممكناً، أما ما كان العلم به ممتنعاً فإن هذا لا يحذف، وإلا لصح أن يفرض على كلام الناس أن فيه حذفاً. فإذا كان المحذوف لا يدل عليه في السياق لحال من الأحوال، ولا يمكن العلم به، امتنع أن يقدر شيء محذوف، فوجب أن تكون الآية على ظاهرها؛ لأنها لو لم تكن على ظاهرها للزم ذكر محذوف يمتنع العلم به، فتكون الآية لم نعلم منها حقاً، وإنما علمنا منها تلبيساً ينافي كلام الرب سبحانه، وهذا مما ينزه القرآن عن ذكره. بقي أن الإتيان المضاف إلى الرب سبحانه وتعالى: هو الإتيان الذي يليق به، وهذا كنزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. وقد يورد بعضهم في الإتيان ما يذكر في النزول من السؤالات، كقول من قال: إذا نزل هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ فيقال: أولاً: إن مثل هذه السؤالات هي سؤالات مبتدعة لا يجوز ابتداؤها، فإذا ابتدأها أهل البدع، أمكن لعلماء السنة المحققين أن يجيبوا عليها بما تقتضيه أصول السنة والجماعة. فإن ثمة فرقاً بين ما يذكر في أصول الدين والمعتقد تقريراً، وبين ما يذكر في أصول الدين والمعتقد رداً، فإن باب التقرير أضيق من باب الرد. وكثيرٌ من الناس يخلط بين البابين، فلا يفرق بين ما يذكر تقريراً وما يذكر رداً.

كيفية ذكر المذاهب المخالفة عند طائفة من علماء أهل السنة

كيفية ذكر المذاهب المخالفة عند طائفة من علماء أهل السنة من الحقائق التي تلاحظ في باب التقرير والرد أن طائفة من علماء السنة والجماعة رحمهم الله إذا ذكروا مذاهب المخالفين لهم، فقد يكون ذلك ذكراً للمذهب المطابق، وقد يكون ذكراً للمذهب المتضمن، وقد يكون ذكراً للمذهب اللازم. وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يتفطن لها في كلام أهل السنة أنفسهم، فكثير من أهل السنة إذا ذكروا مذاهب مخالفيهم، فإنهم قد يذكرون المذهب بلوازمه وما يتضمنه. فمن يقرأ في كلامهم، يقول: إن هذه الطائفة المخالفة لهم تعتقد هذا المعتقد، والتحقيق أن الطائفة لا يلزم أن تعتقد هذا المعتقد. وأضرب لذلك مثلاً: إذا قرأت في كلام بعض علماء السنة والجماعة في ذكر مذهب جمهور المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، تجد أنهم يقولون: يرى هؤلاء المرجئة أن الإيمان هو تصديق القلب وأن الأعمال لا تدخل في اسم الإيمان، وأن أعمال القلوب -كالمحبة والتعظيم والرضا- لا تدخل في اسم الإيمان. وعلى قول هؤلاء أن إيمان جبريل وإيمان سائر الفساق سواء. فهذه من حيث التفصيل ثلاث جمل: الجملة الأولى: أن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال الظاهرة لا تدخل في اسم الإيمان. الجملة الثانية: أن أعمال القلوب كالمحبة والرضا لا تدخل في اسم الإيمان. الجملة الثالثة: في التقرير قالوا: وعلى قول هؤلاء يكون إيمان جبريل وإيمان الفساق سواء. والحقيقة أن المذهب الذي قاله أصحابه هو الجملة الأولى فقط، أما الجملة الثانية فهي محتملة في المذهب. وأما الجملة الثالثة فهي ليست من المذهب، فإن قيل: إننا نرى في كلام طائفة من علماء السنة هذا الاستعمال، قيل هذا صحيح. وهناك قاعدة: أن المصطلحات المتأخرة لا يجوز أن يحكم بها على الطرق التي استعملها قوم من متقدم العلماء. فالدلالات الثلاث التي انتظمت عند أهل الحد والمنطق والاصطلاح -وهي دلالة المطابقة، ودلالة التضمن ودلالة التلازم- قد درج المتقدمون وكثير من علماء السنة على جمعها على المذاهب، يقصدون بذلك التقرير لبطلان هذه المذاهب. ولا شك أنك إذا أردت إبطال مذهب المرجئة، صح لك أن تعارض مذهبهم؛ بأنه يقتضي أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفساق؛ فإن هذا لازم للمذهب؛ لأنهم لما قالوا: إن الإيمان هو التصديق، لزم أن يقال: إن جبريل مصدق، وإن الفاسق مصدق، وعندكم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فيلزم أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفساق، وهذا يعلم بطلانه، فالنتيجة أن المذهب يعلم بطلانه؛ لأنه لزم عنه قول باطل. لكن هناك قاعدة حتى علماء السنة يسلمون بها: أن لازم المذهب لا يعد مذهباً، وأن لازم الأقوال ليست أقوالاً تضاف إلى الناس. إذاً: يقول المرجئة: الإيمان هو التصديق، أما أنهم يقولون: إيمان جبريل كإيمان الفساق، فهذا لم يقله أحد من أئمة المرجئة ولا حتى الغالية منهم كـ الجهم بن صفوان، وهو أشد غلواً من جميع من ذكر قولاً في الإرجاء؛ فلا أحد من المسلمين أو المنتسبين للقبلة يقول: إن إيمان جبريل كإيمان الفساق، أو أن إيمان النبي عليه الصلاة والسلام كإيمان أكلة الربا وجمهور الفساق، فهذا القول لم يقله أحد من المسلمين ولا ممن انتسب إلى الإسلام، والملة في شيء، إنما هي لوازم ألزم بها أصحاب السنة أهل البدع، فيعرف بها بطلان مذهبهم فحسب. بل يذكر ذلك أحياناً علماء السنة من باب الإلزام، وكما قلت: إن باب الإلزام لا بأس به بقصد إبطال البدع والمخالفات للسنة، لكن إذا ذكر الإلزام على أنه مذهب فلا. وأما الجملة الثانية وهي التي قلنا أنها متضمنة في المذهب، فهذه لا يجزم بها، فقد يخالفها أصحابها عند التحقيق، ولهذا ترى أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب مقالات الإسلاميين لما ذكر مذهب الجهم بن صفوان: أن الإيمان هو المعرفة، ذكر أن المعرفة عند الجهم بن صفوان تتضمن المحبة والتعظيم والإذعان والقبول، فكأن الإشكال جاء من لفظ المعرفة، فكأنه فهم منه العلم المحض الذي لا يكون معه قياداً أو قبول أو رضا أو إذعان أو محبة. ولكن أبا الحسن لما فسر قول جهم، قال: إنه يريد بالمعرفة العلم مع المحبة والقبول، فإذا كان هذا تفسيره لقول الجهم، والجهم هو شرٌ من قال في الإيمان من المرجئة، فمن باب أولى أن يكون هذا مراد للأشعري في قوله. ولهذا من حكى عن أبي الحسن الأشعري أنه لا يجعل أعمال القلوب داخلةً في اسم الإيمان، وأن الإيمان عنده تصديق محض، بمنزلة المعرفة المحضة، فقد غلط. إذاً يفرق بين ما كان من أقوال المخالفين مذهباً مطابقاً وبين ما كان متضمناً في المذهب لا نجزم بإثباته ولا نجزم بنفيه، وبين ما كان لازماً، فهذا نجزم بنفيه، ولكننا نستعمله لإبطال المذهب. ولا شك رغم هذا كله أن ذكر السلف وأهل السنة لأقوال أهل البدع، أشرف وأفضل وأعدل من ذكر أهل البدع لأقوال أهل السنة والجماعة. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]]. هذه الآية على ظاهرها وهي كالآية السابقة، وفيها تفريق بين إتيانه سبحانه وتعالى وبين إتيان الملائكة وبين إتيان آياته. وهذه الآية أفصح في الجواب عن إيراد أورده بعض الأشعرية، فإنهم لما قيل لهم: إن العلم بالمحذوف في قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] علمٌ ممتنع، قالوا: وليكن ممتنعاً؛ لأن المحذوف لما امتنع العلم به كان أجل قدراً، فحين لم يذكره الله وجعل ظاهر السياق مضافاً إليه دل ذلك على أن المحذوف شيء عظيم، لكن ما هو؟ الله أعلم به. فجعلوا كأن من المقصود أن نعلم أنه محذوف، ولكننا لا نعلم تعيينه. فيقال لهم: إن هذا مع ما فيه من التكلف ترده الآية الثانية وهي قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] مع أن: (بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) هذه كلمةٌ مجملة، فدل هذا على أنه يمتنع أن يكون هناك محذوف مضاف إلى الرب. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]]. في هذه الآية ذكر مجيء الله سبحانه وتعالى، والمجيء والإتيان ذكرا في القرآن باعتبار المحل، على محلٍ واحد وهو يوم القيامة، ولكن لا يقال: إن المجيء هو الإتيان أو الإتيان هو المجيء، وأن هذا من باب الترادف، والصواب -كما أسلفت- أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يتصف بالمجيء ويتصف بالإتيان، ولا يجوز أن يقال أن هذا مرادف لهذا؛ لأن تمام المعاني اللائقة به سبحانه وتعالى هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

شرح العقيدة الواسطية [10]

شرح العقيدة الواسطية [10] من عقيدة أهل السنة أنهم يثبتون لله صفة الوجه واليدين، وهم يخالفون بذلك المعطلة الذين يقولون: إن اليد تؤول بالنعمة أو القوة، كما يثبتون لله صفة المكر والكيد بالكافرين على وجه يخالفون فيه طائفتين على طرفي نقيض، إذ الطائفة الأولى تقول: إن المكر والكيد من صفات المقابلة. بينما الطائفة الأخرى تقول: إنها من الصفات المطلقة.

إثبات الصفات الخبرية

إثبات الصفات الخبرية

إثبات صفة الوجه

إثبات صفة الوجه قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]]. المقصود بذكر وجهه سبحانه وتعالى: أنه يبقى ربك، وهذا ليس من التأويل، والوجه يذكر في اللغة ويراد به الجهة، ويذكر في اللغة ويراد به الصفة، ويذكر في اللغة ويراد به الذات، ولهذا مقصود قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) بقاؤه سبحانه وتعالى. وإذا قيل: إن المقصود بقاؤه، فليس معنى هذا أننا فسرنا الوجه بالذات ولم نفسره بالصفة، بل تفسيره ببقائه سبحانه وتعالى هو إثبات لذاته وإثبات لصفته، ولهذا إذا قيل: ما معنى قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)؟ قيل معناها: ويبقى ربك، فإذا قيل: هل هذه الآية دليل على إثبات صفة الوجه له؟ فالجواب: نعم. وأما قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فالمراد الجهة. والآية تدل كذلك على إثبات الوجه، فإن القاعدة: [أن ما صح ذكره على المعنى الذي يسميه المتأخرون مجازاً، وهو المعنى المشترك، فلا بد أنه منقول بالحقيقة من جهة الأصل]. ولهذا جعل أهل السنة من أدلة صفة اليدين قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] مع أن السياق لم يأتِ على ذكر الصفة من أصلها. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]]. ومعنى هذه الآية كمعنى الآية السابقة أي: كل شيء هالك إلا هو سبحانه وتعالى، وفيها إثبات لصفة الوجه.

إثبات صفة اليدين

إثبات صفة اليدين قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]]. هذه تثنية مضافة، ومما يثبته أهل السنة أن الله موصوف باليدين، وأن له يدين تليقان بجلاله سبحانه وتعالى، والقاعدة فيها كالقاعدة في سائر الصفات، وتأولها المخالف بالنعمة أو بالقدرة أو بالقوة، وهذه المعاني وإن كان أصلها يستعمل للفظ اليد في اللغة، إلا أن السياق هنا يمنع أن تفسر بذلك، لأن اليد هنا ذكرت مثناة ومضافة، والعرب إذا ذكرت اليد على سبيل التثنية المضافة، لم ترد إلا الصفة، ولا تريد القوة والنعمة وأمثالها. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]]. هذه الآية دليل على إثبات صفة اليد له سبحانه وتعالى، وهنا ينبه إلى أنه في مقام التقريب لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته لا يجوز أن يقال: إن اليهود كانوا مثبتين للصفات أكثر من إثبات المعتزلة أو من إثبات بعض أهل القبلة من المسلمين، فإن هذا الكلام قد يستعمله بعض من يريد الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة من أهل البدع. أيضاً إذا نظرت إلى الجاهليين من العرب، وجدت أنهم لم يعارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصفات، وأقروا بجملة هذا الباب، ولم ينقل عنهم معارضة في تفسيره، ولكن هذا الإقرار العام والمجمل لا يلزم أن يكون محققاً على السنة والجماعة وطرق الأنبياء وما إلى ذلك، فهذا فيه تعذر كثير. هذا إذا ذكر في شأن الجاهليين من العرب فإن الأمر يكون سهلاً ومقارباً، وأما إذا ذكر ذلك في شأن اليهود وأن اليهود كانوا مثبتين للصفات على التحقيق، وأنهم كانوا مقرين بها ولم يحرفوها ولم يخالفوها، فهذا فيه كثير من التكلف، وقد قالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] وأسقطوا أصل الكمال الذي يتصف الرب به سبحانه وتعالى، وإذا أسقطوا أصل الكمال، فمن باب أولى أن يسقطوا تفصيله. أما المخالفون من المسلمين فإنهم يقرون بأصل كمال الرب، وأنه مستحق للكمال منزه عن النقص. وطالب العلم من أهل السنة ليس بحاجة إلى أن يفضل أقوال الكفار على أقوال بعض المسلمين، فإنها وإن فضلت من وجه، إلا أنها شرٌ من أوجه أخرى، والتفضيل المطلق هو المعتبر في الحكم والقياس، وأما التفضيل من وجه فهذا ليس له حكم؛ لأن الأحكام لا تضطرب. ولهذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله فيه نوع من الزيادة فيما يظهر -والله أعلم- وذلك في قوله: إن المعطل بالغواية معلنٌ ... والمشركون أخف في الكفران فهذا لا يظهر تحقيقه، ولا شك أن المسلمين -مع ما فيهم من البدع- أقرب إلى السنة والقرآن من أهل الكفر. وأما غلاة أهل البدع الذين وصفهم الأئمة بالزندقة، فمن ثبتت زندقته وإلحاده وخروجه عند السلف من الشريعة والديانة والملة، فهذا لا يمنع أن يكون قوله أشد كفراً وضلالاً ومباينة لمقاصد الأنبياء ورسالتهم من قول طائفة من أهل الكتاب أو طائفة من المشركين. ولهذا نقول: إن المعتزلة -مثلاً- وإن تأولوا الصفات إلا أنهم لا ينفونها، بل يثبتون أحكامها، فإنه ليس هناك طائفة من طوائف المسلمين تنفي أحكام الصفات؛ فالمعتزلة وإن كانت لا تثبت قيام صفة العلم بذات الرب، وهذه بدعةٌ ليست سهلة، بل هي بدعة كفرية ولا شك، إلا أنهم يثبتون حكم العلم لله سبحانه وتعالى، وجميع المسلمين من أهل السنة وغيرهم يؤمنون بـ {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] وإن قالت المعتزلة: إن العلم ليس صفةً مختصةً بذاته، بل هو عليم بذاته، وليس عليماً بعلم، هذا هو محل الخلاف عندهم، أما أن أحداً ينكر أن الله عليم فلا. ولو أنكر المعتزلة ذلك وجردوا الرب عن العلم؛ بمعنى أنهم وصفوه بمقابله أو قالوا: إن الله ليس بعليم، لصح لنا أن نقول: إن اليهود والنصارى ومشركي العرب أخف كفراً من هؤلاء. لكنهم يثبتون أحكام الصفة، ويرون كفر من أنكر حكم الصفة، ويكفرون من قال: إن الله لا يعلم الأشياء كليها أو جزئيها، ولهذا كفرت المعتزلة غلاة القدرية، مع أن المعتزلة هم القدرية، إلا أنهم كفروا الغالية الذين ينكرون علم الرب. إذاً: الخلاف عندهم هل العلم صفة لله أم أنه عليم بذاته؟ هذا هو محل الجدل مع هؤلاء، وإن كان لا يسهّل في أقوالهم، إلا أنه ينبغي أن توزن بميزان الحق، ولا يخفف من كفر بعض الكفار؛ لأن اليهود قالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) وقالوا: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) والنصارى قالوا: (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) وقالوا: (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) وقالت اليهود: إن الله استراح يوم السبت .. إلى آخر ذلك. وهذا لم يخطر بقلب مسلم من المسلمين لا من أهل البدعة ولا من أهل السنة، فينبغي أن تقرب الأقوال إلى حقائقها.

إثبات صفة البصر وصفة العين

إثبات صفة البصر وصفة العين قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14 - 15]، وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]]. صفة العين ذكرت في القرآن جمعاً وذكرت مفردةً ولم تذكر مثناة كصفة اليدين، ومن طرق أهل السنة والجماعة إثبات البصر له سبحانه وتعالى؛ فإن هذا صريح في كلام الله سبحانه وتعالى، وإثبات العين له سبحانه وتعالى، وأما تخصيصها بأكثر من ذلك، فإن هذا لم تنطق به النصوص.

إثبات صفة السمع وأن الله يسمع ويرى

إثبات صفة السمع وأن الله يسمع ويرى قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]]. في هذه الآية إثبات للسمع، وهي وأمثالها تكذب قول المعتزلة الذين قالوا: إنه سميع بذاته، وليس سميعاً بسمع، فالآية صريحة بإثبات الفعل في قوله تعالى: (يسمع) فدل على أنه سميع بسمع، وهو لائق به سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً يغلط قول أبي محمد ابن حزم رحمه الله، فإنه قال قريباً من قول المعتزلة. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] (بَلَى وَرُسُلُنَا): المراد بالرسل هنا الملائكة]. وهذا فيه إثبات لسمعه سبحانه وتعالى، وأنه لا يعزب عنه شيء. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى سمعه علقه بالسر والنجوى، فدل على غيره من باب أولى، ولما ذكر علمه سبحانه وتعالى علقه بما في الصدور، وهذا يدل على أن المراد من صفة السمع الحقيقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بسمعه العلم، لما كان هذا خاصاً بالسر والنجوى، ولهذا فرق سبحانه وتعالى بين الصفات، فحين ذكر علمه قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] وحين ذكر سمعه جعله في أدنى متعلقات السمع، وهما السر والنجوى، فدل على أن السمع هنا يراد به السمع على حقيقته. ولهذا صار أخص متعلقاته في القرآن السر والنجوى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ). قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]]. وهذا كذلك، ولهذا لما ذكر الله سبحانه معيته جعلها مضافة إلى موسى وهارون، فإن السياق في ذكرهما، وهذه هي معيته الخاصة سبحانه وتعالى المتضمنة لنصره وتأييده، والسمع هنا ذكر مطلقاً غير مقيد، وكذلك الرؤية ذكرت مطلقةً غير مقيدة. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]]. وهذا إثبات لرؤيته وبصره سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218 - 220]، وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]]. (فَسَيَرَى اللَّهُ): هل المقصود هنا الرؤيا العلمية أو الرؤية البصرية؟ هذا من جهة اعتبار اللغة له اعتبار، لكن من جهة اعتبار الشرع يقال: إن الآية عامة، (فَسَيَرَى اللَّهُ): أي يعلم الله سبحانه وتعالى عملكم ويبصره.

إثبات أن الله شديد المحال

إثبات أن الله شديد المحال قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]]. قوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ): الْمِحَالِ: أي القوة، وفسره بعضهم في بعض مختصرات الشروح لهذه الرسالة: فقال: شديد المحال أي: شديد الأخذ بالعقوبة، وهذا فيه تقصير في تفسير الآية، فإن (الْمِحَالِ) هو أشد القوة في كلام العرب، وقوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ): أي شديد القوة، سواء كانت هذه القوة أخذاً بالعقوبة أو حكماً كونياً آخر.

إثبات مكر الله بالكافرين وكيده لهم

إثبات مكر الله بالكافرين وكيده لهم قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]]. هذا إثبات لمكره سبحانه وتعالى بالكفار كما في قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] وهذا النوع من الصفات لا يجوز أن يذكر في حق الله مطلقاً، وإنما يذكر كما ذكره الله، وهذا هو وجه كماله، أما إذا ذكر مطلقاً، فإن هذا ليس من الكمال في مقتضى العقل ومقتضى الفطرة. وهناك طريقة يستعملها بعض أهل السنة، وهي أنهم يقولون: ذكر صفة المكر هو من باب المقابلة، وهذا التعبير لا أصل له في القرآن ولا في السنة ولا حتى في كلام الصحابة، وكأن فيه تضييقاً لمعنى الآية أو لمعنى الصفة، كما أن من جعل المكر صفةً مطلقة قد وسع ما لم تدل الآية على توسعته. ففيما يظهر أن قولهم: (إن هذا على سبيل المقابلة) ليس فاضلاً؛ لأنه يوحي بقدرٍ من التضييق لمعنى الصفة، فكأن معناه على قولهم: أنه لا يمكر إلا عند مكرهم، فإذا مكروا مكر بهم، وهذا لا يلزم في وصف الله سبحانه وتعالى، والآية لم تدل عليه، فإن الله يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فجعل الفعل من جهته مستقلاً، والفعل من جهتهم مستقلاً، والمقابلة إنما يصح ادعاؤها على مثل سياق: (فإذا مكروا مكرنا) أو (فإذا مكروا مكر الله بهم) هذا هو الذي يكون من باب المقابلة. فإن المقابلة كمصطلح كأنها بمعنى الشرط في كلام أهل اللغة، والمشروط لا بد من وجود شرطه، وهذا فيه تضييق للآية أو للصفة؛ فإن القرآن ذكرها مختصة، ولكنها في سياقٍ مقيد، فهذا هو الوسط في فقه الآية، وهو الصواب، وهو الذي يجب التزامه؛ لأن هذا هو الذي ذكر في الآية. فلا يقال أن هذا من باب المقابلة، لأنه يفهم منه أن هذا الصفة لا تقع إلا بعد وقوعها منهم، وهذا ليس بلازم، ومن قال هذا فقد تكلف ذكر ما لم تذكره النصوص ولا تقتضيه أصول الكمال الذي يتصف الرب به، فلا يقال أنها من باب المقابلة، كما لا يقال أنها صفةٌ مطلقة كصفة العلم، بل يقال: إن الله سبحانه وتعالى يمكر، ومكره سبحانه وتعالى يكون بالكفار؛ قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]. والفاضل في مثل هذه الصفات أنها إذا ذكرت بتقرير من المتكلم: أن تذكر ويذكر سياق الآية معها، فيقال مثلاً: ومن صفاته أنه يمكر بالكافرين، كما في قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] ومن صفاته أنه يكيد لأعدائه كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]. فإذا قال قائل: وإذا أردنا أن نذكر مثل هذه الصفات دون ذكرٍ للشواهد، إنما أردنا أن نقرر كلاماً مختصراً، قيل: هذه قلة أدب وتكلف، ولا أحد يلزمك أن تذكر ذلك بدون ذكر الآية، ومثل هذه الأسئلة لا يلزم أن تجيب عنها كما يريد السائل، بل يكون الجواب أنه يجب أن تلتزم السنة. فلما كانت الآية قد تشكل على بعض العامة كان الصواب والشرع أن تذكر ويذكر سياقها من كلام الرب سبحانه وتعالى؛ فإن هذا هو الأعدل. ويلاحظ أحياناً حتى على بعض طلبة العلم ولا سيما الشباب المبتدئين في تعلم العقيدة السلفية، أنهم أحياناً يتكلفون في تقرير بعض الصفات وفي أوجهها، ويوردون عليها كثيراً من الأسئلة ثم تجد أن هذه الأسئلة يكون فيها تسلسلٌ يطرد، وهذا ينافي الهدي الذي كان عليه السلف رحمهم الله، من حيث التعظيم لكلام الله سبحانه وتعالى حتى في غير هذا الباب، فكيف إذا كان هذا في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته الذي ينبغي أن يحفظ على قدر من التوقف؟! وإلا فما معنى قولنا: أن السلف يجعلون هذا الباب من الأبواب التوقيفية؟ فهو توقيف في أصله وتوقيف في التعبير عنه، وليس معنى ذلك أن لا يعبر بالمعاني المناسبة لتفسير الآيات! كلا. ولكن يجب أن يكون المعنى الذي تفسر به الآية موافقاً لسياقها، وألا يكون فيه خروج عن مادة السياق.

إثبات صفة العفو والمغفرة

إثبات صفة العفو والمغفرة قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]، وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]]. هذا إثبات لمغفرة الله سبحانه وعفوه.

إثبات صفة العزة

إثبات صفة العزة [وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] وقوله: عن إبليس، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]]. في هذه الآية أضاف الله سبحانه وتعالى العزة إلى نفسه، وأضافها إلى رسوله، وأضافها إلى المؤمنين، فالعزة المطلقة هي حق لله سبحانه وتعالى وحده، ولهذا ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال الله تعالى: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته). فالعزة المطلقة: هي لله سبحانه وتعالى، كما أن الحجة البالغة تكون لله سبحانه وتعالى، وإن كان العباد من المرسلين والأنبياء والعلماء لهم حجة، ولهم عزة؛ لكن العزة المطلقة تكون لله سبحانه وتعالى، وهي التي لا تغلب ولا تقهر وما إلى ذلك.

تنزيه الله عن السمي والكفء والند والولد والشريك

تنزيه الله عن السمي والكفء والند والولد والشريك قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]]. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي: لما كان سبحانه لا سمي له، دل على أنه هو وحده المستحق للعبادة، وهذا من إثبات توحيد العبادة، بذكر توحيد الربوبية. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]]. وهذا اسمه الذي وصفه الله بكونه تبارك، هو أسماؤه سبحانه وتعالى، فليس المراد اسم الرب فحسب، بل ذلك يتعلق بسائر أسمائه، فإن سائر أسمائه تلحقها هذه الصفة، وهذا التعظيم الذي ذكره الله في قوله: (تَبَارَكَ). قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]]. لِمَ ذكر المصنف هذه الآية (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ) مع أنه ليس فيها إثبات لصفة من صفات الله؟ الجواب: أن هذا من باب التنزيه، وفيها إثبات لاسم الله سبحانه وتعالى وما يقتضيه من المعنى، فذكرها المصنف من باب التنزيه، فإن الله منزهٌ عما لا يليق به سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته وفي أفعاله وفي عبوديته. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]]. من حكمته تعالى أنه لما ذكر الولد نفاه ولما ذكر الشريك نفاه، ولما ذكر الولي نفاه عن تقييد، قال: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)، فإن الولي ثابت في مثل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ومثل قول النبي عن ربه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ومثل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} [المائدة:55] فهذه الولاية لم تكن من الذل، والذي نفي هنا أن يكون له سبحانه وتعالى وليٌ من الذل. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]]. هذا مستفتح يكثر ذكره في القرآن، ولا سيما في مفصله، (يسبح) أو (سبح) يقول الله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وقد كثر كلام المفسرين حول هذا التسبيح ومعناه، فمنهم من قال: إنه سكونها، ومنهم من قال: أنها حصلت بأمره، وبقوله: كن، فكانت، ومنهم من قال: إن تسبيحها هو أنها جاءته طوعاً إلى غير ذلك من التفاسير. والحق أن ذلك لو رد إلى آية في كتاب الله لكان أجود، ولكان هو الأهدى، فإن من باب تفسير القرآن بعضه ببعض. والآية التي ينبغي أن ترد إليها هذه الآيات هي قوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]. ووجه الرد إليها أن فيها قوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، فدل على أن الآيات أريد بها الخبر المحض، والتصديق المحض، وأما المعنى الذي يراد به التسبيح، فإننا لا نعلمه، ولا يستلزم هذا أن ما ذكره بعض السلف في تسبيح هذه المخلوقات يكون غلطاً؛ فإن العلم بوجه من أوجه التسبيح لا يستلزم العلم بمطلقه، وعدم العلم بمفصله لا يستلزم عدم العلم بشيءٍ من مجمله. فلا شك أن ثمة أوجهاً من تسبيح هذه المخلوقات معلوم، وأما تفصيل ذلك، فلا أحد يعلمه، بل هو من علم الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وإذا كان الله تعالى يقول: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فلا يجوز لأحدٍ بعد ذلك أن يتكلف فقهاً يفسر به المراد بالتسبيح جميعه. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1 - 2] وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91 - 92]]. الآية الأولى فيها تنزيه لله سبحانه وتعالى وإثبات لكماله، وأنه نزل الفرقان: أي القرآن، وإنما سمي كذلك؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. (عَلَى عَبْدِهِ) على نبيه صلى الله عليه وسلم. (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ) المراد بهم هنا أهل التكليف من الإنس والجن. (نَذِيرًا) أي: منذراً لهم من شر كفرهم وضلالهم وبغيهم. وأما قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فهذه الآية عني أهل الكلام بذكرها، فإنهم لما ذكروا أصل المعرفة المتعلقة بوجود الله، بنوا ذلك على دليلٍ سموه في كتبهم دليل التمانع، وهذا معروف في علم الكلام، وزعموا أن دليل التمانع هذا هو المذكور في قول الله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ). وهذا الربط بين ما يسمى عند المتكلمين بدليل التمانع وبين هذه الآية لا شك أنه غلط. والمتقدمون من السلف ما عنوا بدليل التمانع؛ لم يقولوا به ولم يبطلوه، لأنهم لم يشتغلوا بالنظر في كلام مخالفيهم، وإنما عارضوا مخالفيهم بالنصوص فحسب، لكن من ذكره من أهل السنة فيما بعد وأرادوا الرد على أهله، انقسموا إلى قسمين: بعض أهل السنة المتأخرين قالوا: إن دليل التمانع دليل باطل، وإن الحق هو الدليل المذكور في القرآن، وفرقوا بين دليل التمانع وبين هذه الآية تفريقاً مطلقاً يستلزم إبطال دليل التمانع. طائفة من أهل السنة صححوا دليل التمانع، ولكنهم قالوا: إنه دليلٌ فيه إجمالٌ وقصور، وليس مناسباً لمفصل ما ذكر في القرآن. والصواب: أنه دليل قاصر؛ لما فيه من الإجمال، وإلا فإن أصله صحيح، ودليل التمانع تثبت به الجملة من الربوبية، ولكنه من الأدلة القاصرة المجملة، وليس هو من الأدلة الباطلة بطلاناً محضاً، ولا شك أنه ليس على معنى قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ). إذاً: ثمة ثلاثة مسالك: المسلك الأول: مسلك المتكلمين أهل هذا الدليل، فهؤلاء سووا بينه وبين قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) فهذه التسوية غلط. المسلك الثاني: مسلك طائفة من محققي أهل السنة الذين تكلموا فيه كـ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قالوا: إنه دليل قاصر مجمل، وليس هو معنى الآية، بل الآية أشرف من جهة الدلالة والاقتضاء، وهذا هو المنهج الصحيح. المسلك الثالث: من فرق بينه وبين الآية فقال: إنه دليل باطل لا يصح، وهذا فيه قدر من الزيادة.

اختصاص الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب

اختصاص الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92]. من خصائصه سبحانه تعالى: أنه عالم الغيب والشهادة، وأما غيره فإنه لا يعلم من الغيب إلا ما علَّمه الله سبحانه وتعالى إياه، ولهذا كان علم الغيب من خصائص الرب سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] وهذا العموم على إطلاقه، فلا أحد يعلم الغيب، لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فضلاً عمن يسمون بالأولياء والأئمة والأغواث والأبدال وغير ذلك من مصطلحات التصوف، فلا أحد في السماوات أو في الأرض يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن الملائكة والأنبياء علَّمهم الله طرفاً من غيبه، فهذا لا إشكال في إثباته، ولكن العلم بمفصل الغيب هو حق الله سبحانه وتعالى الذي لا يصح لأحد أن يؤتيه الله إياه. ولهذا من ادعى في مخلوقٍ سواء كان ملكاً أو رسولاً أو نبياً أو صالحاً أو ولياً أنه يعلم غيب السماوات والأرض، فهذه الدعوى من أكفر الكفر وأعظم الشرك بالله سبحانه وتعالى والإبطال لحقه ولعظمته ولربوبيته. وكذلك قوله: (وَالشَّهَادَةِ) فلا أحد في السماوات والأرض يعلم الشهادة على إطلاقها، وإن كان عامة بني آدم وعامة من خلق الله يعلمون أشياء من الشهادة، فكل إنسان يعلم جزءاً من عالم الشهادة .. يعلم جزءاً مما يتعلق بنفسه وجزءاً مما يدور حوله. أما الإحاطة بعالم الشهادة فهو محض حق الله سبحانه وتعالى، فلا الجن ولا السحرة ولا الكهان يعلمون سائر موارد الشهادة.

حرمة القول على الله بغير علم

حرمة القول على الله بغير علم قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]]. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) أي: أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا يقاس بخلقه، بل له المثل الأعلى، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]] في هذه الآية ذكر الله تعالى أصول المحرمات. وقوله تعالى: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) ليس من باب التقييد للشرك، كما قد يستشكل البعض، فإنه لا يمكن أن يكون على الشرك سلطانٌ أو برهان من الله، وإنما يذكر مثل هذا التقييد لكونه ملازماً لحاله، وهذا من باب الإبطال لطرق المشركين: أن سائر شركهم بغير حجة وسلطان.

شرح العقيدة الواسطية [11]

شرح العقيدة الواسطية [11] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته مستو على عرشه، بائن عن خلقه، وهو بكل شيء عليم، وهذا الاعتقاد هو خلاف العقائد الطارئة في هذا الأصل والتي يعبر عنها بتعبيرات باطلة كقول البعض: إن الله في كل مكان، وقول البعض: إن الله ليس له مكان، وقول البعض الآخر: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه.

صفة الاستواء

صفة الاستواء قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] في سبعة مواضع]. الاستواء على العرش هو من صفات الرب سبحانه وتعالى اللائقة به، ومن طرق أهل السنة والجماعة وأصولهم أن الله مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، ويقولون: استواؤه بمعنى علوه. (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، أي: علا على العرش. والعرش هو أعظم المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهو أعلاها، والله سبحانه وتعالى فوق سماواته، مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، ولهذا كانت عقيدة المسلمين أن الله في السماء؛ بدليل قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاوية بن الحكم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).

من عقيدة أهل السنة: أن الله سبحانه فوق عباده

من عقيدة أهل السنة: أن الله سبحانه فوق عباده من عقائدهم: أن الله سبحانه وتعالى فوق عباده، بدليل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وأنه سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، بدليل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]. فمن أصول الإيمان وأعظم أصول السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بائن -أي: منفك ومنفصل- عن خلقه، وهذه هي عقيدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام التي بعثوا بها.

بطلان القول بأن الله في كل مكان

بطلان القول بأن الله في كل مكان الأقوال التي توجد -مع الأسف- في كثير من أمصار المسلمين وبلدانهم، بل وفي بعض دور العلم عندهم، كقولهم: إن الله في كل مكان، وقولهم: إن الله ليس له مكان، وقولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، إلى غير ذلك، تعبيرات باطلة دخلت على المسلمين في آخر دولة بني أمية، وإنما دخلت من الفلسفة التي ترجمت عن فلسفة اليونان، الذين كانوا ملاحدة زنادقة، كـ أرسطو طاليس وأمثاله من الكفرة والزنادقة الذين لم يكونوا على دين من أديان السماء. وأرسطو طاليس هذا كان قبل المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام بأكثر من ثلاثمائة سنة. فدخلت معانيهم إلى المسلمين عن طريق الترجمة، والترجمة بدأت مبكرة، وذلك في آخر الدولة الأموية، وقوة الخلافة العباسية، ولا سيما في زمن الرشيد والمأمون، فترجمت هذه المعاني وانتشرت، ومن أمثالها: المعنى الذي يقول: إن الله في كل مكان، والمعنى الذي يقول: إن الله ليس له مكان، والمعنى الذي يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فهذه كلها عبارات باطلة أنكرها أئمة الإسلام، وممن أنكرها الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وأجمع علماء الإسلام على إنكارها، وتبديع أهلها وتضليلهم. وإذا قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره، فلن تجد أن الله ذكر هذا عن نفسه، ولا ذكره الرسول عنه، بل المذكور في القرآن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] والمذكور في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)، وقوله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: ومن أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها، فإنها مؤمنة). والقول بأن الله لا داخل العالم ولا في خارجه، أو أن الله في كل مكان؛ هو من الضلال، ومما ينزه سبحانه وتعالى عنه. والعرب في جاهليتهم مع شركهم كانت عندهم الفطرة السليمة في هذا المقام، حتى كان عنترة وهو من شعراء الجاهلية يقول: يا عبل أين من المنية مهربُ ... إن كان ربي في السماء قضاها فكانوا يثبتون أن الله سبحانه وتعالى في السماء؛ فإن هذا ما فطر الله الخلق عليه، وهو أنه سبحانه وتعالى فوق السماوات، وأنه بائن من الخلق.

معنى (أن الله في السماء)

معنى (أن الله في السماء) ليس معنى (أن الله في السماء) -كما قال أبو حنيفة وغيره- أنه في سماء مخلوقة، كالسماء السابعة، أو الخامسة أو الثالثة، فإن الله قال عن كرسيه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وإذا كان الكرسي وسع السماوات والأرض فكيف بعرشه؟! وبعد ذلك، يبقى رب العالمين لا يقدر أحد من العباد قدره. إذاً: لا يتبادر أن الله في السماء بمعنى قولنا: إن الملائكة في السماء، أي: أن السماء تحويهم، بخلاف أن الله في السماء، أي في العلو فوق السماوات، والعرش هو سقف السماوات السبع، وهو فوقها. ولهذا لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة قال: (وفيها جنة عدن، وفوقها عرش الرحمن). ولهذا قال أهل السنة: إن الله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وهو بكل شيء عليم.

شرح العقيدة الواسطية [12]

شرح العقيدة الواسطية [12] الأمة المحمدية هي الأمة الوسط بين الأمم، ومعلوم أن أحق طوائف المسلمين وأعدلهم بتحقيق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة والجماعة، إذ هم أوسط طوائف أهل القبلة، فهم عدول في أقوالهم وحكمهم وشهادتهم.

وسطية أهل السنة

وسطية أهل السنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم]. ومقصود المصنف بوسطية أهل السنة أنهم عدول خيار في أقوالهم، وفي حكمهم وشهادتهم. وأما أن هذه الأمة وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم وسط بين الأمم، فهو المذكور في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ثم قال سبحانه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فالوسطية التي وصفت بها هذه الأمة هي عدلها وعدل شريعتها، وعدل قيام أهلها بالشريعة، فلا توجد شريعة أعدل ولا أتم ولا أكمل من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد أصحاب وأتباع حققوا شريعة نبي كتحقيق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لشريعة نبيهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق). ولهذا فليس غريباً أن يقول المصنف: (بل هم الوسط في فرق هذه الأمة) لأن هذه الأمة وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت وسطاً بين الأمم، فإنما وسطيتها هو بعدلها، وإقامتها لشريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومعلوم أن أحق طوائف المسلمين وأعدلهم بتحقيق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة والجماعة، الذين مبتدؤهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التابعون لهم بإحسان إلى أن تقوم الساعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله) أو (حتى تقوم الساعة) على تعدد الرواية. وهي الطائفة الناجية المنصورة التي ابتدأ المصنف بذكرها في مقدم رسالته، بقوله: (أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة). ولما وصف الله هذه الأمة بأنها وسط، أمكن أن يقال: إن هذه الطائفة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة، فهم وسط بنص القرآن، ووجه النص من القرآن هو نفس قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] لأن المقصود بالأمة هنا أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحق الأمة في هذه الوسطية هم من اقتفى أثره عليه الصلاة والسلام، وهم أصحابه، ثم التابعون لهم، وإن كان هذا لا يمنع أن يدخل في الوسطية العامة التي وصفت بها هذه الأمة من عنده نقص في مقام التحقيق للسنة، فإن الوسطية العامة أخص من جهة أنها شهادة، بخلاف الوسطية الخاصة، التي وصفت بها الطائفة الناجية المنصورة، وهم أهل السنة والجماعة، فهي أعم من جهة متعلقاتها. من هذا الوجه يكون إجماع أهل السنة والجماعة واجباً على سائر المسلمين أن يتبعوه، ويعنى بذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الإجماع إجماع معروف ومنضبط.

حجية الإجماع والرد على من استشكل ذلك

حجية الإجماع والرد على من استشكل ذلك استشكل كثير من النظار مسألة الإجماع باعتبار ما كتبه الأصوليون في تصوير الإجماع، فإن حد الإجماع في كتب الأصوليين يعطيه نوعاً من الامتناع من حيث التطبيق؛ حيث يقولون: إنه اتفاق مجتهدي عصرٍ من العصور على مسألة شرعية، ثم يعلقون على مسألة الاتفاق: كيف يضبط اتفاقهم وقد اختلفت أمصارهم؟ ومن الذي ضبط ولعل البعض سكت؟ وربما يحتجون بكلمةٍ قالها بعض الأئمة كالإمام أحمد لما قال: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك؟! لعلهم اختلفوا! ولكن قل: لا أعلم فيه خلافاً. وهذه الكلمة ليست من أصول كلام الإمام أحمد (أي: من مقاصد كلامه) وإنما هي كلمة قالها لما رأى توسع الناس في بعض مسائل التشريع وبعض مسائل الخلاف الفقهي، وبدؤوا يكثرون من ذكر الإجماع فيها، فقال هذا القول من باب الورع، ولهذا تجد أن الموفق ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني تمثل كلمة الإمام أحمد كثيراً، وإذا قارنت بين كتاب المغني وبين كتاب المجموع في الفقه المقارن، وجدت أن النووي يغلب عليه أنه ينص على الإجماع، حتى في مسائل لم تنضبط أنها إجماع قطعي، أي: الإجماع الضروري المنضبط عند السلف، بخلاف الموفق؛ فإنه غلب على كلامه أنه يقول: لا أعلم فيه خلافاً، وهذا من باب التقيد بنوع من الهدي المأثور عن الأئمة. ولا شك أن الإمام أحمد لم يرد بهذه الكلمة أنه لا إجماع في مسائل أصول الدين، ولا إجماع في مسائل الدين عموماً، أو لا ينضبط الإجماع؛ فإن الإمام أحمد نفسه حكى الإجماع في مسائل ليست من مسائل الأصول، بل في مسائل قد يقبل فيها منازعة غيره له، فإن الإمام أحمد مثلاً قال في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] قال: أجمعوا على أنها نزلت في الصلاة، مع أن هذا الإجماع يمكن منازعته، فالإمام أحمد في الجملة حكى إجماعات يمكن منازعتها، فضلاً عن كونه صدق إجماعات السلف في مسائل القدر والصفات والشفاعة وغيرها. فالمقصود أن قوله: (من ادعى الإجماع فقد كذب) كلمة أراد بها وجهاً من أوجه اختلاف الناس الذي قد يحكى فيه إجماع. والمقصود أن ما يذكره كثير من الأصوليين في كتبهم في حد الإجماع، قد يجعله ممتنعاً. والمعتبر عند السلف في معنى الإجماع: أن ما كان من المعاني صريحاً في الكتاب والسنة من جهة تواتر معناه وصراحته من حيث المدلول (دلالة اللغة)، ثم استقر الأمر عليه: إما عملاً إن كانت المسألة عملية، وإما تصديقاً وإيماناً إن كانت المسألة تصديقية، فهو يعد من الإجماع القطعي، وإن لم ينقل بالأسانيد أن فلاناً وفلاناً من المجتهدين نصوا على هذا العمل، أو نصوا على هذه المسألة، فإنك لو اشترطت هذا التنادي أو التصريح؛ بمعنى أن عندك الأسانيد التي نصت على أنهم قالوا هذا القول، لما بقي في الدين مسألة واحدة فيها إجماع، حتى الصلوات خمس، فليس عندنا أسانيد متصلة عن كل واحد من الصحابة، أنه قال: إن الصلوات خمس، ولا توجد مسألة في الإسلام، عندنا فيها إسناد إلى كل صحابي. فهذا نوع من الافتراضات النظرية التي اعتبرها الأصوليين، ولا قيمة لها. إذاً: كل المعاني التي انضبطت من صريح الكتاب والسنة متواترةً في حروفها وصريحةً في دلالتها على وفق كلام العرب، ثم استقر عليها العمل أو العلم، فهي مسائل الإجماع. هذا هو الإجماع في مسائل السلف، وأما أن يفهم من الإجماع أنه تنادي أصحاب الاجتهاد بأسانيد تنضبط إليهم، وإذا انقطعت الأسانيد أو لم نجد الأسانيد شككنا في الإجماع، فهذا ليس بصحيح، هذه جهة. وقد يقول قائل: إن أكثر ما يقال أنه إجماع لم ينطق الصحابة بمسألته أصلاً، فإنه لو قيل: إن الصحابة أجمعوا أن الصلوات خمس، وأجمعوا على كذا وأجمعوا على كذا. لكان صحيحاً، لكن ما وجه أن يقال: إن الصحابة أجمعوا على أن القرآن ليس مخلوقاً، مع أن مسألة خلق القرآن حدثت بعد عصر الصحابة؟! هذا إشكال يورده كثيرون ممن يترددون في مسألة إجماع السلف أو إجماع الصحابة على ذلك. يرد البعض فيقول: إن الإجماع الذي نحكيه هنا هو إجماع السلف بعد الصحابة، أي: إجماع التابعين أو إجماع تابعي التابعين، وأن إجماع هؤلاء حجة؛ لأنه إجماع علماء الأمة المعتبرين في زمنهم. فيرد عليه إشكال وهو أن في ذلك القرن كان هناك من خالف ذلك من الفرق، ويجاب: أن مخالفة هؤلاء غير معتبرة. والمقصود: أن هذه الطريقة في تحصيل الإجماع طريقة ضعيفة. والصواب: أن القول بأن القرآن ليس مخلوقاً -مثلاً- هو من إجماعات الصحابة، ووجه كونه إجماعاً للصحابة أن الإجماع عند الصحابة رضي الله عنهم على إثبات الصفات بين، فإذا كان كذلك، فكل قول ناقض هذا المعنى البين أو نافاه، فإنه يكون معلوم البطلان بالضرورة. إذاً لو قلنا: إن ظاهر النصوص وصريحها إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وأن الله في السماء، وأن الصحابة درجوا على ذلك، وتلقوه عن القرآن وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صريح حديثه ومفصل حديثه، فجاء من جاء وقال: إن الله ليس له مكان، أو أن الله في كل مكان أو لا داخل العالم ولا خارجه أو ما إلى ذلك، لأمكن أن يقال: إن هذه الحروف من حيث هي حروف -بغض النظر عن معانيها- هي حروف مخالفة لإجماع الصحابة، لأن أصحابها لما نطقوا بها قصدوا ألا يقال: إن الله في السماء، ومنعوا المذهب الذي سمعوه عن الأئمة أن الله تعالى فوق سماواته، مستوٍ على عرشه. فلما كانت الجملة الأولى معلومة الانضباط بصريح النصوص، حيث ذكر الاستواء في سبع مواضع من القرآن وذكر علو الله في مواضع كثيرة من القرآن وفي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلما انضبط هذا المعنى وصح لنا بالعقل والإدراك، أن نقول: إنه إجماع للصحابة، عُلم أن كل معنىً جاء لينافيه: إنه خلاف الإجماع؛ لأن الجمع بين المتنافيين أو بين المتناقضين أو بين المتضادين لا يكون. نعم هذه الجملة ما نطق بها الصحابة، ولكن الصحابة اعتبروا ظاهر القرآن وصريحه: أن القرآن منزل وأنه كلام الله وأنه من علم الله، وهذا المعنى ينافي القول بخلقه، فعُلِم أن المنافي منفي بالإجماع. هذه هي طريقة تحصيل الإجماع في مسائل العقائد التي نازع فيها المبتدعة. وهو كذلك إجماع للأئمة، لكن لا نقول: إنه ليس إجماعاً للصحابة، لأننا إذا قلنا: إن هذه المسائل فيها إجماع للأئمة التابعين وتابعيهم، ولم نقل: إنها إجماع للصحابة؛ ورد هنا سؤال من العقل: لما لا نقول: إنها إجماع للصحابة؟ هل أجمع الصحابة على وفقها، أو على ضدها، أو سكتوا؟ إن كانوا أجمعوا على وفقها فلنقل: إنه إجماع للصحابة، وإن كانوا أجمعوا على ضدها، فهذا يلزم أن التابعين ناقضوا إجماع الصحابة، وإن كانوا سكتوا فما معنى السكوت؟ هل معناه أن الصحابة ليس لهم فيها قول؟ إذا لم يكن للصحابة فيها قول، علم أنها ليست من الدين. وهذا الطريق في التشكيك بالإجماع هو الذي استعمله ابن أبي دؤاد في مناظرة خلق القرآن؛ فقد قال للإمام أحمد: (القرآن ليس مخلوقاً) أهذا من الدين؟ فإذا قيل له: أجمع عليه أصحابنا وأئمتنا أعني: شيوخ الإمام أحمد أو طبقته، فسوف يعترض على ذلك، وهذا اعتراض صحيح، وحتى لو قلت: إنه إجماع لطبقة الإمام أحمد، لقيل: أين الصحابة عن هذا الإجماع؟ فسكوتهم إن لم يدل على النفي، فهو يدل على أنهم لا يعتبرون المسألة من الأصول. فـ ابن أبي دؤاد قال للإمام أحمد: (القرآن ليس مخلوقاً) أهو من الدين؟ قال: نعم، قال: عرفه النبي والخلفاء الأربعة، قال: نعم، قال: أين هو في كلامهم؟ قال الإمام أحمد: يسكتون فسكت؛ يعني أن الصحابة مجمعون على إثبات معنى، وهو أن القرآن كلام الله أنزله على عبده ورسوله. فالمعنى الذي ذكر هنا أنه ليس مخلوقاً هو نفي لطارئ، وقد علم الإجماع على نفي الطارئ، وامتنع الجمع بين الطارئ -وهو أن القرآن مخلوق- وبين المعنى الذي هو صريح النصوص. وعليه نقول: إن كل مسألة نطق بها السلف من بعد الصحابة -أعني طبقة التابعين وتابعيهم- فهو إجماع للصحابة رضي الله عنهم. وفي الغالب أن ما يذكره الأصوليون يريدون به الإجماع في مسائل التشريع، ولهذا يقولون: الإجماع هو اتفاق مجتهدي علماء الأمة، فهم يحصرونه بطبقة الاجتهاد.

وسطية أهل السنة في صفات الله

وسطية أهل السنة في صفات الله قال المصنف رحمه الله: [فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة]. ما من بدعة ظهرت في الإسلام، إلا وظهرت بدعة أخرى تناقضها، وهذا الأمر إذا تأمله العارف عرف أن الحق لا يُعرف بالمقابلة، وهذه مع الأسف طريقة استعملها كثيرون الآن، سواء في مسألة الدعوة أو الجهاد أو غيرها؛ فقد صار هناك نوع من التقابل، أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر: (ردة الفعل)، والحق لا يعرف بردود الأفعال، ولهذا نقول: ما من بدعة ظهرت في الإسلام، إلا وظهر ما يسمى بردة الفعل، وهي الطرف الآخر المناقض، ودائماً الحق لا يكون طرفاً مناقضاً من كل وجه في مثل هذه المسائل، بمعنى أنه إذا كان القول إفراطاً فإن الحق لا يمكن أن يكون تفريطاً، وإذا كان القول تفريطاً، فإن الحق لا يمكن أن يكون إفراطاً. إذ لا يجوز أن يكون تحقيق الحق في مسألة ما إنما كان بعد ظهور الباطل؛ لأن الحق سابق. ومن يبني أقواله على ظهور شيء من الباطل، فيكون تقريره لمسألة الحق متحصلاً من هذا الباطل الذي طرأ، لا يكون حكيماً. والسلف ما زادهم ظهور هذه البدع أي شيء في أقوالهم، هذه هي طريقة المتقدمين من السلف، لكن كثيراً من المتأخرين من أهل السنة والجماعة إذا اشتغل أحدهم بالرد على بدعة، زاد بسببها في قدر الحق الذي معه، فمن علم بذم علم الكلام وذم المتكلمين، لم يكن عنده سبيل إلى إغلاق هذا العلم إلا بتكفير أصحابه، فيعمد إلى تكفيرهم حتى يقطع مادة هذا العلم، لأنه يرى بعقله ونظره أن هؤلاء المتكلمين -مثلاً- أو المعتزلة، أيهما أحسم لمادتهم عن المسلمين: إذا قيل أنهم أهل بدعة أو إذا قيل أنهم كفار؟ مادة التكفير، فيعمد لا بسوء قصد وإنما بحسن قصد إلى تكفيرهم، خاصةً أن أقوالهم تستلزم الكفر تارة وتتضمن الكفر تارةً أخرى، فيعمد إلى تحقيق الأقوال على أصحابها، فإذا ما كفرهم، انحسمت مادتهم. وهذا من الطرق المستعملة عند من يقل عقله أو يقل علمه، وهي كثيرة اليوم في صفوف كثير من الشباب، حتى بعض طلاب العلم؛ فمن لم يتسع عقله، أو قل علمه وبصره بالشرع، فإنه يستعمل مثل هذه الطريقة. والحق أن الحق سابق للباطل في هذه المسائل، فإن مذهب السلف بجميع مسائله موجود زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وزمن أبي بكر قبل أن تحدث في الإسلام بدعة واحدة. إذاً لا يمكن أن تزيد هذه البدع في قدر الحق، وإنما قد تستعمل أوجه من الحق في دفع هذه البدع لم تستعمل في زمن أبي بكر؛ لأن البدعة لم تظهر. فهذه مسألة يجب على طالب العلم أن ينتبه لها؛ فردود الأفعال في تعريف الحق غلط، وإنما الحق يعتبر بقدره. فنقول: ما مِن بدعة حدثت إلا وحدث ما يناقضها أو ما يضادها، فلما حدثت بدعة نفاة الصفات في أوائل المائة الثانية وبعد عصر الصحابة رضي الله عنهم على يد جماعة من النظار من الموالي، كـ الجعد والجهم -وهم أول من أظهر هذه المقالة، وهي منقولة عن بعض مقالات اليونان وفلسفة اليونان، وغيرهم من الملاحدة والكفار الذي تُرجم قولهم إلى المسلمين- فأنكروا صفات الله سبحانه وتعالى، وتقلد هذا المذهب أصحاب الاعتزال الذين كانوا يتكلمون في مسائل القدر والشفاعة والكبائر، فظهرت مقالة نفي الصفات على يد الجهمية -نسبة للجهم بن صفوان وهو الذي أظهر وأشاع المقالة- وصار عند السلف كل من نفى الصفات أو ما هو منها، وصف بالتجهم، نسبةً لهذا الرجل، وليس بالضرورة أن من وصف بالتجهم أو سمي جهمياً أنه يصدق أقوال جهم بن صفوان في سائر مواردها، فإن من ناظر في فتنة خلق القرآن سماهم السلف جهمية، مع أن أساطينهم الذين باشروا المناظرة هم المعتزلة، ونحن نعلم أن المعتزلة تخالف الجهم بن صفوان في أكثر آرائه، فهي تخالفه في مسألة الإرجاء، حيث هو غالٍ في الإرجاء وهم على النقيض من ذلك، ويخالفونه في باب القدر هو جبري وهم قدرية. بل لا عجب أن في كتب المعتزلة تكفيراً للجهم بن صفوان، وهذا نطقت به بعض كتب المعتزلة، أن أئمتهم يذهبون إلى تكفيره لمسائل قالها في بعض أصول الدين. ومراد السلف بالتجهم هو نفي الصفات، وليس الشخص نفسه، وإذا ذكروا التجهم يقصدون به نفي الصفات، وليس التقلد المطلق لسائر ما نُقل عن جهم بن صفوان من الآراء أو المقالات والبدع. وقابلهم المشبهة، والتشبيه لم يقع له أثر في الأمة كما وقع لمذهب التعطيل، فإن التعطيل استعمل تحت جملة التأويل، ولهذا درج عند غلاة المعطلة كالجهمية وأئمة المعتزلة، ثم شاع لما جاءت مدارس متكلمة الصفاتية، وهي التي أشاعت مادة من التعطيل باسم التأويل، وهم أصحاب ابن كلاب والأشعري والماتريدي وأمثال هؤلاء. فتشبيه صفات الخالق سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين لم يقع له أثر كما وقع لمذهب التعطيل والتأويل، وذلك لأن ظهور بطلانه وتعذر استقامته من جهة التأويل بينة، ولهذا أصبح نفور عامة المسلمين عنه مشهوراً معروفاً، وإنما وجد في الأول عند بعض أئمة الشيعة الإمامية، كـ هشام بن الحكم وأمثاله، ثم عدلت عنه الشيعة الإمامية إلى طريقة المعتزلة، أو طريقة البغداديين من المعتزلة على وجه التحديد، ثم ظهر مذهب التشبيه على يد أحد المتأخرين المنتسبين للسنة من المتكلمين، وهو محمد بن كرام السجستاني، وهو من المرجئة الكرامية المنتسبين للسنة والجماعة كانتساب الأشعري، ولكنه استعمل مادة من التشبيه ليس كتشبيه الشيعة الأولى، وإنما وقع في مادة منه. فأهل السنة والجماعة وسط في صفات الله، يثبتون الصفات على ما يليق به سبحانه وتعالى، دون إفراط على طريقة المشبهة، ودون تفريط يستلزم التعطيل على طريقة المعطلة والمحرفة.

وسطية أهل السنة في أفعال العباد

وسطية أهل السنة في أفعال العباد قال المصنف رحمه الله: [وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم]. أفعال الله سبحانه وتعالى لم يقع بين المسلمين في الجملة خلاف في تقريرها، وإنما مسألة النزاع الكبرى في هذا الباب، هي ما يتعلق بأفعال العباد، فهل العباد مجبرون على أفعالهم، ولا إرادة لهم ولا مشيئة لهم، أم أن العباد مستقلون بإرادتهم ومشيئتهم وخلقهم لأفعالهم والله لم يخلق أفعالهم ولم يردها ولم يشأها؟ هذان المذهبان في مسألة الأفعال مذهبان متناقضان كما ترى، تقلد الأول الجبرية، نسبة للقول بالجبر، وهو أن العبد مجبور على فعله، ولا إرادة وله ولا مشيئة له على الحقيقة، وأن الله جبر العبد على الفعل. وأخص من تقلد الجبر الجهم بن صفوان، وكثيرون من الجبرية ولا سيما في الشام، وتقلد نفي القدر القدرية الذين قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يردها ولم يشأها، بل العبد مستقل بإرادته ومشيئته، وتقلد هذا المذهب المعتزلة وكثير غيرهم، وهم المسمون بالقدرية. وكان من القدرية طائفة من الغلاة أنكروا علم الرب بأفعال العباد إلا عند كونها، ولكن هؤلاء من الزنادقة الذين انقطع أثر مذهبهم، والذين انتشر مذهبهم وبقي هم القدرية الذين يؤمنون أن الله يعلم ما كان وما سيكون، وإنما يقولون: إنه لم يرد أفعال العباد ولم يخلقها، وهذا ما يسمى بمذهب القدرية، وهو شائع في المعتزلة والشيعة وطوائف أخرى. فأهل السنة والجماعة وسط في أفعال الله بين هؤلاء وهؤلاء، حيث يقولون: إن الله سبحانه وتعالى -كما وصف نفسه في كتابه- هو الفعال لما يريد، وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، وأنه لا يقع شيء في الكون من أفعال العباد وغيرها إلا بإرادته ومشيئته، وأنه الخالق لكل شيء، فقد دخل في عموم خلقه أفعال العباد وغير أفعال العباد؛ مع الإيمان بأن العباد لهم مشيئة وإرادة، وأنهم ليسوا مجبورين على أفعالهم. وسيأتي تفصيل هذا

قاعدة مهمة في الخلاف العقدي

قاعدة مهمة في الخلاف العقدي ما من باب حدث فيه نزاع بين أهل القبلة إلا ومنه ما هو محل اتفاق. فمن خرج عن موارد الاتفاق عند السلف، قيل: خرج من السنة إلى البدعة، وقد تكون هذه البدعة بدعة كفرية، لكن من خرج عن مورد اتفاق أهل القبلة، قيل: خرج من الإسلام إلى الكفر. هذه قاعدة لا بد أن يعرفها طالب العلم. قد يقول قائل: ما محل الاتفاق في الصفات؟ فأقول: من موارد اتفاقهم -أعني أهل القبلة: جميع المسلمين من أهل السنة وغير أهل السنة- في باب الصفات أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص. قد يقول قائل: كيف أجمعوا على ذلك مع أن المعتزلة تنفي الصفات، ونفي الصفات نقص؟! فأقول: إن أهل القبلة من المسلمين سنيهم وبدعيهم اتفقوا على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، وإنما اختلفوا في تحقيق المناط؛ أي: ما هو الكمال وما هو النقص، المعتزلة قالوا قولتهم، وهي في نظرهم كمال لا نقص، والأشاعرة يرون أن مذهبهم هو كمال الرب، والماتريدية يرون مذهبهم كذلك، والكرامية يرون مذهبهم كذلك، والشيعة يرون مذهبهم كذلك. وأيُّ طائفة تقول قولاً وهي تعلم أنه نقص فهي طائفة غير مسلمة، لأنها خرجت عن اتفاق أهل القبلة من أن الله مستحق للكمال، منزه عن النقص. إذاً: ما من أصل من أصول الدين إلا وفيه قدرٌ كلي مشترك بين سائر أهل القبلة، فمن خرج عن هذا الاتفاق فقد كفر، ثم يبقى فيه قدر من النزاع بين أهل السنة وغيرهم، فمن خرج عن اتفاق أهل القبلة خرج من الإسلام إلى الكفر، ومن خرج عن اتفاق أهل السنة خرج من السنة إلى البدعة. وحين نقول: خرج من السنة إلى البدعة لا يعني ذلك أن البدعة لا تكون بدعة كفرية؛ بل قد تكون بدعةً كفرية وقد تكون دون ذلك، وإذا كانت بدعة كفرية، فلا يلزم أن قائلها يكون كافراً، بل هذا معتبرٌ بشرطه وانتفاء مانعه.

وسطية أهل السنة في الوعد والوعيد

وسطية أهل السنة في الوعد والوعيد قال المصنف رحمه الله: [وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية من القدرية وغيرهم]. الطوائف في تسميتها أحياناً تنسب لشخص كالجهمية، فهي من حيث اللفظ نسبة إلى الجهم بن صفوان، ولكن مراد السلف المعنى، وهو نفي الصفات. والمرجئة ليست نسبة لشخص، وإنما هي نسبة لمعنى، وهذا المعنى مشترك، بمعنى أن الإرجاء ليس وجهاً واحداً، بل كما ذكر الأشعري في المقالات أن المرجئة ثنتا عشرة طائفة؛ فيهم الغلاة كـ جهم بن صفوان، وقد نطق جملة من أئمة السلف كـ أحمد ووكيع وابن مهدي أن قوله في الإرجاء كفر، وفي المرجئة قوم من الصالحين والعلماء المعروفين، وهم من يسمون بمرجئة الفقهاء كـ حماد وأبي حنيفة وأمثال هؤلاء. ولكن في باب الوعيد يغلب على المرجئة التفريط. أما الوعيدية من المعتزلة أو من القدرية -ويقصد بالقدرية هنا المعتزلة، إذ ليس كل قدري وعيدياً، فإنه زل في مسألة القدر أقوام ليسوا من أهل القول بالوعيد على طريقة المعتزلة والخوارج- فإنهم يرون أن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، وهذا مذهب المعتزلة والخوارج، كما هو معروف، وقلدهم طائفة من الشيعة. والمرجئة ليس لهم مذهب منضبط في هذا، وإنما يقال: إنهم في الجملة عندهم تفريط في باب الوعيد، فليس ثمة تقابل بين البدعتين من كل وجه، بمعنى أنه لما قالت الوعيدية من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة مخلد في النار، فلا يفهم من هذا أن المرجئة تقول أنه لا يعذب في النار أبداً، بل هذا المذهب لم يصح عن أحد من المرجئة بعينه من الأكابر المعروفين، وهي جملة: (لا يضر مع الإيمان ذنب). فهذه الجملة -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- لم تنضبط عن قائل بعينه من المعروفين بالعلم والمقالات، ونسبها الأشعري في مقالاته وابن حزم في الفصل إلى مقاتل بن سليمان، ونص ابن تيمية في منهاج السنة أنها لا تصح عنه، وهي قد تكون جملة لغلاة من القدرية كانوا يذهبون إلى هذا المذهب، فليس هناك مانع أن ثمة طائفة تذهب إلى أنه لا أحد يعذب من أهل الكبائر. والمقصود: أن هذا القول ليس مذهباً متحققاً من حيث النقل التاريخي، لكن لا يمتنع أن يقول به قائل من غلاة المرجئة.

وسطية أهل السنة في باب أسماء الإيمان

وسطية أهل السنة في باب أسماء الإيمان قال المصنف رحمه الله: [وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية]. أسماء الإيمان والدين يقصد بها تسمية العبد بالإيمان أو الإسلام أو الكفر أو الفسق، أو ما إلى ذلك. ويقصد بالحرورية الخوارج، وهي نسبة إلى مكان اجتمعت فيه الخوارج، عند نقضهم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكر المصنف المعتزلة لأنهم أيضاً غلاة في هذا الباب؛ فالخوارج تسمي مرتكب الكبيرة: كافراً، وجمهورهم يقولون: إنه كافر كفر ملة، وعبد الله بن إباض يقول: إنه كافر كفر نعمة. والمعتزلة تقول: إنه فاسق، لكنه فسق مطلق لا يجتمع معه شيء من الإيمان، بخلاف الفسق الذي يعتبره أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فهو فسق يجامع أصل الإيمان، هذا هو الفرق بين تسمية أهل السنة لمرتكب الكبيرة بأنه فاسق، وتسمية المعتزلة صاحب الكبيرة بأنه فاسق. إذاً: ليس عند المعتزلة إلا اسم واحد في الخارج، إما المؤمن وإما الكافر وإما الفاسق. فالكافر عندهم: من كفر بأصل الدين، كاليهود. والفاسق عندهم: من ارتكب الكبائر. والمؤمن عندهم: من سلم من الكبائر، ولا يجتمع اسمان لمسمى واحد. ولا شك أن هذا مخالف لصريح النصوص، فإن الإيمان شعب، والفسق شعب، والكفر شعب، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)، وكما في حديث أبي ذر في الصحيح: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، فإذا قال شخص لشخص: (يا كافر) وهو يعرف أنه مسلم، لكن سبه بقوله: (يا كافر) لأنه فعل فعلاً مشيناً أو فعل فعلاً من أفعال الكفار، أو ترك أخلاق المسلمين إلى أخلاق الكفار، لا يكون أحدهما كافراً وخارجاً من الملة، ولا يخرج القائل من الملة، إلا إذا سماه كافراً بما هو من الإسلام، لأنه كفر بالإسلام، وأما إذا قال شخص لشخص يا كافر، لأنه اشتبه عليه أنه كافر، فهذا تأويل. وكذلك إذا قالها من باب السب لكون هذا الفاعل فعل ما هو من أفعال الكفار وأخلاقهم، كما كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول أحياناً: دعني أضرب عنق هذا المنافق، مع أنه يعرف أنه من الصحابة، لكنه فعل فعلاً ليس من أفعال المؤمنين، والأشبه أنه من أفعال المنافقين فيسميه به في حاله، فهذا ليس هو المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يفهم من هذا: التسويغُ للسب بالكفر أو النفاق، فإن هذا لا يجوز، حتى لو فعل الفاعل خلقاً من أخلاق الكفار، كالغدر والسرقة والكذب وهي من أفعال المنافقين، أو الطعن في النسب، وهذه من خصال الكفر، فلا يجوز أن يُسب بالكفر. هذه الطريقة ليست هي الطريقة العلمية الراجحة، ولهذا لم يستعملها أبو بكر في حياته مرةً واحدة، وهي قول: (نافق فلان، أو دعني أضرب عنق هذا المنافق، أو إنك منافق تجادل عن المنافقين)، صحيح أنها وقعت لبعض الصحابة في حالٍ معينة، حميةً لله ورسوله، ولكنها ليست من الطرق الراجحة في العلم، ولهذا ما استعملها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر رضي الله عنه. لو كان هذا مما يسمى به لسمى به، كما قال لـ أبي ذر: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) فالصحابة يجب أن يُقتدى بهم فيما هو من سننهم البينة، لا في بعض الاجتهادات التي قد تكون مرجوحة، ولا يظن أحد: أن الرسول أقرها، لأن الإنكار للشيء لا يلزم ومنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بصريح الكلام ويقول: أخطأت وكذبت، فأحياناً من أحيانه صلى الله عليه وسلم يُعْرَف أنه لا يريد هذا التعبير من انصرافه عن تصديقه، والرسول عليه الصلاة والسلام، في غالب الأحوال ينصرف عن تصديق هذا الكلام، أي: لا يؤيد أن هذا الرجل منافق، لكن لما قيل له: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، في قصة عبد الله بن أبي، صدق الكلام، لكنه اعتذر، وهذا من حكمته عليه الصلاة والسلام، ففي قصة ابن أبي صدق أن الرجل منافق، ولكنه اعتذر بقوله: (لا يتحدث الناس، أن محمداً يقتل أصحابه)، ولما قيلت هذه الكلمة لرجل من السابقين ومن أهل بدر؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، في قصة حاطب في الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (إنه شهد بدراً) فهذا اعتذار عن تصديق الكلمة، (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذا الحديث منه هو نفي لكلمة عمر، وأن أهل بدر لا منافق فيهم. وأحياناً يقع منه صلى الله عليه وسلم أنه لا ينصرف إلى تصديقها، ولا ينصرف إلى ردها، وإنما يعرض عنها، كأنه لم يسمعها، فهذا أيضاً فيه جمع بين المصلحتين: بين مصلحة حمد هذا المتكلم لغضبه وحميته لله ورسوله، حتى لا يقال: إنه أسقط غضبه أو رد فضله وديانته وحميته إلى غير ذلك، وفيه ترك للكلمة من حيث هي كلمة. إذاً هذه الطريقة ليست طريقة يسلكها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر ولا عمر، حتى عمر قالها في مواضع فقط، ولم يقلها في كل موضع، وقالها رضي الله عنه في مواضع اجتهاداً، بعضها كان في محله كقوله عن عبد الله بن أبي، وكقوله عن ذي الخويصرة التميمي الذي قال: (إنك لم تعدل يا محمد) وأحياناً يجتهد عمر في مقام، فيعذره النبي صلى الله عليه وسلم من وجه، ويبين له المراد في الوجه الآخر. قال المصنف رحمه الله: [وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية]. المرجئة فرطوا في هذا الباب، وسموا أصحاب الكبائر بالمؤمنين، وهذا مما استقر عليه كلام المرجئة، أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يسمون مؤمنين بالإطلاق، والجهمية هم وجه من أوجه المرجئة ولكنهم غلاة المرجئة.

وسطية أهل السنة في الصحابة

وسطية أهل السنة في الصحابة قال المصنف رحمه الله: [وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة وبين الخوارج]. قوله: (وفي أصحاب رسول الله) أي: في حق الصحابة وعدالتهم وديانتهم. (بين الرافضة) وهم الذين سبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتولوا علي بن أبي طالب ومن معه من آل البيت، ولهم مذاهب شتى في هذا الباب، ولعل المصنف لو قال: (الشيعة) لكان أظهر من جهة السعة، فإن عامة طوائف الشيعة تقع في الصحابة وإن كانوا على درجات في هذا الباب. (وبين الخوارج) وهم من قابل الشيعة في هذا الباب، حيث كفروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وليس هناك مذهب متقابل على الإطلاق، فلا يفهم أن ثمة مكفراً للصحابة وغالياً في الصحابة، إنما يوجد وجه من الغلو في قوم وتكفير كما عند الشيعة، فهم يغلون في علي ويسبون آخرين، والخوارج تكفر علياً وربما تحمد آخرين وهلم جراً.

شرح العقيدة الواسطية [13]

شرح العقيدة الواسطية [13] مسألة علو الله تعالى على خلقه من المسائل الأصول في باب الأسماء والصفات؛ لأن إثباتها يستلزم إثبات جملة من الصفات، وقد أثبت أهل السنة والجماعة هذه الصفة بدليل العقل والفطرة فضلاً عن الأدلة الشرعية.

علو الله على خلقه ومعيته لهم بعلمه والأدلة على ذلك

علو الله على خلقه ومعيته لهم بعلمه والأدلة على ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].]. بعد أن أجمل المصنف رحمه الله أصول السلف أهل السنة والجماعة دخل بعد ذلك في ذكر مفصل جملة من مسائلها، فقال: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم). قوله: (قد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) هذا عود على مقدمة المصنف في أول رسالته، فحين قال: (أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية الطائفة المنصور إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة)، قال: (وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، فجعل المسائل التي عرض لتفصيلها بعد ذلك متضمنة في الأصول الأولى التي أجملها، وهي الأصول التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وفي الجملة: أن عامة المسائل التي يفصلها المصنف من هذه الجملة إلى آخر الرسالة، لك أن تقول أنها داخل في الإيمان بالله، ولك أن تقول: إنها داخلة في الإيمان بالرسل، ولك تقول: إنها داخلة في الإيمان بالكتب إلى غير ذلك، وهذا باعتبار الدلالات المعروفة في الكلام، وهي ثلاث: (دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن، أو دلالة التلازم). فالإيمان بالعلو يُقال: (دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) لأنه صفة من صفاته، وهو كذلك إيمان بالكتب، لأنه مذكور في الكتب السماوية، وهو كذلك إيمان بالرسل، لأن الرسل حدثوا قومهم بأن الله في السماء. ولك أن تقول: وهو إيمان بالملائكة من جهة اللزوم، من جهة أن الوحي إنما جاء به ملك، فمن لزوم الإيمان بالملك الإيمان بتصديقه، وأن من تصديقه الإيمان بصدق ما أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا باب واسع. ولهذا لا عجب أن المصنف في مسألة يقول: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) وفي مسألة بعدها يقول: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله وملائكته ورسله)، فهذا كله مبني على مسألة الدلالات، وفيها سعة عند اعتبارها، ولا سيما إذا اعتبرت دلالة التناسب. وأول مسألة ذكرها المصنف هنا هي مسألة العلو، وهذا باعتبار أن هذا الأصل -وهو صفات الله سبحانه وتعالى- هو أشرف الأصول التي ذكرها في رسالته، فإنه ذكر في رسالته جملة من الأصول، كأنه أجملها في قوله: (وهم وسط في باب صفات الله ...)، (وهم وسط في باب أفعال الله ...) فأشرف الأصول التي ذكرها ما يتعلق بالصفات، وقد درج كثير من السلف -بل وكثير من متكلمة أهل الإثبات- على العناية بتقرير مسألة العلو، وأعني بمتكلمة أهل الإثبات من يثبت العلو من متكلمة الصفاتية، كـ عبد الله ابن كلاب والأشعري وأمثالهم. وإنما درجوا على ذلك، لأن هذه المسألة -أعني مسألة علو الله سبحانه وتعالى- تعد أصلاً في هذا الباب عند سائر الطوائف، فبثبوتها يلزم ثبوت جملة من الصفات، عند أهل الإثبات من السلف، وفضلاء متكلمة الصفاتية، كـ ابن كلاب والأشعري، وبنفيها عند النفاة كالجهمية والمعتزلة ومتأخري الأشاعرة، نفوا جملاً كثيرة من الصفات. ولهذا تعد مسألة العلو أصلاً، باعتبار أن إثباتها يستلزم إثبات جملة من الصفات، وأن نفيها عند من نفاها يستلزم نفي جملة من الصفات، ولهذا هي موجبة طرداً وعكساً، حسب المذاهب التي ظهرت عند طوائف من أهل القبلة في هذا الباب، ولهذا عُني السلف بها من هذا الوجه. ومن جهة أخرى: قدم المصنف هذه المسألة لما لها من الشرف في كتاب الله سبحانه وتعالى من جهة تفصيلها، فإن علو الله فصل في القرآن تارةً بأنه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وتارةً بذكر فوقيته تعالى كقوله سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وتارةً بذكر علوه كقوله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وتارةً بصعود الأشياء إليه أو بعروجها إليه أو بالنزول منه إلى غير ذلك. وهذا المذهب هو الذي تقتضيه الفطرة والعقل والشرع، فنقول: إن مسألة العلو -ومحصلها أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه- دليلها وشاهدها الفطرة والعقل والشرع، واعتبار الدلالات العلمية، وهي من أهم المسائل التي حصل فيها غلط. ولك أن تقول: إن أكثر غلط المتكلمين في مسائل الإلهيات والمعرفة عموماً هو فرع أو لازمٌ عن غلطهم في فقه الدلالات، ولهذا يجب التنبيه على هذا النوع من الدلالات، خاصة أن الغلط فيها لم يقتصر على المتكلمين أو قدماء المتكلمين، بل دخل على متكلمة أهل الإثبات، وبعض المتأخرين من أصحاب السنة.

أدلة علو الله على خلقه

أدلة علو الله على خلقه الأدلة التي تشهد لمسألة العلو: الفطرة والعقل والشرع.

دليل العقل

دليل العقل العقل: دلالة العقل: إما من حيث الضرورة أو المقتضى العقلي، وهو تقسيم معروف عند النظار من أهل المنطق، وإن كان فيه قدر من النزاع، لكنه هو المحصل من جهة الصواب، فثمة دلالة العقل الضروري ودلالة العقل النظري. وعليه يمكن أن تقول: إن الأدلة باعتبار الإضافة تكون أربعة: إما أن يكون الدليل فطرياً، وإما أن يكون الدليل على مسألة ما عقلاً ضرورياً، وإما أن يكون الدليل عقلاً نظرياً، وإما أن يكون الدليل نقلياً أي شرعياً. والأفضل أن لا يُقال شرعي، إنما يقال نقلي؛ لأن العقل متضمن في الشرع، ولكن العقل ليس نقلاً، إنما هو اقتضاء إدراكي، قد يكون هذا الإدراك ضرورياً، وقد يكون هذا الإدراك نظرياً. ولا يسمى العقل في الحالين نقلاً، وإذا وردت بعض صور العقل في خطاب الشارع سمي خطاباً عقلياً باعتبار، وسمي خطاباً شرعيا باعتبار كونه آيةً أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

دليل الفطرة

دليل الفطرة الفطرة: دلالة الفطرة هي معنىً من القوة يكون مع الإنسان عند وجوده، ولهذا دلالة الفطرة سابقة لدلالة العقل، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، يولد على الفطرة: أي على الإقرار بالتوحيد، وهنا يقول أهل العلم: إن توحيد الربوبية -مثلاً- فطري، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة ..) مع أن المولود عند ولادته لا يتمتع لا بالعقل الضروري ولا بالعقل النظري، لأن قوة العقل لم تتكون عنده، فدل الحديث على أن الفطرة قوة من المعنى الوجودي ثابت في النفس عند الخلق، فكما أن الإنسان يولد وله يد، فهو يولد وفيه فطرة. قد لا يستطيع العقل أن يفقه عن مدرك الفطرة أكثر من هذا، لكنها شيء قائم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) مع أنه عند تهوده وتنصره أو تمجسه، يكون قد شهد مدرك العقل، ولهذا لا يمكن أن الأبوين يهودان الصبي إلا عندما يكون عنده التمييز العقلي، حتى يفقه أن هذا مسلم وأن هذا يهودي .. إلخ.

الفطرة تدل على عامة الأصول الشرعية أو تقتضيها

الفطرة تدل على عامة الأصول الشرعية أو تقتضيها عامة الأصول الشرعية: إما أن تدل عليها الفطرة أو تقتضيها، وفرق بين الجهتين: الجهة الأولى: أن تكون الفطرة دلت على طلب هذا الأصل. الجهة الثانية: أن تكون الفطرة دلت على قبوله عند طلب الشارع له؛ بمعنى أن الفطرة تقتضيه. ولهذا عامة التشريع تقتضي الفطرة طلبه ابتداءً أو تقتضي قبوله عند طلبه، ولا تنافيه، لكن الفطرة ابتداء لا تعين تفصيل مسائل الشريعة، فالفطرة لا يمكن أن تعين أن الصلوات خمس، وأن صلاة الضحى ركعتان إلى ثمان، وأن الظهر أربع .. إلخ. الفطرة تقتضي وتطلب التعبد لله كجملة، الخضوع لله كجملة، العدل كجملة، لكن تفاصيل مسائل العدل المالية لا تتوصل إليها الفطرة قبل ورود الشرع. إذاً الفطرة هي معاني كلية من هذا الوجه، إما أنها تقتضي الطلب، كاقتضاء الفطرة للتوحيد، وكل الأصول الكلية من الدين كالتوحيد تدل عليها الفطرة طلباً، أي أن الفطرة ترغب في تحصيلها، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]، وقد تكون الفطرة دون درجة الطلب، ولكنها تقتضي الموافقة عند وجود الشيء تشريعاً أو خبراً. هذا ما يتعلق بذات الفطرة، وعليه ندرك أن التوحيد -توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات- تدل عليه الفطرة، ولا يصح أن يقال: إن الفطرة لا تدل إلا على توحيد الربوبية، فهذا الكلام غلط شديد، بل الفطرة تدل على توحيد الله، وتوحيد الله سبحانه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- معرفته وعبادته، فإن قيل: التوحيد هو العبادة، قيل: هذا ممتنع؛ لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة، ولا يمكن أن يعبد شخص ما لا يعرفه، حتى الذين يعبدون الأصنام يعرفونها كأصنام، ومن يعبد رجلاً صالحاً عنده عنه معرفة، وقد تكون هذه المعرفة فيها غلط، لكن عنده معرفة معينة، عنده إدراك معين، حتى من يعبد عيسى عليه الصلاة والسلام عنده معرفة معينة، قد تكون هذه المعرفة فيها ضلال، ادعى أن فيه ألوهية أو ما إلى ذلك، لكن لديه مدركاً عن معبوده؛ بمعنى أن عبادة غير المدرك ممتنعة عقلاً، لا يمكن أن يعبد أحد من لا يعرف، لكن إما أن تكون المعرفة صحيحة أو غير صحيحة، ناقصة أو غير ناقصة، فهذه مسألة أخرى. فتوحيد الله هو معنىً كلي واحد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (توحيد الله معرفته وعبادته)، وإنما قسم أهل العلم رحمهم الله التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة، أو إلى توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الإرادة والقصد من باب التراتيب العلمية. ولهذا يقال: إن توحيد الله سبحانه وتعالى -سواء كان جهة ربوبيته أو جهة ألوهيته أو جهة أسمائه وصفاته- هو من حيث أصله الكلي ثابت بالفطرة. ولا يجوز أن يقال: إن توحيد الربوبية وحده فطري، وتوحيد الألوهية والعبادة تشريعي. وأحياناً يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الرسل بعثوا بتوحيد الألوهية. فأقول: نعم، حتى لو بعثوا بتوحيد الألوهية، لا يمنع ذلك أن أصله فطري؛ فإن الرسل بعثوا مع كون أصل الألوهية فطرياً من أجل أمرين: الأمر الأول: درء الشرك الذي طرأ على التوحيد، أي: إبعاد الناس عن عبادة غير الله، ولهذا أول الرسل إلى الأرض نوح عليه الصلاة والسلام، ولم يحتج الناس قبل نوح إلى رسول، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد) لأن ثمة إقراراً وإفراداً لله بالعبادة. الأمر الثاني: من أجل تفصيل التوحيد؛ لأنا لا نقول: إن توحيد الألوهية بمفصله فطري، فقد تقدم أن الفطرة لا تدرك المفصلات، وإنما المفصل يدرك من الوحي، قال الله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] الصلوات الخمس من توحيد الألوهية، لأنها قيام لله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ولأنها سجود لله، ولأنها ركوع لله، ولأنها دعاء لله .. إلخ. والرسول عليه الصلاة والسلام أو غيره لا يمكن بفطرته أن يدرك الصلوات الخمس: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى:13]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى:21] من ادعى تشريعاً قبل الوحي فهو مدعٍ على الله سبحانه وتعالى. إذاً تفصيل الألوهية شرعي، بخلاف أصلها الكلي فهو فطري، هذا هو الحق، كذلك الربوبية، وإن كان الإدراك الفطري في مقاماتها أكثر من الألوهية، إلا أن بعض مقامات الربوبية شرعي، فعندنا من ربوبية الله أنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وفي هذا معنى من ربوبيته. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله يقولون: توحيد المعرفة، وتوحيد الطلب، فيجعلون الربوبية والأسماء والصفات جهة واحدة، وجاء من بعدهم أو من قبلهم فقسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام، لأن الجهة التي حصل فيها شقاق من بعض أهل البدع -وهي من ربوبية الله- هي مسألة الأسماء والصفات، وخصوها لاختصاصها عند السلف، وهذا كله ترتيب علمي لا بأس به، لكن لا ينبغي أن يعطى أكثر من حقه. إذاً: نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا الذي حدث به الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في المتفق عليه عن أبي هريرة - هو من معاني ربوبية الله، وهو أمر لم ندركه بالفطرة، بل أخبر به الرسول، ولما أخبر به قبلته الفطرة؛ لأنه كمال من كمال الله، والفطرة أصلها مبني على الإقرار بكمال الله كأصل كلي. وحتى لو رجعنا إلى التقسيم الثلاثي، وأخذنا موضوع الربوبية على معناه الخاص، فهناك مسائل هي داخلة في الربوبية، كتفاصيل أفعال الله وقضاء الله وقدر الله، ومع ذلك لا تعرف إلا بإخبار الرسل، ولا يستطيع أحد أن يعرف قبل إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، فهذا مما لا تعلمه الفطرة، بل الكتابة ليست أصلاً ضرورياً لكمال الله سبحانه وتعالى لولا أن الرسل حدثت بها، بخلاف علمه سبحانه وتعالى؛ فإن معرفة أن الله سبحانه بكل شيء عليم تدركه الفطرة، لكنها لا تدرك تفاصيل الكتابة أن الله كتب وأنه يرسل الملك، الفطرة تقبلها نعم، ولا تعارض شيئاً مما جاءت به الشرائع، لا خبراً ولا تشريعاً. والمقصود أن التوحيد -سواء كان جهة الربوبية أو الأسماء والصفات أو الألوهية- كله فطري من حيث أصوله، وإن كان مقام الربوبية أظهر في تفصيل الفطرة من مقام الألوهية عند عامة الخلق، ليس في نفسه، وإنما عند عامة الخلق، لأن ضلال الناس في باب الألوهية أكثر من ضلالهم في باب الربوبية، وهذا أمر لا جدل حوله، فمشركو العرب جهة ضلالهم أكثر في الألوهية، ولهذا بعث الله الرسل يدعون إلى توحيده أي إفراده بالعبادة، لأن أصل الربوبية مُسلّم عند عامة الناس، لكن لا يفهم من هذا أن مشركي العرب أو غيرهم كانوا محققين للربوبية. ليس هناك أمة مشركة تحقق ربوبية الله أبداً، هذا ممتنع عقلاً وشرعاً؛ لأن كل من يعبد الأصنام، كمشركي العرب أو قوم هود أو قوم صالح، وكل من يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، كل هؤلاء يعتقدون في معبوداتهم أنها تجلب كشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنها تنفع وأنها تضر، وهم يستسقون بها، ويستشفون بها، ويسألونها رد الغائب وشفاء المريض، مع أن مسألة رد الغائب، وشفاء المريض وكشف الكربة وقضاء الحاجة. واعتقاد النفع والضر هي من معاني ربوبية الله عز وجل. إذاً هم صرفوا قدراً من ربوبية الله لغيره، لكن في باب آخر، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] لا شك أنهم في هذا الأصل يقرون، أن الله هو الخالق وأنه الرازق. إذا قال قائل: إنهم لا يعتقدون في معبوداتهم أنها تنفع وتضر بذاتها، وإنما هي وسيلة، قيل: وحتى في عبادتها، فإنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فحتى في باب الألوهية، يشركونها مع الله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ولهذا كان المشركون في طوافهم يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أن مسألة الربوبية عامة بني آدم يقرون بها، لظهورها من جهة الفطرة عند المسلمين وغير المسلمين، لكن الإقرار ليس هو التحقيق، بل التحقيق: أن من حقق الربوبية أقر بالألوهية، وهذه هي طريقة القرآن، والله ما أخبر عن المشركين، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) من باب امتداحهم، إنما من باب إلزامهم، أن هذا الحق المجمل الذي عندكم -وهو الإيمان بأن الله هو الخالق- يستلزم التحقيق. وتحقيق هذا الإيمان المجمل في الربوبية يكون بتقرير الألوهية، ولهذا لا ترى أحداً حقق ربوبية الله سبحانه وتعالى تحقيقاً تاماً إلا ولزمه أن يؤمن بألوهيته سبحانه وتعالى. وأحياناً يخطئ بعض طلبة العلم فيقول: إن توحيد الربوبية وحده هو الفطري، بخلاف توحيد الألوهية، ولذلك بعثت له الرسل. نعم بعثت الرسل لتوحيد الألوهية، لكن لا يعني هذا أن أصله ليس فطرياً، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة). ألسنا نقول الآن: إن عامة الأمم تقر بالربوبية، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه)، إذا نقلاه عن الفطرة باليهوديه، مع أن اليهودي يقرون بالربوبية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، وفي لفظ: (أو يشركانه) أي: يقودانه إلى الشرك، وهو كذلك، حتى

الجمع بين مقامي العلو والمعية

الجمع بين مقامي العلو والمعية قال المصنف رحمه الله: [وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق]. نهى السلف عن التأويل الذي استعمله أهل البدع، وقد استشكل بعض المتكلمين المتأخرين ذلك وقالوا: إن السلف وقع في كلامهم مادة من التأويل، وذلك في مسألة المعية، حيث قالوا في آيات المعية العامة: إن الله مع الخلق بعلمه، وفي مثل قوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أن هذا من باب المعية الخاصة، ومقتضاها النصر والتأييد، فقالوا: إن الأولى معناها العلم والإحاطة، والثانية معناها النصر. فظن المتكلمون أن هذا من باب التأويل، والأمر ليس كذلك؛ لأن التأويل باصطلاح أصحابه خروج عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي لقرينة، أو خروج من حقيقة الكلام إلى مجازه، وآيات المعية ليس فيها خروج عن الحقيقة إلى المجاز ولا عن الظاهر إلى الخفي. ولهذا من قال: إن قول السلف في معية الله العامة، أن الله معنا بعلمه، من قال: إن هذا تأويل، يرد عليه بعدة ردود. ومن أخص الردود البينة القوية أن يقال: إذا كان هذا هو التأويل، فما هو الأصل؟ لأن المعتزلة حين قالوا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استولى، قلنا: هذا تأويل، سيقول لك قائل: إذا سميت الاستيلاء تأويلاً، فما هو الحقيقة والأصل؟ تقول له: الحقيقة والأصل: العلو، فمعنى (استوى): علا على العرش. إذاً: إذا قال أهل البدع: إن السلف أولوا المعية، فقالوا: إن الله معنا بعلمه، قلنا لهم: إذا سميتم هذا تأويلاً كان ذلك التأويل هو المعنى المجازي للسياق، باصطلاح أهل التأويل، فما هو المعنى الحقيقي للسياق الذي خرجنا عنه؟ فباتفاق الناس من أهل التأويل وأهل البدع أو من أهل السنة أن التأويل يستلزم أو يقتضي ثبوت أحد معنيين أحدهما الحقيقة أو الأصل أو الظاهر، وهو المتبادر، والثاني: إما أن يسمى مجازاً أو خفياً أو خارجاً عن الأصل، لقرينة. إذا قال المعترض: إن قول السلف في المعية: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أنها معية بنصره، هو من التأويل، قيل له: إذا سميته تأويلاً فمعناه أنه معنىً مجازي، فأين حقيقة السياق؟ وأين ظاهر السياق؟ وأين أصل السياق من جهة المعنى؟ هنا لا مكان عنده إلا أن يقول: إن ظاهر السياق أن الله مع أبي بكر ورسوله بذاته، قلنا: هذا لا يمكن أن يكون ظاهر السياق، لأن ظاهر السياق هو المعنى المتبادر ابتداء من جهة اللغة. ومن جهة العقل، ولا يتبادر لغة ولا عقلاً، أن الله بذاته مع الرسول وصاحبه، بل هذا ممتنع عقلاً، فلما كان ممتنعاً عقلاً، امتنع أن يسمى حقيقةً، بل المتبادر عقلاً والممكن عقلاً -وهو الواجب عقلاً- أن الله سبحانه وتعالى مطلع وحافظ وناصر لنبيه، ولهذا كل معية خاصة فهي تتضمن معنى المعية العامة ولا عكس، فقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] معية خاصة، تتضمن الحفظ والنصر وتتضمن أيضاً العلم والإدراك والإحاطة، فليس هذا من باب التأويل، هذه جهة. الجهة الثانية: أن هذا ليس من باب التناقض أن الله سبحانه فوق سماواته، وأنه مع الخلق، لأن معيته بعلمه وفوقيته بذاته، وهناك فرق بين معنى الذات وبين معنى العلم، والمصنف هنا قال: لا توجبه اللغة؛ بمعنى أن كلمة (مع) في لسان العرب تقتضي مطلق المشاركة والمصاحبة بين الشيئين، ثم تكون هذه المصاحبة: إما بمعنى الذاتية، أو بمعنى العلم، أو بمعنى الإبصار، لا أحد يستطيع أن يحدد، إنما يقال: إن هذا بحسب ما يوجبه السياق، ولهذا لا يتعجب من بعض أهل البدع في ردهم على أهل السلف، يقولون: وظاهر آيات المعية أن الله بذاته مع الخلق، ثم يأتيك بقول من أقوال العرب في ذكر المعية الذاتية، وهذا غير ممتنع في لسان العرب، لكن السياق العربي يختلف. ولهذا نجد في سياق كلام العرب ذكر المعية، ومعناها الإبصار، لا العلم ولا المخالطة الذاتية، مثل قولهم: (ما زلنا نسير والقمر معنا)، فهذه المعية ليست معية علمية ولا حفظاً ولا نصراً ولا هي معية ذاتية، إنما معناها الإبصار. ونجد في كلام العرب ذكراً لحرف المعية، ويراد به الحفظ، أو النصر، أو العلم، أو المخالطة الذاتية، ولسنا نقول: إنه لا يوجد في لسان العرب مخالطة ذاتية، بل يوجد ذلك، لكن هذا مما يوجبه السياق، والمعية التي أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يَرِد في مقامها مسألة الاختلاط والحلول، لأن الله منزه عن هذا. هذه جهة أن تقول: إن الله منزه، ولك أن تقول: إنها جهة سمعية عقلية. ومن جهةٍ عقلية أخرى: لأنه منزه عن الحلول والاختلاط سبحانه وتعالى وتقدس عن ذلك، لأنه ممتنع، فهو ليس منفياً بخبر الشارع، هو منفي بخبر الشارع، ولكنه أيضاً ممتنع عقلاً. قال المصنف رحمه الله: [بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر، أينما كان، وهو سبحانه فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة]. يعني المصنف رحمه الله بذلك يعبر عن معاني صفاته في العلو وغيره بحروف القرآن والحديث، إلا أن يكون المخاطب يحتاج إلى تفصيل، فيعبر له بجمل من فصيح الكلام الذي ليس فيه إحداث وابتداع وليس فيه إجمال. ولا تذكر الألفاظ المجملة الحادثة، في مقام صفاته سبحانه وتعالى، وإذا كان اللفظ مجملاً حادثاً، فهو يعرض عنه في تقرير عقيدة السلف. ولهذا ينبغي الإعراض عن كلمة (ذاته) في المعية. وأحياناً يقع السؤال: هل نقول: إن الله معنا (بذاته) معيةً علمية، فنذكر كلمة (ذاته) هذه على وفق قواعد السلف وقواعد الشرع والعقل؟ فأقول: إن معرفته سبحانه يعبر عنها بأحرف الكتاب والسنة، وقد يبين المعنى المراد المذكور في الكتاب والسنة بحروف من فصيح الكلام الذي استعمله الأئمة، أو بفصيح الكلام الذي لم يستعملوه؛ بشرط ألا يكون هذا الحرف الذي لم يرد في الكتاب ولا في السنة مجملاً حادثاً. فإن الألفاظ المجملة الحادثة محل ذم عند السلف، فلا يجوزون استعمالها في أفعال الله وصفاته. وإذا رجعنا لكلمة (ذاته) نجدها مكونة من كلمتين: كلمة (ذات) مضافة إلى الله على معنى الصفة أو الفعل أو الوجود نفسه، وهي بهذا المعنى لا أصل لها في القرآن ولا في السنة، فهي إذن حادثة. الثاني منع استعمالها، والذي نهى السلف عن التعبير به هو اللفظ الذي جمع أمرين: الإجمال والحدوث، أما إذا كان حادثاً لكنه مفصل، فهذا لا بأس به، مثل قولهم: بائن من خلقه، فهذه الكلمة لم يقلها الرسول وليست في القرآن، لكنها من مفصل الكلام، فلا بأس بالتعبير بها، وكل لفظ مجمل حادث يمتنع التعبير به، فكلمة (ذاته) حادثة، وإن كانت وردت عن أبي هريرة في الصحيح: (لم يكذب إبراهيم النبي إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله) فهذه لها معنى آخر، أي: في طاعة الله ونصرة دينه .. إلخ. أما كلمة (ذات) بمعنى الصفة أو الوجود نفسه فإنها لم ترد، فهي حادثة، لكن هل هي مجملة أم ليست مجملة؟ الإجمال: إما أن يكون من أصل الوضع، وإما أن يكون بحسب الاستعمال وطروء الأقوال التي توجب إجمال حرف من الحروف. فكلمة (ذاته) إذا استعملت في مقام لا يحتمل الإجمال، كقولك: الله سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته، كان هذا استعمالاً صحيحاً، وإن كان لفظ (ذات) حادثاً إلا أنه في هذا السياق مفصل، لا يحتمل باطلاً، بل أريد به تصريح بالحق؛ فإن المخالف قد يقول: الله في العلو، ولكن هذا العلو ليس علو الذات، فيحتاج أن يقال: (بذاته) أما إذا استعملت كلمة (بذاته) في سياق المعية، فإنها تكون مجملة، لأن أصحاب الحلول والاتحاد يقولون: إن الله معنا بذاته، فكلمة (ذاته) توهم حلولاً، فأصبحت من هذا الوجه في هذا السياق المعين مجملة، وهي -كما قلنا- حادثة، ففي سياق المعية ينطبق على كلمة (بذاته) أنها مجملة حادثة، فهي إذن مما لا يعبر به. وإن كانت المعية يمكن أن تفصل بمعنىً من الحق، فهذا باب آخر، ونحن نقصد هنا الحروف والألفاظ. ولهذا يقال: لا يجوز التعبير بهذه الكلمة في سياق المعية؛ لأنها ليست من أصل النص ولا نطق بها القرآن ولا الحديث، ولما توهمه من الإجمال والإشكال. قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تظله أو تقله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان]. بإجماع أهل العلم والإيمان وبإجماع العقلاء المؤمنين بحقه سبحانه وتعالى أن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون محتاجاً لشيء من مخلوقاته. قال المصنف رحمه الله: [فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره]. محصل مسألة العلو هو أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وهو مع خلقه أينما كانوا مدركاً وعليماً ومحيطاً وحافظاً وناصراً لأوليائه المؤمنين، وأن المخالفين لهذا هم الجهمية ومن سلك سبيلهم من طوائف أهل البدع، وعباراتهم وألفاظهم في هذا شتى، منهم من يعبر فيقول: ليس له مكان، ومنهم من يعبر فيقول: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا تعبير ابن سينا ومنهم من يقول: لا يقال: إنه داخل العالم ولا يقال: إنه خارجه، وهذا تعبير مقلدة ابن سينا كـ الرازي، وفرق بين التعبيرين، ابن سينا وأمثاله يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، والرازي جاء وعدل في العبارة فقال: لا يقال: إنه لا داخل العالم ولا يقال: إنه خارجه، كإثبات نوع من الفرق بين قوله وقول الفلاسفة، وإلا فقوله في الأصل هو من جنس قول الفلاسفة. وقابل مذهب النفاة من أهل التعطيل مذهب أهل وحدة الوجود وأهل الحلول من غلاة الصوفية المتفل

إثبات أن الله قريب من المؤمنين

إثبات أن الله قريب من المؤمنين قال المصنف رحمه الله: [فصل: وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه ومجيب كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].]. من فقه المصنف أنه ذكر مسألة القرب بعد مسألة المعية، من باب ترتيب المعاني العلمية، والفرق بين قربه سبحانه وتعالى وبين معيته أن الله ذكر معيته عامة وخاصة، وأما القرب فإنه لم يرد في الكتاب أو في السنة إلا على وجه من الاختصاص بالمؤمنين، ولم يذكر مضافاً إلى سائر الخلق، ولهذا تقول: الله سبحانه وتعالى مع سائر خلقه، لكن لا تقول: إن الله قريب من سائر خلقه، وذلك لأن النصوص فرقت بين المقامين، فإن لفظ القرب يقتضي قدراً من الرضى والقبول، ولهذا ما ذكر عن الله في القرآن إلا في حق أهل الإيمان: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]. قال المصنف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)]. القرب هنا من هذا الوجه هو قرب خاص. ويأتي ذكر القرب في القرآن، ويراد به قرب الملائكة كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فهذا فيه نزاع بين أهل العلم، منهم من يقول: قرب الله، ومنهم من يقول: إنه قرب الملائكة، وهذا هو الصحيح، لأن المقام هنا مقام عام، وهو انتزاع الروح، وهذا ما عُني شيخ الإسلام رحمه الله بتقريره وأنه لا يصح هنا أن يقال: إنه قرب الله، بل القرب هنا قرب الملائكة، وهذا هو الذي يقتضيه الأصل في هذه الصفة ويقتضيه السياق.

إثبات القرب والمعية لا ينافي إثبات العلو والفوقية

إثبات القرب والمعية لا ينافي إثبات العلو والفوقية قال المصنف رحمه الله: [وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليم في دنوه، قريب في علوه]. فمن حقق الإيمان بهذه الجملة الشرعية العقلية أنه سبحانه ليس كمثله شيء، ذهب عنه جميع اللوازم التي تعرض لعقول من ضعف إيمانهم. والله سبحانه وتعالى لم يأمر الخلق أجمعين بالنظر، وإنما أمر بالنظر من استدعت حالته ذلك، بمعنى أنه اعترى فطرته وعقله الضروري قدر من الفساد، فهنا يؤمر باستعمال العقل النظري، لأن العقل النظري يستعمل فيه القياس الوسط، بخلاف الفطرة والعقل إذ ليس فيهما مادة من القياس، فقوله تعالى مثلاً: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] لا يعني أنهم ينظرون في شيء لا يدرك إلا بالنظر، كما فهمت المعتزلة، فإن الشيء الذي نبهوا إليه مدرك بأصل الفطرة، وبدليل العقل الضروري. ولكن من اختلت فطرته أو مدرك العقل الضروري عنده، فإنه يؤمر بالنظر. ولهذا غلط الأئمة طريقة المعتزلة لأنهم قالوا: أول واجب على المكلف النظر، قالوا: لأنه تحصيل للحاصل، وتحصيل الحاصل ممتنع. فإن قالت المعتزلة: إن الله أمر بالنظر، قيل: أمر بالنظر في حق من سقط عنده مقام العقل الضروري ومقام الفطرة، وإلا فأصل مدرك العقل الضروري ومدرك الفطرة: أن الله سبحانه وتعالى له الربوبية وله الألوهية، وله الكمال.

شرح العقيدة الواسطية [14]

شرح العقيدة الواسطية [14] من صفات الله تعالى صفة الكلام، وهي صفة ثابتة بالعقل والشرع، فهو سبحانه يتكلم متى شاء، كيف شاء، وبما شاء، بحرف وصوت مسموع، والقرآن كلام الله، أنزله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق قال المصنف رحمه الله: [ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق]. قال: (من الإيمان بالله وكتبه) ولك أن تقول: ورسله، لأن الرسول بعث بهذا القرآن، ولك أن تقول: وملائكته .. الخ. [ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقةً لا كلام غيره]. قوله: (وأن القرآن كلام الله) هذا هو صريح قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6].

الأدلة على اتصاف الله سبحانه بالكلام

الأدلة على اتصاف الله سبحانه بالكلام وهو سبحانه وتعالى موصوف بالكلام، وهذه من صفاته الثابتة بالعقل والشرع، ولهذا أبطل الله ألوهية العجل بأنه لا يتكلم، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148]، فدل عقلاً على أن الإله الحق المعبود لابد أن يكون متكلماً. فقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} دليل على أن الإله الحق يتكلم، وهذا من دلالة العقل. ومن أدلة إثبات كلام الله سبحانه وتعالى: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فكلامه سبحانه صفة من صفاته اللائقة به، وهو على الحقيقة، يتكلم سبحانه متى شاء كيف شاء إذا شاء، بحرف وصوت مسموع، وكلامه منزه عن مشابهة كلام الخلق كسائر الصفات. ومن كلامه سبحانه هذا القرآن؛ كما يدل على ذلك صريح الآية: {يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فالقرآن كلام الله منزل -أي: أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم- غير مخلوق، كما ادعت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، وهذا باطل لأن القرآن من علم الله، وعلمه سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون مخلوقاً، وهذا من جوابات الأئمة كالإمام أحمد على المعتزلة: أن القرآن هو من علم الله، وعلمه سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون مخلوقاً، والقرآن علم، فهو تشريع وأخبار سابقة، وهذا كله علم، ولا يمكن أن يكون علمه سبحانه وتعالى مخلوقاً.

الرد على القائلين ببدعة الكلام النفسي

الرد على القائلين ببدعة الكلام النفسي [ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف]. ولا يجوز إطلاق القول أنه - أي القرآن- حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه. فالسلف رحمهم الله كانوا يقولون: القرآن كلام الله، وهذه هي طريقة الصحابة، وما كان الصحابة ينطقون بكلمة (غير مخلوق)، لأن هذه البدعة لم تحدث في زمنهم. ولما ظهر الجهمية وقالوا: إنه مخلوق، قال السلف والأئمة الذين أدركوا هذه البدعة في أواخر المائة الثانية: إنه غير مخلوق، فصار الناس على أحد طريقتين: - عامة المسلمين على مذهب سلف الأمة أن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً. - الجهمية ومن وافقهم من أهل البدع على أن القرآن مخلوق. وفي آخر عصر الأئمة لما جاء عبد الله بن سعيد بن كلاب وأمثاله ممن يسمون متكلمة أهل الإثبات الذين ينتسبون للسنة والجماعة، أحدثوا في مسألة القرآن قولاً ثالثاً، ملفقاً من كلام المعتزلة والجهمية وكلام أهل السنة، فقالوا: (القرآن ليس مخلوقاً) هذا من كلام أهل السنة، ولكنهم لم يقولوا: إنه كلام الله فيتمموا الحق، بل قالوا: (حكاية عن كلام الله أو عبارة عن كلام الله)؟ قالوا: لأن كلام الله عندهم ليس بحرف وصوت، بل هو معنى يقوم في النفس. هذه الطريقة أحدثها ابن كلاب والأشعري وأمثالهما، وهي طريقة متعذرة عقلاً ونقلاً. ويكفي في إسقاطها: أن المسلمين سنيهم وبدعيهم قبل ظهور ابن كلاب والأشعري وأمثالهما ما كانوا يرون أنه يمكن في هذا الباب إلا أن يقال: القرآن كلام الله بحرف وصوت، أو يقال: إنه مخلوق على قول الجهمية والمعتزلة، ولما عُلِم فساد قول الجهمية والمعتزلة عقلاً ونقلاً، عُلم أن الحق الممكن واحد. بمعنى آخر: أنه يكفي لفساد قول ابن كلاب والأشعري: أنه قد مرت القرون الثلاثة حتى كاد القرن الثالث ينصرم، ولم يوجد أحد يقول: إنه حكاية أو عبارة عن كلام الله وأن كلام الله معنى وليس حرفاً .. إلخ. ما كان الناس يفقهون، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة، إلا أن الكلام يكون بحرف وصوت، فجاءت المعتزلة ونفته، وبقي أهل السنة على أصلهم في إثباته. إذاً: يكفي لإبطال مذهب الأشعرية أنه مذهب حادث، ولو كان هو الحق، للزم أن المسلمين بشتى طوائفهم لم يعرفوا الحق قبل وجود ابن كلاب والأشعري وأمثالهم، وهذا ممتنع عقلاً.

شرح العقيدة الواسطية [15]

شرح العقيدة الواسطية [15] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر، فيرونه في عرصات القيامة، ويرونه بعد دخولهم الجنة، وهذه الرؤية تعتبر أعظم نعيم لأهل الجنة.

مسائل الرؤية

مسائل الرؤية قال المصنف رحمه الله: [وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وكتبه وبملائكته وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس بها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم في عرصات يوم القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى]. من الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله: الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى عياناً بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته. هذه الحروف هي من أحرف السنة النبوية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه -كما في الصحيحين عن أبي سعيد وأبي هريرة وجاء في غيرهما من أوجه أخرى- أنه قال: (إنكم سترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته). فالمصنف -وهذا من طريقته في رسالته، وهي طريقة محمودة- استعمل الأحرف النبوية في الجملة في هذا التعبير، وهذا مما يحسن أن يقصد إليه في تقرير العقيدة، أن تستعمل الأحرف المذكورة في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن صفاته سبحانه وتعالى، أن المؤمنين يرونه في يوم القيامة، كما ذكر المصنف، أي: في عرصات القيامة، وهذا قبل دخولهم الجنة، ويرونه سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة، على ما يشاء الله، أي: على ما يشاء الله سبحانه وتعالى من التمكين لهم.

الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة رؤيته سبحانه وتعالى مجمع عليها بين السلف، ونطقت بها النصوص في كتاب والله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي مذكورة في القرآن في قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ومذكورة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وإن كان حرف الزيادة مجملاً إلا أنه بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث الصحيح صار من صريح أدلة أهل السنة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهو الزيادة، ثم تلا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]). ومن دليل الرؤية في كتاب الله قوله سبحانه وتعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] فإن السلام إذا قرن بالتحية، وذكر اللقاء فإن اللقاء هنا يتضمن المشاهدة والإبصار، وهذا ما ذكره ثعلب من أئمة اللغة، أنه قال: أجمعوا على أن اللقاء إذا قرن بالتحية والسلام، فإنه يتضمن المشاهدة بالإبصار، ولهذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] هذا في الإنسان عامة، ولا يلزم أن تدل هذه الآية على أن غير المؤمنين يرونه، لأن اللقاء المذكور في عموم الإنسان لم يذكر فيه التحية والسلام. كذلك تواتر ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى إن عدة من روى حديث الرؤية من الصحابة يبلغ الثلاثين، وهي مخرجة في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، وحديث الرؤية متواتر ومتفق على قبوله بين أهل العلم بالحديث، وكذلك بإجماع السلف، وقد حكى الإجماع غير واحد منهم. فهذه المسألة من أصل مسائل الصفات، وأنكرها الجهمية والمعتزلة، فقالوا: إنه لا يرى. وجاء متأخرو الأشعرية، فقالوا: إنه يرى لا في جهة، وهذا قول ثالث، من شذوذ المتأخرين من الأشاعرة عن عامة المسلمين، وإن كان قول المعتزلة والجهمية شراً من قولهم، لكن فيه شذوذاً عن أئمتهم المتقدمين كـ أبي الحسن الأشعري، وعن عامة المسلمين قبلهم، حيث قالوا: يرى لا في جهة، وهذا من باب إثباتهم للرؤية مع نفيهم للعلو؛ فإن المتأخرين من الأشاعرة نفوا العلو وأثبتوا الرؤية فقالوا: يرى لا في جهة. وإن كانت هذه الجملة وهي قولهم: (يرى لا في جهة) قد يعبر بها من لا يقصد معناها من المتأخرين، فقد عبر بها بعض شراح الشافعية وبعض فقهائهم، حيث دخلت عليهم من أصحابهم المتكلمين، ولا يلزم أن يكون من نطق بها -كـ النووي مثلاً في شرحه على مسلم وأمثاله- ممن ينكر علو الله، فإن هذه الجملة استعملها أصحابها الأشاعرة، فظنوا أن تحقيق الإثبات للرؤية مع تنزيه الله لا يكون إلا بهذه الطريقة. إذاً إذا تكلم بهذا الحرف أو بهذه الجملة متكلموهم كـ الرازي وأمثاله، فإنه يريد بها نفي العلو، وإذا تكلم بها فقهاؤهم وبعض حفاظهم المتأخرين، فلا يلزم أنهم يقصدون بها نفي العلو، وإنما ظنوها هي الطريقة المحققة عند أصحابهم. والنووي وأمثاله لم يكن على سعة في الاطلاع على تفاصيل أقوال المتقدمين في مثل هذه المسائل، ولم يتبين الفرق بين طريقة متأخري الأشاعرة ومتقدميهم، فضلاً عن الفرق بين طريقة الأشعرية وطريقة السلف الأول، فهذا القدر ينبغي أن يعنى به في تقرير أقوال أهل العلم من الفقهاء وشراح الحديث الذين وافقوا أصحابهم من المتكلمين الذين يشاركونهم إما في المذهب الفقهي أو في جمل من المذهب العقدي، وإن كانوا لا يقصدون إلى تحقيق أقوالهم في هذا الباب أو ذاك. فهذا ما يتعلق بأصل هذه المسألة وقدرها عند السلف، وأنها إجماع متواتر. وفي باب الرؤية ثلاث مسائل:

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة هذه المسألة وهي أصلها وأشرفها، وهي: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون القمر وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته: أي لا يتكاثر بعضهم على بعض لانتزاع الرؤية، وقد مثل النبي -في حديث أبي رزين الذي رواه الإمام أحمد وغيره- برؤية الناس إلى القمر، فإن القمر جميع الناس يراه مخلياً به، ومع ذلك فإن الناس إذا أرادوا رؤية القمر أو رؤية البدر، لا يتدافعون إلى رؤيته مع أنه واحد وهم كثر؛ بل كل يراه على سعة من أمره.

أدلة المعتزلة على نفي الرؤية

أدلة المعتزلة على نفي الرؤية في كتاب الله آيتان احتجت بهما المعتزلة ونفاة الرؤية، وهما قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] وهذه الآية من أشهر حججهم على إنكار الرؤية، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فاحتجوا بهاتين الآيتين على إنكار رؤيته.

الرد على استدلال المعتزلة

الرد على استدلال المعتزلة الصواب: أن الآيتين ليس فيهما دليل على ذلك. وللرد على ذلك نقول: من المعروف في طرق النظر والمنطق: أن الدليل الذي يرد من المعارض إما أن يجاب بمنعه، وإما أن يجاب بنقضه، وإما أن يجاب بقلبه، إلى غير ذلك من الصور، وأقواها القلب، أي: قلب الدليل. وثمة قاعدة: أنه ما من دليل من العقل أو النقل يستدل به المعارض لمذهب أهل السنة والجماعة على قول من أقواله، إلا ويعلم أن هذا الدليل النقلي أو العقلي لا يدل على قوله، والعلم بعدم دلالة الدليل من النقل أو العقل على قول هذا المبتدع أو المخالف علم ضروري، ووجه كونه ضرورياً من جهة كون النقل -الكتاب والسنة- يمتنع أن يدل على الباطل، فإنه لو فرض جدلاً أن الدلالة ممكنة أو صحيحة للزم أن الباطل في هذه المسألة يلزم أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يمكن أن ينتزع وجهاً من كلام الله أو كلام رسوله. ولهذا -وهذا علم بدهي- كانت سائر الأدلة التي يستدل بها المخالف للحق من الكتاب والسنة لا تدل على كلامه لتعليل عقلي ضروري، وهو أن الحق -وهو النقل- لا يمكن أن يدل على الباطل، ولا يقتضيه، ولا يسوغه ولو على جهة الإمكان العامة. والعقل كذلك، فما من دليل عقلي يستدل به المخالف على قوله، إلا ويعلم أن هذا الدليل إما أن يكون ليس عقلياً، وإذا صح كونه عقلياً امتنع دلالته، فإما أن يفسد كونه عقلياً: أي يُبطل بالعقل، وأن العقل يمنع الدليل من جهة العقل نفسه، بمعنى أنه لا يمكن أن العقل يدل على نقيض الحق؛ فهذا ما يسمى بمنع الدليل، فتكون قاعدته: أنه ما من دليل من العقل أو النقل استدل به مخالف للحق إلا ويعلم عدم دلالته، فالنقل يعلم أنه ليس بدليل، أو أن النقل لا يكون صحيحاً كحديث موضوع يروى وهو ليس بصحيح، أو يكون العقل عقلاً ليس صحيحاً، وإنما هو قياس فاسد أو وهم من أوهام العقل. وتعلم أن الدليل الذي يسمى عقلاً -حتى عند أصحابه- ليس وجهاً واحداً. وهنا جهة أخرى، وهي ما يسمى بقلب الدليل، وابن تيمية رحمه الله يقول: إنه ما من دليل من النقل، استدل به المخالف على قوله إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض قوله، وهذه درجة ما يسمى قلب الدليل، وقلب الدليل ليس -عند التحقيق- لازماً، وإنما اللازم أن الدليل لا يدل على الباطل، أما أن الدليل المعين الذي استدل به على الباطل يدل على الحق، فهذا ليس بلازم، كضرورة شرعية أو كضرورة عقلية، وليس بدهي التحصيل، ولهذا ابن تيمية يقول: إنه تحصل له أنه ما من دليل استدل به معارض في مسائل الصفات وغيرها إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض مقصوده، أي: يدل على الحق. واستعمل لهذا كلام المعتزلة في هذا الدليل، فقال: إنهم استدلوا على إنكار الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذه الآية جاءت في سياق المدح، وهذا بدهي، قال: والمدح لا يكون بالعدم المحض، إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، سواء كان هذا الثبوت ثبوتاً جاء على طريقة الابتداء، أو جاء ثبوتاً متضمناً لنفي، يعني تركب مع نفي، بمعنى أن النفي المحض حقيقته أنه عدم محض، والعدم المحض يقول ابن تيمية: ليس شيئاً، وإذا كان ليس شيئاً امتنع أن يكون مناطاً للكمال؛ لأن مناط الكمال لا بد أن يكون معنىً وجودياً، أو معنىً ثبوتياً، ومن هذه الجهة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الكمال لا يكون بالنفي المحض، بل لا بد أن يتضمن أمراً ثبوتياً. قال: فلما قال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لا بد أن يكون تضمن معناً ثبوتياً، ومن هذا الوجه يقرر ابن تيمية رحمه الله أن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، وإن كانت تراه. بهذا التحقيق يكون الدليل مُنعت دلالته على طريقة المعتزلة وصار دليلاً للحق، هذه الطريقة التي استعملها شيخ الإسلام، أشاد بها ابن القيم رحمه الله، وذكر أن الإمام ابن تيمية له هذا الوجه الحسن، وهو وإن كان ذكر هذا، لكنه نقله عن غيره، وقد ذكر هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري في إثبات الرؤية، وقال: إن المعتزلة يجاب عليهم بهذه الطريقة، لكن لك أن تقول: إن تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الوجه في الآية أجود من تقرير أبي الحسن الأشعري، ولكن أصل التقرير هو لـ أبي الحسن الأشعري، وقد يكون الأشعري نقله عن غيره من علماء أهل السنة والجماعة. فالمقصود: أن الآية نفت الإدراك، والإدراك -كما يقول ابن تيمية - قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه يكون ثابتاً. الآية قالت: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] والإدراك البصري هو تحقيق الإبصار، وليس مطلق الإبصار، فإنك تقول: رأيت فلاناً، ولا يلزم أنك أدركته، إنسان رأى قادماً من بعيد لا يلزم أنه أدركه، أهو رجل أو امرأة، وإذا كان رجلاً أهو زيد أم عمر، ففرق بين مطلق الإبصار وبين تحقيقه بالإدراك. والآية إنما نفت القدر الزائد على الأصل، قال شيخ الإسلام: فلما خص القدر الزائد بالنفي، وهو الإدراك، دل على أن ما دونه وهو مطلق الإبصار يكون ثابتاً، فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية، وهذا استدلال متين من جهة العقل والشرع. وكذلك الآية الثانية عند المعتزلة ونفاة الرؤية، وهي قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] قالوا: إن الله نفى رؤيته، و (لن) في لسان العرب تقتضي تأبيد النفي، وهذا محله النظر في كلام العرب، وإذا اعتبرت كلام العرب فالتحقيق أن (لن) وإن كانت تقتضي تأبيد النفي في بعض سياقاتها، إلا أنها لا تستلزم تأبيد النفي، ولهذا ليس من الصواب أن يقال: إن (لن) في كلام العرب لا تقتضي تأبيد النفي، وهذا من أجوبة النقض البسيطة التي ليست صحيحة، بل (لن) تقتضي التأبيد في بعض سياقاتها، وإنما الصواب يقال: إن (لن) لا تستلزم التأبيد، وإن كانت تقتضيه بحسب ما يوجبه السياق، وهذا السياق -وهو قوله: (لَنْ تَرَانِي) لا يقتضي التأبيد؛ لأن المخاطب موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في حالٍ من دنياه وحياته الدنيوية، فهو في هذه الحال لن يرى ربه، أي: في حال حياته ودنياه، ولا يدل هذا على أن موسى عليه الصلاة والسلام لن يرى ربه في الآخره، ولا دليل على ذلك من السياق، إنما انتزعته المعتزلة من هذا الحرف في العربية، وهو (لن)، ولو كانت (لن) تستلزم تأبيد النفي، لما جاز تحديد الفعل بعدها، لأن تحديد الفعل يقتضي قطع الغاية إلى منتهى معين، وهو قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] فلما جاز تحديد الفعل بعدها في لسان العرب فيما نطق به القرآن، والقرآن نزل بلسانهم، دل على أن (لن) لا تستلزم تأبيد النفي، وإن اقتضته في بعض السياقات، وهذا السياق في قصة موسى ليس منها. هذا ما يسمى بمنع الاستدلال، وهناك وجهٌ آخر وهو ما يسمى بقلب الاستدلال، وهذا أيضاً وجه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكره أبو الحسن الأشعري وغيرهما، وإن كان ذكر شيخ الإسلام أتم له. وهذا من أوجه: من أخصها وأجودها أن موسى سأل ربه أن يراه، ولو كانت رؤيته سبحانه وتعالى ممتنعة كما تقول المعتزلة والجهمية منكرة الرؤية، لكان القول برؤيته نقصاً في حقه سبحانه وتعالى، فيلزم أن موسى لم يكن عارفاً بتوحيد الله معرفةً تامة والمعتزلة وجميع منكرة الرؤية لا يقولون: إن الرؤية منفية؛ لأن النصوص لم تنطق بها، بل يقولون: إن الرؤية ممتنعة؛ لأن كمال الله يأبى ويمنع الرؤية. فلو كان الكمال كما يدعون يمنع رؤيته، فنقول: إن مجرد سؤال موسى عليه الصلاة والسلام يعد دليلاً صريحاً على الإمكان. والمعتزلة يقولون: من زعم أن الرؤية ممكنة كفر؛ فهم يرون أن هذا من نقص الله، وأن هذه كلمة كفر، ومجرد الزعم أن الله يمكن أن يُرى، حتى لو قال قائل: أنه لن يرى، مجرد تقرير الإمكان يعتبرونه تقريراً لنقص الله. فموسى بسؤاله قرر الإمكان، وإذا تقرر الإمكان، فهذا هو مورد النزاع المحقق بين المعتزلة وأهل السنة، لأن المعتزلة ليس الإشكال عندهم النفي فقط، بل عندهم مقام فوق النفي وهو تقرير الامتناع. ولهذا نقول: إن المعتزلة لا يمكن أن تستدل عند التحقيق بآية من القرآن على قولها، حتى لو سلمنا جدلاً باستدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) وبقوله: (لَنْ تَرَانِي) فالآيتان لا تدلان على مذهب المعتزلة، فالآيتان نفتا، والمعتزلة لا تنفي، وتسكت عن القول في مسألة الإمكان، وتقول: الله أعلم بالإمكان، بل هم يصرحون بامتناع الرؤية، أي يصرحون بنفي الإمكان، والآية نفت الوقوع ولم تنف الإمكان، بل آية موسى عليه الصلاة والسلام، فيها تصريح بالإمكان؛ لأن سؤال موسى تقرير للإمكان، ولو كان موسى عليه الصلاة والسلام يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى لا تمكن رؤيته، لما سأل ربه، ولو كان من تحقيق التوحيد امتناع رؤيته، كما تقول المعتزلة، وهذا يجعلونه من أصول التوحيد، ويسمونه باب الصفات، لو كان من توحيد الله أنه لا يرى وأن رؤيته ممتنعة للزم أن موسى بتقريره للإمكان كان جاهلاً بتحقيق التوحيد، وهذا ممتنع. إذاً: سؤال موسى عليه الصلاة والسلام هو تقرير للإمكان، وهذا هو أصل مبدأ الإبطال لقول المعتزلة.

مسألة رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

مسألة رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة الكافرون والمنافقون في يوم القيامة يلقون ربهم فهل يرونه أو لا يرونه؟ هذه مسألة نزاع بين أهل السنة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لم يحفظ عن الصحابة فيها قول، وكأنه يقصد -والله أعلم- أن الصحابة لم يشتهر نزاعهم في المسألة، وإلا فظواهر النصوص تكلمت في هذه المسألة، وعلى كل تقدير فإن بين أهل السنة نزاعاً في هذه المسألة، فمنهم من قال: إن المنافقين وحدهم من الكفار يرون ربهم في عرصات القيامة، ومنهم من قال: إن سائر أجناس الكفار يرون ربهم، ومنهم من قال: إنه يراه المنافقون وغبرات أو بقية من أهل الكتاب، ومنهم من قال: إن سائر الكفار من أهل النفاق وغيرهم لا يرونه. وإذا نظرت في القرآن وجدت أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] هذا هو الظاهر في هذا المسألة، وهو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن عليه الأكثر من أصحاب أحمد، وهو ظاهر مذهب المتقدمين من السلف كـ مالك والشافعي وأحمد. وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. وأما الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فإن اللقاء ليس هو الإبصار، وفرق بين هذه الآية وبين قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] وابن القيم رحمة الله عليه. استدل على رؤية الكفار لربهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] وقال: إن أهل اللغة مجمعون على أن اللقاء، يستلزم أو يتضمن الإبصار، وهذا ليس بصحيح، فأهل اللغة لم يجمعوا، ولا يعقل أن أهل اللغة يجمعون على هذا المعنى؛ لأنه معنىً ظاهر من الحس، إنما المجمع عليه في كلام العرب أن العرب إذا عبرت بلقاء قرن بالتحية والسلام قصدت أن اللقاء جامع إبصاراً ومشاهدة، وهذا من تعبير العرب، وهو الذي ذكره ثعلب في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] وابن القيم كأنه فاته هذا الفرق والله أعلم. أما السنة ففي ظاهر بعض النصوص أن المنافقين وغبرات من أهل الكتاب يرونه، والحديث وإن كان في الصحيحين إلا أنه عند التحقيق لا تستتم به الدلالة.

مسألة رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج

مسألة رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج أجمع المسلمون أنه لا أحد يرى ربه قبل موته، ولهذا كل ما يذكر في كلام الصوفية أو غيرهم، فإنه من الشعوذة والكذب والبهتان، ومما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، وإنما اختلف المسلمون فقط في محمد صلى الله عليه وسلم لما عُرِج به إلى السماء، فليس ذلك في الأرض، وهذا مما يبين أنه حتى النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض ما رأى ربه، ولا زعم أحد من أهل العلم أن محمداً رأى ربه وهو في الأرض، إنما لما عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماء، هل رأى ربه في معراجه أو لم يره؟ هذه مسألة نزاع بين أهل السنة المتأخرين، وينبه فيها إلى جهتين: الجهة الأولى: أن أكثر المتأخرين من الفقهاء وشراح الحدايث، يذكرون أن جمهور أهل السنة أو عامة أهل السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، هذا الذي يذكره -مثلاً- أمثال القاضي عياض، وعنه نقله الشراح من بعده خاصة شراح مسلم، والقاضي عياض هو من المالكية الكبار. والمقصود أن هذا ليس بصحيح، وليس هذا مذهباً لجمهور أهل السنة، وإنما هو قول لطائفة. وأما تحقيق المسألة: فقد حكى الدارمي وهو من المتقدمين، إجماع الصحابة على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه ببصره ليلة المعراج، وهذا إجماع حكاه الدارمي وهو إمام متقدم، فهل يُقال: إنه إجماع منضبط أو ليس منضبطاً؟. الصواب: أنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة منازعة لهذا الإجماع. وإنما الذي حفظ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وهناك رواية أخرى عن ابن عباس صحيحة أن النبي رأى ربه، قال شيخ الإسلام: فـ ابن عباس يروى عنه التقييد بالفؤاد والإطلاق، قال: ولم ينقل عن ابن عباس أو غيره من الصحابة إثبات الرؤية مقيدة بالإبصار، بل هذا قول متأخر، ولهذا يميل شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن إجماع الدارمي مستقر، وإن كان القطع بالإجماع ليس ضرورة، لأنه يستلزم التغليظ بالإنكار على من خالف. والمسألة مشهورة النزاع عند المتأخرين من أهل السنة، وإنما يقرر الدليل على أنه قدر من الإجماع السكوتي المستقر كحجة في المسألة، ولا يُقال: إن من قال: إن النبي رأى ربه ليلة المعراج، فهو من أهل البدع، كلا. فالمسألة فيها سعة من الخلاف، وإن كان الأظهر من حيث مذهب الصحابة هو ما ذكره الدارمي، فإن لم يكن إجماعاً فهو مذهب عامة الصحابة، وهذا يبين لك أن ما ذكره القاضي عياض رحمه الله وأمثاله ليس محققاً. وأيضاً نقول: إن هذا هو ظاهر القرآن وكأنه صريح السنة، أما أن ظاهر القرآن أن النبي لم ير ربه ببصره، فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فلو كان الله سبحانه وتعالى أراد أن نبيه يراه ببصره لكان امتنانه وإشادته سبحانه وتعالى برؤيته أظهر وأعظم وأمن من رؤية الآيات. وأيضاً: فإن الله لما ذكر حال نبيه وما وصل إليه، قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، ولو كان عليه الصلاة والسلام تحصل له الرؤية البصرية لربه، لكان ذكرها أخص من باب أولى من رؤية الآيات، فتأمل قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] فلو كان رأى ربه لذكر ذلك؛ لأنه أمن وأشرف من رؤية الآيات، فهذا ما يسمى ظاهر القرآن. وأما ما يمكن أن يكون صريحاً من السنة فهو حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وغيره: أنه قال: (يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه). وفي رواية أخرى عن أبي ذر عند مسلم -وكلاهما عن عبد الله بن شقيق - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت نوراً)، ومن أهل العلم من اعتبر وجهاً محفوظاً والآخر شاذ، كما هي طريقة الإمام أحمد، وعلى طريقة مسلم فكأن الروايتين ليس بينهما قدر من التعارض، فمن حيث المعنى لا تعارض، والمتقدمون لا يعلون بجهة التعارض في المعنى كما يفهم، ليس بالضرورة أن الإمام أحمد أعل أحد الوجهين، لأن بينهما تعارضاً من جهة المعنى، فإن الإعلال يمكن أن يقع على بعض الأحرف، وإن كان يمكن جمعه من جهة المعنى مع الحرف الذي يُقال إنه محفوظ، وإلا فإن قوله: (نورٌ أنى أراه) ليس منافياً لقوله: (رأيت نوراً)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي موسى في الصحيحين: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور)، فكأن النبي -والله أعلم- رأى هذا الحجاب، أو نور الحجاب ولم ير ربه ببصره، هذا هو الأظهر من جهة الدلائل.

شرح العقيدة الواسطية [16]

شرح العقيدة الواسطية [16] من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، وبما يكون بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه، وهذا الباب ليس فيه مخالفة بين طوائف المسلمين، وعقيدة أهل السنة في ذلك أن الموت أول منازل الآخرة، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الله يناجي عباده المؤمنين، كما يعتقدون بحوض النبي في عرصات القيامة، والعبور على الصراط، والوقوف على قنطرة بين الجنة وا لنار، ثم دخول الجنة للمؤمنين بعد أن يستفتح لهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويكون أول الداخلين.

الإيمان باليوم الآخر وبما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه

الإيمان باليوم الآخر وبما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه قال رحمه الله: [فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وعذاب القبر ونعيمه]. هذا الباب وهو اليوم الآخر وما يكون من مقدماته، ليس فيه -في الجملة- مخالفة بين طوائف المسلمين، وإن كان كثير من الطوائف يفوتهم الإقرار أو العلم بكثير من مسائل هذا الباب، لما دخل عليهم من شبهة أن خبر الآحاد لا يحتج به في العقائد، فتركوا كثيراً من مفصل الحق، ولم يعتبروه، فضلاً عن كون عامة أهل البدع ليسوا من المعروفين بالرواية والإسناد، فإنك إذا نظرت إلى علماء المعتزلة أو الخوارج، وأمثال هؤلاء، وجدتهم في الغالب ليسوا من أئمة الرواية، والذي كتب السنة وصنفها وأصلها ورواها هم أئمة السنة والحديث، كـ البخاري وأحمد ومسلم وأمثال هؤلاء. وإن كان في بعض الطوائف المتأخرة منهم من الحفاظ، إلا أنهم ليسوا بمقام أئمة الرواية الأوائل، فالمقصود أن هذا الباب في الجملة محل استقرار، وإن كان يفوت بعض الطوائف أو ينقصهم التفاصيل من هذا الوجه في الغالب، وقد يكون من وجه آخر، وهناك مسائل في باب اليوم الآخر، دخلها قدر من التأويل، ولا سيما المتعلقة بمسائل الوعيد وعذاب القبر وفتنته .. إلخ. وفي الغالب أن التأويل لشيء من هذا الباب يقع عند المعتزلة؛ بخلاف غيرهم، فإنهم في الجملة يقرون بكلام أهل السنة في هذا الباب. قال رحمه الله: [فأما الفتنة، فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب: فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة فيسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعها الإنسان لصعق]. والمرتاب المراد به هنا المنافق. وكلام بعض الشراح أن المرتاب هنا العصاة أو من عنده نقص في الإيمان، يفترض ألا يقال أصلاً، لأن المسلم الذي يصدق عليه أنه مسلم مهما كان فاسقاً يعرف أن ربه الله، وأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام هو دينه، وإن كانت المسألة كما هو معروف ليست مسألة وعي علمي، فإنه حتى الكافر قد يحفظ هذه الكلمات، ولكنه لا يستطيع أن يقولها حينما يسأل هذا السؤال. والمقصود هنا من قوله: (المرتاب) هو الكافر الذي لم يؤمن بالله ورسوله ودين الإسلام، وأما المسلمون جميعاً فإن الله يثبتهم على هذا الجواب، وإن كان التثبيت على هذا الجواب لا يعني أن العبد يسلم من العذاب في القبر أو بعد القبر إلى ورود يوم القيامة، فالمقصود أن هذا التفسير لا يمكن أن يعتبر بوجه صحيحاً أبداً. وبعض الأقوال ترى في كلام المتأخرين، إذا تبين أنها مناقضة للحق ومناقضة للصواب فيجب أن تستبعد ولا ينصب الخلاف، لأن هذا مما يشكك نفوس المسلمين. الآن بعض العامة من المسلمين ما عندهم إدراك لفضل الله سبحانه وتعالى، خوفوا بالوعيد وأسمعوا آيات الوعيد التي نزلت في الكفار، وأصبحوا لا يتصورون القبر إلا ناراً أو عذاباً .. إلخ. الناس يجب أن يعلموا فضل الله سبحانه وتعالى، وأن رحمته سبقت غضبه، وأن يعلموا أن قضاءه سبحانه وتعالى عدل، وأنه عدل، وأنه لا يظلم مثقال ذرة. فالمقصود أن الله يثبت المؤمنين، أي: المسلمين جميعاً، وهم كل من وافى ربه محققاً للتوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، كما في البخاري لما سأله أبو هريرة. مع أن صاحب المعصية قد نقص تقريره وتحقيقه لعبادة الله سبحانه وتعالى بتركه لبعض الواجبات، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن له حظاً من الشفاعة) والنبي يشفع له، مما يدل على أنه موحد، فكل من وافى ربه بالتوحيد والإسلام، فإنه يمكّن من هذا الجواب بإذن الله تعالى. قال: [ثم بعد هذه الفتنة: إما نعيم وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد]. خلافاً لطائفة من المعتزلة زعمت أنه بعد هذا السؤال يبقى الناس في سبات في قبورهم إلى أن تقوم الساعة، فهذا ليس صواباً، والقرآن صريح أن ثمة نعيماً وثمة عذاباً في القبر، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] الآية في حق آل فرعون وكفرة قوم موسى، وإذا كانوا يعرضون على العذاب، فمن باب أولى أن الصالحين المؤمنين يعرضون على النعيم، بل أرواحهم في الجنة، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حق طوائف من المؤمنين كالشهداء وغيرهم.

الإيمان بما يكون في يوم القيامة من بعث ونشور ووزن للأعمال

الإيمان بما يكون في يوم القيامة من بعث ونشور ووزن للأعمال قال المصنف رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر بها الله في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]]. هذه مسألة القيامة، وهي كما ذكر المصنف مجمع عليها بين المسلمين، ولكن ثمة معنى، أنه ما من أصل أجمع المسلمون عليه إلا وترى في كلام أئمة السنة والجماعة -وأخصهم الصحابة رضي الله عنهم- من الفقه والعلم في هذا الأصل ما لا يقع لغيرهم، فيكون لهم الاختصاص من هذا الوجه، حتى في الأصول المتفق عليها؛ من جهة سعة العلم والفقه في هذه الأصول، وإن كان غيرهم قد يوافقهم عليها، فالقيامة محل إجماع بين سائر طوائف المسلمين، لم يختلف أحد منهم عليها. وذكر المصنف أن الناس يقومون من قبورهم حفاةً عراة، هذا كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم. (وتنصب الموازين) والموازين ثابتة بالإجماع: وهي في قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فالموازنة ثابتة بالإجماع. وأما قوله: (فأما من ثقلت موازينه)، فهذا مذكور في القرآن في غير مقام في سورة القارعة والمؤمنون والأعراف، وهذا المقصود به الإيمان والكفر، وسياقها في القرآن على الإيمان والكفر، ولا يعني هذا أن من كان مسلماً عاصياً لا يكون له موازنة، بل يدخل في عموم الموازنة، وإنما المقصود التنبيه على ما ذكره ابن حزم وابن القيم من أن عصاة الموحدين توزن أعمالهم، وابن القيم ناقل عن ابن حزم في المسألة، يقول ابن حزم: بالنسبة لعصاة الموحدين وأهل الكبائر من المسلمين- من زادت حسناته على سيئاته بواحدة، فهذا لا يعذب، بل يدخل الجنة ابتداءً، ومن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، فلا بد أن يعذب بقدر ما يشاء الله من العذاب، قال: ومن تساوت حسناته مع سيئاته، فهذا لا يعذب، ولا يدخل الجنة ابتداءً بل يحبس عن الجنة زمناً ثم يمكن من دخولها. وهذا التفصيل قال عنه الإمام ابن القيم رحمه الله: إنه مذهب الصحابة والتابعين، وأن خلافه قول المرجئة، والصواب: أنه ليس مذهباً للصحابة والتابعين، بل هو تفصيل لقول مجمل من أقوال الصحابة، وإنما الذي عليه الصحابة والتابعون -وهو صريح القرآن- هو الإيمان بالموازنة كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] أما كيف تكون هذه الموازنة؟ فالكيفية في حق عصاة الموحدين لم تنطق به النصوص المفصلة، إنما نؤمن بأن الله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ونؤمن بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] أما أن يقال: إن من زادت سيئاته على حسناته واحدة، من المسلمين فإنه يعذب في النار جزماً، فهذا قول لا أحد يستطيع أن يقوله، ومن الذي أدراك أنه لا بد أن يعذب؟! والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة وواسع المغفرة، وقد يغفر الله له هذه السيئة الواحدة التي زادت، فكيف تجزم له بالعذاب، فهذا ليس بصحيح؛ أين عفو الله؟ ومن الذي يستطيع أن يجزم بهذا الكلام؟ لو كانت النصوص نطقت به لقلنا: قضاء الله وقدره، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس:11] أما والنصوص لم تنطق بشيء من ذلك، فهذا لا يجوز الجزم به، وإن ذكره ابن القيم رحمه الله، فهو نقله عن ابن حزم، ولكن ابن القيم زاده تقريراً، وقال: هذا مذهب الصحابة، وهو عن جابر بن عبد الله وابن مسعود، وابن عباس في تفسير آية الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46]. وهذه مسألة أخرى: أن من تساوت حسناته مع سيئاته من أهل الإسلام يحبسون عن الجنة ولا يعذبون، لا يعذبون لأن سيئاتهم لم تزد، ولا يدخلون ابتداءً لأن حسناتهم لم تزد، فقالوا: يحبسون، وما أدراك أنهم يحبسون؟! وأما القول بأنهم ذُكِروا في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] فالذين في سورة الأعراف ليس في القرآن إلا أنهم رجال، أما ماهيتهم، فقد قال كثير من السلف: إنهم قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن هذا القول لم يصح عن صحابي واحد، وإنما هو مذكور عن التابعين ومن بعدهم، وهو فقه في القرآن ليس صواباً، والأصوب التوقف، وأن يقال: الله أعلم بهم. إنما هم رجال كما قال القرآن رداً لقول أبي مجلز بأنهم ملائكة، وليس صواباً؛ لأن القرآن يقول: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ) فهم رجال، ولهذا من فقه ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره للآية أنه سرد الأقوال، ونقل عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن جابر بن عبد الله: أن أهل الأعراف رجال تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن الأسانيد المذكورة معلولة من جهة الانقطاع وجهات أخرى، وأنت تعرف أن ابن جرير عنده قاعدة في تفسيره: أنه إذا كانت الآية في تفسيرها خلاف، وللصحابة قول ولمن بعدهم قول، فإنه -كقاعدة مطردة لا تنخرم أبداً عند ابن جرير - يأخذ بمذهب الصحابي، إلا إذا اختلف الصحابة، فـ ابن جرير في هذه المرة مع أنه نقل عن بعض الصحابة أنه تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ونقل أقوالاً أخرى قد تختلف عنها عن غيرهم، رجع في آخر بحثه للمسألة، وأبطل قول أبي مجلز أنهم ملائكة قال: لأن القرآن يقول رجال، ثم رأى ابن جرير التوقف في المسألة: من هم أصحاب الأعراف؟ الله أعلم. وهذا هو الإيمان، وهذا هو الفقه أن يقال: الله أعلم بهم. وهنا تنبيه: أحكام الله تنقسم إلى قسمين: أخبار وتشريع، فالتشريع يتفقه فيه، لأنها أحكام نوازل المسلمين والحالات الخاصة التي تطرأ. مثلاً: التيمم، ما فيه من حديث لا يصل إلى عشرة أحاديث ربما، وسجود السهو مداره على ستة أو سبعة أحاديث، لكن صور التيمم التي تطرأ لآحاد الناس قد لا تتناهى، كل إنسان عنده صورة، هنا يكون الفقه في هذه النصوص، فنصوص الأمر والنهي يتفقه فيها، فيخرج كثير من الصور من نص عام، لكن نصوص الأخبار تؤخذ على ظاهرها وتتدبر من باب تحقيق الإيمان بها، لا من باب التشقيق منها. إذاً لما قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] لماذا تأخروا وهم رجال؟ جاء مورد العقل هنا ومورد التفقه، فقال: لأنهم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، وهذا ليس بلازم، لأنه يمكن عقلاً أن الله جعل ذلك عقوبتهم، لأنهم عصاة ما تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، بل زادت سيئاتهم، ولم يعذبهم في النار، بل حبسهم عن الجنة ألا يمكن هذا؟ يمكن، لكن لا نقول به، إنما نقول: الله أعلم؛ لأن مسألة تسمية الأشياء حكمة الله سبحانه وتعالى في عدم التبليغ للناس، الناس يتفقهون في شيء الله سبحانه لم يرد أن يخبرهم به. المنافقون لن تجدوا أن الله سماهم في القرآن، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من تسميتهم، وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام بعد فضح القرآن لهم، غاب عنه كثيرٌ من أعيانهم وأشخاصهم، وقال الله له: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، ما سماهم القرآن ولا حتى الرسول يعرفهم، ويعرف طرفاً منهم، ولم يخبر بهم جميع الصحابة، وقد قال الله له في القرآن: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد:30] ليس أن يعرف فلاناً أنه قد يوجد في بادية كذا، قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] لو شاء الله لأراهم، ولعينهم له بالتسمية، ولدله عليهم، وإنما جعلت ثمة قرائن، حتى لا يتغلغل المنافقون في أهل الإسلام وأهل الإيمان وهم يعرفونهم، قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ولهذا قال: (آية المنافق ثلاث) وفي حديث أبي هريرة: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، فدائماً نؤكد أن السلف عليهم رحمة الله، من فقههم ما يرون التشقيق في هذا، ولا يعجب أحد، فيقول: إنه نجد في كلام ما يروى عن بعض الصحابة. أولاً: ما في كتب التفسير كثير من الأسانيد قد لا تنضبط إلى الصحابة، ثم إن بعض الصحابة أخذ عن بني إسرائيل ولا سيما المتأخرين، كـ عبد الله بن عمرو عنده رواية عن بني إسرائيل، واعتبرها بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) وبقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فالقصد أن هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم، لا نقول: إنه باطل، لأننا لا نعلم انتفاءه، وإنما نقول: إنه غلط من جهة كونه تفصيلاً لشيء لم يفصل في النصوص، قد يكون الأمر في نفس الأمر كذلك، لكن الله أعلم بأهل الكبائر، إنما {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] إنما: رحمة الله سبقت غضبه، إلى غير ذلك مما نطق به القرآن

الإيمان بما يكون يوم القيامة من بعث ونشر ووزن للأعمال

الإيمان بما يكون يوم القيامة من بعث ونشر ووزن للأعمال قال المصنف رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس, ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون].

اتفاق جميع المسلمين على أكثر مسائل اليوم الآخر بجملتها

اتفاق جميع المسلمين على أكثر مسائل اليوم الآخر بجملتها هذه الجمل السابقة هي من الجمل التي كلياتها متفق عليها بين سائر طوائف المسلمين. ومن صنف في الاعتقاد من علماء السنة والجماعة، فإن هذا التصنيف يكون على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون المقصود من التصنيف: التقرير لمعتقد المسلمين الذي انضبط عن الصحابة رضي الله عنهم، وإن لم يشتغل بمسألة التمييز. الوجه الآخر: أن يكون المقصود هو إظهار الامتياز. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة -وهي الرسالة الواسطية- قصد فيها إظهار امتياز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، وهذا يعني أن المصنف يغلب على تصنيفه ذكر الجمل التي فيها اختصاص عند أهل السنة عن غيرهم، بخلاف الطريقة التي سلكها أبو جعفر الطحاوي في رسالته المعروفة بالعقيدة الطحاوية، فإن الطحاوي غلب على جمله أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة إلا من شذ من الغلاة؛ بمعنى أنها مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة المنتسبة للسنة والجماعة، فيدخل في ذلك أصناف الفقهاء في الجملة، ويدخل في ذلك من يسمون متكلمة الصفاتية، كأتباع ابن كلاب ومن تأثر بطريقته، وأتباع الأشعري ومن تأثر بطريقته، وأتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي ومن تأثر بطريقته إلى غير ذلك؛ فإن هؤلاء يعرفون بالمنتسبين إلى أهل السنة، أو بمتكلمة أهل الإثبات، وهذا يقع به امتياز عن أهل البدع المغلظة الأولى، كبدعة الجهمية المغلظة، أو بدع المعتزلة المغلظة، أو بدعة الروافض وأمثال هذه البدع. إذاً يتحصل لنا أن من كتب من أهل السنة المحققين لمذهب السلف، يكتبون على وجهين: إما أن يكون الغالب على جملهم ذكر ما يمتاز به أهل السنة عن أهل البدع المغلظة، وإما أن يكون الغالب عليها هو تحقيق مذهب السلف، وبيان ما يخالف هذا المذهب حتى عند متكلمة أهل الإثبات وأمثالهم، ولهذا تجد أن الجمل عند الطحاوي يغلب عليها أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف المسلمين: من جهة ألفاظها وحروفها العامة، أما إذا فصلت هذه الجمل فإنه يتبين بالتفصيل أنها تختص بوجهٍ ما بعقيدة أهل السنة، وبعقيدة السلف. والمقصود أن الخلاف في هذا الباب -أعني باب اليوم الآخر- في الغالب قليل، لأن الأصول التي يتفرع عنها القول في هذا الباب جمهورها متفق عليه بين أهل القبلة، إلا من شذ من غلاة الطوائف المائلين إلى الطرق الباطنية. فمن المعلوم -وهذه قاعدة لا بد لطالب العلم أن يعرفها- أن كل باب من أبواب الاعتقاد له أصول نتج القول في هذا الباب عنها. والأصل الذي تفرع عنه القول في باب اليوم الآخر، جمهوره متفق عليه بين جمهور أهل القبلة، إلا من شذ ممن مال إلى الطرق الباطنية؛ فالمائلون إلى الطرق الباطنية مؤولون في باب اليوم الآخر. وأضرب لك مقارنة في هذا: إذا رجعنا لباب الأسماء والصفات، وجدنا أن الأصل الذي تفرع عنه القول في باب الأسماء والصفات ليس متفقاً عليه بين جمهور أهل القبلة، لأن عامة المتكلمين حتى المنتسبين للسنة كـ الأشعري وأمثاله ينتحلون علم الكلام، والأصول الكلامية في تقرير هذا الباب هي ما يسمى دليل الأعراض أو دليل التخصيص وما إلى ذلك. فالأصل الذي تحصل عنه القول في باب الأسماء والصفات عند جمهور الطوائف ليس أصلاً شرعياً، وهو العلم الكلامي، فإن علم الكلام إنما ابتدأ القول به في مسائل الإلهيات ثم عدَّاه من عدَّاه إلى مسائل أخرى، من مسائل القدر أو مسائل الإيمان أو ما إلى ذلك. ولذلك تجد أن الأشعرية والماتريدية والكلابية ثم أهل البدع المغلظة من المعتزلة ومن أخذ الاعتزال عنهم من أنواع الشيعة إما من الزيدية أو من الرافضة أو غيرهم، وكذلك الجهمية الأولى؛ جميع هؤلاء يتفرع قولهم عن علم الكلام والأصول الكلامية المحصلة من الفلسفة، فهذا باب الأسماء والصفات. أما باب اليوم الآخر فإن الأصل الذي يتفرع عنه القول فيه عند جمهور الطوائف أصلٌ صحيح، من جهة مجمله؛ بمعنى: أن هذا الباب يسميه كثير من الطوائف بباب السمعيات، ويقصدون بذلك أن هذا الباب لا يتكلم فيه على الأصول الكلامية من جهة ابتدائه، وإن كانوا يسعملون الدليل الكلامي في باب اليوم الآخر أو في بعض مسائله، كتقرير وإثبات لما ثبت بالقرآن، وهذا هو الفرق بين استعمال دليل المتكلمين الكلامي في باب اليوم الآخر، وبين استعماله في باب الأسماء والصفات. وتجد أبا حامد الغزالي وهو من علماء الكلام، لما رد على الفلاسفة في كتابه، وذكر بعض مسائل اليوم الآخر، استعمل بعض الطرق الكلامية. فكان الخلاف في هذا الباب أقل من الخلاف في غيره، لأن جمهور الطوائف إلا من مال إلى الطرق الباطنية، يجعلون الأصل في هذا الباب هو الكتاب، فكان الخلاف فيه أكثر اقتصاداً من الخلاف في غيره. ومع ذلك فإن السلف وأتباع السنة المحضة أهل السنة والجماعة لهم اختصاص في هذا الباب؛ من جهة أنهم أكثر علماً بالنصوص المفصلة لهذا الباب ولاسيما النصوص النبوية. فإن أكثر الطوائف غلب عليها التقصير في التحقيق للنصوص النبوية، وذلك لسببين: السبب الأول: عدم اشتغال علمائها بهذا العلم كثيراً. السبب الآخر: ما وضعوه من القواعد الفاسدة في تقريرهم للدلائل النبوية، كقاعدة: أن خبر الآحاد لا يحتج به في العقائد. وعليه: فثمة امتياز لأهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب اليوم الآخر- وإن كان الخلاف فيه ليس مشتهراً مع الطوائف؛ لأن الأصل المعتبر عند طوائف جمهور المسلمين هو أصل واحد، وهو: الدليل النصي من الكتاب أو السنة. وانحرف عن هذا الأصل المتفق على قدره الكلي بين جمهور الطوائف من مال إلى الطرق الباطنية. والمائلون إلى الطرق الباطنية هم أحد صنفين: إما من الشيعة، وإما من الصوفية، فإن غلاة الشيعة باطنية، وغلاة الصوفية باطنية. والباطنية إنما نفذت أقوالهم بين بعض سواد المسلمين لأنهم انتحلوا أحد وجهين: إما أنهم انتحلوا التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعظموا آل البيت، وإما أنهم انتحلوا التنسك والعبادة والميل إلى تحقيق النسك وما إلى ذلك بأنواع من التصوف. وإن كان يعلم أنه ليس جميع الشيعة باطنية، كما أنه ليس جميع الصوفية باطنية، بل فيهم وفيهم، ولكن الباطنية دخلوا على سواد المسلمين بأحد هذين الوجهين. والباطنية أصولهم في نفس الأمر هي أصول فلسفية، كأمثال إخوان الصفا، فإنهم منتسبون إلى التشيع، ومع ذلك فإن حقيقة أقوالهم حقائق فلسفية محضة. وكذلك ما جاء عن بعض غلاة الصوفية المائلين إلى هذه الطرق، فتجد عندهم من إسقاط الحقائق الشرعية -كالعبادات الأربع- ما هو معروف ومنقول عنهم في كتبهم. والمقصود أن هؤلاء الباطنية من الصوفية أو الشيعة هم المحرفون لباب اليوم الآخر، ولذلك تجد بعض الصوفية -وإن لم يحقق الطريقة الباطنية ويلتزم بها، لكنه أخذ شيئاً من مادتها- يميل إلى شيء من هذه الطرق في بعض أقواله، كـ أبي حامد الغزالي، فإنه ليس باطنياً محضاً، وإن كان أخذ من كلام الباطنية الصوفية شيئاً، ولذلك كان عنده أغلاط في باب اليوم الآخر تأتيه من هذا الوجه.

باب اليوم الآخر يقتصر فيه على ما يطابق النص

باب اليوم الآخر يقتصر فيه على ما يطابق النص باب اليوم الآخر وأمثاله باب لا يقال فيه بالتفقه على طريقة الرأي والاجتهاد، وإنما يقتصر فيه على ما طابق النص. وأما البحث في أنواع الدلالات من جنس البحث الفقهي فإن هذا ليس فاضلاً، وإن كان يبدو لبعض طلبة العلم نوعاً من التحقيق في فقه المسألة أو فقه الدليل أو في فقه النص. فمثلاً: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نص مجمل، وتضمن هذا النص المجمل بعض المسائل المفصلة المحتملة لهذا النص، فإنه لو كان هذا النص في باب الأمر والنهي، لكان المشروع التفقه في هذا النص والأخذ بأنواع الدلالات التي جاء تفصيلها في كتب أصول الفقه. أما باب العقائد بعامة، ولاسيما الأبواب السمعية المحضة، فلا ينبغي لأحد أن ينظر فيها بالتفقه على طريقة الرأي والاجتهاد، وهذا باب محكم عند سائر السلف، ولا سيما إذا اعتبرت أن أئمة الحديث كـ أحمد وغيره، كانوا يأخذون على فقهاء الكوفة كثرة الرأي حتى في مسائل الفقه والتشريع، فما بالك بهذا الباب؟! ولذلك إذا رجعت إلى الكتب التي نقلت أقوال السلف كالتوحيد لـ ابن خزيمة أو السنة لـ عبد الله أو للخلال أو أصول السنة والجماعة للالكائي وما إلى ذلك من هذه الكتب، تجد أنهم في باب اليوم الآخر لا يذكرون عن السلف فيه إلا أقوالاً كأنها هي نفس الحروف المكتوبة في القرآن، بمعنى أن القول المأثور عن السلف يكاد أن يكون نفس النص النبوي، أو جزءاً من النص النبوي، أو جزءاً من النص القرآني. وهذا يدل على أن باب اليوم الآخر يؤخذ بطريقة المطابقة، وإن تضمنت هذه الطريقة التي أشير إليها عدم الإجابة على كثير من الأسئلة التي ترد، فإن هذا ليس مشكلاً في نفسه، ولكنه يشكل على البعض، فتجده يقول: إذا قال قائل كذا فماذا نقول؟ وإذا ورد سؤال: هل يلزم من ذلك كذا؟ فماذا نقول؟! هنا يقال: الله أعلم، فما دام النص ليس صريحاً في هذا الخبر، فإن الأصل الوقف فيه؛ لأن باب اليوم الأخر الأصل فيه أنه غيب، والغيب لا يقال فيه بالظن؛ لأن هذا الظن ليس مما شرع الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع في الغيب ظناً، وكل الغيبيات التي أوجب الله ورسوله على العباد أن يؤمنوا بها هي غيبيات قطعية بينة. إنما الذي يجوز أن يدخله الظن هو مسائل التشريع -مسائل الفقه- لأن أحوال العباد وما يتعلق بهم لا يتناهى من جهة اختلاف أحوالهم وما إلى ذلك، فيكون باب الاجتهاد هنا سائغاً؛ إذ لا يمكن أن تنحصر هذه الأمور بمحض النصوص الضابطة لها. وفي هذا جواب على سؤال قد يرد، وهو: لماذا باب الغيبيات وأصول العقائد مقولة بالنص المحض؟ ولماذا باب التشريع فيه ما هو من النص المحض، وفيه ما هو من الاجتهاد والاحتمال؟ لماذا لم يكن كل القرآن والسنة كذلك؟ ولماذا لم يكن الدين كله كذلك؟ فالجواب: أن يقال: إن الدين في نفس الأمر كله محكم، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى فصل أمور العباد على طريقة محققة لكان هذا فيه من الحرج في التكليف شيء كثير، ولذلك هذه النصوص التي فيها قدر من الاحتمال، يكون فيها سعة على كثير من الناس، فيما يقع من الاجتهاد وما إلى ذلك، وهذا إذا تأمله طالب العلم تبين له بياناً مفصلاً.

وزن الأعمال يوم القيامة

وزن الأعمال يوم القيامة من مسائل هذا الباب مسألة الموازين، والموازين والموازنة ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، وهي صريحة في القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الموازنة في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47]، وكقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، وكذلك من النصوص النبوية. فالموازنة: متفق عليها بين سائر السلف، لكنهم يقولون: الله أعلم بماهية هذه الموازنة وحقيقتها، وإنما الذي دلت عليه النصوص صريحاً هو إثبات الموازين والموازنة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم العبد شيئاً. وكلام بعض متأخري أهل السنة في تفصيلهم للموازنة ليس له -فيما يظهر بالتتبع والله أعلم- أصل في كلام السلف، ولا في القرآن والسنة، وهذا الكلام أول من قاله هو ابن حزم رحمه الله. فإن قاعدة السلف في أهل الكبائر من المسلمين أنهم تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى بدليل قول الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه المشيئة المعلقة في القرآن في أهل الكبائر قد ذكر ابن حزم تفصيلاً لها، وقال: إن هذا التفصيل هو التحقيق لأصل الموازنة المذكورة في القرآن، قال: (إن من زادت حسناته على سيئاته من أهل الكبائر واحدة -أي: حسنة واحدة- فهذا يغفر له، وإن من زادت سيئاته على حسناته من الموحدين سيئة واحدة فهذا يعذب في النار)، (فمن لفحة في النار إلى خمسين ألف سنة في النار). قال: (ومن تساوت حسناته مع سيئاته من الموحدين، فهذا يحبس -أي: يوقف- عن الجنة ولا يدخل النار، ثم يدخل الجنة). ثم قال: (وهؤلاء هم أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]). هذا القول ذكره ابن حزم، وإن كان لم يصرح أنه إجماع عند أهل السنة والجماعة، فجاء بعده ابن القيم رحمه الله وانتصر لهذا القول انتصاراً مطلقاً، ونقل أن ابن حزم حكى الإجماع عليه، وجزم ابن القيم بأن هذا القول هو قول الصحابة والتابعين، حتى قال رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين): (وأما قول الصحابة والتابعين، فإن كثيراً من الناس لا يعرفه، وهو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم)، ثم ذكر التفصيل المنقول عن ابن حزم، فقال: (إن من تساوت حسناته هم أهل الأعراف يحبسون، ومن زادت سيئاته واحدةً يعذب في النار، ومن زادت حسناته واحدةً يغفر له، ويدخل الجنة)، فجزم بهذا القول، وجعله قول الصحابة والتابعين، وقال: (إن خلافه هو قول المرجئة)، وذكر أقوالاً منكرة في هذا الباب، وهي من البدع المعروفة عن المرجئة، ولا شك أنها أقوال غير صحيحة بمعنى أنه إذا قيل: إن قول ابن القيم ليس صحيحاً، فلا يلزم من ذلك أن يكون الصواب هو أحد الأقوال التي ذكرها، فإنه ذكر للناس أقوالاً في هذا ثم قال: (إن هذا ليس إلا قول المرجئة، وأما الصواب المأثور عن الصحابة والتابعين ...) فذكره. والصواب أن يقال: إن كل الأقوال التي ذكرها ابن القيم ليست صحيحة، فيوافق على أن ما ذكره من أقوال الطوائف ليس صواباً من جهة السنة، لكن القول الذي انتصر له إنما أخذه عن ابن حزم. وابن القيم رحمه الله إذا انفرد في مسألة فيها غرابة ففي الغالب أن مادته فيها من ابن حزم، سواء في مسائل الاعتقاد التي قد لا تكون أصولاً، أي: محلها القلب، وهي مسائل السمع، أو مسائل التشريع ومسائل الفقه، فإنه قرأ لـ ابن حزم كثيراً كـ ابن تيمية رحمه الله؛ فإن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية من أكثر من قرأ لـ أبي محمد ابن حزم، ولكن استفادة ابن تيمية من ابن حزم كانت أحكم، ولذلك لم يدخل معه في أصل مشكل، بخلاف ابن القيم، فإنه قد يأخذ عن ابن حزم بعض الأصول أو المسائل التي ليست محققة، ويستعمل أحياناً طرقاً في الاستدلال ليست منضبطة، كاستعماله لطريقة التضمين والتلازم في المسائل، ونفس ابن حزم في هذا الاستعمال كبير، كاستعماله لطريقة الفهم في أقوال المتقدمين أحياناً، إذا أراد أن ينتصر لقول ما وأن هذا القول هو قول لفلان وفلان من أعيان السلف، فيأخذ من أقوالهم بالفهم، فهذه الطريقة أحياناً ينتحلها ابن القيم، وإن لم يكن كـ ابن حزم فيها. والمقصود: أن هذا القول غلط من جهة الدليل، وليس صواباً، وابن القيم رحمه الله مادته في هذه المسألة منقولة عن ابن حزم، فإنه أول من تكلم بهذا. والصواب هنا -طرداً للقاعدة السابقة-: أن يقال: إن هذا مما سكت عنه القرآن والسنة. أما استدلال ابن القيم وابن حزم بقول الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102 - 103] وبالمقارنة التي جاءت في سورة الأعراف وفي سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، فليس صواباً، لأنك إذا قرأت هذه المواضع في القرآن وجدتها صريحة في سياق المسلمين والكفار، فإن الله يقول في سورة المؤمنون: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:103 - 105]. فالآيات صريحة أنها في المسلمين والكفار، فإذاً هذا النوع من الدليل ليس محكماً. وأما قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] استدل بها ابن القيم وابن حزم فقالا: (والقسط هو العدل، والعدل أن من زادت حسناته فهو كذا، ومن زادت سيئاته فهو كذا)، فهذا ليس صواباً، وإنما العدل هو عدم الظلم؛ ولذلك إذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى: يغفر لمن زادت سيئاته على حسناته سيئة واحدة، لم يكن هذا منافياً للعدل؛ إنما الذي ينافي العدل هو الظلم، كقول المرجئة الواقفة: إن الله قد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، فهذا من الظلم الذي لا يمكن أن يكون عدلاً منه سبحانه وتعالى، والقصد أن الاستدلال بالآية ليس له وجه. وأما قول ابن القيم: (هذا هو مذهب الصحابة)، فبناه على آثارٍ منقولة عن طائفة من الصحابة في آيات الأعراف، والآثار عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة بن اليمان. قال ابن مسعود: (أن من زادت حسناته واحدة، فهو إلى الجنة، ومن زادت سيئاته واحدةً فهو إلى النار، ومن استوت حسناته وسيئاته، حبس) هذا الأثر عن ابن مسعود ونحوه عن ابن عباس وحذيفة بن اليمان، رواه ابن جرير في تفسيره، وهي ليست صحيحة من جهة الإسناد عن الصحابة؛ ولذلك أعرض عنها ابن جرير، مع أن قاعدة ابن جرير في تفسيره: أن الصحابة إذا كان لهم قول، ولم ينقل قول مخالف عن الصحابة أنفسهم، وإنما المخالف من التابعين أو من بعدهم، فإن ابن جرير رحمه الله ينتصر بقوة لقول الصحابة. وفي تفسير ابن جرير لهذه الآية لم ينقل عن طائفة من الصحابة ما يخالف هذا القول، وإنما نقل عن طائفة من غير الصحابة، ومع ذلك لما انتهى من عرض المسألة رجح رحمه الله التوقف في أهل الأعراف، وهذه إشارةٌ منه إلى أن الأسانيد عن الصحابة عنده ليست مقبولة. والأسانيد إذا نظرت إليها وجدتها معلولة من أكثر من جهة، أقربها وأدناها إلى النظر أنها منقطعة. فالمقصود أن كثيراً من المفسرين يرجحون الوقف في أهل الأعراف، وهذا هو المذهب الصحيح، وإنما الذي أخبرنا القرآن به عن أصحاب الأعراف: أنهم رجال، خلافاً لقول أبي مجلز أنهم ملائكة، وهذا غلط، لأن الله قال: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] ولذلك ابن جرير لم يبطل من الأقوال شيئاً إلا القول المأثور عن أبي مجلز أنهم ملائكة، فقال: إنهم رجال بنص القرآن. وللمفسرين في أهل الأعراف ما يقارب الثمانية أقوال، وعلى قول ابن القيم وابن حزم يلزم أن أهل الأعراف قد أجمع الصحابة وأئمة السلف على تفسيرهم بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا ليس فيه إجماع، بل الصواب في أهل الأعراف أنهم الله أعلم بهم. والوقف في هذا النوع من آيات القرآن أو من الدلالات هو المنهج المحقق، وليس الترجيح للتفصيل هو المحقق دائماً. فإن الراجح دائماً والتحقيق دائماً: هو حسن الأخذ لدليل القرآن أو السنة، هذا هو الترجيح الصواب، وهذا هو التحقيق للعلم الشرعي، وهو أن يأخذ الناظر في الأقوال أقرب الأقوال إلى الدليل. فنقول: إن التوقف هو الأقرب إلى الدليل؛ لأن الدليل مجمل من كل جهة، فمهما استعملت فيه من أنواع الدلالات لا تستطيع أن تفك هذا الإجمال، فيبقى هذا الدليل مجملاً، فيكون الراجح في أهل الأعراف الإجمال، والإجمال هنا التوقف في شأنهم. وهناك فرق بين إنكار الموازنة وبين إنكار هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم؛ فالموازنة مجمع عليها، أما هذا الق

صحائف الأعمال

صحائف الأعمال قال رحمه الله: [وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]]. هذا في منتهى الحساب؛ فإذا ما حوسب العباد وقرروا بذنوبهم على ما يشاء الله سبحانه تعالى، تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، وهي ما انتهت إليه الصحائف بعد موازنة الله سبحانه وتعالى، وما يتبع هذه الموازنة من حكم الله وقضائه، فآخذ كتابه بيمينه وهو الناجي، وآخذ كتابه بشماله وهؤلاء هم أهل النار. ويختلف كثير من المفسرين في ذلك؛ فمنهم من قال: يأخذونه بشمالهم، ومنهم من قال: يأخذونه وراء ظهورهم، ومنهم من قال: هذه في الكفار وهذه في المنافقين، ومنهم من فصل على غير ذلك من التفصيل، والأظهر في هذا أن يقال: الله أعلم. إلا إذا انضبط نص نبوي مفصل لمثل هذا المجمل من القرآن فإنه يقال به، وأما إذا لم ينضبط فيقال: إن الناس يوم القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير، وأهل النار يأخذون كتابهم بشمالهم ومن وراء ظهورهم، أما العلم بهذا فليس من العلم اللازم، والله سبحانه وتعالى بين لنبيه؛ فما نص عليه كان علماً مشروعاً، وما لم ينص عليه فليس من العلم المشروع. فالعلم بالرسالات وبأسماء الرسل كموسى وعيسى وإبراهيم هو علم مشروع، يزيد الإيمان، ومع ذلك ثمة رسل ما ذكرهم الله في القرآن، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] فهؤلاء الذين لم يذكر الله سبحانه وتعالى شأنهم في القرآن ليس العلم بشأنهم مشروعاً لهذه الأمة، لأن ما يحصل به العلم -وهو الوحي- لم يأت بهم، فلم ينزل فيهم قرآن ولم يحدث بهم النبي عليه الصلاة والسلام، فتكلف العلم بهم ليس من التكلف المشروع. ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، فتصديقهم يتضمن الإيمان، فنهى عن تصديقهم في أخبارهم، وما يخبرون به عن الأنبياء، ونهى عن تكذيبهم، إلا إذا كان الذي أخبروا به معارضاً للنصوص معارضةً بينة، فهذا يكذبون به؛ لأنه يعلم حينها أنه من المحرف المكذوب. ويخطئ كثير في فهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ..) وقوله: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) فهذا ليس على إطلاقه، إنما الخطاب فيه لما احتمل فيه من خبر أهل الكتاب. أما ما كان من كلام أهل الكتاب بيناً أنه كذب، كبعض الروايات التي يذكرون فيها عن الرسل والأنبياء ما يعلم أنهم لا يقعون فيه وأن الله نزههم عنه، أو يحكون عن التشريع ما يعلم أنه لا يقع في شرائع الله سبحانه وتعالى، فهذا يجب التكذيب به؛ لأنه من المحرف المكذوب.

مناجاة المؤمن لربه

مناجاة المؤمن لربه قال المصنف رحمه الله: [ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة]. هذا ثابت بالسنة: أن الله سبحانه وتعالى يخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، وهذا الذي ثبت في السنة الله أعلم بماهيته من جهة التفصيل، وفي الأحاديث غير لفظ كقوله: (يخلو) وكقوله: (فيدنيه الله ويضع عليه كنفه) وإلى غير ذلك من النصوص كحديث ابن مسعود وغيره. فهذه نصوص ثابتة في الصحيح وغيره، ولكن التفصيل فيها لا يزاد عن ظاهر النص.

مسألة محاسبة الكفار

مسألة محاسبة الكفار قال المصنف رحمه الله: [وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم]. الكفار لا يوافون ربهم بحسنة، وإن كانوا يعملون أعمالاً حسنة في الدنيا، فإن هذا يجازون به في دار الدنيا، كما في الصحيح عن أنس بن مالك في صحيح مسلم وغيره قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكفار فيطعم بحسناتٍ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها)، والصواب في قراءة الحديث: أن تنون كلمة (حسنات)، فتكون (ما) نافية، أي: فيطعم بحسنات لم يعمل بها لله في الدنيا، أي أن هذه الحسنات لم يعمل بها لوجه الله، والأمر كذلك، فإن الكفار وإن كانوا قد يفعلون فعلاً حسناً كبر الوالدين، أو كصلة الرحم، أو كالعتق، أو كصدقات وبر وما إلى ذلك، فإن هذا وإن كان خيراً وحسنة، فإنه ليس المقصود عندهم هو وجه الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، فالقرآن والسنة تبينان أن الكفار يجازون بحسناتهم في الدنيا ولا يوافون ربهم بحسنة. قال المصنف رحمه الله: [ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيقفون عليها ويقرون بها]. أما مسألة محاسبة الكفار، فإن بعض المتأخرين من أصحاب الأئمة أطلق أنهم يحاسبون، وهذا ذكره المصنف في فتاواه، قال: إن بعض أصحاب أحمد وغيرهم، قال: إنهم يحاسبون، وبعضهم قال: إنهم لا يحاسبون، قال: والصواب: التفصيل، هذه الطريقة التي يستعملها ابن تيمية رحمه الله وابن القيم كثيراً، ويستعمل كثير من المتأخرين هذه الطريقة، فتجدهم يقولون: بعضهم قال كذا، وبعضهم قال كذا، ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال، ثم يقال: والصواب التفصيل. والصواب هنا هو من حيث اللفظ. بمعنى أنه إذا قيل: الصواب التفصيل، فقد يكون الصواب من حيث المعنى، وقد يكون الصواب من حيث اللفظ، فما الفرق بينهما؟! إذا قلنا أنه صواب من حيث اللفظ، فمعناه أن ابن تيمية يقول: إن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناتهم مع سيئاتهم؛ لأنهم لا حسنات لهم، ولا يوافون ربهم بحسنة، فهل من قال من أهل العلم أن الكفار يحاسبون، كان يقصد أنهم توزن حسناتهم مع سيئاتهم، وأنهم يوافون ربهم بالحسنات؟ لا. لا يلزم هذا. ثم يقال: فيقررهم الله بذنوبهم، هل من قال أنهم لا يحاسبون، قال: إنهم لا يقررون؟ لا. فإذاً: كلام شيخ الإسلام أحكم ليس من جهة المعنى، فإن المعنى في الجملة فيه اتفاق, وإنما هو أحكم من جهة اللفظ. ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بمسألة غسل الجمعة، فإن شيخ الإسلام قال: إن الأئمة الأربعة يذهبون إلى أن غسل الجمعة ليس واجباً، إنما هو مستحب، ومن أهل العلم من ذهب إلى وجوبه. وفصل ابن تيمية -وانتصر له ابن القيم - فقال: أن من كان فيه رائحة يتأذى منها الناس، فيجب عليه الغسل، ومن لم يكن كذلك لم يجب عليه الغسل. فيأتي البعض ويقول: الصواب التفصيل، فهذا الصواب هو من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، والفرق أنك إذا قلت: الصواب من حيث المعنى، لزم من ذلك أن القول الثالث غير القول الأول وغير القول الثاني، وهو ليس كذلك، لأن القول الذي قال به شيخ الإسلام حقيقته هو قول الأئمة الأربعة الذين يقولون: لا يجب غسل الجمعة، لأنهم حينما قالوا: إن غسل الجمعة ليس واجباً ما أرادوا أنه كذلك حتى ولو كان به رائحة يتأذى بها الناس، فهذه مسألة خارجة، لكونها عارضة، وهم يتكلمون عن أصل الحكم الشرعي؛ ولذا لا يجوز أن نقول: أن الأئمة الأربعة يقولون: لا يجب غسل الجمعة: لا على من به رائحة يتأذى بها الناس، ولا على من ليس به رائحة، وأن ابن تيمية يفصل. ولو كانت الوسطية هنا وسطية المعنى، لزم أن نقول هذا القول. والنتيجة من هذا أن التفصيل لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا في التقارير العلمية، ولا يفصل للعامة، بمعنى أن يقال: مسألة غسل الجمعة ليس فيها لأهل العلم إلا أحد قولين: عدم الوجوب، وهو قول الجمهور واختاره ابن تيمية. ولكن شيخ الإسلام نبه إلى مسألة: وهي أن من به رائحة يغتسل، وهذا يوافق الجمهور، مثل ما قلت مذهب الإمام أحمد أن صلاة الجماعة واجبة، إذا شخص خاف فوت رفقته، فجاء شخص وقال: الصواب التفصيل، فمن حصل له الخوف أو مرض لا يجب عليه الجمعة. فنقول: ليس مقصوداً في كلام الإمام أحمد، أن الجماعة واجبة على كل حال. فالمقصود أن كثرة العناية بأن يكون الراجح من الأقوال هو التفصيل الذي فصله متأخر، ليس منهجاً حكيماً، مع أنه -ومع الأسف- يهتم الكثير بذلك، فتجد المسألة في كلام الأوائل الأكابر على قولين مثلاً، ثم يقال: الراجح ما ذكره ابن القيم، وهو التفصيل، وما ذكره ابن القيم ليس خارجاً عن القولين، لأنه لو خرج عن القولين كان القول غلطاً. وإن كان هناك خلاف مع بعض المعتزلة ومن شاركهم في هذا الأصل من الأشاعرة أو الفقهاء، إلا أن الصحيح المنضبط عند السلف أنه إذا انضبطت الأقوال على قولين أو ثلاثة، فلا يجوز لأحد أن يزيد قولاً رابعاً خارجاً عنها. وأكثر ما يقول فيه أعيان المتأخرين: الصواب التفصيل، هو من التفصيل اللفظي، الذي لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا عند الاحتياج.

الحوض المورود

الحوض المورود قال المصنف رحمه الله: [وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم]. حوض النبي عليه الصلاة والسلام متواتر، وليس المقصود بالتواتر هنا التواتر الذي رسم حده المعتزلة، بل هو متواتر عند أئمة الحديث وأئمة السلف؛ كـ الشافعي وأمثاله الذين ذكروا لفظ التواتر؛ بمعنى: أنه رواه جماهير من الصحابة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وثبت في كتب الصحاح، وتلقاه العلماء بالقبول، وقد جاء من حديث أبي ذر وابن عمر وأبي هريرة وجابر بن سمرة، وأمثالهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وألفاظه في الصحيحين وغيرهما كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طوله شهر، وإن عرضه شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)، وكقوله: (أنا فرطكم على الحوض) كما في حديث أبي هريرة، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي هذا من مقامي إلى صنعاء)، إلى غير ذلك من التحديد إما الزماني أو المكاني لحوض النبي عليه الصلاة والسلام. هذا الحوض -وهو على نهر الكوثر- أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حديث أنس في الصحيح قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] إلى آخر السورة، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، وهو حوض). فدل ذلك على أن الحوض يكون على هذا النهر وهو نهر الكوثر، قال: (وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ..) إلى آخر الحديث. قال المصنف رحمه الله: [ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء]. وهذا ثابت في الصحيح. قال المصنف رحمه الله: [طوله شهر، وعرضه شهر]. هذا التقدير الزماني المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وفي الصحيح كذلك التقدير المكاني، كقوله: (من مقامي إلى صنعاء) أو (من مقامي إلى عمان). قال المصنف رحمه الله: [من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً]. والذي يرد عليه هم جمهور أمته عليه الصلاة والسلام، وإن كان يذاد عنه رجال ممن أسقط السنة إسقاطاً بيناً، وقد جاء هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد، قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهر خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ثم قال: ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً). فهؤلاء الذين يذادون عن حوضه هم من أسقط سنته وعارضها، وانتحل سبيل غير المؤمنين.

الصراط

الصراط قال المصنف رحمه الله: [والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، تمر الناس عليه على قدر أعمالهم]. فيمرون على الصراط على قدر أعمالهم، وليس على قدراتهم البشرية، ولو علق ذلك بالجانب البشري لامتنع أن يمر أحد على الصراط، ولذلك ليس هناك أثر لبشرية الإنسان في هذا المرور من كل وجه، وإنما يمرون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يمر كأجاود الإبل، ومنهم من يزحف، إلى غير ذلك مما هو مفصل في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (وفي جهنم كلاليب وحسك مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم عظم قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم). وهذا الصراط يمر عليه جميع المؤمنين وجميع الكفار، فلا يسلم من المرور عليه أحد. والمؤمنون الذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يسلموا من العذاب لا يقع أحد منهم على هذا الصراط، ومنهم من يزحف زحفاً، فتدركه النجاة والشفاعة، ومنهم من يسقط بحسب ما يقدره سبحانه وتعالى، فالله أعلم بماهية هذا المرور وتفاصيله. وقد وردت في الصراط آثار ضعيفة، كبعض الآثار المذكورة أنه أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وما إلى ذلك، فهذه الآثار لا تصح، وإن كانت مشهورة في كثير من الكتب المصنفة. قال المصنف رحمه الله: [فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم]. من فقه المصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر هذه المسألة أنه اقتبس كثيراً من جملها من الأحرف الشرعية، فبعض جمله منقولة من القرآن، وبعضها منقولة من السنة.

وقوف المؤمنين بعد الصراط على قنطرة بين الجنة والنار

وقوف المؤمنين بعد الصراط على قنطرة بين الجنة والنار قال المصنف رحمه الله: [فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا عذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة]. هذه القنطرة بعد الصراط هي تصفية وتهذيب لأهل الجنة مما يقع بينهم من آثار نفوسهم التي لا يجازون عليها من جهة العذاب، فتهذب نفوسهم على هذا الوجه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أن فقراء المهاجرين يدخلون قبل أغنيائهم بأربعين سنة)، فهل هذا هو حبسهم في القنطرة، أم هو وجه آخر؟ الله أعلم بتفصيل ذلك. وإن كان هذا الحديث ثابتاً في الصحيح، فلا يفهم منه أن من سبق من الفقراء أفضل من الأغنياء؛ فإن دخول هؤلاء الفقراء الجنة قبل الأغنياء الذين حبسوا من أجل المال المحض، لا يلزم منه أن تكون درجة الفقير أعلى من درجة الغني، هذا إذا أخذ الحديث على ظاهره، أما إذا أريد بذلك مسائل أخرى في الأموال من المحرمات فهذا باب آخر، ولكن الحديث هو في المهاجرين، ولم يرد به صلى الله عليه وسلم أنهم يحبسون من جهة ذنوبهم.

أول من يدخل الجنة

أول من يدخل الجنة قال المصنف رحمه الله: [وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته]. ثبت في الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)، فهو أول من يستفتح وأول من يدخل الجنة، وأمته عليه الصلاة والسلام هم أول الأمم دخولاً الجنة، وهذا بعد دخول الأنبياء ولا شك؛ إذ لا يدخل أحد من الأمم قبل استيفاء الأنبياء دخولهم الجنة، فإن الله فضل الأنبياء على سائر وأفراد الأمم، فإذا استوفى الأنبياء الدخول وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، دخلت الأمم، وأول أمة تدخل هي أمة محمد، ولا يلزم من ذلك أن الأمة المحمدية تستوفي في الدخول ثم تدخل الأمم، وإنما المقصود هو ابتداء الدخول، وإلا فلا شك أن أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام ومن صح إيمانه من أصحاب الرسل والأنبياء هم أفضل من كثير من هذه الأمة، بل أفضل من أكثرها.

شرح العقيدة الواسطية [17]

شرح العقيدة الواسطية [17] من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة، وأنها أنواع، منها ما يختص برسول الله عليه الصلاة والسلام، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الملائكة والنبيين والمؤمنين، وأعظم أنواع الشفاعة: الشفاعة العظمى، التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي وعده ربه سبحانه وتعالى.

الشفاعة وأنواعها

الشفاعة وأنواعها قال المصنف رحمه الله: [وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه].

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى هذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى، ودليلها القرآن بظاهره، والسنة بصريحها، وإجماع أهل القبلة، فإن هذه المسألة حكي إجماع المسلمين عليها، وممن حكى إجماع المسلمين عليها الإمام ابن تيمية، فقد قال: إنها مجمع عليها بين سائر طوائف أهل القبلة، وهي الشفاعة العظمى بإجماع المسلمين، فضلاً عن السلف، ودليلها صريح السنة، بما ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه. وأما قولنا: وظاهر القرآن؛ فلأن القرآن ليس صريحاً في هذا، فهو لم يذكر هذه الشفاعة صريحة، وإنما الصريح هو اللفظ المفصل، وأما القرآن فإنه ذكر لفظاً مجملاً، وهو قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فهذا المقام المحمود هو الشفاعة، ولهذا ذهب جمهور المفسرين من السلف والصحابة ومن بعدهم -كما ذكره ابن عبد البر، وابن تيمية وابن جرير، وغيرهم- إلى أن المقام المحمود في القرآن هو الشفاعة العظمى، هذا هو المأثور في تفسير هذه الآية، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث الأذان. فيقال إذاً: إن دليل الشفاعة ظاهر القرآن، وصريح السنة، والإجماع القطعي، كما في حديث أبي هريرة، وكذلك جاء في البخاري وغيره عن أنس في سياق طويل؛ وفيه: أن الناس يأتون آدم فيعتذر، فيأتون نوحاً فيعتذر، فيأتون إبراهيم فيعتذر، فيأتون موسى فعيسى .. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: (فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه بشيء لم يفتح لأحد من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع). فهذه هي الشفاعة العظمى.

الشفاعة لأهل الجنة بدخولها

الشفاعة لأهل الجنة بدخولها قال المصنف رحمه الله: [وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له]. أما الأولى: فلا شك أنها خاصة به؛ لأنها مقام واحد، وهي شفاعته في فصل القضاء بين العباد، فيجاب بهذه الشفاعة، فينتهي الطلب؛ لأن الطلب هو الفصل والقضاء. أما الثانية: وهي شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة، فإن كان مقصود المصنف رحمه الله ابتداءها؛ بمعنى أنه أول من يتبدئ الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة؛ فهذا صحيح، ودليله بين. وأما إن كان المقصود أن الشفاعة بدخول الجنة تختص به، فلا يشفع أحد بعده في ذلك؛ فهذا مما لم يأت فيه نص صريح، والله أعلم.

الشفاعة لمن استحق النار أن لا يدخلها ولمن دخلها أن يخرج منها

الشفاعة لمن استحق النار أن لا يدخلها ولمن دخلها أن يخرج منها قال المصنف رحمه الله: [وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها]. شفاعته في من استحق النار أي: من المسلمين، وليس من الكفار، فإن الكفار قد قال الله عنهم: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وفي مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، هذه هي الشفاعة بنجاة الكافر من عذابه، بمعنى: أن من ترك التوحيد فإن الشفاعة لا تنفعه، ولا تجزي عنه شيئاً، ولذلك نجد في القرآن نفياً للشفاعة، ونجد في القرآن إثباتاً للشفاعة، كقول الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم:26] وفي غير موضع من القرآن ذكر الله الشفاعة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فهذا النوع من الشفاعة هو شفاعة الرسل والصالحين من المؤمنين، وشفاعتهم هي في أهل الكبائر من المسلمين. ولذلك لا يشفعون إلا إذا أذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له شرطه أن يكون مسلماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فإذا كان الله قد رضي عن المشفوع له بتحقيقه أصل التوحيد، فإنه يكون ممن ينال هذه الشفاعة، ولهذا لما قال أبو هريرة -كما في البخاري - للنبي صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). فمن استحق دخول النار فدخلها -وهو من المسلمين- فيمكن أن يخرج من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء والصالحين، فإن الإسلام العام يدخل فيه كل من أسلم من أمة محمد أو من غيرهم؛ قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78]، وفي تسمية إبراهيم: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67] إلى غير ذلك، فأهل الكبائر من المسلمين من أتباع الرسل يشفع لهم محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل، ويشفع لهم الصالحون من الأمم، فهذه الشفاعة لمن دخل النار متفق عليها بين السلف، ودليلها صريح ومتواتر. وأما الشفاعة لمن استوجب دخول النار قبل أن يدخلها، فدليلها العمومات، ولم يثبت فيها نص مفصل، إلا في أحاديث ليست من جهة الصحة منضبطة، وقد نبه على هذا ابن القيم وجماعة، لكنها مما يدل عليه العموم، وبطريق الأولى، فإن الرسل إذا شفعوا فيمن دخل النار، فمن باب أولى أن تكون الشفاعة فيمن استوجب دخول النار؛ لأن من استوجب دخول النار أقرب إلى الصلاح والتقوى ورضا الله سبحانه وتعالى واتباع السنن النبوية ممن دخل النار، فهذه الشفاعة لا ينبغي أن يتردد فيها كما تردد البعض، وعلل ذلك بعدم ثبوت دليلها، ولذلك أقول: بل دليلها منضبط، وهو العمومات، فإنهم من أهل الكبائر، والشفاعة لأهل الكبائر ثابتة بصريح السنة.

إخراج الله سبحانه أقواما من النار بغير شفاعة

إخراج الله سبحانه أقواماً من النار بغير شفاعة قال المصنف رحمه الله: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته]. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يغفر لقوم من المسلمين ما هو من ذنوبهم، فلا يستتم عذابهم، لا بشفاعة أحد، وإنما بمحض فضله سبحانه وتعالى ورحمته، فإن كل من يخرج من النار ممن دخلها إنما يخرج منها بفضل الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن التعبير الصواب أن لا يقال: إن من دخل النار يخرجون منها بالشفاعة أو إذا استوفوا عذابهم، فإنه لا أحد يستوفي ما يستحقه من العذاب؛ لأن كل من يخرج من النار من أهل الكبائر من موحدة المسلمين يخرجون بفضل من الله، ومن فضله سبحانه وتعالى أنه يأذن بالشفاعة للأنبياء والرسل والصالحين وللملائكة. وكل من خرج من النار حتى الذين يخرجهم سبحانه وتعالى بفضله ورحمته، ليس معنى هذا أنهم قد استوفوا سائر ما يتعلق بهم من العذاب، فإنهم لو بقوا في النار زيادة على ذلك فلن يكون ذلك ظلماً. ولذلك يخرج الله سبحانه وتعالى بفضله أقواماً من النار، ففضله سبحانه ورحمته تلحق جميع المسلمين، برهم وفاجرهم، حتى من دخل النار، وحتى من لم تنله الشفاعة، فإنه يلحقه فضل من الله، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إن رحمتي سبقت غضبي). فالتعبير الصواب: أن لا يقال: من استوفى العذاب وجوزي على سائر عمله وسيئته، فإن هذا ليس في النصوص ما يدل عليه، وهو خلاف الأصل، فإن الأصل أن رحمته سبحانه سبقت غضبه، وأن الجميع بفضله ورحمته؛ لأن القرآن يقرر أن الله لو عذب الخلق وعاجلهم بعذاب في الدنيا لما كان ظالماً لهم، فكذلك في مقام الآخرة؛ فإن العذاب عدل، والثواب والجزاء بالخير فضل منه سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله: [ويبقى في الجنة فضلٌ عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة]. يبين المصنف رحمه الله هنا: أن الجنة يبقى فيها فضل، أي يبقى بها مكان لم يستوفه المسلمون، فينشئ الله سبحانه وتعالى خلقاً الله أعلم بماهيتهم، فيدخلون الجنة، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى على هذا الخلق الذي ينشئه. وأما النار فإنه لا يخلد فيها ولا يبقى فيها إلا من كفر بالله سبحانه وتعالى، وجهنم تمتلئ، كما ثبت في الصحيح وغيره. وهذه الأصول -وهي ما يتعلق بمسألة الشفاعة- متفق عليها بين أهل السنة والجماعة، والمخالفون في مسألة الشفاعة هم الخوارج والمعتزلة ومن يوافقهم في هذا الباب من الشيعة. فإن الخوارج والمعتزلة ينفون الشفاعة لأهل الكبائر؛ وذلك لأن مرتكب الكبيرة عند الخوارج والمعتزلة مخلد في النار، وقد استدلوا على نفي الشفاعة في حق أهل الكبائر بالآيات المذكورة في القرآن في حق الكفار، كقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، فحملوا هذه الآية على أهل الكبائر. وهذا ليس في محله؛ لأن هذه الآية في قوم كفار، وأهل الكبائر هم من أهل الإسلام، وممن ثبت إسلامهم ودينهم كصريح دين المسلمين، وإلا للزم من ذلك أن جماهير المسلمين ليسوا من المسلمين، فإن المستقيمين على أمر الله الذين لم يقترفوا كبيرة ولم يأتوها هم القلة القليلة من الناس. فالمقصود من هذا: أن الخوارج والمعتزلة ومن يوافقهم ينفون الشفاعة لأهل الكبائر، ويرون أنهم مخلدون في النار، وهذه من البدع المغلظة التي اختص بها هؤلاء عن طوائف المسلمين. قال المصنف رحمه الله: [وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم المورث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده]. أشار المصنف لأخص الجمل، وأما التفصيل لباب اليوم الآخر وما يتعلق به، كالثواب والعقاب، فهذا مفصل في الكتاب والسنة والكتب المنزلة من السماء، أي: الكتب السماوية المنزلة على الرسل، كالمنزل على موسى وعيسى وداود وإبراهيم، وغيرهم من الأنبياء.

شرح العقيدة الواسطية [18]

شرح العقيدة الواسطية [18] من أركان الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره، وأهل السنة والجماعة وسط في مسألة القدر بين طائفتين مخالفتين في هذا الباب، وهما: القدرية، والجبرية. أما القدرية: فقد كفروا بالقدر وقالوا بخلق العباد لأفعالهم. وأما الجبرية: فقد سلبوا العباد قدرتهم على الفعل، وقالوا بأنهم مجبورون على أفعالهم.

من أصول أهل السنة: الإيمان بالقدر خيره وشره

من أصول أهل السنة: الإيمان بالقدر خيره وشره قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين]. هذا الأصل -وهو القدر- هو من أخص أصول الإيمان والتوحيد، فإنه قول في ربوبية الله سبحانه وتعالى، مع ما هو متعلق به من شرعه سبحانه وتعالى الذي هو عبادته وتوحيده، وسوف يأتي في أصول أهل السنة والجماعة ما يبين ذلك. وفي هذا الأصل ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن الخلاف في مسألة القدر إنما وقع في آخر عصر الصحابة، ومن أدرك هذه البدعة من الصحابة كـ عبد الله بن عمر وأمثاله قد تبرءوا من القدرية، حتى إن ابن عمر لما سأله يحيى بن أبي كثير قال: (فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني منهم بريء وهم مني براء، والذي يحلف به ابن عمر لا يقبل من أحدهم عمل ولو أنفق مثل أحد ذهباً حتى يؤمن بالقدر)، ومع أن البدعة في القدر ظهرت في آخر عصر الصحابة وبعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، إلا أن كثيراً من الأقوال البدعية المقولة في القدر لم تظهر إلا بعد انقضاء عصر الصحابة كلياً، بمعنى: أن ما ظهر في آخر عصر الصحابة هو بعض أقوالهم، وأما تفاصيل هذه الأقوال وما قابلها فإنه حدث بعد ذلك، وعليه فإن الحكم الذي قاله من قاله من الصحابة في هؤلاء لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً في سائر الأقوال التي ظهرت في مسائل القدر. المسألة الثانية: الأصول المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وعند سلف هذه الأمة في هذا الباب، وهي أصول سبعة، أشار المصنف رحمه الله إلى أكثرها. المسألة الثالثة: الطوائف المخالفة للسلف في باب القدر، وهم في الجملة طائفتان: قدرية، وجبرية، والقدرية غلاةٌ ودونهم، والجبرية غلاةٌ ودونهم، فهذا في الجملة هو جامع هذه المسألة.

أصول الإيمان بالقدر

أصول الإيمان بالقدر مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر يقوم على تحقيق سبعة أصول:

الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء

الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء: علمه بما كان، وبما سيكون، وبما لم يكن. وقد دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى: علمه بأفعال العباد قبل وقوعها، وهذا المعنى هو الذي ينازع فيه غلاة القدرية الذين ينازعون في عموم علم الرب بأفعال العباد قبل كونها، ويزعمون أنها تعلم عند كونها. فالأصل الأول: إيمان أهل السنة والجماعة بعموم علم الرب سبحانه وتعالى بكل شيء، وأنه دخل في عموم علمه سبحانه علمه بأفعال العباد قبل كونها. وهذا الأصل -وإن قيل أنه من أصول أهل السنة والجماعة- فإنه لا يفهم من هذا أن طوائف المسلمين يخالفون في هذا الأصل، فإن الأصول المقولة عند السلف لا يلزم بالضرورة أن يخالفها كل أصناف أهل البدع، وهذا الأصل لا يخالفه أحد من أهل البدع الذين هم من أهل القبلة؛ فكل من تحقق انتسابهم إلى القبلة قد أجمعوا على أن هذا الأصل أصل محكم، وإنما نقلت المنازعة في هذا الأصل عن غلاة القدرية، الذين قالوا: إن الله -سبحانه وتعالى عن قولهم- لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، أي: عند وجودها، فلا يعلمها قبل كونها. هذا القول منقول عن غلاة القدرية، وليس هناك ضبط عند أهل المقالات لأعيان هؤلاء، وإنما هو قول ذكره بعض أهل العلم وأهل المقالات أن هذا يقول به الغلاة من القدرية. وهؤلاء الغلاة من القدرية ليسوا من المسلمين، بمعنى: أن زعمهم للإسلام هو من باب النفاق، بل إنهم كفار، وليس لهم من الإسلام حظ، وليسوا في عداد أهل القبلة، وهذا معنىً متحقق بالإجماع حتى عند القدرية المعتزلة الذين يوافقون السلف في هذا الأصل، ولكنهم ينفون خلق الله لأفعال العباد، فإن المعتزلة قد نصوا على أن من أنكر علم الرب بأفعال العباد قبل كونها، فإنه كافر. إذاً: كفر هؤلاء الغلاة مجمع عليه بين المسلمين من أهل السنة وغيرهم حتى القدرية منهم، ولذلك فهؤلاء القدرية الغالية، وإن شاركوا المعتزلة نوع مشاركة في مسألة القدر إلا أنهم ليسوا منهم، بل هؤلاء قوم من الزنادقة الذين ادعوا الإسلام وانتسبوا إليه من جنس انتساب عبد الله بن أبي وأمثاله، ولكن ابن أبي نفاقه من جهة، وهؤلاء نفاقهم من جهة أخرى. فالمقصود أن القدرية الغلاة ليسوا من المسلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام في غير موضع أن قولهم هذا اندثر في الجملة، بل هذا من أقوال الكفار.

الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه كتب في الذكر كل شيء

الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه كتب في الذكر كل شيء الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، فما من شيء من أفعال العباد يكون منهم إلا وقد كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقهم، وهذا الأصل مجمع عليه -في الجملة- بين المسلمين. وإنما قُيد السياق بهذه الكلمة (في الجملة) من جهة أن الكتابة تختلف عن الأصل الأول من وجه، وهو: أن الأصل الأول -وهو عموم العلم- أصل فطري عقلي سمعي، بمعنى: أن الله تعالى فطر العباد على أنه بكل شيء عليم، وهذا من أول أصول الربوبية الفطرية. وهو كذلك أصل سمعي من جهة أن النصوص نطقت بتفصيل علمه، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:59] الآية، فعلمه عام بالكليات والجزئيات، لا كما يقول كفرة الفلاسفة: أنه لا يعلم الجزئيات. وهو كذلك أصل عقلي، أي: ثابت بدليل العقل، بخلاف الكتابة: أنه سبحانه كتب في الذكر كل شيء، فهذا الأصل إنما هو أصل سمعي، أي: دل عليه الكتاب والسنة. وإذا قيل: إنه سمعي، فلا يعني أن العقل والفطرة ينفيانه، وإنما المقصود أن العقل والفطرة لا يبتدئان في إثباته قبل ورود السمع، بخلاف الأصل الأول، فإن الفطرة والعقل يبتدئان إثباته قبل ورود السمع. ولهذا فقد كان يقر به المشركون إقراراً فطرياً بما سلم من فطرتهم، أو إقراراً عقلياً. وذلك بخلاف الكتابة، فإنها أصل سمعي، ولكن من المعلوم أن الأصل السمعي الذي جاءت به النصوص لا يمكن أن يكون معارضاً أو منافياً للعقل أو الفطرة، لكنها لا تدل عليه ابتداءً، فهذا هو الفرق بين هذين الأصلين. ولما كان هذا الأصل عن الكتابة أصلاً سمعياً، قيل: إن جميع فرق أهل القبلة من المسلمين يقرون به في الجملة. وبين السلف وجمهور الطوائف فرق من جهة التحقيق عند السلف؛ فإن هذا الأصل له قدر كلي في النصوص، وله قدر مفصل، ومفصله في السنة أكثر منه في القرآن، فهذه المفصلات عن الكتابة في السنة النبوية، من المعلوم أن أئمة السنة والجماعة أولى بها من غيرهم من جهة علمهم بها، ومن جهة تحقيقهم لهذا العلم، بخلاف غيرهم فإنه قد يتكلم في ثبوتها أو ما إلى ذلك. إذاً: هذا الأصل من جهة عمومه محل إجماع، وأما من جهة تفاصيله فإن بعض الطوائف تتأخر عن تحقيق بعض التفاصيل لعدم علمها، أو لفساد قواعدها المتعلقة بأخبار الآحاد. فهذا هو الأصل الثاني، وهو الإيمان بعموم كتابته، وقد دخل فيما كتب: كتابته سبحانه وتعالى لأفعال العباد؛ وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).

الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى

الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى ِوإنما تذكر كلمة (عموم) في هذا الأصل؛ لأن الخلق من جهة أصله ليس فيه نزاع، فحتى الكفار يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق، فلذلك يقال: الأصل الثالث عند أهل السنة: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى. وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى لكل شيء: خلقه لأفعال العباد، فهو الخالق لها، وقد نازع في هذا الأصل القدرية بعامة، أي: جملة القدرية من الغلاة وغير الغلاة. أما الغلاة فقد سبق أنهم قوم من الزنادقة، وأما غير الغلاة فهم أئمة المعتزلة، فإنهم هم الذين ابتدءوا القول في هذه المسألة على هذا الوجه، وتبعهم من تبعهم من الشيعة، فإنه غلب على الشيعة ولا سيما الرافضة منهم أنهم قدرية في باب القدر. وكذلك فمن تأثر بهذا الأصل -أن الله لم يخلق أفعال العباد- بعض رجال الإسناد من أهل العلم، فإن هذا قد نقل عن بعض رجال الإسناد، وقد قال الإمام أحمد: (لو تركنا الرواية عن القدرية تركناها عن كثير من أهل البصرة)، فهذا النوع من رجال الإسناد تأثروا بهذه المقالة، ولكن في هذا النوع من أهل العلم ينبه إلى أن قولهم ليس هو قول المعتزلة، وإن كانوا قد يشاركونه في جملته الكلية، وجملته الكلية هي: أن أفعال العباد ليست من خلق الله سبحانه وتعالى، لكن دليل هذا القول عند المعتزلة ليس هو دليل هذا القول عند هؤلاء، فهم مخالفون لهم في أصل هذا القول، الذي هو مبناه ودليله، ومخالفون لهم في تفاصيل مسائله، فإن القدرية المعتزلة المتكلمة -أي: أصحاب علم الكلام- قد ضلوا في هذا القول من جهات: من جهة قدره الكلي الذي يشاركهم فيه بعض رجال الإسناد، وضلوا في هذا القول من جهة مبناه، فإنهم بنوه على الأصول الكلامية العقلية في زعمهم، وضلوا في هذا الأصل من جهة التفاصيل العلمية التي رأوها مستلزمة لهذا القول في مسائل التكليف، ومسائل التحسين والتقبيح، وما يتعلق بذلك. إذاً: هذا القول وإن نقل عن بعض رجال الإسناد من البصريين إلا أن قول هؤلاء الذين لم ينتحلوا علم الكلام والأصول الكلامية ليس هو بتمامه قول المعتزلة وأمثالهم من المتكلمين، بل هناك اشتراك مجمل، وثمة فروق من أوجه متعددة. وهذا الفرق الذي ذكر إنما يختص برجال الإسناد من البصريين وغيرهم. وأما الشيعة الذين أخذوا هذا القول عن المعتزلة، فهؤلاء نقلة لهذا القول، فمادتهم فيه هي مادة المعتزلة، وأصولهم فيه هي أصول المعتزلة، والشيعة الرافضة في الأصل ليسوا من أهل العلم في علم الكلام، إنما تلقفوا علم الكلام والأدلة العقلية وما يتعلق بذلك عن المعتزلة، ولا سيما المعتزلة البغداديين؛ لأن معتزلة بغداد كانوا مائلين إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكانوا يتشيعون له من جهة الانتصار له، ومن جهة التفضيل، أو الانتصار لحربه، أو ما إلى ذلك. فلما كان عندهم هذا القدر من الميل إلى التشيع، وإن لم يكونوا شيعة محضة -أعني: معتزلة بغداد وبعض المعتزلة من غيرهم- صارت الشيعة تتلقف أقوالهم، فنقلوا عنهم بعض معتقداتهم، وأخص ما نقلوا عنهم في مسائل الأصول العلمية هو في أصلين: في الصفات، وفي القدر؛ فما يوجد في كتب الشيعة الإمامية عن هذين الأصلين إنما هو نقل عن المعتزلة، وإلا فالشيعة ليسوا من أهل العلم في هذا الباب، وليسوا من أهل العلم بالعقليات؛ لأن مبادئهم تقوم على مسائل العصمة والتسليم المطلق بأقوال الأئمة؛ فمبادئهم من جنس طرق الصوفية الغالية الذين لا يعتبرون مسائل النظر اعتباراً متيناً، ولهذا ليسوا من أهل الإسناد، ولا من أهل العقليات، وإنما أخذوا مادة العقليات من المعتزلة وتأثروا بهم، وما يوجد في بعض كتبهم من قوة الجدل العقلي فهو -في الغالب- محصل من كلام المعتزلة، فإنهم نقلوا عنهم في أصل الصفات وأصل القدر. فهذا الأصل الثالث من أصول أهل السنة -وهو الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى- يخالف فيه القدرية من المعتزلة وغيرهم، فيقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد.

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئته سبحانه وتعالى، وأنه دخل في عموم مشيئته مشيئته لأفعال العباد، فهو سبحانه شاء أفعال العباد مشيئة ربانية كونية. وهذا الأصل يخالف فيه المعتزلة والقدرية بعامة على ما سبق في الأصل الثالث.

الأصل الخامس: الإيمان بعموم حكمة الرب سبحانه وتعالى

الأصل الخامس: الإيمان بعموم حكمة الرب سبحانه وتعالى الأصل الخامس: الإيمان بعموم حكمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه دخل في حكمته ما يتعلق بأفعال العباد، فإن هذه الأحوال التي عليها الناس هي مقتضى حكمة الرب سبحانه وتعالى وعدله وقضائه، وإن كان يقع من الناس ما هو شر وفساد فإن هذا باعتبار مبدئه، أما منتهاه فإنه يكون مطابقاً للحكمة. وإذا اعتبر الشر والفساد قبل النظر في مبدأ هذا الشر ومنتهاه تعذر على العقل أن يعلم أن هذا من الحكم الفاضلة، لكن إذا اعتُبر مبدؤه من جهة التكليف والتشريع، وتكليف العباد واختبارهم، ومنتهاه من جهة الثواب والعقاب، صار المجموع على وفق الحكمة وعلى وفق العقل. وهذا معنى قولنا: إن جميع ما يقع في هذا الكون هو مقتضى حكمة الرب سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص المنافي للحكمة؛ ولهذا نفى سبحانه وتعالى أن يكون في خلقه شيءٌ خلقه لهواً ولعباً، إنما خلقه سبحانه وتعالى هو من الحكمة التي اقتضاها مقام صفاته سبحانه وتعالى.

الأصل السادس: الإيمان بأن العباد لهم إرادة ومشيئة قائمة بهم

الأصل السادس: الإيمان بأن العباد لهم إرادة ومشيئة قائمة بهم الأصل السادس: الإيمان بأن العباد لهم إرادة ومشيئة قائمة بهم، ولها اختصاص من جهة وجود الفعل من عدمه، أي: أنها إرادة مؤثرة في وجود الفعل وعدمه، ولو لم توجد هذه الإرادة من العبد لما وجد فعله، ففعل العبد هنا ماهية مركبة من إرادته وحركته. ولهذا إذا قيل: فعل العبد هل هو متعلق بإرادته؟ قيل: ما هو الفعل؟ فإنك إذا رجعت إلى العقل وجدت أنه يفرض أن الفعل شيء مستقل، ولكن فرض العقل ليس معتبراً، أما إذا رجعت إلى تصور العقل؛ فإنك تجد أن العقل لا يتصور الفعل إلا ماهيةً مركبةً من الإرادة والحركة، ولهذا يمتنع وجود الحركة من غير إرادة؛ إلا إذا كانت الحركة حركة اضطرارية؛ كحركة النائم مثلاً؛ على رغم أن البعض جعل للنائم إرادة تناسب حاله في النوم. والمقصود: أن الأفعال التي هي مناط العباد وما يتعلق بتكليفهم، هي جميعها متعلقة بإرادتهم ومشيئتهم، والعبد إرادته هذه مؤثرة في وجود الفعل من عدمه؛ لأنها من ماهيته فعلاً، ولكن هذه الإرادة وإن كانت مختصة من جهة تعلقها بفعل العبد أو عدمه، إلا أنها ليست مستقلة بالتأثير، بل تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله هو الخالق للعباد، وهو الخالق لإرادتهم ومشيتئهم.

الأصل السابع: إحكام القول في القدر مع الشرع

الأصل السابع: إحكام القول في القدر مع الشرع الأصل السابع: أن أهل السنة والجماعة يحكمون القول في القدر مع الشرع، فإن التوحيد أصله علم وطلب، وهذا هو التقسيم الذي يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فما يتعلق بتوحيد الربوبية هو توحيد العلم، ويدخل فيه الأسماء والصفات، وإن كان بعض أهل العلم من أئمة الدعوة وغيرهم ممن قبلهم يميزون الأسماء والصفات لاختصاص المنازع فيها، وهذا من التقاسيم السائغة. فالمقصود: أن التوحيد علم وطلب .. فالعلم هو معرفة الله، والطلب هو عبادته بما شرع، فيقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة: الجمع بين مقام الشرع والقدر، والجمع بين معرفته سبحانه وتعالى وعبادته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان الذي بعثت به الرسل هو معرفته سبحانه وعبادته بما شرع). وليس هناك طائفة اختصت بالمخالفة في مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وإنما ثمة طوائف غلت في مقام الشرع، وقصرت في مقام القدر، وثمة طوائف غلت في مقام القدر، وقصرت في مقام الشرع. أما من غلا في مقام الشرع وقصر في مقام القدر فهم: المعتزلة وأمثالهم؛ فإن المعتزلة كانوا معظمين إلى درجة الغلو في الأمر والنهي، من جهة أنهم يرون أن من ترك واجباً تركه كبيرة فإنه يكون قد عدم الإيمان، ويكون مخلداً في نار جهنم، فهذا من باب الغلو في الأمر والنهي، مع أن المعتزلة عندهم تقصير في باب القدر، من جهة أنهم قدرية نفاة للقدر، أي: نفاة لخلق الله لأفعال العباد، نفاة لمشيئة الرب لها. فهم لم يجمعوا بين مقام الشرع ومقام القدر، بل مالوا إلى الغلو في الشرع، وأسقطوا مقام القدر، وإذا قيل ذلك فلا يظن أنهم كفروا به من كل وجه، وإنما أسقطوا التحقيق له. وهناك من يكون عنده غلو في باب القدر وإسقاط لما هو من الشرع، وهذا لا يقع مذهباً لقوم من النظار، وإنما يقع في بعض الطوائف من جهة أعيانهم، حتى من أهل السنة والجماعة؛ كمن يحتج على معاصيه بالقدر؛ فإن هذا قد بالغ في مقام القدر حتى جعله عذراً في معاصي العباد، وأسقط به مقام الشرع. فمن غلا في مقام القدر إلى أن جعله موجباً لسقوط أحكام الشريعة أو المؤاخذة عليها، فهذا ممن لم يحقق الجمع بين الشرع والقدر. فهذا هو الأصل السابع من أصول أهل السنة والجماعة، وهو الجمع بين مقام الشرع والقدر، وهم في ذلك وسط بين هؤلاء وهؤلاء. وممن يغلو في مقام القدر ويُسقط به ما هو من الشرع، لا على سبيل التعيين كحال الفجار من العصاة الذين يفجرون ويأتون الكبائر ويعتذرون بالقدر: بعض الطوائف من الصوفية، أصحاب الفناء، والفناء عند الصوفية يأتي على ثلاثة أوجه: الفناء عن وجود السوى، وعن إرادة السوى، والفناء عن شهود السوى. والفناء الذي يذكر أهل العلم كـ شيخ الإسلام أنه من الفناء الشرعي، إنما ذلك باعتبار معناه، وإلا فاللفظ صوفي، وهو الفناء عن إرادة السوى، أي: أنهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله. أما الفناء عن شهود السوى ووجوده فهو فناء الصوفية المنحرفة عن السنة والجماعة: إما انحرافاً غالياً إلى حد مادة الكفر؛ كفناء الوجودية الصوفية كـ ابن عربي وأمثاله، الذين عندهم فناء عن وجود السوى، وإما فناء عن شهود السوى بما هو من إسقاط بعض مقامات الشرع، وهذا يقع في كلام بعض الصوفية الذين لا يصلون إلى حد ابن عربي وأمثاله، كـ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، ومن ذلك قوله: (إن من شهد هذا المقام -مقام القدر والربوبية- لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة)، مع أن الهروي رحمه الله لا يلتزم بطرد أصله في مسألة القدر على مسائل التشريع كطرد الباطنية الذين يسقطون التشريع بالأعيان. فيوجد في كلام هؤلاء مادة من الغلو في القدر وإسقاط ما هو من الشرع، وقولهم ليس منتظماً كقول المعتزلة، ولكنه مادة شائعة في كلام الصوفية، وهم فيها على درجات. وفي الغالب: إذا تكلمت مع المتكلمين تستطيع أن تضبط أقوالهم؛ لأن أقوالهم في الغالب تأتي على التعيين، وأما إذا تكلمت مع الصوفية، فإنه في الغالب يتعذر الضبط لأقوالهم؛ لأن مادتهم تقوم على المراميز (الرموز)، وعلى الإشارات، وعلى الإفصاح وعدم الإفصاح، وغير ذلك. ولذلك قد يتكلم بعضهم بحرف يتكلم به الآخر، ويكون مقصود الأول بهذا الحرف غير مقصود الآخر. فالصوفية لا يفسر كلامهم على وجه واحد، بل لابد من اعتبار درجة المتكلم، فقد يختلف الصوفية في تفسير الحرف. وبعض من يدرس كلام بعض الصوفية المقتصدة (المعتدلة) في كثير من المسائل، قد يرى في كلامهم بعض الأحرف التي تكلم بها الغلاة منهم وفسروها، فيفسر كلام هذا المقتصد بما فسر به ذاك الغالي هذا الحرف؛ لأن الحرف حرف واحد، وذلك كلفظ (الفناء) -وهذا من أقرب الأمثلة- فالفناء مستعمل في كل درجات الصوفية، فكل طبقات الصوفية يتكلمون بحرف الفناء، لكن ابن عربي والتلمساني إذا تلكموا في الفناء فمعناه عندهم شديد، وإذا تكلم عنه أمثال الهروي فمعناه دون ذلك، وإذا تكلم به الجنيد بن محمد فمعناه دون ذلك بكثير. فالمقصود: أن الحرف الواحد ليس ملزماً، ولا يفسر في الغالب بمادة واحدة.

الطوائف المخالفة في باب القدر

الطوائف المخالفة في باب القدر الطوائف المخالفة في باب القدر طائفتان: القدرية والجبرية.

القدرية

القدرية القدرية غلاة، وقد سبق أنهم ليسوا من المسلمين، وإنما يسمون بهذا المذهب لكفرهم بالقدر، ودونهم -وهم المعتزلة- الذين يقولون: إن الله علم أفعال العباد -فيقرون بالأصل الأول- وكتبها، فيقرون بالأصل الثاني إجمالاً؛ لأنهم قد يقصرون في تفصيل الكتابة الواردة في السنة، ولكنهم يقولون: إن الله لم يخلقها ولم يشأها، وهل يقولون: إن العبد هو الخالق لفعله؟ المعتزلة لهم ثلاثة أقوال: منهم من يسكت عن هذا السؤال، ومنهم من يقول: إنه لا يقال: إن العبد خلقها، ومنهم من يقول: إن العبد خلقها. وكل الأقوال مشكلة في نفسها، فإن من سكت فإنه سكت عن السؤال اللازم، والسكوت عن السؤال اللازم عن القول ممتنع، فإنه يدل على فساد القول نفسه، أو على امتناع العلم في القول نفسه، فالجهل هنا ليس محتملاً؛ لأنه يستلزم الجهل بالأصل الملازم له. ومن قال: إن العباد خلقوها، فهذا هو الغلط البين من جهة أن الله هو الخالق لكل شيء. ومن قال: إنه لا يقال: إن العباد خلقوها، مع قوله: إن الله لم يخلقها، فهذا قول متعذر؛ لأنه يستلزم وجود ما له ماهية ووجود بدون خالق له. فهؤلاء هم المعتزلة، وقد أخذ من مادة قولهم بعض رجال الإسناد، والذين سبق بيان ما في قولهم من الامتياز عن قول المعتزلة، وإن كان هؤلاء -أي: بعض رجال الإسناد- ليسوا هم كبار الأئمة المحدثين، وإنما هم من آحاد الرواة، ولذلك لم ينضبط القول بمذهب القدرية -أي: أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يشأها- عن إمام من أئمة الحديث أو أئمة الفقه الكبار، وإن كان هذا القول نسب إلى أبي حنيفة، إلا أنه كذب عليه، ونسب إلى الحسن البصري، وهو كذب عليه وليس من أقواله، بل كان من أشد الناس على القدرية، ومع ذلك نسب إلى الحسن البصري، وهناك رسالة منسوبة إلى الحسن البصري، والأظهر فيها أنها من كتابة بعض الشيعة الذي كانوا يقولون بهذه الطريقة، ونسبوها إلى الحسن البصري رحمه الله.

الجبرية

الجبرية الطائفة الثانية: وهي الجبرية، وهم الذين يقولون: إن العباد مجبرون على أفعالهم، وهؤلاء الجبرية غلوا في الأصول الأربعة الأولى، ولا سيما في الأصل الثالث والرابع، حتى سلبوا العبد قدرته ومشيئته وإرادته، فينكرون الأصل السادس الذي هو: أن العباد لهم مشيئة وإرادة مختصة في وجود الفعل من عدمه، ويقولون: إن العبد ليس له إرادة بل هو مجبور على فعله، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، وهو مهجور عند جهور طوائف المسلمين فضلاً عن سواد العامة، وإنما تأثر به من تأثر لما استقى من مادة هذا القول بعض متكلمة الصفاتية، وأخصهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، فإن الأشعري لما رجع عن قول المعتزلة ومذهبهم -والمعتزلة قدرية في باب القدر- رجع إلى مذهب كان يظن أنه مذهب السنة والجماعة، وهو ما سماه الأشعري في كتبه بمذهب الكسب، والكسب حرفٌ قرآني، أما الجبر فليس حرفاً قرآنياً، فليس في القرآن أن أفعال العباد جبر، لكن في القرآن أن أفعال العباد كسب، كقول الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فهي كسب للعباد، ولكن الأشعري أقام على لفظ الكسب وفسره بما هو فاسد في معناه، فصارت حقيقته الجبر، فيؤخذ على الأشعري في اللفظ والمعنى. أما في اللفظ: فيؤخذ عليه إقامته عليه، فإنه إذا ذكر مسألة القدر قصرها على هذا الحرف، مع أن القرآن في أفعال العباد فيه حروف كثيرة، وإنما اجتنبها الأشعري لأن مادتها تشكل على مادته، فكان يقصد إلى عدم ذكرها هو وأكثر أصحابه، فيؤخذ عليهم إقامتهم على هذا الحرف من جهة وتركهم للحروف والألفاظ الأخرى؛ هذا من جهة اللفظ. أما من جهة المعنى: فإن الأشعري فسر الكسب تفسيراً منغلقاً حتى على كثير من أصحابه، وقد صرح بأنه منغلق، والمحصل من هذا التفسير أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها مسلوبة التأثير، وهذا لا بد أن يكون جبراً. وقد صرح بأن هذا جبر جماعة من أهل العلم كـ شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن إذا أردت مقام الرد، وقلت: إن شيخ الإسلام قال: إنه جبر، فإن المخالف في هذا قد لا يكون مستجيباً؛ لأن المفسر لقوله إمام خارج عن مذهبه، فيكون الأقوى هنا إذا وجد في كلامهم من يلتزم بهذا اللازم من جهة الحروف. وقد صرح الشهرستاني في كتبه، وكذلك محمد بن عمر الرازي في المطالب العالية، أن مذهبهم في هذا الذي ذكره الأشعري جبرٌ متوسط، فليسوا جبرية غالية، وهذا القول الذي قاله الرازي والشهرستاني صحيح، فإنهم ليسوا جبرية غالية من جنس غلو جهم بن صفوان. وكما أن ثمة فرقاً بين رجال الإسناد والمعتزلة، فثمة فرق بين الأشعرية وجهم بن صفوان، وإن كان الأشعرية أنفسهم قد صرحوا بأن قولهم هذا جبر، ولكنهم قالوا: جبر متوسط. فالمقصود: أن هذا القول حقيقته أنه جبر. وقد تقلد هذا القول بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأصحاب مالك الذين تأثروا بمذهب أبي الحسن الأشعري في مسألة القدر، فقول الأشعري في القدر هو قول منغلق، ومادته في نفس الأمر هي مادة جبرية، وإن كان حرفه من الأحرف القرآنية. فهذه هي الطوائف المخالفة للسلف في باب القضاء والقدر.

درجات الإيمان بالقدر

درجات الإيمان بالقدر

الدرجة الأولى: العلم والكتابة

الدرجة الأولى: العلم والكتابة قال المصنف رحمه الله: [فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق]. الفلاسفة يقولون: إن الله لا يعلم الجزئيات، فهؤلاء كفار، وهم لم يكونوا يتكلمون عن الرب الخالق للسماوات والأرض رب العالمين، الذي فطر الله سبحانه وتعالى العباد على الإيمان به، ونزلت الكتب السماوية معرفة به؛ بل كان لهم طرق أخرى في تحقيق الآلهة وما إلى ذلك، فهم يقولون: لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الكليات، فقولهم هذا بين الهجر، وهو من الكفر، كما قال أبو حامد الغزالي، فضلاً عن أئمة السنة. لكن أحياناً يوجد في كلام بعض أهل العلم من التفصيل في مسائل القدر ما ليس محموداً. وقد ذكرنا -بناءً على المنهج الذي ذكرناه سابقاً- أن مسائل أصول الدين الغيبية، والعقائد، وأفعاله سبحانه وتعالى لا ينبغي كثرة إيراد الأسئلة عليها، وإن كان السؤال قد يكون وراداً على كثير من الأذهان، فإن وروده على كثير من الأذهان لا يعني أنه سؤال مشروع أو سؤال صحيح، أو سؤال يمكن العلم به والجواب عنه، فكل هذا ليس بلازم. ابن القيم رحمه الله في مناظرته بين السني والقدري افترض مناظرة ليست حقيقية، فبدأ يورد أسئلة لتحقيق صورة المناظرة، فأحياناً يأتي ببعض الأسئلة التي يفرضها على لسان القدري، ثم يورد كلاماً هو جواب السني، وبعض التزامات ابن القيم في جواب السني ليست محكمة. فمثلاً: قوله: (إرادة الله لأفعال العباد)، هل هو مريد لكل همسة ولمسة وحركة من أفعالهم، أم أنه مريد سبحانه وتعالى للفعل جملة، أم أنه مريد لجنس الفعل؟ ثم قال: (إن الماء إذا كان يجري فالنهر يجري بإرادة الله، لكن لا يلزم أن كل جرية بعينها وكل نقطة من هذا الماء بعينها تكون متعلقة بإرادة مختصة)، وقال: كالرجل إذا حمل العبل من الحب، فهو حامل لكل حبة وإن كان لم تعقل إرادته بكل حبة على حدة، وبدأ يأتي بالمسألة من هذه الأوجه، ويديرها من هنا وهناك. والصواب: ترك هذا الكلام؛ لأن من فطرة البشر إذا قيل: هذا الشيء مرادٌ لهذا المعين، أن يفهموا ذلك بالفطرة؛ لأن كل أمرهم أصلاً هو الإرادة، فإذا قيل: إن هذا الكأس جاء هنا بإرادة فلان من الناس، لم يحتج ذلك إلى التفصيل: كيف جاء؟ وهل كل أجزائه من الكأس؟ وهل الماء هو الكأس؟ وهل الكأس دون الماء؟ وهل جاء الماء قبل الكأس؟ وكأن هذا مشكلة القدرية مع أهل السنة. وأنا لا أنتقد الإمام ابن القيم، فهو إمام معروف شأنه وعلمه، لكن المقصود من ذلك: أن كلاً يؤخذ من قوله ويرد. وطالب العلم الفقيه الفاضل يعظم أهل العلم، لكنه يتجنب بعض هذه الطرق، وأنا أشير إلى هذا لأن الناشئين المقبلين على طلب العلم، لو كان عندهم منهج محكم من جهة العلم والتربية في طلب العلم، لكان لديهم مناعة -إن صح التعبير- عن مثل هذه الأشياء، ولما كان التنبيه إلى ذلك مقصوداً، لكن لأن كثيراً من الشباب يهتمون بهذا الزغل من العلم، وبهذه اللفتات من العلم، لأنها تحتاج إلى دقة الذهن، وفيها نوع من التميز، أما القول بأن الله خالق أفعال العباد فهو أمر معلوم منشور، حتى العوام يعرفونه؛ فطالب العلم حينما يرجع إلى معنىً دقيق، تشعر نفسه بنوع من امتيازه في فقه هذه المسألة. وهناك نفوس كثيرة علمية فاضلة، لكنها أصبحت تتذوق هذا الأمر وتعشقه، فإذا وجدوا مثل ذلك لـ ابن القيم على جلالته، بدءوا يتتبعون مثل هذا النفس، وتتبع هذا النفس في هذا النوع من المسائل ليس محموداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة]. هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى الحديث أن القلم هو أول المخلوقات، ومن البين عند جمهور أهل السنة والحديث أن العرش سابق للقلم. قال المصنف رحمه الله: [فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]]. والأول هو جزء من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس. [وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وهذا التقدير لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات: فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكروه اليوم قليل]. وهذه الكتابة ثابتة في الصحيح عن ابن مسعود وحذيفة بن أسيد، وإن كان بينها في بعض التراتيب نوع من الاختلاف والتنوع.

الدرجة الثانية: المشيئة والتقدير

الدرجة الثانية: المشيئة والتقدير قال المصنف رحمه الله: [وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته]. هذه إشارة من المصنف إلى مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وهي أن العباد مأمورون بما أمر الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، وأن هذا الشرع لا يعارض بشيء من القدر. قال المصنف رحمه الله: [وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خلق أفعالهم]. قوله: (فاعلون حقيقة) (فاعلون) خلافاً للجبرية، (حقيقة) خلافاً للأشعرية الذين يوافقون أئمة السلف في الجملة اللفظية ويقولون: هذا من باب المجاز وما إلى ذلك. قال المصنف رحمه الله: [والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة]. جاء هذا في حديث ابن عمر: (القدرية مجوس هذه الأمة)، والمصنف هنا أطلق الحديث، وإن كان الحديث مما يعلم أنه فيه كلاماً من جهة صحته، فمن أهل العلم من حسنه، ومنهم من لم ير صواب ثبوته، وهو الصحيح؛ فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في طوائف المبتدعة نص من جهة التسمية، فكل النصوص المنقولة في تسميته للرافضة أو تسميته للقدرية وما إلى ذلك، كلها ليست صحيحة من جهة رفعها. قال المصنف رحمه الله: [ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره]. قوله: (ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات): إشارة إلى الأشاعرة، وهذه الإشارة فيها لطف مع المخاطبين، وإن كانت لم تتضمن تقصيراً في المعنى المراد، وهذا هو المنهج المشروع في الأصل، أن المجادلة للمخالف لا تكون بالألفاظ الموجبة لجفائه، وإن كان هذا موجوداً في كلام أهل السنة، وقبل أن يكون ذلك موجوداً في كلام أهل السنة هو موجود في القرآن مع الكفار، لكن ليس الموجود في القرآن هو الألفاظ المحركة للنفوس إلى الجفاء، فليس كل ما ورد في القرآن من مخاطبة الكفار يحرك نفوسهم إلى الجفاء، ولذلك من التزم هذا المنهج، وقال: هذا هو منهج السلف، فقد أخطأ على السلف، نعم .. يوجد في كلام السلف حروفٌ فيها جفاء مع المخالف الذي فيه مادة عناد أو مكابرة، أو كان ذلك لمصالح شرعية، لكن ليست هذه الحروف من الجفاء في الكلام معهم هي الحروف المشروعة وحدها، فهذا ليس صحيحاً، كما أن العكس غلط، فهناك البعض الآن حتى من طلاب العلم الذين قد يكون عندهم نظرة أخرى، يقولون: ينبغي له أن يحدث بالألفاظ اللينة وما إلى ذلك، فهذا ليس صحيحاً، بل هذا مشروع وهذا مشروع، كما قال الله في أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وقال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، وهذا في الابتداء، لكن في قصة موسى وهارون مع فرعون إذا رجعت إليها في تفاصيلها في القرآن وجدت فيها قول موسى له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وهذا فيه شدة. فالله قال في كتابه: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، وموسى قال له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وليس هذا من عدم تطبيق موسى لأمر الله، فإن الله شرع له ذلك في الابتداء، ولهذا فإن الأصل في الابتداء في خطاب المعين: أنه يُقصد إلى ما يحرك نفسه إلى قبول الحق، أما إذا صار عنده مادة من الاستكبار والعلو، فإنه يقال له ما يوجب كسر بأسه، وشدته، وعلوه، ونشره لهذا الباطل، ولذلك في أهل الكتاب لم يقل الله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] على الإطلاق؛ لأن من أهل الكتاب من هو ظالم، وليس في قلبه إلا الكبر والعناد، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]. فأهل البدع على كل تقدير هم أقل من الكفار، فهم بحاجة إلى الخطابين، ومن صدق النظر وصار صاحب عقل وفهم استطاع أن يجد في كلام السلف هذا وهذا، وأما من ضاق عقله في الغالب، فتجد أنه يغلو ولا يتكلم معهم إلا بالسيئ من الكلام. وهذه الأمة مما حسن الله سبحانه وتعالى في حقها الأخلاق، وليس لها مثل السوء حتى في لسانها، ولهذا فإن المؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء، والبذاءة مع المخالف هي مشروعة إذا اقتضتها المصلحة الشرعية، أما أنها تكون بذاءة نفسية فيتعود الإنسان على البذاءة دائماً فلا. والمنهج القرآني في خطاب الكفار، وكذلك منهج السلف مع أهل البدع هو استعمال اللفظ المقرب للنفوس، وقد يستعمل معهم لفظ يكون محركاً لنفوسهم للعناد عندما يحققون هم مقام العناد. وهذا على كل حال فقه لا يمكن ضبطه في كلمة أو كلمتين، والمقصود أن هذا مشروع وهذا مشروع، فمن هجر أحدهما فليس هو على استقامة تامة. قال رحمه الله تعالى: [ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها]. هذه إشارة إلى مسألة الحكمة. إذاً: إذا تأملت كلام شيخ الإسلام في باب القدر في الواسطية وجدته ذكر الأصول السبعة، فبعض الأصول سماها على درجات، وبعضها ألحقها ببعض المسائل الأخرى من باب التلازم لا من باب اختصار معناها.

شرح العقيدة الواسطية [19]

شرح العقيدة الواسطية [19] عقيدة أهل السنة والجماعة في الدين والإيمان أنه قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، كما يعتقدون أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأن من أتى معصية فلا يحكم عليه بالكفر بسبب إتيانها كما قالت الخوارج، وإنما يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان.

مسائل الإيمان

مسائل الإيمان قال المصنف رحمه الله: [فصل: ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح]. قوله: (ومن أصول أهل السنة) إشارة إلى قدر هذا الباب، وأن القول في مسمَّى الإيمان هو من الأصول المتفق عليها بين أئمة السنة والجماعة، وإذا كان القول من الأصول، فإن القاعدة فيه معروفة من جهة أنه لا يجوز مخالفته، ولا يجوز الاجتهاد بخلافه، حتى ولو كان الاجتهاد عند المجتهد أو الناظر مبنياً على نوع من الدليل الشرعي، ولهذا فلا شك أن قول مرجئة الفقهاء -ولا سيما أئمة هذا القول كـ حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة - لم يكن مبنياً على شيء من الأصول البدعية الكلامية، أما بدع الجهمية والمعتزلة التي خالفوا بها السلف فإنها بنيت على أصول من علم الكلام، بخلاف حماد بن أبي سليمان، فإنه لما قال مقالته -وهو أول من خالف من أئمة السنة في هذه المسألة- فلا شك أنه بناها على شيء من الدليل الشرعي، كالاستدلال بقول الله تعالى في القرآن كثيراً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، وظهر له من هذه السياقات أن العمل ليس من الإيمان. فالمقصود: أن مثل هذا الاجتهاد لا يجوز ولو كان مبنياً على دليل شرعي، وهذا من جهة أن الاجتهاد بعد ثبوت الإجماع يعلم غلطه ولا بد. وإنما كان محرماً ومنهياً عنه؛ لأن الإجماع إذا انعقد علم أن الاجتهاد يتعذر أن يُحصَّل به صواب يخالف ما سبق الإجماع عليه. وهذه قاعدة مطردة: أن الإجماع إذا تحصَّل امتنع الاجتهاد بخلافه، ولو كان المجتهد يبني اجتهاده على ظاهر دليل، وحتى لو كان ظاهر الدليل في نظره مخالفاً للإجماع، فما دام الإجماع محفوظاً، فلا يجوز النظر بخلافه؛ لأنه يعلم الغلط فيه ولا بد.

الدين والإيمان قول وعمل

الدين والإيمان قول وعمل قال رحمه الله: (ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل). المصنف هنا قال: (الدين والإيمان)، والاختلاف عند أهل القبلة إنما هو في اسم الإيمان، وأما اسم الدين فقد أجمع المسلمون على أن الدين قول وعمل، فهذا مما لا يختلفون فيه، وليس من موارد الخلاف، وأجمعت الطوائف جميعها على أن الإيمان من الدين، ولكن منهم من يذهب إلى الترادف بين الدين والإيمان، ومنهم من يفرق من وجه. وكأن من محصِّل مذهب أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان -أو هذين الاسمين- على مسمىً واحد، بخلاف المرجئة، فإنهم باتفاقهم لا يجعلون العمل داخلاً في مسمَّى الإيمان وإن كانوا يجعلونه من الدين. وحتى الطرف الآخر في المسألة وهم الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان قول وعمل ولكنه لا يزيد ولا ينقص، في ظاهر مذهبهم -وإن كانت هذه المسألة لا يعتنون بتحريرها- أنهم يفرقون بين الدين والإيمان. لكن هناك فرق بين المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة حكي في مذهبهم الخلاف، والخوارج منهم من يحكي الإجماع عندهم ومنهم من يحكي الخلاف. فالمسألة -كما أسلفت- ليست محررة في كتبهم أو فيما نقل عنهم، لكن النوافل منهم من يجعلها من الإيمان، ومنهم من يقول: إنها من الدين وليست من الإيمان، فيتحصَّل أن الضبط لاسم الدين واسم الإيمان على هذا المعنى هو من المعاني المستقرة في كلام أهل السنة والجماعة. فقول المصنف: (أن الدين والإيمان) أما الدين فلا خلاف فيه بين المسلمين أنه قول وعمل، وإنما الخلاف في اسم الإيمان. فإن قيل: فإذا كان لا خلاف فيه فلم ذكره المصنف؟ فالجواب: أن هذا نوع من التصحيح، وهو نوع من الإلزام، بمعنى: أنه إذا كان مستقراً عند المسلمين أن الدين قول وعمل، فينبغي أن يستقر عند المسلمين أن الإيمان قول وعمل، وإن كان النظَّار من المرجئة أو غيرهم يفرِّقون بين الدين والإيمان، فإن المستقر عند عامة المسلمين وحتى علماء المرجئة القاصدين للسنة والجماعة أن الأقرب إلى الأصول الشرعية والفطرية أن الدين والإيمان على معنىً واحد، فيكون هذا أدعى للتصحيح عند العامة، وهذا ليس من باب الخطاب بالعاميات؛ لأن المخالفين إنما خالفوا بأصولٍ مبتدعة، والأصول التي عند العامة تلقوها عن منهج الرسالة العام، فيكون الاستعمال لها حسناً من هذا الوجه. وقوله: (قول وعمل)، أجمع السلف رحمهم الله وأئمة السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وإن كانت عباراتهم قد اختلفت ألفاظها، فالمشهور عن جمهورهم أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل .. هذا هو التعبير الذي نطق به الجمهور من السلف، ومن السلف من قال: الإيمان قول وعمل واعتقاد. ومنهم من يقول: إنه قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. ومنهم من يقول: إنه قول وعمل ونية واتباع للسنة. كـ سهل بن عبد الله، وهو من النسَّاك، وإن كان عنده قدر من العلم، لكنه اشتهر بالعبادة والنسك. وقال البخاري في صحيحه -في إحدى روايات صحيح البخاري -: الإيمان قول وفعل. وإن كانت هناك رواية أخرى لصحيح البخاري فيها: أن الإيمان قول وعمل. لكن الموجود في صحيح البخاري الآن: أن الإيمان قول وفعل. وإن كان من الشرَّاح من تكلم على تعبير البخاري بالفعل. والأصل في هذا ألا يبالغ في الفرق بين العبارات، وهذا منهج سبق أن نبهت إليه: أن التفقه في المعنى الاصطلاحي يُستعمل في مسائل التكليف، سواء كان هذا التفقه من النظر في كلام الله سبحانه وتعالى، أو كلام رسوله، أو حتى في كلام أهل العلم. أما تعبير السلف في مسائل الأصول، فكلما قُصِدَ إلى أن الخلاف لفظي بينهم فإن هذا يكون أجود، فينبغي أن يجعل الخلاف في التعبير عن الأصول من الخلاف اللفظي، وعلى الأقل: ينبغي أن يجعل ذلك من خلاف التنوع، أما كثرة التفريق بأن هذا يشير بقوله كذا وكذا إلى كذا وكذا من المعاني، وقد يكون اللفظ محتملاً لذلك، لكن معرفة أن هذا المتكلم قصد ذلك فيه تعذر. وفي الغالب أنه صدرت هذه الإجابات من الأئمة ليس عن كثير من هذه الإشارات، إنما كانوا يقصدون بها معنىً واضحاً: أن الإيمان قول وعمل، على ما فصَّله شيخ الإسلام هنا. إذاً: تعبير السلف هنا مختلف، وإذا قيل: هل هذا التعبير من الخلاف اللفظي، أم من خلاف التنوع، أم من خلاف التضاد؟ فقطعاً أنه ليس من خلاف التضاد، ولكن البعض يقول: إنه خلاف تنوع، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه إذا اختلف هذا التعبير مع التعبير الآخر فلا بد أن يتضمن أحد التعبيرين معنى ليس في التعبير الآخر، فعندها يكون الاختلاف من باب اختلاف التنوع، فيكون في أحد التعبيرين من المعنى ما ليس في الآخر، وإن كان لا ينافيه، فإذا وجد هذا قيل: إن الخلاف هنا خلاف تنوع. أما اختلاف ألفاظ السلف في التعبير عن الإيمان فهو من باب الخلاف اللفظي، والخلاف اللفظي لا يفهم منه أنه لا ثمرة له كما هو مشهور عن مسائل الخلاف اللفظي عند كثير من أهل الأصول، إنما هنا وإن كان الخلاف لفظياً إلا أن ثمرته هي إظهار أبين العبارات وأصدقها في التعبير عن الحقائق العلمية؛ ولذلك كان التعبير الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل -وهو الذي عبَّر به الجمهور من السلف- هو أصدق هذه التعبيرات، أصدقها من جهة الألفاظ؛ لأنه أحكم لفظاً، ووجه كونه أحكم من جهة اللفظ: أن قولهم: الإيمان قول وعمل تضمن المقامات الأربعة: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، أما قول اللسان فمعروف، وأما قول القلب فهو تصديقه بما هو من التصديقات الشرعية، وأما عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له؛ كالمحبة والخوف والرجاء ونحو ذلك، وأما عمل الجوارح فهو بيِّن. فهي أربعة مقامات: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وفي هذا بيان لفضل هذه الجمل: أن الإيمان قول وعمل. وبالنظر البسيط إلى هذا التعريف: أن الإيمان قول وعمل، قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن يقول: أين الاعتقاد؟ فمن خلال ما سبق يتبين أن الاعتقاد هو قول القلب. وهناك وجه آخر، وهو وإن لم يكن صريحاً لكنه أجود من جهة الإفادة، وهو: الإشارة إلى قدر من التلازم والتركب، ومعنى هذا الكلام: أن الإيمان في سائر موارده متركب من القول والعمل، سواء كان هذا التركب بطريق التضمن أو كان هذا التركب بطريق اللزوم؛ أما المطابقة فلا تكون إلا في شيء واحد، وإذا استعملت التركب فلا بد أن يكون عندك شيء وآخر، فهذا التركب يكون بطريق التضمن تارة ويكون بطريق اللزوم تارة أخرى. ومن فَقِهَ هذا المعنى من النظر العقلي الشرعي، بانَ له أن سائر أقوال المرجئة ليست خاطئة فحسب؛ بل هي خاطئة من جهة العقل فضلاً عن الشرع، ووجه ذلك: أن سائر المرجئة -بل سائر أهل القبلة- يقولون: إن اعتقاد القلب وتصديق القلب هو الإيمان، وهو عند أهل السنة من الإيمان، والمهم أن اعتقاد القلب -الذي هو قول القلب- هو من الإيمان بلا جدل بين المسلمين. فهنا يقال: إن كل ما هو من الإيمان عند السلف فهو مركب من هذين: قول وعمل، وهذا التركب إما أن يكون تضمناً وإما أن يكون لزوماً. والمرجئة لما جاءوا إلى العبادات الظاهرة كالصلاة قالوا: إنها ليست من الإيمان، مع أنهم اتفقوا على أن التصديق من الإيمان، ومنهم من يخصه به؛ فيرد عليهم أن الصلاة وسائر الأعمال الظاهرة حقيقتها أنها مركبة من قول القلب الذي هو تصديقه، ومن العمل، وليس هناك صلاة ولا عمل ظاهر ينفك عن التصديق؛ فالصلاة حقيقتها أنها مركبة من العمل الظاهر -وهي الحركات التي شرعت كالركوع والسجود ورفع اليدين، سواء كانت ركناً أم كانت مستحبةً- ومركبة من الاعتقاد والتصديق. والصلاة ليست ماهيتها تصديقاً محضاً لا عمل معه، ولو قال قائل: إن الصلاة هي تصديق محض لا عمل معه، لأنكر جميع النظَّار وجميع المسلمين ذلك. ولو جاء شخص وقال: أنا أصلي بقلبي، أؤدي الصلاة بقلبي، وأقوم بهذه الأعمال بقلبي وأصدق بها؛ لقيل له: هذه ليست صلاة شرعية، فكذلك من زعم أن الصلاة -والصلاة مثال وسائر الأعمال الشرعية على حكم الصلاة في القاعدة- هي عمل وليست تصديقاً، فيقال للمرجئ إذا أقر أن الصلاة مركبة من العمل والتصديق: ألست تجعل التصديق من الإيمان؟ إذاً: عرفنا ضرورة عقلية وشرعية أن الصلاة ماهية مركبة من التصديق والعمل، من قول القلب والعمل، ولك أن تقول: إنها مركبة من ماهية الإيمان كله عند أهل السنة، وماهية الإيمان أربعة مقامات: المقام الأول: قول القلب، والصلاة فيها قول القلب، فمن صلَّى وهو غير مصدق بأن الصلاة من الإسلام فصلاته باطلة، ومن صلَّى الظهر -مثلاً- وهو غير مصدق أن صلاة الظهر شرعها الله ورسوله أربعاً، فصلاته غير صحيحة، وكم من التصديقات اللازمة في الصلاة! فهذا قول القلب. المقام الثاني: عمل القلب، فمن صلَّى وهو لا يصلي محبةً لله وخوفاً ورجاءً، فصلاته مثل صلاة عبد الله بن أبي، صلَّى لكنه ما صلَّى محبة وخوفاً ورجاءً، فإذاً لزم بالضرورة أن الصلاة مضمنة بعمل القلب. المقام الثالث: قول اللسان؛ فالصلاة متضمنة لقول اللسان، فإن المصلِّي يقول: الله أكبر، ويقرأ الفاتحة، ويقرأ الشهادتين في آخر الصلاة وما إلى ذلك. المقام الرابع: عمل الجوارح، فالصلاة متضمنة لعمل الجوارح، فإنه يركع ويسجد وما إلى ذلك. ولو أن مصلياً أسقط أحد هذه المقامات الأربعة فصلاته باطلة بإجماع المسلمين. إذاً: الصلاة الشرعية -والكلام هو في الأعمال الشرعية لا في الأعمال العادية- مركبة من ماهية الإيمان، فيمتنع هنا أن تقول المرجئة: العمل ليس من الإيمان، والتصديق من الإيمان، فقولهم هذا مبني على فرض أن الأعمال توجد منفكة عن التصديقات، وليس هناك عمل شرعي واحد ينفك عن التصديق، فإنه إذا انفك عن التصديق أصبح عملاً غير شرعي، ولو أن شخصاً دخل المسجد هروباً من لص، أو ممن يريد قتله، أو من شيء من هذا القبيل، فأراد أن يظهر لمن يركض خلفه أنه منشغل بالصلاة، وأنه ليس هو الشخص الذي هرب، فبدأ يتحرك، فإن هذا لا يحتسب له أنه مصلٍّ، ومن قام ليري شخصاً كيفية الركوع الصحيحة، فهذا لا يقال:

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه قال المصنف رحمه الله: [وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية]. يزيد بالطاعة، سواء كانت هذه الطاعة قلبية أو كانت ظاهرة، وسبق معنا أن مقامات الإيمان المركبة أربعة، فالزيادة والنقصان عند أئمة السنة هي في سائر المقامات الأربعة: في التصديقات، وفي عمل القلب، وفي قول اللسان، وعمل الجوارح. وأبو محمد ابن حزم وإن كان كلامه في مسمَّى الإيمان حسناً في الجملة إلا أنه قال: إن مقام التصديق القلبي لا يدخله الزيادة والنقصان، وهذا غلط، وممن نبه إلى غلطه فيه شيخ الإسلام رحمه الله، ونقل -أعني ابن تيمية - عن الإمام أحمد نصوصاً صريحة في أن التصديق يتفاضل ويزيد وينقص؛ لأن ابن حزم التفت إلى أن التصديق إذا نقص صار كفراً أو شكاً، وهذا ليس بلازم، فإن التصديق يتفاضل، ومعلوم أن تصديق أبي بكر بالتشريعات والأخبار الشرعية وما إلى ذلك ليس كتصديق آحاد الناس، بل لا شك أن العمل في الجملة فرع عن تحقيق التصديق والإيمان القلبي.

حكم أهل المعاصي عند أهل السنة

حكم أهل المعاصي عند أهل السنة قال رحمه الله: [وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج]. أهل السنة بخلاف الخوارج، لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، ومن ضبط تعبيره أنه لم يقل: لا يكفرونهم بالمعاصي والكبائر؛ لأن الشرك معصية وكبيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله ...)، وفي حديث ابن مسعود في الصحيح: (أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك). فالقصد: أن تسمية الشرك كبيرة أمر ثابت في السنة، وإن كانت الكبيرة إذا اقترنت بذكر الكفر أو الشرك انصرفت إلى ما دون الكفر، بخلاف ما إذا انفردت فإنه يذكر بها الكفر وما دونه. فمن ضبط المصنف هنا أنه قال: بمطلق المعاصي، أي: بآحاد الكبائر. والذين يكفرون بها هم الخوارج، وجمهورهم يقولون: إنه يكفر كفر ملة، وقالت الإباضية منهم: إنه يكفر كفر نعمة، مع اتفاق الطائفتين على أنه في الآخرة مخلد في النار. قال رحمه الله: [بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178]]. الأخوة الإيمانية ثابتة ولو مع الكبائر التي لا تنافي أصل الإيمان؛ خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا الكبيرة موجبةً لإسقاط أصل الإيمان، ومسقطةً لأصل الأخوة في الدين، فيسلبون الفاسق الإيمان، ويجعلونه في منزلة بين الكفر والإيمان، وهذه منزلة مخالفة لأصول النظر والعقل؛ ولذلك ما يُزعم من أن المعتزلة هم أرباب العقل والانضباط العقلي هو تلبيس عظيم؛ فإن أول مبدأ المعتزلة كان في مسألة الكبيرة، فجاءوا بحكم مخالف للعقل، مخالف للذوق، مخالف للشرع من جميع الجهات، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. فهذا مخالف -إن صح التعبير- للانفتاح العقلي، فكيف يزعم بعض الكتاب أن المعتزلة هم أرباب الانفتاح العقلي في تاريخ المسلمين، وهم رواد العقل والانفتاح والحرية العقلية، وأن الأئمة والمحدثين كانوا هم أهل الانغلاق والتشدد؟! فمن يزعم ذلك فلا شك أنه لم يفقه مذهب المعتزلة. فإن المعتزلة جميعهم قد اتفقوا على أن من ارتكب كبيرة من المسلمين صار مخلداً في نار جهنم، وهذا من أصولهم، بل هو أول الأصول الذي انشقوا بها عن المسلمين، فأي انفتاح وأي اعتدال عقلي وأي سعة نظر يمكن أن يوصفوا بها مع هذا الأصل؟! هذه جهة. الجهة الثانية: أنهم جاءوا باسم منغلق لا تستطيع أن تضع له مكاناً، فالخوارج على أقلِّ تقدير قالوا: هو كافر؛ لأن الناس إما كافر وإما مسلم، لكن هؤلاء قالوا: ليس بكافر وليس بمؤمن، بل في منزلة بين المنزلتين، فهذه المنزلة لا يوجد لها مكان في العقل، فمهما حاول العقل أن يثبت منزلة يكون صاحبها ليس مؤمناً وليس كافراً فإنه لا يستطيع. قد يقول قائل: إن المعتزلة يقولون عنه: هو فاسق، فأقول: هذا الفاسق في مذهبهم ليس عنده شيء من الإيمان، ومن ليس عنده شيء من الإيمان يكون كافراً، فالكافر هو منعدم الإيمان. ولذلك لما كانت هذه المنزلة منزلةً وهمية في العقل، وكانت القضية قضية أسماء، استطاع المعتزلة أن يوجدوا لها هذا الاسم في الدنيا، وفسروا اسم الفاسق في القرآن بمثل هذا، لكن لما جاءهم مقام الآخرة، ومقام الآخرة لا يوجد فيه أسماء وهمية، بل هناك حقائق؛ إما جنة وإما نار؛ انغلق عليهم القول، فجعلوه مخلداً في النار. إذاً: مذهب المعتزلة في هذه المسألة مذهب ركيك من جهة العقل نفسه، وهم إنما تقووا بالعقل لما نقلوا هذا النقل من كتب الفلاسفة وما ركبوه في علم الكلام المولد من الفلسفة، وهذا ليس لهم فيه شرف؛ لأنه منقول عن غيرهم في الجملة. قال المصنف رحمه الله: [وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]]. وجه الدلالة أن الله قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، مع أنه يُعلم أنهم حال اقتتالهم لا بد أن يكون أحدهم ظالماً والآخر مظلوماً، فلا بد أن يكون أحدهما باغياً على الآخر، فسماهم مؤمنين، والمراد هنا أصل الإيمان، ولا يلزم بالضرورة أن يراد الإيمان الكامل؛ ولذلك قال بعد هذا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. قال رحمه الله: [ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية]. قيد المصنف اسم الفاسق بقوله: (الملي)؛ لأن الفسق يأتي في القرآن ويراد به الكفر بالله، قال الله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، وكالفسق المطلق في القرآن؛ فقد نص شيخ الإسلام على أن اسم الفاسق إذا أطلق في القرآن فإنه يراد به الكافر، بل هذا هو الغالب على موارد ذكره في القرآن، وإن كان قد استعمل في غير ذلك، كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات:6]، فالفاسق هنا ليس المراد به الكافر، وإنما المراد به الكاذب أو ما إلى ذلك، هذا إذا فسرت الآية بما هو مشهور من جهة التفسير في سبب نزول هذه الآية. قال رحمه الله: [ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]]. فالفاسق يدخل في اسم الإيمان، وإن كان لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، وهذه من حقائق مذهب السلف: أن اسم الإيمان ورد في كتاب الله مورداً متنوعاً، وهذه الحقيقة هي الموجبة لضبطهم لمسألة الإيمان، بخلاف غيرهم من الطوائف، فإن أصل غلطهم أنهم جعلوا مورد اسم الإيمان في القرآن واحداً؛ فالخوارج والمعتزلة وجدوا أن القرآن يذكر المؤمنين عند الإطلاق على التحقيق، كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وما بعدها من الآيات، وكقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]، فوجدوا أن الاسم المطلق للمؤمنين إنما يكون لمن حقق الإيمان، فاعتبر الخوارج والمعتزلة مثل هذه السياقات. وأما المرجئة فإنهم اعتبروا ظاهر التفريق من مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]. والصواب: أن مورد الإيمان متنوع في كتاب الله، ولذلك فقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] المقصود هنا بالمؤمنة: من حقق أصل الإيمان، ولذلك يصح عتق الفاسق بإجماع الفقهاء. قال رحمه الله: [وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)]. المؤمن هنا هو المؤمن المطلق المذكور في قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، فالزاني حين زنى لم يكن داخلاً في هذا الاسم؛ لكنه يدخل في قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]. قال رحمه الله: [ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته]. الجملة الأولى أفصح في مخالفة المرجئة؛ لأن جماهير المرجئة يقولون عن مرتكب الكبيرة: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، كالأشعرية ونحوهم، لكنهم لا يجعلون إيمانه ناقصاً بموجب هذه الكبيرة، والسلف كانوا يقولون عنه أنه مؤمن ناقص الإيمان، وهذا أفصح من جهة مخالفة المرجئة. قال رحمه الله: [فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم]. قوله: (لا يعطى الاسم المطلق) هو اسم الإيمان المطلق في سائر موارده، (ولا يسلب مطلق الاسم) بحيث لا يسمى مؤمناً في سائر الأحوال، بل يسمى مؤمناً بحسب المقام المقتضي له، والمقام المقتضي له ما يتعلق بأحكام الدنيا؛ كالعتق وما يتعلق بالشهادة له بأصل الإيمان .. وهلم جراً.

شرح العقيدة الواسطية [20]

شرح العقيدة الواسطية [20] معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة أنهم خير خلق الله بعد أنبياء الله، وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ولحمل دينه وتبليغه لمن يجيئون بعدهم، كما يعتقدون فيهم أنهم يتفاضلون فيما بينهم، وأن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر وأصحاب بيعة الشجرة، ويعتقدون لزوم السكوت عما شجر بين الصحابة وسلامة القلوب والألسنة لهم رضوان الله عليهم أجمعين.

موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة

موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة قال رحمه الله: [فصل: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]]. قوله: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم)، ذكر القلوب والألسنة، لأن الواجب هنا أن يكون المسلم على فقه بشأن الصحابة وبما حصل من النزاع بينهم، يوجب له هذا الفقه ألا يقع في قلبه شيء على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا يكفي في ذلك أنه لا يعبر؛ فإن بعض الناس قد يعرض في نفسه ما هو من الإشكال في شأن الصحابة ولا يعبر به، ومحقق الإيمان لابد أن يتصف بسلامة قلبه ولسانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وتعظيم شأن الصحابة قد قال بعض أهل البدع أنه لا يدخل في مسائل أصول الدين، وهذا غلط؛ لأن هذا من أخص مسائل أصول الدين، ومن طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد خالف ما هو من أهم الأصول وأخصها. فإن قيل: فما موجب ذلك؟ قيل: لأن الله في القرآن جعل ثبات الإسلام ومنهج الإسلام مرتبطاً بأصحاب نبيه، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وهذه الآية من أقوى وأصرح ما في القرآن، وفيها خطاب شرعي وخطاب عقلي، فيمكن أن يستدل بها استدلالاً عقلياً في الرد على الروافض الذين يطعنون في الصحابة، فقوله جل وعلا: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) هذا أقوى مما لو كان في سياق الآية أن السابقين الأولين هم أهل الإيمان، أو هم أهل المنهج الحق، أو يجب اتباعهم؛ لأن الله قال: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، وهذه الدرجة -وهي الرضا- درجة عظيمة؛ قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، فهي لا تكون إلا لأئمة المؤمنين المحققين للإيمان علماً وعملاً، ولذلك فما وصف الله سبحانه وتعالى أحداً بالرضا إلا إذا كان محققاً لهذه المنزلة؛ وهي أنه محقق للإيمان علماً وعملاً، فهذه شهادة صريحة من الله لهم بأنهم مؤمنون محققون للإيمان علماً ومحققون له عملاً؛ لأن بعض الناس قد يكون صاحب نسك ولكنه ليس صاحب علم. فقوله: (رضي الله عنهم) هو أقوى من التصريح بكونهم مؤمنين؛ لأن الرضا لا يكون إلا لمن حقق الإيمان، ولأن الرضا حكم متعلق بالمآلات، بخلاف اسم الإيمان الذي قد تعقبه مخالفة أو كفر أو ما إلى ذلك، فقوله: (رضي الله عنهم) هو حكم متعلق بالمآل على التمام، ولو كانت الآية وقفت عند هذا لكان هذا كافياً في هذه الدلالة، ولكن الآية فيها تصريح أتم وأقطع لشبهة من عنده شبهة، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فجعل هذا الذي عليه أصحاب نبيه هو الحق؛ لأنه قال: (والذين اتبعوهم)، فعُلم أن الهدي الذي كانوا عليه -أعني: السابقين من المهاجرين والأنصار- هو الحق الذي رضيه الله ديناً لعباده، فكان اتباع الصحابة حكماً مطرداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن تقوم الساعة. وكما أن قول الله تعالى عن القرآن: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزمر:55] هو أمر باتباع ما أنزل؛ فكذلك الأمر باتباع الصحابة، فعُلم أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هديهم هو الدين الذي شرعه الله ورسوله، فمن خالفهم -فضلاً عمن طعن فيهم- لا شك أنه ليس على إيمان صحيح؛ لأن الإيمان الصحيح جعل الله له مساراً واحداً هو: (والذين اتبعوهم بإحسان)، فلم يقل: الذين اتبعوا القرآن، ولم يقل: والذين اتبعوا محمداً عليه الصلاة والسلام، مع أنه لا شك أن اتباع القرآن واتباع محمد عليه الصلاة والسلام أشرف من اتباع الصحابة، ولكن المقصود هنا أن هؤلاء القوم -وهم الصحابة- متبعون للقرآن، متبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (والذين اتبعوهم) ولم يقل: الذين اتبعوا مؤمنهم أو صادقهم، إنما قال: (اتبعوهم)، والضمير يعود إلى السابقين من المهاجرين والأنصار، وقد أضاف الاتباع إلى سائرهم. وقال تعالى: (بإحسان) وهذا يدل على أن هذا الاتباع يجب أن يكون محققاً، وأنه لا يُجتهد بمخالفته بما يوجب مخالفتهم ولو كان هذا مبنياً على الاجتهاد؛ ولذلك فإن أي قول في العلم في الأصول أو في الفروع يخالف ما هو من قول الصحابة فلا يجوز الالتفات إليه، حتى ولو كان صاحبه قد بناه على نوع من النظر والاجتهاد، يخالف منهج الصحابة وأصول الصحابة وقاعدة الصحابة أو ما انضبط عن الصحابة، أو ما إلى ذلك من المسائل. وإذا اختلف الصحابة جاز الاجتهاد. والمقصود: أن ما كان من منهجهم المنضبط أو أقوالهم المنضبطة لم يجز العدول عنه، فهذا هو معنى قول الله: (بإحسان)، فقيد الاتباع بكونه بإحسان، أي: أنه اتباع مقتصد، لا غلو فيه ولا تقصير، ولا إفراط فيه ولا تفريط. فهذا يدل على أن الطائفة التي تسير على منهجهم هي التي ينتظر لها من المنزلة ما حصل للصحابة، وذلك لقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، فهؤلاء مستحقون لهذه المنزلة، ولا تستحق منزلة الرضا إلا بهذا الاتباع، فعُلم أنه لا مسار للمسلمين إلا ما كان عليه أصحاب رسول الله، فما خالفه فهو بدعة وضلالة في الدين.

الرد على شبهات الرافضة حول الصحابة رضي الله عنهم

الرد على شبهات الرافضة حول الصحابة رضي الله عنهم بعض من يشكل على هذا الاستدلال يقول: إن الله تعالى قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:100] فقال: (السابقون) وقال: (الأولون)، ولم يجعل هذا في سائر الصحابة، بل قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] ولم يجعله في سائر الصحابة. فنقول: نعم، السابقون الأولون لهم منزلة أعظم من منزلة سائر الصحابة، كما قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10] فالسابقون الأولون الذين آمنوا من المهاجرين أولاً أو من الأنصار أولاً، هؤلاء المتقدمون زماناً هم الذين امتدحوا، وبقية الصحابة يدخلون في الذين اتبعوهم بإحسان؛ لأن الذين أسلموا كانوا يقتدون بمن سبقهم، ففي زمن النبوة كان الصحابة يقتدون بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)؟! وهذا في الصحيح من حديث أبي قتادة في سياق طويل، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقتها حياً. إذاً: من بعد السابقين الأولين من بقية الصحابة هم داخلون في مسألة الاتباع، أنهم اتبعوهم بإحسان .. هذه جهة. الجهة الثانية: أنه لا توجد طائفة من المسلمين تزكي السابقين الأولين بالتحقيق وتستثني من بعدهم، إنما هذه شبهة يستعملها من يريد أن يشكك العامة في دلالة الآية على امتداح الصحابة، وإلا فمعلوم أن إمام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هو أبو بكر، ولو انكف الشيعة والرافضة بخاصة عن الطعن في أبي بكر لكان هذا مؤذناً بغيره، لكن أكثر من يقصدونه بالطعن هو أبو بكر رضي الله عنه. إذاً: هذا متعذر أن يكون إيراداً على الآية؛ لأنه مجاب عنه على سائر الموارد. ومنهم من فرض أن المقصود بالسابقين الأولين هم أئمة آل البيت، والنبي عليه الصلاة والسلام في حياته ما أعطى آل البيت القداسة التي صنعها التاريخ الشيعي لآل البيت، نعم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون بالله حتى يحبوكم لله ولقرابتي)، فيجب محبة مؤمنهم لكونه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس معنى ذلك أن المؤمن إنما يحب من هذا الوجه فقط، فالمؤمن يحب من هذا الوجه: من جهة أنه قد يكون من آل بيت النبي، كما يحب من جهة صدقه، ومن جهة بره، ومن جهة إحسانه، فموجبات المحبة للمؤمن كثيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم في آل البيت جعل من موجبات محبة مؤمنهم أنه قريب منه. وأبو بكر لا يوجد فيه هذا الوجه؛ لأنه ليس من آل البيت، لكن لا يعني ذلك أن من كان من آل البيت امتاز امتيازاً مطلقاً عن أبي بكر بوجه من أوجه المحبة، ولا شك أن عند أبي بكر من أوجه المحبة ما هو أعظم مما عند آل البيت في سائرهم .. هذا مما يعرف. وقد كان علي بن أبي طالب -وهو أفضل آل البيت ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- يعرف هذه المنزلة لـ أبي بكر، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد بذلك تقديم آل البيت على غيرهم -كما تفعله الشيعة المتعصبة- لقدم علي بن أبي طالب على أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ما قدم علياً ولا مرةً واحدةً تقديماً مطلقاً على أبي بكر، بل دائماً الذي في المقدمة هو أبو بكر، إلا يوم خيبر حين قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) وهذا لا إشكال فيه، فقد أعطاها علياً هذه المرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عقد رايات كثيرة وأمر أناساً كثيرين، فلم يكن في ذلك حجة لتقديمهم علياً على أبي بكر. لماذا لم يدع قوم أن بلالاً له اختصاص مطلق لأنه أُعطي الأذان؟! فإن أعطي علي الراية، فقد أعطي بلال الأذان، وأعطي هذا كذا وأعطي هذا كذا .. وكم عقد النبي من رايات لغير علي بن أبي طالب!! فلماذا لا يقف هؤلاء إلا مع راية علي بن أبي طالب؟!! هذه طرق فاسدة في العقل والشرع. علي بن أبي طالب هو أفضل رجل في الأمة بعد أبي بكر وعمر وعثمان، وإن كان القول في عثمان فيه خلاف معروف عند أهل السنة، إنما المقطوع به هو تقديم أبي بكر وعمر عليه، هذا هو المجزوم به إجماعاً صريحاً عند السلف، فإما أن يكون الثالث، وإما أن يكون الرابع، وهذا هو المشهور عند أهل السنة، فلا شك في فضله، ولا شك أن من موجبات فضل علي أنه من آل البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال عن الحسن والحسين: (إنهما سيدا شباب أهل الجنة) فليس ذلك لأنهما من آل البيت، وإنما لكونهما من أهل الإيمان، وقد كان من آل البيت من هم كفار، وأبو النبي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار). قد يتفضَّل الله لآل البيت المؤمنين بدرجات لقربهم من رسول الله، فهذا يقع، ولكن موجبات الإيمان هي العبودية لله، لا أن هذا من آل البيت وهذا ليس من آل البيت. والإسلام لم يأت ليكرِّس سلطة عائلة معينة، والنبوة ليست اكتساباً، ومن عقائد السلف بل من عقائد جمهور المسلمين إلا من شذ من المتفلسفة أن النبوة اصطفاء من الله، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75]، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فالإسلام ما جاء ليكرِّس سلطة عائلة، والسلطة في الإسلام -وهي السلطة وليست النبوة- وضع لهذا أنظمة كالشورى وغير ذلك، فما بالك أن تكرس القضية الدينية الإيمانية لسلطة عائلة، ويمكن أن تخلو هذه العائلة من العلماء؛ فهل ينزل عليهم وحي؟! هل هم معصومون؟! هذه أشياء يجب أن تُفقه. الإسلام أكبر من ذلك، الإسلام دين الله، ومحمد عليه الصلاة والسلام هو نبي اصطفاه الله، فتكريس مسائل السلطة في العائلة بحجة مسألة آل البيت، وجعل الإسلام كله كأنه يرجع للحسن والحسين وفاطمة وما حصل من قتل وظلم، فأين هي قضية العبودية والدين الإسلامي؟! هذا ضعف في تصوير الإسلام وبيان حقيقته العبادية الإيمانية. والمقصود: أن هذه الآية دليل صريح من الشرع والعقل على أن هؤلاء القوم -أعني الصحابة- هم أهل الإيمان. ورداً على من يقول: إن السابقين الأولين هم آل البيت، نقول: إن الله تعالى قال: (من المهاجرين والأنصار) وهب أن المهاجرين المقصودين في الآية كلهم آل البيت، فهل هناك أنصار من آل البيت؟! الأنصار معروف أنهم هم أهل المدينة النبوية، وهؤلاء ليسوا من قريش في الجملة أصلاً، وليسوا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: (من المهاجرين والأنصار). وهناك من يقول: (الأنصار) هنا هم الذين نصروا علي بن أبي طالب؛ فنقول: إن الآية نزلت قبل أن توجد مسألة الانتصار لـ علي بن أبي طالب، فهذا تحريف للقرآن، ولا شك أن الآية لما نزلت كانوا يسمون الأنصار، وهذا متفق عليه تاريخياً وعلمياً وشرعياً: أن أهل المدينة النبوية كانوا يسمون: الأنصار، فالقرآن لما نزل عرف أن المهاجرين هم أهل مكة، والأنصار هم أهل المدينة، والأنصار ليس فيهم من آل البيت أحد، من جهة النسب، فإن آل البيت هم من قريش ومن بني هاشم، والأنصار قبائل معروفة منفكة عن هذا من جهة الأصل. أما من يقول: إن هذا وقت إيمانهم قبل أن يحصل منهم ما حصل، فنقول: إن الله تعالى قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] ونقول: إن الله قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة:100]، وهذا خطاب للأمة كلها، حتى الذين اتبعوهم بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم متبعون لهم. وأما من يقول: إن الله قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فكأنه إشارة إلى أنه قد يحصل منهم الكفر أو الظلم. فنقول: إذا كان يحصل منهم الكفر امتنع اتباعهم لا بإحسان ولا بغير إحسان؛ لأن من كفر لم يبق فيه شيء حتى يتبع بإحسان أو بغير إحسان. وأما من يقول: إنه قد يحصل منهم ما هو من الظلم. فنقول: هذا لو سُلِّم جدلاً أثبت تحقيق إيمانهم، وأنه قد يعرض منهم ما هو من النقص .. وهذا ليس من مورد النزاع؛ لأنه لا يقال بعصمة آحادهم، إنما المعصوم هو اجتماعهم. فالمقصود: أن الآية ينبغي التفقه فيها على هذا المعنى، وأن يُخاطب بها من عنده شيء في شأن الصحابة؛ لأنها صريحة في تحقيق هذه المسألة. قال رحمه الله: [وطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)]. وإن كان هذا الحديث قد قاله النبي عليه الصلاة والسلام مخاطباً به بعض الصحابة، وكان مقصوده عليه الصلاة والسلام بالأصحاب هنا عند سبب ورود الحديث هم الأصحاب الأُوَل، ولكن إنما يذكره الأئمة لأنه إذا كان هذا في حال بعض الصحابة مع بعض، أي: أن متأخرهم لا يجوز أن يقع فيما هو من الذم أو السب لمتقدمهم، فمن باب أولى من بعدهم ممن ليسوا من الصحابة، فهذا من باب قياس الأولى. فإذا قال عن بعض أصحابه: (فإن أحدكم لو أنفق) أي: أ

تفاضل الصحابة فيما بينهم

تفاضل الصحابة فيما بينهم قال المصنف رحمه الله: [ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار]. تقديم المهاجرين على الأنصار هو باعتبار الجنس، أي: أن جنس المهاجرين أفضل من جنس الأنصار، وليس باعتبار الأعيان، بمعنى: أنه قد يوجد من أفراد الأنصار من هو أفضل من بعض أعيان المهاجرين، فتقديم المهاجرين باعتبار الجنس لا باعتبار الأعيان، وقد قدم المهاجرون لأن الله قدمهم في القرآن؛ فإنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة، إلى غير ذلك من المعاني، لكن هذا تقديم باعتبار الجنس أو النوع لا باعتبار الأفراد والأعيان.

فضل أهل بدر

فضل أهل بدر قال المصنف رحمه الله: [ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)]. هذه شهادة لأهل بدر ولأهل بيعة الرضوان: أن كل من شهد بدراً أو بيعة الرضوان فإنه في الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في أهل بيعة الرضوان: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)، وهذا جاء في أحاديث من غير وجه في الصحيحين، وأما أهل بدر فقد قال النبي ذلك في قصة حاطب لما كاتب من كاتب من المكيين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذا كان اعتذاراً لـ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. لكن مما ينبه إليه: أن من يقول: إن ما حصل من حاطب هو مظاهرة المشركين على المسلمين، وهذا كفر .. أن هذا كجملة عامة، لكن هذه الجملة تحتاج إلى فقه، فمن يقول: إن حاطباً قد ظاهر المشركين -أي: ناصرهم على المسلمين- لما كتب يخبرهم ما كان من قصد النبي صلى الله عليه وسلم؟ بعضهم يقول: إن ما حصل من حاطب هو من المظاهرة، لكنه لم يكفر؛ لأن النبي قال: (إن الله اطلع على أهل بدر) فاستثنى حاطباً، فإن كان مقصوده أن هذا الفعل الذي حصل من حاطب لو لم يشهد بدراً لكان به كافراً مع إيمانه؛ فهذا غلط في التفسير؛ لأن شهادة بدر لا تمنع ارتباط الأحكام بأسبابها؛ من جهة الأصل الشرعي لا من جهة القضاء الرباني، فالقضاء الرباني سبق أن البدريين لم يكفروا، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، ولذلك من يقول: لو حصل منهم الكفر فإنه يُغفر لهم، نقول له: إن الله لما اطلع على أهل بدر وقال: (اعملوا ما شئتم) كان ذلك؛ لأن قضاءه القدري سبق أن البدري يثبت على الإيمان، وإن كان قد يعرض له ما هو من النقائص، فهذا هو معنى قوله: (فقد غفرت لكم)، فأخطاؤهم تغفر؛ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج يهدم ما كان قبله)، فكذلك من حضر بدراً فهي تهدم ما كان قبلها وما كان بعدها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأعمال: (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وإن كان جمهور الأحاديث ليس فيها: (وما تأخر)، فإن هذا يذكر في حق النبي عليه الصلاة والسلام. المقصود: أن هذه الإيراد جهل؛ لأن البدري سبق القضاء أنه لا يطبق على الكبائر، وهذا الذي حصل تاريخياً، فكل البدريين بقوا مؤمنين ثابتين على الإيمان. والمقصود هنا: أن من يقول: إن حاطباً ما حصل منه قد كان به يكفر لو أنه لم يشهد بدراً .. هذا غلط أولاً: من جهة الأصول الشرعية ليس هناك عمل يمنع الكفر، فمن قال: لا إله إلا الله ويحقق الألوهية ويصلِّي لله ثم يكفر فإنه يحكم عليه بالكفر، ولا يقال: ما دام قد صلَّى سابقاً فإنه لا يكفر، فإن هذا يخالف الأصول الشرعية، إنما الذي يقال هو من جنس قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] فما حصل من حاطب رضي الله تعالى عنه لا شك أنه كان خطأً ومعصيةً لله ورسوله، وهذا يدخل في المعاصي التي تدخل في قول الله: (اعملوا ما شئتم)، لكن لم يكن الذي حصل من حاطب هو من الكفر، وإن كان هذا الكلام لا يفهم منه .. كما يفهم بعض الناس إذا قرر له هذا الكلام أنه يلزم منه أن كل من كان يراسل الكفار مظاهرة لهم على المسلمين لا يكفر بهذا العمل؛ فما دمنا قلنا: إن فعل حاطب لم يكن كفراً منه، فيلزم منه أن كل من كاتب الكفار يخبرهم بأحوال المسلمين أنه لا يكفر بالعمل. وهذا لا يلزم، فهذا الفعل قد يقع من معين ويكون به كافراً، وقد يقع من معين آخر ولا يكون به كافراً؛ هذا هو الجواب الشرعي الصحيح: أن مظاهرة المشركين كأصل عام كفر. لكن هل هذا الفعل حقيقته أنه مظاهرة أم لا؟ هذا قد يختلف في بعض الأعيان، بمعنى: أن يغلب على معين ما هو من قصد درء المفسدة المتعلقة بأهله، ولا يظن أن هذا العمل مما يوجب الكفر، وتكون لديه جملة من الموانع، وهي أشبه ما يكون باجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فما حصل من حاطب كان هناك مانع من كون هذا من الذي يكفر به. إذاً: يبقى عندنا القاعدة: أن مظاهرة المشركين كفر، لكن الصور لا يلزم أن تطرد في سائر الموارد، بعض الصور من المظاهرة كفر لا يتردد فيه، وبعضها قد تكون من بعض الأعيان كفراً ومن بعض الأعيان دون الكفر، وهذا هو الذي حصل من حاطب رضي الله تعالى عنه. أما إذا قيل: إن كل من كتب لا بد أن يكون كافراً على الإطلاق في سائر الموارد، والاستثناء في حاطب ليس من جهة إيمانه: أنه لم يشرح بالكفر صدراً، وليس من جهة الموانع، إنما من جهة بدر فقط لأن الله ضمن مغفرتهم .. فهذا غير صحيح، أما إذا قيل: إنه من جهة أن البدري مؤمن، فهذا أمر آخر، إذا قيل: إن البدري لا يكون إلا مؤمناً .. فهذا صحيح، لكن إذا قيل: إن البدري يغفر له حتى ما كان كفراً، فهذا لا شك أنه غلط على أحكام الله ورسوله؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، ولا يمكن أن يغفر الكفر لأحد، وقوله: (اعملوا ما شئتم) ليس معناه: أنه قد يقع منهم الكفر، هذا قاله رب العالمين الذي يعلم مآلهم وحالهم.

فضل أهل بيعة الرضوان

فضل أهل بيعة الرضوان قال رحمه الله: [وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة]. الأفقه والأكثر اتباعاً أن تُستعمل النصوص في هذا، فيقال في أهل بيعة الرضوان: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة، وفي أهل بدر: إن الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم، ومن سمَّاه النبي بعينه في الجنة يسمى كذلك .. فهذا يكون أصدق في الاتباع للنصوص.

فضل الخلفاء الراشدين

فضل الخلفاء الراشدين قال رحمه الله: [ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بـ عثمان، ويربعون بـ علي رضي الله عنهم]. تواتر عن علي أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، وكان يقول على منبر الكوفة: (لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري)، هذا مما تواتر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وحتى لو فرض أنه لم يتواتر عن علي أو لم يصح عنه، فإن الاعتبار ليس بصحة هذا عن علي، فإن علياً ليس هو الحاكم على الحقائق الشرعية، إنما هذا معتبر بأدلة الكتاب والسنة، وبإطباق الصحابة رضي الله تعالى عنهم زمن النبي وبعد زمن النبوة، ولذلك إذا قيل: إن علياً لم يبايع في أول الأمر، قلنا: نعم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يبايع في أول الأمر، لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لو كانوا يرون أن علياً أفضل أو أن الخلافة في آل البيت أو ما إلى ذلك من المعاني لما بايعوا أبا بكر، فإن أبا بكر ما طلب منهم البيعة بقوة السيف، إنما المسلمون هم الذين قصدوا بيعته، ثم بايعوا من بعده عمر لما جعلها أبو بكر في عمر، ثم بايعوا من بعد عمر عثمان، فكان مستقراً أن أبا بكر أفضل، فلما جاءت الاستشارة وصار عبد الرحمن بن عوف يطوف في المسلمين ثلاثة أيام يستشيرهم في علي وعثمان .. بعد أن نزلت الخلافة إلى اثنين في قصة الستة الذين جعلها عمر فيهم، استقر الأمر على اثنين، ورضي علي بن أبي طالب بأن يستشير عبد الرحمن بن عوف المسلمين، وكان واثقاً من ابن عوف، وإلا لو لم يثق لما رضي بذلك. والنتيجة التي حصلت أن أكثر الأصوات -إن صح التعبير- كانت لـ عثمان، مما يدل على أمور: أولاً: أنه لو كان من فقه المسلمين أن الخلافة في آل البيت لما خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لا نقول عن علي بن أبي طالب ولا عن غيره أنهم كانوا يصرون على هذه المسألة، إنما كان علي بن أبي طالب قد اشتبه عليه الأمر في أول المقام أنه له في الأمر نصيب، لكنه بعد ذلك رضي وتابع.

تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما

تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما قال رحمه الله: [ويثلثون بـ عثمان، ويربعون بـ علي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان]. وإن كان هذا الإجماع فيه تردد من جهتين: الجهة الأولى: أن المصنف رحمه الله يقول: لكون الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان في البيعة، فهذا -والله أعلم- ليس محققاً من جهة كونه إجماعاً؛ لأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما استشار المسلمين في علي وعثمان، وهما بمنزلة متقاربة، فمن المتعذِّر والبعيد كثيراً أن كل الصحابة سيقولون: نريد عثمان، إنما ظاهر الأمر والقريب من العقل والإمكان، هو أن أكثرهم اختار عثمان وبعضهم أشار بـ علي، ومن المعروف أن بعض الصحابة كان يميل لآل البيت، ويرى أن علياً أولى بهذا، وعلى أقل الأحوال آل البيت أنفسهم كان مجموعة منهم موجودة، فمن المتعذر أن الصحابة إذ ذاك كانوا قد حصلوا إجماعاً. قد يقول قائل: إن مراد شيخ الإسلام بالإجماع هنا أن أغلبهم أطبق على ذلك. فهذا يمكن أن يوجه بهذا التوجيه، لكن يبقى أنه ليس من الإجماعات القطعية أن الصحابة أطبقوا إطباقاً كلياً، إنما ظاهر الأمر أن جمهور الصحابة إذ ذاك قدموا عثمان، وإلا فإن الستة الذين جعلها عمر فيهم وهم أفضل الصحابة إذ ذاك في الجملة، حصل من هؤلاء أن أحدهم خرج فبقي خمسة، وهؤلاء الخمسة بقي منهم الثلاثة: علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، أما سعد والزبير فقد جعل أحدهما أمره لـ علي والآخر جعل أمره لـ عثمان، فظهر أن من الصحابة من كان يقدم علياً. إذاً: المسألة ليس فيها إجماع، إنما كان مراد الشيخ رحمه الله الأكثر، أو أن مراده أنهم أجمعوا عليه خليفةً بعد بيعته، فهذا لا يسمى إجماعاً على هذا الوجه، فحتى لو أجمعوا على علي بعد خلافته فإنه يقال: قد حصل الإجماع عليه. والذي أريده من هذا: أن الاستدلال على فضل عثمان بكونه إجماعاً فيه تعذر، ولو فرض أنه إجماع فهو إجماع في البيعة والخلافة، وليس إجماعاً في الفضل، ولا شك أنه إذا قيل: من الخليفة بعد عمر؟ قيل: عثمان بالإجماع، لكن هل هو الأفضل؟ لا يلزم، والله يقول: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وشيخ الإسلام نفسه يقول: إنه في مسائل الولاية يعتبر الأمانة الدينية والقوة، يقول: وإذا وجد من فيه القوة وقدر يكفي من الأمانة فهو أولى ممن غلبت أمانته الدينية وقلت قوته السلطانية؛ لأن هذا لا يسوس الناس، فقد يعتبر في التقديم في مسألة الخلافة بالأقوى وبمن يجتمع الناس عليه، ولا يلزم أن يكون هو الأفضل. والقصد: أن مسألة عثمان وعلي ليس فيها نص وليس فيها إجماع، وقد أنكر الإمام أحمد على من بدَّع المخالف فيها، أي أنها مسألة لا يبدَّع المخالف فيها على الصحيح من مذهب أحمد، وإن كان المشهور عند أهل السنة أن عثمان أفضل. ونقول هذا الكلام لأن هذه المسألة لا ينبغي أن يغالى فيها مع الشيعة: أن عثمان أفضل من علي، كان هذا من مستقرات مذهبنا أنا نقدم عثمان على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لكن من التكلُّف أن يقال: إنه من الإجماعات والمستقرات، إنما القضية المستقرة الإجماعية تقديم أبي بكر وعمر، هذه هي التي لا جدال فيها، أما مسألة عثمان ففيها مجال للاجتهاد، ولو أن سنياً ناظر بعض الشيعة وقال: إن علياً عندنا أفضل من عثمان، لم يُنكر عليه، لكن إذا تكلمنا في الكلام العام قيل: الذي درج عليه أكثر أهل السنة أن عثمان أفضل من علي، مع أن هذا ليس فيه نص، وإنما قدم أبو بكر وعمر على علي للنص ليس إلا، هذا هو السبب: أن هذه لا جدال فيها لوجود نصوص فيها، أما عثمان فلا توجد نصوص، فله فضائل ولـ علي بن أبي طالب فضائل. أما قول ابن عمر: (كنا نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت)، فهذا ليس بلازم، هذا يحكيه ابن عمر أنه كان يقال هذا، لكن أن هذا كان مستقراً عند المسلمين أو ما إلى ذلك، فهذا بعيد. فالمسألة لا يقصد بها تفضيل علي على عثمان بقدر ما يقصد أنها ليست من مسائل الأصول، وليست مما يقطع فيه الجدل مع الشيعة. قال رحمه الله: [مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان ثم سكتوا أو ربَّعوا بـ علي، وقدَّم قوم علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي]. والأقوال الثلاثة كلها ممكنة، من قدَّم عثمان أو قدَّم علياً أو من توقف، هذه كلها أقوال ممكنة من جهة الاجتهاد، ولا يبدع المخالف فيها.

ترتيب الخلافة

ترتيب الخلافة قال رحمه الله: [وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله]. وهذه الجملة نقلت عن الإمام أحمد وغيره أنه قال: من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله. وهذه من عقائد أهل السنة: أنهم يجعلون الخليفة الراشد الرابع بعد عثمان هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخلافته خلافة راشدة، وهؤلاء الأربعة هم خلفاء الرسول، وهذا معنى كونهم خلفاء، بخلاف الخليفة من بعدهم كـ معاوية أو يزيد أو بني أمية أو بني العباس، فهؤلاء وإن سُموا خلفاء فالمقصود بكونهم خلفاء أنهم سلاطين، خلفاء على المسلمين، أي: استخلفهم المسلمون عليهم، أما الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فمعنى أنهم خلفاء: أنهم خلفاء الرسول في الأمة، أما من بعدهم فلا يسمَّى خليفةً للرسول، هو مستخلف من المسلمين عليهم؛ ولهذا فليس لهم سنة.

خطأ من جعل عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين

خطأ من جعل عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين لا يدخل في خلفاء الرسول عمر بن عبد العزيز؛ وإن قال بعض أهل العلم: أن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، فهذا من التكلف، فـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله وإن كان فقيهاً عادلاً؛ إلا أنه لا يمكن أن يصل إلى شأن الصحابة أبداً ويقال: إنه خليفة خامس .. وهذا أيضاً مخالف للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ..)، والإمام أحمد رحمه الله لما بلغه عن بعض أهل العراق أنهم يقولون: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، أنكر ذلك، وقال: ألم يقل النبي: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)؟ فالخلافة ثلاثون سنة تنتهي بخلافة علي بن أبي طالب، ويبقى منها بضعة أشهر هي في إمارة الحسن بن علي بن أبي طالب، لكن لا يمكن أن تستوعب خلافة عمر بن عبد العزيز، ثم النبي قال: (ثلاثون)، أي: متصلة، فحتى لو فرض أنه بعد علي بن أبي طالب بقي سنة أو سنتان فإنها تكون لـ معاوية، ولماذا تذهب لـ عمر بن عبد العزيز؟ فلو فرض أنه بقي منها سنتان أو ثلاث أو أربع فإنها تكون لـ معاوية، فـ معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز، ولا جدال في هذا، أما كون عمر بن عبد العزيز موصوفاً بالعدل؛ فإن ذلك لأنه جاء والعدل سهل عليه؛ فـ عمر بن عبد العزيز ما واجه ابن الزبير في مكة معارضاً، ولا واجه الحسين بن علي معارضاً، ولا واجه غيرهم، عمر بن عبد العزيز جاء في ملك وسلطان ملكي مستقر، والدولة قوية، والسياسة قوية، والأمور كلها على التمام، والميزانية العامة قوية، وكل الأمور الداعية إلى الاستقرار قوية، لكنها تحتاج إلى صدق من الحاكم، فكانت كل أدوات الاستقرار موجودة، فجاء وعمر بن عبد العزيز، فصدق، فاستقر الأمر. أما معاوية فالصدق موجود عنده، لكن أدوات الاستقرار السياسية -إن صح التعبير- غير موجودة، فهناك معارضون أقوى منه في الجانب الديني الشرعي، فـ ابن الزبير كان أقوى في الجانب الديني، وأهل مكة كانوا شبه مبايعين له إلى أن سمي بأمير المؤمنين، وقبل ابن الزبير كان علي بن أبي طالب، ومقامه عند المسلمين وشأنه أقوى من معاوية. فـ عمر بن عبد العزيز ما واجه مثل هذا أصلاً، كان يواجه أناساً ليس لهم هذه المنزلة الشرعية كمنزلة علي بن أبي طالب أو بعض الصحابة من بعد علي بن أبي طالب كـ ابن الزبير ونحوهم. فالمقصود: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه هو من الخلفاء وأئمة الفقهاء، ولكن لا يصح أن يقال: إنه خليفة خامس؛ لأن هذا مخالف للسنة من جهة، ولأنه يوحي بأنه أفضل من معاوية بن أبي سفيان من جهة، ومعاوية أفضل منه، وإن كان ابن تيمية رحمه الله يقول: إن العدل الذي حصل في زمن عمر بن عبد العزيز كثير منه أو أكثره لم يحصل زمن معاوية .. وهذا صحيح، وكلام شيخ الإسلام لا جدال عليه، لكن كما ذكرت سابقاً أن أدوات الاستقرار العدلية عند عمر بن عبد العزيز كانت متوفرة، فلا يمكن أن يكون هناك استقرار بدون اقتصاد، والاقتصاد المنضبط كان موجوداً، حتى قال بعض أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يسعى قوم بالصدقة لا يقبلها أحد). أن ذلك كان في زمن عمر بن عبد العزيز، فكان هناك استقرار، ومن أين جاء عمر بن عبد العزيز بهذا الاستقرار؟ الميزانية العامة التي كانت من فتوحات من قبله جاءت لـ عمر بن عبد العزيز شبه باردة. فلا ينكر مقامه رحمه الله، لكن لا ينبغي كثرة الإطراء والزيادة إلى خلط مسائل العلم بهذه الطريقة، ولذلك كان جواب الإمام أحمد في هذا حسناً وقوياً: أن هذا مخالف للسنة؛ لأن الخلفاء الأربعة هم خلفاء الرسول، وعمر بن عبد العزيز ليس له سنة، ومن قال: إنه له سنة فقد خالف السنة.

شرح العقيدة الواسطية [21]

شرح العقيدة الواسطية [21] يعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يتحقق الإيمان إلا بمحبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك بإكرامهم وحفظ منزلتهم وقدرهم، والذب عنهم ورفع الظلم عنهم.

من أصول أهل السنة: محبة أهل البيت رضوان الله عليهم

من أصول أهل السنة: محبة أهل البيت رضوان الله عليهم قال المصنف رحمه الله: [ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتولونهم]. محبة المؤمن موجبها جملة من الأوجه: يحب من جهة بره، ومن جهة إحسانه، ومن جهة صدقه، ومن جهة قرابته، حتى التحاب بين المؤمنين فيما بينهم، فإن المحبة الإيمانية لأبيك ليست كالمحبة الإيمانية لغيره ممن هو بعيد مثل العم أو لغير ذي الرحم أو ما إلى ذلك. فالمقصود: أن من أوجه الدين والإيمان المحبة لآل البيت من جهة كونهم من آل بيت النبوة، هذا أحد أوجه محبتهم، ولكن لا شك أن هذا ليس هو الوجه الأول، إنما هو فرع عن إيمانهم، ولهذا لم يكن هذا الوجه بإجماع المسلمين مشروعاً في كفارهم، فلا تشرع المحبة للكافر ولو كان ينتهي نسبه إلى آل البيت. وقد وجد من آل البيت في التاريخ أناس من الشيوعيين ومن العلمانيين، وأنسابهم مثل الشمس لا إشكال عليها، فهؤلاء لا يشرع حبهم من جهة كونهم من آل البيت؛ لأن هذا فرع عن الإيمان، إذا تحقق إيمانهم فمن أوجه محبتهم الشرعية أنهم يُحبَّون لكونهم قرابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام.

المقصود بالثقلين

المقصود بالثقلين قال رحمه الله: [ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي)]. حديث الغدير هو حديث زيد بن أرقم في الصحيح، وإن كانت الشيعة قد زادت فيه زيادات كثيرة، لكن فيه أن النبي قال: (إني تارك فيكم الثقلين)، وجاءت الرواية: (كتاب الله وأهل بيتي). فهل كان السياق أن الثقلين هما: الكتاب وآل البيت، أم أن قوله: (وآل بيتي) هذا كان من باب الاستئناف وليس من باب العطف؟ هذه مسألة. لكن لو فرضنا جدلاً أن الثقلين الذين قصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركهما هما: كتاب الله وآل البيت، فهذا لا جديد فيه، إذا فسرناه بهذا التفسير أنه ترك فينا ثقلين: كتاب الله وآل البيت، أما كتاب الله فالمقصود من تركه فينا أن يُتدين به، فحق كتاب الله الإيمان به والعمل، وحق آل البيت محبتهم وتوقيرهم والإحسان إليهم .. وهلم جراً من المسائل المناسبة لهم. فمن يقول: إن النبي قال: تركت فيكم كتاب الله وآل بيتي، نقول: نعم، هذا وصية من الرسول عليه الصلاة والسلام بكتاب الله ووصية منه بآل البيت، ولا نعترض على هذا، فهذا صحيح، وقد قاله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، وليس حكماً جديداً اختص بغدير خم، فحتى لو لم ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام فهذه الوصية حكمها ثابت في القرآن وفي السنة كثيراً. فحق القرآن الإيمان به واتباعه والتمسك به، وأما آل البيت فإما أن يكون المقصود: (وآل بيتي) أي: تمسكوا بشريعتهم، واتبعوهم، وهذا غير ممكن، فلا يمكن أن نتبع كل واحد من آل البيت، وفيهم الفقيه وغير الفقيه، والسني وغير السني، وفيهم المؤمن والعلماني، فالإسلام ليس عائلةً معينة، والأشياء المكتسبة جعلها الإسلام شورى، الملك جعله الإسلام شورى، وهو قضية مكتسبة، وقد أجمع السلف على أن من غلب بقوة السيف، واستقر له الأمر؛ أصبح إماماً تجب طاعته، فكيف في مسألة النبوة؟ وقوله: (أذكركم الله في آل بيتي) كان من باب التأكيد على حق آل بيته عليه الصلاة والسلام، وأنه يجب برهم، وليس فيه أن لهم الخلافة أو أنهم يقدمون أو ما إلى ذلك.

عدم تحقق الإيمان إلا بمحبة آل البيت

عدم تحقق الإيمان إلا بمحبة آل البيت قال رحمه الله: [وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)]. وهذا حديث على وجهه: أن المسلم لا يحقق الإيمان إلا بمحبة آل البيت، كما تقول: إن من خصال الإيمان الواجبة صلة الرحم، فمن خصال الإيمان الواجبة محبة آل البيت، فقاطع الرحم يسمى فاسقاً، ومن لم يحب آل البيت يسمى فاسقاً، فقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) نقول: نعم، من زعم أن أحداً يحقق الإيمان وهو لم يحب آل بيت الرسول -أي: المؤمنين منهم- فقد أخطأ وخالف السنة وإجماع السلف، فإن من أعظم أنواع الفسق: الطعن في آل البيت أو عدم محبتهم، ولا شك أن من موجبات الإيمان ومن أعظم شعائره: محبة آل البيت، والشهادة لهم بهذه الخاصية التي لا يشاركهم فيها حتى أبو بكر، لكن كونه رضي الله عنه لا يشاركهم في هذه الخاصة لا يعني أنه لا يمتاز عليهم بأوجه أخرى، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) وليس معنى ذلك أن إبراهيم أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام. وموسى عليه السلام حصل له أنه جاء للميقات وكلمه ربه، ولم يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه كلمه ربه وهو في الدنيا وهو في أحد جبال مكة أو ما إلى ذلك لكن هذا الاختصاص الذي عرض لموسى لا يوجب أن يكون موسى أفضل من محمد. كذلك عيسى عليه السلام رفعه الله إليه، وليس هو أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام. أما ما تقوله الشيعة من أنه لا ولاء إلا ببراء .. فإنه يلزم منه التكفير لآل البيت، فهم يقصدون أنه لا ولاء لـ علي إلا بالبراء من أبي بكر وعمر، والتاريخ يحفظ حفظاً قطعياً أن هناك أعياناً من آل البيت كانوا موالين لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا هو الأصل فيهم، وهكذا كان شأن أبي بكر أنه كان موالياً لـ علي ومحباً له، وكان علي بن أبي طالب موالياً لـ أبي بكر، فإذا قيل: لا ولاء إلا ببراء؛ لزم من ذلك التكفير حتى لآل البيت؛ لأنهم ما كانوا يتبرءون من أبي بكر وعمر، وما نقل عن إمام من أئمة آل البيت أنه تبرأ من أبي بكر. وقولهم: إن فاطمة رضي الله عنها لم تبايع، فهذا حصل منها، وكانت رضي الله عنها ترى أن لها في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولم يبلغها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) فكانت تظن أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يورث كغيره، فكانت تنتظر ما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر أنه يقسم قسمة مواريث، لكن أبو بكر قال: إن رسول الله قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة) وفاطمة لم يبلغها الحديث فأخذت في نفسها على أبي بكر، وهذا اجتهاد من فاطمة يدخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر) فهي اجتهدت رضي الله عنها، وما قصدت مخالفة سنة النبي، واجتهادها مغفور لها وإن كان ليس صواباً. وأما أنها لم تبايع أبا بكر فقد أجمع أهل العلم أن البيعة تنعقد بدون النساء، إنما المعتبر هو بيعة أهل الحل والعقد من الرجال، أما النساء فلا يدخلن في مسألة البيعة أصلاً؛ لأنهن ليس لهن في الأمر نصيب، إنما الذي تجب بيعته هو الذي له في الأمر نصيب؛ لذلك حتى العامة لا يلزم بيعتهم بالأعيان، كأن يأتي كل واحد من العامة يبايع أو يعلن البيعة، بل إذا جاء أهل الحل والعقد من العلماء ووجهاء الأمصار فبايعوا إماماً، فإن بيعته تكون شرعية لازمة لكل أفراد المجتمع من الرجال والنساء، أما من بايع من العامة فهذا يعتبر زيادة تأكيد ليس إلا.

معنى الاصطفاء في حديث: (إن الله اصطفى بني إسماعيل)

معنى الاصطفاء في حديث: (إن الله اصطفى بني إسماعيل) قال رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)]. فبنو هاشم بهذا الحديث قد اصطفاهم الله، ولا شك أن بني هاشم هم أفضل قريش، لكن هذا الاصطفاء له معنى آخر، فهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى قريشاً) وليس معنى ذلك أن قريشاً أصبحت كلها أمة ربانية إلهية، بل قريش فيهم الأبرار وفيهم الكفار، فمن يقول: إن الله قد اصطفى بني هاشم. نقول: اقرأ الجمل التي قبل، اصطفى بني هاشم من قريش، واصطفى قريشاً من كنانة، هل معناه: أن قريشاً أصبحت مصطفاة؟ بل قريش هي التي كانت تعبد اللات والعزى، وهي التي وضعت على الكعبة ثلاثمائة وستين نصباً كما في حديث ابن مسعود، فالاصطفاء ليس معناه القداسة المطلقة لهذه الطائفة أو القبيلة أو المجموعة، وبعض أهل العلم يقول: إن الاصطفاء من قريش هو باعتبار المنتهى، أي: أن النبي في الأخير صار منها، فصار الرسول يقال: إنه هاشمي قرشي، هذا وجه الاصطفاء لقريش. لكن حتى لو قلنا: إن قريشاً لها بعض الاختصاص في قدر الله، الاصطفاء في قدر الله ليس معناه الإطلاق؛ لأن قريشاً كان فيها الكفرة. هنا تنبيه يتعلق بمسألة حقوق آل البيت أو مسألة الصحابة: أحياناً بعض الناس ممن يكتب في هذا يكون متحمساً للرد على الشيعة، فتراه يقصر في شأن آل البيت، ويكون عنده حماس في الدفاع عن أبي بكر وعمر لدرجة أنه قد يطعن في علي أو يطعن في مقام آل البيت أو في قدرهم مما لا داعي له، وبعض الناس يكون عنده ضعف في العقل، لا يحسن التوازن إلا بأن يصيب من هؤلاء شيئاً أو من هؤلاء شيئاً. والصواب: أن هؤلاء أمة واحدة، وكانوا رضي الله عنهم -أعني: أبا بكر وعلي بن أبي طالب، أو آل البيت وغير آل البيت من الصحابة- كانوا في زمن النبوة وقبل أن توجد الفتن أمةً واحدة، وكانوا مجتمعين يصدق بعضهم بعضاً ويوالي بعضهم بعضاً. إذاً: لا يجوز أن يقع في كلام بعض الناس ما هو من التقصير في شأن آل البيت، فكما قلنا: إن لهم قدراً، وإن لهم اختصاصاً، وإن محبتهم من الإيمان بالله ورسوله، ومن تصديق الله ورسوله.

شرح العقيدة الواسطية [22]

شرح العقيدة الواسطية [22] من معتقد أهل السنة تولي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بأنهن أمهات المؤمنين، وأزواج نبي رب العالمين في الدنيا والآخرة. كما أن من معتقدهم الإيمان والتصديق بكرامات الأولياء، وهم في ذلك يخالفون المعتزلة ومتكلمة الصفاتية الذين ينكرون الكرامات المتحققة في حق الأولياء.

موقف أهل السنة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم

موقف أهل السنة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة]. بين أهل العلم خلاف: هل أزواجه من آل بيته، أم لا؟ هذه مسألة انضبطت أو لم تنضبط الأمر فما يتعلق بها هو أكبر من كونهن من آل البيت، وهو أنهن مؤمنات سابقات جعلهن الله أزواجاً لرسوله عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك.

المفاضلة بين خديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن

المفاضلة بين خديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن [خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)]. هذا الحديث ليس صريحاً في أن عائشة هي أفضل نساء المؤمنين، وإذا قيل: إنه ليس صريحاً فليس معناه: أنه لا دلالة فيه، ومن استدل به على فضل عائشة قيل له: فيه دلالة، لكنها دلالة محتملة ليست دلالة صريحة، لأنك إن قلت: إنه نص صريح، أصبحت المسألة تميل إلى الجزم واللزوم والقطع، فهذا نص محتمل، وإن كان الرسول قال فيه: (فضل عائشة على النساء) فقد يكون الفضل الذي كان يتكلم عنه عليه الصلاة والسلام ليس هو فضل الدين المطلق، بل الفضل المتعلق بعشرة النساء وصلتهن بالأزواج وبرهن مع الأزواج، فهذه أمور محتملة في الحديث. فيما يتعلق بأفضل أصحاب رسول الله: من المعروف أن أفضلهم أبو بكر .. إلى آخره، أما ما يتعلق بنساء هذه الأمة فاتفق السلف أو أهل السنة على أن أفضل النساء فاطمة وخديجة وعائشة، هذا متفق عليه أن هؤلاء الثلاث هن الأفضل، ثم تنازع أهل العلم أيتها أفضل، فقوم قالوا: عائشة، ويستدلون بمثل هذا الحديث، وهو فيه نوع من الدلالة وليس صريحاً، والأظهر أنه لا دلالة فيه، ويفضل قوم خديجة، ويفضل قوم فاطمة. فقد جاءت نصوص في هؤلاء الثلاث، فقال النبي لـ فاطمة: (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟) كما في الحديث الثابت في الصحيح، فهذا أقوى في الدلالة من حديث فضل عائشة على النساء، يعني: إذا كان حديث فضل عائشة على النساء يدل على أنها هي الأفضل مطلقاً فقول النبي لـ فاطمة: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو سيدة نساء العالمين؟) أصرح في الدلالة، لا سيما أنها كانت على وجه البشارة الأخروية؛ لأنه سارَّها بذلك، ولم يكن هذا مما يقصد ذكره بين الناس، كان هذا من باب المسارَّة؛ لأنه سارَّها كلمة فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، ولم تكشف سره عليه الصلاة والسلام إلا بعد وفاته. فالمقصود: أن هؤلاء الثلاث القول فيهن ممكن، والجمهور من السلف فيما يظهر والله أعلم ما كانوا يشتغلون بهذا التفضيل والجزم كاشتغالهم بتفضيل أبي بكر وأمثال ذلك، ولذلك الأولى والأقطع للنزاع ولكيلا تكون هذه المسائل موجبة لكثرة الخلافات التي لا طائل تحتها، أن يقال: أفضل نساء هذه الأمة فاطمة وخديجة وعائشة، أما أيتهن أفضل؟ فهذا أمر الله أعلم بتمامه، ولكن إذا اعتبرت الأمور بالأقرب فـ خديجة أو فاطمة أفضل من عائشة فيما يظهر والله أعلم. ولكن أنا أميل إلى عدم العناية بمسألة الترجيح في المسألة، فكثرة النظر فيها والترجيح ليس مقصوداً، ذلك أنه لا فائدة فيه، لأنه ليس من باب التراتيب الإيمانية المنضبطة على أخبار منضبطة، أما تفضيل أبي بكر فمقصود؛ لأنه من التراتيب الإيمانية، هذا دين وعقيدة أن نؤمن أن أبا بكر هو أفضل الصحابة؛ لأننا بذلك نحقق النصوص الصريحة، أما التفضيل بين خديجة وعائشة وفاطمة فهذا ليس فيه نصوص صريحة.

براءة أهل السنة من الروافض والنواصب

براءة أهل السنة من الروافض والنواصب قال المصنف رحمه الله: [ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل]. النواصب ليسوا هم أهل السنة كما زعمت الشيعة، وليس النواصب هم بني أمية، إنما النواصب هم من ناصب أهل البيت العداء أو قصد الطعن عليهم، فهذا يسمى ناصبياً، سواء كان من بني أمية أو كان من السنة غيرهم فكل من ناصب آل البيت العداء، أو طعن فيهم فهو يسمى ناصبياً أياً كان اتجاهه، أما تصنيف سائر بني أمية أنهم نواصب؛ فهذا غير صحيح، وهو من تصانيف الشيعة.

الإمساك عما شجر بين الصحابة

الإمساك عما شجر بين الصحابة [ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه]. الإمساك عما شجر بين الصحابة سنة من سنن السلف، لكن هذا لا يمنع ذكر الحقائق الكلية المنضبطة. من الحقائق الكلية التي أريد أن أشير إليها تمثيلاً لا استقصاءً: أن علياً أولى بالحق من معاوية .. هذه حقيقة كلية منضبطة لا تنافي الإمساك، وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أن عماراً تقتله الفئة الباغية)، لا ينافي لزوم الإمساك، فمثل هذه الحقائق لا بد من ضبطها في فقه الشجار والنزاع الذي حصل بين الصحابة. أما إذا فُسِّر الإمساك بأنه السكوت وعدم قول أي كلمة، فهذا غلط مخالف للنص والإجماع، فإن النص قال: (تقتل عماراً الفئة الباغية) وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مروق الخوارج فقال: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، فظهر منه أن علياً أولى بالحق. إذاً الحقائق الكلية المنضبطة عند السلف لا تنافي الإمساك. [والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم]. وهذا المعنى: أن كل من كان محققاً للإيمان يغفر له ما لا يغفر لغيره حصله المصنف من قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. [لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟! ثم إن القدر الذي يذكر من فعل بعضهم قليل، نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم: من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله]. لا نزيد عليه رحمه الله في هذا التقرير منه لدرجة الصحابة ومنزلتهم، وما قد وقع من بعضهم أو ما نقل عن بعضهم من بعض التقصير أو ما إلى ذلك، فإن هذا قد زيد فيه ونقص، وما ثبت منه قد يكون من باب الاجتهاد، وإذا بلغ المنتهى وكان من باب المعصية، فإن لهم من الحسنات والتوبة والجهاد وما إلى ذلك ما يوجب التكفير، ولما حصل لهم من الاصطفاء الإلهي في رضا الله سبحانه وتعالى عنهم.

كرامات الأولياء

كرامات الأولياء ختم المصنف كتابه هذا الذي ذكر فيه جمل الأصول عند أهل السنة والجماعة في أبواب العقائد وأصول الدين، بقوله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء]. وهذا الأصل إنما كان من موارد الإجماع عند السلف؛ لأن النصوص عليه في الكتاب والسنة صريحة، فإن الله ذكر في القرآن قصة أصحاب الكهف، وذكر في القرآن ما كان يحصل لـ مريم عليها السلام من أنواع الكرامة كمجيء رزقها وهي في المحراب حتى قال لها زكريا: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:37] وكان متعجباً من هذا الرزق الذي يأتيها {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] فمثل هذه الكرامات التي حصلت لأهل الكهف في نومهم وحفظ الله لهم مع نومهم في أبدانهم، ثم ما حصل لـ مريم عليها الصلاة والسلام، وكذلك ما جاء في السنة الصحيحة من إثبات ذلك. فصار قوم من أهل البدع ينكرون الكرامات، وأخص من أشهر الإنكار لهذه المسألة هم المعتزلة، وشاركهم فيها بعض متكلمة الصفاتية، فصاروا ينكرون كرامات الأولياء. والكرامة هي أمر خارق للعادة يجريه الله سبحانه وتعالى على يد ولي إما معونةً في أمر ديني وإما معونة في أمر دنيوي، ولا يلزم أن يكون في الأمور الدينية فقط، بل قد يكون في الأمور الدينية وقد يكون في الأمور الدنيوية، وهو في الجملة خارق للعادة الحسية وليس خارقاً للعادة العقلية؛ لأنه لا شيء يخرق العادة العقلية، إنما الخوارق للعادات الحسية فقط، وإن كان هذا الحس قد يحكم الناس عليه بأنه حكم عقلي، والصحيح أنه حكم حسي.

إنكار المعتزلة للكرامات وشبهتهم في ذلك

إنكار المعتزلة للكرامات وشبهتهم في ذلك الكرامات التي يجريها الله سبحانه وتعالى على يد من شاء من عباده، أنكرتها المعتزلة لموجب عندهم مركب من مقدمتين كلاهما فاسدة. المقدمة الأولى: قالوا: إن النبوة لا تثبت إلا بمعجزة، والمعجزة عندهم هي الخارق للعادة. المقدمة الثانية: قالوا: فإذا حصلت الكرامة لولي حصل التباس بين النبوة والولاية، أو بين النبي والولي، ومن هنا أنكروا هذه الخوارق.

الرد على شبهة المعتزلة في إنكار الكرامات

الرد على شبهة المعتزلة في إنكار الكرامات هاتان المقدمتان كلاهما مما ينازع فيه، فإن النبوة وإن كانت تثبت بالمعجزة والآية، وهذا اسمها الشرعي: أنها آيات الأنبياء، فإن النبوة لا يقتصر ثبوتها على المعجزات، فهي تثبت بالمعجزات وتثبت بغيرها، فمن المعلوم أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا دين الإسلام ممن لقيه أو حتى ممن بلغه دين الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً منهم يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويسلمون بذلك لما يسمعون في دينه من التوحيد أو من الأمر بمكارم الأخلاق، أو ما إلى ذلك، وإن كانوا حال إيمانهم ودخولهم في دين الإسلام لا يلزم بالضرورة أنه بلغتهم عنه صلى الله عليه وسلم معجزة من خوارق العادات، وإنما قد يبلغهم ذلك فيما بعد، أو ربما أنه بلغهم، ولكن يكون سبب إيمانهم هو الأول. إذاً الصواب الذي عليه جمهور المسلمين وهو إجماع عند السلف أن النبوة تثبت بالمعجزة وبغيرها من الدلائل الموجبة للتصديق، ومن الدلائل الموجبة لتصديق النبي والرسول أنه يدعو إلى توحيد الله، ويدعو إلى الأخذ بشريعة الله سبحانه وتعالى. إذاً: المقدمة الأولى عند المعتزلة ليست صواباً، لأنه لو كانت النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة للزم من ذلك أن يكون الإيمان بالنبي معلقاً على العلم بالمعجزة، ولو كانت النبوة لا تعرف إلا من جهتها، للزم أن يكون إيمان الذي يسلم أو يدخل هذا الدين بالنبي مستلزماً للعلم بدليل النبوة وهو المعجزة، والأمر ليس كذلك. فإن قيل: فمن يسلم أيقال إنه أسلم دون أن يعلم دليل النبوة؟ قيل: لا، كل من يسلم فقد علم ما هو من دليل النبوة، فمن أسلم لكونه رأى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى إفراد الله في العبادة، فهذا أسلم على دليل من دلائل النبوة، وهو أن من دلائل صدق النبي أنه يدعو إلى التوحيد، كما أن من دلائل صدقه ما يجريه الله على يديه من المعجزات، فهذا دليل، وهذا دليل .. إذاً: هذا هو الرد على المقدمة الأولى. المقدمة الثانية: لو فرض جدلاً أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة فإن هذا لا يوجب أن تكون الكرامة منفية حتى لا تلتبس بالمعجزة، فإن الفرق بين الكرامة والمعجزة هو متحصل من جهة الفرق بين النبي وبين الولي، وهذا الفرق الأضبط الذي يمكن أن يكون مدركاً حتى للعامة من المسلمين، إذا قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق المنضبط أن هذه المعجزة تحصل لنبي، وهذه تحصل لولي، ويمتنع أن الولي يدعي بها النبوة، فإنه لو فرض أنه ادعى بها النبوة لما أمكن في نفس الأمر أن يكون ولياً، بل هذا يكون كذاباً دجالاً. فإذا قيل: إن هذا قد يخشى منه دعوى النبوة، قلنا: هذا يمكن فرضه في الخوارق التي تحصل من الكهان؛ لأنهم قد يعملون الأعمال الخارقة التي يستعملون فيها الشياطين، فيدعون بها شيئاً من الغيب أو شيئاً من النبوة أو شيئاً من مقامات الربوبية أحياناً، أما الولي فإن ذلك ممتنع في حقه؛ لأن ولايته تمنع أن يكون مدَّعياً بها، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام من دلائل نبوته أنه يدعو إلى التوحيد، وقد سأل هرقل أبا سفيان: (بم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والصلة والعفاف). فكانت هذه من موجبات كونه نبياً صادقاً. إذاً هذا الالتباس الذي فرضه المعتزلة ممتنع: ممتنع من جهة المقدمات النظرية، وأما من جهة الوجود الحسي فهو كذلك؛ لأن الموجب الذي طرأ عند المعتزلة لمنعها يلزم اطراده في الخوارق التي تحصل عند السحرة والكهان وأمثالهم من الكذابين، ومعلوم عند سائر الخاصة والعامة بل حتى عند غير المسلمين أن الكهان والعرافين والمدعين للعلوم الغيبية هم ممن يستعملون الشياطين سواء ممن ينتسب لهذه الأمة الإسلامية أو ممن هو خارج عن أمة الإسلام من عبدة الأوثان من أهل الهند التي تكثر فيها مثل هذه الوسائل أو غيرهم، فيحصل لهؤلاء الكذابين من الكهان ونحوهم كثير من الخوارق الظاهرة عند العامة، وحقيقة أمرها أنها مما تعمله الشياطين لهم، فإن الشياطين -كما هو معروف في القرآن- قد أقدرهم الله على ما لم يقدر عليه البشر؛ ولذلك كان لسليمان من الشياطين من يغوصون له، وقصتهم مع سليمان معروفة، {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] ومثل هذا خارق للعادة. فمثل هذه الأعمال التي تصدر بواسطة الشياطين أمر لا يستطيع أحد أن ينكره .. لكونه موجوداً في هذه الأمة وفي غيرها -أي: في المنتسبين لهذه الأمة وفي غيرهم-، فهذا القول هو من إنكار الحسيات، فإن هذه المعارف من علوم السحر وعلوم الطلاسم وما إلى ذلك كانت مشهورة حتى في عصر المعتزلة، وعلماء المعتزلة مطلعون على مثل هذه الكتب، ولا سيما أن بعضها كان مترجماً من فلسفة الهند وغيرها. فهذا كله من التكلف في إنكار ما هو من الحسيات مع أنه لا موجب له من جهة النظر فضلاً عن الشرع، فإن الله ما نفى هذه الكرامات في القرآن، بل في القرآن والسنة ما هو إثبات لها، وأما هذا الموجب الذي فرضوه فلو فرض صدقه أمكن ذلك في خوارق السحرة والكهان؛ لأن الكذاب من الكهان ونحوهم قد يدَّعي بخارقه اختصاصاً من جهة الديانة، فيدعي صفة ربانية أو نبوية أو ما إلى ذلك، أما الولي فإن هذا الادعاء يمتنع في حقه.

الولاية اسم تابع للإيمان

الولاية اسم تابع للإيمان لكن مع إيمان أهل السنة بها وتصديقهم لما يحصل من ذلك إلا أن هذا ليس من امتياز الأولياء، بمعنى أن الولي لا يعرف بالكرامة، وهي وإن كانت تحصل لمن هو من الأولياء، فهي لا تختص -أعني: الكرامة- بمقامات الأولياء، بحيث أن الولي إذا حصل له كرامة فإنه يعلم بها أنه أفضل من غيره ممن لم تحصل له كرامة .. بل هي تعرض لبعض الأولياء على ما يشاء الباري سبحانه من الحكمة: قد يكون الأمر تثبيتاً له، وقد يكون نصرةً له .. الخ، فللكرامة موجبات على حكمة الله، لكن النتيجة من هذا أنها لا توجب الفضل المطلق لهذا الولي على غيره، حتى ولو كثرت كراماته، والآخر لم يشتهر بالكرامات. الجهة الثانية: أن الكرامات في كلام أهل العلم تتعلق بالأولياء، والولاية -كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- تتفاوت، يقول: فكما أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فكذلك الولاية، فإن الولاية اسم تابع للإيمان، فبقدر تحقيقه للإيمان يكون محققاً للولاية، وكما أنه يحصل له الإيمان مع نقص فيه فكذلك يحصل له الولاية مع نقص فيها؛ لأن الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فمن حقق الإيمان على التقوى فهو الولي المطلق، والمؤمن المطلق هو الولي، والمؤمن الناقص لا تنفى عنه الولاية، إذ له من الولاية بقدر يناسب إيمان هذا الولي أو هذا المؤمن، وإن كان لا يسمى ولياً بإطلاق، فلا يعني هذا أنه ليس له من الولاية شيء، كما قد يقع في ذهن بعض العامة أن الولي هو درجة من الاختصاص لا يقع اسمها لا مطلقاً ولا مقيداً إلا في حق الخاصة؛ بل الولاية هي ولاية الله، والله يتولى الذين آمنوا {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ} [المائدة:55] فالله يتولى أهل الإيمان على درجاتهم. لكن الاسم المطلق حينما يقال: إن فلاناً من أولياء الله لا يسمى به إلا من عرف تحقيقه للإيمان .. هذه جهة في مسألة الولاية.

حال الصحابة رضوان الله عليهم مع الكرامات

حال الصحابة رضوان الله عليهم مع الكرامات الجهة الثانية في مسألة الولاية: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كانوا يعنون بتخصيص بعضهم بمقام الولاية؛ لأن مقام الولاية حقيقته أنه مقام عبادي أحوالي، يتعلق بأحوال القلوب، وهذا الباب وإن كان يدرك بالاستفاضة أو بالشهادة إلا أنه في حقيقته باب غيبي، بمعنى أن المعين للولي هو الله سبحانه وتعالى. والذي كان عليه السلف الأول من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يعينون بالعلم، هذا هو الذي درج عليه السلف، أما الصوفية -أو أكثر الصوفية- فإن الولاية يكون لها أشبه ما يكون بالنظام والدستور العلمي أو العملي عندهم، فتجد الجانب الوراثي الشخصي المتعلق بالنسب، وأن هذا أبوه كان هو الولي، فتتحدر الولاية فيهم كابراً عن كابر، وهذا كله من الجهل والغلط على الشريعة. ومثله التخصيص لأناسٍ بأنهم هم الأولياء لمظاهر أو لدرجة يظهرونها من المقام، ويُتبرك بهم على هذا التقدير وما إلى ذلك، فأكثر هذا التخصيص لا وجه له، إنما التخصيص الممكن هو التخصيص الظاهر من جنس التخصيص الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن فلاناً اشتهر بالعلم، وفلاناً اشتهر بالجهاد، وفلاناً اشتهر بالفقه، وهذا بحفظ الحديث .. وهلم جراً، وكل هذه المقامات العلمية والعملية هي من مقامات الولاية. أما تقسيم المجتمع بأن هؤلاء هم السادة الأولياء، وهؤلاء هم المريدون التبع، والمسألة مسألة ترقي، والولي هو الذي يحكم لهذا المريد أو لهذا المتقدم أنه وصل إلى درجة كذا، ثم يتصعد إلى أن يصبح ولياً، فهذا كله جهل بالشريعة؛ فإن الذي يقبل الولي ولياً هو الله، وقد يكون هذا الولي من العامة وهو عند الله من الأولياء، فهذه الطرق المترقية عند الصوفية لا شك أنها من البدع المحدثة في تسمية الولاية. فمن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، والكرامة قد تقع لغير الولي بالمفهوم الخاص، فهي تقع للمؤمن؛ ولذلك لو كان التعبير: ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات المؤمنين لكان صحيحاً؛ لأن الكرامة ليست ملازمة للولاية، والولاية قد تتحقق لمن لم تقع له كرامة، ولا يقول بغير هذا إلا غلاة من الصوفية: أن من شروط الولي عروض الكرامات له. فالكرامة مرتبطة بالإيمان، وهذا لا ينافي قول أهل السنة أو قول أهل العلم عموماً أن الكرامة للولي، فالمؤمن هو الولي، ولكن ينبغي أن يعبر بأن الكرامة تكون للمؤمن كما يعبر أنها تكون للولي، فيذكر التعبيران قطعاً لهذه الشبهة المترتبة في عقول الصوفية، والتي دخلت على كثير من عامة المسلمين ولا سيما في البيئات التي يكثر فيها التصوف: أن الكرامات هي خصائص لقوم بلغوا درجة الولاية، حتى ربما أظهرت لهم الشياطين بعض هذه الخوارق، وزينتها لهم فظنوا أنهم أولياء، فضلوا وأضلوا. ولذلك قد تعرض الكرامة من كرم الله سبحانه وتعالى لبعض المسلمين، فقد تدركه رحمة حتى لو كان عنده بعض المعاصي، قد يكون في انقطاع من السبل مثلاً فتدركه كرامة من الله بإجراء ماء أو بجرية ماء بين يديه أو ما إلى ذلك، وهذا قد يعرض. فالكرامة حقيقتها أنها عون إلهي ونعمة إلهية، والكرامة ليست مجازاة على الثواب المطلق، نعم هي لا تكون إلا لمؤمن، وهذا الشرط ثابت، لكن ليس معناه: أن من كان في حاله شيء من النقص يمتنع وجود الكرامة في حقه، إنما شرطها الإيمان الصادق. ثم هناك فرق بين الكرامة التي تعرض على نوع من حفظ النفس كمن انقطعت به السبل، وبين الكرامة التي تحصل لولي على مقام من النصرة التي يلحقه أتباع بها، فهذه لا تعرض إلا لمن هو أهل لها.

من بدع الصوفية في الكرامات

من بدع الصوفية في الكرامات قال رحمه الله: [وما يجري الله على أيديه من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات]. مما يعلم أن كثيراً من الصوفية زادوا في مسألة هذه المكاشفات، ولا سيما المكاشفات الأحوالية المتعلقة بالقلب أو المكاشفات العلمية، فأدخلوا على نظرهم وعلى محصلاتهم ما هو من البدع وما هو من الوهميات العلمية، وزعموا أن هذا من الأسرار أو من المكاشفات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، أي: أنها من الكرامات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، وهذا موجود وثابت كما ذكر المصنف رحمه الله، لكن مما يعلم أنه حصل فيه استطالة كثيرة ولا سيما عند مبتغيه. ولذلك من فقه الكرامة أن صاحبها لا يكون متطلباً لها أو منتظراً لها، فمن تطلب الكرامة فهو في الغالب يقع عنده شيء من الفتنة، ولذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كان أحد منهم يتطلب مثل هذه الكرامة أو ينتظرها، ومن المعلوم أن كبار أئمة الصحابة ما حصل لهم شيء من هذه الكرامات الظاهرة التي تعرض لبعض الصوفية من بعدهم، مما يدل على أن مقام الكرامة ليس هو مقام الحكم على الإيمان ودرجته. [والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة].

شرح العقيدة الواسطية [23]

شرح العقيدة الواسطية [23] من معتقد أهل السنة والجماعة أن أصدق الكلام كلام الله، وأن خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقدمون كلام أحد على كلام الله، ولا هدي أحد على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما يعتقدون أن ما تعلق بمسائل أصول الدين من إجماع إنما هو إجماع السلف الأول من الصحابة، وأنهم أحق الناس بأن يتبع سبيلهم بعد كتاب الله وسنة نبيه.

اتباع أهل السنة لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح

اتباع أهل السنة لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح قال رحمه الله: [فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار]. (اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً) وذلك أن هذا الاسم -وهو أهل السنة والجماعة- ينظر فيه باعتبارين: باعتبار العقائد والأصول، فهذا القول فيه على الأصول المعروفة، وينظر فيه باعتبار منهجهم العام -أي: منهج أهل السنة والجماعة العام- وهذا يدخل فيه الأخلاق وأحكام التشريع، وهذا من جهة أن أئمة السنة والجماعة من المحدثين والفقهاء لهم منهج في التفقه، ولهم منهج في الأخلاق، وإن كان هذا المنهج الذي يُذكر لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، وقد سبق معنا أن ما هو من عقائدهم لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، ما من عقيدة من عقيدتهم إلا وقد يشاركهم فيما هو منها بعض الطوائف من المسلمين، ففي صفات الله لا طائفة من الطوائف تحقق باب الصفات كتحقيق السلف، لكن ليس كل الطوائف هم من النفاة .. فقد وجد الأشعري وابن كلاب فأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها. إذاً ما من أصل من أصول أهل السنة إلا ويشاركهم فيما هو منه بعض المسلمين، أما التحقيق لأصل باطراد فهذا في الغالب أنه اختصاص عندهم، أما أن يكون غيرهم عنده من الأصول ما ليس عندهم، فهذا ممتنع، كذلك في باب التشريع وباب الأخلاق فإن غيرهم يشاركهم في هذا، لكن هديهم أكثر تحقيقاً، وهذا باعتبار أن منهج أهل السنة والجماعة منهج عام في العقائد والأصول، أو في التشريع أو في الأخلاق. وإن كان اسم أهل السنة أو اسم السلفية أو السلف إذا تكلم به انصرف إلى القول في العقائد باعتبارها هي الأشرف وهي محل النزاع من جهة الأصل بين أهل القبلة، لكن مع هذا فإن من فقه الناظر في كلامهم -أعني كلام السلف أو كلام أهل السنة- أن يعتبر هذا المعنى العام: أن طريقتهم طريقة عامة، وهي الأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأن هذا هو السبيل الذي أوجب الله به النجاة في مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فبيَّن سبحانه أن ثمة تلازماً بين طريق الرسول عليه الصلاة والسلام وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] فدل على أن سبيل المؤمنين هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم أخذوا وتلقوا عنه. قال رحمه الله: [واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)]. هذه الوصية الجامعة هي حديث العرباض بن سارية في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقتدوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وهم الخلفاء الأربعة، وهذا فيما يقرونه ويلتزمون به من الاجتهاد ويلزمون به الأمة، هذا معنى حديث العرباض في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) المقصود بسنة الخلفاء هنا: هو اجتهادهم الذي يلزمون به الأمة، فإذا ألزم أبو بكر الأمة بأمر، فإنه يجب على الأمة أن تلتزم به كسنة شرعية، ليست سنة مصلحية تعرض وتزول، لكن إذا ألزم به أبو بكر فإنه يكون سنةً شرعية لا يجوز لأحد أن يخرج عنها، هذا هو وجه أن لهم سنة بخلاف غيرهم، فإن الأمر يكون على حسب المصالح والقياسات والنزاع العلمي إلى غير ذلك، وهذا من تسديد الله لهؤلاء الأربعة. ولهذا فرع بعض أهل الأصول: هل اتفاق الخلفاء الأربعة الراشدين على رأي في مسألة ما حجة، أم ليس بحجة؟ والمأخذ من هذا الحديث لا يدل على أن قول أحد منهم أو حتى اتفاقهم يكون حجةً بذاته في المسائل التي مردها إلى النصوص، إنما هذا فيما يختصون به من النوازل وما يتعلق بالمصالح المرسلة التي تعرض في زمنهم، فيكون هذا من تمام الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم. وإذا قيل: إن الصحيح أن هذا الاتفاق ليس حجةً بذاته، لا يفهم منه أنه يخالف قولهم، لأنه لم يحفظ مسألة من مسائل العلم -أي: في مسائل التكليف- قد أجمع الخلفاء الراشدون فيها على قول وكان هذا القول ليس راجحاً فاحتجنا أن نرجحه بكون إجماعهم حجة، بل تجد أنهم إذا اتفقوا وحرر اتفاقهم على قول فلا بد أن يكون هذا القول عليه دلائل من السنة تغني عن النظر في قولهم هل هو حجة أو ليس بحجة. ولذلك لا توجد مسألة اتفق عليها الخلفاء الراشدون وقولهم فيها مخالف لظاهر الأدلة، اللهم إلا أن يكون هذا من باب عدم الضبط لأقوالهم، كما ذكر كثير من فقهاء الشافعية مثلاً: أن مما اتفق عليه الخلفاء أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فهذا ليس عن الخلفاء الراشدين فيه اتفاق، وكأنهم -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله- دخل عليهم أن الخلفاء الراشدين كانوا يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، وكان الوضوء مما مست النار مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ، فكان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فبعض الصحابة بقي عنده بقية في هذه المسألة، فكان الخلفاء وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، حتى لا يلتبس هذا على المسلمين، فظن من ظن من فقهاء الشافعية أنهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، لأن هذا الفقيه من متأخري الشافعية بناه على أن لحم الإبل إنما وجب الوضوء منه لكونه مسته النار. فهذا من جنس من يقول: إن لحم الإبل قد نسخ الأمر بالوضوء منه، والأمر ليس كذلك؛ لأن حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب يدلان على أن هذا كان بعد النسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله! أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا -وفي رواية قال: إن شئت- قيل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فلو كان هذا قبل النسخ لكان جوابه عن سؤال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ أن يقول: نعم، لأن لحم الغنم قد مسته النار، فلما قال: (إن شئت)، وفي رواية قال: (لا) أي: لا تتوضأ من لحم الغنم دل على أن هذا كان بعد النسخ، إنما الخلاف الذي يتوجه في مسألة لحم الإبل: هل قوله: (نعم) أراد به الرسول عليه الصلاة والسلام الإيجاب، أم أراد به الاستحباب؟ هذا الخلاف هو الذي يتوجه عند التحقيق، وكأنه هو مأخذ المتقدمين في المسألة الذين صح عندهم الحديث في هذا، أما أن ترد إلى هذا المعنى أن هذا من النسخ فهذا الحديث ظاهره يمنعه، فالمقصود من هذا أن لحم الإبل على الراجح في المسألة كما هو معروف مما يجب الوضوء منه، وهو مذهب أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة، لكن يبقى أن المسألة من مسائل النزاع المعروفة بين المحدثين والفقهاء. ونتيجة هذا: أن الخلفاء الراشدين لا يجمعون على ما يخالف ظاهر السنة والكتاب.

منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة

منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة قال رحمه الله: [ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد؛ ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الإجماع، وضدها الفرقة]. هذا الهدي الذي قرره المصنف هنا هو من الفقه، ومنهج السلف رحمهم الله ومنهج أهل السنة والجماعة فيه جهتان: جهة إجماعية، وهذه هي الكلام في أصولهم، وهذه هي التي يحصل بها التمييز، بمعنى: أن المسألة من هذا النوع أو من هذا الوجه تضاف إلى السلف، ويكون من يشاركهم فيما هو من هذه المسألة تابعاً لهم، فيقال: إن من قول السلف كذا، ومن مذهب السلف كذا. هذه المسائل التي تُضاف إلى السلف باختصاص هي مسائل الإجماع، وهي التي تسمى مذهباً للسلف، أي: أنهم يختصون به، وهذا الاختصاص لا يعني أنه يمتنع أن يشاركهم من هو من الطوائف الإسلامية فيما هو منه، بخلاف تحقيقه أو الاختصاص به فإنه لا يقع من غيرهم، أما ما كان من غير مسائل الإجماع، فهو وإن كان لهم -أعني: أئمة السلف- هدي في ذلك إلا أن هذا لا يوجب الإضافة المختصة في سائر مسائل التشريع المفصلة أو مسائل الأخلاق المفصلة أو أنواع النظر أو ما إلى ذلك. وسبق معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرر أن مذهب السلف يتلقى بطريق النقل وليس بطريق الفهم، يقول: الأقوال التي تضاف إلى السلف على أنها دين لازم لا يجوز الاجتهاد بخلافه وما يقابله يكون بدعةً، وهذه البدعة لا يجوز الاجتهاد بها، حتى ولو كان من اجتهد بها يزعم أن لها ظاهراً من الدليل من الكتاب أو السنة، الأقوال التي تضاف إلى السلف لا بد أن تكون إجماعاً، وهذا الإجماع إما أنه يحصل بتواتر قولهم وعدم اختصاص بعض أئمتهم بمخالفة كتواطؤ قولهم: إن الإيمان قول وعمل، فهذا قد تواتر عنهم، فإن قيل: فقد خالف حماد بن أبي سليمان. قيل: خالف بعد الإجماع، فإن حماداً ليس هو أول السلف، فأول السلف هم الصحابة رضي الله عنهم، ثم التابعون لهم، ومن المعلوم: أن حماداً قد سبقه الصحابة وسبقه خلق من الأئمة ممن هم بعد الصحابة؛ ولذلك كان قوله خطأً في هذه المسألة. الوجه الثاني في ثبوت مذهب السلف: أن يحكي من هو من المعتبرين في ضبط مذهبهم الإجماع عندهم على قول كحكاية الإمام أحمد الإجماع، أو حكاية إسحاق أو حكاية البخاري، أو ما إلى ذلك من الأئمة المعتبرين، أو حتى من المتأخرين المحققين؛ كـ شيخ الإسلام ابن تيمية إذا حكى أن إجماع السلف على كذا، فإن هذا يكون إجماعاً صحيحاً منضبطاً، وإذا حكى أبو عمر ابن عبد البر الإجماع، فإنه في الجملة يكون صحيحاً منضبطاً. المقصود: أن هؤلاء إذا حكوا الإجماع وانضبط، ولم يظهر له مخالف، فإن هذا يكون مما يضبط به منهج السلف. قال شيخ الإسلام: وأما تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم، فهذا من طرق أهل البدعة. والمقصود من ذلك: أن المسائل التي تضاف إلى السلف على أنها من قولهم يلزم أن ما يقابلها يكون بدعةً، فالسنة يقابلها البدعة، وهذا لا يجوز أن يكون محصلاً بالفهم، صحيح أن هذه الأقوال في الفقه كأقوال الأئمة الأربعة هي أقوال لأئمة السلف، مع أن جمهورها يحصل بالفهم والنظر والتأمل .. إلى غير ذلك، وأكثرها محل نزاع بينهم، كاختلافهم في أكثر مسائل التكليف وفروعها، لكن هذا مما يضاف إلى الأعيان من أعيانهم ولا يضاف إلى جملتهم. إذاً تحصل عندنا وجهان: الوجه الأول: ما كان من الأقوال مضافاً إلى جملتهم، وما كان من الأقوال مضافاً إلى معين، أما ما كان مضافاً إلى جملتهم أي يقال: هذا قول السلف، فهذا لا يجوز إضافته إلى جملتهم إلا بنقل الإجماع فيه على أحد وجهي ثبوت الإجماع، أما ما كان مضافاً إلى أعيانهم، فهذا يحصل بطريقة الفهم، ولذلك لا غرابة أن فيه اختلافاً؛ لأن كبارهم كانوا يختلفون، وقد اختلف الصحابة واختلف الأئمة الأربعة ومن قبل الأئمة الأربعة .. وهلم جراً. فهذا لا يضاف إلى السلف، بل يضاف إلى أعيانهم، فيقال: قول أبي حنيفة كذا، وقول مالك كذا، والجمهور من الفقهاء كانوا على كذا .. إلى آخره، أو رأي المحدثين كذا ورأي أكثر الفقهاء كذا .. إلى غير ذلك. فإن قال قائل: فما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق بينهما أن الأول لا يُحصَّل إلا بطريق النقل والإجماع، فهذا ما يخالفه يكون بدعة، أما الثاني فإن ما يخالفه لا يكون بدعة؛ لأنهم هم مختلفون فيه.

خطأ بعض المنتسبين للسلف في إنكار التمذهب مطلقا

خطأ بعض المنتسبين للسلف في إنكار التمذهب مطلقاً نقصد من هذا الكلام أن بعض الإخوة أحياناً يكون عندهم من الحرص على ضبط المذهب السلفي وتمييزه عن البدعة؛ فيضيقون المذهب الذي يسمونه مذهب السلف تضييقاً يوجب عدم إدخال كثير من سواد أهل السنة والجماعة فيه، ولذلك تجد أنهم يدخلون في مذهب السلف مسائل فرعية؛ مثلاً: يجعل أحدهم من سنن السلف أو من الصلاة السلفية: عدم وضع اليدين على الصدر بعد الركوع، وأن السنة السلفية السدل .. فهذا غلط، هذه السنة لا يصح أن تضاف إلى السلف، نعم قال بها طوائف من السلف، فتضاف إلى أعيانهم، حتى ولو قيل: هو قول جمهورهم. أيضاً: مسألة زكاة حلي النساء، جمهور السلف من الفقهاء والمحدثين على أنه لا زكاة فيه، فلا يحق لأحد أن يقول: ومن الأحكام السلفية أن حلي النساء لا زكاة فيه، مع أن مالكاً والشافعي وأحمد والجمهور من أهل الحديث لا يرون وجوب الزكاة فيه، إلا أن هناك مخالفاً وهو أبو حنيفة وخلق من الكوفيين بل وغير الكوفيين. فالمقصود: أن المسائل التي هي نزاع بين السلف إذا اجتهد مجتهد فرجح أحد القولين ونسبه إلى بعض أئمة السلف فهذا له، لكن لا يجعل هذا من الخصائص السلفية؛ فإن ذلك يلزم منه أن ذلك الإمام أو أولئك الأئمة المتقدمين لم يكونوا على جادة سلفية في هذا. إذاً: تحصيل مذهب السلف بالفهم لا يجوز، مثله من اجتهد بنظر معين في الفقه ورأى أن الطريقة الصواب في الفقه هي كذا وكذا، وبنى هذا الاجتهاد على الأدلة، ووضع لنفسه طريقة معينة في تحصيل الفقه -أي: الأحكام الفقهية- ثم قال: هذه هي الطريقة السلفية، وجعلها مكافئة للطريقة التي يسمونها الطريقة المذهبية. والسلف كما قلنا: هم الصحابة أو القرون الثلاثة الفاضلة ومن اقتدى بهم، فنجد أن هناك من يجتهد بطريقة فقهية معينة يجعل من يتبع هذه الطريقة سلفياً ومن يخالفها ليس سلفياً، وإن كان قد يقول بعضهم مثلاً: إنه ليس سلفياً في الفقه وإن كان سلفياً في العقيدة، وهذا التقسيم غلط؛ فإن مسائل السلف التي تضاف إليهم هي مسائل الإجماع. وهذه مسألة عني شيخ الإسلام بتقريرها، وعدم فهمها هو الذي أدى إلى انقسام السلفيين الآن، فبعض السلفيين في مصر لهم طريقة تجدهم يزيدون بعض القضايا تختلف عن أنصار السنة في السودان، وعن غيرهم من السلفيين في أهل الشام، هذه التجمعات السلفية التي أصبح كل واحد منها يدعي التمام؛ موجبها خصائص من الفهم مبنية على اجتهاد شرعي، ولكنهم جعلوها من الموجبات السلفية. والحق أن سائر الاجتهادات لا علاقة لها بمسألة التسمية السلفية، التسمية السلفية معتبرة بالعقائد والأصول، أما من خالف الاجتهاد فهو تحت حديث: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجر، ...)، فهو في مسائل الاجتهاد الممكنة التي يدخلها التقدم والتأخر، وهذه الاجتهادات كاجتهادات المتقدمين في مسائل الفقه وغيرها. مع أنه من المعلوم أن هذه الطريقة التي تذكر أحياناً من أن فلاناً سلفي في العقيدة وليس سلفياً في الفقه، تقال فيمن انتسب لمذهب من المذاهب الأربعة، ولو أن شخصاً أراد أن يعكس المسألة لأمكنه أن يعكسها، فلو قال: إن السنة السلفية مضت بإقرار التمذهب؛ لما استطاع أحد أن ينكر عليه .. فهناك فرق بين أن تقول: إن السنة السلفية مضت بإقرار التمذهب، وبين أن تقول: إن السنة السلفية مضت بقصده أو تشريعه أو الحث عليه، والذي نتكلم عنه هو الإقرار فقط. ووجه هذا الإقرار: أن التمذهب بمذاهب الفقهاء الأربعة بدأ من القرون المتقدمة، ولو أبعدت قلت: بدأ من القرن الرابع، مع أنه بدأ قبل ذلك، لكن انضبطت هذه المذاهب وبدأ الانتساب الصريح لها من القرن الرابع؛ بل من قبل، فالحقيقة أنه حتى في زمن التابعين قبل الأئمة الأربعة كان يعرف أن فلاناً له أصحاب، بل حتى الصحابة كان ابن مسعود له أصحاب ويرجحون قوله وينتصرون له؛ لأنهم رأوا أن منهجه هو الأقوى، وكان هناك أصحاب ينتسبون لفقه ابن عباس، فهذا لم يكن غريباً زمن السلف وما كان منكراً، ومما كان يعلم أن أتباع ابن مسعود كانوا يوافقونه على مسائل هي خلاف الدليل، كمسألة التطبيق، ومسألة إذا كان إماماً وائتم به اثنان وقف وسطهم. والمقصود من هذا: أن مسألة الأتباع والأصحاب مسألة معروفة، ثم انضبطت أكثر في المدارس الفقهية الأربع .. نعم هناك التعصب، لكن هذا التعصب مذموم؛ سواء كان لأحد الأمة الأربعة، أو كان لـ أبي بكر أو كان لـ عمر، أو كان لأي شخص لعينه، لأنه لا يجوز التعصب -أي: الاجتماع على قول واحد بإطلاق- إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: من يحتج على إبطال التمذهب بكلام المتعصبين من الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة فهذا لا حجة فيه. البعض يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] هاتوا دليلاً يدل على جواز التمذهب. وهذا جهل؛ فإن العلم لا يناقش بهذا الأسلوب، هذه سطحية في العلم. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] لا جدل في هذه القاعدة، لكن كيف الرد إلى الله والرسول؟ هذا ليس من باب التعبد حتى تقول: هات لي دليلاً من القرآن والسنة يقول: تمذهب لـ أحمد بن حنبل أو للشافعي. ولو رددنا هذه المسألة إلى الله والرسول، فلن نجد في القرآن أو في السنة دليلاً على منع الاقتداء بأولي العلم، لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] وإذا كان سؤالهم ممكناً، فهذا الاتباع هو من نفس هذه المادة: مادة السؤال.

التمذهب المحمود والتمذهب المذموم

التمذهب المحمود والتمذهب المذموم حقيقة التمذهب: أنه من باب التراتيب العلمية، ليس من باب التعبد، من انتسب للإمام أحمد تعبداً؛ كما يفعل مثلاً بعض الشيعة وبعض الصوفية حين ينتسبون على جهة التعبد لأعيان؛ فهذا لا شك أنه بدعة، لكن من انتسب للإمام أحمد لأنه أخذ من علمه ما لم يأخذ من علم الشافعي، أو قرأ من كتبه ما لم يقرأه من كتب الشافعي، أو رأى أن الإمام أحمد أعلم بالسنن والآثار، أو رأى أنه أقرب. وآخر عرف من حال الشافعي وما عنده من الأخذ عن المحدثين والفقهاء وسعة علمه باللغة، فناسبه فقه الشافعي، ورأى بنظره أنه أقرب، فصار شافعياً، وصار هذا حنفياً، لأنه لم يلق المحدثين، إنما تقلد فقه أبي حنيفة كحال أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد كان على فقه أبي حنيفة، ولما لقي من لقي من أهل الحديث ترك كثيراً من قول أبي حنيفة. إذاً: المسألة مسألة تراتيب علمية، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) لماذا يطيعون أبا بكر وعمر؟ هل أبو بكر مشرع؟ لا، ولكن هذه تراتيب علمية: أن المفضول في العلم يقتدي بالفاضل، وإذا تعصب متعصب لـ أحمد أو للشافعي قلنا: أخطأ، لكن أن يقال: إن السلفي هو الذي لا يتمذهب، فهذا ليس صحيح، وإلا للزم من كونك لا تقلد أحداً في مسألة، أن لا يكون لك سلف في كل المسائل، وهذه ليست طريقة السلف، الإمام أحمد يقول: لا تقل في مسألة إلا ولك فيها إمام، ويقول: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك لعلهم اختلفوا. إذاً لا بد من هذا الاتباع، وهذا من سنن المرسلين: أن يقتدي المفضول بالفاضل. أما إذا صار التمذهب تعصباً أو صار الانتصار من أجله ليس من أجل الدليل، أو صار على جهة التعبد أو نحو ذلك .. فلا شك أن هذه موجبات يعلم بطلانها من الشريعة وهي من البدع المنكرة. إذاً: التمذهب فيه طرفان ووسط؛ فإذا غلا بعض المتمذهبين بتعصبهم للمذاهب، وصاروا يقلدون الأقوال ولا يعتبرون النظر في الدليل، وكان همهم الانتصار للمذهب، فهذا لا شك أنه بدعة وجدت في قرون من الأمة على يد بعض الفقهاء. وقد أنكره قوم ولا سيما من المعاصرين الذين بالغوا في رده وجعلوا السلفية مرتبطةً بعدمه، والحق أن المحققين من السلفيين كـ ابن عبد البر وشيخ الإسلام وابن كثير ومن قبل هؤلاء أو من بعدهم، والمعاصرين الذين قرب عصرهم كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وشيوخ الدعوة، كل هؤلاء كانوا على التمذهب البعيد عن التعصب، إنما اختاروا أصولاً فقهيةً عند أحمد أو أصولاً عند الشافعي أو أصولاً عند أبي حنيفة. ولا أحد يجادل في أنك لو اخترت قول أبي حنيفة في مسألة لما أنكر عليك أحد، وإذا اختار أحد قول أبي حنيفة في ترجيح القياس على قول الصحابي .. هذه مسألة وهذه مسألة، فهو اختار اجتهادات أبي حنيفة؛ لأنه عند الأئمة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع عندهم حجة، بعد ذلك تأتي الأدلة المختلف فيها، هذه فيها تراتيب بينهم -أي: بين الأئمة الأربعة- فبعض الناس من الناظرين بحسب درجة نظره وقوته يقدم قول أحمد أو قول الشافعي أو قول أبي حنيفة، فهذا من تقليدهم في اجتهادهم كتقليدهم في آحاد فروع الشريعة. فالمقصود: أن التمذهب لا بد أن يكون القول فيه معتدلاً، لا يجوز الانتساب للمذاهب على التعصب، ولكن لا يجوز إنكار ذلك. وليس المقصود من هذا أن التمذهب سنة لازمة لا بد أن تبقى في المسلمين، بل ينبغي ذكر الاجتهاد، فالأمة الآن بحاجة إلى اجتهاد، لأن هناك مسائل نزلت لم يتكلم عنها الفقهاء من قبل، لكن المقصود أن الأمور تؤتى من أبواها، فتحصل الاجتهاد ليس بإنكار المذاهب، وتحصل السلفية ليس بإنكار المذاهب، فإن أئمة هؤلاء المذاهب هم أئمة السلف، وكثير من أتباعهم المحققين كانوا على عقيدة السلف، خاصة أن من ينكر هذا تجد أنه يأخذ بأقوال ابن حزم أو أقوال الشوكاني، فرجعوا إلى قول عالم من علماء السنة والجماعة على أحسن تقدير.

الإجماع المنضبط عند أهل السنة

الإجماع المنضبط عند أهل السنة قال رحمه الله: [وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس]. هذه الأصول الثلاثة هي موازين الحق: الكتاب والسنة والإجماع، ومعلوم أن الإجماع لا ينعقد إلا بدليل، فكل مسألة أجمع عليها فهي أقوى من المسألة التي فيها ظاهر دليل وليس فيها إجماع .. لأن المسألة التي أجمع عليها لا بد أن يكون دليلها أقوى من المسألة التي فيها ظاهر دليل لم يصاحبه إجماع، فكل مسألة أجمع عليها فعليها دليل من الكتاب أو دليل من السنة ولا بد، وإن كان قد يتخلف عند البعض تحصيل هذا الدليل. [وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة]. وهذه العبارة من شيخ الإسلام رحمه الله كأنها محورة من كلام أبي محمد ابن حزم، وشيخ الإسلام قد أخذ من ابن حزم، وإذا قيل: إنه أخذه من ابن حزم، فلا يعني أنه مقلد له، لكن يعني أن ابن حزم كان يقرر مثل هذا الكلام، فهذا مما كان جيداً في كلامه. أبو محمد ابن حزم يقول: إن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة، وشيخ الإسلام هنا يقول: ما كان عليه السلف الأول، فهذا مقارب لقول أبي محمد ابن حزم. وإذا قلنا: إن الإجماع المنضبط هو ما كان عليه الصحابة؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، فقد يقول قائل: إن هذا يستلزم إسقاط دليل الإجماع في كثير من المسائل الفقهية. فأقول: إنه إذا تكلم عن الإجماع المنضبط القطعي المتعلق بمسائل أصول الدين، فلا شك أن الإجماع هنا هو إجماع السلف الأول إجماع الصحابة، أما إذا كان الكلام في مسائل التشريع -مسائل الفروع- فالقول في الإجماع هنا يكون أسهل من القول الذي قاله أبو محمد ابن حزم.

شرح العقيدة الواسطية [24]

شرح العقيدة الواسطية [24] من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولزوم إقامة الأعياد والحج والجهاد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، مع إسداء النصيحة لهم ولسائر أفراد الأمة، ويرون التمسك بمعالي الأخلاق والتنزه عن سفسافها.

أهل السنة والجماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر

أهل السنة والجماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال المصنف رحمه الله: [فصل: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة]. وهذا مما لا يختص به أهل السنة والجماعة؛ لكنهم وإن شاركهم غيرهم فيه إلا أنهم أكمل من جهة التحقيق. قال رحمه الله: [ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً] فما داموا مسلمين -أي: ثبت إسلامهم ودينهم- فلهم السمع والطاعة وإقامة الصلاة خلفهم، ولا يوجب ما قد يعرض لهم من الفسق أو الظلم ترك هذه الشعائر الظاهرة.

السلفية منهج في العقائد والعلم والعمل

السلفية منهج في العقائد والعلم والعمل قال رحمه الله: [ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشده بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)]. وهذا مشروع في حق الخاصة أكثر مما هو في حق العامة؛ ولذلك مما يعجب منه -وهذا من قلة الفقه بأخلاق الشريعة- أن بعض طلبة العلم إذا أراد أن ينكر على أحد من العامة فربما أحسن التلطف، وإذا خالف غيره من أهل العلم أو من أقرانه من طلبة العلم فيما هو من مسائل الاجتهاد، فربما صار عنده من الانغلاق والتعصب لقوله والانتصار لنفسه شيء كثير .. فهذا ينافي مسألة النصيحة، وينافي مسألة أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. فهذه الأخلاق التي يشير إليها المصنف لا بد أن تكون محققة؛ لأنها هي هدي صاحب الرسالة. والسلفية ليست فقط مجموعة من العقائد تُقال، بل هي منهج في العقائد ومنهج في العلم ومنهج في العمل. [وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء]. أي: أنهم يتكلمون في السلوك، والإشكال الواقع الآن: أن بعض من يتكلم في عقيدة السلف يحصرها في الأصول النظرية التي وقع الجدل فيها مع المتكلمين، والمتكلمون في الجملة نظار ما دخل عليهم التصوف إلا على يد بعض الأشعرية، أو بعض المنتسبين للسنة والجماعة من المتكلمين، أما أساطين علم الكلام الأوائل المعتزلة فكانوا أبعد ما يكونون عن التصوف، فلم يكونوا متصوفة على طريقة الصوفية التي تؤمن بالأحوال وما إلى ذلك، وإن كان من المعتزلة من هو من العباد، لكنه يختلف عن كونه صوفياً، فهو عابد على طريقة التعبد الواضحة، ليس على طريقة التصوف الأحوالية المستعملة عند الصوفية بدرجاتها. والمقصود من هذا: أن هذا المذهب -وهو مذهب أهل السنة والجماعة- يتعلق القول فيه بالعقائد النظرية، ويتعلق القول فيه بمسائل السلوك والأحوال، فلهم هدي في مسائل السلوك. وبعض من يقصد إلى الرد على المخالف قد تغلبه الحال في رده، فيتأخر عن مقام الاعتدال، فمن يرد على الشيعة قد يقصر في حق آل البيت، ومن يرد على الصوفية قد يقصر فيسقط بعض مقامات السلوك من باب الرد على الصوفية، فهذا لا شك أنه ينافي العدل والاعتدال.

ترك الاستطالة على الخلق بحق وبغير حق

ترك الاستطالة على الخلق بحق وبغير حق قال رحمه الله: [ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق]. هذه الجملة الأخيرة من كلامه رحمه الله هي من جمل الفقه الشريفة: أنهم ينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق. والاستطالة بغير حق بينة الفساد؛ ولكن الاستطالة بحق قد تعرض لبعض أهل العلم، ولا سيما ممن لم يكن محققاً لمقام العلم، أو بعض العامة القاصدين للخير أو ما إلى ذلك، فيكون عندهم موجب للحق، كإنكار لمنكر قولي أو عملي أو ما إلى ذلك، فيزيدون في هذا الإنكار إلى قدر أن يستطيل أحدهم -أي: يحصل منه زيادة واعتداء- على غيره من المسلمين، بغض النظر عن كون هذا الغير سنياً أو غير سني، ولكنه يكون أشد إذا كان هذا الغير الذي قصد الرد عليه من أقرانه من أهل السنة، وربما يكون أفضل منه علماً وعملاً، فهذه حال موجودة. الله تعالى شرع إنكار المنكر، وشرع الأمر بالمعروف، لكن إنكار المنكر ليس معناه ملكية العقوبة للآخرين، فبعض الناس وهو ينكر المنكر كأنه يعاقب بشكل شخصي هذا المنكَر عليه، فيستغل نقطة الضعف الموجودة عنده، ويتصرف معه كأنه يقدم له نوعاً من العقاب الشخصي. وإنكار المنكر ليس هكذا، فمسألة الحد أو مسألة التعزير هي مسائل سلطانية، ومن المشروع في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ألا يكون على قدر من الاستطالة. فقوله رحمه الله: أنهم ينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق هو من هذا الوجه، ولا سيما في مقام الرد على المخالف، سواء كان المخالف سنياً أو غير ذلك، وإن كان الخلاف بين أهل السنة أتباع السلف الصالح لا ينبغي أن يؤخذ مساق النزاع الذي فيه فصل وقطع للعلائق .. هذا غلط، وإن كان يقع من كثير من هؤلاء بقصد الانتصار للحق، وبكون الحق أغلى عندنا من الرجال؛ فهذه المقدمات المجملة مقدمات صحيحة، ولكن هذه المقدمات أحياناً لما فيها من الإجمال توجب كثيراً من الانحراف عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم أو عن هدي أصحابه. وهذا التسابق إلى الرد على المخالف من أهل السنة ليس حكيماً، ويكفي البيان، والردود المعروفة عند السلف لم تكن على أئمة السنة؛ بل كانت الردود المشهورة والجمل المشهورة هي على أهل البدع، أما إخوانهم من أهل السنة والجماعة فما كانوا يعنون بالرد عليهم، وليس مرد ذلك إلى التطابق التام في الاجتهادات وفي الآراء، فقد كان من المعروف ما بين الكوفيين من أهل الرأي وبين أهل الحديث، صحيح أن بعض المحدثين تكلم في الرأي وأهل الرأي كثيراً، لكن هذا لم يكن على نوع من قطع العلائق على التمام، أو من جنس الكلام الذي كان يقال في أهل البدع. أما من يريد أن يقتدي ببعض الآثار أو ببعض القصص التي عرضت، فهذا ليس مما يقتدى به، مثل: أن محمد بن يحيى الذهلي يُذكر عنه أنه طرد البخاري من مجلسه، أو أن مسلماً خرج من مجلسه، وهذا من قوته رحمه الله في السنة قد يكون الذهلي ليس مصيباً فيه، فمثل هذه المسائل لا ينبغي أن يُكبَّر شأنها؛ لأنك إذا امتدحت الذهلي، فقد تذم الطرف الآخر، وهو البخاري، فيكون كلامك مشيراً إلى أن البخاري مستحق لهذا، فهذه اجتهادات عرضت لها ظروفها الخاصة وليست سنناً عامة. ومما يتعجب منه أن بعض طلبة العلم وبعض الشباب يستدل بقصة مجملة، ولك أن تقول: هي من متشابه المواقف، وليست من محكم المواقف، بمعنى أنها من المواقف المبنية على المصالح والمفاسد، يختلف الاجتهاد فيها حتى عند العالم نفسه، فلا تجعل كالمنهج المطرد، مثلاً: الإمام أحمد استأذن عليه داود بن علي، وكان صاحباً وصديقاً لـ صالح ابن الإمام أحمد، وكان داود بن علي قد أظهر في أصبهان أن القرآن محدث، وقد تكلم بهذه الكلمة لأنها جاءت في القرآن، وما كانت هذه الكلمة تعجب الإمام أحمد فبلغ الإمام أحمد أن داود بن علي قال هذا في أصبهان، فجاء داود إلى بغداد وتلطف لـ صالح ابن الإمام أحمد أن يدخله على أبيه، فقال صالح لأبيه: إن رجلاً من أهل أصبهان يريد أن يدخل عليك. قال: من هو؟ قال: داود. قال: داود ابن من؟ فقال: داود بن علي. قال: لا يدخل، بلغني عنه أنه قال كذا وكذا. فيأتي بعض الشباب الآن ويقول فيمن هو من كبار الصادقين أو الصالحين أو ممن انضبطت عقائدهم: لا يدخل ولا يخرج، ولا يتكلم، ولا نقبل منه صرفاً ولا عدلاً، وكأنه يطبق هنا موقف الإمام أحمد، وهذا اجتهاد من الإمام أحمد قد يكون صواباً وقد يكون غير صواب، فالإمام أحمد ليس معصوماً. ثانياً: إذا كان صواباً وهو الصحيح: أن هذا كان صواباً من الإمام أحمد من باب ضبط السنة وألفاظ السنة في مسألة القرآن، فهذا كان لائقاً بمثل الإمام أحمد مع من هو مثل داود، وداود يفقه مثل هذا المقام، فإن داود بن علي كان من علماء السنة والجماعة، ما عنده أغلاط في الصفات مثل ابن حزم؛ فـ داود بن علي مختص بمذهب فقهي واجتهاد فقهي، أما عقيدته فهي نفس عقيدة السلف تماماً، نقل عنه مسألة أن القرآن محدث، وهذه مسألة لفظية مثل ما نقل عن البخاري في مسألة اللفظ، أو عن الذهلي أو عن أبي حاتم مسألة مقابلة لهذا. والمقصود: أن المقامات التي تعرض من الأكابر ليست سنناً للأصاغر، السنن هي السنن النبوية الشرعية، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو المشرع قد هجر الثلاثة الذين خلفوا، مع أنه حصل في زمنه معصية حتى من بعض أصحابه، كمن شرب الخمر أو ما إلى ذلك، ولم يأمر بهجرهم. والحق فيه من البيان والقوة ما لا يحتاج إلى كثير من الاستطالة معه في مسائل الردود، خاصة الردود بين أهل السنة أنفسهم -بين السلفيين- والردود يجب أن تسخر في الرد على شبه الكفار، وشبه أهل البدع، أما الردود على السلفيين في مسائل من الاجتهاد الممكن في الغالب، فهذا ليس حكيماً، ولا مشهوراً زمن الأوائل رحمهم الله.

التسمي باسم الإسلام هو الأصل

التسمي باسم الإسلام هو الأصل قال رحمه الله: [ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم]. طريقة السلف هي دين الإسلام، هذا هو الاسم الشرعي فالأصل أنهم مسلمون مؤمنون، وإنما ظهر اسم أهل السنة والجماعة أو ظهر اسم السلف لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته تفترق، فسمي هؤلاء القوم الذين التزموا الكتاب والسنة وهدي الصحابة بأهل السنة والجماعة وذلك بعد الاختلاف. إذاً اسم السلف اسم عرض لموجب، فيكون باقياً لكن لا يجوز أن يهجر الاسم الأصل، فالاسم الأصل أشرف من كل الوجوه، وهو اسم (الإسلام) قال تعالى عن الأنبياء: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67]. نعم، كلمة السلف تقال، لكنه لا يوجب هجر غيره كاسم أهل السنة أو ما هو أشرف من هذا الاسم وأصدق في الديانة لله كقولك: المؤمن، والمسلم، وما إلى ذلك.

حكم أهل البدع

حكم أهل البدع قال رحمه الله: [لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة]. قوله: (كلها في النار) ليس حكماً على أهل البدع أنهم من أهل النار كالحكم على الكفار في مثل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الأحزاب:64 - 65]، بل المقصود من قوله: (كلها في النار) أن أصحابها الذين خرجوا عن الأصول الشرعية المنضبطة مستحقون للوعيد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار)، وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]، ونحن لا نجزم لكل من أكل مال يتيم بهذا، إنما يقال: أكل مال اليتيم من موجبات العقاب، فكذلك الخروج عن هذه الأصول السلفية من موجبات العقاب. أما تقدير هذا العقاب فهو على علم الله وحكمته؛ ولذلك المصنف -أعني شيخ الإسلام - في أول الرسالة قال: أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة. فقال بعض أهل البدع في ذلك الوقت له: يلزم أن أئمتنا الذين ماتوا ليسوا ناجين عند الله! فقال: أنا أقول: من اعتقد هذا المعتقد كان ناجياً، ومن خالف ما هو منه، فهذا بحسب علم الله وحكمته، فقد يكون معذوراً في بعض مخالفته، وقد لا يكون معذوراً في بعضها وهلم جراً. لكن مما يعلم أن من خالف في أصل من أصول أهل السنة الكبار، فلا بد أن عنده تفريطاً فيما هو من الحق، لا يمكن أن تكون هذه المخالفة على اجتهاد مأذون فيه مقبول، لا بد أن يكون عنده من النقص والتفريط ما ينزله عن مقام الاجتهاد المأذون فيه. [إلا واحدة وهي الجماعة. وفي حديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة]. قوله: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم) هذه اللفظة تُكُلِّمَ في صحة سندها، لكن سواء صح سندها أو لم يصح، فإن معناها صحيح. [وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة). نسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً].

§1/1