شرح المقدمة الحضرمية المسمى بشرى الكريم بشرح مسائل التعليم

سعيد باعشن

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن والاهم إلى يوم الدين. وبعد: فيقول الفقير إلى كرم مولاه المحسن سعيد بن محمد باعشن -عامله الله بمعروفه، ووقاه شر نوائب الدهر وصروفه-: قد كنت شرحت مقدمة الإمام الولي الزاهد القانت عبد الله بن عبد الرحمن بافضل -نفعنا الله ببركاته- شرحاً فيه نوع تطويل، ثم اختصرته فيما يقارب نصف حجمه، راجياً من فضل مولانا تعالى أن ينفع به؛ فإنه ولي ذلك والقادر عليه، والفرد الذي لا يخيب من التجأ في أموره إليه، وعليه التعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وسميته: "بشرى الكريم شرح مسائل التعليم" وتعرضت فيه كـ"أصله" للخلاف بين الإمامين القمرين الشيخ أحمدَ بن حجر، والشيخ محمد الرملي نفع الله بهما؛ لأن كلام شيخ الإسلام والشهاب الرملي والخطيب الشربيني وابن زياد وعبد الله بن عمر مخرمة وغيرهم من نظرائهم .. لا يخرج غالباً عما قالاه. ورمزت للأول بـ (حج)، وللثاني بـ (م ر)، ولابن قاسم بـ (سم)، والشبراملسي بـ (ع ش)، والزيادي بـ (زي)، والقليوبي بـ (ق ل)، والحلبي بـ (ح ل)، والبجيرمي بـ (ب ج)، وغيرهم أصرح باسمه، وقد أذكر اسم بعضهم وجميع أقوال هؤلاء متقاربة. ويجوز العمل بكلٍّ في حق النفس وإفتاءً وحكماً، إلا ما اتفق على أنه غلط، أو سهو، أو ضعيف.

لكنَّ العمل في حق النفس يجوز حتى بالأقوال والأوجه الضعيفة واختيارات أئمة المذهب الخارجة عنه. وحيث أطلقت لفظ (الشرح) .. فهو شرح هذه "المقدمة" للعلامة ابن حجر، أو (الفتح) .. فـ"فتح الجواد". وحيث قلت: عند (حج) .. فالرملي مخالف له فيه، أو عند (م ر) .. فابن حجر مخالف فيه، واعتمدت غالباً في الخلاف بينهما على "التحفة" و"النهاية". وقد ابتدأ المصنف رحمه الله تعالى كغيره من الأئمة بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداءً بالكتاب العزيز، وعملاً بخبر: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم .. فهو أبتر". وفي رواية: "أجذم". وفي أخرى: "أقطع"؛ أي: كالأبتر، أو كالأجذم، أو كالأقطع؛ أي: قليل النفع. ومعنى "ذي بال": صاحب حال يهتم به شرعاً؛ أي: لا من سفاسف الأمور كامتخاط ولبس نعل، وليس ذكراً محضاً كالدعاء، ولا جعل له الشارع مبدأ بغير البسملة كالصلاة بالتكبير، والدعاء بالحمد لله. وفي رواية بـ"الحمد لله". ولا تعارض بين حديث البسملة والحمدلة؛ إذ الابتداء: - حقيقي وهو: ما تقدم أمام المقصود ولم يسبق بشيء. - وإضافي [وهو]: ما تقدم أمام المقصود سواء سبق بشيء أم لا، فحُمل خبر البسملة على الحقيقي، وخبر الحمدلة على الإضافي، ولأن في رواية بـ"ذكر الله"، وبها يندفع التعارض من أصله؛ لأنها مبيِّنة أن المراد: بأيِّ ذكر كان، فيحصل بجميع أنواعه من بسملة وحمدلة وغيرهما، كما أوضحته في "الأصل". واعلم أن (البسملة) اشتملت على: (الباء)، و (اسم)، و (الجلالة)، و (الرحمن)، و (الرحيم). فـ (الباء) معناها: المصاحبة أو الاستعانة على وجه التبرك، والمصاحبة أولى؛ لما

في الاستعانة من إيهام كون اسمه تعالى آلة، كما في: (كتبت بالقلم)، وعلى كلٍّ هي متعلقة بمحذوف، والأولى تقديره فعلاً خاصاً مؤخراً؛ أي: (باسم الله أؤلف). أما تقديره فعلاً .. فلأن أصل العمل للأفعال. وأما كونه خاصاً .. فلأن كل شارع في فعل يضمر في نفسه لفظَ ما جعل التسمية مبدأ له، فالكاتب يضمر لقوله: (باسم الله): أكتب، والمؤلف يضمر لذلك: أؤلف، وهكذا. ولأن بتقديره خاصاً تعم بركة اسم الله التأليف كله، وبتقديره عاماً كـ (أبتدئ) لا تعم إلا أوله. وأما كونه مؤخراً .. فليفيد الحصر؛ أي: لا أبدأ إلا باسمه تعالى. و (الاسم): مشتق من (السمو) وهو العلو، أو من (السمة) وهي العلامة. ولفظ الجلالة هو: علم للذات المعينة؛ أي: ذات مولانا تعالى، وهو أعرف المعارف، والاسم الأعظم، ولم يُسَمَّ به غيره ولو تعنُّتاً. ومشتق عند الأكثرين من (ألِهَ) إذا تحير؛ لتحير الخلق في معرفته، أو إذا عُبِدَ، أو إذا فزع من أمر إليه. وعلى كلٍّ: فهو المعبود للخواص والعوام، والمفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المحتجب عن الأفهام. أصله: (ألِهَ) حذفت همزته وعوض عنها (أل) فصار: الله، وفُخِّم للتعظيم. و (الرحمن الرحيم): صفتان مشبَّهتان بُنيتا للمبالغة، مشتقتان من (الرحمة)، وهي: رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان. فهي باعتبار مبدئها مستحيلة عليه تعالى؛ لأنها من الكيفيات النفسانية، فالمراد غايتها، وهو التفضل والإحسان، أو إرادة ذلك. فهي على الأول: صفة فعل، وعلى الثاني: صفة ذات. وكالرحمة كل ما هو من الكيفيات كالرضا والغضب. وقُدِّمت الجلالة عليهما؛ لأنها اسم، وهو مقدم على الصفة.

وقدم (الرحمن) على (الرحيم)؛ لأنه خاص به تعالى؛ إذ لا يطلق على غيره تعالى بخلاف (الرحيم)، ولأنه أبلغ منه كَمّاً وكيفاً، ولأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى عند الاتحاد في الاشتقاق والنوع كما هنا، وهذا في الرحمن باعتبار أصله. أما الآن .. فقد صار علماً بالغلبة، ويجوز فيه الصرف نظراً لأصله، وعدمه نظراً للغلبة. وعلى أنه علم: هو بدل من (الجلالة)، و (الرحيم) نعت له لا للجلالة. (الحمد) هو لغة: الثناء بالكلام على جميل اختياري على جهة التعظيم سواء كان في مقابلة نعمة أم لا، وسواء كان جميلاً شرعاً كالعلم، أو في زعم الحامد كنهب الأموال. واصطلاحاً: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونُه منعماً على الحامد أو غيره. وهو الشكر لغة فعلاً كان أو قولاً أو اعتقاداً. فمورده عام ومتعلَّقُه خاص، عكس اللغوي، فبينهما عموم وخصوص من وجه يجتمعان في قولك: (زيد كريم)، وينفرد اللغوي بنحو قولك: (زيد عالم)، والعرفي بنحو: القيام لمن أحسن إليك، أو إلى غيرك. ثابت أو مختص أو مملوك (لله) فلا فرد منه لغيره، سواء جعلتَ (أل) في الحمد للاستغراق، أو للجنس، أو للعهد، وهو ظاهر على غير العهد. أما عليه؛ أي: الحمد المعهود الذي حمد به نفسه، وحمده به كُمَّلُ خلقه مملوك أو مختص به .. فادعاء؛ بناء على أن لا عبرة بحمد غير من ذكر، وفيه كلام بينته في "الأصل". وأردف التسمية بـ (الحمد) اقتداء بالقرآن المجيد، وعملاً بظاهر خبره المتقدم على ما مرَّ فيه. وترك العاطف بينهما؛ إشارة إلى كمال الاتصال بينهما؛ إذ معنى كل منهما الثناء. وإلى استقلال كل منهما بإفادة الابتداء. ولاحتمال كون أحدهما خبراً والآخر إنشاء، ولا يجوز عطف أحدهما على الآخر إلا في نحو: (قلت: زيد قائم، وأكْرِمْ عمراً). وقرن الحمد بالجلالة؛ إشارة إلى أنه تعالى مستحقه لذاته.

وآثر الحمد على الشكر؛ لأنه يعم الفضائل والفواضل؛ أي: الصفات التي لا يلزم تعديها إلى الغير كالعِلم، والتي يلزم تعديها إليه كالكرم. والشكر اللغوي مختص بالأخير. أما الشكر عرفاً: فصرف جميع ما أنعم الله به على العبد إلى ما خُلق لأجله .. ولذا قال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]. (الذي فرض علينا) معشرالأمة إيجاباً لا رخصة في تركه (تَعَلُّم) جميع (شرائع الإسلام) وما يتوقف معرفتها أو كمالها عليه، كنحو وصرف وبيان ومنطق وعلم القراءة. لكن ما يحتاج إلى التلبس به حالاً من عبادة ومعاملة .. يجب تعلم ظاهر أحكامه عينياً. ولا تصح ولا تجوز مباشرته إلا بعد معرفة أحكامه الظاهرة ولو عبداً أو امرأة. لكن لو عرف مأمورات نحو الصلاة ولم يُميز الفرض منها من السنة .. صح. وكذا .. تصح المعاملة إذا استجمعت واجباتها وإن أثم بترك التعلم. وما لا يحتاج إليه كذلك .. فمعرفته فرض كفاية. فإذا قام به البعض .. سقط الحرج عن الباقين، فإن لم يقم به أحد .. أثم جميع المكلفين. و (الشرائع) -جمع شريعة، من شرع بمعنى: بيَّن- وهي: ما شرعه الله؛ أي: بينه من الأحكام. وتُعرَّف أيضاً بأنها: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يُصلح معاشهم ومعادهم. وتساويها الملة والدين ما صدقاً؛ لأنها من حيث إنها يُدان [لها]-أي: يخضع لها- تسمى ديناً، ومن حيث إملاء الشارع لها تسمى ملة، ومن حيث إظهار الشارع وتبيينه لها تسمى شريعة. و (الإسلام): الاستسلام والانقياد بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات المبني على الإذعان الباطني، وهو الإيمان.

وبما تقرر: عُلِمَ أن إضافة (شرائع) إلى (الإسلام) بمعنى اللام؛ أي: أحكام للإسلام، فقول العلامة ابن حجر في "شرحه": (إنها بيانية) .. غير ظاهر، كما بينته في "الأصل". وقوله: (ومعرفة) أحكام (صحيح المعاملة وفاسدها) من عطف الخاص؛ إذ الشرائع عامة في أحكام المعاملة وغيرها، وإنما أتى به تنبيهاً لما فرط فيه معظم الخلق؛ لأنهم لا يكادون يعولون في ذلك على شرع، بل أحدثوا فيها أحكاماً طاغوتية، وعارضوا، بل أبطلوا أحكام الله بها. وإنما وجب معرفة ما ذكر (لتعريف) أي: معرفة (الحلال) الشامل للواجب والمندوب والمباح والمكروه (والحرام) حتى يُتعاطى الحلال ويُجتنب الحرام، وفي نسخة: (من الحرام) أي: ليتميز الحلال الطيب من الحرام الخبيث. (وجعل مآل) أي: عاقبة (من عَلِمَ ذلك وعمل به الخلودَ في دار السلام) أي: الجنة على أسَرِّ حالٍ وأهنئه، من غير سبق نكد له في قبره ولا فيما بعده. (و) جعل (مصير من خالفه وعصاه) عطف تفسير (دار الانتقام) وهي: النار دائماً متحتماً إن كان معصيتُه بالكفر، وإلا .. فمعنى كونها مصيره: أنه يستحق دخولها بلا خلود، إلا إن عفا الله عنه. ولما تكلم على استحقاقه تعالى لمجامع الحمد وصفات الكمال .. شهد له باستحقاقه تعالى الألوهية، ونفيها عما سواه؛ إشارة إلى أن تلك الشهادة الشريفة داخلة فيما قدمه، بل استحقاق إثبات الإلوهية له أجَلُّ ظهوراً، ومن ثم عطَفه على (الحمد) فصرح بما علم، فقال: (وأشهد) .. إلخ؛ لخبر أبي داود: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء". وأصل الشهادة مأخوذة من المشاهدة، ثم نقلت شرعاً إلى الإخبار بحق الغير عن مشاهدة، ثم نقلت إلى العلم بكثرة كما هنا، أي معناها: أعلم ذلك بقلبي وأبيِّنه بلساني، قاصداً بذلك الإنشاء حال تلفظه، وكذا سائر الأذكار والتنزيهات.

(أن لا إله) أي: لا معبود بحق (إلا الله) حال كونه (وحده) أي: منفرداً، توكيد لتوحيد الذات والصفات. وقوله: (لا شريك له) حال ثانية، تأكيد لتوحيد الأفعال؛ أي: لا مشارك له. إذ المشاركة هي المعاونة والمساعدة في الشيء أو عليه، وذلك ينافي الألوهية؛ ضرورة احتياجه إلى الغير. فوحدة ذات مولانا بمعنى: نفي الكم المتصل -بمعنى أن ذاته تعالى ليست جسماً؛ لأن كل جسم وإن اتحد صورة .. فهو متعدد حقيقة؛ لتركبه من أجزاء عديدة- والكم المنفصل، بمعنى أنه ليس في الخارج ذات تشبه ذات مولانا. ووحدة صفاته بمعنى: نفي الكم المتصل -أي: أنه ليس له إلا عِلْم واحد، وقدرة واحدة ... وهكذا؛ لما يلزم على التعدد من المُحال- والكم المنفصل، بمعنى أنه ليس لأحد قدرة تشبه قدرة مولانا ... وهكذا. ووحدة الأفعال بمعنى: أنه لا فعل في الكون لغيره. فلا النار تحرق، ولا الماء يروي، ولا السراج يضيء، بل الفاعل لذلك ولكل شيء هو الله تعالى، أجرى العادة أن يخلق الإحراق وما بعده عند ملابسة النار وما بعدها للعود مثلاً، والبطن، والقطنة والزيت .. ولا أثر لها. ومن ذلك أفعالنا الاختيارية والاضطرارية، فهي مخلوقة له تعالى، لكن لنا من الاختيارية الكسب من ثواب أو عقاب؛ لما لنا فيها من الاختيار، وهي في الحقيقة مخلوقة له تعالى، فكل ما في الكون فعل الله؛ كما قال سيدي مصطفى البكري في (منظومته) [من الرجز]: شُهُودُكَ الفعلَ مِنَ الفَعَّالِ ... في كلِّ شيءٍ وَحدةُ الأفعالِ (المانّ) -من المنة- وهي: النعمة؛ مطلقاً أو بقيد كونها ثقيلة مبتدأة من غير مقابل يوجبها، فنعمة الله من محض فضله؛ إذ لا يجب عليه لأحد شيء خلافاً للمعتزلة. ولا يُحمد المَنُّ إلا منه تعالى، وزِيدَ الوالد والأستاذ، وهي من غيرهم ذم. (بالنعم) -جمع نعمة- وهي: اللذة التي تحمد عاقبتُها، ومن ثم لم تكن لله نعمة على كافر، وإنما ملاذُّهم استدراج، ويقال لهذه: نَعمة -بفتح النون- قال تعالى: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدخان:27].

(الجسام) أي: العظام. (وأشهد) عطفه هنا دون الأذان؛ إذ الشهادتان فيه للتأكيد، وهنا تعبُّد (أنّ) سيدنا (محمداً) علم منقول من اسم مفعول المُضَعَّف، موضوع لمن كثرت خصاله الحميدة، سمي به نبينا صلى الله عليه وسلم بإلهام من الله تعالى لجده عبد المطلب؛ ليكون على وَفق تسميته تعالى له قبل خلق الخلق، ولم يسمَّ به أحد قبله، لكن لما قرب زمانه، ونشر أهل الكتاب نعته .. سمى به قوم أولادهم؛ رجاء النبوة لهم، وهم خمسة عشر، والله أعلم حيث يجعل رسالته. (عبده) قدمه؛ للخبر الصحيح: "ولكن قولوا: عبده ورسوله"، ولأنه أحب الأسماء إليه تعالى، وإذا وصفه به في أشرف مقاماته كـ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) [الإسراء:1]، و: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ) [النجم:10]، و: (نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان:1]. (ورسوله) إلى الثقلين إجماعاً، وكذا إلى الملائكة -كما قاله (حج) تبعاً للتقي السبكي وغيره- رسالة تكليف؛ لأنهم مكلفون بالطاعات العملية دون نحو الإيمان؛ لأنه ضروري فيهم. وقال بعضهم: رسالة تشريف لا تكليف. و (الرسول): إنسان حر ذكر من بني آدم، أكملُ من أرسل إليهم علماً وفطنة وقوة رأي، سليم من دناءة أب وخنا أم وإن عليا، ومن منفر طبعاً، أُوحي إليه يشرع، وأمر بتبليغه. فإن لم يؤمر به .. فنبي، فبينهما عموم وخصوص مطلق. هذا هو المشهور. وقيل: مترادفان. وقيل: لا فارق بينهما إلا الكتاب. (المبعوث رحمة للأنام) أي: الخلق. أما كونه رحمة للمؤمن .. فدل عليه الكتاب والسنة والإجماع. ومعنى كونه رحمة للكافر: فأن لا يُعاجَل بالعقوبة والأخذ بغتة كما وقع للأمم السابقة، ولا بُعدَ في كونه رحمة لهم بغير ذلك. و (للأنام) تنازعَه المبعوث ورحمة.

(صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام) أتى بالصلاة عليه؛ لخبر يعمل به في فضائل الأعمال، وهو: "كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله، ثم بالصلاة علي .. فهو أقطع". ولخبر: "من صلى علي في كتاب .. لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب". وجمع بين الصلاة والسلام خروجاً من كراهة إفراد أحدهما عن الآخر -أي: لفظاً لا خطاً كما في "التحفة"- للأمر بهما في الآية. لكن قال الصبان: (إذا صلى في مجلس وسلم في آخر .. أتى بالمطلوب، وهو الاختيار عندي وفاقاً للحافظ ابن حجر وغيره) اهـ. و (الصلاة) هنا: من الله رحمة مقرونة بالتعظيم. ومن الملائكة استغفار؛ أي: طلب المغفرة ولو بغير لفظها كما في الحديث. ومن غيرهم دعاء. والأخصر من الله رحمة، ومن غيره دعاء؛ إذ صلاة الملائكة دعاء -كما مر- كصلاة الآدميين، ولفظها مختص بالأنبياء والملائكة، فلا يقال لغيرهم إلا تبعاً. و (السلام) هو: التسليم بمعنى التحية، أو: السلامة من الآفات المنافية لغايات الكمال. و (آله): مؤمنو بني هاشم وبني المطلب، وفي مقام الدعاء: كل مؤمن؛ لأن آل الرجل أتباعه. و (صحبه): اسم جمع لصاحب بمعنى: الصحابي، وهو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يقظة في حياته لقاء متعارفاً -أي: ببدنه في عالم الدنيا- مؤمناً، ومات على ذلك، وإن لم يره لنحو عمى، وإن لم يميز ولم يشعر كل منهما بالآخر. فخرج بـ (بعد البعثة): ورقة بن نوفل، وإن آمن به بعد خديجة -كما أوضحته في

"الأصل"- مع من ثبتت له الصحبة من الأنبياء والملائكة. و (البررة) -جمع بار- وهو: من غلبت أعمال البر عليه. و (الكرام) -جمع كريم- وهو من خرج حتى عن نفسه وماله لله تعالى، والصحابة كلهم كذلك، أو من يعطي ما ينبغي لمن ينبغي لا لغرض ولا لعلة بل لله تعالى. تنبيه: جميع العلوم العلمية والعملية تندرج في الشهادتين؛ أي: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ولذا كانتا مفتاح الإسلام والجنة، ولا يرجح بهما في الميزان شيء، وأفضل ما قاله النبيون. أما الجملة الأولى .. فتضمنت جميع ما يجب في حق مولانا تعالى، وما يجوز، وما يستحيل؛ لاشتمالها على نفي النقائص عنه تعالى، وإثبات جميع الكمالات له. وبيانه: أن معنى الألوهية: العبادة بحق، وقد أثبَتَّها له تعالى بقولك: (لا إله إلا الله)، ونفيتَها عما سواه. ويلزم من ذلك استغناء الإله عما سواه، وافتقار ما عداه إليه، فيوجب له استغناؤه عما سواه .. وجوبَ الوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفة الحوادث، والقيام بالنفس، والتنزه عن كل نقص. ومنه: وجوب السمع، والبصر، والكلام؛ إذ لو لم تجب له تعالى هذه الصفات المذكورة جميعها .. لكان معدوماً، أو حادثاً، أو فانياً، أو مماثلاً للحوادث، أو غير قائم بنفسه، أو أصم، أو أعمى، أو أبكم، ولَمَا كان غنياً، بل من اتصف بشيء من هذه .. محتاج. ويدخل في تنزيهه عن النقائص استحالة كل نقص عليه -مما مر وغيره- وأنه لا غرض له في فعل من أفعاله، أو حكم من أحكامه، بحيث تعود به مصلحة إليه، أو إلى خلقه على سبيل الوجوب عليه تعالى؛ إذ لو كان له غرض .. لكان محتاجاً إلى تحصيل ما فيه المصلحة العائدة إليه، ليتكمل بها، أو العائدة على خلقه على سبيل الوجوب، ليدفع بها الوجوب عليه، بل لا يجب عليه فعل ممكن ما -لما مر- ولا تركه، وإلا .. كان عاجزاً محتاجاً. وقد تقرر بالبراهين القاطعة: أن كلاًّ من العجز والاحتياج وصف ذاتي للحادث لا يختلف ولا يتخلف، ولا يوجد الحادث بدونه، فلو احتاج لشيء أو عجز عنه .. كان

حادثاً، والحدوث عليه تعالى محال -كما يأتي- وما لزم عليه المحال من الاحتياج والعجز .. فهو محال. وأما الغرض بمعنى المصلحة العائدة إلى خلقه فضلاً وكرماً .. فلا محذور فيه، وإنما الممتنع أن يكون له غرض يبعثه على فعل أمر أو تركه على سبيل الوجوب، بحيث لو لم يفعل ذلك أو يتركه .. لزم النقص. وأما افتقار ما عداه إليه تعالى .. فيوجب له: الحياة، وعموم تعلق القدرة، والإرادة، والعلم؛ إذ الافتقار لما عداه إليه تعالى .. يستلزم قدرته على إيجاد ما افتقر فيه إليه تعالى .. وذلك يستلزم وجوب اتصافه بالقدرة، واتصافه بها يوجب اتصافه بالإرادة والعلم والحياة؛ لتوقف تأثيرها عليها كما يأتي ويجب في الثلاث الأخيرة كون كل منها عامَّ التعلق في متعلَّقه؛ إذ لو خرج عنها فرد لما افتقر إليه كل ما عداه. ويوجب له أيضاً افتقار ما عداه إليه: الوحدانية؛ إذ لو كان له ثان في الألوهية .. لما افتقر إليه جميع ما عداه، بل بعضهم يفتقر للإله الثاني، بل يلزم من التعدد عجزهما معاً، كما يأتي. ويؤخذ من افتقار ما عداه إليه: أن العالم بأسره حادث؛ إذ لو كان شيء منه قديماً .. لما افتقر، وأن لا تأثير لغيره تعالى في ممكن ما؛ إذ لو كان أثر في الكون لغيره تعالى في ممكن ما .. لم يكن ذلك الممكن مفتقراً إليه تعالى، بل إلى من أوجده تعالى الله. ومنه يُعلم: أن النار لا تحرق، والماء لا يروي، والسكين لا تقطع، وأن المؤثر في ذلك هو الله، أجرى العادة أن يوجد الإحراق وما بعده عند ملابسة النار وما بعدها فبطل مذهبُ الفلاسفة القائلين: بتأثير الأفلاك والعلل، ومذهب الطبائعيين القائلين: بتأثير الطبائع والأمزجة. فمن اعتقد أن هذه تؤثر بطبعها .. فلا خلاف في كفره. نعم؛ الغبي لا يكفر إلا بعد التعريف. أو بقوة خلقها الله فيها .. فلا خلاف في بدعته، وفي كفره قولان، وهم مساوون للمعتزلة القائلين: بتأثير القدرة الحادثة في الأفعال الاختيارية مباشرة أو تولداً بقوة خلقها الله تعالى فيها.

وبما قررنا عُلِمَ تَضَمُّن الجملة الأولى لما يجب لمولانا على كل مكلف معرفته، وهي الثلاث عشرة صفة المذكورة، وكل كمال إجمالاً؛ إذ كمالاته لا نهاية لها، لكن لم نكلف إلا بما ذكر، واستحالة أضدادها عليه، وكل نقص، وأنه تعالى يجوز في حقه فعل ما شاء من الممكنات وتركه. فقد اشتملت على ما يجب له تعالى، وما يجوز، وما يستحيل إجمالاً. وها أنا اشرح ذلك تفصيلاً بحسب الإمكان، فأقول: أما الواجب لمولانا تعالى الذي كلفنا بمعرفته .. فثلاث عشرة صفة: الأولى: (الوجود) وتسمى صفة نفسية، وحالاً نفسية، وهو عند الشيخ: نفس الموجود وذاته. وعليه فيعرَّف بأنه ما تحقق وأمكن وصفه. فيخرج بـ (ما تحقق): السلوب كالقدم، والاعتبارات كصفات الأفعال. وبـ (أمكن وصفه): صفات المعاني. وأوَّله المحققون بأن المراد بكونه نفس الذات: أنه ليس له حقيقة في الخارج قائمة به قيام البياض بالجسم -كما قاله المعتزلة والإمام- بل لا حقيقة له في الخارج إلا ذات الموجود، أما ذهناً .. فليس مفهومه مفهوم الذات؛ إذ مقابله العدم، ومقابلها الصفة. قال السعد: (أدلة القائلين أن الوجود زائد لا تفيد إلا أنه ليس مفهوم وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء من غير دلالة على أنه عرض قائم به قيام العرض بالمحل، فهذا مما لا يقبله العقل. وأدلة القائلين: إنه عينه إنما تفيد أنه ليس للشيء هوية، أي: تَشَخُّص، ولوجوده هوية أخرى قائمة بالأولى كقيام البياض بالجسم من غير دلالة على أن المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء، فهذا بديهي البطلان. فإذاً يُجْمَع بينهما بأنه عينه خارجاً، وغيره ذهناً) اهـ. ويكفينا الإيمان بوجوده تعالى من غير تعيين أنه غيره، ولا عينه. وتجب له خمس صفات سلبية؛ لأن كلا منها: نفي أمر لا يليق بمولانا.

الأول والثاني: (القدم والبقاء)، وهما بمعنى عدم سبق العدم ولحوقه للوجود. فوجود مولانا لم يسبقه ولم يلحقه عدم. وقُدم القدم؛ لاستلزامه البقاء ولا عكس؛ إذ من وجب قدمه .. استحال عدمه. فعلم أن القديم موجود لا أول له، بخلاف (الأزلي) فهو: ما لا أول له وجودياً كان -كمولانا وصفاته الثبوتية- أو عدمياً، كعدم الخلائق في الأزل. والثالث: المخالفة للحوادث من كل وجه؛ لأن العالم وصفاته كلها حادثة، وذاته تعالى وصفاته قديمة، ولو أشبه حادثاً ولو من وجه .. لتطرق إليه تعالى الحدوث كمشابهه؛ إذ المتماثلان يجب لكل منهما ما وجب لمماثله، وقد وجب الحدوث لمن فرضت مماثلته له، فليكن مماثله كذلك والحدوث عليه محال؛ لثبوت قدمه فالمماثلة محال أيضاً. ومعنى (مخالفته للحوادث): سلب الجِرمية والعَرَضية ولوازمهما -من زمان ومكان ومقدار، ونحو ذلك من اجتماع وافتراق وغيرهما- عنه تعالى، فذاته تعالى ليست جرماً، وصفاته ليست أعراضاً، وأفعاله ليست بمزاولة ومحاولة. وبالجملة: فلا يتصف مولانا بشيء مما يتصف به الحوادث إلا من حيث موافقة اللفظ للفظ كالله كريم، وزيد كريم. وفي الحقيقة لا مماثلة ولا مشابهة بين كرمه تعالى وكرم غيره. وأما ما ورد في الكتاب والسنة مما يوهم جسمية أو جهة أو غيرهما مما هو منزه عنه .. فمصروف عن ظاهره إجماعاً؛ لمخالفته للأدلة العقلية، إذ الدليل الشرعي إذا خالف الدليل العقلي كما هنا .. علم أنه ليس المراد به ظاهره، فوجب صرفه عن ظاهره إجماعاً. إما مع التفويض إليه تعالى وهو مذهب غالب السلف، أو مع التأويل وهو مذهب غالب الخلف؛ لاحتياجهم لذلك، لكثرة المبتدعة الملَبِّسين، فيقولون: معنى الوجه: الذات، واليد: القدرة، وهكذا. والسلف يقولون: آمنا بأن له يداً -مثلا- لكن لا تشبه أيدي المخلوقين، ولا يعلم حقيقتها إلا هو تعالى. ومع كوننا يجب علينا الإيمان بمخالفته للحوادث يجب علينا أن نمسك عن التعرض

لحقيقة ذاته تعالى، وصفاته؛ بل نؤمن بها، ونكل علم حقيقتها إليه تعالى، كما قال الصديق: "العجز عن درك الإدراك إدراك". ولا يحتاج إلى زمان ولا مكان، بل كان في الأزل قبل خلقه الخلق ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان قبل حدوث الزمان والمكان مِنْ أنه لا هو في زمان ولا مكان، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]. والرابع: (القيام بالنفس) وهو عند المتكلمين بمعنى الغنى عن المحل -أي: إن ذاته تعالى ليست صفة، فتحتاجَ إلى محل تقوم به- وعن المخَصِّص أي: الفاعل بمعنى أنه ليس حادثاً حتى يحتاج إلى محدث يحدثه، بل هو: ذات قديمة، وذلك يستلزم الغنى المطلق؛ إذ لو احتاجت لشيء ما .. لما كان قديما، كيف وهو قديم وغني عن كل شيء، وجميع من في الكون محتاج في كل لحظة إليه تعالى؟!. وبه يبطل أيضاً قول المعتزلة: إنه يجب عليه الصلاح والأصلح؛ إذ لو وجب عليه شيء .. لكان محتاجاً الى تحصيله تعالى الله علواً كبيراً. والخامس: (الوحدانية) -ومرَّ معناها قبيل قوله (المان بالنعم الجسام) - وبالجملة: فمعناها: نفي التعدد المتصل والمنفصل له تعالى في الذات، والصفات، والتفرد بالإيجاد والإعدام، فليست ذاته جسماً، ولا له نظير في ذاته، ولا في صفة من صفاته، ولا فِعْل في الكون لغيره، كما قال الشواف رحمة الله عليه: ما حد يحرك باعه ... في معصيهْ أو طاعهْ إلا أن يحركها الله وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: أن ترى أن جميع حركات العباد وسكناتهم فعل الله، فإذا عرفت ذلك .. فقد وحدته. ومرَّ أن الثواب والعقاب في أفعالنا الاختيارية إنما هو من حيث ما لنا فيها من الاختيار، وإلا .. فهي كغيرها مخلوقة لله تعالى. واعلم أن هذه الست الصفات قد شهدت بديهة العقول بثبوتها له تعالى، ودل عليها من الكتاب والسنة ما لا يحصى. والبرهان العقلي على ثبوتها له تعالى: إحداثه العالم؛ إذ يجب لمحدثه كونه موجوداً، قديماً، باقياً، مخالفاً للحوادث، قائماً بنفسه، واحداً؛ إذ المعدوم لا يُوجد شيئاً، ومن سبقه أو لحقه عدم، أو ماثل شيئاً من الحوادث، أو احتاج لشيء .. حادث. أما من سبقه عدم أو لحقه .. فظاهر.

وأما من ماثل حادثاً أو احتاج .. فلما مر من أنه يلزم للمثل ما ثبت لمماثله من الحدوث، وأن الاحتياج وصف ذاتي للحوادث، وأنه لا يتصف به إلا حادث وقد علم ضرورة أن الحادث لا يُحدث، فلو كان مولانا حادثاً .. لما أوجد العالم، فبإيجاده له عُلِمَ ضرورة وجوده وقدمه، ويلزم منه أنه باق، مخالف لغيره، قائم بنفسه. ويلزم منه أنه واحد؛ إذ لو كان له ثان في الألوهية .. لأدى إلى عجزهما -كما هو معلوم من براهين التمانع والتوارد، والعاجز لا يوجد- وإلى حدوثهما أيضاً، إذ العجز وصف ذاتي للحوادث، ولا يتصف به إلا حادث تعالى الله علواً كبيراً (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:22]. ودليل حدوث العالم: أنه منحصر في (أعراض) وهي: ما قام بغيره كالحركة والسكون وعِلْم الحادث والجهل والألوان. وفي (أجرام) وهي: ما قام بنفسه وملأ فراغاً؛ لأن الزائد إن كان صفة .. فهو العرض، أو موصوفاً فهو الجرم، ولا يصح اجتماعهما، ولا الخلو عنهما. لكن زاد الفلاسفة ثالثاً سموه بـ (المجردات)، أي: عن التحيز والصورة، أي: لا جرم ولا عرض، وهو: النفوس البشرية، والأرواح الملكية، والعقول، وهي عندهم قائمة بنفسها غير متحيزة، متعلقة بالبدن تعلق تحريك وتدبير، غير داخلة فيه، ولا خارجة عنه. وتبعهم الغزالي وبعض الصوفية في النفوس البشرية خاصة. ولا يلزم من هذا مماثلتها للبارئ تعالى؛ لأنها إنما شاركت في نفي العَرَضِية والجِرمية، كمشاركة كلامنا النفسي لكلامه تعالى في كون كل منهما ليس بحرف ولا صوت، والمماثلة إنما تكون بالمشاركة في الأمور الوجودية النفسية. واختار كثير من المحققين الوقف في هذا الثالث، وهو أسلم. أما الأعراض .. فحادثة مُشاهدةً فيما شوهد وجوده بعد عدم، أو عدمه بعد وجود كالحركة والسكون والعلم والجهل والألوان، والأول عين الحدوث، والثاني علامته؛ إذ من جاز عليه العدم استحال عليه القدم، إذ القديم لا يقبل العدم، إذ لو قبله .. كان جائز الوجود وجائز الوجود لا بد في وجوده من فاعل؛ لا ستحالة ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بمرجح، أي: فاعل، ومن احتاج لفاعل .. هو حادث، لا قديم. أو قبولاً فيما لم يشاهد وجودُه بعد عدم، ولا عدمه بعد وجود، كسكون الجبل

وحركة الشمس؛ فإن كلا منهما قابل للعدم بثبوت ضده، أو انعدام محله. وما جاز عدمه .. استحال قدمه كما مر. وأيضاً حدوث الحركة والسكون مشاهد في أكثر الأجرام وما ثبت لأحد المتماثلين ثبت للآخر. وأما الأجرام فحادثة؛ لما مر في الأعراض من حدوثها بعد عدم، وعدمها بعد وجود، أو قبولها للعدم الذي هو علامة الحدوث، ولمقارنة وجودها لوجود الأعراض، فلا يوجد جرم إلا وقارن وجودُه وجود أعراضه وقد قام الدليل على حدوث الأعراض، وما قارن وجوده وجود الحادث .. حادث أيضاً. ولم يخالف في ذلك إلا الفلاسفة، قالوا: بقدم العالم قدماً زمانياً -بمعنى أنه ما سبق بعدم- وبحدوثه حدوثاً ذاتياً، بمعنى احتياجه إلى الفاعل. وهذه المسألة هي إحدى المسائل الثلاث التي كفروهم بها. والثانية: عدم علمه تعالى بالجزئيات. والثالثة: عدم حشر الأجساد، بل الأرواح فقط، وقد بينت ذلك وما فيه في كتابي: "مفتاح السعادة". ويجب له أيضاً: سبع صفات هي صفات المعاني، وتسمى صفات الذات أيضاً، وهن تمام الثلاث عشرة صفة التي كلفنا بمعرفتها من كمالاته تعالى التي لا تتناهى. وهي صفات موجودة، قديمة، زائدة، قائمة بذاته العلية، لا تقبل الانفكاك بوجه. فهي ليست عين الذات -كما زعمه المعتزلة؛ إذ الصفة زائدة على الموصوف ضرورة، وإلا لزم أن المعنى ذات، وعكسه، وهو باطل- ولا غيرها؛ لعدم الانفكاك بينها وبين الذات العلية بوجه. فالمراد بـ (نفي الغيرية): نفي الانفكاك، لا اتحاد مفهومهما كما زعمه المعترض. وفي "صحيح البخاري": "كان الله ولم يكمن شيء غيره" فنفى الغيرية مع ثبوت هذه له في الأزل، فلو كانت غيره .. لما صح نفي الغيرية. فالأولى من السبع: (الحياة) وهي: صفة، قديمة، تصحِّح لمن قامت به الإدراك من علم وسمع وغيرهما. والثانية: (العلم) وهو: صفة، قديمة، تتعلق بجميع الواجب، والجائز،

والمستحيل على وجه الإحاطة على ما هو به، من غير سبق خفاء. والثالثة: (الإرادة) وهي: صفة، قديمة، يتحصل بها تخصيص كل ممكن -فعلاً أو تركاً- ببعض ما يجوز عليه من الممكنات المتقابلات على وَفق العلم، كزيد الموجود، فإنه يجوز أن يوجد، وأن لا، وأن يوجد في هذا الزمان وغيره، وطويلاً وقصيراً، وأبيض وأسود فخصصته بالوجود، وبهذا الزمان، وبالطول، وبالبياض، وهكذا، حتى لا تمد بعوضة جناحها في محل إلا وقد سبق علم الله بذلك، وخصصته الإرادة. والرابعة: (القدرة) وهي: صفة، قديمة، يتحصل بها إيجاد كل ممكن، وإعدامه على وفق الإرادة، فلا يقع في الكون شيء إلا وهو بقدرته تعالى على وفق ما سبقت به الإرادة والعلم. ومعنى تعلقها بكل ممكن: أنها صالحة للتأثير في كل ممكن، أي: تتعلق بكل ممكن تعلقاً صلوحياً. وأما التعلق التنجيزي: فما تعلقت الإرادة بإيجاده، أو إعدامه .. تعلقت به القدرة، أي: أثرت فيه الإيجاد في الأول، والإعدام في الثاني. وما تعلقت الإرادة بأنه لا يوجد كإيمان أبي جهل .. فلا تتعلق به القدرة؛ لأنها لا تأثير لها في العدم. نعم؛ هو في قبضته تعالى؛ لأنه يقدر على تغييره. تنبيهان: الأول: إسناد التخصيص للإرادة، والتأثير للقدرة مجاز؛ إذ التأثير للذات العلية، وكذا التخصيص، لا لهما، كما أن المعبود هو الذات لا الصفات، وكذا في بقية الصفات. نعم؛ محله فيمن قال: الإرادة: صفة تخصص كل ممكن، والقدرة: صفة تؤثر فيه. أما من عبر بـ (يتحصل بها) فيهما -كما مر- فالباء في (بها) للسببية فيهما .. فلا مجاز، فتأمله. الثاني: علم من تعريف الإرادة والقدرة أنهما عامتان في متعلقهما، فلا يخرج عنهما ممكن؛ إذ لو خرج .. لا ستحال ما علم جوازه؛ لأن تعلقهما على وفق العلم، إذ بتأثير الغير فيه يتبين أنه لا يجوز تعلقهما به، إذ ما هو من فعل غيرهما يمتنع تأثيرهما فيه، ويبطل عموم تعلقهما، أو احتاجا إلى مخصص يخصصهما بغير ذلك الممكن؛ إذ

الاختصاص بالبعض مع الصلاحية للكل .. لا يكون إلا بمخصص؛ لاستوائهما في الإمكان. وترجيح أحد المتساويين بلا مرجح محال. وكل ذلك -أي: استحالة ما علم جوازه وعدم عموم تعلقهما وتخصيصهما- محال؛ لما يلزم على ذلك من قلب العلم جهلاً، وحدوث الإرادة والقدرة القديمتين؛ إذ لا يقبل التخصيص إلا الحادث، وما لزم عليه المحال -من خروج ممكن عنهما- محال، فنتج أنهما لا يخرج عنهما ممكن. وخرج بـ (الممكن) الواجب، وهو: ما لا يقبل العدم لذاته، كالتحيز للجرم. والمستحيل، وهو: ما لا يقبل الوجود لذاته، كخلو الجرم عن التحيز، أو عن الحركة والسكون، فلا يتعلقان بهما؛ لأنهما صفتا تأثير، ولا يقبله إلا ممكن دون الواجب والمستحيل؛ إذ لو قبلاه .. لكانا جائزين، فتنقلب حقيقتهما من الوجوب والاستحالة إلى الجواز. ويلزم أيضاً في الواجب: تحصيل الحاصل، وهو وقلب الحقائق محال. دل على هذه الصفات الأربع: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل الحق. وبرهانها: أنه لو انتفت واحدة منها .. لاتصف بضدها، ولما وجد العالم؛ إذ الميت لا يوجِد، والجاهل لا يريد، أي: يستحيل أن يقصد ما لا يعلمه، ولا يتقن؛ إذ من رأى أسطر منظومة، وخطوطاً مستقيمة فضلاً عن هذا العالم المتقن بما حير ذوي البصائر الكاملة، وجوز وجودها من جاهل بالخط .. كان عن المعقول بمعزل. وكذا غير المريد والعاجز، أما الثاني .. فظاهر، وأما الأول .. فلأن الفاعل المختار يجب له القصد والاختيار، والفاعل بالقصد والاختيار لا يفعل إلا ما أراده، فنتج أن الإيجاد لما هو أقل من هذا العالم بل أقل من ذرة، لا يصدر إلا من حي عالم مريد قادر. وتمام السبع الصفات: السمع، والبصر، والكلام. فأما (السمع والبصر): فصفتان قديمتان، ينكشف بهما كل موجود قديماً كذاته تعالى وصفاته، أم حادثاً كغيره تعالى ذاتاً أم صفة، حتى الأكوان والألوان والروائح بلا حدقة ولا صماخ، كما يعلم بغير قلب، ويخلق بغير آلة؛ لأن ذلك كله من صفات الحوادث، وكيفيات الأجسام. ولا يختص سمعه تعالى بالأصوات، ولا بصره بالذوات والألوان، كما اختص بذلك سمع وبصر الحوادث؛ لأن كل موجود قابل لأن يسمع ويرى، ولو اختص سمعه

بالأصوات وبصره بالذوات .. لاحتاجا إلى مخصص يخصصهما بذلك، وقد علمت أن التخصيص محال على صفاته؛ لأنه لا يقبله إلا الحادث، ومن ثم صح تخصيص سمع وبصر الحوادث -بما ذكر- على وجه مخصوص من القرب، وعدم الحائل، بل قد سمع موسى كلام الله القديم مع أنه ليس بحرف، ولا صوت، ولا في جهة، ولا مقابلة، ولا غير ذلك مما يلزم الحوادث. وأما (الكلام): فصفة قديمة، قائمة بذاته تعالى، ليس بحرف، ولا صوت، ولا يقبل التقديم والتأخير، والطرو والعدم، دالة على معلوماته تعالى من واجب، وجائز، ومستحيل، هو بها آمرٌ ناه، واعد متوعد. أما المقروء بألسنتنا، والمحفوظ في صدورنا، والمكتوب في مصاحفنا .. فكلام الله لغة وشرعاً. وأما عقلاً .. فإنما سمي كلام الله بحسب الدلالة، أي: لمّا دل معناه على الكلام القديم .. سمي كلام الله، لا أن كلام الله حال في لسان القارئ، أو صدر الحافظ، أو المصاحف؛ إذ لا يقوم كلامه تعالى بغيره، ولا يتكلم به سواه، لكنه لما دل على كلامه تعالى .. سمي كلام الله، وحرم أن يقال: ليس هو كلامه. وأجمعت الأمة على أن ذلك كلام الله تعالى، فله -ككل موجود- أربعة وجودات: وجود لفظي، وهو في لسان القارئ، ووجود ذهني، وهو في الصدور، ووجود رسمي، وهو في المصاحف، ووجود حقيقي، لا هو في الألسن، ولا في الصدور، ولا في المصاحف، بل قائم بذاته تعالى، ولا يعلم حقيقته إلا هو تعالى. دل على هذه الثلاث الصفات: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل الحق. وبرهانها أنه لو لم يتصف بها .. لاتصف بأضدادها من الصمم والعمى والبكم، والاتصاف بها نقص، والنقص عليه محال. تعالى الله علواً كبيراً. ويلزم من اتصافه بهذه السبع: أنه حي بحياة، وعالم بعلم، ومريد بإرادة، وكذا الباقي. وتسمى هذه الصفات المعنوية، أي: منسوبة لصفات المعاني؛ إذ اتصاف محل بكونه عالماً -مثلاً- لا يصح إلا إذا قام به العلم، وتسمى أيضاً: أحوالاً معنوية. والقائلون بالأحوال يقسمون الصفات إلى ثلاثة أقسام؛ لأن الصفة إن كانت موجودة

في نفسها .. فهي صفة معنىً كالعلم، وإلا .. فإن كانت تابعة لذات الموجود، ومعللة بوجودها .. فهي حال نفسية كالوجود، والتحيز للجرم، وإن كانت تابعة لصفة، ومعللة بوجودها .. فحال معنوية كعالم؛ فإنه تابع لثبوت العلم، وبقيت ثلاث أخر: (الصفات السلبية)، كما مرت. و (صفات الأفعال) وهي: صدور الآثار عن قدرته تعالى وإرادته، كخلقه ورزقه. و (الصفات الجامعة) وهي: كل صفة يندرج سائر ما مر فيها، كعزة الله وجلاله؛ لأنه يقال: جل الله بكذا، فيدخل سائر صفات الكمال، وجل عن كذا، فيدخل السلبيات. أما الذين لا يقولون بالأحوال .. فليس عندهم إلا الذات العلية، وصفات المعاني، ولا معنى لكونه عالماً إلا قيام العلم به، وهكذا، ولا لكونه موجوداً أو متحيزاً إلا ثبوت الذات. والحاصل: أن الأحوال النفسية، والمعنوية، وصفات الأفعال إنما هي أمور اعتبارية لا وجود لها، والسلوب إنما هي: نفي صرف، والصفات الجامعة راجعة إلى ما مر، فلم يبق موجود إلا الذات العلية، وصفات المعاني. وأما ما يستحيل في حقه تعالى .. فما ينافي هذه الصفات المذكورة، وكل نقص تعالى الله علواً كبيراً. وأما ما يجوز في حقه تعالى .. ففعل ما يشاء من الممكنات وتركه، فلا يجب عليه فعل ممكن ولا تركه، وله أن يعذب الطائع وينعم الكافر، ولا قبح في فعله، بل كل ما يفعله حسن وإن كان لا يفعل ذلك؛ إذ ليس كل جائز .. واقعاً، بل بعض الجائزات يقع لا محالة بالوعد الصادق، كتنعيم الطائع وتعذيب الكافر والحشر والميزان ونحوها؛ لا لوجوبه في ذاته، بل لإخباره أنه يقع، ولا خُلْفَ في خبره، وبعضها لا يقع البتة، كالنبوة بعده صلى الله عليه وسلم، وتنعيم الكافر لا لاستحالته عقلاً، بل لإخبار الله إنهما لا يقعان، فاستحال وقوعهما شرعاً لا عقلاً، بل هما جائزان عقلاً من غير نظر إلى ما ورد به الشرع. والحاصل: أن (الجائز) عقلاً -وهو: ما يجوز العقل وجوده وعدمه من غير نظر لشرع- لا يمتنع وجود شيء منه، ولا عدمه إلا ما أخبر الشرع بوقوعه، فيجب شرعاً لا عقلاً.

وما أخبر الشرع بعدم وقوعه .. فيمتنع لا لذاته، بل لإخبار الشرع بذلك. قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68]. (وأما الجملة الثانية) وهي (محمد رسول الله) .. فيؤخذ من إضافة الرسول إلى الله فيها وجوب صدقه، وأمانته، وتبليغه عليه الصلاة والسلام، واستحالة ما ينافيها وفي معناه سائر الرسل. فينافي الصدق الكذب، وينافي الأمانة الخيانة، وينافي التبليغ الكتمان، وذلك أن الله تعالى أرسلهم مشرعين بجميع أقوالهم، وأفعالهم، وصدقهم بالمعجزات وأضافهم إليه، وأوجب على الخلق اتباعهم مطلقاً مع أن علمه محيط بكل معلوم، فوجب لهم الصدق، والأمانة، والتبليغ؛ إذ لو كذبوا أو خانوا أو كتموا .. لما أضافهم العالم بالخفيات إليه، ولكانوا رسل الله في ذلك -لما مر- وغير رسله؛ لعدم صحة نسبة ذلك إليه، وهو محال. ويلزم أيضاً كون ما كذبوا فيه مأموراً به، منهياً عنه، وهو محال، وما لزم عليه المحال -وهو كذبهم وخيانتهم وكتمانهم- فهو محال. فيثبت صدقهم، وأمانتهم، وتبليغهم، وهو المطلوب. ويؤخذ من قولنا: (محمد رسول الله) أيضاً جواز الأعراض البشرية التي لا نقص فيها على الرسل؛ إذ لا يقدح ذلك في مناصبهم، بل يقتضي جواز ذلك؛ تحقيقاً لمقام العبودية، ورفقاً بضعفاء العقول، لئلا يظنوا بهم ما هو من خصوص الألوهية، ودليلاً على صدقهم في أنهم رسل الله، وأن الخوارق الظاهرة على أيديهم بمحض خلق الله تصديقاً لهم، وتعظيماً لأجورهم، وتنبيهاً على خسة الدنيا -إذ لو كانت كريمة عنده تعالى .. لما كان الأنبياء أشد بلاء فيها، وبئس الدار التي يبتلى فيها الأخيار، ولذا رفضها كل كريم، وتعلق بها كل لئيم- وتشريعاً للأحكام في نزولها بهم، وتسلياً للأمة من مشاق الدنيا. ويدخل في قولنا: (محمد رسول الله) الإيمان بجميع ما جاء به؛ لأن ذلك تصديق برسالته وبجميع ما جاء به. ومن ذلك الإخبار بالأنبياء المرسلين منهم وغيرهم، فيجب: الإيمان بهم، وأنهم أفضل الخلق على الإطلاق، وعددهم: مئة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، وعدد الرسل منهم ثلاث مئة وثلاثة عشر، أو وخمسة عشر.

ومن ذلك (الملائكة)، فيجب الإيمان بهم، وبأنهم عباد مكرمون (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، وهم أجسام لطيفة نورانية، مبرأة من الكدورات الجسمانية، كاملة في العلم، قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، شأنهم الطاعة، بالغون في الكثرة ما لا يعلمه إلا الله، منهم المستغرقون في طاعة الله، وبعضهم خدمة الكون. فمنهم رسل الله الى أنبيائه، ومنهم حملة العرش، ومنهم الموكلون بالحجب وبالسماوات والجنة والنار والجبال والسحاب والمطر، ينزل مع كل قطرة ملك. وبالجملة: فهم خدمة الكون كله، ولا موضع في السماء والأرض إلا وهو معمور بهم، وغالب مسكنهم السماوات. ومن ذلك الكتب المنزلة من عند الله، وهي: مئة كتاب وأربعة كتب، أنزل على آدم منها عشرة، وعلى ابراهيم عشرة، وعلى شيث خمسون، وعلى إدريس ثلاثون، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، والفرقان على محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم. واعلم: أنه يكفي الإيمان بمن ذكر إجمالاً، إلا من ثبت تعيينه .. فيجب الإيمان به تفصيلاً، بحيث إنه لو سمع ذكره .. علم أنه نبي أو ملك أو كتاب. وذلك من الأنبياء: خمسة وعشرون، في: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) [الأنعام:83] ثمانية عشر، وآدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل ومحمد صلى الله عليهم وسلم. ومن الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ورضوان ومالك، ورقيب وعتيد -لكل مكلف اثنان يكتبان أعماله، ولا يفارقانه إلا عند قضاء الحاجة والجنابة والغسل، فإذا مات .. قعدا عند قبره، فإذا حشر .. حشرا معه- ومنكر ونكير. ومن الكتب: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومن ذلك (اليوم الآخر) وهو من بعث الناس من قبورهم الى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أو إلى ما لا نهاية له، أو من الموت إلى ما ذكر، وهو المراد هنا؛ لأن من مات قامت قيامته، فيجب الإيمان به، وبما اشتمل عليه من سؤال الملكين منكر ونكير لمن مات وإن لم يدفن، أو أحرق وصار رماداً بعد إكمال دفنه بعد إعادة الروح إلى جميع البدن، ولا يسألان عن غير الاعتقاد، فمنهم من يسأل عن بعض اعتقاده، ومنهم من يسأل عن كله.

والسؤال لكل مكلف إلا من استثني، كالأنبياء والشهداء والصديق، والمرابط، والمبطون، وملازم قراءة تبارك أو حم السجدة كل ليلة، والميت بالطاعون، أو يوم الجمعة، وكذا كل شهيد كما قاله القرطبي، ومن لا يسأل في قبره .. لا يعذب فيه، وكل مؤمن يوفق للجواب ولو عاصياً ولو بعد تلجلج. ومن ذلك عذاب القبر، ومنه: ضغطته لغير أم سيدنا علي، ومن قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أربعين مرة في مرض موته؛ فإنه ورد أنه: "لم يفتن في قبره، وأمن ضغطته، وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه الصراط إلى الجنة". والعذاب لكل عاص إلا من عفا الله عنه من المؤمنين. ومن ذلك نعيم القبر لكل مؤمن ولو بعد عذاب، والنعيم والعذاب للروح والجسد وإن صار تراباً. ومن ذلك (البعث) وهو كالنشر: الإخراج من القبور بعد جمع الأجزاء الأصلية، وإعادة الأرواح إليها. و (الحشر) وهو سوقهم إلى الموقف حفاة عراة إلا الشهداء وأهل الزهد، وقيل: ثلاثة أفواج: فوجاً طاعمين راكبين كاسين، وفوجاً يمشون ويسعون، وفوجاً تسحبهم الملائكة على وجوهم، كما في الحديث، رواه النسائي. ويكون البعث والحشر لعين هذا البدن بأعراضه التي كانت قائمة به في الدنيا عن فناء أو تفريق، بحيث لم يبق في الجسم جوهران فردان على الاتصال، وقد أوضحت ذلك في "مفتاح السعادة". وقد جمع مع صغر حجمه ما لم يجمعه كثير من الكتب المطولات. ومن ذلك هول الموقف، وشدائده -لطول الوقوف، والعرق يبلغ آذان بعض الناس، ويذهب في الأرض سبعين ذراعاً- وتطاير الصحف من خزانة تحت العرش بعد أن تؤخذ من كتبتها وتلزم الأعناق، والمسألة، وشهادة الآلات والسمع والبصر، والليل والنهار، والحفظة، وتغير الألوان. والظاهر -كما قاله السعد- أن هذا في غير الأنبياء والأولياء والعلماء؛ لآية (لا يَحْزُنُهُم الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) [الأنبياء:103] وغيرها. وأسباب النجاة من هذه الأحوال: قضاء حوائج المسلمين، وتفريج كربهم،

والتجاوز لهم في معاملتهم أخذاً وإعطاء، وإشباع الجائع، وكسوة العريان، وإيواء ابن السبيل. وكما أن في الموقف أهوالاً ففيه سرور؛ إذ فيه أحوال شتى. ومن ذلك إعطاء الكتب، أي: أخذ الملائكة لها من الأعناق -كما مر- وإعطاؤهم إياها، فالطائع يعطى كتابه بيمينه، والكافر بشماله، وفي المؤمن العاصي خلاف، المشهور أنه يأخذها بيمينه. ومن ذلك (الحساب) وهو توقيف الله عباده بعد أخذهم كتبهم، وقبل الانصراف من الموقف على أعمالهم ولو اعتقاداً، أو غير مكسوبة لهم لا بالوزن، بأن يلهمهم أو يسمعهم بكلامه ما فيها من ثواب أو عقاب، ومنه اليسير والعسير، والسر والجهر، والتوبيخ والفضل، فمنهم من لا يحاسب أصلاً، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم عسيراً. ومنه (الجزاء) وهو مقابلة السيئة بمثلها إن لم يقع فيها عفو، ومقابلة الحسنة الأصلية المقبولة المفعولة له ولو بواسطة بضعفها، وأقل مراتب التضعيف: العشر المذكورة في القرآن، وقيل: السبع مئة المضروب بها المثل في آية البقرة، وبه جزم النووي، ولا حد لغايته. وخرج بـ (الأصلية) التضعيف، فلا تضعيف فيه، وبـ (المقبولة) غيرها، فلا ثواب فيه، وبـ (المفعولة له) المأخوذة في ظلامة له، فلا تضعيف فيها. وسميت الحسنة حسنة؛ لأنها تحسن وجه صاحبها، والسيئة سيئة؛ لأنها تسوءه. ومنه (الميزان). اعلم: أن مراتب الموقف: البعث، فالحشر، فالقيام لرب العالمين، فالعرض، فتطاير الصحف، فأخذها بالأيمان والشمائل، فالسؤال، فالحساب، فالميزان، وهو ما تعرض له هنا، يعني أن الوزن، والميزان مما يقع في اليوم الآخر؛ لثبوت ذلك بالكتاب والسنة، قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) [الأعراف:8]. وهو ذو كفتين، ولسان، توزن فيه الأعمال فعلاً وقولاً. واختلف في أنه واحد، أو متعدد، وفي أن للكافر وزناً أو لا، وفي أن الموزون صحف الأعمال، أو أجسام أمثلة لها على قدر الأعمال في الثواب والعقاب خلاف، ويكفينا الإيمان بالوزن والميزان من غير تعيين.

قيل: ومكانه بين الجنة والنار، أي: في آخر الصراط، يستقبل به العرش، يأخذ جبريل بعموده ناظراً إلى لسانه، وميكائيل أمينٌ عليه، تحضره الجنة والناس. ومنه (الصراط) وهو لغة: الطريق الواضح. وشرعاً: جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، وهذا معنى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) [مريم:71]، وفي حافتيه كلاليب تأخذ من أمرت به إلى النار. قال الحليمي: (الكفار لا يمرون عليه، وهو محمول على آخره؛ لأنهم يقعون منه في النار قبل جوازه)، وقيل: بعضهم لا يمر عليه، وهم من عدا المنافقين واليهود والنصارى. وقيل: صراطان: صراط للمؤمنين، وصراط للكفار، ويكفينا الإيمان بالصراط، وقيل: يتسع في بعض المواضع، وفيه طريقان: يمنى لأهل السعادة، ويسرى لأهل الشقاوة، وقيل: عرض صراط كل أحد على قدر نوره. وطوله ألف سنة صعوداً وألف هبوطاً وألف استواءً، وفيه سبع قناطر، يسأل فيها عن الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج والوضوء والغسل، وفي السابعة عن مظالم العباد، ويقف جبريل أوله، وميكائيل وسطه يسألان المكلف عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيماذا أنفقه؟ ومنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم، من شرب منه شربة .. لا يظمأ بعدها، ترده هذه الأمة دون غيرها. واختلف هل هو قبل الصراط أو بعده؟ أو هما حوضان أحدهما قبله والآخر بعده؟. ومنه (الشفاعة) وهي متعددة، وهي عشر، كما ذكرتها في "مفتاح السعادة" أعظمها: شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء في خلقه بعد شدائد الموقف وطول القيام، وتردد الناس من نبي إلى نبي حتى ينتهوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فيقول: "أنا لها" حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى. وهذه الشفاعة هي المقام المحمود، أو أوله، وبقية الشفاعات بعضها مختصة به، وبعضها يشاركه فيها غيره من الأنبياء، والملائكة، وكمل المؤمنين، إلا التي فيمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعمل خيراً قط .. فمختصة بالرؤوف الرحيم. ومنه دخول النار مؤبداً للكفار، وإلى مدة يريدها الله تعالى لمن لم يعف الله عنه من عصاة المؤمنين بلا خلود، أقلها لحظة، وأقصاها سبعة آلاف سنة من أهل كل كبيرة ولو

واحداً، ومن انقضى عذابه فيها .. مات موتاً حقيقياً، وقيل: هو نوم، وعلى كل لا يحسون الألم. وهي سبع طباق: جهنم، وتحتها لظى، فالحطمة، فالسعير، فسقر، فالجحيم، فالهاوية. وباب كل من داخل الأخرى على الاستواء، ولا جمر لها سوى بني آدم، والحجارة المتخذة آلهة. ومنه دخول الجنة لكل مؤمن، وهي سبع متجاورة -أوسطها وأعلاها الفردوس، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة النعيم، وجنة عدن، ودار السلام، ودار الجلال -أو أربع- ورجحه جماعة؛ لآية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46] ثم قال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرحمن:62]- أو واحدة، والأسماء والصفات جارية عليها، وفيها من النعيم ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأجله وأعلاه رؤية الله تعالى؛ للآيات والأحاديث، وإجماع الصحابة، لكن بلا تكييف من جهة أو مقابلة أو إحاطة أو انحصار، ولا يعرف حقيقتها إلا من وقعت له في الموقف، أو في الجنة من المؤمنين، جعلنا الله تعالى بمنه وكرمه من أهلها من غير سابقة عذاب، ولا محنة. ويدخل في قولنا: (محمد رسول الله) الإيمان بالقضاء وهو: الإرادة القديمة مع تعلقها بالأشياء أو العلم مع التعلق. وبـ (القدر) وهو: إيجاد الله الأشياء على حسب القضاء السابق، وعكس فيهما الماتريدية. ومما يدخل في ذلك أيضاً: ما اشتمل عليه هذا المختصر وغيره من كتب الفقه من: طهارة، وصلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغيرها، وهذا آخر ما أوردناه مما تضمنته الشهادتان، ولم نأت من ذلك إلا بقطرة من بحر، ومن أراد الزيادة عليه .. فليطلبها، والله سبحانه أعلم. (وبعد) أتى بها اقتداء به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون بأصلها؛ للانتقال من أسلوب إلى آخر، وهو أما بعد بدليل لزوم الفاء في حيزها غالباً، والأشهر أن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وأنها فصل الخطاب الذي أوتيه. والأصل الأصيل: ومهما يكن، أو يذكر من شيء .. فأقول بعدما تقدم، فحذف

الشرط وفعله، والمضاف إليه بعد، وأقيم (أما) مقام الشرط وحده والمراد: أن حق الترتيب أن يكون هكذا، لا أنه نطق به كذلك ثم دخله الحذف والنيابة. و (بعد) نقيض (قبل): ظرف غائي زماني -باعتبار النطق- مكاني -باعتبار الرسم- مبني على الضم؛ لحذف المضاف إليه، ونية ثبوت معناه، وبني؛ لافتقاره إلى ما يضاف إليه، أو لشبهه بأحرف الجواب كنعم، ويصح نصبه بلا تنوين على نية لفظ المضاف إليه، والعامل فيه (أما) عند سيبويه؛ لنيابته عن الفعل، أو الفعل المحذوف عند غيره، وهو القول المقدر -كما أشرت إليه فيما مر- أي: مهما يكن من شيء .. (فـ) أقول بعد ما تقدم (هذا) المؤلف الحاضر في الذهن (مختصر) من الاختصار وهو: تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقال (سم) هو: تقليل اللفظ، سواء كثر المعنى أم قل أم ساوى. (لابد لكل مسلم من معرفته، أو معرفة مثله) أي: مثل ما فيه من الأحكام؛ ليكون على بصيرة في دينه؛ لأنه يجب على كل مكلف معرفة ما يحتاج إليه من الفقه من الأحكام الظاهرة، وغالب ما فيه كذلك، وما حدث له من الأحكام التي ليست فيه يسأل عنه. وإنما قال: لا بد من معرفته أو معرفة مثله؛ لأن من لم يعرف ذلك ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء. وإذا علمت أنه لا غنى عن معرفته أو معرفة مثله .. (فيتعين) على كل راغب في الخير (الاهتمام به) أي: هذا المختصر أو مثله؛ حفظاً وتفهماً وكتابة، (وإشاعته) في البلدان؛ ليكون له أجر الدلالة على الخير. (فـ) أنا (أسأل الله أن ينفع به) نفعاً عاماً؛ إذ حذف المعمول يفيد العموم، وقد أجاب الله دعاءه، ونفع به في الأقطار انتفاعاً عاماً عظيماً ببركة هذا الشيخ العظيم الذي اعترف الأكابر بعلو شانه ومقامه.

ولمّا دعا لغيره بالانتفاع به .. دعا لنفسه بقوله: (وأن يجعل جمعي له) من مفرقات الكتب (خالصاً لوجهه) أي: ذاته (الكريم) أي: المتفضل بالنوال قبل السؤال، فكيف بمن سأله ولجأ إليه؟! سبحانه، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم. * * *

باب الطهارة

(باب) وفي نسخة: كتاب، أي: في بيان وسائل (الطهارة)، ومقاصدها وأحكامها، وما يتعلق بذلك. والكتاب لغة: الضم والجمع؛ إذ الكاتب يجمع الحروف فتصير كلمة، والكلمات فتصير كلاماً. والباب لغة: المنفذ والفصل الحاجز، والفرع: ما يبنى على غيره. وأما عرفاً .. فكل منها: اسم لجملة مختصة من دال العلم. لكن الكتاب مشتمل على أبواب، وفصول، وفروع، ومسائل غالباً. والباب مشتمل على فصول ... إلخ، والفصل مشتمل على فروع ... إلخ، والفرع مشتمل على مسائل، فالكتاب كالجنس، والباب كالنوع، والفصل والفرع كالصنف، والمسألة كالشخص، وكل من الكتاب وما بعده -في هذا المحل وغيره- خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ حُذف خبره، أو مفعول لفعل محذوف، أي: هذا الكتاب، أو كتاب الطهارة هذا، أو خذ كتاب الطهارة. ووسائل الطهارة: الماء، والنجاسة، والاجتهاد، والأواني، وقال (بج): المشهور أن وسائلها الحقيقية: الماء، والتراب، والحجر، والدابغ. ومقاصدها: الوضوء، والغسل، والتيمم، وإزالة النجاسة. (والطهارة) -بفتح الطاء-: النظافة، والخلوص من الدنس الحسي كالمخاط، والمعنوي كحسد وكبر. وشرعاً: تطلق على الفعل الذي هو (التطهير) وهو الوضوء والغسل والتيمم وإزالة النجاسة، وعلى الأثر المترتب على ذلك التطهير الذي هو زوال المنع الناشئ عن الحدث والخبث. وتعرّف على الأول بأنها فعل ما يتوقف عليه إباحة ولو من بعض الوجوه كالتيمم، أو ثواب مجرد كالغسلة الثانية، وغسل الجمعة. وعلى الثاني بأنها الأثر المترتب على ذلك الفعل.

(والطهارة) -بالضم-: بقية الماء. وقد افتتح الأئمة كتبهم بالطهارة؛ لخبر: "مفتاح الصلاة الطهور"، ولأنها شرط للصلاة، وهو مقدم طبعاً، فيقدم وضعاً. (لا يصح) ولا يحل (رفع الحدث) أي: الأمر الاعتباري القائم بالأعضاء المانع صحة الصلاة حيث لا مرخص، أو المنع المترتب على ذلك لا الأصغر -وهو ما أوجب الوضوء- ولا الأكبر -وهو حدث الحيض والنفاس- ولا الأوسط، وهو حدث الجنابة والولادة، وفي معناهما الموت. (ولا إزالة النجس) أي: المستقذر المانع صحة الصلاة حيث لا مرخص، أو المعنى الموصوف به المحل، الملاقي لعين من ذلك مع الرطوبة -لا المخفف وهو بول الصبي ولا المغلظ وهو نجاسة الكلب والخنزير، ولا المتوسط وهو ما عداهما من النجاسة أو الوصف الناشئ عن ملاقاتها كما مر- ولا طهارة لسلس، ولا مسنونة. (إلا بـ) ماء مطلق ولو ظناً عن الاشتباه، وهو: (ما يسمى ماء) بلا قيد لازم عند العالم بحاله على أي صفة كان، من أصل الخلقة، وذلك كماء البحر وإن كان متغير الطعم، وما ينعقد منه الملح، وينحل إليه البرد، وما استهلك فيه خليط لم يسلبه اسم الماء، والمترشح من الماء الطهور المغلي، وما جمع من ندىً، والمتغير بمجاور أو بما لا غنى عنه، وماء زمزم. ودليل حصر ما ذكر في الماء: أن الطهارة ثبتت فيه بالماء دون غيره، ولا مدخل للقياس؛ لاختصاص الماء بمزيد لطافة ورقة لا توجد في غيره. وخرج بـ (الماء المطلق) غيره من مائع وجامد ولو تراباً؛ لأنه في التيمم لا يرفع الحدث بمعنى الأمر الاعتباري، وفي غسل نجاسة نحو الكلب، المطهر فيها إنما هو الماء بشرط مزجه بالتراب، ونحو الحجر في الاستنجاء مخفف لا مزيل للنجاسة. وطهر الجلد بالدبغ، والخمر بالتخلل إحالة لا إزالة، ويستمر التطهير للماء إلى أن يتغير، أو يستعمل، أو ينجس. (فإن تغير) ولو بواحد من (طعمه أو لونه أو ريحه) فـ (أو) مانعة خلو، لا جمع (تغيراً فاحشاً بحيث لا يسمى ماء) بأن يسلب اسم الماء المطلق يقيناً، وإنما

يسمى ماء مقيداً بقيد لازم كماء الورد، أو يحدث له اسم آخر كالمرقة، وكان ذلك التغير (بمخالط) للماء يخالفه في صفاته، أو واحدة منها وهو ما لا يمكن فصله، أو ما لا يتميز في رأي العين (طاهر) أما المتغير بنجس .. فمتنجس مطلقاً (يستغني الماء عنه) يقيناً، أي: لا يشق صونه عنه، كملح جبلي في غير ممره ومقره، وكافور رخو، وقطران رخو لم يوضع لإصلاح الظرف، وثمر وإن كان أصله في الماء. ( .. لم تصح) ولم تحل (الطهارة به)؛ لأن ذلك لا يسمى ماء، حتى لو حلف لا يشرب ماء، أو لا يشتريه .. لم يحنث بشرب متغير، أو شرائه. نعم؛ لو تنجس نحو دقيق بحكمية .. طهر بصب الماء عليه وإن تغير كثيراً قبل وصوله لجميع أجزائه للضرورة، بخلاف تغيره بالسدر في غسل الميت؛ إذ لا ضرورة. (والتغير التقديري كالتغير الحسي) في جميع أحكامه (فلو وقع فيه) أي الماء ما يوافقه في جميع صفاته كماء مستعمل، ولم يبلغا قلتين، أو في بعضها كـ (ماء ورد لا رائحة له) وله لون وطعم، أو أحدهما ( .. قدر مخالفاً) له في جميعها في الأول، وكذا في الثاني. لكن رجح كثير أن الموجود لا يقدر (بأوسط الصفات) كطعم رمان، ولون عصير، وريح لاذن، فيفرض مغير اللون، ومغير الطعم، ومغير الريح، فبأيها حصل التغيير تقديراً .. انتفت عنه الطهورية؛ وذلك لأنه لموافقته للماء لا يغيره، فاعتبر بغيره كالحكومة. (و) خرج بـ (التغير الفاحش) اليسير، فـ (لا يضر تغير يسير) وهو ما (لا يمنع اسم الماء) ولو بمخالط مستغنى عنه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام "توضأ من قصعة فيها أثر عجين". (و) بالمخاط التغير بما ليس مخالطاً ولا مجاوراً كالمكث أو بمجاور، فـ (لا يضر تغير بمكث) وإن كثر إجماعاً؛ لتعذر الاحتراز عنه.

(و) لا (بتراب) ولو مستعملاً عند (م ر)، سواء قلنا: إنه مخالط؛ لأنه مطهر كالماء، أو مجاور ما لم يجر بطبعه كالشربة، ولا يضر التغير بما على أبدان المتطهرين. قال الشرقاوي: (ومن الخليط الذي لا غنى عنه .. ما يقع من غسل الرجلين في الفساقي كميضأة السيد البدوي أيام المولد) اهـ (و) لا التغير (بطحلب) لم يطرح إن تفتت؛ لعسر الاحتراز عنه، فإن طرح وصار مخالطاً .. ضر. (و) لا بـ (ما في مقره وممره) أي: بما هو خلقي فيهما، أو مصنوع يشبه الخلقي من نحو: نوره، وطين، وأثر الدباغ، وكذا قطران ولو رخواً وضع لإصلاح نحو القرب عند (حج). (ولا بمجاور) وإن طرح (كعود) لم تنحل منه عين في الماء يقيناً (ودهن) وبخور؛ لأن ما شك في كونه مجاوراً أو مخالطاً له حكم المجاور، ولأنه بفرض أنه مخالط .. لا يسلب اسم الماء. ومن المجاور ما أغلي فيه نحو بر أو ثمر -ما لم يعلم انفصال عين منه مخالطة له تسلبه اسم الماء- وما طرح فيه، نحو ليمون وإن تغير ريحاً وطعماً كثيراً (ولا بملح مائي) وإن طرح؛ لانعقاده من عين الماء كالثلج -بخلاف الجبلي كما مر- وكالملح المائي متغير بخليط لا يؤثر عند (حج)، فلا يضر صبه على غير متغير وإن غيره كثيراً؛ لانه طهور. (ولا بورق تناثر) بنفسه (من الشجر) ولو ربيعياً، فإن طرح وتفتت .. ضر، فإن لم يتفتت .. لم يضر؛ لأنه مجاور. وخرج بزيادتي (يقيناً): ما لو شك، هل التغير فاحش أو لا؟ أو هل التغير بمخالط أو مجاور؟ أو هل المخالط مستغنى عنه أو لا؟ أو هل بطاهر أو نجس؟ فلا يضر؛ إذ الأصل تيقن طهوريته، فلا تزول بالشك. ولو شك هل زال التغير المضر .. عاد طهوراً عند (م ر)؛ لأن طهوريته إنما سلبها يقين فحش تغيره، وقد زال.

فصل: في الماء المكروه

وقال (حج): (الأصل عدم طهوريته فلا يزول بالشك) * * * (فصل: يكره) تنزيهاً شرعاً استعمال (شديد السخونة، وشديد البرودة) في بدن؛ للتألم بكل، ولمنعه الإسباغ. نعم؛ إن ضاق الوقت ولم يجد غيره .. وجب استعماله ما لم يعلم ضرره، فيحرم، وكذا يقال في المشمس الآتي. أما المعتدل .. فلا يكره وإن سخن بمغلظ. (و) يكره أيضاً -شرعاً لا طبعاً فقط- استعمال (المشمس) أي: المتشمس ولو كثيراً من المائع، ولو مغطى؛ لأنه يورث البرص، وإنما لم يحرم؛ لندرة ترتبه عليه، فلو علم من نفسه أو من ثقة ترتبه عليه .. حرم، وإنما يكره إن أثرت الشمس فيه سخونة بحيث تنفصل من الإناء أجزاء سُمَّيةٌ تؤثر في البدن. وتشمس (في جهة) أي أرض (حارةٍ)، وفي وقت الحر، و (في إناء منطبع) أي: شأنه أن يمتد تحت المطرقة، غير ذهب وفضة؛ لصفاء جوهرهما، بل نحو حديد ونحاس ورصاص. واستعمل (في) ظاهر أو باطن (بدن) آدمي ولو ميتاً عند (م ر)، وأبرص خشي زيادة برصه وإن سخن بالنار، (دون) بدن غير الآدمي إلا من يلحقه البرص كالخيل، فيكره كالآدمي، ودون نحو (ثوب) لم يلبسه رطباً به. (وتزول) الكراهة في المتشمس (بالتبريد) بأن يصل لحالة لو كان ابتدئ بها .. لم يكره، وبضيق وقت إن لم يجد غيره. ويكره أيضاً استعمال ماء كل أرض غضب عليها، كآبار الحجر غير بئر الناقة، وماء ديار قوم لوط، وأرض بابل، وبئر برهوت، وبئر ذروان التي سحر فيها صلى الله عليه وسلم، وترابها كمائها.

فصل: في الماء المستعمل

زاد في "الفتح": (وادي محسر). وفي "التحفة": (يكره الطهر بفضل ما تطهرت منه المرأة؛ للخلاف فيه، قيل: وللنهي عنه، وعن التطهير من إناء نحاس) اهـ ومن المكروه أيضاً: ما في صحة الطهر به خلاف كالراكد، كما يأتي. * * * (فصل: لا تصح الطهارة) الواجبة، ولا المندوبة (بالماء المستعمل) وهو ما أزيل به مانع من خبث ولو معفواً عنه، أو من حدث بمعنى الأمر الاعتباري والمنع -كطهر سليم- أو بمعنى المنع فقط، كطهر سلس. وسواء ارتفع رفعاً عاماً -كما هو الغالب- أم خاصاً -كطهر غير مميز للطواف- فلا يباح به غيره، وكطهر كتابية من نحو حيض، ومجنونة وممتنعة غُسِّلا منه، فلا يحل به غير وطئهن. ودخل في (ما أزال مانعاً) ما تطهر به حنفي بلا نية؛ لأنه أزال مانعاً في اعتقاده، وإنما لم نصحح الاقتداء به؛ احتياطاً في البابين. وإنما يؤثر الاستعمال في الماء (القليل) المنفصل بخلاف الكثير وهو القلتان، بل لو جمع المستعمل فبلغ قلتين .. عاد طهوراً، وبخلاف المتصل، فلا يحكم عليه بالاستعمال بالنسبة لما استعمل فيه حتى ينفصل عنه ولو حكماً، كأن جاوز ماء يده منكبه، أو ماء رجله ركبته، أو تقاذف من رأس الجنب إلى ساقه. نعم؛ لا يضر الانفصال فيما يغلب فيه التقاذف، كانفصاله من رأس الجنب الى صدره، ومن الكف إلى الساعد، وكالانفصال على نحو سوار بساعد اليد ورجع إليها. ومر أول باب الطهارة: أنها لا تصح إلا بالمطلق. فلا يصح بالمستعمل تطهير (في رفع حدث، ولا) في (إزالة نجس) بمعناهما وعمومهما المارين آنفاً، ولا في غيرهما من بقية الطهارات الواجبة والمندوبة.

(فإذا أدخل) الجنب جزءاً من بدنه باقياً على جنابته بعد نية الغسل، أو (المتوضىء) جزءاً محدثاً من يده اليمنى أو اليسرى (يده في الماء القليل بعد غسل وجهه) ثلاثاً، إن لم يرد الاقتصار على دونها، أو بعدما أراد الاقتصار عليه منها (غير ناو الاغتراف) بأن أدخلها بقصد غسلها في الإناء، أو مع الإطلاق ( .. صار الماء مستعملاً)؛ لانتقال المنع إليه. ومع ذلك له أن يحركها ثلاثاً، فيحصل سنة التثليث إن تم غسلها، وله إن لم يتم أن يغسل به بقيتها، والجنب بقية بدنه، ثم يحركها، فيحصل له التثليث؛ لأن الماء ما دام متردداً على العضو له حكم المطهر. ولو انغمس في ماء قليل ونوى -ولو قبل تمام انغماسه- رفع الجنابة .. ارتفعت، وله -إن أحدث وهو في الماء- أن يرفع به الحدث المتجدد بالانغماس، لا بالاعتراف. وكذا لو انغمس محدث في ماء قليل، ثم نوى .. فيرتفع حدث جميع اعضائه، وله -قبل انفصاله- أن يرفع به حدثاً يطرأ. ولو كان ببدن خبث بمحلين، فمر الماء بأعلاهما، ثم بأسفلهما مع الاتصال، أو مع الانفصال لما يغلب فيه التقاذف .. طهرا جميعاً، كما لو نزل من بدن جنب الى محل منه عليه خبث فأزاله بلا تغير، أما لو كان الخبث ببدنين .. فلا بد من غسل كل منهما وحده. وأفتى (حج) في أعيان متنجسة وضعت في إناء متنجس: (أن الجميع يطهر بغمر الماء لها) فليتأمل. أما إذا أدخل يده في الإناء؛ لإخراج نحو عود، أو للاعتراف منه، أو لغيرهما .. فلا يصير مستعملاً؛ لأن هذا هو نية الاغتراف. واحترز بقوله: (يده) عما لو أدخل يديه معاً، فيحتاج لنية الاغتراف، وكذا لو تلقى بهما من نحو ميزاب، لكن أفتى (م ر): (بأن اليدين كالعضو الواحد). (والمستعمل في) طهر (مسنون، كالغسلة الثانية والثالثة) والوضوء والغسل المندوبين (تصح الطهارة به) وإن نذر؛ لأنه لم ينتقل إليه مانع. * * *

فصل: في الماء النجس ونحوه

(فصل: ينجس) أي: يتنجس (الماء القليل) حيث لم يكن وارداً، وإلا .. ففيه تفصيل يأتي. (وغيره من) الرطب، و (المائعات) وإن كثرت، أو كانت واردة على خلاف يأتي، وكالمائع متغير بما عنه غنى وإن كثر (بملاقاة النجاسة) غير المعفو عنها يقيناً وإن لم تغيره؛ لمفهوم خبر: "إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل خبثاً"؛ إذ مفهومه: أن ما دونهما يحمله، أي: يتأثر به. وفارق كثير المائع كثير الماء بأن حفظ كثير المائع لا يشق، وبأن الماء قوي. وخرج بـ (الملاقاة) تغيره بجيفة بقربه، وبـ (غير المعفو عنها) المعفو عنها، وبـ (يقيناً) الشك في ملاقاة النجس له، كأن رأى كلاباً حول ماء قليل وإن كثرت، وأدخلت رؤوسها في إنائه، وخرج الفم رطباً، ولم يعلم مماسته له، فلا ينجس في جميع ذلك. (ويستثنى مسائل) لا ينجس فيها الماء والمائع والرطب بملاقاة النجس. منها: (ما) أي: نجس (لا يدركه الطرف) أي: البصر المعتدل وإن كان بمواضع متفرقة، وكان بحيث لو جمع .. لرؤي، وكان قليلاً ولو من مغلط، وبفعله عند (م ر). (و) منها: (ميتة لا دم لها) أي: لجنسها (سائل) عند شق عضو منها في حياتها وإن تغذت بالدم كالحلم الكبار، وتفتتت فيما وقعت فيه واختلط بغيره. ويلحق شاذ الجنس بغالبه، وما شك في سيلان دمه .. له حكم ما لم يسل، ولا يجرح عند (حج)؛ لأنه تعذيب، وذلك كزنبور وعقرب ووزغ بأنواعه وبق، وغيرهما من كل ما يساوي الوزغ أو أصغر منه؛ للأمر بغمس الذباب المفضي لموته كثيراً، فلو نجس .. لما أمر به. وقيس به كل ما لا يسيل دمه في العفو لا الغمس. (إلا إن غيرت) ما وقعت فيه ولو قليلاً وإن زال عند (م ر) (أو طرحت) ميتة، وان نشأت مما طرحت فيه عند (م ر) .. فلا عفو. نعم؛ لا يضر الطرح لحاجة، كأن طرح لحم عليه دم، أو دود ميت في قدر الطبخ؛ إذ لا يُكلف تنقيته.

ولا يضر طرح ريح وبهيمة، وكذا غير مميز عند الخطيب، زاد في "شرح التنبيه": (أنه لا يضر طرحها بلا قصد)، بل لا يضر الطرح مطلقاً عند البلقيني، بل الميتة المذكورة طاهرة عند جمع. أما لو طرحت حية .. فلا يضر وإن ماتت في الهواء. ومنها: ما شك في بقاء نجاسته .. فإنه نجس؛ عملاً بالأصل، ولا ينجس ملاقيه؛ لأنا تيقنا طهارة ملاقيه، وشككنا في بقاء نجاسته. ويقين الطهارة لا يرفعه إلا يقين النجاسة (و) ذلك: كـ (فم هرة تنجس ثم غابت، واحتمل) عادة (ولوغها في ماء) طهور جار ولو قليلاً، أو راكد (كثير)؛ لأن الماء وإن لعقته بلسانها وارد (وكذلك الصبي) وغيره من الحيوان الطاهر وإن لم يعم اختلاطه بالناس كسبع (إذا تنجس ثم غاب، واحتمل طهارته) فإذا عاد ولاقى رطباً .. لا ينجسه. قال في "التحفة": (يؤخذ منه: أنه لو أصابه رشاش من أحد المشتبهين .. لم ينجسه للشك) قال (ب ج): (وإن ظهر بالاجتهاد أنه النجس). (و) منها: (القليل من دخان النجاسة) فيعفى عنه في المائع وغيره، وقيده في "الامداد": (بأن لا يكون من مغلظ، ولا حصل بفعله). وفي نجاسة دخان المتنجس خلاف. وتعرف قلته بالأثر الذي ينشأ عنه في نحو الثوب، ومثله بخار النجاسة إن تصاعد بالنار، وإلا .. فطاهر كبخار الكنيف، والريح من الشخص وإن لاقى رطوبة. (و) منها: (اليسير من الشعر) أو الريش (النجس) لغير الراكب، والكثير منه للراكب ونحوه. (و) منها: (اليسير من غبار السرجين) أو ما هو بمقدار الذر من السرجين وإن لم يكن غباراً.

فصل: في الماء الكثير

(ولا ينجَّس غبار السرجين) أو ما هو بمقدار الذر منه (أعضاءه) وثيابه (الرطبة) ولا ما وقع فيه؛ لمشقة الاحتراز عن جميع ذلك. ويعفى أيضاً عن منفذ غير آدمي إذا وقع في مائع، بل قال جمع: المنفذ ليس قيداً، بل مثله ما على نحو رجله وفمه، وعما يحمله نحو الذباب، وعن ونيمه وإن رؤي، وعن بعر محلوب ورجله المتنجسة إذا وقعا في اللبن حال حلبه، وعما يبقى على نحو الكرش بعد المبالغة في تنقيتها، وعما على اللحم من الدم إذا طرح في ماء طبخه وإن غيره كثيراً، وعن فم صبي ومجنون حيث لا عين للنجاسة، وكذا إن بقيت قليلاً إذا التقم أخلاف أمه، وعن جرة ما يجتر، وآنية الخزف المعمولة بالنجاسة، وعن دود الفاكهة والخل واللحم الميت فيه، وعن بعر فأرة عمَّ الابتلاء به، وعن ضرع تلوث بنجس من بولها أو مبركها، وعما يلصق ببدنها وأصاب اللبن حال الحلب، وعن روث ما نشؤه من الماء، وعن ذرق طير وما بفمه أو رجله إذا نزل في الماء، وعما تلقيه بقر الدياسة، وما يماسه العسل من الكوارة من الروث، وعن رماد نجس أصاب ما وضع في ناره؛ للتسخين، أو لنحو شي، وغير ذلك، ولا حصر لذلك. بل الضابط: أن ما يشق الاحتراز عنه غالباً .. يعفى عنه -ولو غير منصوص عليه- بثلاثة شروط: أن لا يكون من مغلظ، ولا بفعله، وأن لا يغير غالباً. ومن غير الغالب قد يعفى عن المغلظ كما لا يدركه الطرف -كما مر- وعما غير وحصل بفعله، كما مر في الدم على اللحم إذا وضع في ماء طبخه. وبقي من المعفوات أمور تذكر في شروط الصلاة، لكن ما هناك نجسٌ وينجس، ويعفى عنه في نحو الصلاة في ثوب وبدن ومكان، وما هنا نجس لا ينجّس المائعات وإن كان لا تجوز معه نحو الصلاة. * * * (فصل: وإذا كان الماء قلتين) ولو احتمالاً، وإن تيقنت قلته قبل، بأن جمع شيئاً

فشيئاً فبلغ قلتين لا ببول أو مائع، بل من خالص الماء ولو متنجساً أو مستعملاً أو متغيراً ( .. فلا ينجس بوقوع النجاسة فيه)؛ لخبر القلتين المتقدم (إلا إن تغير) من تلك النجاسة الواقعة فيه يقيناً (طعمه، أو لونه، أو ريحه، ولو تغيراً يسيراً) ولو بمعفو عنه، ولو بمجاور أو مخالط لم يستغن الماء عنه؛ لغلظ النجاسة. ولذا يفرض النجس المتصل به الموافق له في الصفات، كبول منقطع الرائحة، بأشدها، كلون حبر وريح مسك وطعم خل، فإن غير بأي صفة منها .. ضر، وإلا .. فلا. ولو خالط النجس ماء ثم وقع في ماء .. قدر النجس فقط، أو خالط مائعاً .. فرضنا الكل عند (حج)؛ لأنه كله لا يمكن طهره، أما إذا بلغهما بنجس أو مائع .. فنجس وإن استهلك فيه، وإنما جعل للمستهلك كالماء في إباحة التطهير به لا في دفعه الاستعمال والتنجيس عن نفسه، إذا كثر به؛ لغلظ النجاسة، ولأن الأول من باب الرفع، والثاني من باب الدفع، وهو أقوى غالباً من الرفع؛ إذ الماء القليل يرفع الحدث والخبث، ولا يدفع الاستعمال والتنجيس عن نفسه. وخرج بـ (وقوعها فيه) تغيره برائحةِ نحو جيفة بقربه، وما لو وجد به وصف لا يكون إلا لنجس من غير أن يعلم وقوع نجس فيه .. فلا ينجس. (فإن زال) يقيناً (تغيره) الحسي أو التقديري (بنفسه) لنحو مكث، أو هبوب ريح (أو بماء) ولو نجساً أو مستعملاً ( .. طهر)؛ لزوال علة التنجيس، وهو التغيير وإن قل بعد، أو عاد تغييره، وقد خلا عن نجس جامد، ولم يقل أهل الخبرة: إنه من تلك النجاسة، وإلا .. فنجس، كما في "ب ج" عن "الايعاب". (أو) زال (بمسك أو كدورة تراب) ونحوهما ( .. فلا) يطهر؛ للشك في أن النجاسة زالت أو استترت. نعم؛ لا ينجس ما أصابه للشك، ولو زال تغير المسك ولا تغير به من النجاسة .. طهر، ولو وقع نجس في ماء متغير بما لا يضر .. قدر زوال تغيره وفرض النجس، ولو تغير بعض الماء الكثير بنجس .. فالمتغير نجس، وكذا غير المتغير إن لم يبلغ قلتين، وإلا .. فطاهر. وأعلم: أنه يعتبر في عدم تأثر الماء بالنجس قوة الترادِّ بأن يكون في محل واحد مطلقاً، أو في محال بينها اتصال، بحيث لو حرك محل منها تحريكاً عنيفاً .. تحرك

ما بجنبه ولو تحركاً غير عنيف، فلو لم يتحرك وفي أحدهما نجس وكل دون القلتين .. تنجس الكل. (و) الماء (الجاري) وهو: ما اندفع في منخفض أو مستو، وإلا .. فهو راكد (كالراكد) في جميع أحكامه السابقة، لكن العبرة في الراكد بمجموع الماء، وفي الجاري بالجرية نفسها؛ إذ الجريات وإن تواصلت حساً .. فهي متفاصلة حكماً؛ إذ كل جرية طالبة لما أمامها، هاربة مما وراءها، فإن كانت الجرية قلتين بأن بلغهما أبعادها الثلاثة .. فلا تنجس بوقوع النجاسة فيها إلا بالتغير، وإلا .. فبالملاقاة، فلو وقع فيه نجس وجرى بجريه .. فموضع الجرية الأولى نجس به إن قل، وللآتية بعدها حكم غسالة النجاسة وإن لم يجر بجريه، فكل جرية تمر عليه وهي دون القلتين نجسة وإن امتد النهر فراسخ حتى يجتمع منه قلتان بمحل. وبه يلغز بأن لنا ماء بلغ آلافاً من القلال، وهو نجس من غير تغير. (والقلتان: خمس مئة رطل بالبغدادي تقريباً) لا تحديداً (فلا يضر نقصان رطلين) فأقل (ويضر نقصان أكثر) منهما كما في "الروضة"، وفي "التحقيق": (لا يضر نقص لا يظهر بنقصه تفاوت في التغيير) قال بعضهم: (وقد اختبر فوجد رطلين). و (قدرهما بالمساحة) بكسر الميم؛ أي: الذرع (في المربع ذراع وربع) بذراع اليد المعتدلة (طولاً وعرضاً وعمقاً)؛ إذ كل من الطول والعرض والعمق خمسة أرباع ذراع، فاضرب خمسة الطول في خمسة العرض .. يكون الحاصل خمسة وعشرين، اضربها في خمسة العمق .. يكون الحاصل مئة وخمسة وعشرين، وكل ربع يسع أربعة، فتضرب في المئة والخمسة والعشرين تبلغ خمس مئة. (وفي المدور كالبئر: ذراعان عمقاً) بذراع النجار -بالنون- وقيل: بالتاء، وهو: ذراع وربع بيد معتدلة، (وذراع) يد (عرضاً) وهو ما بين حائطي البئر من سائر الجوانب. (وتحرم الطهارة) وغيرها من الاستعمالات إلا الشرب (بالماء المسبل للشرب)

فصل: في الاجتهاد

ويجب التيمم بحضرته، وتصح منه مع الحرمة؛ لأنها لأمر خارج. ومثله ما جهل حاله، سواء دلت قرينة على أنه مسبل للشرب، كالخوابي الموضوعة بالطرق، أم لا كالصهاريج، ويحرم حمل شيء منه إلى غير محله إلا لضرورة، كأن توقع المار بها عطشاً، فيجوز أن يحمل منه قدر حاجته، فإن استغنى عن شيء منه .. وجب رده. * * * (فصل) في الاجتهاد وهو كالتحري: بذل المجهود في تحصيل المقصود: (إذا اشتبه) ولو بقول ثقة (عليه) أي: على أهل للعبادة ولو صبياً مميزاً بالنسبة للعبادة، أما بالنسبة للملك .. فيشترط التكليف (طاهر) أي: طهور من ماء أو تراب أو غيرهما (بمتنجس) أو مستعمل ( .. اجتهد) وإن قل الطهور وجوباً مضيقاً إن ضاق الوقت ولم يجد غير المشتبهين، ولم يبلغا بالخلط قلتين، ولم يفعل الكيفية الآتية التي قيل بوجوبها وجوازاً فيما عدا ذلك. (وتطهر بما ظن طهارته) بالاجتهاد بعلامة تدل على ذلك، كاضطراب وتغير وأثر نحو كلب، وله أيضاً استعماله في نحو شرب، فلو هجم وتطهر بأحد المشتبهين .. لم يصح؛ لأن مبنى العبادة على نفس الأمر، والاستناد إلى أصل أو ظن المكلف ولا ظن له، وأما أصل طهارته .. فأعرضوا عنه في هذا الباب. ولجواز الاجتهاد شروط: أحدهما: أن يكون لكل من المشتبهين أصل في التطهير -أي: عدم استحالته عن خلقته الأصلية، كالمتنجس بلا تغير، والمستعمل- أو في الحل. فلو اشتبه ماءٌ ببول .. لم يجتهد فيهما؛ إذ لا أصل في البول في تطهير ولا حل، بل يتلف أحدهما ويتيمم، أو ما بنحو ماء ورد .. اجتهد لنحو الشرب لا للطهر؛ إذ لا أصل لماء الورد فيه، وإذا اجتهد لنحو شرب .. جاز له التطهير بما ظنه الماء عند (م ر)؛ إذ يغتفر في الشيء تبعاً ما لا يغتفر فيه مقصوداً. وله أن يتطهر بكل من الماء، وماء الورد مرة، ويغتفر التردد في النية؛ للضرورة. ولا يجوز في الماء الطهور والمستعمل؛ إذ لا ضرورة مع إمكان الاجتهاد، والأفضل

أن يضع بعضاً من أحد المشتبهين من الطهور والمستعمل أو ماء الورد في أحد كفيه، وبعضاً من الآخر في الكف الأخرى، ويغسل بهما وجهه من غير خلط، وينوي -ثم يعكس، ثم يتمم- وضوءه بأحدهما، ثم بالآخر، ويتأتى له حينئذ الجزم بالنية، وقيل: تجب هذه الكيفية؛ لأن طهره حينئذٍ بطهور يقيناً مع جزمه بالنية، وقال في "التحفة": (وهو وجية معنى، وظاهر كلامهم ندبه) اهـ نعم؛ لو اجتهد وتحير ولم يجد غيرهما .. تعينت هذه الكيفية. الثاني: أن يكون للعلامة فيه مجال، كاضطراب أحد المشتبهين أو نقصه، بخلاف ما لا مجال لها فيه، كأن اختلطت مَحْرَمُه بنسوة أجنبيات، فلا اجتهاد. ثالثها: تعدد المشتبه ابتداءً ودواماً، فلا اجتهاد في واحد ابتداءً أو انتهاءً، كأن تلف أحد المشتبهين، فلا يجتهد في الباقي، وكذا لو تنجس أحد كميه -مثلاً- والتبس بالآخر ما لم يفصل أحدهما، ولو اشتبه نجس في أرض واسعة .. صلى فيها إلى أن يبقى قدره أو ضيقة غسل جميعها. الرابع: العلم بنجاسة أحد المشتبهين ولو بخبر عدل. الخامس: الحصر، فلو اشتبه إناء بول -مثلاً- بأوان طاهرة غير محصورة .. فلا اجتهاد، بل يأخذ منها إلى أن يبقى واحد، كما في "الإمداد" و"الفتح" هنا، وكذا في "التحفة" و"النهاية" في النكاح، وقال (ب ج): (وهذا شرط لوجوب الاجتهاد؛ لأنه يجوز حينئذٍ). السادس: اتساع الوقت للاجتهاد والطهارة والصلاة في الوقت، فلو ضاق الوقت عن ذلك .. تيمم عند (حج)، وأعاد. ويشترط للعمل بالاجتهاد: ظهور العلامة (ولو) لـ (أعمى)؛ لأنه لم يفقد من الحواس الظاهرة إلا البصر، ويمكن إدراك العلامة بغيره كشم وذوق وحس، وإنما امتنع اجتهاده في القبلة؛ لأن أدلتها بصرية غالباً، فإن لم تظهر له .. قلد عارفاً ولو أعمى، فإن لم يجده أو اختلف مقلدوه .. تيمم -كبصير تحير بعد إتلاف الماءين أو أحدهما- ولا قضاء. وتجب إعادة الاجتهاد لكل طهر ولو مجدداً وإن لم يكفه؛ لوجوب استعمال الناقص.

فصل: في الأواني

وقال (م ر): (تجب إعادته لكل صلاة يريد فعلها إن بقي مما استعمله شيء أي إن أحدث أو تغير اجتهاده. نعم إن كان ذاكراً لدليله الأول .. لم يعده، بخلاف الثوب المظنون طهارته بالاجتهاد، فبقاؤه بحاله بمنزلة بقاء الشخص متطهراً، فيصلي به ما شاء إن لم يتغير ظنه) اهـ وإذا اجتهد، فإن وافق اجتهاده الثاني للأول .. فذاك، وإلا .. أتلفهما أو أحدهما، وتيمم وصلى، ولا إعادة عليه، ولا يعمل بالثاني؛ لئلا يلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد إن غسل ما أصابه من الأول، أو يصلي بيقين النجاسة إن لم يغسله، لكن اعتمد (م ر): أن له حينئذ أن يعمل بالثاني إن غسل ما أصابه من الأول، وكذا لو كان المشتبهان مستعملاً وطهوراً؛ لعدم المحذور. تنبيه: ما أصله الطهارة، وغلب على الظن تنجسه؛ لغلبة النجاسة في مثله .. فيه قولان: الأصل والظاهر، والأرجح الطهارة، لكن يكره استعمال ما قوي احتمال تنجسه، وهذا إن لم يعضد الظاهر رؤية النجس، كأن بالت ظبية في ماء ثم وجد متغيراً، فنحكم بنجاسته؛ عملاً بالظاهر من أن تغيره من بولها وإن احتمل كونه من غيره. (ولو أخبره بتنجسه) أي: الماء أو غيره، أو باستعماله (ثقة) ولو عبداً أو امرأة، ولو عن عدلٍ آخر (وبين السبب) لتنجسه، أو استعماله (أو) أطلق، و (كان فقيهاً) بأحكام الطهارة (موافقاً) له في المذهب، قال في "التحفة": (أو عارفاً بمذهب المخبر -بفتح الباء- وإن لم يعتقده؛ إذ الظاهر أنه إنما يخبره باعتقاده لا باعتقاد نفسه) ( .. اعتمده) وجوباً. وخرج بـ (الثقة): الصبي والمجنون والفاسق، فلا يقبل خبرهم إلا إن بلغ غير المجانين عدد التواتر، أو أخبر عن فعل نفسه، كقوله: بلْتُ فيه، أو وقع في القلب صدقه .. فيجب حينئذٍ قبول خبرهم، ولو واحداً. * * * (فصل: ويحرم) على المكلف ولو أنثى (استعمال أواني الذهب والفضة) في طهارة وغيرها لنفسه وغيره ولو صغيرة، أو على وجه غير مألوف، كأن كبه واستعمل أسفله فيما

لا يصلح له؛ لخبر الشيخين: "لا تشربوا في أواني الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها"، وقيس به سائر وجوه الاستعمالات، كالاحتواء على مجمرة من أحدهما، أو شم رائحة منها من قرب، بحيث يعد عرفاً متطيباً بها. والحيلة في حل استعمال ما في إنائهما: أن يصب مما فيه إلى نحو يده بقصد الإخراج منه، ثم يستعمله. نعم؛ هي لا تمنع حرمة الوضع فيه، ولا اتخاذه. ويحرم تزيين البيوت حتى الكعبة والمساجد والقبور بالذهب والفضة (إلا) في حال استعمالها؛ (للضرورة) بأن لم يجد غيرهما ولو بأجرة مع اضطراره إلى استعمالهما لشرب مثلا. (و) يحرم أيضاً (اتخاذها) أي اقتناؤها من غير استعمال؛ لأنه يجر إليه غالباً (ولو) كان المستعمل أو المتخذ (إناء صغيراً) جداً، وإن ساوى الضبة المباحة، (كمكحلة) ومرود لغير حاجة الجلاء، وخلال وإبرة، وإن لم تسم آنية عرفاً على الإطلاق؛ لعموم النهي عن الإناء. وتحل حلقة الإناء وسلسلته ورأسه من فضة؛ لانفصالها عنه مع أنها لا تستعمل، ولا تسمى إناءً. قال في "الأسنى": (قال الرافعي: ولك رده بأنه مستعمل بحسبه)، وفي "التحفة": (محل تجويزهم اتخاذ رأس للإناء من النقد إن لم يسم إناء بأن كان صفيحة، ومع ذلك: يحرم وضع شيء عليها لنحو الأكل منها؛ لأنها حينئذ إناء بالنسبة إليه). (و) يحرم استعمال، واتخاذ (ما ضبب بالذهب) أو طليت ضبته به إن حصل منه شيء بالعرض على النار وإن صغرت؛ لشدة الخيلاء فيه. (ولا يحرم ما ضبب بالفضة) ضبة صغيرة أو كبيرة لحاجة أو لا (إلا ضبة كبيرة للزينة) وحدها، أو مع الحاجة .. فتحرم؛ لما فيها من السرف والخيلاء، بخلاف الكبيرة لحاجة فقط وإن عمت الإناء عند (م ر)، والصغيرة لزينة ولو مع الحاجة .. فيحلان مع الكراهة وإن لمعت من بعد وكانت بموضع الاستعمال؛ لانتفاء الخيلاء في الثانية، والإسراف في الأولى، بخلاف الصغيرة لحاجة فقط .. فمباحة؛ لانتفاء الأمرين. قال (ح ل): (لو تعددت الصغيرة وكان الجميع بقدر الكبيرة .. حرم) وتردد فيه في

فصل: في خصال الفطرة

"الامداد"، وأفتى بعض فقهاء اليمن بحرمة ما جرت به عادة كثير من تعميم بيوت -نحو الجنابي- بالفضة، ويؤيده قولهم: (إن التحلية جعل عين النقد في محال مفرقة مع الإحكام حتى تصير كالجزء منها، وليس هذا كذلك). وضابط الصغر والكبر: العرف. ولو شك في كبرها، أو في أن الكبيرة لزينة، أو لحاجة .. فالأصل في الإناء الإباحة، فتستصحب وإن كان الأصل في النقد التحريم. والمراد بـ (الحاجة): الغرض المتعلق بالتضبيب غير الزينة، كإصلاح كسر وتقوية، وليس منها تحلية رأس المرش بلا كسر. (ويحل) استعمال واتخاذ (المموه بهما) أي: الذهب والفضة مطلقاً، إن لم يحصل منه شيء يقيناً بالعرض على النار؛ لقلة المموه به حينئذٍ، فكأنه عدم، فإن حصل .. حرما في غير حلي امرأة، وحرم في حليها فعله لا استعماله. ولو شك أيحصل منه شيء بالنار أم لا؟ حرم، ولا يشكل بما مر في الضبة؛ لأنه أضيق منها، بدليل حرمة فعله مطلقاً، وإن جاز استعماله بعد في حلي النساء، قال الشوبري: (ويحتمل الحل). أما إناء أحد النقدين إذا غشي بشيء بحيث يستره .. فيحل وإن لم يحصل منه شيء بالنار عند (حج)، قال: (لأن علة التحريم العين مع الخيلاء، وهما موجودان في المموه بهما إن حصل منهما شيء بالعرض على النار، بخلاف المموه منهما بنحو نحاس، فالموجود العين دون الخيلاء). وخرج بـ (إنائهما): إناء غيرهما من سائر الأواني الطاهرة ولو نفيسة، فتحل استعمالاً واتخاذاً؛ لأن الفقراء يجهلونها، فلا تنكسر قولبهم برؤيتها، لكن مع الكراهة في النفيسة ذاتاً كياقوت، أما النجسة .. فيحرم استعمالها مع الرطوبة إلا في ماء كثير. * * * (فصل:) في الخصال التي تطلب في خلقة الآدمي (يسن) استعمال (السواك في كل حال) من غير إفراط؛ للأحاديث الكثيرة الشهيرة فيه.

(ويتأكد للوضوء) والغسل والتيمم. (و) عند إرادة (الصلاة لكل إحرام) بفرض أو نفل أو سجدة تلاوة أو شكر، ولو لفاقد الطهورين وإن لم يتغير فمه، واستاك عن قرب قبله؛ لحديث: "ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بغير سواك" وليس أفضل من الجماعة في الصلاة؛ لأن كلاً من درجاتها الخمس والعشرين تعدل كثيراً من درجاته السبعين، ولو تذكر أنه تركه وهو في الصلاة .. تداركه بفعل قليل أو كثير غير متوال. (و) عند (إرادة قراءة القرآن، والحديث، والذكر) والعلم الشرعي وآلته، والأفضل كونه قبل الاستعاذة. (و) عند (اصفرار الأسنان) أي: تغيرها وإن لم يتغير فمه. (و) عند (دخول البيت) أي: المنزل ولو غير بيت، ولو لغيره .. قال الشارح: (ويصح أن يراد به: الكعبة) لكن تعقبه الكردي: (بأنهم أطبقوا على أنه المنزل، ويدل عليه الحديث). (و) عند (القيام من النوم)؛ لأنه يغير الفم. (و) عند (إرادة النوم)؛ ليخفف التغير الناشىء منه. (و) يتأكد أيضاً (لكل حال يتغير فيه الفم) ريحاً أو لوناً أو طعماً، وعند كل طواف وخطبة وأكل، وبعد الوتر، وفي السحر، وللصائم قبل الزوال، وعند الاحتضار. ويسن التخليل للأسنان قبل السواك وبعده، ومن أثر الطعام، وهو أمان من تسويسها. ويسن كونه من عود السواك، وباليمنى كالسواك. ويكره بعود القصب والآس، ويكره أكل ما خرج من بين الأسنان إن خرج بنحو عود. ويندب لمن يصحب الناس التنظيف بالسواك ونحوه، والتطيب وحسن الأدب. (ويكره) الاستياك (للصائم) والممسك (بعد الزوال) وإن احتاج إليه لإزالة تغير فمه من غير الصوم كنوم عند (حج)؛ لأنه يزيل الخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح

المسك، ولو لم يتعاط مفطراً يتولد منه تغير قطعاً .. كره له السواك من الفجر؛ لأنه يزيل الخلوف الناشئ من الصوم السابق، وحيث كان في ضمن عبادة كالوضوء لم يحتج لنية؛ لشمول نيتها له، وإلا .. توقف حصول السنة به على أن ينوي به السنة، أو لنحو الصلاة. وأما آلته .. فقد أشار إليها بقوله: (ويحصل بكل خشن) طاهر ولو نحو أشنان، وكذا نجس عند (حج)؛ إذ الحرمة لأمر خارج، بخلافه بنحو ماء الغاسول وإن نقى الأسنان وأزال القلح؛ لأنه لا يسمى سواكاً (إلا إصبعه) المتصلة به؛ لأنها لا تسمى سواكاً، لكونها جزءاً منه، قال في "الإمداد": (وفيه ما فيه) ويجزئ بأصبع غيره المتصلة وكذا المنفصلة، وبأصبعه المنفصلة عند (حج)، إن خشنت في الجميع وإن وجب دفنها فوراً لموت صاحبها. وهل تكره إزالة الخلوف بما لا يسمى سواكاً؟ قال في "التحفة": (الأقرب للمدرك نعم، ولكلامهم لا). (والأراك أولى) من غيره، وأغصانه أولى من عروقه (ثم النخل) ثم الزيتون، ثم ذو الريح الطيب، ثم العود الذي لا رائحة له، وفي معناه الخرقة. (ويستحب أن يستاك بيابس ندي بالماء)؛ لأن في الماء من التنظيف ما ليس في غيره، والمندى بغير الماء أولى من الرطب. (و) أن يستاك (عرضاً) أي: في عرض الأسنان ظاهرها وباطنها؛ لخبر: "إذا استكتم .. فاستاكوا عرضاً"، ويكره طولاً؛ لأنه قد يدمى اللثة، ومع الكراهة يحصل أصل السنة؛ لأنها لأمر خارج (إلا في اللسان) .. فيندب طولاً؛ لخبر فيه، ويندب كونه باليد اليمنى إن كانت اليد لا تباشر القذر، وأن يبدأ بجانب فمه الأيمن ويذهب به إلى الوسط، ثم بالأيسر ويذهب به إليه أيضاً، وأن يعوده الصبي؛ ليألفه، ويجعل خنصره وإبهامه تحته، وبقية الأصابع فوقه، ويبلع ريقه أول استياكه بسواك جديد؛ لأنه أمان من كل داء، ولا يمصه، ويجعله خلف أذنه، ولا يعرضه إذا طرحه بل ينصبه، ولا يزيد طوله على شبر، ولا يستاك بطرفيه، وحرم بسواك الغير، إلا إن ظن رضاه .. فخلاف الأولى إلا لتبرك، وبضار كبذي سم، وقد يجب كأن توقفت إزالة النجاسة عليه، أو ريح كريه في يوم جمعة.

وفوائده كثيرة أنهاها بعضهم إلى نيف وسبعين، أعظمها رضا الله، وتذكير الشهادة عند الموت. (و) يستحب (أن يدهن غباً) أي: وقتاً بعد وقت، أي: عند الحاجة. (و) أن (يكتحل) وأن يكون بالإثمد و (وتراً) ثلاثة في اليمنى وثلاثة في اليسرى. (و) أن (يقص الشارب) حتى تبين حمرة الشفة بياناً ظاهراً، ولا يزيد على ذلك. (و) أن (يقلم الظفر) والأفضل يوم الخميس أو الإثنين أو بكرة الجمعة. وأن يبدأ بسبابة اليمنى فالوسطى فالبنصر فالخنصر فالإبهام، ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، وفي الرجلين من خنصر اليمنى إلى خنصر اليسرى. (و) أن (ينتف الإبط) إن قدر، وإلا .. فليحلقه، ويحصل أصل السنة بحلقه وإن قدر على نتفه. (و) أن (يزيل شعر العانة) والأفضل للذكر حلقه، ولغيره نتفه. ويكره تأخير الدهن وما بعده إلى هنا عن وقت الحاجة، وعن أربعين يوماً أشد كراهة. وأن يفرق شعر رأسه، ويرجله (ويسرح اللحية، ويخضب الشيب بحمرة أو صفرة)؛ للاتباع، ويحرم بالسواد ولو لامرأة، على خلاف فيها. (و) أن تخصب (المزوجة يديها، ورجليها بالحناء) إن كان حليلها يحبه، وأن تبدأ في كل ذلك باليمنى، أما غيرها .. فلا يسن لها ذلك، بل يحرم عليها الخضب بسواد، وتطريف الأصابع وتحمير الوجنة والنقش إن كانت غير مفترشة، أو لم يأذن لها حليلها، وكذا يحرم عليها وصل شعرها بنجس أو شعر آدمي مطلقاً، وبطاهر إن لم تكن فراشاً، أو لم يأذن لها، والوشر وهو: تحديد أطراف الأسنان وتفريقها، كالوصل بطاهر غير شعر آدمي. (ويكره القزع) وهو حلق بعض الرأس من موضع واحد، أو متفرق. والكراهة في الصغير على وليه، ولا بأس بحلقه لمن لم يَخِفَّ تعهده عليه ولا يسن إلا في نسك لذكر،

فصل: في فرائض الوضوء

ولمن خشي من تركه مشقة، وفي المولود، والكافر إذا أسلم، ولا بتركه لمن يخف تعهده عليه. (ونتف الشيب)؛ لأنه نور، بل قال في "المجموع": (ولو قيل بتحريمه .. لم يبعد) ونص عليه في "الأم". (ونتف اللحية)؛ إيثار للمرودة، وتبيضها بالكبريت؛ استعجالاً للشيخوخة، وتصفيفها طاقة فوق طاقة؛ تحسيناً، والزيادة فيها والنقص منها؛ للأمر في الصحيحين بـ (توفير اللحى وتركها شعثة)؛ إظهاراً لقلة المبالاة، ولا بأس بترك السبالين. (و) يكره بلا عذر (المشي في نعل واحد)؛ لصحة النهي عنه؛ لأنه يختل به المشي، وكالنعل الخف ونحوه. (والانتعال) بما يخشى منه السقوط حال كونه (قائماً) أما المداس المعروفة الآن .. فلا يكره فيها الانتعال قائماً؛ لعدم خوف السقوط منها، ويسن خلعهما إذا جلس، ويجعلهما خلفه أو بجنبه الأيسر إن لم يكن يساره أو وراءه أحد، وإلا .. تعين بين رجليه أو تحته. * * * (فصل) في أول مقاصد الطهارة وهو الوضوء اسم مصدر توضأ، ومصدر إن أُخذ من وضؤ، وليس من خصوصيات هذه الأمة، بل الخاص بها الغرة والتحجيل فقط، أو مع الكيفية المخصوصة، والأفصح ضم واوه إن أريد به الفعل، وفتحها إن أريد به الماء الذي يتوضأ به. مأخوذ من الوضاءة وهي النضارة؛ لإزالته ظلمة الذنوب. وفرض مع الصلاة ليلة الإسراء، وهو معقول المعنى؛ لأن الصلاة مناجاة للرب، فطلب التنظيف لها، ولا يرد أن الرأس لا غسل فيه لأنه مستور غالباً، فخفف فيه. وموجبه -كالغسل-: الحدث، وإرادة فعل ما يتوقف عليه. والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع. (وفروض الوضوء) أي: مجموع أركانه ولو مندوباُ (ستة) أربعة ثابتة بالكتاب، واثنان بالسنة:

النية بحديث "إنما الأعمال بالنيات"، والترتيب بخبر "ابدأوا بما بدأ الله به" وهو وإن كان وارداً في السعي، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن العرب لا ترتكب تفريق المتجانس إلا لنكتة، وقد فرق في الآية بين المغسولات بالممسوح، فعلمنا أنه لنكتة الترتيب. (الأول) النية؛ لخبر: "إنما الأعمال -أي صحتها- بالنيات". وحقيقتها لغة: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقترناً بفعله إلا في صوم، ونحو زكاة .. فيغتفر تقديمها؛ للعسر، أما المتقدم على الفعل .. فعزم. وحكمها: الوجوب، ومحلها: القلب. والمقصود بها: تمييز العبادة من العادة، أو تمييز رتب العبادة ككون العبادة صلاة، وكونها فرضاً. وشرطها: إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنوي، وتحقق المقتضي وقدرته على المنوي، وعدم إتيانه بما ينافيها من ردة، ونية قطع، وتردد فيه، وتعليق. وكيفيتها تختلف بحسب الأبواب، فيجزىء السليم هنا (نية رفع الحدث) أي: المعهود ذهناً، وهو الذي عليه، وهو هنا: الأصغر، ويصح أن يراد به: الأمر الاعتباري، أو المنع، أو هما؛ بناءً على استعمال المشترك في معنييه، والمرتفع فيهما نفس الحدث المنوي منهما، وأن يراد به: السبب، فيقدر مضاف، أي: رفع حكمه، وهو المنع من الصلاة، فيرجع إلى الثاني. فإذا قال: نويت رفع الحدث وأطلق .. انصرف إلى حكمه وإن لم يلاحظ ذلك، فإن نوى رفع السبب نفسه .. لم يصح؛ لأن الواقع لا يرتفع. ولو نوى رفع بعض الأحداث، كأن نام وبال، فنوى رفع حدث النوم لا البول .. صح؛ لأن الحدث لا يتجزأ، إذا ارتفع بعضه .. ارتفع كله، كما لو نوى رفع غير حدثه، كأن بال فنوى رفع حدث النوم .. فيصح، وقيده (حج) بكونه غالطاً. ولو نوى أن يصلي به في محل نجس .. لم يصح؛ لعدم القدرة على المنوي. وتدخل السنن هنا -كالصلاة- تبعاً عند إتيانه بنحو هذه النية، أو فرض الطهارة. (أو الطهارة للصلاة) أو عن الحدث، أو أداء فرض الطهارة، أو أداء الطهارة، أو الطهارة الواجبة، (أو نحو ذلك) كنية فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، وكذا نية

الوضوء، لكنه خلاف الأولى؛ للخلاف فيه، وكنية استباحة مفتقر إلى وضوء كالصلاة ومس المصحف، لا استباحة ما يستحب له الوضوء كقراءة القرآن أو الحديث، فلا يصح؛ لأنه يستبيحه بلا وضوء. ويجب كون ما ذكر من النيات (عند غسل الوجه) فمتى اقترنت بجزء منه .. كفت، وفي اقترانها بما لا يتم الواجب إلا به خلاف، وما قارنها هو أوله، فيجب إعادة ما غسله قبلها. نعم؛ يكفي اقترانها بسنة قبل الوجه، كغسل اليدين إن استحضرها عن الوجه، لكن لو انغسل جزء من الوجه مع المضمضة كحمرة الشفة .. أجزأت النية وفاتت المضمضة والاستنشاق بغسل ذلك الجزء؛ إذ محلها قبل الوجه، ويجب إعادة غسل ذلك الجزء؛ للصارف، وفيه كلام مبسوط في غير هذا الكتاب. والمخلص من ذلك: أن ينوي عند غسل الكفين سنن الوضوء، وعند غسل الوجه فرض الوضوء أو غيره من النيات المجزئة كما مر ويجوز تفريق النية على الأعضاء، كأن ينوي عند كل عضو رفع حدثه، لكن لا ينوي في المندوب نحو رفع الحدث بل نحو الوضوء. (وينوي سَلِسِ البول ونحوه) ممن دام حدثه، بحيث لا يصلي صلاة بعد الطهارة بلا حدث، كمستحاضة في الوضوء للفرض (استباحة فرض) نحو (الصلاة) أو غيرها من النيات، دون نية رفع الحدث أو الطهارة عنه؛ لأن حدثه لا يرتفع، ويستبيح السلس به ما يستبيحه المتيمم، كما يأتي. وفي "الإيعاب" عن "المجموع": شرط نية استباحة الصلاة: قصد فعلها بتلك الطهارة، وإلا .. فهو متلاعب. (وإن توضأ للسنة .. نوى استباحة الصلاة) أو غيرها مما مر من غير ذكر فرض، ومجدد الوضوء لا ينوي الاستباحة ولا رفع الحدث، بل غيرهما، لكن كلام "التحفة" يفيد الصحة فيهما إلا أن ينوي الحقيقة كما في الصلاة المعادة، ولو نوى مع نية الوضوء تبرداً أو تنظفاً .. لم يضر، لكن لا ثواب فيه عند ابن عبد السلام. وقال الغزالي: (يثاب بقدر قصده إن غلب باعث الآخرة) وقال (حج): (بقدر

قصده مطلقاً) وكالوضوء سائر العبادات. ولو نوى تبرداً بعد نية الوضوء .. اشترط كونه ذاكراً لنية الوضوء، وإلا .. لم يصح الوضوء من حين نوى التبرد؛ لأنه صارف، ولذلك لو بقي رجلاه فسقط في ماء .. لم يرتفع حدثهما إلا إن كان ذاكراً للنية، بخلاف ما لو غمسهما أو تعرض بهما لمطر؛ إقامة لفعله مقام ذكره للنية. (الثاني: غسل) ظاهر (الوجه) أي: انغساله ولو بفعل غيره، أو بسقوطه في ماء مع استحضاره للنية، وكذا يقال في باقي الأعضاء. وخرج بـ (ظاهره): باطن أنف وعين وفم وإن ظهر بنحو قطع؛ لأنه باطن أصالة، وإنما جعل ظاهراً في النجاسة؛ لغلظها. نعم؛ يجب غسل ما باشره القطع من ذلك. (وحده) -أي الوجه- طولاً (ما بين منبت شعر رأسه) أي: ما من شأنه ذلك، (و) أسفل (مقبل ذقنه) بفتح المعجمة. (و) عرضاً (ما بين أذنيه)؛ لأن الوجه ما يقع به المواجهة، وهي تقع بذلك. (فمنه الغمَمُ) وهو ما ينبت عليه الشعر من جبهة الأغم؛ إذ لا عبرة بنباته في غير محله، كما لا عبرة بانحسار شعر الناصية. (والهدب) -بضم فسكون المهملة، وضمها وفتحها- وهو النابت على أجفان العين. (والحاجب) وهو الشعر النابت من أعلى العين، سمي بذلك؛ لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس. (والشارب) وهو ما ينبت على الشفة العليا، سمي بذلك؛ لأنه يلاقي الماء عند الشرب. (والعذار) وهو الشعر النابت على العظم الناتئ بقرب الأذن، ومثله البياض الذي بينه وبين الأذن. (والعنفقة) وهي الشعر النابت على الشفة السفلى. فيجب غسل جميع الوجه الشامل لما ذكر وغيره (بشراً) حتى ما يظهر من حمرة

الشفتين مع إطباق الفم، ومن أنف مجدوع مما باشره القطع فقط، (وشعراً) ظاهره وباطنه إلا باطن كثيف ثلاثة شعور: الأول: باطن كثيف ما خرج عن حد الوجه، وهو ما لو مد .. خرج بالمد عن جهة نزوله ولو من امرأة وخنثى عند (م ر). (و) الثاني والثالث: باطن كثيف (شعر اللحية) من رجل، وهي الشعر النابت على الذقن التي هي مجتمع اللحيين. (و) باطن كثيف شعر (العارض) من رجل، وهو الشعر الذي بين اللحية والعذار، وإنما وجب غسل باطن الكثيف في الجنابة مطلقاً؛ لقلة وقوعها، فإذا علمت ذلك، فشعر اللحية والعارض (إن خف) بأن كانت البشرة ترى من خلاله في مجلس التخاطب عادة ( .. غسل ظاهره وباطنه) مطلقاً (وإن كثف) بأن لم تر البشرة من خلاله في ذلك المجلس ( .. غسل ظاهره) ولا يجب غسل باطنه؛ للمشقة إن كان رجلاً، وإلا .. غسل باطنه وإن خرج عن حد الوجه عند (حج)؛ لندرة لحيته، ولو خف البعض وكثف البعض .. فلكل حكمه إن تميز، وإلا .. وجب غسل الجميع. ويجب غسل كل ما نبت في حد الوجه كسلعة وإن خرجت عن حد الوجه؛ لحصول المواجهة بها، وجزء من سائر الجوانب المجاورة للوجه احتياطاً؛ ليتحقق تعميم الوجه، فهو من باب: ما لا يتم الواجب إلا به .. فهو واجب، ومن له وجهان من قبله .. وجب غسلهما، أو رأسان .. كفى مسح أحدهما، ولو أغفل لمعة، فانغسلت في تثليث .. كفى، لكن لا تحسب ثانية إلا بعد تمام العضو، أو في تجديد أو وضوء احتياط .. فلا. وليس النزعتان من الوجه، ولا موضع الصلع، وموضع التحذيف، ووتد الأذن، لكن يندب غسل ذلك، وكل ما قيل إنه من الوجه كالأذنين، ويسن أخذ الماء بيديه جميعاً؛ للاتباع. (ويستحب تخليل اللحية الكثة) وغيرهما مما لا يجب غسل باطنه، وكونه بماء جديد

(بأصابعه) اليمنى (من أسفل)؛ للاتباع. الفرض (الثالث: غسل اليدين) أي: كل يد أصلية، أو زائدة التبست بالأصلية أو حاذتها (مع المرفقين) بكسر الميم وفتح الفاء، أفصح من عكسه. والمرفق: مجتمع عظم الساعد والعضد، فلو قطع بعض ما يجب غسله .. وجب غسل الباقي، فإن أبين الساعد فرأس العضد، أو من فوق المرفق .. سن غسل باقي العضد. (و) يجب غسل (ما عليهما) من شعر وإن كثف وطال، وظفر وإن طال، كيد نبتت في محل الفرض، وشق وثقب، وحكمهما في يدٍ وغيرها وجوب غسل ما هو في الجلد منهما دون ما جاوزه إلى اللحم إن لم يظهر الوضوء من الشق الآخر، وإلا .. وجب غسل جميعه حيث لا ضرر، والشوكة إن استترت .. فواضح، أو ظهر رأسها .. وجب إخراجها إن لم تجاوز الجلد، وإلا .. فلا، ويكفي غسل قشر جرح وإن لم يتألم به، وإن خرج بعد غسله، كما لو قطع شعراً وظفراً بعد طهره .. لا يجب غسل ما ظهر منهما. الفرض (الرابع: مسح) أي: وصول البلل، سواء كان بفعل فاعل أم لا، بمسح أو غسل أو غيرهما إلى (شيء) وإن قل جداً (من بشرة الرأس) كالبياض الذي وراء الأذن وإن لم يكن في حده (أو) من (شعره في حده) أو من شعرة في حده بأن لا يخرج عنه بالمد من جهة نزوله، فجهة نزول شعر الناصية: الوجه، وشعر القرنين: المنكبان، ومؤخر الرأس: القفا، فما يخرج .. لا يجزئه المسح عليه وإن مسحه في حد الرأس، ولو وضع يده المبتلة على خرقة على رأسه فوصله البلل .. أجزأه وإن لم يقصد الرأس عند (حج) لما مر من أنه: إذا وقع الغسل بفعله .. لا يحتاج إلى تذكر النية، والمسح مثله. الفرض (الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين) من كل رجل، أو مسح خفيهما بشرطه كما يأتي (و) مع (شقوقهما) وغيرهما مما مر في اليدين، وتجب إزالة ما فيها من نحو شمع لم يصل لغور اللحم. (السادس: الترتيب) كما ذكر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتوضأ إلا مرتباً فلو لم يجب .. لتركه في وقت، أو دل على جوازه، ولخبر: "ابدؤوا بما بدأ الله به" كما مر

فصل: في سنن الوضوء

فلو قدم عضواً على محله .. لم يعتد به، أو غسل أربعة أعضائه معاً .. ارتفع حدث وجهه فقط. ويكفي الترتيب ولو تقديراً (فلو غطس) ناوياً ولو في ماء قليل ( .. صح) وضوءه (وإن لم يمكث) زمناً يمكن فيه الترتيب الحقيقي، أو أغفل لمعة من غير أعضاء الوضوء؛ لحصوله تقديراً في لحظات لطيفة لا تظهر في الحس، أي: وهمية. وعليه: فالمراد بـ (الترتيب) هنا: مجرد فرضه، فهو اعتراف بانتفاء شرطه، كما قاله بعض المحققين. وخرج بـ (غطس): ما لو غسل أسافله قبل أعاليه .. فلا يجزىء؛ لعدم الترتيب، ويسقط عن محدث أجنب، ومن ثم لو غسل ما سوى أعضاء الوضوء ثم أحدث .. سقط الترتيب. (وتجب الموالاة في وضوء دائم الحدث) كمستحاضة، بأن يوالي في كل وضوء بين الاستنجاء والتحفظ، وبينهما وبين الوضوء، وبين أفعاله وبين الصلاة، وسيأتي في الاستحاضة عدم ضرر تأخير المستحاضة لكمال مطلوب منها، كانتظار جماعة، ومثلها السلس، أما السليم .. فتسن له الموالاة إن لم يضق الوقت، وإلا .. وجبت. (و) يجب في كل وضوء (استصحاب النية حكماً) بأن لا يأتي بما ينافيها مما مر أول هذا الفصل، وإلا .. فيحتاج لتجديد النية لما بقي، وإذا أحدث أثناء وضوء أو قطعه .. أثيب على الماضي منه إن كان قطعه لعذر، وإلا .. فلا، ومثله الصلاة ونحوها. * * * (فصل) في سنن الوضوء. والسنة والتطوع والنفل والمندوب والحسن والمرغب فيه: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، فهي ألفاظ مترادفة، لكن الحسن يشمل المباح، كما في الأصول، إلا أن يكون المراد بترادفه لها بالنسبة لبعض أفراده، أو في اصطلاح الفقهاء. (وسننه) أي: الوضوء كثيرة أورد منها في "الرحيمية" ستاً وستين، والمصنف إنما

ذكر بعضها، فالحصر المشعرة به الجملة المعرفة الطرفين في كلامه إضافي. ومنها: (السواك) مصدر ساك فاه يسوكه، وهو لغة: الدلك وآلته، وشرعاً: استعمال نحو عود في الأسنان وما حولها، وأقله مرة، إلا لتغيير .. فلا بد من إزالته، ويحتمل الاكتفاء بها لأصل السنة؛ لأنها محققة. وهو من السنن الفعلية الداخلة فيه عند (حج)؛ إذ محله عنده بين المضمضة وغسل الكفين، فتشمله النية والتسمية. ويسن أيضاً قبل التسمية لأجلها، لا للوضوء. وعند (م ر) -كالمصنف- من السنن الفعلية المتقدمة عليه؛ إذ محله عندهما قبل غسل الكفين، فيحتاج لنية له قبله، ومر الكلام على السواك. (ثم التسمية) ولو بماء مغصوب أو لنحو جنب بقصد الذكر؛ لخبر: "توضؤوا باسم الله" أي: قائلين ذلك، وصرفه عن الوجوب خبر: "توضأ كما أمرك الله" أي في آية الوضوء، ولا تسمية فيها، وخبر: "لا وضوء لمن لم يسم الله" أي: لا وضوء له كامل كـ"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". وأقلها: باسم الله، وأكملها: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم الحمد لله على الإسلام ونعمته، الحمد الله الذي جعل الماء طهوراً، والإسلام نوراً. زاد الغزالي: (رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون) ويسن التعوذ قبلها، والشهادتان بعدها، وتكون سنة عين كما هنا، وسنة كفاية، كما في الجماع، فتكفي من أحدهما، فيقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، وكما في الأكل، لكن تطلب على كل إناء، وممن جاء أثناء الأكل، وكالأذان والإقامة وابتداء السلام. والسنة أن يأتي بها (مقرونة بالنية) القلبية (مع أول غسل الكفين) فينوي بقلبه، ويبسمل بلسانه مع أول غسل الكفين. (و) يسن (التلفظ بالنية) عقب التسمية؛ ليساعد اللسان القلب. فالمراد من تقديم النية على غسل الكفين: تقديمها على الفراغ منه (واستصحابها)

أي: النية بقلبه من أول وضوئه إلى آخره؛ لما فيه من مزيد الحضور المطلوب للعبادة ومر أن استصحابها حكماً شرط (فإن ترك التسمية في أوله) ولو عمداً ( .. أتى بها قبل فراغه) منه، بأن لم يكمل غسل الرجلين، وكذا إن غسلهما ولم يأت بالذكر الوارد بعده ولم يطل الفصل عند (ع ش). (فيقول: باسم الله في أوله وآخره، كما) يسن الإتيان بها (في) أثناء (الأكل والشرب) إذا تركها ولو عمداً، وكذا بعد فراغهما على المعتمد؛ للأمر بذلك في حديث الترمذي وغيره، لكن بإسقاط لفظ: (في). وكالأكل: كل ما فيه أفعال متعددة، كالكحل والتأليف، فمن تركها أوله .. أتى بها أثناءه إن لم يكره الكلام أثناءه كالجماع (ثم) بعد التسمية (غسل الكفين) إلى الكوعين، وكونهما معاً وإن لم يقم من النوم، ولا أراد إدخالهما الإناء، ولا شك في طهرهما (فإن لم يتيقن طهرهما) بأن تيقن نجاستهما .. حرم غمسهما في الإناء، وملاقاتهما لكل رطب؛ لحرمة التضمخ بالنجاسة. وإن ظن ذلك أو شك فيه ( .. كره غمسهما في الماء القليل) ولو في غير طهارة. (و) في (مائع) ومس رطب بأحدهما (قبل غسلهما ثلاث مرات) في الشك في النجاسة غير المغلظة. وقبل غسلهما مرتين بعد التسبيع في المغلظة. والمحذور وإن كان يزول بمرة في غير المغلظة، وسبع فيها .. فقد تعبدنا الله بذلك؛ لنهي المستيقظ من النوم عن غمس يده قبل غسلها ثلاثاً، وعلله بأنه: (لا يدري أين باتت يده) الدال على أن المقتضي للغسل توهم النجاسة بسبب النوم أو غيره، والشارع إذا غيا حكماً بغاية .. لا يخرج من عهدته إلا باستيفائها، ولو غسلهما من نجاسة متيقنة مرة .. كره غمسهما قبل إكمال الثلاث. (ثم) بعدما ذكر (المضمضة، ثم الاستنشاق)؛ للاتباع ولم يجبا؛ لما مر، وهو أفضل من المضمضة؛ لما قيل بوجوبه.

وإنما قدمت المضمضة عليه؛ لأنها محل الذكر والطعام. وأقلهما: إيصال الماء إلى الأنف والفم وإن لم يمجه، ولا أداره، وتحصل السنة. بالفصل، كأن يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث أخر، أو يتمضمض بواحدة ثلاثاً، ويستنشق بأخرى ثلاثاً، وهذه أفضل، والتي قبلها أنظف، والجمع بينهما أفضل من الفصل؛ لأن رواياته صحيحة، ويحصل بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق منها ثلاثاً، (والأفضل: الجمع بينهما بثلاث غرفات، يتمضمض من كل غرفة، ثم يستنشق بباقيها)؛ لصحة الأمر بذلك. (والمبالغة فيهما لغير الصائم) بأن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثات. ويسن إمرار الإصبع اليسرى عليها ويمج الماء، وفي الاستنشاق يصعده بنفسه إلى خيشومه مع إدخال خنصر يساره فيه، ويزيل به ما فيه من أذى، ولا يستقصي، فإنه يصير سعوطاً، لا استنشاقاً، أي: كاملاً. أما الصائم .. فلا يبالغ، خشية الإفطار، ومن ثم كرهت، وإنما حرمت القبلة المحركة للشهوة؛ لأن أصلها غير مندوب مع أن قليلها يجر لكثيرها. وفائدة تقديم المضمضة والاستنشاق: معرفة أوصاف الماء. وأفاد العطف بـ (ثم): أن الترتيب بين السنن المذكورة مستحق، فلو أتى بالاستنشاق مع المضمضة .. حسبت دونه، وقال الشرقاوي: (حسبا عند "م ر"، وإن قدمه .. حسبت دونه؛ لوقوعه في غير محله كما لو أقتصر عليه، فما تقدم عن محله لغو). واعتمد (م ر): أن المعتد به هو المفعول أولاً، فإذا قدم الاستنشاق .. حسب، وفات غسل الكفين والمضمضة، فإن أراد حصولهما .. أتى بناقض، وأتى بهما. (و) من سننه أيضاً (تثليث) يقيناً لكل من (الغسل) ولو لنحو سلس، ولو بتحريك العضو ثلاثاً في ماء ولو قليلاً، بخلاف ترديد ماء الغسلة الأولى؛ لأنه تافه. (و) من (المسح) إلا في خف، وكذا جبيرة وعمامة عند (حج)، ومن الدلك و (التخليل).

وفي "التحفة": (ويظهر أنه مخير بين تأخير ثلاثة كل من هذين عن ثلاثة الغسل، وجعل كل واحدة منهما عقب كل [واحدة] من هذه الثلاثة، وأن الأولى أوْلى). والذكر والدعاء والسواك وسائر الأقوال والأفعال حتى النية ولو لفظية، على خلاف فيها؛ للاتباع في أكثر ذلك، وقياساً في الباقي، ولا يحسب تثنية وتثليث إلا بعد تمام العضو، وقبل الانتقال منه لما بعده. نعم؛ لو مسح بعض رأسه ثلاثاً .. حصل التثليث؛ إذ ما تقدم في عضو .. يجب استيعابه، ولو ثلث الفم والأنف، أو اليدين أو الرجلين معاً .. أجزأ؛ لأن كلا منهما كعضو واحد، ولا يحصل تثليث بتكرير وضوء. (ويأخذ الشاك) قبل الفراغ (باليقين) وجوباً في الواجب، وندباً في المندوب، ولو شك في غسل الوجه مثلاً .. وجب غسله، أو في استيعابه .. وجب، أو هل غسله مرتين أو ثلاثاً؟ سنت الثالثة، ولا نظر لاحتمال كونها رابعة، وهي مكروهة؛ إذ لا تكره إلا إن تحققت. نعم؛ يكفي ظن استيعاب العضو. ويجب ترك تثليث كسائر السنن؛ لضيق الوقت، بحيث لو ثلث .. لم يدرك الصلاة كاملة في الوقت، وللاحتياج لماء التثليث لطهر واجب، أو عطش حيوان محترم. ويسن ترك سائر السنن؛ لإدراك جماعة لم يرج غيرها. نعم؛ ما قيل بوجوبه من السنن، كالدلك .. ينبغي تقديمه على الجماعة. (و) من سننه (مسح جميع الرأس) أي: الزائد على قدر الواجب منه؛ للاتباع؛ لأنه أكثر ما ورد في وضوئه صلى الله عليه وسلم، وخروجاً من خلاف موجبه كمالك. والأكمل وضع مسبحتيه على مقدم رأسه، وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما معاً ما عدا الإبهامين لقفاه، ثم يردهما إن كان له شعر ينقلب، ولا يحسب الرد مرة ثانية -كما مر- ويقع أقل مجزئ من الرأس فرضاً، والباقي نفلاً كنظائره من نحو ركوع وسجود طولهما. (فإن) كان على رأسه ساتر، و (لم يرد نزع ما على رأسه) وإن سهل نزعه .. سن له أن يتمم المسح على الساتر، حيث لم يكن محرماً لذاته كمحرم ستر رأسه بلا عذر، بخلاف ما لو كان مغصوباً ولم يكن عليه نجس ولو معفواً عنه، وكان مسح الساتر بعد [أن]

(مسح جزءاً من الرأس) والأولى كونه الناصية (ثم تممه) أي: المسح (على الساتر) متصلاً مسحه بمسح جزء من الرأس وجوباً. وقوله: (ثلاثاً) راجع إلى المسح جزء من الرأس، وكذا على التتميم على الساتر عن (م ر). (ثم) السنة بعد مسح الرأس (مسح) جميع (الأذنين ظاهرهما) وهو ما يلي الرأس (وباطنهما) وهو ما يلي الوجه (بماء جديد) فلا يكفي بلل المرة الأولى من الرأس، ويحصل أصل السنة بماء ثانيته وثالثته. (و) مسح (صماخيه) وهما خرقا الأذنين (بماء جديد) أي: غير ماء الرأس من المرة الأولى، ويحصل أصل السنة بمسحهما بماء الأذنين وبثانية أو ثالثة الرأس. والأحب في كيفية مسحهما: أن يمسح برأس مسبحتيه صماخيه، وبباطن أنملتيهما باطن الأذنين ومعاطفهما، ويمر إبهاميه على ظهرهما، ثم بعد ذلك يسن أن يلصق كفيه مبلولتين بهما؛ استظهاراً، ويسن غسلهما مع الوجه، ومسحهما مع الرأس، وكون كل ذلك ثلاثاً، فجملته: اثنتا عشرة مرة، ولو مسح بعض الأذنين .. حصل أصل السنة. (و) من سننه (تخليل أصابع اليدين) والرجلين بأي كيفية، والأفضل في اليدين (بالتشبيك). قال المدابغي: (الأولى جعل أصابع اليمنى بين أصابع اليسرى من ظهرها وعكسه، لتخالف العبادة العادة) اهـ وهذا يفيد تخليل كل يد وحدها، ويخالف قول "الايعاب": (نعم؛ تخليلهما -أي: اليدين- لا تيامن فيه) اهـ وإنما يكره التشبيك -كفرقعة الأصابع- لمن في الصلاة، أو في المسجد منتظراً لها. (و) في (أصابع الرجلين بخنصر اليد اليسرى) وكذا بخنصر اليد اليمنى، كما في "الإقناع" و"شرحي الإرشاد". والأولى: أن يبدأ (من أسفل خنصر) الرجل (اليمنى) ويستمر على التوالي (إلى خنصر اليسرى)؛ للسهولة مع المحافظة على التيامن، واختار في "المجموع":

أنه لا يتعين للتخليل يد، كما في "الفتح". نعم؛ إن لم يصل الماء إلا بالتخليل .. وجب. (و) من سننه (التتابع) بين أفعال وضوئه؛ للاتباع، بأن يشرع في تطهير كل عضو قبل جفاف ما قبله، مع اعتدال الهواء والمزاج والزمان والمكان. والعبرة عن التثليث بالأخيرة، ويقدر الممسوح مغسولاً، وقد يجب في طهر نحو سلس، ولضيق وقت. (و) منها (التيامن) أي: تقديم اليمنى على اليسرى، لنحو الأقطع مطلقاً، ولغيره في يديه ورجليه وإن كان لا بس خف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: (كان يحب التيامن في شأنه كله) أي: مما هو من باب التكريم، كاكتحال وحلق الرأس، وكذا ما لا تكرمة فيه ولا قذر، أما ما يغسل دفعة، ككفين وخدين .. فيكره فيه الترتيب ولو بالتيامن على ما في "الأسنى"، كما يكره ترك التيامن فيما يسن فيه. (و) منها (إطالة غرته) بأن يغسل أدنى شيء من جوانب الوجه معه زائداً على ما لا يتم الواجب إلا به. والأكمل: أن يغسل مع الوجه مقدم رأسه وأذنيه، وصفحتي عنقه. (و) إطالة (تحجيله) بأن يغسل شيئاً من العضدين والساقين مع الواجب من اليدين والرجلين. والأكمل: أن يستوعب العضدين والساقين؛ وذلك لخبر: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة، فمن استطاع منكم .. فليطل غرته". فعلم أن الغرة والتحجيل اسمان لما لا يتم الواجب إلا به، وإنما المسنون إطالتهما. وفي "الإمداد": (يعتد بالتحجيل قبل غسل اليد والرجل، بخلاف الغرة؛ لاعتبار مقارنة النية للوجه) اهـ ونقل "المدابغي" عن "فتاوى (م ر) " و "الزيادي": حصول الغرة مطلقاً. (و) منها (ترك الاستعانة بالصب إلا لعذر) أي: الإعانة وإن لم يطلبها من غير عذر؛ لأنها ترفه لا يليق بالمتعبد، وليس منه الوضوء بالماء العذب وترك المالح -قال (ق ل): وهل الحنفية من الاستعانة؟ - وهي في إحضار الماء مباحة، وفي الصب خلاف الأولى، وفي غسل الأعضاء مكروهة.

نعم؛ إن قصد تعليم نحو المعين .. ندبت، وقد تجب على عاجز ولو بأجرة فضلت عما يعتبر في الفطرة، فإن لم يجد .. صلى بالتيمم وأعاد. (و) ترك (النفض)؛ لأنه كالتبرىء من العبادة، فهو خلاف الأولى لا مباح. (والتنشيف) وهو: أخذ الماء بنحو منديل، فهو خلاف الأولى بلا عذر، فإن كان عذر .. فيسن، كحر وبرد وخوف التصاق نجس به، وإرادة تيمم، وغسل ميت، ويقدم اليسار فيه، ولو غلب على ظنه التصاق نجس به إن لم ينشف .. وجب، وإذا أراد التنشيف ولو لعذر .. فالأولى أن لا يكون بثوب إلا لحر أو برد أو خوف نجاسة كذيله وطرف ثوبه؛ فقد قيل: إنه يورث الفقر. (و) منها (تحريك الخاتم)؛ لأنه أبلغ في إيصال الماء، ولو لم يصل إلا به .. وجب. (والبداءة بأعلى الوجه)؛ للاتباع، ولكونه أشرف (وفي) كل من (اليد والرجل بالأصابع) وإن صب عليه غير عند (حج)، وخالفه المصنف كـ (م ر) بما أشار إليه بقوله: (فإن صب على غيره .. بدأ بالمرفق) في اليد (والكعب) في الرجل، ويسن أن لا يكتفي بجريان الماء بطبعه، بل يمر الكف معه. (و) منها (دلك) الأعضاء، وهو إمرار اليد على (العضو) مع غسله أو عقبه، والأكمل معهما؛ لجريان خلاف شهير في وجوب ذلك، ويبالغ في العقب، سيما في الشتاء، وندب صب الماء بيمينه، ويدلك بيساره. (ومسح المأقين) بسبابتي شقيهما إن لم يكن رمص يمنع وصول الماء، وإلا .. وجب، وهما: طرفا العين الذي يلي الأنف، لكن المراد بهما: ما يشمل اللحاظ، وهو الطرف الآخر. (واستقبال القبلة) في وضوئه حتى الذكر بعده. (ووضع الإناء عن يمينه أن كان واسعاً) بحيث يغترف منه، فإن كان يصب به .. فعن

يساره؛ لأنه أمكن فيهما (وأن لا ينقص ماؤه عن مد)؛ للاتباع، ويجزىء بدونه إن أسبغ بحيث يجري على العضو بنفسه، فلا يكفي المسح ولو في جزء وإن قل. ومحل سنية المد فيمن بدنه كبدنه صلى الله عليه وسلم اعتدالاً وليونة، وإلا .. زاد أو نقص. (و) أن (لايتكلم في جميع وضوئه) بغير ذكرٍ؛ لأنه تشاغل عن العبادة (إلا لمصلحة) كأمر بمعروف وتعليم جاهلٍ .. فيسن، وقد يجب، كأن رأى أعمى يقع ببئر. (و) أن (لا يلطم) -بكسر الطاء- (وجهه بالماء) ويقتصد في الماء، ويتوقى الرشاش، ويشرب من فضل طهوره؛ لخبر: "إن فيه شفاءً من كل داء" ويرش إزاره إن توهم مقذراً له، قال (سم): (هل يسنان ولو من مسبل؟) اهـ ويظهر المنع؛ لأن ذلك غير الطهارة الموقوف لها المسبل، إلا أن يقال: يغتفر في الشيء تبعاً ما لا يغتفر فيه مقصوداً. (و) أن (لا يمسح الرقبة) قال النووي: (لأن خبر: "إنه أمان من الغل" موضوع أو شديد الضعف، فلا يعمل به). قال الكردي: لكن كلام المحدثين يشير إلى أن له طرقاً يرتقي بها إلى درجة الحسن، وإذا قلنا: إنه سنة .. فيمسحها ولو ببلل الرأس. وقال الفاكهي في "شرح البداية": (وفيه حديث آخر مرفوع صححه الروياني وهو: "من توضأ ومسح عنقه .. وقي الغل يوم القيامة" اهـ (و) أن (يقول بعده) -أي: الوضوء- قبل طول الفصل عرفاً، والأكمل قبل أن يتكلم بأجنبي: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)؛ لخبر: "أن من قال: ذلك فتحت له أبوب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء". (اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين) رواه الترمذي، وزاد الغزالي: "واجعلني من عبادك الصالحين".

(سبحانك اللهم) أي: تننزيهاً لك يا الله عما لا يليق بك (وبحمدك) أي: وبحمدك سبحتك. (أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)؛ لخبر "من توضأ، ثم قال: سبحانك اللهم ... إلخ .. كتب برق، ثم طبع بطابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة" أي: لم يتطرق إليه إبطال حتى يرى ثوابه العظيم، بأن يصون صاحبه عن تعاطي مبطل له، كالردة. ويأتي بجميع ذلك ثلاثاً، مستقبل القبلة، رافعاً يديه وبصره إلى السماء ولو نحو أعمى، ثم يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسمح وجهه بيديه، ويقرأ: (إنا أنزلنهُ) ثلاثاً بلا رفع، وآية الكرسي، ولو سمع المؤذن مع فراغه وضوئه .. قدم أذكاره، ثم أجاب المؤذن. تنبيه: (أستغفرك) بمعنى: أطلب منك المغفرة، أي: ستر ما ظهر من نقص، وهي لا تستلزم سبق النقص. وظاهر كلامهم ندب وأتوب إليك ولو لغير تائب، واستشكل بأنه كذب، وأجيب بأنه إنشاء في المعنى، أي: أسالك التوبة، أو معناه: أنا في صورة التائب، ويأتي هذان الجوابان فيما هو في معنى ذلك، كوجهت وجهي، وخشع سمعي. (ولا بأس بالدعاء عند الأعضاء) أي: إنه وإن ورد من طرق .. فهي شديدة الضعف، لا تثبت بها سنيته من حيث إنه وارد وإن كان الدعاء في نفسه، وإن لم يكن بالوارد سنة، لكن رجح في "الأسنى"، و"الشهاب الرملي": أنه يعمل به في فضائل الأعمال، فهو سنة، واستوجه استحبابه أيضاً في الغسل والتيمم، وهو مذكور في المطولات. ويسن بعده ركعتان، بحيث ينسبان إليه عرفاً، ويفوتان بطول الفصل، وقيل: بالإعراض، وقيل: بجفاف الأعضاء، وقيل: بالحدث، ويقرأ فيهما بعد الفاتحة: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) [النساء:64] الآية، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء:110]. * * *

فصل: في مكروهات الوضوء

(فصل: يكره الإسراف فيه) أي: الوضوء (بالصب) بخلاف الغمس؛ إذ لا إتلاف فيه، وذلك بأن يأخذ للعضو أكثر مما يكفي في واجبه ومسنونه ولو على الشط. (وتخليل اللحية للمحرم)؛ لئلا يسقط منها شعر، وقال (حج): (يسن تخليلها برفق). (والزيادة على الثلاث) المحققة بنية الوضوء من غير مسبل، أما من المسبل .. فتحرم، وكذا حيث كان ثم محتاج إلى الماء لشرب أو طهر، لكن قال العلقمي: (محل حرمة الزيادة إذا كانت من نحو حنفية، فلا تحرم من نحو الفساقي؛ لعود الماء إليها) اهـ ورده (ب ج) في "حاشيته على الإقناع" بأنه غير مأذون فيه. وقال أبو رجاء: (ليس للمتوضىء رد ماء المضمضة إلى الفساقي؛ لأنه مستقذر). وكما تكره الزيادة على الثلاث يكره النقص عنها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد أو نقص .. فقد أساء وظلم") أي: أخطأ السنة في الأمرين، وعطف الظلم: تفسير، وقد يطلق الظلم على غير المحرم؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، أو مجاوزة الحد. (والاستعانة بمن يغسل أعضاءه إلا لعذر) كما مر وأن يتوضأ ولو غير جنب في ماء راكد ما لم يستبحر، والطهارة مما أختلف في طهوريته، أو من فضل امرأة، أو إناء نحاس على ما مر أو بترك التيامن، أو سنة مؤكدة. * * * (فصل) في شروط الوضوء، وبعضها -وهو الإسلام والتمييز وعدم الصارف وعدم التعليق وعدم المنافي ومعرفة الكيفية- شروط للنية، لكنها لما كانت من أركان الوضوء .. أدخلوا شروطها في شروطه، وسيأتي تعريف الشرط والركن. (شروط الوضوء والغسل: الإسلام، والتمييز)؛ لأنهما عبادة، والكافر وغير

المميز ليسا من أهلها، ومر صحة غُسل الكافرة، لتحل من حيضها فقط، حتى لو أسلمت .. وجب إعادته، وصحة طهر صبي؛ لطواف، وهذان شرطان لكل عبادة كمعرفة الكيفية. (والنقاء عن الحيض، والنفاس)؛ لمنافاتهما لذلك. نعم؛ تصح، بل تسن لهما أغسال الحج ونحوها، وهذا شرط لكل عبادة تفتقر للطهارة، ولو قال: وعدم مناف كحيض .. لكان أعم؛ ليدخل نحو البول، إذ لا يصح معه الوضوء. (و) النقاء (عما يمنع وصول الماء إلى البشرة) كدهن جامد لا مائع وإن لم يثبت عليه الماء، وكوسخ تحت الأظفار من غير عرق، وكغبار على البدن لم يصر كجزء منه. ولا يضر خضاب وإن ستر لون البشرة، وفي عد هذا شرطاً مسامحة؛ لأنه من جملة الركن الذي هو غسل جميع العضو. (والعلم) بكيفيته بأن يعلم (بفرضيته، وأن لا يعتقد فرضاً من فروضه سنة) وسيأتي تحقيقه في شروط الصلاة. (والماء الطهور) أصالة وإن ظن نجاسته عند عدم الاشتباه، أو ظناً عند الاشتباه، فلو تطهر بماء لم يظن طهارته .. صح عند عدم الاشتباه. وبقي من شروطهما: إزالة النجاسة العينية، أما الحكمية .. فيكفى لها وللحدث غسلة واحدة. وأن لا يكون على العضو ما يغير الماء على الأصح، (وجري الماء على) جميع (العضو)، وتحقق المقتضي إن بان الحال، وإلا .. فطهر الاحتياط -بأن تيقن الطهر وشك في الحدث، فتوضأ من غير ناقض- صحيح إن لم يبن حدثه، والأولى أن ينقض طهره، ويتوضأ. وإنما صح وضوء من شك في طهره بعد أن تيقن حدثه؛ لأن الأصل بقاء الحدث، وعدم الصارف، ويعبر عنه بدوام النية حكماً، فلو قطعها أثناء وضوئه .. احتاج لباقي أعضائه إلى نية جديدة.

فصل: في المسح على الخفين

وأن لا يعلق النية، فلو قال: نويت الوضوء إن شاء الله .. لم يصح إلا إن نوى التبرك. (ودخول الوقت) يقيناً أو ظناً، وتقديم استنجاء وتحفظ، (والولاء) بينهما، وبينهما وبين الوضوء وبين أفعاله، وبينه وبين الصلاة (لدائم الحدث) الأصغر أو الأكبر. * * * (فصل) في المسح على الخفين، وأحاديثه كثيرة، بل صرح جمع من الحفاظ بتواترها، وعن الحسن قال: (حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين)، واختلف في كفر منكره، وهو من خصائصنا. (ويجوز المسح على الخفين بدلاً عن غسل الرجلين في الوضوء) قال (ق ل): (أي: كاف عن غسلهما؛ لأنه أصل كما في خصال الكفارة، وليس المراد حقيقة البدلية المتوقفة على تعذر الأصل) اهـ لكن غسلهما أفضل. وقد يسن المسح، كما إذا تركه؛ لثقله عليه لعدم إلفه له، لا لإيثاره الغسل الأفضل، أو كان ممن يقتدى به، أو خاف فوت جماعة لو لم يسمح، وكذا بقية الرخص. وقد يجب إذا توقف عليه إدراك واجب، كالوقوف بعرفة أو وقت صلاة فرض أو إنقاذ غريق. وخرج بـ (الرجلين) مسح خف واحدة وغسل الأخرى. وبـ (الوضوء): الغسل، وإزالة النجاسة. (وشرط جواز المسح) على كل من الخفين: (أن يلبسه على طهارة) من وضوء أو غسل أو تيمم لغير فقد ماء (كاملة) بأن لا يبقى من بدنه لمعة بلا طهارة، فلو غسل رجلاً ولبس خفها، ثم الأخرى ولبس خفها .. نزع الأولى ثم ردها إن أراد المسح.

(وأن يكون الخف) ولو بعد اللبس وقبل الحدث عند (حج) (طاهراً) ولو حراماً، كمغصوب وذهب، لا نجس العين، ولا متنجس بما لا يعفى عنه، أما المتنجس بمعفو عنه .. فيصح المسح على محل طاهر منه وإن اختلط بالنجاسة ماء المسح بعد بلا قصد. وأن يكون (قوياً يمكن متابعة المشي عليه) بلا نعل ولو لمقعد في التردد (للمسافر) سفر قصر (في الحاجة) عند حط وترحال وغيرهما مما جرت العادة به ثلاثة أيام بلياليها، ولمقيم ومسافر سفر غير قصر يوماً وليلة في حاجات إقامته، وقيل: حاجات سفره. وأن يكون (ساتراً لمحل الغسل) الواجب في غسل الرجل وهو القدم بكعبيه. ويشترط فيه: الستر من الجوانب (لا من أعلى) عكس ستر العورة؛ إذ الخف يلبس من أسفل ويتخذ لستره، بخلاف القميص ونحوه، ولكون السراويل من جنس ساتر العورة .. ألحق بها وإن كان يلبس من أسفل. وأن يكون (مانعاً نفوذ الماء) لو صب عليه، لكن المعتبر منعه (من غير) مواضع (الخرز). (و) يشترط لجواز المسح لمدة ثانية: (أن ينزعه المقيم) ونحوه (بعد يوم وليلة، والمسافر سفر قصر بعد ثلاثة أيام بلياليها، وابتداء المدة) فيهما (من) نهاية (الحدث بعد لبس)؛ إذ وقت المسح يدخل به، فاعتبرت مدته منه. (فإن مسح) خفيه (حضراً) أو نحوه (ثم سافر أو عكس) بأن مسح سفراً ثم أقام ( .. أتم مسح مقيم) إن أقام قبل تمامها؛ تغليباً للحضر؛ لأنه الأصل، وإلا .. انتهت مدته بمجرد إقامته، وأجزأه ما صلاه فيما مضى بالمسح وإن زاد على مدة مقيم؛ إذ الإقامة إنما تؤثر في المستقبل. ويشترط أيضاً: أن لا يحصل له حدث أكبر، وإلا .. لزمه النزع وإن أمكنه غسل رجليه في ساق الخف. وأن لا تنحل العرى وإن لم يظهر شيء من محل الفرض؛ لأنه يخرج بانحلالها عن كونه خفاً، ثم إن كان بطهارة المسح .. غسل رجليه فقط، وإلا .. فالجميع.

فصل: في نواقض الوضوء

(ويسن مسح أعلاه وأسفله وعقبه) وحروفه وكونه (خطوطاً) بأن يضع يسراه تحت عقبه، ويمناه على ظهر الأصابع، ثم يمر مفرجاً أصابعه هذه إلى آخر ساقه، وتلك إلى أطراف أصابعه. ويسن أن لا يزيد في مسحه على (مرة)؛ لما مر أن تثليثه خلاف الأولى. (والواجب: مسح أدنى شيء من ظاهر أعلاه) فلا يجزىء على باطنه، ولا الاقتصار على عقبه أو حروفه أو أسفله؛ لعدم وروده. * * * (فصل: نواقض) أي: الأسباب التي ينتهي بكل منها (الوضوء) لو كان، أو التي شأنها ذلك (أربعة) فقط، وقدم هذا الفصل جمع؛ ليعرف ما يتوضأ منه، وأخره آخرون ومنهم المصنف؛ ليعرف ما يبطل بتلك الأسباب. والحدث: أكبر -وسيأتي- وأصغر، وهو المراد عند الإطلاق، أي: في عبارة الفقهاء. أما الناوي: فيحمل إطلاقه له على الحدث القائم به. ويطلق شرعاً -كالأكبر- على الأسباب، وعلى أمر اعتباري يقوم بأعضاء الوضوء، يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص، وهو في الرأس قائم بجزء مبهم، ويتعين بالمسح، وعلى المنع من الصلاة ونحوها. (الأول) من الأربعة: خروج (الخارج) يقيناً (من أحد السبيلين) -أي: القبل والدبر- من حي واضح وإن تعدد مخرج كل منهما، أو تعدد كل منهما، كأن وجد له دبران أصليان، أو أحدهما أصلي واشتبه. والأصح: أن أصالة الذكر منوطة بالبول لا بالوطء، فينقض الخارج المذكور بأي صفة كان ولو نحو عود، ولا ينقض إدخاله، ولذا جاز -قبل خروجه- مس مصحف، لا نحو صلاة؛ لحمله متصلاً بنجس، ودودة أخرجت رأسها وإن رجعت، وريح ولو من

قبل، ودم باسور داخل الدبر، ورطوبة فرج أنثى خرجت إلى ما يجب غسله، ومقعدة مزحور ولو توضأ ثم أدخلها .. لم ينقض، وإن اتكأ عليها بنحو قطنة حتى دخلت وإن انفصل شيء منها؛ لخروجه منها، وهي من خارج، وذلك للنص في الغائط والبول والمذي والريح، وقيس بها كل خارج. (إلا المني) أي: مني الشخص نفسه وحده الخارج أول مرة، فلا ينقض كأن احتلم متوضئ وهو قاعد ممكن؛ لأنه أوجب أعظم الأمرين، وهو الغسل بخصوص كونه منياً، فلم يوجب أدونهما، وهو الوضوء بعموم كونه خارجاً، وإنما أوجبهما الحيض والنفاس؛ لغلظهما، أما لو خرج منه مني غيره ولو مع منيه، أو مني نفسه وحده ثانياً .. فينتقض الوضوء، ولو رأى بللاً على ذكره .. لم ينتقض وضوءه إن احتمل طرؤه من خارج، ولو ألقت ولداً جافاً، أو مضغة جافة .. انتقض وضوءها عند (حج)؛ لأن بعض ذلك من مني الرجل، وخروج مني الغير ينقض، وقال (م ر): (لا ينقض؛ لأنه قد استحال إلى الحيوانية). (الثاني: زوال العقل) يقيناً، أي: الغلبة عليه -بما يأتي- أو أن المراد زوال التمييز إما بارتفاع العقل (بجنون) وهو مرض يزيل الشعور من القلب مع بقاء القوة والحركة في الأعضاء، ولا يجوز على الأنبياء. وإما بانغماره بنحو صرع (أو سكر أو إغماء) ولو ممكناً. (أو) باستتاره (بنوم)؛ لخبر: "من نام .. فليتوضأ" وألحق به ما قبله؛ لأنه أبلغ. و (الإغماء): مرض يزيل الشعور من القلب مع فتور الأعضاء. و (السكر): خبل في العقل مع طرب واختلال نطق. و (النوم): استرخاء أعصاب الدماغ بسبب رطوبة الأبخرة الصاعدة من المعدة، ولا نقض بنوم الأنبياء؛ إذ قلوبهم لا تنام، ولا بإغمائهم، لأنه يخل بحواسهم الظاهرة دون الباطنة. (إلا النوم) من المتوضئ (قاعداً ممكناً مقعده) من مقره، كأرض وظهر دابة ولو سائرة ولو محتبياً وإن طال، ولو في الصلاة؛ للأمن حينئذ من خروج شيء.

و (التمكين): أن لا يكون بين بعض مقعده ومقره تجاف، ولا عبرة باحتمال خروج ريح من القبل؛ لندرته، حتى لو كثر من شخص .. فلا ينتقض وضوءه بنومه ممكناً ولم يتيقن خروج شيء؛ وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينامون وهم منتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم الأرض، ثم يصلون من غير أن يتوضؤوا وحمل على أنهم ينامون ممكنين، وأنهم انتبهوا قبل زوال تمكينهم. ولا تمكين لقاعد هزيل بحيث يبقى بين بعض مقعده ومقره تجاف، ولا لمن نام على قفاه ملصقاً مقعده بمقره، ولا نقض بالشك في حصول ناقض، ولا بالنعاس، ولا حديث النفس، فلو شك هل نام أو نعس؟ أو هل نام ممكناً أو لا؟ أو هل زالت إحدى أليتيه قبل يقظته أو بعدها؟ أو أن ما رآه رؤيا أو حديث نفس؟ .. فلا نقض. وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين ولم يفهمه، فإن لم يسمعه .. فهو نوم، وعلامته الرؤيا. ولو نام غير ممكن، فأخبره معصوم أنه لم يخرج منه شيء .. انتقض وضوءه، خلافاً لـ"الإمداد"؛ لأن النوم حينئذ ناقض، أو نام ممكناً فأخبره عدلٌ بخروج شيء منه .. انتقض عند (حج). (الثالث:) تيقن (التقاء بشرتي الرجل والمرأة) أي: الذكر والأنثى. الواضح: كل منهما المشتهى لذوي الطباع السليمة، ولو صبياً وممسوحاً، أو عنيناً أو صبية أو مكرهاً أو ميتاً، لكن لا ينقض الميت، أو بعضو أشل أو زائد ولو جنياً عند (م ر)، أو كان ذلك التلاقي بإخبار عدل عند (حج)؛ وذلك لآية (أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ) [النساء:43] أي: لمستم، كما في قراءة. و (اللمس): الجس باليد وغيرها، والمعنى في النقض به أنه مظنة التلذذ المثير للشهوة التي لا تليق بالمتطهر. و (البشرة): ظاهر الجلد، وألحق بها نحو لحم الأسنان واللسان، وكذا باطن عين وكل عظم ظهر عند (م ر)، وقال الشرقاوي: (وكذا باطن أنف). وخرج بما ذكر: التقاء بشرتي ذكرين وإن كان أحدهما أمرد حسناً، أو أثنين، أو خنثى وغيره، أو ذكر وأنثى بحائل وإن رق ولو بشهوة.

(وينتقض) وضوء (اللامس والملموس)؛ لاشتراكهما في مظنة اللذة، كاشتراكهما في لذة الجماع. (ولا ينقض صغير أو صغيرة) كل منهما (لا يشتهي) غالباً لذوي الطباع السليمة، ولا يتقيد بسبع سنين؛ لاختلاف ذلك باختلاف الصغار. (و) لا (شعر وسن وظفر و) لا ينقض (محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة)؛ لانتقاء مظنة الشهوة في جميع ذلك، وخرج بـ (المحرم): المحرمة لاختلاف دين كمجوسية، أو لعان، أو وطء شبهة كأم الموطوءة بشبهة وبنتها، وزوجات الأنبياء؛ إذ تحريمهن ليس لذلك، وبـ (تيقن التقاء البشرتين) الشك فيه، فلا نقض به، وكذا لا نقض بلمس من شك في محرميتها، ولا بلمس أجنبيات اشتبهت محرمه بهن وإن تزوج منهن، حيث لم يلمس منهن أكثر من عدة محارمه، ولا بلمس مجهولة نسب تزوجها، ثم استلحقها أبوه ولم يصدقه، فيستمر نكاحها مع ثبوت أخوتها له وعدم نقضها عليه، والبعض لا ينقض إلا إن أطلق عليه الاسم عند (م ر). وقال (حج): لا ينقض إلا إن كان فوق النصف. (الرابع: مس) واضح أو خنثى جزءاً من (قبل الآدمي) الواضح، ومنه القلفة. (و) مس (حلقة دبره) أي: جزء منها من حي أو ميت صغير أو كبير؛ ذكر أو أنثى، من نفسه أو غيره ولو أشل، أو زائداً عاملاً، أو على سنن الأصلي أو مشتبهاً به؛ لخبر: "من مس ذكره، وفي رواية: ذكراً .. فليتوضأ"، والناقض من الدبر ملتقى المنفذ، ومن قبل المرأة متلقى شفريها على المنفذ فقط عند (حج). وإنما ينقض ذلك (بباطن الكف) الأصلية ولو شلاء ذلك لخبر: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، وليس بينهما ستر ولا حجاب .. فليتوضأ"، والإفضاء باليد: المس بباطن الكف، فيتقيد به إطلاق المس في بقية الأخبار؛ ولأنه هو مظنة التلذذ، وهو الراحة وبطون الأصابع. (ولا ينتقض) وضوء (الممسوس)؛ إذ لا هتك منه، قال في "الأسنى": (بخلاف

فصل: فيما يحرم بالحدث

الملموس؛ لأن الشرع ورد بالمس، والممسوس لم يمس، وبالملامسة وهي: مفاعلة تقتضي المشاركة إلا ما خرج بدليل. (وينقض فرج الميت والصغير)؛ لشمول الاسم له (ومحل الجب) كله لا الثقبة فقط؛ لأنه أصل الذكر، وكذا ما نبت فيه من نحو سلعة لا شعر. (والذكر المقطوع) وكذا بعضه إن بقي اسمه إلا ما انقطع في الختان؛ إذ لا يقع عليه اسم الذكر. (ولا ينقض فرج البهيمة) من جميع الحيوانات غير الآدمي؛ إذ لا يشتهي طبعاً، ولذا حل نظره، وانتقى الحد به. (ولا المس برؤوس الأصابع وما بينها) وحروفها وحرف الكف؛ لأنها خارجة عن سمت الكف. نعم؛ المنحرف الذي يلي بطن الكف من حرفه ورؤوسها، وهو ما بعد موضع الاستواء منها ينقض. تنبيه: يخالف المس اللمس: أن اللمس لا يكون ألا بين شخصين، وبين ذكر وأنثى، وبجميع البدن، وينتقض به اللامس والملموس، ولا يكون محرمية ولا صغر، والمس يخالفه فيما ذكر. * * * (فصل: يحرم بالحدث) الأصغر ولأكبر، وإن كان الأصغر هو المراد في إطلاق الأئمة غالباً، فإن أرادوا الأكبر .. قيدوه به، أما الناوي .. فإذا أطلقه .. انصرف إلى حدثه الذي عليه؛ نظراً إلى أن الحالة أو الهيئة يقيدان الإطلاق به، وأن رفع الماهية يستلزم رفع كل جزء من أجزائها. (الصلاة) فتحرم على غير دائم الحدث، وفاقد الطهورين ولو نفلاً، وصلاة جنازة (ونحوها) كسجدة تلاوة وشكر وخطبة الجمعة. (والطواف)؛ لخبر: "الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله قد أحل فيه النطق".

(وحمل المصحف) بتثليث ميمه (ومس ورقه) وحواشيه لغير ضرورة، أما لها، كأن خاف عليه تنجيساً أو ضياعاً، وعجز عن الطهارة، واستيداعه مسلماً .. فيجوز؛ لخبر: "لا يمس القرآن إلا طاهر". (و) كالمصحف (جلده) المتصل به، وكذا المنفصل عنه حتى تنقطع نسبته عنه بأن يتصل بغيره، أو يذهب بحرق، أو ضياع عند (م ر). (وخريطته، وعلاقته، وصندوقه) المعدات له وحده (وهو فيه) أي: فيما ذكر من الخريطة وما بعدها، فإن لم تعد له وحده كالخزائن .. حرم مس المحاذي منها للمصحف فقط، أو لم يكن فيها .. لم يحرم حملها، ولا مسها. ومن الصندوق بيت الربعة المعروف، فيحرم مسه وفيه شيء من الأجزاء، ولا يحرم مس الخشب الحامل لبيتها، ولا مس كرسي المصحف على ما نقل عن (سم) في "حاشية المنهاج". (وما كتب لدراسة قرآن) ولو بعض آية مفهماً على ما يأتي (ولو) كان المكتوب منه، أو المس (بخرقة)؛ لشبهه بالمصحف. ومنه: ما يكتب في الألواح ونحوها مما يكتب فيه عادة، فلو كبر كباب كبير وعمود .. جاز مس الخالي عن القرآن منه. ولا يحرم مس ما محي بحيث لا يقرأ إلا بكبير مشقة، ويحرم محو ما كتب من القرآن بالريق؛ لأنه مستقذر، ووضعه على الأرض، وجعل نحو نقد في ورق فيه اسم الله أو قرآن، ووضعه عليه، وجعله وقاية كجلد ولو لما فيه علم أو قرآن عند (حج)، ومسه بمستقذر ولو ريقاً في نحو قلب ورقه وكتابته به. وكره مسه بجزء طاهر من عضو متنجس، وقراءته بفم متنجس، ولبس ما كتب عليه، وأخذ الفأل منه. وخرج بـ (ما كتب للدارسة): ما كتب لغيرها كالتمائم، وما على نحو النقد؛ إذ لم يكتب للدراسة، وهو لا يكون قرآناً إلا بقصده حال الكتابة، والعبرة بالكاتب لنفسه أو

تبرعاً، وإلا .. فبآمره أو مستأجره، وخرج بـ (المصحف) نحو التوراة ومنسوخ التلاوة. (ويحل حمله في) أي مع (أمتعة) أو متاع وإن صغر جداً إن قصد المتاع وحده، وكذا إن قصدهما، خلافاً لـ"التحفة"، وكذا مع الإطلاق عند (م ر). ولا يقصد المصحف وحده، فيحرم، ويحل حمل حامل المصحف عند (م ر) مطلقاً، وعند (حج) فيه التفصيل المذكور. (و) في (تفسير) أكثر منه مع الكراهة؛ للخلاف فيهما، وكذا مع الشك في الأكثر أو المساواة عند (حج)، كالضبة والحرير، ويجري ذلك فيما لو شك هل قصد به الدراسة أو التبرك. وليس من التفسير مصحف حشي من تفسير، كما في "حاشية الفتح" لـ (حج)، وخالفه (م ر)، وحيث كان التفسير أكثر لا يحرم مسه مطلقاً وقال (م ر): (العبرة في الحمل بالجميع، وفي المس بموضعه، فإن كان فيه التفسير أكثر .. حل، وإلا حرم). (و) يحل (قلب ورقه بنحو عود) قال الكردي: (يظهر من كلامهم: أن الورقة المثبتة فيه لا يضر قلبها بنحو العود مطلقاً، وغير المثبتة لا يضر قلبها إلا إن انفصلت على العود عن المصحف). (ولا يمنع الصبي المميز) ولو جنباً وحافظاً (من حمله ومسه للدراسة) وتعلمه فيه، ووسيلتهما كحمله للمكتب؛ لمشقة دوام طهره، أما غير المميز .. فيحرم تمكينه منه، وأما حمل المميز له لغير الدراسة ووسيلتها .. فحرام. (ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة .. بنى على يقينه) وهو الطهارة في الأولى، والحدث في الثانية، باعتبار الاستصحاب، فلا ينافي اجتماع الشك معه؛ وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم الشاك في الحدث عن أن يخرج من المسجد إلا أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. والمراد بـ (الشك) هما وفي معظم أبواب الفقه: التردد مع استواء أو رجحان، وقد

فصل: فيما يندب له الوضوء

يفرقون، كما في القضاء بالعلم والأكل من مال الغير، وركوب البحر، فيصح مع ظن ثبوت الحق ورضا المالك وغلبة السلامة لا مع الشك، وكالطلاق يقع مع الظن لا الشك. * * * (فصل: يستحب الوضوء) لأمور، قال في "الرحيمية": (تبلغ: ثمانية وسبعين). وذلك كخروج الدم السائل (من الفصد والحجامة والرعاف) وغيرها (والنعاس والنوم قاعداً ممكناً، والقيء، والقهقهة في الصلاة، وأكل ما مسته النار، ولحم الجزور، والشك في الحدث) ومس أمرد وصغيرة ومحرم، ونحو شعر وفرج بهيمة، ومس فرج آدمي بظهر الكف، وما بين الأصابع، ومس الأثنين؛ خروجاً من الخلاف في جميع ذلك. (و) ويسن: أيضاً من (الغيبة والنميمة والكذب والشتم والكلام القبيح)؛ إذ الوضوء يكفر الخطايا (والغضب)؛ إذ الوضوء يطفئه (ولإرادة النوم) من طاهر أو جنب، ولليقظة (وقراءة القرآن) وتفسيره (والحديث والذكر) وسماعها (والجلوس في المسجد والمرور فيه، ودراسة العلم) الشرعي وآلته، وسماع ذلك، وكتابته وحمله؛ ليكون فيها على أكمل الأحوال؛ وتعظيماً لها (وزيارة القبور) ولو غير صالحين (ومن حمل الميت ومسه)؛ لاستقذاره، ولقول قديم إن مسه ينقض، ولجماع وإنشاد شعر محرم واستغراق ضحك، وخوف؛ لأنه يذهبه، وللرؤيا المشوشة، ولإزالة شارب وشعر، ولجنب أراد أكلاً أو نوماً أو جماعاً، وشرب لبن الإبل، وركوب بحر، وخطبة غير جمعة، وارتكاب

فصل: في آداب قضاء الحاجة

ذنب كنظر بشهوة، وللوقوف بعرفة، ولسعي، وأذان وإقامة، ولغسل، وللمعيان إذا أصاب بالعين وغيرها. وينوي به في جميع ذلك رفع الحدث، أو فرض الوضوء، أو غيرهما من النيات المعتبرة في الوضوء، كما مر. ولا يصح بنية السبب كنويت الوضوء؛ لقراءة القرآن عن قصد التعليق بها أو لا، بخلاف ما إذا لم يقصده إلا بعد ذكره الوضوء مثلاً؛ لصحة النية حينئذ، فلا يبطلها ما وقع بعد إلا في الوضوء للغسل، فيصح أن ينوي به سنة الغسل. وإدامة الوضوء سنةٌ، ولها فوائد، منها: سعة الرزق، ومحبة الحفظة، والتحصن، والحفظ من المعاصي. * * * (فصل: يستحب لقاضي الحاجة بولاً أو غائطاً) ولو بمحل غير معد. (أن يلبس نعليه، ويستر رأسه) ولو بكمه؛ للاتباع (ويأخذ أحجار الاستنجاء) وإن أراد الاستنجاء بالماء، إذ يسن الجمع بينهما؛ وذلك للأمر بذلك، وحذراً من انتشار النجاسة، ويندب إعداد الماء أيضاً. (ويقدم يساره) أو بدلها (عند الدخول) ولو بغير معد؛ إذ يصير مستقذراً بإرادة قضائها فيه كالخلاء الجديد، وما له دهليز طويل يقدمها عند أوله وعند وصوله لمحل قضائها، وكالخلاء نحو سوق وصاغة، ولا يحرم دخولها إلا إن علم بمعصية فيها حين دخوله، ولم يحتج لدخولها. (ويمناه عند الخروج) فاليسرى للمستقذر، واليمنى لما فيه تكرمة، وكذا ما لا تكرمه فيه عند (حج)، ولو انتقل من شريف إلى أشرف، أو من مستقذر إلى أقذر منه .. قدم اليمنى للأشرف واليسار للأقذر، أو من شريف أو خسيس لمثله .. تخير، والمحل الواحد لا تتفاوت بقاعه. وقال السيد عمر البصري: (يقدم اليمنى للشريف، واليسرى للقذر؛ نظراً لمطلق

الشرف والخسة، تساوياً في الشرف والخسة أم تفاوتاً) ولو جعل نحو مسجد محل معصية .. قدم فيه اليمنى عند (سم)، ونازعه الكردي بقول "الإيعاب": (وكالخلاء الحمام والسوق وإن كان محل عبادة كالمسعى). (وكذا يفعل في الصحراء) فيقدم يساره لمكان قضاء حاجته، ويمناه عند انصرافه. (و) يندب أيضاً: أن (لا يحمل) معظماً كقرآن، والحرمة فيه مع الحدث زائدة على الكراهة وكما علم عدم تبديله من التوراة، وكما كتب فيه (ذكر الله تعالى) أو اسم معظم ولو مشتركاً، كالرحيم إن قصد به المعظم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وسائر أسماء الأنبياء والملائكة، وفي إلحاق صلحاء الأمة بهم خلاف، وحمله المعظم المذكور مكروه وإن غيبه، بل اختار الأذرعي حرمة إدخال المصحف الخلاء. (ويعتمد) ولو قائماً عند (حج) (على يساره) ويضع أطراف أصابع اليمنى بالأرض، ويرفع باقيها؛ لأن ذلك أسهل لخروج الخارج؛ إذ المعدة في الشق الأيسر، والمثانة لها ميل إليه، ولأنه المناسب في الاستقدار. (ويبعد) إن سهل إلى أن لا يسمع لخارجه صوت، ولا يشم له ريح إن كان ثم غيره، بل يسن تغييب شخصه، فإن لم يبعد .. سن لهم الإبعاد عنه. (ويستتر) عن الأعين بما طوله ثلثا ذراع في القاعد، وإلى السرة في القائم، وقد قرب منه ثلاثة أذرع فأقل، ولا بد هنا من كونه عريضاً يمنع رؤية عورته، بخلاف الساتر للقبلة في الصلاة، وكذا في قضاء الحاجة عند (حج). نعم؛ إن كان بمحل مسقف، أو يمكن تسقيفه .. كفى الستر هنا بنحو جدار وإن بعد؛ إذ القصد هنا عدم رؤيته، بخلاف القبلة؛ لقصد تعظيمها وهو لا يحصل بذلك، ولو كان ثم من يحرم نظره لعورته ولم يظن غضه عنها .. وجب الستر ما لم يضطر، ولو تعارض الستر والإبعاد .. وجب الستر، أو الستر والاستقبال .. وجب الستر إن وجب. (ولا يبول) ولا يتغوط (في ماء راكد) لم يستبحر؛ للنهي عنه (و) لا في (قليل جار) كالراكد، فإن فعل .. كره، وفي "المجموع": يحرم إن كان ينجسه؛ إذ فيه إتلاف عليه وعلى غيره، وإمكان طهره بالمكاثرة لا يدفع الإثم؛ إذ لا يحصل إلا بمشقة وقد لا يتيسر، وقد يوقع من لا يعلمه في استعماله فينجسه.

ويكره قضاء الحاجة ليلاً في الماء، كالاغتسال فيه ليلاً لما قيل: إنه مأوى الجن، والكلام في مباح، ومملوك له لم يتعين الطهر به، وإلا .. حرم ذلك فيه مطلقاً، لكن قال (ق ل) بجوازه في مستبحر بحيث لا تعافه نفس ألبتة ولو لغيره أو مسبلاً. ويحرم الاستنجاء بجدار الغير، ويكره البول قرب الماء. (ولا في جحر) وهو الثقب المستدير، وأراد به ما يشمل السرب، وهو المستطيل؛ للنهي عنه، ولأنه مأوى الجن، وقد يكون فيه حيوان فيؤذيه، أو يتأذى هو منه، فإن غلب على ظنه كونه فيه .. حرم، والكلام في غير معد -كما يأتي- ولا يكفي الإعداد بالقصد. (ولا في طريق) مسلوك، وقيل: يحرم التغوط؛ لصحة النهي فيه. نعم؛ المملوك للغير، والمسبل يحرمان فيه، ولا في مستحم لا منفذ له؛ لأنه يجلب الوسواس. (ولا تحت شجرة مثمرة) أي شأنها ذلك ولو في غير وقت الثمر، ما لم يظن مجيء ما يطهر المحل قبل حصولها (يؤكل ثمرها) أو ينتفع به. (ولا يتكلم) حال خروج الخارج ولو بغير ذكر؛ لنهي عنه، وكذا في حال غير خروجه مادام في المعد وإن دخله لغير قضاء الحاجة عند جمع، وإذا عطس .. حمد الله بقلبه فقط، كالمجامع والمؤذن، ويثاب عليه من حيث ما في قلبه من معنى الحمد الدال على تعظيم المولى. (إلا لضرورة) كالتنبيه على ما يخشى من محذور .. فيجب، بل اختار الأذرعي: تحريم القراءة عليه. (ولا يستنجي) في غير معد (بالماء في موضعه)؛ لئلا يصيبه الرشاش، وسن لمستنج بحجر أن يبادر به؛ لئلا يجف، بل قد تجب إذا وجبت الطهارة به؛ ولا ماء يكفيه لها مع الاستنجاء (ويستبرىء من البول) ندباً، وقيل: وجوباً إن ظن عوده بنحو تنحنح ونتر ذكر بلطف إلى أن يظن أنه لم يبق بمجرى الذكر ما يخاف خروجه، ويختلف باختلاف الناس، ولا يتقيد بسبعين خطوة، ولم يجب وإن كان ظاهر حديث: "تنزهوا من البول"؛ لأن الظاهر عدم عوده، ولأنه يمكنه إذا أحس به تلقيه بنحو حجر، ويجوز تجفيف بوله بيده عند (م ر).

(ويقول) ندباً (عند) إرادة (دخوله) للخلاء ولو لغير قضاء حاجة (باسم الله) أي: أتحصن (اللهم إني أعوذ بك من الخبث) -بضم الخاء والباء، وسكونها- جمع خبيث (والخبائث) جمع خبيثة. (وعند خروجه) من بابه أو انصرافه إن لم يكن له باب: (غفرانك) أي: اغفر غفرانك، أو أسألك غفرانك (الحمد الله الذي أذهب عني الأذى، وعافاني)؛ للاتباع. وحكمة ذلك: تسهيل الطعام، وتسهيل خروجه مع عدم قيامه بشكر ذلك كما ينبغي، ويكرر غفرانك مرتين أو ثلاثاً، ويزيد بعده ( ... ربنا وإليك المصير، الحمد الله الذي أذاقني لذته، وأبقى في قوته، ودفع عني أذاه). (ولا يستقبل) عين (القبلة) ببول (ولا يستدبرها) بغائط في غير معد؛ فانه خلاف الأولى إن استتر بساتر، وهو للجالس قدر: ثلثي ذراع فأكثر، وقد قرب منه ثلاثة أذرع فأقل ولو بإرخاء ذيله وإن لم يكن له عرض عند (حج). (ويحرم) الاستقبال والاستدبار (إن لم يكن بينه وبينها ساتر، أو) كان، لكنه (بعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع) بذراع آدمي معتدل (أو) لم يبعد عنه ما ذكر، لكنه (كان أقل من ثلثي ذراع) وإن كان في مسقف؛ تعظيماً للكعبة (إلا في المواضع المعدة لذلك) .. فمباح الاستقبال والاستدبار مطلقاً، لكنهما خلاف الأفضل إن أمكن الميل عن القبلة بلا مشقة، وفيه ما بينته في "الأصل" هنا، وفي مكروهات الصلاة، وهذا التفصيل جمع به الشافعي رحمه الله بين الأحاديث المتعارضة. ولو استقبلها وحول ذكره عنها وبال .. جاز، ولو اشتبهت القبلة ولا ساتر .. وجب الاجتهاد، وإلا .. ندب، ويأتي هنا جميع ما يأتي قبيل الصلاة المحرمة. ومنه: حرمة التقليد لمن يمكنه الاجتهاد، ووجوب تعلم أدلة القبلة، وهذا كله حيث لم يغلبه الخارج أو يضره كتمه، وإلا .. جاز. (ومن آدابه: أن لا يستقبل الشمس ولا القمر) ليلاً بلا ساتر ولو سحاباً؛ لأنهما من

آيات الله الباهرة، فيكره ذلك، بخلاف استدبارهما؛ إذ الاستقبال أفحش. قال الزيادي: (المراد: عند طلوعهما وغروبهما؛ إذ لا يمكنان في غيرهما إلا إن نام على قفاه). (ولا يرفع ثوبه) إلا شيئاً فشيئاً (حتى يدنو من الأرض) فينهي حينئذ رفعه؛ محافظة على الستر، فإن خشي تنجسه .. كشفه بقدر الحاجة. (ولا يبول) ولا يتغوط مائعاً (في مكان صلب)؛ لئلا يترشش، ومن ثم لو دقه بنحو حجر أو جعل فوقه تراباً .. زالت الكراهة. (ولا ينظر) بلا حاجة (إلى السماء، ولا إلى فرجه، ولا إلى ما يخرج منه، ولا يعبث) ولا يأكل ولا يشرب ولا يطيل الجلوس ولا يلتفت يميناً او شمالاً ولا يستاك؛ إذ كل ذلك لا يليق بحالته. (وأن يسبل ثوبه) عند فراغه شيئاً فشيئاً (قبل انتصابه)؛ لما مر. (ويحرم البول) ونحوه (في المسجد ولو في إناء)؛ إذ لا يصلح له، كما في خبر مسلم، بخلاف نحو الفصد؛ لأنه اخف، ولذا عفي عن نحو الدم، لا البول (وعلى القبر) المحترم، وبين قبور نبشت؛ لاختلاطه بأجزاء الموتى، وبقرب قبر نبي، وعلى ما يحرم الاستنجاء به، ومحل نسك ضيق كالمشعر الحرام والصفا لا واسع، كمنى. (ويكره عند القبر) المحترم، وتشتد عند قبر صالح، وقرب جدار مسجد، وبين بياض تخلل بين المزارع؛ لأنه مأوى الجن (وقائماً)؛ للنهي عنه (إلا لعذر) كفقد محل يصلح للجلوس (وفي متحدث الناس). نعم؛ إن كان اجتماعهم على معصية كغيبة .. فلا كراهة (فإذا عطس .. حمد الله) تعالى (بقلبه) ولا يحرك لسانه. * * *

فصل: في الاستنجاء

(فصل) في الاستنجاء، وهو بالحجر من: خصائصنا، من: نجوت الشجرة إذا قطعتها، فكأن المستنجي يقطع الأذى عن نفسه. واصطلاحاً -كالاستجمار والاستطابة-: إزالة الخارج من الفرج بما يأتي، لكن الاستجمار يختص بالأحجار. (ويجب الاستنجاء) لا فوراً، بل عند خوف التضمخ بالنجاسة، وفيما لو علم أنه لا يجد الماء وقت الصلاة، وعند إرادة نحو الصلاة أو دخول وقتها، فوجوبه بدخول الوقت موسعاً ومضيقاً كبقية الشروط. وإنما يجب (من كل) نجس (رطب) ملوث (خارج من أحد السبيلين) ولو نادراً، كدم ولو من نحو حيض، وقليلاً يعفى عنه بعد الحجر؛ إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء؛ للأحاديث، منها: "وليستنج بثلاثة أحجار". وإنما يجزئ (بالماء) على الأصل ولو من زمزم وإن كره به، وتكفي غلبة ظن إزالة النجاسة، وشمها في يده دليل على نجاسة اليد فقط، وهذا إن لم تعسر إزالة النجاسة، وإلا .. لم تجب إزالتها، وإن كانت يزيلها نحو الصابون، وإذا بلت اليد قبل الاستنجاء .. لم يظهر للنجاسة ريح فيها، وينبغي الاسترخاء قليلاً؛ لئلا تبقي النجاسة في تضاعيف شرج المقعدة. (أو بالحجر) وكره من الحرم مع وجوده من غيره. وخرج بـ (النجس): الطاهر كمني وإن سن منه؛ خروجاً من خلاف موجبه منه، قال (ب ج): كمالك؛ بناءً على القول عنده بوجوب غسل النجاسة، لا على قول بسنيته عنده الذي اعتمدوه. وكريح وإن كان المحل رطباً، وبالملوَّث غيره، لكنه يسن منه. وبـ (من أحد السبيلين) خروجه من ثقبة لم تعط حكم الفرج، فيتعين فيها الماء، كقلفة وصلها البول، وفرج امرأة وصل بولها لمدخل الذكر، وإذا جاز بالحجر .. فلا تعين، بل هو (أو) ما في معناه من كل (جامد) بأن لا يكون رطباً، ولا عليه رطوبة (طاهر)

لا نجس ولا متنجس، وإنما طهر الدابغ في جلد الميتة وإن كان نجساً؛ لأن ذلك إحالة. (قالع) ولو حريراً لرجل، ونقداً لم يطبع ولم يهيأ لذلك، والأصح مع الحرمة، لا ما لا يقلع لملاسته أو لُزوجته أو رخوته، أو تناثر أجزائه كتراب. (غير محترم) ولو مغصوباً، ومنه ما علم تبديله وخلا عن معظم من نحو التوراة، وجلد دبغ، أمَّا غير المدبوغ .. فمحترم من مأكول، ونجس من غيره. أمَّا المحترم .. فهو جزء آدمي مطلقاً، أو حيوان متصل به، أو كتب علم شرعي وآلته وجلودها، وما كتب عليه معظم ومطعوم لنا، أو للجن، أو لنا وللبهائم ولو على السواء. نعم؛ ما توقف إزالة النجس عليه، أو كان أسرع في إزالته .. يجوز استعماله في إزالته، كالملح لقطع الدم، ولو شك هل وجدت شروط الاستنجاء فيما استنجى به أم لا؟ أو هل انتقل الخارج أم لا؟ .. لم يضر. (ويسن الجمع بينهما) بأن يقدم الحجر أو ما في معناه ثم الماء؛ ليزيل العين ثم الأثر، لتقل ملابسه للنجس، ويتجه إلحاق سائر النجاسات به، ويحصل أصل السنة. (ولو) كان الجمع (بجامد متنجس) أو نجس، وبعدد (دون ثلاث مسحات) أمَّا كمال السنة .. فلا يحصل إلا بشروط الاستنجاء بالحجر كلها (فإن اقتصر على أحدهما .. فالماء أفضل)؛ لأنه يزيل العين والأثر. (وشرط الحجر) أي: وشروط إجزاء الاقتصار على الحجر أو ما في معناه (أن لا يجف النجس) الخارج كله ولا بعضه، فإن جف شيء منه بحيث لا يقلعه الجامد .. تعين الماء. (و) أن (لا ينتقل) عما استقر فيه عند الخروج، وإلاَّ .. تعين الماء وإن لم يجاوز الصفحة والحشفة على المعتمد؛ إذ لا ضرورة لهذا الانتقال.

(و) أن (لا يطرأ عليه نجس آخر) أي: لا يختلط به غير جنسه، وغير عرق ولو طاهراً، فإن اختلط به ولو بعد استجماره .. تعين الماء، سواء كان رطباً كماء وبول، أم جافاً نجساً كروث، أم طاهراً كتراب، وعند (م ر): لا يضر اختلاطه بالجاف الطاهر. ولو استنجى بالماء ثم بال مع بقاء رطوبة الماء .. تعين الماء؛ لا ختلاطه بأجنبي. نعم؛ لا يضر ماء الطهر بعد الاستجمار، كأن استنجى في دبره بحجر، ثم استنجى في قبله بماء فوصل لدبره. (و) أن (لا يجاوز) الخارج (صفحته) في الغائط، وهي ما ينضم عند القيام (وحشفته) في البول؛ لأن مجاوزة ذلك نادرة، فلا تلحق بما تعم البلوى به، وأن لا يدخل بول المرأة مدخل الذكر؛ لأن الغالب أنَّ بول الثيب يدخل مدخل الذكر، أمَّا البكر .. فالبكارة تمنع دخوله، ويجزئ مسح الدبر بالحجر وإن كان عليه شعر. (و) أن (لا يصيبه الماء) ولا غيره ولو لتطهيره، كما مر. (و) أن (يكون ثلاث مسحات) ولو من حجر واحد، وإن لم يكن بأطرافه .. فلا يجزئ دونها وإن أنقى؛ للنهي عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار، ولا فرق بين مسح الذكر صعوداً ونزولاً، فما في "التحفة": (انه لا يكفي مسحه صعوداً) .. ضعفوه، ولو مسح ذكره بموضع من حجر طويل وجره عليه .. أجزأه على احتمال في المطلب، كما لو جره على حائط. والثلاث إنما تكفي إن أنقى المحل بهن (فإن لم ينق .. وجب الإنقاء) بالزيادة عليهن إلى أن لا يبقى إلاَّ أثر لا يزيله إلا الماء أو صغار الخزف. والأفضل: أن يزيل هذا الأثر أيضاً بماء أو جامد. (وسن الإيتار) إن حصل الإنقاء بشفع؛ للأمر به، لا تثليث الاستنجاء بالحجر؛ لأنهم غلبوا فيه التخفيف، بخلافه بالماء فكسائر النجاسات. (واستيعاب المحل بالحجر) بكل من الثلاث بأن يبدأ بالأول من مقدم الصفحة اليمنى، ويديره قليلاً قليلاً برفق إلى موضع ابتدائه، ويبدأ بالثاني من مقدم اليسرى

كذلك، ويمر الثالث على صفيحتيه ومسربته، فإن احتاج لزائد على الثالث .. فصفة مسحه كالثالث، وفي كل لا يرفع الحجر المتنجس ثم يعيده، وإلاَّ .. تعين الماء، وسن وضع الحجر أولاً على محل طاهر قرب النجاسة، ثم يديره كما مر وفي "الروض" و"شرحه": (ولو أمر الحجر ولم يدره .. أجزأه إن لم ينقل شيئاً، وإلاَّ .. تعين الماء، ومحله في غير النقل الضروري، فيعفى عنه؛ إذ لو كلف عدمه .. لتعذر الوفاء به) اهـ وكلام المصنف يفهم أنه لا يجب تعميم المحل بكل مسحة، وهو المنقول عن الشيخين وغيرهم، لكن اعتمد شيخ الإسلام وأكثر من بعده وجوبه؛ لأن من مسح واحدة يميناً، وثانية يساراً، وثالثة وسطاً، فإنما ذلك في معنى مسحة واحدة. وقد قالوا: إنما وجبت الثلاث؛ استظهاراً، وهو إنما يحصل بتكرير المسح على الموضع الواحد. (و) يسن (الاستنجاء باليسار)؛ للاتباع، فيكره باليمين، وقيل: يحرم؛ للنهي عنه، وإذا احتاج إلى اليدين في استنجائه .. جعل الحجر في يمينه، وأخذ ذكره بيساره، ثم يحركها وحدها. (والاعتماد على) الإصبع (الوسطى في الدبر إن استنجى بالماء)؛ لأنه أمكن. (وتقديم الماء) فيمن يستنجي به (للقبل)؛ إذ لو قدم الدبر .. خشي عود النجاسة إليه، وتقديم الدبر لمن يستنجي بالحجر؛ لأنه يجف قبل القبل، بل كثيراً ما يجف قبل الاستنجاء، فلا يجزئ فيه إلاَّ الماء. (وتقديمه) أي: الاستنجاء (على الوضوء، ودلك يده) التي استنجى بها (بالأرض) أو نحوها (ثم يغسلها بعده) أي: الدلك. (ونضح فرجه، وإزاره) من داخله. (وأن يقول بعده: اللهم طهر قلبي من النفاق) في الاعتقاد والأعمال، (وحصن فرجي من الفواحش)؛ لمناسبته للحال، ولا يضر الشك بعد الاستنجاء في غسل الذكر -مثلاً- أو في تكميل الثلاث المسحات، كما لا يضر في الوضوء، ولو سال عرق

فصل: في موجبات الغسل

المستنجي بالحجر إلى قبله أو دبره .. عفي عنه وعن ملاقيه من الثوب ما لم يجاوز صفحته وحشفته. * * * (فصل) في موجبات الغسل وما يحرم بها. و (الغَسل) لغةً -بفتح الغين أفصح من ضمها-: مصدر غسل، واسم مصدر اغتسل. وبضمها: مشترك بين المذكورين وبين الماء الذي يغتسل به. وبالكسر: ما يغسل به من سدر ونحوه. وأمَّا عند الفقهاء: فإن أضيف إلى السبب كغسل الجمعة .. فالضم أفصح، وكذا غسل البدن، وإن أضيف إلى نحو ثوب .. فالفتح أفصح. وهو بالمعنيين الأولين لغة: سيلان الماء على الشيء. وشرعاً: سيلانه على جميع البدن بنية ولو مندوبة، فيدخل غسل الميت. (موجبات الغسل: الموت) ولو حكماً لمسلم غير شهيد، فدخل السقط البالغ أربعة أشهر وإن لم تظهر فيه أمارة حياة. (والحيض، والنفاس) إجماعاً مع الانقطاع، وإرادة نحو صلاة ولو حكماً، بأن لم يرد فعلها، فينزل طلب الشارع لها منزلة إرادة فعلها، وكذا يقال في الوضوء والتيمم. (والولادة ولو علقة ومضغة) أخبرت قابلة أنهما أصل آدمي (و) لو (بلا رطوبة) قال في "التحفة": (لأن ذلك مني منعقد)، قال الشرقاوي: (هذا يقتضي وجوب الغسل بخروج بعض الولد) وليس كذلك، فالأولى التعليل بأنها مظنة خروج دم النفاس، ثم نزلت المظنة منزلة اليقين، ثم انتقل إلى جعل الولادة موجبة الغسل وإن لم يخرج دم النفاس، وفي "الأصل" هنا ما ينبغي مراجعته. (والجنابة) إجماعاً، وهي لغة: البعد. وشرعاً: تُطلق على أمر اعتباري يقوم بجميع البدن، وعلى المنع من نحو الصلاة، وعلى السبب وهو: خروج المني، أو دخول الحشفة فرجاً، كما أشار إلى ذلك بقوله: (بخروج المني) -بتشديد الياء وقد تخفف- إلى ظاهر الحشفة، وفرج البكر،

وإلى ما يظهر عند جلوس الثيب على قدميها، أي: مني الشخص نفسه ولو ظناً، كأن خرج منها مني الرجل بعد الغسل من جماع قضت شهوتها به؛ إذ يغلب على الظن حينئذٍ اختلاط منيها بمنيه. وإنما تحصل بخروجه أول مرة من طريقه المعتاد، أو منفتح تحت صلب رجل، أي: عظام ظهره من عنقه إلى عجب الذنب، أو ترائب المرأة، أي: عظام صدرها، وكذا من المنفتح فيهما عند (م ر). ولا بد من كونه مستحكماً إن خرج من غير طريقه المعتاد، وأن يكون الأصلي منسداً. نعم، إن خلق الأصلي منسداً .. وجب الغسل بخروج المني مطلقاً ولو من المنافذ عند (حج). (ويعرف) المني -ولو من امرأة ودماً- (بـ) واحدة من خواصه التي لا توجد في غيره وهي: (تدفقه، أو لذة بخروجه، أو ريح عجين) بُرٍّ، أو طلع نخل حال كونه (رطباً، أو) ريح (بياض بيض) دجاج حال كونه (جافاً). وأن خرج بعد الغسل، فإن فقدت هذه الخواص .. فلا يجب الغسل، بخلاف فقد الثخن والبياض في مني الرجل، أو الرقة والصفرة في مني المرأة؛ لأن ذلك فيهما غالب لا دائم، ولو شك أهو مني أو مذي؟ تخير، فإن شاء .. جعله منياً واغتسل، أو مذياً وتوضأ، وغسل ما أصابه منه، وفي "الأصل" هنا ما ينبغي مراجعته. (و) تحصل الجنابة أيضاً على الفاعل والمفعول به غير ميت وبهيمة (بإيلاج الحشفة) من واضح أصلي، أو مشتبه؛ لخبر الصحيحين: "إذا التقى الختانان .. فقد وجب الغسل" أي: إذا تحاذيا، وإنما يتحاذيان بتغييب الحشفة (أو قدرها) من فاقدها (في فرج) أي: بأن يصل إلى ما لا يجب غسله من باطن فرجِ واضحٍ (ولو دبراً)؛ لأنه من الانفراج، فيشمل الدبر كالقبل، سواء كان فرج حيٍّ آدمي أو جني (أو فرج ميت، أو بهيمة) ولو لم تشته كسمكة وإن لم يحصل انتشار ولا إنزال ولو ناسياً أو مكرهاً، أو بحائل كثيف لا فرج خنثى؛ لاحتمال زيادته. نعم؛ إن أولج وأولج فيه .. تحققت جنابته، والميت والبهيمة لا غسل عليهما؛ لعدم تكليفهما، وإنما وجب غسل الميت بالموت؛ إكراماً له.

(و) كتحقق خروج المني بإحساس (رؤية) من يمكن إمناؤه (المني) يقيناً (في ثوبه) الذي لا يلبسه غيره (أو) في (فراش لا ينام فيه غيره) ممن يمكن أن يكون له مني؛ لعدم احتمال كونه من غيره ولو بظاهر الثوب عند (حج)، فيلزمه الغسل، وإعادة كل صلاة فرض صلاها لا يحتمل حدوثه بعدها. (ويحرم بالجنابة: ما يحرم بالحدث) وقد مر. (و) تزيد بحرمة (مكث) مسلم مكلف غير نبي (في المسجد) ورحبته، وهوائه، وجناح بجداره ولو في هواء الشارع، وشجره أصلها فيه، ومكث على فرعها الخارج عنه، وبقعة وقف بعضها مسجداً شائعاً، وتجب قسمتها، وتندب التحية فيها ولو قبل القسمة لا الاعتكاف قبلها. (وتردد فيه) أي: المسجد ونحوه مما مر، ومن التردد: دخول مسجد لا باب له ثان، أو بقصد الرجوع إلى ما دخل منه، لا إن عنَّ له ذلك، ولو دخل بقصد المكث، فمر ولم يمكث .. أثم على قصده لا على المرور؛ وذلك لخبر: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". والتردد يشبه المكث، وإنما يحرمان (لغير عذر) فإن كان عذر، كأن أغلق عليه المسجد أو خاف من الخروج منه .. جاز المكث، ووجب التيمم بتراب لم يدخل في وقفه، أمَّا الكافر وغير المكلف، والنبي .. فلا يحرم عليهم المكث فيه مطلقاً. (وقراءة القرآن) ولو حرفاً منه، وحيث لم يقرأ منه جملة مفيدة يأثم على قصده المعصية، وشروعه فيها، لا لكونه قارئاً وإنما تحرم القراءة بشروط منها: كونها (بقصد القراءة) وحدها أو مع غيرها؛ لخبر: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن"، فإن لم يقصدها، بأن قصد نحو ذكره أو مواعظه أو قصصه أو التحفظ أو التحصن، ولم يقصد معها القراءة .. لم يحرم، وكذا إن أطلق؛ لأنه عند وجود قرينة تقتضي صرفه عن موضوعه كالجنابة لا يكون قرآناً إلاَّ بقصد، ولو بما لا يوجد نظمه في غير القرآن كسورة الإخلاص، لكن تكره به، وفي حالة الإطلاق.

فصل: في صفات الغسل

ومنها: كونها نفلاً، ومن ثم وجبت قراءة (الفاتحة) على فاقد الطهورين في المكتوبة، وقراءة آية في خطبة جمعة. وكونها باللفظ بحيث يسمع نفسه حيث لا عارض، فلا تحرم بالقلب ولا الهمس. وكونها من مسلم مكلف، فلا يمنع الكافر منها إن لم يكن معانداً ورجي إسلامه، ولا الصبي، والمجنون. وخرج بـ (القرآن): نحو التوراة، وما نسخ تلاوته كآية الرجم، والأحاديث القدسية. * * * (فصل: وأقل الغسل) شيئان: أحدهما: النية لغسل حي واجباً كان أو مندوباً؛ إذ المندوب كالمفروض في الواجب من جهة الاعتداد به، وفي المندوب من جهة كماله. نعم؛ يتفارقان في كيفية النية. فيجب في الجنب (نية رفع الجنابة) ذاتها إن أريد بها الأمر الاعتباري، أو المنع من نحو الصلاة، أو حكمها إن أريد سببها، وفي الحائض رفع حدث الحيض. ويرتفع نفاس بنية حيض وعكسه ولو مع العمد ما لم يقصد المعنى الشرعي عند (حج). وفي الولادة: رفع حدث الولادة. ويكفي في الجميع: نية استباحة مفتقر إليه كالقراءة. (أو) ينوي كلٌّ ممن ذكر (فرص الغسل) أو أداء الغسل، أو الغسل، عن نحو الحيض، أو للصلاة، أو الطهارة للصلاة لا الغسل، أو الطهارة فقط؛ لأنه يكون عادة وعبادة، وبه فارق الوضوء. قال (ب ج): (وقد يكون مندوباً، فلا ينصرف للواجب إلا بالنص عليه؛ لأنه لما تردد القصد فيه بَيْنَ أسبابٍ ثلاثة: العادي كالتنظيف، والندب كالعيد، والوجوب كالجنابة .. أحتاج إلى التعيين، بخلاف الوضوء فليس له إلاَّ سبب واحد، وهو

الحدث، فلم يحتج إلى تعيين؛ لأنه لا يكون عادة أصلا، ولا مندوبا لسبب، وليست الصلاة بعد الوضوء سببا للتجديد، وإنما هي مجوزة له فقط لا جالبة له، ولذلك لم تصح إضافته إليها، قاله البرماوي) اهـ (أو رفع الحدث) أو الحدث الأكبر، أو عن جميع البدن، وهما أفضل من الإطلاق، فتجزئ في جميع ما ذكر؛ لتعرضه للمقصود في غير رفع الحدث، ولاستلزام رفع المطلق رفع المقيد فيه، ويأتي هنا ما مر في الوضوء. ومنه: أنه يجب على سلس المني نية نحو الاستباحة، ولا يكفيه نيةُ رفع الحدث، أو الطهارة عنه، وأنه لو نفى من أحداثه غير ما نواه .. أجزأه وأنه لو نوى رفع جنابة الاحتلام وإنما عليه جنابة جماع، أو حدث حيض .. صح مع الغلط، ولو قصد بالجنابة معناها اللغوي -وهو البعد- ارتفع حدث نحو الحيض بنيتها ولو عمدا، ولو نوى الأصغر، وعليه أكبر .. ارتفع حدثه عن أعضاء الوضوء فقط غير رأسه؛ إذ لا مسح في الجنابة. (و) ثانيهما: (استيعاب جميع) ظفره، و (شعره) ظاهراً وباطناً، وإن كثف (و) جميع ظاهر (بشره) وما ظهر من نحو منبت شعره زالت قبل غسل، وصماخ وأنف جدع، وشقوق لا غور لها، وفرج بكر أو ثيب إذا قعدت لقضاء حاجتها، وما تحت قلفة الأقلف إلا باطن فم وأنف وفرج وشعر بباطن أنف أو عين وإن طال، بل لا يسن غسل باطن عين لحدث، بخلافه للنجاسة، فيجب؛ لأنها أغلظ، وإلا باطن عقد شعر، ولا يجب قطعها للمشقة، وبه فارق الضفائر، فيجب نقضها، ولا التيمم عنه. (ويجب قرن النية بأول مغسول)؛ ليعتد به، فلو نوى بعد غسل جزء .. وجبت إعادته، ولو اقترنت بسنة كالسواك .. فكما مر في الوضوء. (وسننه) كثيرة منها: (الاستقبال) والقيام (والتسمية مقرونة بالنية، وغسل الكفَّين) ويفعل أوله ما مر في الوضوء، ويرتب أفعال غسله، فيغسل كفيه، ثم فرجه، وما حوله، ثم يتمضمض ويستنشق غيرهما في الوضوء الآتي، وكره تركهما؛ للخلاف في وجوبهما كالوضوء له، وندب تدارك ما فاته منها ولو بعد الغسل ثم -بعد ما مر- يتوضأ وضوءاً كاملاً بواجباته وسننه، وينوي به رفع الحدث الأصغر وإن تجردت جنابته عنه وإن أخره عن الغسل خروجاً من خلاف القائل بعدم اندراج الأصغر في الأكبر ومن خلاف

القائل إن خروج المني ينقض الوضوء كما بينته في "الأصل". وينبغي لمن يغتسل من نحو إبريق قَرنُ النية بغسل محل الاستنجاء؛ إذ قد يغفل عنه فلا يتم طهره، وإن ذكره .. احتاج إلى لف خرقة على يده، وفيه كلفة، أو إلى المس، فينتقض وضوءه، فيصير على الكف حدث أصغر دون الأكبر، فلا يندرج حينئذٍ، فيحتاج إلى غسلها بنية الوضوء. فالأولى أن ينوي رفع الحدث عن محل الاستنجاء فقط؛ ليسلم من ذلك. (و) منها: (رفع الأذى) الطاهر كمني، والنجس الحكمي والعيني، الذي هو أثر مجرد، وإلاَّ .. وجبت إزالته قبل الغسل. ومنها: أن يخط خطاً إذا اغتسل بفلاة ولم يجد ما يستتر به. ويسن لمن اغتسل عارياً أن يقول: باسم الله الذي لا اله إلا هو؛ لأن ذلك ستر عن أعين الجن، ويجلس بمحل لا يناله رشاش فيه، ولا يدخل الماء بلا مئزر إلى أن يستره الماء. (ثم) بعد الوضوء يندب (تعهد مواضع الانعطاف) كإبط وطِبَق بطن وأذنين، ولم يجب؛ لما مر أنه يكفي غلبة الظن في الطهارة، ويتأكد أن يميل أذنيه على ماء في كفه؛ ليثق بوصوله لباطنهما من غير دخوله صماخيه، وللصائم آكد، بل بحث وجوبه عليه. (وتخليل أصول الشعر ثلاثا بيده المبلولة) كأن يدخل أصابعه العشر في الماء ثم الشعر ولو محرما عند (حج)، لكن برفق؛ لأن هذا -كما قبله- أقرب إلى الثقة بوصول الماء، وأبعد عن الإسراف. (ثم الإفاضة) للماء (على رأسه) للاتباع، ولا يندب فيه التيامن إلاَّ لنحو أقطع لا تتأتى له الإفاضة (ثم) بعد فراغ الرأس تخليلاً، فإفاضةً يفيض الماء على (شقه الأيمن) المقدم منه ثم المؤخر (ثم الأيسر) كذلك.

(والتكرار) لجميع السنن حتى الذكر نظير ما في الوضوء؛ إذ أكثر سننه تجري هنا (ثلاثاً) قال في "التحفة": (يثلث -بالشروط السابقة في الوضوء- تخليل شعر رأسه ثم غسله؛ للاتباع، ثم تخليل شعور الوجه ثم غسله، ثم تخليل شعور البدن ثم غسله؛ قياسا على الرأس، وهذا الترتيب -وان لم أر من صرح به- ظاهر، وتثليث البقية إمَّا بان يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم هكذا ثانية ثم ثالثة، أو يوالي ثلاثة الأيمن ثم ثلاثة الأيسر وقياس الوضوء .. تعين هذه للسنة). وذكر الفرق بين الوضوء والغسل، ثم قال: (وكفى جري الماء ثلاثا إن كان جارياً، وإلا .. تحرك ثلاث مرات) اهـ والأولى تأخير التكرار عن الدلك؛ ليتناول التكرار له. (والدلك)؛ خروجا من خلاف موجبه وكونه في (كل مرة) من الثلاث لجميع البدن، فيستعين لما لا تصل يده إليه بخرقة. قال في" التحفة": (ولا يضر تأخير الدلك عن الغسل ولا تقديمه على الإفاضة). (واستصحاب النية) ذكراً بالقلب في جميعه كالوضوء. (وأن لا ينقص ماؤه عن صاع) في معتدل خلقة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: (كان يغتسل بصاعٍ) فإن نقص أو أسبغ .. كفى، وأما غير المعتدل .. فيزيد وينقص بحسب حاله. (وأن تتبع المرأة) ولو بكراً وخلية (غير معتدة الوفاة) والمحرمة (أثر الدم) حيضاً أو نفاساً (بمسك) بأن تجعله بعد غسلها بنحو قطنة، وتدخلها إلى ما يجب غسله من فرجها؛ للأمر به. وحكمته: تطييب المحل لا سرعة العلوق فقط؛ لاستحبابه لغير مزوجة. أمَّا معتدة الوفاة والمحرمة .. فيحرم عليهما. نعم؛ يسن للمحدة تطييبه بقليل قسط أو أظفار. (ثم) إن لم تجد مسكاً .. سن (بطيب) غيره (ثم) إن لم تجده .. سن (بطين، فإن لم تجده) أو لم تفعله ( .. فالماء كاف) في دفع الكراهة.

مكروهات الغسل

(و) يسن (أن لا يغتسل من خروج المني قبل البول)؛ لئلا يخرج منه مني بعد الغسل، فيجب ثانياً، ولا يندب تجديد غسل، ولا تيمم، بخلاف الوضوء، فيسن لسليم قد صلى به ولو نفلاً، وإلا .. حرم عند (حج). (و) يسن (الذكر المأثور) بعد الوضوء، كما تقدم (بعد الفراغ من الغسل) بأن لا يطول فصل بينهما، مستقبلاً للقبلة. (وترك الاستعانة) بأنواعها الثلاث، وترك التنشيف كما في الوضوء، ومن عليه غسل واجب، بنحو جنابة أو حيض، أو مسنون لنحو عيد وجمعة .. كفاه لهما غسل بنية أحدهما، ويحصل ثواب المنوي، وغيره يسقط طلبه ولا يحصل ثوابه، أمَّا الواجب والمسنون .. فلا يكفي لأحدهما عن الآخر، فإن نواهما بغسل واحد حصلا؛ لأن مبنى الطهارة على التداخل، بخلاف غيرهما. وندب لنحو جنب: أن لا يزيل شيئا من بدنه إلا بعد الغسل؛ لأن الأجزاء تعود إليه في الآخرة، فيعود جنباً؛ تبكيتاً له، ثم تزول عنه ما عدا الأجزاء الأصلية، ويقال: إن كل شعرة تطالب بجنابتها. ثم شرع في مكروهاته بقوله: (ويكره الإسراف في الصب) للغسل من غير مسبل ومملوك للغير، وإلا .. حرم كالوضوء. (والغسل والوضوء في ماء راكد) لم يستبحر؛ لأنه يقذره، وللخلاف في طهوريته. (و) تكره (الزيادة على الثلاث) المحقَّقَة بنية الغسل من غير نحو مسبل، والنقص عنها كما مر جميعه في الوضوء. (وترك المضمضة والاستنشاق) أو أحدهما؛ للخلاف في وجوب كل فيه كالوضوء. (ويكره للجنب الأكل والشرب والنوم والجماع فبل غسل الفرج والضوء)؛ للأمر به

في الجماع، وللاتباع فيما عدا الشرب، وقياساً فيه على الأكل، فإن لم يجد الماء .. تيمم، ويحصل أصل السنة بغسل الفرج. ويلحق بما ذكر إرادة الذكر. والقصد في غير الجماع تخفيف الحدث، فينتقض به، وفيه زيادة النشاط، فلا ينتقض به، وهو كوضوء التجديد والقراءة، فلا بد فيه من نية معتبرة. (وكذا منقطعة الحيض والنفاس) يكره لها ذلك، كالجنب، بل أولى. ويحرم جماع من تنجس ذكره إلا سلساً، ومن يعلم من عادته أن الماء يفتر ذكره. * * *

باب النجاسة وإزالتها

(باب النجاسة وإزالتها) وهي في كلامه بمعنى الأعيان النجسة مجازا، علاقته السببية أو المجاورة. وحقيقتها: وصف يقوم بالمحل يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص، والضمير في إزالتها للنجاسة بهذا المعنى، ففيه استخدام. وأزالتها بالماء من خصائصنا، وكانت في بني إسرائيل بقطع موضع النجاسة من غير الحيوان. وهي هنا لغةً -بمعنى العين- كل مستقذر ولو معنوياً، كالكبر، أو طاهراً شرعاً كالمني. وشرعاً: مستقذر يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص. وعرَّفها المصنف بالعد كالأكثرين؛ لسهولة معرفتها به بقوله: (وهي: الخمر والنبيذ) أي: كل مسكر، أي: شأن نوعه الإسكار، وإن لم يسكر هو بالفعل كقطرة خمر. و (المسكر) هو: ذو الشدة المطربة، ولا يكون إلا مائعاً أصالة، كالخمر وهي: المتخذة من العنب ولو محترمة وهي التي عصرت لا بقصد الخمرية، فإن عصرت بقصدها .. فغير محترمة فتجب إراقتها، ويعتبر تغيير القصد قبل التخمر، وكالنبيذ وهو المتخذ من عصير غير العنب؛ للإجماع على ما قيل في الخمر، وقيس بها النبيذ. أمَّا غير المائع كأفيون وحشيش وكثير عنبر وزعفران .. فطاهرات؛ لأنها مخدرة لا مسكرة، ولذا لم يحرم منها إلا القدر المخدر. قال في "الإمداد": وظاهر كلامهم: أن الخمر المنعقدة نجسة وإن انتفت عنها الشدة المطربة، وهو متجه؛ لأنها لا تطهر إلا بالتخليل ولم يوجد وأن الحشيشة المذابة نجسة إن وجد فيها الإسكار.

(والكلب) ولو معلما؛ لخبر مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". والأصل عدم التعبد، وبقية بدنه كفمة، بل أولى؛ لأنه أطيب الحيوان نكهة؛ لكثرة لهثه. (والخنزير) -بكسر الخاء- كالكلب، قالوا: لأنه أسوأ حالاً منه؛ إذ لا ينتفع به بحال، ولأنه مندوب قتله لغير ضرر، ولا يجب قتله كالكلب العقور إلا لدفع صياله، ويحرم قتل الكلب المعلَّم اتفاقاً، وكذا ما لا نفع فيه ولا ضرر على الأصح. (وما تولد من أحدهما) مع حيوان آخر ولو طاهراً، ولو آدمياً وإن سفل، وكذا إن كان على صورة الآدمي عند (حج)؛ تغليباً للنجس، لكنه مكلف إن كان عاقلاً، فيعفى عنه كالوشم المتعذر إزالته، فيدخل المسجد، ويمس الناس ولو رطباً، ويؤمهم، ويتسرى عند الضرورة، وتحرم ذبيحته ومناكحته، ويفطم عن الولايات ولا ينسب للواطئ، ولا يرث، ولا يورث. (والميتة) -بجميع أجزائها وإن لم تكن لها نفس سائلة- وهي: ما أزيلت حياتها بغير ذكاة شرعية؛ لآية: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ) [المائدة: 3] وتحريم ما ليس محترما، ولا مستقذراً، ولا ضرر فيه دليل على نجاسته. فخرج: موت الجنين بذكاة أمه، والصيد بالضغطة أو الجارحة ولم تدرك حياته، والناد بالسهم؛ لأن ذلك ذكاة شرعية لها. (إلا الآدمي) فميتته طاهرة؛ لتكريمه بالنص ولو كافراً. ومعنى نجاسته في الآية: أن اعتقادهم نجس، أو أن ذواتهم كالنجس في وجوب الاجتناب، وعند مالك وأبي حنيفة: ميتة الآدمي نجسة إلا الأنبياء، والشهداء، وتطهر بالغسل. (و) إلا (السمك والجراد) .. فطاهران؛ لخبر ابن عمر: "أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال". (و) من النجاسة أيضاً: (الدم) -بتخفيف الميم على المشهور- ولو معفواً عنه وإن تحلب من كبد أو طحال، ومنه ما يبقى على اللحم والعظام، لكن يعفى عنه في الأكل وإن اختلط بماء الطبخ وغيره، وكان وارداً على الماء. نعم؛ إن لاقاه لغسله .. اشترط زوال أوصافه قبل وضعه في القدر.

واستثني أيضاً من نجاسة الدم: المسك ولو من ميتة إن تجسد وانعقد، والعلقة، والمضغة، ومني أو لبن خرجا بلون الدم، ودم بيضة لم تفسد. (والقيح) وجدري متغير (والقئ) -بالهمز- ولو صافياً وصل إلى المعدة، وكذا إن لم يصلها وخرج بعد مجاوزة حرف الباطن عند (م ر). (والروث والبول) ولو كانا من طائر أو سمك أو جراد، أو مما لا نفس له سائلة، أو من مأكول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الروث: ركساً وهو شرعاً: النجس، وأمر بصب الماء على البول وفي"الفتح": (وما راثه الحيوان أو قاءه من المتصلب كالحب إن تغير عن حاله قبل البلع ولو يسيراً .. فنجس، وإلاَّ .. فمتنجس) اهـ ويعفى عن بول بقر الدياسة على الحب، ونسج العنكبوت طاهر. (والمذي) -بسكون المعجمة على الأفصح- للأمر بغسل الذكر، أي: رأسه منه، وهو ماء أصفر رقيق غالباً، يخرج عند شهوة ضعيفة، ويقال فيه من المرأة القذى. (والودي) -بسكون المهملة على الأفصح-: ماء ثخين أبيض غالباً، يخرج عقب البول إن استمسكت الطبيعة، أو عند حمل شيء ثقيل. (والماء المتغير السائل من فم النائم) إن تحقق كونه من المعدة، وإلاَّ .. فطاهر، قال في "الفتح": (ولو نتناً وأصفر). نعم؛ يندب غسل ما احتمل أنه منها، ولو ابتلي بما علم أنه منها .. عفي عنه، وكذا ما ابتلي به من دم اللثة. (ومني الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما)؛ لأنه أصلها (ولبن ما لا يؤكل لحمه) ولو من أتان. وفارق منيَه وبيضه بأنهما أصل حيوان طاهر، فكانا طاهرين مثله، واللبن مرباه، والأصل أقوى من المربى. (إلا الآدمي) .. فلبنه طاهر ولو من صغير ذكر ميت، وكذا لبن المأكول وأنفحته، وبيض الميتة المتصلب، وبزر القز، ومترشح حيوان طاهر كعرق، ولعاب وبلغم لا من معدة وماء قروح ونفط لم يتغير ومسك وفأرته المنفصلة من حي وزباد وهو عرق سنور بري.

(وأما مني الحيوان غير الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما والعلقة) وهي دم غليظ استحال عن المني (والمضغة) وهي لحمة صغيرة استحالت من العلقة (ورطوبة الفرج) -أي: القبل- الخارجة مما يصله ذكر المجامع، وهي: ماء أبيض متردد بين المذي والعرق ( .. فطاهرات) من الحيوان الطاهر، أمَّا المني .. فلأنه أصل حيوان طاهر، والعلقة والمضغة كالمني بل أولى؛ لأنها أقرب إلى الحيوانية، والرطوبة كالعرق، لكن قال (سم): (الرطوبة ليس لها قوة الانفصال إلاَّ التي من الباطن، فتكون نجسة) اهـ ومحل طهارة المني إن كان رأس الذكر والفرج الذي خرج منه المني طاهراً، وإلاَّ .. كان متنجساً، وحرم الجماع حينئذٍ كما مر، والغالب أن يسبقه المذي، فينبغي التحرز عنه. (والجزء المنفصل من الحي كميتته) طهارة ونجاسة، فما انفصل من آدمي أو سمك أو جراد .. طاهر، أو من غيره .. فنجس كميتته، إلا فأرة المسك المنفصلة في الحياة ولو احتمالا .. فطاهرة، وإلا لتنجس بها المسك؛ لرطوبته قبل انعقاده. و (إلا شعر المأكول وريشه وصوفه ووبره .. فطاهرات) إن لم يعلم إبانة ذلك بعد الموت، سواء انتف أم جز أم تناثر؛ لآية (وَمِنْ أَصْوَافِهَا) [النحل: 80] وخرج بـ (الشعر) وما بعده: العضو المبان ولو قرناً أو ظلفاً وعليه شعر أو ريش ولو واحدة، فإنه مع شعره أو ريشه نجس ولا أثر لما بأصلها من الحمرة حيث لا لحم به، ولا لشعر خرج من أصله، بخلافه مع قطعة جلد، وإن قلت لكن يعفى عن ذلك في نحو عباءة إن قل. ولو شك في شعر، أهو من مأكول أو غيره؟ أو انفصل من حي أو ميت؟ .. فطاهر؛ إذ الأصل فيه الطهارة، ومثله: العظم، بخلاف قطعة لحم جهل تذكية ما هي منه؛ إذ الأصل فيه عدم التذكية. (ولا يظهر شئ من النجاسات) بغسل مطلقاً ولا باستحالة، وأمَّا ميتة وقعت في ملاحة فصارت ملحاً، أو حرقت فصارت رماداً، أو سرجين صار طينا .. فباقية على

نجاستها، وليست هذه استحالة؛ إذ هي أن يبقى الشئ بحاله، وإنما تتغير صفاته (إلا ثلاثة أشياء) .. فتطهر بالاستحالة على خلاف يأتي في الثالث. (الخمر) أي: المسكر ولو نبيذاً؛ لصحة السلم في خل التمر والزبيب المستلزمة لطهارته، ولا يحمل ذلك على خل لا يستحيل عن نبيذ، كما لو صب العصير في دن عتيق أو على خل أكثر منه .. فإنه يتخلل في هذين من غير تنبذ، كما لو جردت حبات العنب عن عناقيدها وملئ بها دن وطين رأسه .. فيتخلل من غير تخمر؛ أخذاً بإطلاقهم، ولأن ذلك نادر، قال بعضهم: بحسب ما كان، وأمَّا الآن .. فغالبه لم يتخمر. فتطهر الخمر بالتخلل ولو غير محترمة وإن فتح رأسها ونقلت من دن لآخر، ومن شمس لظل، وعكسه، وعَلَت لا بفعل فاعل أو به، ثم غمرت بخمر قبل جفاف ما علا منها، وكذا بعد جفافه، كما في "المغني" (مع إنائها) وغطائه ولو نحو خزف جديد (إذا صارت خلا بنفسها) من غير مصاحبة عين أجنبية؛ لأن علة النجاسة والتحريم الإسكار، وقد زال، ولأن الخل يحل إجماعاً، وهو مسبوق بالتخمر غالباً فلو لم يطهر .. لتعذر حله وحرم اتخاذه، أمَّا إذا تخللت بمصاحبة عين أجنبية نجسة -وإن نزعت قبل التخلل- أو طاهرة واستمرت إلى التخلل، أو تحلل منها شئ .. فلا تطهر؛ إذ النجس يقبل التنجس في الأولى، ولتنجسها بعد التخلل بالعين أو بما تحلل منها فيما بعدها. وخرج بـ (بالأجنبية): نحو حبات العناقيد، فلا ينجس به قال الكردي: يعفى عن حبات العناقيد، ونوى التمر وتفله، وشماريخ العناقيد على المنقول؛ وفاقاً لـ (حج)، وخلافاً لشيخ الإسلام و (م ر) والخطيب. (والجلد المتنجس بالموت) خرج جلد المذكاة والسمك فإنه طاهر قبل الموت وبعده، والمغلظ فإنه نجس قبل الموت فلا يطهر بالدباغ؛ لأنه إنما يطهر النجاسة الحاصلة بالموت من العفونة العارضة به دون الأصلية. (ويطهر) ولو من غير مأكول (بالدبغ) أو الإندباغ (ظاهره) وهو: ما لاقاه الدابغ (وباطنه) وهو: ما لم يلاقه من أحد الوجهين، أو ما بينهما كذا في "التحفة". وفي "النهاية": الباطن ما بطن، والظاهر ما ظهر من وجهيه؛ للأخبار الصحيحة

فصل: في إزالة النجاسة

بذلك، كخبر: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، فيجوز بيعه، وكذا أكله إن كان من مأكول عند (م ر). وشرط الدبغ: أن يكون بحريف ولو نجساً ينقيه من الرطوبات المعفنة له بحيث لا يعود النتن والفساد لو نقع في الماء إليه، فلا يكفي بنحو شمس وتراب وملح وان طاب ريحه؛ إذ لا يزيل عفوناته. وخرج بـ (الجلد): الشعر. نعم؛ قليله يطهر، تبعاً له عند (حج)، ويعفى عنه عند (م ر)، ثم الجلد بعد الإندباغ كثوب متنجس، ولا يضر بقاء أثر الدباغ بعد غسله. (وما صار حيواناً) كالميتة إذا صارت دوداً .. فإنه يتولد من عفوناتها، وهي نجسة؛ وذلك لحدوث الحياة فيه، وفيه نظر؛ إذ ليس قطعيا، بل يحتمل أنه خُلق فيها لا منها، والتمثيل بالمحتمل لا يحسن، وكذا يستحيل الدم مسكاً ولبناً، ومنياً، فيصير طاهراً. * * * (فصل) في إزالة النجاسة، وهي إمَّا مغلظة، وهي نجاسة الكلب والخنزير، أو مخففة، وهي بول الصبي، أو متوسطة، وهي ما عدا ما ذكر، وكل منها إمَّا عينية، وهي ما تدرك بمس أو نظر أو ذوق أو شم، أو حكمية وهي ما لا يدرك بذلك. (إذا تنجس) يقيناً (شيء) جامد ولو نفيساً (بملاقاة) شيء من (كلب أو فرعه) أو فضلته، أو ما تنجس به ولو معضهما من صيد ( .. غسل سبعاً) يقيناً وإن تكررت الملاقاة لذلك، ولنجاسة أخرى معه (إحداهن) في غير التراب، سواء الأولى وغيرها (بالتراب الطهور) بحيث يكدر الماء، ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل، سواء وضع التراب ثم صب الماء، أم مزجهما، ولا بد في التراب من كونه يجزئ في التيمم، لكن يكفي هنا كونه طيناً رطباً؛ لأنه تراب بالقوة؛ للأخبار الصحيحة بذلك وإن اختلف في التي تصاحب التراب؛ لأن في بعض الروايات: "إحداهن"، وهي مبينة للمراد، والنص على الأولى؛ الأكمل، وعلى السابعة؛ للجواز، ولأن القيود إذا تنافت .. سقطت وبقي أصل الحكم. ومزيل العين الشاملة للأوصاف -وقيل: للجرم وحده- غسلة واحدة وإن كثر،

ولا يعتد بالتتريب قبل إزالة العين مطلقاً، ولا قبل إزالة الأوصاف إلا إن أزالها الماء المصاحب للتراب، ويكفي سبع جريات، أو تحريكه سبعاً. وخرج بـ (الجامد) المائع، فإذا تنجس .. تعذر تطهيره -ومرَّ حكم تنجس الماء- وبـ (في غير الترابِ) الترابُ، فلا يجب تتريبه؛ إذ لا معنى لتتريب التراب، لكن لو أصاب نحو ثوب شيء من ذلك .. وجب تتريبه مع التسبيع، وبـ (التراب الطهور) نحو صابون وسدر وسحاقة خزف، والتراب المتنجس والمستعمل والمخلوط بنحو دقيق وإن قل، بحيث يؤثر في التغيير؛ للنص على التراب، وهو طهور، فلا يقوم غيره مقامه. (والأفضل) جعل التراب حيث لا جرم، ولا وصف للنجاسة (في الأولى)؛ لما مر (ثم في غير الأخيرة)؛ لعدم الاحتياج حينئذٍ إلى تتريب ما يصيبه بعد التي فيها التراب؛ إذ لما أصابه من المغلظة .. حكم المنتقل عنه فيما بقي من عدد وتتريب، (والخنزير كالكلب) في جميع ما ذكر. (وما تنجس ببول صبي لم يطعم) بفتح أوله للتغذي (غير اللبن) ولم يجاوز سنتين تحديداً، وقيل: تقريباً ( .. ينضح) النضح: غلبة الماء للمحل بلا سيلان، فإن سال .. فغسل لخبر الصحيحين: "أنه صلى الله عليه وسلم لما بال ابن لأم قيس في حجره .. دعا بماء فنضحه، ولم يغسله"، ولخبر: "يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام". وفرق بينهما بأن الابتلاء بحمل الصبي أكثر، وبأن بوله أرق، فخفف فيه، فإن تناول غير اللبن للتغذي، أو جاوز السنتين .. تعين الماء، فلا يضر تناول نحو عسل للتحنيك أو للإصلاح، ولو أكل غير اللبن للتغذي، ثم اقتصر على اللبن .. غسل من بوله، ولو شك هل بلغ الحولين؟ .. غسل؛ لأن الرش رخصة لا يصار إليها إلا بيقين وقال (ع ش): يرش؛ لأن الأصل عدم بلوغه حولين، ولو وقعت قطرة من بول صبي في ماء مثلاً فأصاب شيئاً .. غسل وجوباً. (وما تنجس بغير ذلك) المغلظ والمخفف من سائر النجاسات ( .. وجبت إزالة عينه وطعمه ولونه وريحه) ويجب نحو صابون، ودلك توقفت إزالة ما ذكر عليه مع طهارة

الغسالة؛ لتلازمهما طهارةً ونجاسةً، كما يأتي. (ولا يضر بقاء لون أو ريح) ولو من مغلظ (عسر زواله) بحيث تصفو الغسالة، ولم يبق إلاَّ أثر محض كريح الخمر. وضابط العسر: أن لا تزول بعد الغسل ثلاث مرات مع الحت والقرص في كلٍّ، ومع نحو أشنان توقفت الإزالة عليه بقول خبير، ووجده بحد غوث أو قرب -بتفصيله الآتي في التيمم- فإن تعذر نحو الصابون .. عفي عنه إلى وجوده، لكن ظاهر"التحفة" أنه يطهر، قال الشرقاوي: (وهو المعتمد). (ويضر بقاؤهما) معاً بمحل واحد (أو الطعم وحده) وإن عسر زوالها؛ لقوة دلالتها على العين ووجبت الاستعانة بما يتوقف زوالها عليه من نحو صابون، فإن تعذر زوالها أو نحو الصابون .. عفي عنها إلى القدرة على إزالتها. والأوجه: جواز طعم المحل إذا ظن طهارته. تنبيه: ظاهر المتن: أنه لا يجب زوال الأوصاف في المخففة، وهو ظاهر الحديث، وقضية كلامهم كما في "الإمداد" واعتمده في "الفتح" و"الايعاب" أيضاً، لكن خالف في"التحفة" كـ"النهاية" وغيرهما، واعتمدوا أنه لا يكفي الرش فيها إلا حيث لا عين ولا وصف لا يزيله الرش. تنبيه آخر: إذا غسل ثوباً متنجساً بنحو صابون حتى زالت النجاسة .. طهر وإن بقي ريح الصابون، قاله الطبلاوي. وقال (م ر): لا يطهر حتى تصفو الغسالة من ريح الصابون، أي: لإمكان استتار ريح النجس في ريحه. ويعفى عما يشق استقصاؤه، والمصبوغُ بعين النجس، أو بما فيه عينها .. لا يطهر حتى تصفو الغسالة من الصبغ، والمصبوغُ بمتنجس لا جرم للنجاسة فيه، ولا وصف كصبغٍ مائعٍ وقع فيه نحو بعرة وشيلت منه .. يطهر ما صبغ به إذا جف وإن لم تصفه غسالته من الصبغ بغمسه في ماء كثير، أو بإيراد الماء عليه، وفاقاً لشيخنا الطبلاوي. انتهى (سم). (وإن لم تكن للنجاسة عين) بأن كانت حكمية لا يدرك لها عين ولا وصف كبول جف، ولا لون ولا ريح ولا طعم له، وكذا عينية لم يبق لها إلا أثر محض، بحيث لو

عصر ما هي فيه لم ينفصل شيء منه، أي: مجرد لون أو ريح، وزال بجري الماء عليه ( .. كفى جري الماء عليها) مرة، ومن ذلك: سكين سقيت نجساً، وحب نقع في بول، ولحم طبخ به، فيطهر باطنها بجري الماء على ظاهرها كما في "التحفة". ويعفى عن الخزف المعمول بنجس، والجبن المعمول بالأنفحة النجسة، والآجر المعمول بالسرجين، ويصح بيع ذلك، وبناء المساجد، وفرش عرصاتها به، والصلاة عليه مع الكراهة. (ويشترط) في طهر المتنجس (ورود الماء القليل) عليه، وإلاَّ بأن ورد المتنجس على الماء .. فينجسه، بخلاف الكثير. وفارق الوارد غيره بقوته بكونه عاملاً، ومن ثم لم يفترق الحال بين المنصب من نحو أنبوب، والصاعد من نحو فوارة. ولو تنجس فمه .. كفاه أخذ الماء بيديه إليه وإن لم يعلها عند (حج)، وحرم بلع شيء منه قبل تطهيره ولو ريقه على احتمال فيه لـ (سم). وتجب المبالغة بالغرغرة عند غسله، وغسل جميع ما في حد الظاهر منه ولو بالإرادة كصب ماء في إناء متنجس وإدارته في جوانبه ولو بعد مكثه مدة قبل الإدارة عند (حج)؛ لأن الإيراد منع تنجسه بالملاقاة، فلا يضر تأخير الإدارة عنها. وهذا في وارد على حكمية أو عينية أزال أوصافها، وإلاَّ فيتنجس الماء مع بقاء الإناء على نجاسته، ولا يجب العصر على الأصح فيما يمكن عصره؛ إذ البلل بعض المنفصل، وقد فرض طهره، والخلاف مبني على أن الغسالة طاهرة أو نجسة، إن قلنا بطهرها .. لم يجب، وإلاَّ .. وجب. (والغسالة) -لنجس ولو معفواً عنه- (القليلة) المنفصلة (طاهرة) غير مطهرة (إن لم تتغير) بأحد أوصافها، ولم يزد وزنها بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء، ويعطيه من الوسخ الطاهر. (وقد طهر المحل) المغسول، بأن لم يبق شئ من أوصافها، بخلاف ما إذا تغيرت أو زاد وزنها أو لم يطهر المحل، كأن بقي فيه أحد أوصافها، ولم تعسر إزالته .. فنجسة

كالمحل؛ إذ البلل الباقي بالمحل بعضها، والشيء الواحد لا يتبعض طهارة ونجاسة، ولا بشكل طهرها بانتقال النجاسة إليها؛ لأنها -عند توفر ما مر من شروطها- قهرت النجاسة فأعدمتها، أمَّا الكثرة .. فلا تنجس إلا بالتغير، وأمَّا قبل انفصالها فطاهرة قطعاً؛ إذ الماء المتردد على الشيء له حكم الطاهر المطهر حتى ينفصل عنه بلا خلاف، ولو وضع في إجَّانة ثوباً فيه نحو دم برغوث، وغسله -ولو بالصب عليه- لا لإزالة دم نحو البرغوث، بل لنحو وسخ .. تنجس الماء بملاقاته، فلا بد بعد زواله من تطهيره، قاله (حج)، وخالفه (م ر) فأفتى بأن ذلك لا يضر، قال: (ومثله: لو غسل رجله عن حدث، وعليها طين شارع متنجس بمعفو عنه، أو توضأ أو أكل رطباً بيده التي فيه دم البرغوث؛ لأن ذلك ماء طهارة .. فلا يضر) اهـ وفي كلام (حج) ما هو صريح فيه؛ فإنه ذكر أن ماء الطهر والشرب ونحوهما ليس بأجنبي، ولا يضر ملاقاته للنجس المعفو عنه. ولو تنجس مصحف بغير معفو عنه .. وجب غسله ولو لصبي وأدى إلى تلفه إن وقع على حروف القرآن. ولو أصاب الأرض نحو بول وجف .. طهر بصب الماء عليه وإن لم يغر. * * *

باب التيمم

(باب التيمم) وهو لغةً: القصد. وشرعاً: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشرائط تأتي. وهو رخصة مطلقاً إلا في العاصي بسفره، فعلى خلاف يأتي، وصح بالتراب المغصوب؛ لأنه آلة للرخصة لا سببها، ومن خصائصنا؛ لخبر: "جعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وتربتها طهوراً"، وفُرض سنة أربع أو خمس أو ست، ويختص بالوجه واليدين وإن كان لحدث اكبر. (يتيمم المحدث والجنب) والحائض والنفساء ومأمور بطهر مسنون عن غير نجس والميت. (لفقد الماء، والبرد، والمرض) أي: لواحد منها، ويكفي في كل منها غلبة الظن. قال في "التحفة": وجعل هذه أسباباً؛ نظراً إلى الظاهر أنها المبيحة له، فلا ينافي أن المبيح له هو: العجز عن استعمال الماء حساً أو شرعاً، وتلك أسباب للعجز. تنبيه: أراد المصنف بالفقد: الحسيّ فقط، لا ما يشمل الشرعي، وإلاَّ .. كان ذكره السببين بعده تكراراً. قال في "التحفة": فالحسي: ما تعذر استعماله حساً، ويؤيده قولهم في راكب بحر خاف من الاستقاء منه: لا إعادة عليه؛ لأنه عادم للماء. ويترتب على كون الفقد هنا حسياً: صحة تيمم العاصي بسفره حينئذٍ؛ لأنه لما عجز عن استعمال الماء حساً .. لم يكن لتوقف صحة تيممه على التوبة فائدة، بخلاف ما إذا كان مانعه شرعياً كعطش ومرض. وعبارة "المجموع": (لا يتيمم لعطشٍ عاص بسفره قبل التوبة اتفاقاً، وكذا من به قروح وخاف من استعمال الماء الهلاك؛ لأنه قادر على التوبة واجد للماء) اهـ فالفقد في كلام المصنف لم يشمل التيمم لنحو الحاجة إلى الماء أو إلى ثمنه، فيكون قد أخل به فلذا كان تعبير "المنهج" بالعجز عن استعمال الماء -أي: حساً أو شرعاً-

أولى؛ لأنه شامل لجميع أسباب التيمم، وجعل في "الروضة" كأصلها أسباب العجز المذكورة سبعة، والأولى كونها: خمسة، أحدها: الفقد الحسي، وقد أشار إليه بقوله: (فإن تيقن) من ذكر من المحدث والجنب (فقد الماء) ولو بخبر عدل عند (م ر)، وإن كان الفقد بفعله كأن أتلف الماء، لا إن باعه في الوقت؛ لعدم صحة البيع ( .. تيمم بلا طلب)؛ لأنه حينئذٍ عبث. (وإن توهم) وجود (الماء، أو ظنه، أو شك فيه) .. وجب طلبه لكل تيمم في الوقت ولو بنائبة الثقة، أو من وقع في القلب صدقه وإن أنابه جمع ولو قبل الوقت؛ لآية (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [النساء: 43]؛ إذ لا يقال لمن لم يطلب: لم يجد، ولأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة مع إمكان الطهر بالماء، وإنما لم يجب طلب المال للحج والزكاة؛ لأنه شرط للوجوب، وهو لا يجب تحصيله، وما هنا شرط للانتقال عن الواجب إلى بدله، فلزم، كطلب الرقبة في الكفارة، وإنما منعت الإنابة في القبلة؛ لأن مدارها على الاجتهاد، وهو يختلف باختلاف الأشخاص، بخلاف الفقد هنا، فإنه حسي لا يختلف. وإنما يحصل الطلب إن (فتش) بنفسه أو نائبه (في منزله وعند رفقته) المنسوبين لمنزله عادة إن جوز وجود ماء عندهم، وبذلهم له ولو بأن ينادي: من معه ماء يجود به ولو بالثمن؛ لا كل القافلة إن فحش كِبرُها، ثم نظر حوليه من الجهات الأربع إن كان بمستو، ويمعن نظره في موضع خضرة وطير، وإلا .. صعد مرتفعاً ونظر (و) إن احتاج لنحو شجر إلى تردد .. (تردد) من كل جهة (قدر حد الغوث) وهو: ثلاث مئة ذراع، (فإن لم يجد) الماء فيما ذكر ( .. تيمم)؛ لتحقق الفقد حينئذٍ، ولو طلبه لفائتة أو نافلة لو لعطش، فلم يجده، فلما فرغ من الطلب دخل وقت حاضرة .. تيمم بلا طلب، ولو مكث موضعه بعد التيمم ولم يتيقن فقد الماء .. وجب الطلب لكل تيمم يطرأ، ولو خفيت عليه بئر عند تيممه، ثم علمها .. فلا قضاء لما صلاه به قبل علمه بها، كما لو ورث ماء، وتيمم مع عدم علمه به. (وإن تيقن وجود الماء) أي: وثق به بحسب العادة، أو بخبر ثقة، أو من وقع في قلبه صدقة ( .. طلبه) وجوباً إن كان (في حد القرب) وهو قرب نصف فرسخ (وهو ستة آلاف خطوة)؛ إذ الفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: أربعة آلاف خطوة، قال

الشرقاوي: وهو بسير الأثقال: إحدى عشرة درجة وربع؛ وذلك أنهم يقصدون ما ذكر لدنياهم من نحو احتطاب، فلدينهم أولى. (فإن كان) الماء (فوق حد القرب) ويسمى حد البعد ( .. تيمم) أي: جاز له التيمم وان علم وصوله في الوقت للمشقة في قصده. (و) لكن (الأفضل) لمسافر، ومثله عار وعاجز عن قيام ومنفرد (تأخير الصلاة إن تيقن وصول الماء) أي: القدرة عليه أو على السترة أو القيام أو الجماعة (آخر الوقت) وقد بقي ما يسع جميع الصلاة وطهرها فيه؛ لما في ذلك من مزيد الفضل، وهذا إن لم تقترن بالتقديم فضيلة كالجماعة يخلو عنها التأخير، وإلاَّ .. فهو أفضل. نعم؛ الأفضل أن يصليها أول الوقت بالتيمم، وآخره بالماء، أمَّا إذا لم يتيقنه .. فالتعجيل أفضل. نعم؛ يسن تأخير لم يفحش عرفاً لظان جماعة، أو غيرها -مما مر- أثناء الوقت. ولو علم ذو النوبة من متزاحمين على بئر أو سترة أنها لا تأتيه إلا بعد خروج الوقت .. صلى بلا إعادة؛ لأنه عاجز حالاً حساً، والقدرة لا تعتبر بعد الوقت، بخلاف من به خبث، وعنده ماء لو غسله به .. خرج الوقت، فيسعى في تطهيره؛ لأنه غير عاجز حالا. وخرج بتقيدي الأفضلية بـ (المسافر) -وهو من بمحل لا يغلب فيه وجود الماء وإن كان مقيما- المقيم وهو من بمحل يغلب فيه وجوده، وإن كان مسافراً .. فيجب عليه التأخير جزماً وإن خرج الوقت. والثاني من الأسباب: الخوف من طلبه، كما قال: (ولا يجب طلبه) أي: الماء (في حد الغوث وحد القرب إلا إذا أمن نفساً) وعضواً وبضعاً (ومالاً) واختصاصاً محترمات ولو لغيره، نعم إن تيقن وجوده .. لم يعتبر الأمن على الاختصاص، والمال الذي يجب بذله لماء الطاهر ثمناً أو أجرة؛ لأنه ذاهب على كل تقدير، والاختصاص وإن كثر دانق خير منه. (و) أمن (انقطاعاً عن الرفقة) وإن لم يستوحش، وفارق الجمعة بأنها لا بدل لها، ولا تتكرر كل يوم.

(وخروج وقت) لصلاة مسافر، وإلاَّ كأن نزل آخره -ولو قصده .. وخاف فوته- تيمم وصلى ولا قضاء، بخلاف من معه ماء لا يحتاج في تحصيله إلى طلب، كأن كان في منزله -ولو فوق حد الغوث- فيستعمله وإن خرج الوقت، وما ليس في منزله ليس في يده، فلا يعد واجداً له وإن قرب، بل يتيمم -كما في "الايعاب" وغيره- إن كان قصده .. يخرج الوقت، لكن في كلام الشرقاوي، و (ب ج) وغيرهما: أنه لو تيقن الماء في حد الغوث، فإنه كالذي معه الماء، فلا يشترط حينئذٍ الأمن على خروج الوقت. ويؤيده قولهم: (ولو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت، والماء بحد القرب ولو قصده خرج الوقت .. تيمم ولا قضاء)؛ لأن ظاهره أن قولهم: (والماء بحد القرب) قيد يخرج به ما لو كان بحد الغوث .. فيجب قصده، أمَّا المقيم .. فيقصد الماء وإن خرج الوقت كالعاصي بسفره، قال (سم): ولو فوق حد القرب ما لم يعد قصده سفرا). (فإن وجد ماء لا يكفيه) لطهره ( .. وجب) عليه (استعماله)؛ إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، وإنما لم يجب شراء بعض الرقبة في الكفارة؛ لأنه ليس برقبة وبعض الماء ماء، والتراب كالماء. (ثم) بعد استعماله في بعض ما يريد تطهيره (تيمم) عن الباقي؛ إذ لا يتحقق الفقد المجوز للتيمم إلا بعد استعماله. نعم؛ الترتيب واجبٌ في محدث، سنة في نحو جنب. ولو كان عليه حدث وخبث، ومعه ما يكفي أحدهما فقط .. قدم الخبث؛ إذ لا بدل له وإن كان مقيما عند (م ر). (ويجب) بعد دخول الوقت (شراؤه) أي: الماء، وكذا التراب ولو ناقصاً، وبمحل لا يسقط به الفرض، وشراء نحو دلو، واستئجاره، كما يلزمه شراء ساتر العورة فإن امتنع صاحبه من بيعه بثمن مثله ولو تعنتا .. لم يجبر عليه لطهر، وأجبر عليه لعطش محترم إن لم يحتجه مالكه لذلك حالاً، وله حينئذٍ مقاتلته عليه، فإن قتله .. فهدر، وإنما يجب ما ذكر لما يكفي الواجب فقط، و (بثمن) أو أجرة (مثله) وهو ما يرغب به زماناً ومكاناً ما لم ينته الأمر لسد الرمق؛ إذ قد تساوي الشربة حينئذٍ دنانير ولا يكلف الزيادة على ذلك وإن قلَّت، نعم؛ الزيادة في المؤجل التي لا تعد فيه غبناً يكلفها، وهذا (إن لم يحتج إليه) أي: الثمن أو الأجرة (لدين) عليه ولو مؤجلاً، و (مستغرقٍ) صفة.

لازمة؛ إذ من لازم الاحتياج إليه لأجله استغراقه (أو مؤنة سفره) المباح ذهاباً وإياباً على التفصيل في الحج. ولذا اعتبرت هنا الحاجة للمسكن والخادم أيضاً، ويعتبر في المقيم الفضل عن يومه وليلته كالفطرة (أو نفقة) أي: مؤنة (حيوان) من آدمي وغيره وإن لم يكن له ولا معه؛ لأن هذه الأمور لا بدل لها، بخلاف الماء (محترم) وهو من حرم قتله كذمي وكلب غير عقور، بخلاف نحو مرتد وحربي وتارك صلاة -بشرطه الآتي- وزان محصن وكلب عقور، فلا يجوز لغير محترم شرب الماء، ويتيمم، ويحتمل خلافه؛ إذ لا يجوز له قتل نفسه، واستقربه في "الايعاب"، نعم إن كان إهداره يزول بتوبته كمرتد .. امتنع عليه شربه؛ لقدرته على التوبة المبيحة لترخصه، بخلاف نحو الزاني المحصن. (ويجب) في الوقت إن تعين طريقاً، ولم يحتجه مالكه، وجوز بذله ولم يضق الوقت عن طلبه (طلب هبة الماء) وقرضه (واستعارة) نحو (دلو) ورشاء وقبولها إذا عرضت عليه؛ إذ لا تعظم المنة فيها ولم ينظروا لاحتمال تلف المعار، ووجوب غرم ثمنه مع زيادته على ثمن الماء؛ لأن الأصل السلامة، فإن لم يطلب أو يقبل .. أثم، ولم يصح تيممه ما دام الماء بحد القرب (دون اتهاب ثمنه) أي: ما ذكر من الماء، ونحو الدلو وأجرته واقتراض ثمن الماء، ونحو دلو؛ لثقل المنة فيه، وساتر العورة -فيما ذكر- كالدلو. المبيح الثالث: الجهل بالماء ونسيانه: فإذا نسي بئراً بمحل نزوله أو ماء في رحلة أو ثمنه أو أضلهما، وتيمم وصلى، ثم تذكره أو وجده .. أعاد الصلاة، وإن أمعن الطلب؛ لوجود الماء مع نسبته إلى تقصير. فإن أضل رحله الذي فيه نحو الماء في رحال، وأمعن الطلب، أو أُدرج في رحله ولم يعلمه، أو خفيت عليه بئر في موضعه، وتيمم وصلى .. فلا إعادة؛ إذ من شأن مخيم الرفقة أنه أوسع من مخيمه، فكان التقصير فيه أبعد، ولا ينافي وجوب القضاء -فيما مر- كونه مبيحاً لجواز التيمم، بل وجوبه معه على أنه يمكن دخوله في فقد الماء، كما يمكن دخول الثاني في الخامس، فترجع الأسباب إلى ثلاثة كما في "المنهاج".

تنبيه: مر عن "التحفة" أن المراد بالفقد الحسي: تعذر استعمال الماء حساً وإن كان موجودا، كما في راكب سفينة خاف غرقاً من أخذه من البحر، وعليه فهذا السبب من الفقد الحسي أيضاً. وأما الثاني .. فمنه شرعي كخوف خروج الوقت، والانقطاع عن الرفقة، ومنه: حسي كالخوف من نحو سبع، لكن نقل (ب ج) عن (ق ل)، و (ح ف): أن ذلك من الشرعي، ويمكن أن يقال: إن نحو السبع مانع حسي من حيث أنه مانع له منه، وشرعي؛ لكون الشرع مانعاً له منه. المبيح الرابع: الحاجة إلى الماء، كما قال: (ولو كان معه ماء يحتاج إليه لعطش حيوان محترم) بأن يخشى عليه من العطش مرضاً أو غيره مما يأتي، وإن كان غير آدمي، أو لغيره، أو لم يكن معه (ولو في المستقبل) وإن ظن وجود الماء فيه ( .. وجب التيمم) وكالاحتياج إليه لعطش الاحتياجُ لبيعه لطعم محترم، أو لنحو دين عليه، أو لغسل نجاسة، ومع الاحتياج إليه لذلك يحرم الطهر به وإن قل ما توهم احتياج محترم في القافلة إليه وإن كبرت جداً، وكثير يتوهمون أن الطهر به حينئذٍ قربة، وهو من إفراط قبحهم وجهلهم، ولا يكلف الطهر به وجمعه لشرب غير دابة؛ لاستقذاره، ويلزمه ذلك لدابة خشي عليها وكفاها الذي استعمله، وكالمستعمل متغير بمستقذر عرفاً، بخلاف المتغير بنحو عرق سوس، يلزمه شربه إن كان يدفع العطش، والتطهر بالماء. ولا يجوز شرب نجس ما دام معه ماء طاهر، بل يشربه ويتيمم، ويجوز سقي الدابة النجس، ويتطهر بالطاهر. وغير المميز كالدابة في اسقائه المستقذر لا النجس، ويجوز لعطشان إيثار عطشان آخر بالماء، ولا يجوز لمحتاج إلى طهر إيثار محتاج آخر إليه بالماء، وإن كان حدثه أغلظ، إذ لا يجوز الإيثار في القرب، لأنها حق لله، بخلاف الشرب فحقه، ومن ظن حاجة غيره إلى الماء مآلاً .. لزمه تزوده له إن قدر، ولا يجوز ادخار ماء ولا استعماله لطبخ، وبلِّ كعك يسهل أكله يابساً، لكن جوّز (م ر) التيمم لاحتياجه لذلك حالاً، والخطيب: جوّزه مطلقاً.

ولو وجد العاصي بسفره الماء، واحتاجه لشربه أو كان به قروح .. لم يتيمم إلا إن تاب. والخامس: أن يخاف من استعمال الماء محذوراً -مما يأتي- ولو متوقعاً، أو في الحضر؛ لآية (وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى) [النساء: 43] أي: وخفتم من استعمال الماء محذوراً (فَتَيَمَّمُوا) [النساء: 43] بقرينة تفسير ابن عباس المرض بالجرح والجدري ونحوهما، كما قال: (ولا يتيمم للمرض) الحاصل أو المتوقع (إلا إذا خاف من استعمال الماء على نفس، أو) مال أو (منفعة عضو) -بضم أوّله وكسره- أي: خاف ذهاب ذلك أو نقصه، كنقض ضوء عين (أو) خاف (طول) مدة (المرض) وإن لم يزد، أو زيادته وإن لم يبطئ (أو حدوث شين قبيح) أي: فاحش كتغير لون أو نحول أو استحشاف أو ثغرة تبقى أو لحمة تزيد، وإنما يؤثر ذلك (في عضو ظاهر) وهو ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين، أو ما لا يعد كشفه هتكاً للمروءة، بخلاف الشين اليسير، كسواد قليل .. وبخلاف العضو الباطن ولو لأمة حسناء تنقص به قيمتها، ثم إن عرف ذلك بالتجربة أو بخبر عدل .. اعتمده، فإن انتفيا، وتوهم شيئا -مما مر- تيمم عند (حج)، وأعاد. (ولا يتيمم للبرد إلا إذا لم تنفع تدفئة أعضاءه) في دفع المحذور المتقدم (ولم يجد ما يسخن به الماء) من إناء وحطب ونار (وخاف على) شيء -مما مر في المرض- من نفس، أو (منفعة عضو) له (أو حدوث) مرض، أو زيادته، أو بطأه أو (الشين المذكور) في المرض، فحينئذٍ يجوز للضرر، لكن عليه القضاء -كما يأتي- فإن نفعته التدفئة، أو قدر على التسخين، أو لم يخف شيئا مما مر في المرض .. لم يتيمم وإن تألم بالماء؛ إذ مجرد التألم لا يبيح التيمم. (وإن خاف) شيئاً -مما مر- (من استعمال الماء) في جميع بدنه أو في جميع أعضاء وضوء المحدث .. وجب تيمم واحد، ولا غسل، أو (في بعض بدنه .. غسل الصحيح) ويتلطف بوضع خرقة مبلولة بقرب العليل ليغسل بقطرها ما حواليه من غير أن

يسيل إليه شيء، وهو غسل حقيقي، فإن تعذر .. أمسَّه ماء بلا إفاضة، وهذه رتبة فوق المسح ودون الغسل جوزت للحاجة هنا بدل الغسل للضرورة. (وتيمم عن الجريح) تيمماً كاملاً (في الوجه واليدين) وإن كان الجرح في غيرهما بدلاً من غسل العليل؛ لئلا يخلو محل العلة عن الطهارة، ويجب أن يمر التراب على محل العلة -حيث لا ضرر إن كان بمحل التيمم- لا مسحه بالماء، لكن يسن، ولا يلزمه وضع ساتر على العليل لكن يسن إن تعذر إمرار التراب على العليل، وإلا .. لم يجز. (فإن كان) مريد الطهارة (جنباً) أو نحوه ممن طلب غسل ولو مندوباً ( .. قدم ما شاء) من غسل الصحيح والتيمم؛ إذ لا ترتيب عليه، والأولى تقديم التيمم؛ ليزيل الماء أثره. (وإن كان محدثاً) حدثاً أصغر ( .. تيمم عن الجراحة وقت غسل العليل)؛ رعاية لترتيب الوضوء، فلا ينتقل عن عضو عليل حتى يكمله غسلاً وتيمماً ومسحاً، فإن كان اليد .. وجب تقديم تيممها ومسحها -كغسلها- على مسح الرأس، وتأخيرهما عن غسل الوجه، وله تقديمهما على غسل الصحيح منها، وهو أولى؛ ليزيل الماء أثر التراب، وتأخيرهما عنه، وتوسيطه بينهما؛ إذ لا ترتيب في العضو الواحد، أو وجهه ويديه، فتيممان، فإن عمت الأعضاءَ الأربعة .. فتيمم واحد؛ لسقوط الترتيب. ولا فرق فيما تقرر بين أن يكون على العليل جبيرة، أو لا، (ثم إن كان عليه جبيرة) وهي ألواح تهيأ للكسر أو الانخلاع تجعل على محله، لكن المراد هنا مطلق الساتر؛ ليشمل نحو اللصوق ( .. نزعها وجوباً) إن أمكن غسل الجرح بالماء، أو أخذت بعض الصحيح، أو كانت بمحل التيمم وأمكن مسح العليل بالتراب. (فإن خاف من نزعها) محذوراً مما مر ( .. غسل الصحيح) حتى ما تحت أطرافها منه، ويتلطف -كما مر- (ومسح عليها) كلِّها في كل طهر وقت غسل العليل بماء إلى أن يبرأ بدلاً عما تحتها من الصحيح، فلو لم يكن تحتها منه شيء .. لم يجب مسحها، لا بتراب -لأنه ضعيف لا يؤثر مع الحائل، بخلاف الماء كما في مسح الخف- ولا بالماء؛ لأنه طهر لما تحتها من الصحيح، ولا شئ منه تحتها، ولو ترشح الساتر

بنحو دم .. عفي عن ماء مسحها كما في "التحفة" وغيرها، خلافاً "للشرح" (وتيمم عما تحتها) من الجريح تيمماً كاملاً (في الوجه واليدين) كما مر. (ويجب عليه) أي: ذي الجبيرة (القضاء) إذا أخذت من الصحيح زائداً على حاجة الاستمساك وخشي شيئا مما مر من نزعها مطلقاً، أو (إذا) أخذت بقدر حاجة الاستمساك فقط، وقد (وضع الجبيرة على غير طهر) كامل، ولو في غير أعضاء الوضوء -عند (م ر) - وتعذر نزعها؛ لفوات شرط الستر من الوضع على طهر كالخف (أو كانت في الوجه واليدين) وإن وضعت على طهر؛ لنقص البدل والمبدل كما في "الروضة" لكن نقل عن "المجموع" ما يخالفه، ولا يجب القضاء إذا لم تكن بأعضاء التيمم، ولم تأخذ من الصحيح شيئاً مطلقاً، أو أخذت منه بقدر الاستمساك فقط، ووضعت على طهر. (ويقضي) وجوباً أيضاً (إذا تيمم للبرد) ولو في السفر؛ لندرة فقد ما يسخن به، أو ما يدثر فيه أعضاءه، وإنما لم يؤمر بالقضاء عمرو بن العاص لما تيمم للبرد؛ لأنه على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز. (أو) إذا (تيمم لفقد الماء في الحضر) أي: في محل يندر فقده فيه، وفيما حواليه من سائر الجوانب إلى حد القرب، والعبرة عند (م ر): بمحل الصلاة، وبمحل التيمم عند (حج)، بخلافه في السفر أي: في محل يغلب فيه فقده، أو يستوي الأمران، فلا قضاء، وكذا لو شك فيه، أهو مما يغلب فيه الفقد، أم لا؟ (و) يقضي أيضاً المتيمم (المسافر العاصي بسفره) كآبق وناشزة في الأصح؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم فيه رخصة أيضاً، فلا يناط بمعصية، وإنما يصح تيممه مع القضاء إن فقد الماء حساً، كحيلولة نحو سبع، فإن فقده شرعاً .. لم يصح تيممه. وخرج بالعاصي بسفره: العاصي بإقامته بمحل لا يغلب فيه وجود الماء، وتيمم لفقده، والعاصي في سفره كأن سرق في سفره المباح، فلا قضاء عليهما، ومقابل الأصح لا قضاء على العاصي بسفره؛ لأنه لمَّا وجب عليه .. صار عزيمة، وفيه فسحة عظيمة؛ إذ قل مسافر غير عاص بسفره. قاعدة تشمل التيمم وغيره وهي:

فصل: في شروط التيمم

أنَّ العذر إمَّا عام -وهو ما يغلب وقوعه- أو نادر، وهو إما دائم .. فلا قضاء في العام والدائم- أو غير دائم، وهو إما قتال، أو فرار مباح، ولا قضاء أيضاً فيهما، أو غيرهما فيجب. * * * (فصل: شروط التيمم) أي: مالا بد منه فيه؛ إذ بعض ما سيذكره أركان (عشرة) بل أكثر؛ إذ منها أيضاً ما لم يذكره، كفقد الماء حساً، أو شرعاً، وعدم المعصية بالسفر في الفقد الشرعي، لكنه قد أشار لذلك فيما مر، أو يقال: هذه ليست شروطاً له؛ لأنها عدمية، والشرط وجودي. الأول: (أن يكون بتراب) على أي لون كان -كالمدر والسبخ وغيرهما- ولو محروقاً بقي اسمه أو مخلوطاً بنحو خل جف وإن تغيرت به أوصافه، وما أخرجته الأرضة من التراب وغير ذلك من كل ما له غبار، حتى ما يتداوى به، وغبار رمل خشن ولو منه، بحيث لا يلصق بالعضو؛ لأن الرمل من جنس التراب، لا من جنس الحجر، فلا يصح بالحجر المسحوق وإن صار له غبار، ولا بما يلصق من التراب بالعضو، لنداوته أو نعومته -نعم؛ رطوبة العضو الضرورية، كمن بلي بدمع عينيه، أو بعرق يصح تيممه- ولا بغير التراب من أجزاء الأرض أو المتصل بها؛ لأن الصعيد في الآية: هو التراب، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكرت في "الشرح" هنا ما ينبغي مراجعته. (و) الثاني: (أن يكون طاهراً) فلا يصح بمتنجس بنحو بول وإن جف، أو بعين نجاسة كتراب مقبرة نبشت؛ لاختلاطه بأجزاء الميت، ولو وقعت نجاسة في جانب من تراب، وجهل محلها منه .. لم يجتهد إلا إن جعله قسمين. (و) الثالث: (أن لا يكون مستعملاً) في حدث -كما بقي في الوجه مثلاً بعد مسحه، أو تناثر منه بعد مسحه به- وكذا في خبث بأن استعمل في سابعة المغلظ، أو فيما قبلها وطهر، ولا يصير مطهراً بغسله في الصورتين؛ إذ وصف الاستعمال لا يزول عنه.

(و) الرابع: (أن لا يخالطه دقيق، ونحوه) وإن قل؛ لأنه لنعومته يمنع وصول التراب إلى العضو. (و) الخامس: (أن يقصده)؛ لآية (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) [النساء:43] أي: اقصدوه بالنقل بالعضو أو إليه ولو بفعل غيره بإذنه ولو صبياً أو كافراً أو حائضاً عند (م ر) ولا بد من نية الآذن (فلو) انتفى النقل كأن (سفته) عليه (الريح، فردده) عليه، أي: على العضو، ونوى ( .. لم يكفه)؛ لانتفاء القصد بانتفاء النقل المحقق له وإن قصد بوقوفه في هبوبها التيمم؛ لأنه لم يقصد التراب، بل التراب قصده. نعم؛ لو نقله بعد ذلك العضو ولو من بعض عضو إلى بعضه الآخر، أو أخذه من الهواء ومسح به مع النية .. كفى. (و) السادس: (أن يمسح وجهه ويديه بضربتين) أي: نقلتين يحصل بكل منهما استيعاب محله، وتكره الزيادة حينئذٍ، فإن لم يحصل الاستيعاب .. وجبت الزيادة؛ لخبر الدارقطني مرفوعاً: "التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين". (و) السابع: (أن يزيل النجاسة) غير المعفو عنها إن كانت على بدنه (أولاً) أي: قبل التيمم إن أمكن، فلو تيمم قبل إزالتها .. لم يصح، سواء نجاسة محل النجو وغيرها؛ لأنه للإباحة، ولا إباحة مع المانع، فأشبه التيمم قبل الوقت، بخلاف ما لو تيمم عارياً وعنده سترة؛ لأن سترة العورة أخف من إزالة النجاسة، ولذا لا إعادة على من صلى عارياً، بخلاف ذي الخبث فإن لم يمكن .. صح تيممه عند (حج)، ويصلي صلاة فاقد الطهورين عند (م ر)، ويجب عليه القضاء عندهما. (و) الثامن: (أن يجتهد في القبلة قبله) فلو تيمم قبل الاجتهاد فيها .. لم يصح عند (حج)، قال: ويفارق ستر العورة بما مرّ -أي: من أنه أخف من الخبث- فكذا هو أخف من ترك القبلة، وإنما صح طهر المستحاضة قبله؛ لأنه قوي أي: لأنه بالماء. (و) التاسع: (أن يقع) التيمم للصلاة التي يريد فعلها (بعد دخول الوقت) ولو ظناً؛ لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبله، بل يتيمم له فيه ولو قبل الإتيان بشرطه كستر وخطبة جمعة.

قال في "التحفة": (وإنما لم يصح التيمم قبل إزالة النجاسة الغير المعفو عنها عن البدن؛ للتضمخ بها مع كون التيمم طهارة ضعيفة؛ لا لكون زوالها شرطاً للصلاة، وإلا لما صح قبل زوالها عن الثوب والمكان، وألحق به الاجتهاد في القبلة -لما مر من وجوب الإعادة فيهما- ويدخل وقت الثانية في جمع التقديم بفعل الأولى، فيتيمم لها بعدها، لا قبلها. نعم إن دخل وقتها قبل فعلها .. بطل تيممه؛ لأنه إنما صح لها تبعاً، وقد زالت التبعية بانحلال رابطة الجمع، وبه فارق ما مر من استباحة الظهر بالتيمم ضحىً لفائتة؛ لأنه ثم لما استباحها .. استباح غيرها تبعاً، وهنا لم يستبح ما نوى الصفة المنوية فلم يستبح غيره وقضيته بطلان تيممه ببطلان الجمع بطول الفصل، وإن لم يدخل الوقت فقولهم: (يبطل بدخوله) مثال، لا قيد، ولو أراد الجمع تأخيراً .. صح التيمم للظهر وقتها؛ لأصالته، لا للعصر؛ لأنه ليس وقتاً لها ولا لمتبوعها، لأنها الآن غير تابعة للظهر) اهـ واستوجه (م ر) جواز صلاته بالتيمم فريضة أخرى، وإن خرج الوقت ويتيمم للفائتة وقت تذكرها، فلو تيمم شاكاً فيها، ثم بانت عليه .. لم يصح، والمنذورة المتعلقة بوقت معين لا يصح لها قبله، وصلاة الجنازة بعد أقل غسله لكن يكره قبل التكفين، والنقل المؤقت بعد دخول وقته، فلا يتيمم لراتبه بعدية إلاَّ بعد فعل الفرض، وذو السبب بعد دخول الوقت الذي تجوز فيه، فيتيمم لتحية مسجد بعد دخوله، ولاستسقاء، وكسوف بعد تجمع أكثر الناس إن أرادها معهم، والاَّ .. فبعد انقطاع الغيث في الأولى وعند أول الانكساف في الثانية. وإنما لم يتوقف العيد والجنازة على تجمع الناس؛ لأن الجنازة مؤقتة بوقت معلوم من فراغ الغسل إلى الدفن، والعيد وقته محدود، فلم يتوقفا على اجتماع بخلاف الكسوف والاستسقاء لا نهاية لوقتهما، فنظر فيهما إلى ما عزم عليه، لكن توقف الرشيدي كـ (سم) في الفرق بين صلاة الجنازة والكسوف، بل هو مؤقت بوقت معلوم كالجنازة، ويتيمم للنفل المطلق أي وقت شاء إلاَّ وقت الكراهة أو قبله؛ ليصلي به فيه. (و) العاشر: (أن يتيمم) ولو صبياً (لكل فرض عيني) ولو نذراً أو غير صلاة -أداء أو قضاء-، لقول ابن عباس: (من السنة أن لا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة)، ولأن الوضوء كان يجب لكل فرض، فنسخ يوم الخندق في الوضوء، وبقي التيمم على ما كان عليه. نعم؛ تمكين الحليل فرض، وله حكم النفل، وخطبة الجمعة فرض كفاية، ولها

فصل: في فروض التيمم

حكم فرض العين؛ رعاية للقول إنها بمثابة ركعتين، وإنما لم يستبح الجمعة -عند (حج) - بنيتها نظراً لكونها فرض كفاية، بخلاف المعادة، فيجمع بينها وبين الأولى بتيمم سواء أسقطت الأولى القضاءَ، أم لا؛ لأن الفرض في الحقيقة أحدهما فقط، ولو نذر أن يصلي أربع ركعات، فإن صلاهن بتحرم واحد .. كفاه تيمم واحد، وإلا .. تيمم لكل ركعتين. وخرج بالفرض العيني: النفل، وفرض الكفاية كصلاة جنازة وإن تعينت، فله أن يستبيح بتيمم واحد ما شاء منهما، وجمع كل منهما مع فرض. * * * (فصل: فروض) أي: أركان (التيمم خمسة: الأول: النقل) للتراب، أي: تحويله من أرض أو هواء إلى العضو الممسوح، وأما القصد .. فداخل في النقل، لكن عدَّه جمع ركناً كالتراب، ولم يعدوا الماء ركناً في نحو الوضوء؛ لعدم اختصاصه به، بخلاف التراب. (الثاني: نية الاستباحة) لما يفتقر إليه، كمس المصحف، والصلاة، وإذا نوى ذلك الأمر العام .. نزل على أدني مراتبه الآتية، ولو تيمم بنية الاستباحة مثلاً ظآناً أن حدثه أصغر، فبان أكبر، أو عكسه .. صح؛ لأن موجَبهما متحد، بخلاف ما لو تعمد ذلك؛ لتلاعبه. ولو كان عليه حدث أكبر وأصغر، وتيمم بنيتهما، أو الأكبر فقط .. كفى لهما، أو بنية الأصغر فقط .. كفى له دون الأكبر. ولا تصح نية التيمم إلا في بدل نحو غسل الجمعة، ولا فرض التيمم -نعم؛ إن نوى به الفرض الإبدالي .. صح واستباح به ما عدا الصلاة، وإن زاد للصلاة .. استباح به ما عدا الفرض، وإن زاد للصلاة المفروضة .. استباح به الفرض وما دونه- ولا رفع الحدث أو الطهارة عنه في نيته ما لم ينو بالحدث المنع، وبرفعه رفعاً خاصاً بفرض ونوافل. (ويجب قرنها بالضرب) أي: النقل؛ لأنه أول الأركان (واستدامتها إلى مسح) شيء من (وجهه) حتى لو عزبت قبل مسح شيء منه .. بطلت وإن استحضرها عنده عند

(حج)؛ لأنه المقصود، والنقل وسيلة له، ولو نقل فأحدث، ثم جدد النية قبل المسح .. صح؛ لحصول النقل ثانياً مع النية (فإن نوى) بتيممه (استباحة الفرض) واحداً أو أكثر ( .. صلى الفرض) أي: استباح به فرضاً واحداً من صلاة أو غيرها ولو نذراً، أو غير ما نواه (والنفل) بأنواعه وإن لم ينو استباحته مع الفرض؛ لأنه تابع، كما إذا أعتق الأم .. فيعتق الحمل، وصلاة الجنازة في رتبة النفل وإن تعينت، وتمكين الحليل وإن كان فرضاً في رتبة مس المصحف، (أو) نوى (استباحة النفل أو الصلاة) أو الطواف (أو صلاة الجنازة) .. استباح به ما دون الفرض العيني من نفل صلاة وطواف وصلاة جنازة، ونحو سجدة تلاوة، وكذا خطبة جمعة عند (حج)، و (لم يصل) أي: يستبح (به الفرض) العيني أصالة، ولو من صبي ومعادة وطواف وداع؛ لأنه كالفرض العيني؛ لأن الفرض العيني أصل، فلا يكون تابعاً للنفل، ولا لمطلق الصلاة؛ إذ الأحوط تنزيلها على النفل، ولا لصلاة الجنازة؛ لأنها اشبهت النفل في جواز الترك، وإن نوى استباحة ما عدا الصلاة والطواف، كمس مصحف وحمله وسجدة تلاوة، ومكث نحو جنب بمسجد وقراءته قرآناً ولو فرضاً، وتمكين حليل .. استباح بكل مما ذكر ما في رتبته، وهو ما ذكر من مس المصحف وما بعده. (الثالث: مسح) جميع (وجهه) السابق في الوضوء إلا ما يأتي؛ أي: إيصال التراب إليه، ولو بنحو خرقة، ومنه ظاهر لحيته المسترسل، والمقبل من أنفه على شفته، ونقل عن أبي حنيفة جواز الاقتصار على أكثر الوجه. (الرابع: مسح يديه بمرفقيهما) كالوضوء؛ للآية، مع خبر الترمذي: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" ولأنه بدل عن الوضوء، فيعطى حكمه في كون اليد إلى المرفقين، واختار النووي وغيره القديم أنه إلى الكوعين. (الخامس: الترتيب بين المسحتين) ولو لجنب، لا بين النقلين، فلو ضرب بيديه، ونقل بيساره قبل يمينه، ومسح بيمينه وجهه، ثم مسح بيساره يمينه .. جاز؛ لأن النقل -وإن كان هنا ركناً كمسح الوجه- وسيلة، وهي يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد. نعم؛ يسن ترتيبه؛ للخلاف القوي في وجوبه.

سنن التيمم

(وسننه: التسمية) أوّله، ولو لنحو جنب (وتقديم اليمنى) على اليسرى (و) تقديم (أعلى وجهه) على أسفله -كالوضوء في جميع ذلك- (وتخفيف الغبار)؛ للاتباع؛ ولئلا يشوه خلقه، ومن ثم لا يسن تكراره، وندب أن لا يمسح الغبار عن أعضاءه إلا بعد الصلاة، وأن لا يرفع يده عن العضو حتى يتم مسحه (والموالاة) فيه بتقدير التراب ماء كالوضوء (وتفريق الأصابع في الضربتين)؛ لأنه أبلغ في إثارة التراب، ولا ينافي ندب التفريق في الثانية نقل ابن الرفعة: الاتفاق على وجوبه فيها؛ لأنه محمول على من لم يرد تخليل الأصابع، والندب على من أراده (ونزع الخاتم)؛ في الضربة الأولى؛ ليكون مسح الوجه بجميع الراحة (ويجب نزع الخاتم في الثانية) عند المسح؛ ليصل الغبار إلى محله، ولا يكفي تحريكه ما لم يتيقن وصول التراب لجميع ما تحته. (ومن سننه: إمرار اليد على العضو) الممسوح كالدلك في الوضوء (ومسح العضد) للتحجيل كالوضوء (وعدم التكرار) للمسح؛ إذ يسن تخفيف الغبار في الأولى، وأن يأتي به على الكيفية المشهورة، (والاستقبال) للقبلة (والشهادتان) وما بعدها كما في الوضوء (بعده) مستقبلاً للقبلة، رافعاً يديه وبصره إلى السماء كالوضوء. وأمَّا مكروهاته .. فمنها: تكثير التراب، وتكرار المسح، وعدم التيامن، وغير ذلك. وأما مبطلاته .. فثمانية: الحدث، والردة، ووجود الماء ولو في صلاة لم تسقط القضاء، وتوهم الماء في غير صلاة، كأن رأى من جوز معه ماء بلا حائل من نحو سبع وعطش، فلو سمع قائلاً يقول: من يريد ماء للشرب .. بطل تيممه؛ للتوهم، بخلاف من يريد للشرب ماء، والقدرة على ثمنه بلا مانع، كدين، وزوال العلة المبيحة للتيمم ولو في صلاة لا تسقط القضاء، لا توهم زوالها، والإقامة أو نيتها وهو في صلاة مقصورة في غير التوهم. ويخالف الوضوء أنه لا يرفع الحدث بمعنى الأمر الاعتباري، ولا يجب إيصال التراب فيه إلى منابت الشعر، ولا يجمع به فرضان ولو من صبي، ولا يصلي به فرض

فصل: في الحيض

عين إذا تيمم لغيره، ولا يجاوز الوجه واليدين، وتبطله الردة، ويجب قصد التراب فيه، ونقله، وضربتان، ولا يصح قبل الوقت، ولا قبل معرفة القبلة، ولا قبل ازلة النجاسة، وتجب الإعادة فيه في صور، ولا يستحب تجديده ولا تثليثه، بخلاف الوضوء في جميع ذلك. (ومن لم يجد ماء ولا تراباً .. صلى الفرض) المكتوب (وحده)؛ لحرمة الوقت، كالعاجز عن نحو السترة، وهي صلاة صحيحة في أحكامها، لكنها تبطل بتوهم التراب ولو بمحل لا يسقط القضاء، كما نقله (سم) عن (م ر)، وتجوز منه أول الوقت وإن رجى أحد الطهورين في الوقت عند (حج). وخرج بالفرض المذكور: النفل ومنه نحو سجدة تلاوة ومس مصحف ونحوه، وقراءة قرآن سوى الفاتحة في الصلاة، ومر أن تمكين الحليل في رتبة مس المصحف، وبالمكتوب: النذر، وبالأداء: القضاء؛ لعدم الضرورة إلى جميع ما ذكر، وصلاة الجنازة كالنفل عند (م ر)، وفي "التحفة": يصلي قبل الدفن، ثم يعيد إذا وجد الماء أو التراب (و) إذا صلى فاقد الطهورين الفرض .. (أعاد) بالماء مطلقاً، أو بالتراب بمحل يسقط به الفرض؛ لأنه عذر نادر لا يدوم، والمراد بالإعادة: ما يشمل القضاء. فرع من "العباب": (وجد فاقد الطهورين في الوقت بعد فعل الصلاة التراب بمحل لا تسقط فيه الصلاة بالتيمم وجب فعلها) اهـ واختار النووي القول: بأن كل صلاة وجبت في الوقت مع خلل، لا تجب إعادتها؛ لأن القضاء بأمر جديد ولم يثبت. * * * (فصل) في الحيض والاستحاضة والنفاس. و (الحيض): دم جبلة يخرج في وقت مخصوص من أقصى الرحم، والأصل فيه آية: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ) [البقرة:222] وخبر الصحيحين: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". (وأقل) زمن (الحيض) -تقطع أو اتصل- أربع وعشرون ساعة، وهي قدر (يوم وليلة) متصلاً بأن تكون لو أدخلت فرجها نحو قطنه .. لتلوثت، وذلك باستقراء الشافعي

فيه وفيما بعده، إذ لا ضابط لشيء من ذلك لغةً، ولا شرعاً، فرجع فيه إلى المتعارف بالاستقراء، فما نقص عن ذلك يقيناً .. فليس بحيض، بخلاف ما بلغه ولو بالشك -كما قاله (م ر) - في العدد، ولو مفرقاً في خمسة عشر يوماً بلياليهن، ولو أصفر أو أكدر؛ إذ كل منهما أذىً، فشملته الآية وإن لم يتقدمه قوي وخالف العادة. (وأكثره) زمناً (خمسة عشر يوماً بلياليها) إن بلغ مجموعه منها قدر يوم وليلة وإن لم يتصل، وهو مع نقاء تخلله حيض إن لم يجاوز مع النقاء خمسة عشر يوماً؛ لأنه حينئذٍ يشبه الفترة بين دفعات الدم، فسحب عليه حكم الحيض. أمَّا الذي لم يبلغ أقله أو جاوز أكثره .. فاستحاضة، وكذا ما أتى قبل تسع سنين أو قبل أقل الطهر. (وغالبه: ست أو سبع). (و) أول إمكان (وقته) ووقت إنزال صبي وصبية (تسع سنين) قمرية ولو ببلاد باردة تقريباً، فيتسامح قبل تمامها بما لا يسع أقل حيض وطهر، ولا آخر لسنه. (وأقل) زمن (طهر) فاصل (بين) زمني (الحيضتين) لا بين حيض ونفاس؛ إذ يجوز أن يكون أقل من ذلك قال (ع ش): (بل يجوز أن لا يكون بينهما طهر أصلاً). (خمسة عشر يوماً بلياليها)؛ لأنه أقل ما ثبت وجوده، ولا حد لأكثره إجماعاً؛ إذ قد لا تحيض المرأة أصلاً، ولو اطردت عادة امرأة، أو أكثر بمخالفة شئ من ذلك .. لم تتبع؛ لأن بحث الأولين أتم، وحمل دمها على الفساد أولى من خرق العادة المستمرة، وإنما خرقوها فيمن رأت الدم بعد سن اليأس، حيث حكموا بأنه حيض؛ لأن الاستقراء هنا أتم منه هناك؛ لعدم الخلاف فيه عندنا، بخلافه ثم. (ويحرم به) أي: الحيض (ما يحرم بالجنابة)؛ لأنه أغلظ، بل يزيد بأنه يحرم به الطهر بنية التعبد في غير نحو نسك وعيد. (ومرور المسجد) أي: فيه (إن خافت تلويثه) ولو احتمالاً؛ احتياطاً له، ومثلها كل ذي خبث يخشى منه تلويثه، فإن أمنته .. كره؛ لغلظ حدثها، وبه فارقت الجنب، وذا الخبث. قال (م ر): (ومحل كراهة عبورها إذا لم تكن لها حاجة إلى العبور).

(والصوم) إجماعاً (والطلاق فيه) لزوجة موطوءة ولو في الدبر، أو في طهر وطئها فيه إن أمكن حبلها إن لم تبذل له مالاً في مقابلة؛ لتضررها بطول مدة التربص؛ إذ ما بقي منه لا يحسب من العدة، ومن ثم لو كانت حاملا بلاحق بالمطلق ولو احتمالاً .. لم يحرم. (والاستمتاع بما بين السرة والركبة) بوطء مطلقاً أو بغيره بلا حائل؛ لآية: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) [البقرة:222]، وخبر: "لك ما فوف الإزار"، كناية عن حل ما بينهما بحائل بغير وطء، وحل غيره مطلقاً، وقيل: إنما يحرم الوطء؛ لخبر: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" لكنه معارض للخبر الأول، فقدم الأول؛ لما فيه من الاحتياط. وعبر بالاستمتاع كـ"الروضة"، وجرى عليه (حج) في غالب كتبه، فشمل النظر واللمس بلا حائل، لكنه يختص بالشهوة. وعبر في "التحقيق" وغيره بالمباشرة المختصة باللمس بلا حائل بشهوة، وبغيرها دون النظر ولو بشهوة. قال الكردي: والأول أوجه. ومحل جواز مباشرة ما ذكر ما لم يعلم من عادته أنه إذا باشر .. وطئ؛ لقلة تقواه وقوة شبقه، وإلا .. حرم. ويجوز تمتع الزوجة بما بين سرته وركبته وإن كانت هي المستمتعة عند (م ر)، ويستمر تحريم ما ذكر إلى أن تغتسل أو تتيمم. نعم؛ الصوم والطلاق والطهر يحل بالانقطاع، ويستحب لمن وطئ في أول الدم أن يتصدق بدينار أو قدره ولو على فقير واحد، وبنصفه أو قدره لمن وطئ في آخره زوجاً كان أو غيره، وهو من الكبائر، وكذا يندب لمن ارتكب كبيرة التصدق بدينار، ولمن ارتكب صغيرة التصدق بنصفه. (ويجب عليها) أي: الحائض (قضاء الصوم) بأمر جديد؛ لأن منعها من الصوم عزيمة، والمنع والوجوب لا يجتمعان (دون الصلاة) إجماعاً فيهما؛ لخبر عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"؛ للمشقة في قضائها، لأنها تكثر، ولم يبن أمرها على التأخير ولو بعذر، بخلاف الصوم، بل يكره قضاؤها عند (م ر)، ويحرم ولا يصح عند (حج). * * *

فصل: في المستحاضة والنفاس

(فصل) في المستحاضة. والاستحاضة: دم علة يخرج من عرق فمه في أدنى الرحم. وتنحصر بأنها: الدم الخارج في غير أوقات الحيض والنفاس، فهي الدم الخارج قبل تسع سنين أو بعدها، ونقص عن قدر يوم وليلة، والزائد على خمسة عشر يوماً بلياليها، والآتي قبل تمام أقل الطهر، أو مع الطلق ولم يتصل بحيض قبله. وقيل: هي المتصلة بدم الحيض فقط، وغيره دم فساد. والاستحاضة حدث دائم، فلا يمنع شيئاً مما يمتنع بالحيض من نحو صلاة ووطء ولو مع جريان الدم. (والمستحاضة) إن لم تستنج بالحجر بشرطه (تغسل) وجوباً (فرجها) من النجاسة (ثم تحشوه) بنحو قطنه وجوباً؛ دفعاً للنجس أو تخفيفاً له (إلا إذا) تأذت به، كأن (أحرقها الدم) .. فلا يلزمها الحشو (أو كانت صائمة) .. فيلزمها تركه، والاقتصار على الشد نهاراً؛ رعاية لمصلحة الصوم، وإنما لم تراع الصلاة هنا، كمن ابتلع بعض خيط وطرفه من خارج حيث يؤمر بنزعه، أو بلعه ويفطر؛ لأن المحذور هنا -وهو النجس- لا ينتفي بالكلية (فإن لم يكفها) الحشو ( .. تعصبه) بعد الحشو (بخرقة) مشقوقة الطرفين على كيفية التلجم المشهور، ولا يضر بعد ذلك خروج الدم، إلا إن قصرت في الشد. (ثم) بعد ما ذكر (تتوضأ أو تتيمم)؛ لوجوب الموالاة عليها في جميع ما ذكر. وإنما يصح الطهر (في الوقت) ولو لنفل لا قبله؛ لأنه طهارة ضرورة كالتيمم. ومن ثم كانت كالمتيمم في تعيين نية الاستباحة، وأنها لا تجمع به بين فرضي عين، ولا تصلي به فرضاً إذا تطهرت لنفل وغير ذلك، لكنها يصح طهرها قبل إزالة النجس. (وتبادر) وجوباً عقب ما مر (بالصلاة) ولو نفلاً؛ تقليلاً للحدث، لكن لا يضر الفصل بدون ركعتين خفيفتين (فإن أخرت) زائداً على ذلك (لغير مصلحة الصلاة) كأكل ( .. استأنفت) جميع ما مر وجوباً وإن لم تزل العصابة عن محلها، ولا ظهر دم

لتكرر حدثها مع استغنائها عن احتماله، بخلاف ما هو لمصلحتها كإجابة مؤذن، وانتظار جماعة من كلِّ كمالٍ مطلوب لأجل الصلاة، فلا يضر وإن خرج الوقت. (وتجب الطهارة، وتجديد العصب) وإن لم يزل عن محله وغير ذلك -مما مر- (لكل فرض) عيني ولو نذراً، ولكل حدث غير حدثها الدائم، ولها مع الفرض ما شاءت من النوافل ولو بعد الوقت. (وسلس البول و) سلس (المذي) والودي والريح والغائط والمني (مثلها) -في جميع ما مر- وذو جرح سائل مثلها في وجوب الشد، وغسل الدم لكل فرض. نعم؛ سلس المني يلزمه الغسل لكل فرض، وبقية أحكام المستحاضة تعلم من المطولات. فائدة: (السلس) بالكسر: الشخص، وبالفتح: المصدر. (وأقل) زمن (النفاس) وهو لغة: الدم الخارج أوله قبل خمسة عشر يوما بعد فراغ الرحم من جميع الولد، ولو علقة أو مضغة فيها صورة خفية؛ إذ لا يسمى ولادة إلا حينئذٍ من النفس، وهو الدم؛ إذ به قوام الحياة، أو لخروجه عقب نفس فأوله من خروج الدم، وإن تأخر عن الولادة .. فزمن النقاء بعد الولادة يلزمها فيه أحكام الطاهرات، لكنه يحسب من الستين (لحظةٌ) أي: ما وجد منه، فهو نفاس وإن قل. (وأكثره) زمناً (ستون يوماً، وغالبه أربعون) يوماً بالاستقراء. (ويحرم به ما يحرم بالحيض) -مما مر- لأنه دم حيض مجتمع قبل نفخ الروح، وبعده يكون غذاء الولد، ولا يؤثر في لحوقه بالحيض مخالفته له في أنه لا تتعلق به عدة، ولا استبراء، ولا بلوغ؛ لحصولها قبله بالولادة، والإنزال الناشئ عنه العلوق. تتمة: يجب على النساء تعلم ما يحتجن من هذا الباب وغيره، فإن كان نحو زوجها عالماً .. لزمه تعليمها، وإلا فليسأل لها ويخبرها، أو لتخرج لتعلم ذلك، وليس لها الخروج لغير تعلم واجب من نحو مجلس ذكر إلاَّ برضاه، وبمحرم أو نحوه معها إن خرجت عن سور أو عمران البلد، بخلاف الواجب فتخرج له ولو غير تعلم ولو وحدها إذا أمنت، والله أعلم. * * *

باب الصلاة

(باب الصلاة) هي اسم مصدر صلى، مأخوذة من صلَيْتُ العود بالنار بالتخفيف إذا عطفته؛ لانعطاف أعضاء المصلي، أو من صلَّيت بالتشديد إذا حركت الصلوين عرقين في جانبي الخاصرتين ينحنيان عند انحناء المصلي. وهي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فالصوم، فالحج، فالزكاة. وهي أيضاً أفضل عبادة البدن، ففرضها أفضل الفروض، ونفلها أفضل النفل، وإنما قدم الطهارة عليها؛ لأنها شرط لها، وهو مقدم طبعاً فيقدم وضعاً. وخرج بعبادة البدن: عبادة القلب، كالإيمان والتفكر والمعرفة والتوكل والصبر ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أفضل من عبادة البدن. وشرعت ليلة الإسراء من غير واسطةِ وحيٍ في أشرف الأوقات والأحوال، ولم يشاركها في ذلك شيء من الواجبات الشرعية. وهي لغة: الدعاء بخير. وشرعاً: أفعال وأقوال مفتتحةٌ بالتكبير، مختتمة بالتسليم غالباً، أو وضعاً فما خرج عن ذلك كصلاة المريض الذي يجريها على قلبه، والأخرس .. فمن غير الغالب أو لعارض، وسميت صلاة؛ لاشتمالها على الدعاء الذي هو صلاة لغة. (تجب) أي: الصلاة المكتوبة، وهي الخمس المعلومة من الدين بالضرورة في كل يوم وليلة، والجمعة في يومها من الخمس، ولم تجتمع لعير نبينا صلى الله عليه وسلم، بل لآدم منها الصبح، ولداوود الظهر، ولسليمان العصر، وليعقوب المغرب، وليونس العشاء. ويجب كل منها بدخول وقته وجوباً موسعاً إلى أن يبقى من وقته ما يسعها مع مقدماتها، فحينئذٍ يضيق. (على كل مسلم) ولو فيما مضى، فتشمل المرتد ذكراً كان المسلم أو أنثى،

بخلاف الكافر الأصلي، فلا يطالب بها في الدنيا؛ لعدم صحتها منه وإن عذب على تركها -كغيرها من فروع الشريعة المجمع عليها- في الآخرة؛ لتمكنه من فعلها بالإسلام. (بالغ عاقل) بلغته الدعوة -لا صبي- وإن لزم وليه أمره بها وصحت منه -ولا مجنون ومغمىً عليه وسكران بلا تعد، ولا من لم تبلغه الدعوة؛ لعدم تكليفهم، ووجوبها على متعد بنحو جنونه، وجوب انعقاد سبب؛ لوجوب القضاء. (طاهر) لا حائض ونفساء وإن استعجلتا ذلك بدواء؛ لأنهما مكلفتان بتركها. (فلا قضاء على كافر) أصلي أسلم؛ ترغيباً له في الإسلام؛ ولآية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38]، أي: من حقوق الله، أما حقوق الآدمي .. فلا تسقط عنه، وكذا بعض حقه تعالى، كما لو زنى وأسلم فلا يسقط عنه الحد، وجزم (م ر) بعدم انعقاد قضاء أيام كفره، قال الكردي: والتحقيق خلافه، بل قوله بانعقاد قضاء الحائض يرد عليه. (إلا المرتد) فيلزمه قضاء أيام ردته حتى زمن جنونه أو إغمائه أو سكره فيها، ولو بلا تعد تغليظاً عليه، بخلاف زمن نحو حيضها؛ إذ إسقاطها عنها عزيمة، فلم تؤثر فيها الردة، وعن نحو المجنون رخصة فأثرت؛ إذ ليس هو من أهلها، وأمر الحائض بترك الصوم مع وجوب قضائه خارج عن القياس؛ اتباعاً للنص. (ولا) على (صبي) ولا صبية لما فاتهما في الصبا؛ لعدم تكليفهما، ويسن قضاء ما فاتهما فيه ولو قبل التميز، على خلاف فيه (ولا) على (حائض ونفساء)؛ لأنهما مكلفان بتركها، ومن ثم قال (حج): (يحرم قضاؤهما) -كما مر- (ولا) على (مجنون)؛ لعدم تكليفه (إلا المرتد) فيلزمه قضاء أيام جنونه؛ تغليظاً عليه (ولا) على نحو (مغمىً عليه) كمعتوه ومبرسم وسكران؛ لعدم تكليفهم، إلا المرتد .. فيلزمه القضاء مطلقاً كما مر، و (إلا السكران المتعدى بسكره) .. فيلزمه قضاء الزمن الذي ينتهي إليه السكر غالباً دون ما زاد عليه من أيام الجنون ونحوه، وفارق المرتد بأن من جُنَّ في ردته .. مرتد في جنونه حكماً، ومن جُنَّ في سكره .. ليس بسكران في دوام جنونه قطعاً.

(ويجب على) نحو (الولي) من كلٍّ من الأبوين وإن علا ولو من جهة الأم، والوجوب على الكفاية، فيسقط بفعل أحدهما؛ لأنه من الأمر بالمعروف، ولذا خوطبت به الأم ولا ولاية لها، ثم الوصي، ثم القيم، ثم الملتقط (والسيد) -والمودع، والمستعير، فالإمام، فصلحاء المسلمين- تعليم المميز من ذكر وأنثى، ما يضطر لمعرفته من الأمور الضرورية التي يشترك فيها العام والخاص وإن لم يكفر جاحدها. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم رسول الله، واسمه محمد بن عبد الله، وأنه من قريش وأمه آمنة، ولونه أبيض وولد بمكة، وبعث بها، وهاجر إلى المدينة ودفن بها، وبيان النبوة والرسالة، وغير ذلك مما لا يسع المكلف جهله. وأول ما يجب: معرفته صلى الله عليه وسلم بوجه، ثم معرفته تعالى بما لا بد منه، بمعرفة عقيدة على مذهب أهل السنة، فأول ما يجب تعليمه المميز ذلك. ثم بعد ذلك يجب (أمر) كل من (الصبي المميز) والصبية المميزة مع التهديد بغير ضرب (بها) أي: الصلاة ولو قضاء، وبغيرها من أمور الشرع الظاهرة ولو سنة، كسواك، وينهاه عن منيهاته (لسبع) أي: عقب تمامها إن ميز وإلا .. فعند التميز، بأن يأكل ويشرب ويستنجي وحده، وإنما لم يجب أمره قبلها؛ لندرة التميز حينئذٍٍ. (و) يجب (ضربه) وضربها (عليها) أي: على تركها أو ترك شيء من واجباتها، أو المجمع عليه من غيرها ضرباً غير مبرح، فإن لم يفد إلا المبرح .. تركه، وسن للمؤدب أن لا يزيد على ثلاث ضربات، ويحرم تبليغه أدنى الحدود (لعشر) أي: ولو في أثنائها عند (م ر)؛ للخبر الصحيح: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، لكن قال "الجمل": التفريق ليس بواجب، والصوم كالصلاة إن أطاقه. وحكمة ذلك: التمرين عليها، ويستحب أمر قن صغير لا يعلم سابيه بها؛ ليألفها بعد البلوغ، واحتمال كفره إنما يمنع الوجوب فقط، ويستمر طلب ما ذكره الى بلوغه رشيداً. ويجب ضرب زوجة كبيرة على نحو ترك الصلاة إن أمن نشوزاً، والصغيرة وجوب تعليمها على الأبوين، فإن عدما .. فالزوج، وبجوز للولي استخدام صغير وإعارته، وكذا الأجنبي، كما في "تشييد البنيان" فيما لا يقابل بأجرة؛ لمسامحة الشرع بذلك.

(وإذا) زال مانع إيجاب الصلاة، كأن (بلغ الصبي) أو الصبية (أو أفاق المجنون أو) نحو (المغمى عليه أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء قبل خروج الوقت ولو بتكبيرة) أي: بقدر زمن يسع تكبيرة (التحرم) فأكثر ( .. وجب القضاء) لصلاة ذلك الوقت إن لم يمكنه الأداء في الوقت أو الأداء إن أمكنه. وإنما يجب (بشرط بقاء السلامة من الموانع بقدر ما يسع الطهارة) وكذا بقية شروط الصلاة عند (حج)، قال: نعم الصبي والكافر لا يحتاجان إلى الشروط في الوقت؛ لإمكان تقديمها على زوال مانعها. (و) بقدر زمن يسع تلك (الصلاة) بأخف ممكن منها، كركعتين للمسافر وإن أراد الإتمام؛ تغليباً للإيجاب، كما لو اقتدى قاصر بمتم لحظة .. لزمه الإتمام. (ويجب) أيضاً (قضاء ماقبلها إن جمعت معها) كالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لاتحاد الوقتين في العذر، ففي الضرورة أولى (بشرط بقاء السلامة من الموانع) بعد زوال العذر (قدر الفرضين) بأخف ممكن. (والطهارة) عن النجس والحدث وإن تعددت كما في طهر الضرورة، ولا بد أن يسع مع ذلك مؤداة وجبت، فلو بلغ، ثم جن -مثلاً- قبل ما يسع شيئاً من الفروض المذكورة .. فلا وجوب وإن زال الجنون عن قرب. ولو أدرك ركعة من العصر -مثلاً- فعاد المانع بعد ما يسع المغرب .. وجبت فقط؛ لأنها صاحبة الوقت، وما فضل لا يكفي للعصر، هذا إن لم يشرع فيها قبل الغروب، وإلا .. تعينت عند (حج). ولو أدرك من العصر قدر ركعتين، ومن المغرب كذلك .. وجبت العصر عند (حج)، ولم تجب واحدة منهما عند (ر م). ولو أدرك ما يسع العصر والمغرب مع الطهارة دون الظهر .. تعين صرفه للمغرب والعصر، وسقط الظهر، وكذا يقال فيما لو أدرك آخر العشاء، فقس عليه. ولو أدرك أول العشاء قدر ثلاث ركعات .. لم تجب هي، ولا المغرب.

فصل: في مواقيت الصلاة

(ولو) طرأ مانع، كأن (جن أو حاضت أو أغمى عليه أول الوقت) أو أثناءه، واستغرق المانع باقيه ( .. وجب) بعد زوال المانع (القضاء) لصلاة ذلك الوقت (إن مضى) منه (قدر الفرض مع الطهر) له (إن لم يمكن تقديمه) كتيمم وطهر سلس؛ لأنه أدرك من وقتها ما يمكن فعلها فيه، فلا يسقط بما طرأ، بخلاف طهر يمكن تقديمه، فلا يشترط اتساع ما أدركه من الوقت إلا للفرض؛ لأنه يمكن تقديمه، وقد عهد التكليف بالمقدمة قبل الوقت، كالسعي إلى الجمعة قبل وقت الجمعة على بعيد الدار، وإنما لم يؤثر هنا إدراك ما لا يسع الفرض؛ بخلاف نظيره آخر الوقت -كما مر؛ لإمكان البناء على ما فعله فيه بعد خروجه، بخلافه هنا، ولا تجب الثانية هنا وإن اتسع لها وقت الخلو من زمن الأولى، بخلاف عكسه السابق؛ لأن وقت الأولى لا يصلح للثانية إلا إذا صلاهما جمعاً، بخلاف العكس، كأن أدرك ركعة من الظهر في وقتها، وباقيها في وقت العصر، فتقع أداءً مع أن غالبها في وقت العصر، ويجب مع قضاء ذات الوقت المذكورة قضاء فرض قبلها إن صلح جمعه معها، ومضى من الوقت قدرهما بأخف ممكن من فعل نفسه، وقدر طهر لهما إن لم يمكن تقديمه، وصورة ذلك أن يستغرق وقت الأولى مانع، فيزول ويطرأ مانع آخر في وقت الثانية بعد مضي زمن يسعهما مع طهر لم يمكن تقديمه، كما يقع في ذي جنون تقطع. * * * (فصل) في مواقيت الصلاة، والأصل فيها: خبر جبريل المشهور. (أول وقت الظهر) وهو لغة: ما بعد الزوال. واصطلاحاً: اسم للصلاة المفعولة حينئذٍ، سميت بذلك؛ لأنها أوّل صلاة ظهرت، أو لفعلها وقت الظهيرة، أي: شدة الحر وتسمى الأولى أيضاً، وصلاة الهجيرة عقب (زوال الشمس) إجماعاً. و (الزوال): ميل الشمس عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بالاستواء باعتبار ما يظهر لنا، وإلا .. فالزوال يتحقق قبل ذلك، لكن لا حكم له حتى لو وافق التحرم أول ميلها في نفس الأمر، وقبل ظهوره لنا .. لم يصح، وكذا باقي الصلوات؛ إذ التكاليف لا ترتبط إلا بما دخل تحت الحس.

(وآخره مصير ظل كل شيء مثله غير ظل) الشمس الموجود عند (الاستواء) في غالب البلاد، وقد ينعدم في بعضها كمكة وصنعاء في بعض الأيام، قال في "العباب": (وهو يوم واحد، وهو أطول أيام السنة) وقال الشرقاوي: (ينعدم في أربعة وعشرين يوماً قبل أطول أيام السنة، وبعده كذلك). والظل لغة: الستر، واصطلاحاً: أمر وجودي يخلقه الله لنفع البدن وغيره، تدل عليه الشمس في الدنيا، أمّا الآخرة .. فلا شمس فيها، والفيء أخص منه؛ لأنه الظل بعد الزوال. والشمس في السماء الرابعة، وقيل: في السادسة، وهي أفضل من القمر؛ لكثرة نفعها، وما ذكر هو الوقت الكلي للظهر (ولها) كغيرها أوقات أخر غير الوقت الكلي من حيث التسمية، وإلا .. فهي أجزاء للوقت الكلي، ومجموع تلك الأوقات سبعة تجري كلها في جميع الصلوات إلا الصبح فليس له وقت عذر، وإلا الظهر فليس له وقت كراهة، فالظهر لها ستة أوقات، وهي: (وقت فضيلة) وسيأتي بيانه (أوله ثمّ) بعده وقت (اختيار) لكن قال الكردي: (المعتمد أن لها ستة أوقات ترجع لخمسة، وقت فضيلة أوله، ووقت جواز إلى ما يسع كلها وهو وقت الاختيار، ووقت حرمة وهو القدر الذي لا يسع كلها بأخف ممكن من فعل نفسه، وضرورة وهو ما تقدم، وعذر وهو وقت العصر لمن يجمع) اهـ فالراجح أنه من أوله ويمتد (إلى آخره)، وقال الشرقاوي: (المعتمد أن الاختيار والفضيلة والجواز تشترك في أول الوقت، فإذا مضى قدر الفضيلة .. خرج وقتها، وبقي وقت الاختيار إلى نصف الوقت تقريباً، فيخرج ويبقى وقت الجواز، فتشترك الثلاثة مبدأً لا غاية إلا المغرب .. فتشترك مبدأ وغاية) اهـ (وأول وقت العصر) وهو لغة: الدهر، واصطلاحاً: الصلاة المخصوصة، ولها أسماء أخر: صلاة البرد والوسطى. وهي أفضل الصلوات بعد الجمعة كما يأتي في صلاة الجماعة. وسميت بذلك؛ لمعاصرتها، أي: مقارنتها وقت الغروب (إذا خرج وقت الظهر) وهو: مصير ظل كل شيء مثله (وزاد قليلاً) على ظل الاستواء؛ إذ المصير من وقت

الظهر، بأدنى زيادة عليه تظهر لنا -لا في الواقع فقط- يدخل وقت العصر؛ لخبر مسلم: "وقت الظهر ما لم يحضر العصر" وليست هذه الزيادة فاصلة بين الوقتين، بل من العصر، لكن لا يكاد يُعرف وقته إلا بمضيها، ويبقى إلى الغروب وإن تأخر عن وقته المعتاد كرامة. (ولها أربعة أوقات) بل سبعة: وقت (فضيلة أوله، واختيار إلى مصير الظل مثلين) غير ظل الاستواء. قال الكردي: (وتقدم في الظهر أن وقت الاختيار هو وقت الجواز، وهما هنا متغايران -وسيأتي في المغرب اتحاد وقت الفضيلة والاختيار ابتداءً وانتهاءً فيها- وفي غيره متغايران، فتلخص أن للاختيار ثلاثة إطلاقات وإن قال في "التحفة": إطلاقان) اهـ (ثم) بعدهما وقت (جواز) بلا كراهة (إلى الاصفرار، ثم كراهة إلى آخره) أي: بقاء ما لا يسعها، ثم حرمة وعذر وضرورة. (وأول وقت المغرب: الغروب) لجميع قرص الشمس. والغروب لغة: البعد، والمغرب: وقت الغروب. واصطلاحاً: الصلاة المخصوصة بعد غروب جميع الشمس، وتسمى أيضاً صلاة الشاهد -وسيأتي في الصيام ما له تعلق بالغروب- ويعرف بزوال الشمس من رؤوس الجبال، وبرؤية الظلام من جهة المشرق، بخلاف الصبح فيخرج بطلوع بعضها. (ويبقى حتى يغيب الشفق) في القديم؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة فيه، منها: خبر مسلم: "وقت المغرب مالم يغب الشفق" والشفق هو الحمرة، فقوله: (الأحمر) صفة مؤكدة كعشرة كاملة، وإطلاقه على الأصفر والأبيض مجاز، وقدر المؤقتون مغيبه لعشرين درجة من المغيب، ولو تقدم مغيبه عن ذلك وتأخر .. قال الشرقاوي: اعتمد مشايخنا ما وقتوه، و (ب ج): المعتمد أن العبرة بمغيبه. ولها وقت فضيلة أوله وهو أيضاً وقت الاختيار والجواز، ثم وقت الكراهة، ثم

الحرمة، وأمَّا العذر .. وقت العشاء لمن يجمع. (وهو) أي: غيبوبة الشفق الأحمر (أول وقت العشاء) -بكسر العين والمد- لغة: اسم لأوّل الظلام سميت به الصلاة المخصوصة؛ لفعلها فيه. ويسن تأخيرها إلى مغيب الشفق الأصفر والأبيض خروجاً من الخلاف. (ولها ثلاث أوقات) بل سبعة (وقت فضيلة أوله ثم) بعد وقت الفضيلة -على ما مر من الخلاف- وقت (اختيار إلى ثلث الليل) الأول (ثم) بعدهما وقت (جواز) بلا كراهة إلى الفجر الكاذب، ثم بكراهة إلى بقاء ما لا يسعها، ثم حرمة (إلى الفجر الصادق) ولها وقت عذر وضرورة. (وهو) أي: الفجر الصادق (المنتشر ضؤوه) من جهة المشرق فقط (معترضاً بالأفق) أي: نواحي السماء، وقبله يطلع الكاذب مستطيلاً أعلاه أضواء من باقيه، ثم تعقبه ظلمة، ثم يطلع الصادق مستطيراً وبينهما خمس درج، وقد يتصل بالصادق، وكلاهما بياض شعاع الشمس عند قربها من الأفق الشرقي. (وهو) أي: الفجر الصادق (أول وقت الصبح) -بضم الصاد، وحكي كسرها- أول النهار لغة، واصطلاحا: الصلاة المخصوصة؛ لخبر مسلم: "وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" سميت بذلك؛ لفعلها فيه، وتسمى أيضاً الفجر والبرد، والوسطى على قول. (ولها أربعة أوقات) بل ستة (فضيلة أوله، ثم اختيار إلى الإسفار) أي: الإضاءة بحيث يميز الناظرُ القريبَ منه؛ لأن جبريل صلاها ثاني يوم كذلك (ثم جواز إلى الحمرة، ثم كراهة) إلى أن يبقى من وقتها ما لا يسعها، ثم حرمة، ولها وقت ضرورة لاعذر. وهي نهارية شرعاً، وليلية حقيقة، ولذا طلب الجهر فيها، وهي عند الشافعي الصلاة الوسطى، لكن صحت الأحاديث أنها العصر، ومذهبه اتباع الحديث.

(ويكره تسمية المغرب عشاء، والعشاء عتمة)؛ للنهي عن ذلك (ويكره)؛ لخوف الفوات (النوم قبلها) بعد دخول وقتها، ولو وقت المغرب لمن يجمع، كأن ينام بعد المغرب قليلاً لا يمنع الجمع؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام (كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها)، قال ابن صلاح: والكراهة تعم سائر الصلوات، ومحل جوازه حيث غلبه بحيث صار لا يميز، ولم يمكنه دفعه وحينئذٍ فلا كراهة حيث كان عازماً على الفعل، أو غلب على ظنه تيقظه، وقد بقي من الوقت ما يسعها، وإلاَّ .. حرم بخلاف النوم قبلها، فلا يكره، بل لو قصد به حينئذٍ عدم فعلها في الوقت .. لم يحرم على المعتمد؛ لأنه غير مخاطب بها حينئذٍ. (و) يكره (الحديث) وسائر الصنائع (بعدها) ولو مجموعة تقديماً، لكن استوجه (حج)، و (م ر) عدم كراهته إلابعد دخول وقتها، فيكره خوف فوات صلاة الليل، وأول وقت الصبح، وليختم عمله بأفضل الأعمال. أما قبلها: فإن فوت وقت الاختيار .. كان خلاف الأولى، ولا يكره وإن خيف منه ما مر؛ إذ الخوف على ذلك بعد فعلها أكثر (إلا في خير)، كقراءة ومطالعة علم وإيناس نحو أهل أو ضيف ولو فسقه. نعم؛ لو قصد إناسهم لفسقهم .. حرم، وكتكلم بما دعت حاجته إليه كحساب، فلا كراهة في ذلك؛ لأن ذلك خير ناجز، فلا يترك لمفسدة متوهمة؛ لخبر عمران بن الحصين: (كان صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عامة الليل)، ولما كانت الصلاة أفضل موضوع، وكان أفضلها فعلها أول وقتها المسمى بوقت الفضيلة .. أشار لذلك بقوله: (وأفضل الأعمال) البدنية بعد النطق بالشهادتين المدخول في الإسلام بهما (الصلاة) ففرضها أفضل الفروض، ونفلها أفضل النوافل؛ لخبر أبي داوود: "استقيموا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، ولخبر: "الصلاة خيرٌ موضوعٌ"، أما القلبية .. فأفضل من البدنية، وأفضلها معرفة الله، ثم العلم بالواجبات العينية. وأفضل أحوال الصلاة -من حيث الوقت مع عدم العذر- أن تقع (أول الوقت) يقيناً ولو عشاء؛ لأنه من المحافظة عليها المأمور بها في آية (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) [البقرة:238]؛ وللخبر الصحيح: "أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها" وخبر: "أسفروا

بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وخبر: (كان يستحب أن يؤخر العشاء) معارَض؛ بأن تعجيلها هو الذي واظب عليه صلى الله عليه وسلم، ولأن المراد بالإسفار ظهوره يقيناً، لكن الأقوى دليلاً تأخير العشاء إلى ثلث الليل، وروى ابن عمر مرفوعاً: "الصلاة في أول وقتها رضوان الله، وفي آخره عفو الله". والعفو إنما يكون للمقصرين. (ويحصل ذلك) الفضل الذي سببه التعجيل (بأن يشتغل بأسباب الصلاة) كطهر، وستر، وأذان (حين دخل الوقت) أي: عقب دخوله، فلا يشترط لذلك تقدمها عليه وإن كان هو الأفضل، ولا العجلة على خلاف العادة، بل لو أخر متطهر بقدرها .. لم تفته فضيلته، ولا يضر التأخير لعذر كأكل خفيف أو كثير يؤثر فقده في الخشوع، وتقديم راتبة وغير ذلك من كل كمال اقترن بالتأخير دون التقديم، فالتأخير -حينئذٍ لمن أراد الاقتصار على صلاة واحدة- أفضل. (و) من ذلك أنه (يسن التأخير عن أول الوقت للإبراد بالظهر) دون الجمعة؛ لأن الناس مأمورون بالتبكير إليها، فلا يتأذون بالحر، ولأن تعجيلها فيه مراعاة للمبكرين، وفي التأخير مراعاة لغيرهم، والمبكرون أولى بالمراعاة، وما في الصحيح من (الإبراد بها)؛ بيان للجواز، ودون الأذان، والأمر بالإبراد به محمول على الإقامة، أو لبيان الجواز. ولندب الإبراد شروط كونه (في الحر) الشديد، وفي وقت الحر، و (بالبلد الحارة) وإن خالفت قطرها، وكونه (لمن يصلي جماعة) و (في موضع بعيد) مسجد أو غيره ولو مع وجود قريب أقل جماعة من البعيد بأن يحصل بالإتيان إليه مشقة تذهب الخشوع أو كماله؛ لكونهم يمشون في الشمس؛ لخبر: "إذا اشتد الحر .. فأبردوا، فإن شدة الحر من فيح جهنم"، دل بفحواه: أنه لابد من الشروط المذكورة، فلا يسن الإبراد في غير شدة الحر ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد أو معتدل وإن اتفق فيه شدة الحر؛ إذ الفقهاء لا ينيطون الأحكام بالنادر ولا لمن يصلي منفرداً أو جماعة بمحل لا يتأذون بالحضور إليه. نعم؛ يسن الإبراد لمنفرد يريد الصلاة بالمسجد، ولمسافرين؛ لشدة مشقة الحر بالبرية، ولمن حضر موضع الجماعة أول الوقت، أو أقام به ينتظر جماعة تبعاً لهم،

والأفضل: أن يصلي أول الوقت منفرداً، ثم وسطه جماعةً (إلى حصول الظل) الذي بقي من الشمس، وغايته نصف الوقت (و) منه أنه يسن التأخير أيضاً (لمن تيقن) وجود الماء، أو (السترة آخر الوقت)؛ لزيادة فضل الصلاة معهما (ولمن تيقن الجماعة آخره) بحيث يبقى منه ما يسعها لذلك (وكذا لو ظنها، ولم يفحش التأخير) عرفاً، ويحتمل ضبطه بنصف الوقت. وخرج بـ (بالظن): الشك، فلا يندب له التأخير مطلقاً (و) أنه يسن أيضاً (للغيم) ونحوه مما يمنع العلم بدخول الوقت (حتى يتيقن) دخول (الوقت) بنحو رؤية شمس، أو إخبار ثقة (أو يخاف الفوات) للصلاة، ويندب أيضاً لمن يرمي الجمار، ولمسافر وقت الأولى، ولحاج تأخير مغرب مع العشاء إلى مزدلفة، وغيرها ذلك. (ومن صلى ركعة) بأن فرغ من السجدة الثانية (في الوقت .. فهي) أي: الصلاة كلها (أداء، أو) صلى فيه (دونها .. فقضاء) سواء آخر لعذر، أم لا؛ لخبر الشيخين: "من أدرك ركعة من الصلاة .. فقد أدرك الصلاة" أي: مؤداة، واختصت الركعة بذلك؛ لاشتمالها على معظم أفعال الصلاة؛ إذ ما بعدها تكرير لها، فجعل ما بعد الوقت تابعاً لها بخلاف ما دونها. (ويحرم تأخيرها) أي المكتوبة والمنذورة لغير عذر (إلى أن يقع بعضها) ولو التسليمة الأولى (خارجة) أي: الوقت وإن وقعت أداء. قال المدابغي: ولو أدرك آخر الوقت، بحيث لو أدى الفريضة بسنتها فات الوقت، ولو اقتصر على الأركان أدركها فيه .. فالأفضل أن يتم السنن، فالأحوال ثلاثة، تارة يبقي ما يسعها بسننها، فالمد -حينئذٍ- خلاف الأولى، وتارة يبقي ما يسع واجباتها فقط، فالمد مندوب، وتارة يبقي ما لايسع واجباتها، فيحرم. * * *

فصل: في الاجتهاد في الوقت

(فصل: ومن جهل الوقت) لنحو غيم ولم يمكنه معرفته ( .. أخذ) وجوباً (بخير ثقة) ولو عدل رواية (يخبر عن علم) كمشاهدة، وسماع مؤذن ثقة عارف بالمواقيت، أذّن في صحو ولم يعلم أن أذانه عن اجتهاد، فأذانه حينئذٍ من الإخبار عن علم، سواء سمعه بنفسه، أم أخبره به ثقة، فإن أمكنه معرفة الوقت .. تخير بين الأخذ بخبر الثقة، وتحصيل العلم به بنحو خروجه لنحو شمس، لكن يمتنع الاجتهاد مع الأول دون الثاني؛ لأن فيه مشقة عليه في الجملة، وأما غير الثقة .. فلا يؤخذ بخبره. وإن وقع في القلب صدقة؛ لأن الشارع ألغاه مطلقاً فيما يدخله الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد أقوى منه، وكذا خبر ثقة عن اجتهاد، فلا يأخذ به إلا أعمى بصر أو بصيرة؛ إذ المجتهد لا يقلد، فإن فقد المخبر عن علم .. أخذ إما بأذان مؤذنين كثروا يوم الغيم -بحيث يغلب على الظن إصابتهم-، أو بأذان ثقة عارف بالمواقيت في يومه ولم يكن أذان من ذكر عن اجتهاد. (أو) باجتهاد بنحو (صياح) نحو (ديك مجرب) بإصابة الوقت أو بغيره -مما يأتي- أو حسابه إن كان عارفاً به، ويجوز تقليده عند جمع، لغلبة الظن بجميع ذلك. (فإن لم يجد) ما ذكر من الإخبار عن علم ( .. اجتهد) وجوباً؛ لتعينه طريقاً (بقراءة أو حرفة) كخياطة أو ورد أو صياح نحو ديك (أو نحو ذلك) من كل ما يظن به دخول الوقت. وقال الكردي: (الرتب ستة: الأولى: إمكان معرفة يقين الوقت، الثانية: وجود مخبر عن علم، ثالثها: دون الإخبار عن علم، وفوق الاجتهاد، وهي: المناكيب والساعات المجربة، والمؤذن الثقة في الغيم، ورابعها: إمكان الاجتهاد من البصير، خامسها: إمكانه من الأعمى، سادسها: التقليد. فصاحب الأولى مخير بينها وبين الثانية إن وجدها، وإلا .. فبينها وبين الثالثة إن وجدت، وإلا .. فبينها وبين الرابعة، وصاحب الثانية لا يعدل لما تحتها، وصاحب الثالثة مخير بينها وبين الإجتهاد، وصاحب الرابعة لا يقلد، وصاحب الخامسة مخير بينها وبين التقليد)، وقد أشار المصنف إلى هذه بقوله:

(ويتخير الأعمى) القادر على الاجتهاد (بين تقليد ثقة) عارف (والإجتهاد)؛ نظراً لعجزه في الجملة، وإنما امتنع عليه التقليد في الأواني عند عدم التحير؛ لأن الإجتهاد هنا يستدعي أعمالاً مستغرقة للوقت، ففيه مشقة ظاهرة بخلافه ثم، وعلم من كلامه حرمة الصلاة، وعدم انعقادها مع الشك في دخول الوقت؛ إذ لابد من دخوله يقيناً أو ظناً، وإلا كانت باطلة؛ لأن مبنى العبادة على نفس الأمر وظنّ المكلف، وإذا اجتهد وظن دخول وقت صلاة وصلاها .. (فإن) تبين له مطابقته للواقع .. فذاك، أو أنها وقعت بعد الوقت .. صحت قضاءً، أو لم يتبن له شيء .. مضت صلاته على الصحة ظاهراً، أو (تيقن) وقوع (صلاته قبل الوقت) .. وقعت له نفلاً مطلقاً؛ لعذرة، ولم تقع له عن الصلاة التي نواها؛ لوقوعها بدون شرطها، وهو الوقت و (وجب قضاؤها) إن علم بعد الوقت في الأظهر، فإن علم في الوقت .. وجب إعادتها فيه إتفاقاً. تنبيه: ظاهر المتن أن صياح الديك في رتبة الإخبار عن علم، وليس كذلك، بل هو مما يجتهد به، كما بينته في "الأصل". (ويستحب المبادرة بقضاء الفائتة) بعذر كنوم ونسيان لم يتعد بهما؛ تعجيلاً لبراءة الذمة، وللأمر به. (و) يندب أيضاً ترتيب الفوائت مطلقاً و (تقديمها) إن فاتت بعذر (على الحاضرة التي لا يخاف فوتها وإن خاف فوت الجماعة فيها) أي: الحاضرة على المعتمد خروجاً من خلاف من أوجب الترتيب، ولا يرد أن أحمد يوجب الجماعة عيناً؛ لأنها ليست شرطاً للصحة عنده على الأصح، بخلاف من يوجب الترتيب كالحنفية، فكان رعاية خلافه أولى، وإن كان الترتيب عندنا سنة، والجماعة فرض كفاية. نعم؛ لو لم يقم الشعار لجماعة الحاضرة .. لم يبعد تقديمها على الفائته؛ لتعين الجماعة عليه أمّا إذا خاف فوت الحاضرة بأن يقع بعضها خارج الوقت عند (حج)، أو بأن لا يدرك في الوقت عند (م ر) .. فتلزمه البداءة بها؛ لتعين الوقت لها، ولئلا تصير قضاءً أيضاً. (وتجب المبادرة بالفائته إن فاتت بغير عذر)؛ تغليظاً عليه ويجب صرف جميع

فصل: في الصلاة المحرمة من حيث الوقت

زمنه إليها، إلاَّ مالا بد منه في تحصيل مؤنة تلزمه، وفعل واجب آخر مضيق يخشى فوته، ونحو نوم وأكل، ولا يجوز له تنفل حتى يفرغ منها، وكذا يجب تقديم ما فات بغير عذر على ما فات بعذر، وإن فقد الترتيب عند (حج)؛ لأنه سنة، والبدار واجب، فإن خالف .. صح مع الحرمة، ولو تذكر فائتة وهو في حاضرة .. لم يقطعها مطلقاً، أو شرع في فائته ظاناً سعة وقت الحاضرة، فبان ضيقه .. لزمه قطعها، أو قلبها نفلاً بشرطه الآتي، ولو كان عليه فوائت لا تنقص عن عشر، ولا تزيد على عشرين .. وجب قضاء العشرين؛ لإنها لزمته يقيناً، فلا يبرأ منها إلا بيقين. * * * (فصل) في الصلاة المحرمة من حيث الوقت. (تحرم الصلاة) التي لا سبب لها أو سببها متأخر عنها، ولا تنعقد (في غير حرم مكة) في خمسة أوقات: ثلاثة منها تتعلق بالزمان من غير نظر إلى من صلى، ولا لمن لم يصل، وهي: (وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح) طوله سبعة أذرع تقريباً فيما يظهر لنا، وإلا .. فالمسافة بعيدة. (ووقت الاستواء) يقيناً (إلا يوم الجمعة) ولو لمن لم يحضرها؛ لأنه -وإن ضاق وقته- يسع التحرم، ويستمر التحريم (حتى تزول) الشمس. (ووقت الاصفرار) للشمس (حتى تغرب). واثنان منها: يتعلقان بفعل صاحبة الوقت، فمن فعلها .. حرمت عليه الصلاة المتقدمة آنفاً (و) هما: (بعد صلاة الصبح) المسقطة للقضاء لمن صلاها (حتى تطلع) الشمس، (وبعد صلاة العصر) المسقطة للقضاء لمن صلاها -ولو مجموعة تقديماً- (حتى تغرب)؛ لما صح من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الخمسة، ومن استثناء حرم مكة؛ لخبر:

"يا بني عبد مناف؛ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". وروى الدارقطني، والبيهقي حديث: "لايصلي أحد بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة"، وهذا صريح في تخصيص عموم النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، وأن الصلاة المستثناة ليست من خصوص سنة الطواف؛ إذ لا ذكر للطواف فيه، وليست فيه خلاف الأولى عند حج؛ إذ الخلاف إذا خالف سنة صحيحة لا يراعي، وأما استثناء يوم الجمعة .. ففي خبر عند أبي داوود مرسل عضده ندب التبكير إليها وله شواهد، ومن عبر بكراهة تلك الصلاة كـ"المنهاج" .. أراد كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه، قال في "التحفة": وعليهما لا تنعقد؛ لأنها -أي الكراهة- بقسميها لذات كونها صلاة، وإلا لحرمت كل عبادة وهي تنافي الانعقاد؛ إذ لا يتناولها مطلق الأمر، وإلا كان مطلوباً منهياً عنه من جهةً واحدة، وهو محال. (ولا يحرم) من الصلاة (ماله سبب غير متأخر) بأن كان متقدماً (كفائتة) ولو نفلا ً -وصلاة جنازة- أو مقارناً كصلاة استسقاء وكسوف، فإن سببهما -وهو التغير والقحط- مقارن دواماً، فيجب مقارنته للتحرم، فإن زال قبله .. لم تنعقد، وجعلهما (حج) مما سببهما متقدم؛ نظراً لتقدم السبب فيهما على التحرم وإن قارنه دواماً، ومما سببه متقدم منذورة ومعادة. (وسنة وضوء وتحية) لمسجد، وسنة طواف وقدوم (وسجدة تلاوة) أو شكر، فلا تحرم هذه المذكورات ونحوها (إن لم يقصدها) أي: يقصد إيقاعها وقت الكراهة لكونه وقت كراهة، وإلا .. حرمت ولو قضاءً مضيقاً؛ لأنه حينئذٍ كالمراغم للشرع، بخلاف مالو لم يتحر ذلك الوقت وإن وقعت فيه، أو تحراه لغرض آخر، كأن أخر صلاة الجنازة إليه لأجل كثرة المصلين عليها، فيجوز وتنعقد. والمراد بالتأخر وقسيميه بالنسبة إلى الصلاة، لا إلى الوقت المكروه، فصلاة الجنازة من طهر الميت وإن وقع في الوقت المكروه، فإذا تم طهره في الوقت المكروه .. كانت مما سببه متقدم وهو الطهر، وهو متقدم على الصلاة وإن تأخر عن دخول وقت الكراهة. (ويحرم ما) لا سبب (لها) أصلاً كنفل مطلق، أو لها (سبب متأخر عنها كصلاة

فصل: في الأذان والإقامة

استخارة وإحرام) وحاجة وخروج من المنزل وعند القتل؛ لتأخر اسبابها عنها، والمتأخر ضعيف؛ لأحتمال وقوعه وعدمه. (و) يحرم على مريد الجمعة -ولو كان في بيته، وإن لم تلزمه وحال مانع اقتداءٍ حينئذٍ- (الصلاة) مطلقاً إجماعاً (إذا صعد الخطيب) المنبر، وجلس عليه ولو بمكة، وإن لم يشرع في الخطبة، ولا سمعها المصلي ولو حال الدعاءِِ للسلطان، ولا تنعقد وإن تضيقت عليه؛ لإعراضه عن الخطيب بالكلية، بخلاف الكلام؛ إذ من شأن المصلي الإعراض عما سوى صلاته، ومن ثم استظهروا أن الطواف ليس كذلك، وكذا سجدة تلاوة وشكر عند (حج). ووجب تخفيف الصلاة التي شرع فيها قبل صعود الخطيب وجلوسه، أما بعد ذلك .. فتحرم ولا تنعقد (إلا التحية ركعتين) لداخل مسجد ( .. فتسن) حينئذٍ (إن لم يخش فوت التكبير للإحرام) بالجمعة؛ لخبر: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام يخطب .. فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما" أي: لا يطولهما عرفاً كما في "التحفة"، و"النهاية"، أو يقتصر على الواجب، كما قاله غيرهما، ولو لم يكن صلى راتبة الجمعة القبلية، فالأولى نية التحية معها؛ ليثاب عليها باتفاق (حج)، و (م ر). وخرج بالركعتين الزيادة عليهما، وبداخل مسجد الماكث فيه، والداخل غير مسجد، فتمتنع الصلاة فيما ذكر مطلقاً. وبقوله: (إن لم يخش .. إلخ) ما لو خشي فواتها، فلا تسن له بل تكره، كالقعود حينئذٍ، بل يستمر قائماً إلى أن يحرم الإمام، فيحرم معه، ولو صلاها في هذه الحاله .. استحب أن يزيد الخطيب في الخطبة بقد ما يكملها. * * * (فصل) في الأذان والإقامة وهما من خصوصياتنا، والأصل فيهما -قبل الإجماع المسبوق برواية عبد الله بن زيد المشهورة ليلة تشاورا فيما يجمع الناس- آية (إذَا نُودِىَ للِصَّلَوةِ) [الجمعة:9] وهما معلومان من الدين بالضرورة، يكفر جاحدهما، وشرعا في السنة الأولى من الهجرة.

(يستحب) للذكر (الأذان) وهو لغة: الإعلام، وشرعاً: ذكر مخصوص، مطلوبٌ للمكتوبة أصالة، فلا يرد أنه يؤذن للأولى من المتواليتين فقط؛ لأن وقوع الثانية تابعة -حقيقة في الجمع، أو صورة في الفوائت، أو الحاضرة والفائتة- صيرها كجزء من الأولى، ودخل بأصالة المعادةُ فيؤذن لها، على خلاف فيها. (والإقامة) مصدر: أقام، وشرعاً: الذكر الآتي؛ لأنه يقيم للصلاة، وهي مجمع عليها (للمكتوبة) كالأذان، وإنما اختلفوا في كيفة مشروعيتهما، فقيل: فرضا كفاية؛ لأنهما من الشعائر الظاهرة، وفي تركهما تهاون بالدين، وعليه: فيقاتل أهل بلد تركوهما. والأصح أنهما سنة كفاية للجماعة -كالتسمية على الأكل وعند الجماع، والتضحية من أهل بيت، وابتداء سلام، وتشميت عاطس، وما يفعل بالميت من المندوب- وسنة عين لمنفرد كما في أكله ونحوه. ولا بد في أذان الإعلام من كونه، بحيث يسمعه جميع أهل البلد لو أصغوا إليه، ففي بلد صغير يكفي في محل واحد، وفي كبيرة في محال وإن لم يصلوا إلا في محل واحد، كيوم الجمعة. وفي أذان غير الإعلام للجماعة أن يُسمِع ولو واحداً منهم، وللمنفرد أن يسمع نفسه كما يأتي وإنما يسن الأذان للمكتوبة بقيدين: الأول: (إن لم يصلها) بحاضرة أو (بفائته) أو مجموعة، وكذا بمعادة على ما مر. والثاني: كونه (للرجل) أي: الذكر (ولو) صبياً، و (منفرداً) بعمران، أو غيره (ولو سمع الأذان) من غيره ولم يرد الصلاة معهم. (و) يسن أيضاً (لجماعة ثانية) مع رفع الصوت به وإن كرهت، أو كانت بالبيت ولو جار مسجد؛ للخبر الصحيح: "إذا كنت في باديتك، أو غنمك فأذنت للصلاة .. فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة". نعم؛ لا يسن رفع الصوت به في محل وقعت به جماعة، أو صلوا منفردين وإن لم ينصرفوا، (ولفائتة)؛ لإن بلالاً أذن للصبح لما فاتته صلى الله عليه وسلم، لما نام وهو وأصحابه حتى طلعت الشمس.

(فإن اجتمع) عليه (فوائت) وأراد قضاءها متوالية، أو والى بين حاضرة وفائتة (أو جمع تقديماً أو تأخيراً) ووالى بينهما ( ... أذن للأولى وحدها)؛ لثبوت ذلك يوم الخندق وإن كان بسند فيه انقطاع، لكنه اعتضد بما مر من الأذان للفائته، وأقام للكل؛ لما صح من جمعه صلى الله عليه وسلم بمزدلفة بأذان وإقامتين. (وتستحب الإقامة وحدها للمرأة) لنفسها وللنساء، لا للرجال والخناثى، وللخنثى لنفسه، على ما في "التحفة" لا للرجال، ولا لمثله؛ لأنها لاستنهاض الحاضرين، فلا رفع فيها يخشى منه الفتنة، لا الأذان؛ لما فيه من الرفع الذي يخشى منه الفتنة؛ ومن التشبه بالرجال، ومن ثم حرم عليهما رفع صوتهما به إن كان ثم أجنبي، لو أذن لهن رجل لم يصل بهن .. صح؛ لعدم المحذور المتقدم، كما قال (سم) في "شرح الغاية"، وإنما لم يحرم غناؤها ولا سماعه لأجنبي حيث لا فتنه؛ لأن تمكينها منه ليس فيه حمل الناس على مؤد لفتنة، بخلاف تمكينها من الأذان؛ لأنه يسن الإصغاء للمؤذن والنظر إليه، وكل منهما إليها مفتن، ولأنه لا تشبه فيه؛ إذ هو من وضع النساء، بخلاف الأذان فمختص بالذكر، فحرم عليها التشبه به فيه. وقضية هذا حرمته عليها وإن لم يسمعه أجنبي؛ إذ التشبه علة للحرمة مستقلة، وخوف الفتنة علة أخرى، قال في "التحفة": (إلا أن يقال: لا يحصل التشبه إلا حينئذٍ، ويؤيده أنها لو أذنت للناس بقدر ما يسمعن .. لم يكره) اهـ لكن نازعه (سم) و (ع ش)، وغيرهما بأنها إذا قصدت الأذان الشرعي .. حرم، واعتمده (م ر)، وهل قراءتها القرآن بحضرة الأجانب كأذانها؟ قال في "المغني": نعم، وفي "النهاية": لا. تنبيه: يسنان أيضاً خلف مسافر، وفي أذني مولود، والأذان وحده في أذن مهموم، مصروع، وغضبان، ومن ساء خلقه ولو بهيمة، وعند مزدحم جيش وحريق، وتغول الغيلان. (و) يستحب (أن يقال في الصلاة المسنونة جماعة) وفعلت جماعة (غير) المنذورة و (الجنازة)، بل كصلاة عيد، وكسوف، واستسقاء، ووتر رمضان، وكذا جنازة لم يكن معها أحد، أو زادوا بذلك: (الصلاة جامعة) برفعهما أو نصبهما، أو رفع أحدهما

ونصب الآخر، أو الصلاة الصلاة، أو حي، أوهلموا إلى الصلاة، أو الصلاة رحمكم الله، أو التراويح -مثلاً- أثابكم الله، وتندب إجابة ذلك بلا حول ولا قوة إلا بالله. (وشرط) صحة (الأذان) -كالإقامة- دخول (الوقت) في الواقع وإن لم يظن دخوله؛ لأنهما للصلاة، ولا معنى لهما قبل طلبها، وفيه لبس قبله، ولهذا حرم قبله، فإن أمنه .. لم يحرم؛ لأنه ذكر. نعم؛ إن نوى به الأذان .. حرم؛ لأنه حينئذٍ تلبس بعبادة فاسدة، ويبقى جوازه ما بقي الوقت، لكن تنتهي مشروعيته بفعل الصلاة بالنسبة لمن صلاها (إلا) أذان (الصبح .. فيجوز بعد نصف الليل) كالدفع من مزدلفة، ولأن العرب تقول حينئذٍ: أنعم صباحاً؛ لخبر: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". والأفضل لكل محل جماعة مؤذنان واحد يؤذن قبل الفجر والأفضل كونه من السحر وإن جاز من نصف الليل والآخر بعده لما مر (وإلا) الأذان (الأول يوم الجمعة) .. فيجوز قبل الزوال على ما نسب لـ"الرونق" قياساً على الصبح، وفرق بينهما؛ بأن الناس قبل الفجر مشغولون بالنوم، فندب تقديمه؛ ليتهيؤا لإدراك فضيلة أول الوقت، ولا شاغل لهم يوم الجمعة يمنعهم من التهيؤ لأول وقتها. ولا تقدم الإقامة على وقتها، وهو عند إرادة الدخول في الصلاة، فإن قدمت .. اعتد بها حيث لم يطل فصل بينهما. نعم؛ طوله لتسوية الصفوف لا يضر كما في "التحفة"، ولو أقيمت بدون أذان .. اعتد بها، فإن اقتصر على أحدهما .. فالأذان أولى. (و) شرطه أيضاً -كالإقامة- (الترتيب)؛ للاتباع، ولأن تركه يوهم اللعب ويخل بالإعلام، فإن أخل بالترتيب ولو ناسياً .. لم يصح، ويبني على المنتظم منه، والاستئناف أولى (والموالاة) بين كلماتها؛ إذ تركها يخل بالإعلام، فلو تركها في أحدهما ولو ناسيا .. بطل. نعم؛ لا يضر يسير سكوت، أو كلام ولو عمداً وقصد به قطعه؛ إذ لا تشترط فيهما النية، بل عدم الصارف -ولا يسير جنون أو إغماء أو نوم؛ لعدم الإخلال، لكن يسن

الاستئناف حينئذٍ، ولو عطس في أحدهما .. حمد الله بقلبه. وسن له تأخير رد السلام وتشميت العاطس إلى فراغه منه وإن طال الفصل، فإن لم يؤخره .. فخلاف السنة كالتكلم لمصلحة، وقد يجب لضرورة كإنذارمن محذور. (وكونه) كالإقامة (من واحد)؛ إذ صدوره من اثنين يورث لبساً في الجملة، وهذا كالنسك فلا يبنى أحد فيه على فعل غيره وإن مات؛ لأنه لو أحصر .. لا يبني على فعل نفسه، فعدم بناء غيره على فعله أولى. (و) كونهما (بالعربية إن كان ثم من يحسنها) وإلا صح بغيرها كأذكار الصلاة. نعم؛ إن أذَََّن لنفسه بغيرها وهو لا يحسنها .. صح وإن كان ثم من يحسنها. (وإسماع بعض الجماعة) بالفعل ولو واحداً أو أنثى والباقين بالقوة، والأكمل إسماع جميعهم، فلا يجزىء الإسرار بشيء منهما إلا لترجيع. (وإسماع نفسه) بحيث يسمع جميعه حيث لا مانع من نحو صم (إن كان منفرداً)؛ لأن الغرض منهما حينئذٍ الذكر، لا الإعلام، والأكمل رفع صوته بهما، لكنه في الإقامة أخفض. (وشرط المؤذن) كالمقيم إن نصبه الإمام: كونه مكلفاً أميناً عارفاً بالوقت، أو معه أمين يخبره به؛ لأن ذلك ولاية، فاعتبر فيه شروطها، وإلا .. حرم نصبه، ولا تصح توليته، ولايستحق عليها شيئاً وإن صح أذانه. وشرطه مطلقاً كالمقيم: (الإسلام، والتميز، والذكورة) فلا يصحان من كافر؛ لأن في إتيانه بهما نوع استهزاء، ولأنهما مقدمتان للصلاة -التي هو ليس من أهلها- ولا من نحو صبي غير مميز، كسكران ومجنون وامرأة على ما مر. (ويكره) فيهما التطريب والتلحين والتفخيم والتشادق و (التمطيط) أي: التمديد، قال الشيخ عز الدين: يحرم التلحين إن غير المعنى، أو أوهم محذوراً، بل كثير منه كفر [من العالم العامد]، كمد همزة أكبر أو أشهد، وباء أكبر، لأنه يصير به جمع كبر وهو طبل له وجه واحد، والوقف على إله والابتداء بإلا الله، ومد ألف الله، والصلاة والفلاح زيادةً

على ما تكلمت به العرب، وكقلب ألف الله هاء، أو عدم النطق بهاء الصلاة؛ لأنه يصير دعاء إلى النار، وعلى كل حال فقد عم الجهل في جميع أهل وظائف الدين، وتساهل بها غالب المسلمين. (والكلام) اليسير (فيه) وفي الإقامة، حيث لا مصلحة ولا ضرورة كما مر. (وترك إجابته) كالإقامة خروجاً من خلاف موجبها؛ للحديث الآتي، بل قيل: إن الكلام فيه يورث سوء الخاتمة. (و) يكره (أن يؤذن) أو يقيم (قاعداً أو راكباً) لتركه القيام المأمور به (إلا المسافر الراكب) .. فلا يكرهان له؛ لحاجته إلى الركوب، لكن الأولى أن لا يقيم إلا بعد نزوله، ولا يكره له فيهما ترك الاستقبال ولا المشي؛ لاحتمالهما في صلاة النفل للمسافر، ففي أذانه أولى. (وفاسقاً أو صبياً)؛ لأنهما غير مؤمنين على الوقت، ولا يقبل خبرهما فيه وإن ظن صدقهما وحصل به أصل السنة، ومن ثم لا يكرهان لكل منهما لنفسه، وكونه أعمى أيضاً ليس معه من يعرفه الوقت. (وجنباً ومحدثاً)؛ لخبر: "كرهت أن أذكر الله على غير طهر"، وقضيته كراهة كل ذكر على غير طهر، وليس كذلك؛ ولذا استدل في "شرح المنهج" بخبر الترمذي: "لا يؤذن إلا متوضىء" (إلا إذا أحدث أثناء الأذان .. فيتمه) ندباً؛ لئلا يوهم التلاعب، فإن تطهر بنى إن قصر الفصل، وإلاَّ .. استأنف، وهما من جنب أشد كراهة من المحدث، والإقامة من كل أغلظ من الإذان؛ لقربها من الصلاة. (و) يكره (التوجه لغير القبلة) لكل منهما إن قدر على الإستقبال؛ لتركه الاستقبال المنقول سلفاً وخلفاً، لكنه يجزىء؛ لأنه لا يخل بالإعلام. قال الأطفيحي: (قال "م ر": "وعلم من سن التوجه حال الأذان أنه لا يدور على ما يؤذن عليه من منارة أو غيرها" اهـ ونقل (سم) عن (م ر): "أنه لا يدور، فإن دار كفى إن سمع آخره من سمع أوله وإلا .. فلا" اهـ

والراجح: كراهة الدوران مطلقاً كبرت البلد أو صغرت، وإذا لم يسمع من بالجانب الآخر .. سن أن يؤذن فيه) اهـ شيخنا (ع ش) لكن كتب (ب ج) على "شرح المنهج" ما نصه: (قوله: "وتوجه لقبلة" أي: إن لم يحتج لغيرها، وإلا كمنارة وسط البلد .. فيدور حولها) اهـ زاد غيره: (وكذا لو كانت منارة البلد لغير جهة القبلة .. فيستقبل البلد وإن استدبر القبلة). واعتمد هذا، بل جزم به جل المحشين، وعليه عمل أهل مصر وغيرها من غالب البلدان. (وسن ترتيله) أي: التأني فيه بأن يأتي بكلماته مبينة، وإدراج الإقامة؛ للأمر بهما، ولأنه للغائبين فالترتيل فيه أبلغ، وهي للحاضرين فالإدراج فيها أشبه، ولذا كانت أخفض منه صوتاً. (والترجيع) ولو في أذان غير الصلاة؛ لثبوته في خبر مسلم، وهو ذكر الشهادتين مرتين بحيث يسمع نفسه، فإن أذن لجمع .. سن أن يسمع من بقربه؛ ليتدبرها ويخلص فيهما؛ إذ هما المقصودتان، وليتذكر خفاءهما أول الإسلام، ثم ظهورهما الذي أنعم الله به، وسمي بذلك؛ لأنه رجع إلى خفص الصوت بعد رفعه بالتكبير، أو لأنه رجع للشهادتين بعد ذكرهما. والأشهر: أنه اسم للأول، وفي "الروضة" أنه اسم للثاني، ولو جهر بالأولين .. أسر بالأخيرين. (والتثويب) من ثاب إذا رجع (بالصبح) في أذانيه (أداءً، وقضاءً) وهو أنه يقول: الصلاة خير من النوم؛ لما صح أنه صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة وخص بالصبح؛ لما بالنائم من الكسل، وسمي بذلك؛ لأنه لما دعا إلى الصلاة والفلاح باللفظ الصريح .. عاد إلى الدعاء إليهما بالكناية، وهي أبلغ منه. (والالتفات) فيهما ولو لنفسه، قال الشرقاوي: (لأنه قد يسمعه من لا يعلم به وقد يريد الصلاة معه، فمظنة فائدة الالتفات قائمة، فإن كان بمحل يقطع بعدم إتيان غيره له فيه .. لم يلتفت، ويسن الالتفات في الأذان لتغول الغيلان؛ لأنه أبلغ في الإعلام وأدفع لشرهم، ولذا يسن رفع الصوت فيه، بخلاف الأذان في أذن المولود؛ لعدم فائدتهما) اهـ

ولا يلتفت بصدره بل (برأسه وحده يمينه) مرة (في) مرتي (حي على الصلاة، ويساره) مرة (في) مرتي (حي على الفلاح)؛ لما في الصحيحين: أن بلالاً كان يفعل ذلك في الأذان وقيس به الإقامة، واختص به الحيعلتان؛ لأنه خطاب آدمي كسلام الصلاة، ولا يلتفت في الخطبة ولا في التثويب، كما قاله ابن العجيل. (ووضع) طرفي أنملتي (أصبَعيه) وطرفي المسبحتين أولى (في صماخي أذنيه)؛ لما صح من فعل بلال ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم، فإن كان بإحدى السبابتين علة .. جعل أصبعاً أخرى، أو بإحدى يديه .. جعل السليمة فقط (في الأذان دون الإقامة)؛ لأن علته كونه أجمع للصوت الطلوب رفعه فيه أكثر، ويستدل به الأصم والبعيد وذلك مفقود فيها، ولذا لا يسن لمن يؤذن لنفسه بخفض الصوت، كذا قالوه، وقد يقال: نحو الأصم، كما يستدل به في الأذان يستدل به في الإقامة. (وكون المؤذن) والمقيم (ثقة) أي عدل شهادة عارفاً بالمواقيت ولو بأجرة؛ ليقبل خبره بالوقت، وليؤمن نظره إلى العورات، ومن ذرية مؤذنيه صلى الله عليه وسلم، فمن ذريته، فمن ذرية أصحابه، (ومتطوعاً)؛ لخبر: "من أذن سبع سنين محتسباً .. كتب الله له براءة من النار" (وصيتاً) أي: عالي الصوت؛ لأنه أبلغ في الإعلام، ولخبر: "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك". (وعلى مرتفع) كمنارة أوسطح؛ لأنه حينئذٍ أبلغ في الإعلام، فإن لم يكونا .. فعلى باب المسجد، ولا يسن المرتفع للإقامة إلا لحاجة ككبر المسجد. (وبقرب المسجد)؛ لأنه دعاء للجماعة، وهي فيه أفضل. ويكره الخروج من المسجد بعد الأذان بغير صلاة. (وجمع كل تكبيرتين بنفس)؛ لخفتهما، وإفراد كل من باقي كلماته بصوت، ويسن في الإقامة جمع كل كلمتين بصوت، وتبقى الأخيرة فتفرد بصوت. (وبفتح الراء في الأولى) من التكبيرتين (في قوله: الله أكبر الله أكبر) قال ابن هشام في "مغنيه": (قال جماعة منهم المبرد: حركة راء أكبر فتحة، وإنه وصل بنية الوقف،

ثم اختلفوا فقيل: هي حركة الساكنين، وقيل: حركة الهمز نقلت، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع، والصواب: أن حركة الراء ضمة إعراب) اهـ والحاصل: أن الوقف أولى؛ لأنه المروي، ثم الرفع وأن الرفع أولى من الفتح؛ لأنه حركته الأصلية الإعرابية، فالإتيان به أولى من اجتلاب حركة أخرى؛ لالتقاء الساكنين، وإن كان جائزاً، (ويسكن) الراء (في) التكبيرة (الثانية) ندباً. (و) يسن (قول: ألا صلوا في الرحال) أو في رحالكم أو بيوتكم مرتين، كما في "سنن أبي داوود" (في الليلة الممطرة) واليوم المطير وإن لم يكن ريح (أو ذات الريح) أو ذي الريح (أو) ذات (الظلمة) وفي كل ما هو من أعذار الجماعة؛ للأمر به، ويقول ذلك (بعد الأذان أو) بعد (الحيعلتين) والأول أولى، وجرى الشربيني على أن ذلك يجزي عن الحيعلتين. (و) يسن (الأذان للصبح مرتين) ولو من واحد، والأفضل كونه من اثنين كما مر ليتميز الأول من الثاني، فإن اقتصر على أحدهما .. فالأولى الثاني (ويثوب فيهما). (و) يسن لكل مؤذن ومقيم (ترك رد السلام) الذي سلم به غيره (عليه)؛ إذ لا يليق الكلام في أثنائهما، ويسن الرد بعدهما وإن طال الفصل، وكذا تشميت العاطس (وترك المشي فيه) وفيها؛ لأنه يخل بالإعلام ويجزيان وإن بعد كما مر ويستثنى المسافر، فلا بأس بأذانه ماشياً وراكباً، والأولى أن لا يؤذن إلا بعد نزوله. (وأن يقول السامع) ولو نحو جنب إن فسر اللفظ على ما في "التحفة"، وكذا إن لم يفسره على ما في "الإمداد"، و"النهاية" (مثل ما يقول المؤذن والمقيم) وإن كرها، أو حرما لا لذاتهما، وإلاَّ .. لم يجب كما في أذان المرأة؛ لخبر: "إذا سمعتم المؤذن .. فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ"، وقيس به المقيم، ولما صح: "أن من فعل ذلك دخل الجنة"، وذلك بأن يجيب كل كلمة عقب فراغه منها، أو يسكت حتى يفرغ كل أو بعض الأذان والإقامة، ويجيب قبل أن يطول الفصل عرفاً، فأن قارنه من غير تقدم .. أجزأه عند (م ر).

قال الكردي: (وقد يقال: إن غفران الذنب ودخول الجنة اللذين في خبر مسلم، يتوقفان على الإجابة عقب كل كلمة؛ إذ الذي فيه: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله ... " الحديث) اهـ وأخذ من قوله في الحديث: "فقولوا مثل ما يقول" أنه يجيب الترجيع وإن لم يسمعه؛ لإنه لم يقل مثل ما تسمعون، وفي "فتاوى م ر" أنه لا يجيب غير أذان وإقامة الصلاة، ونحوه لـ (سم) في "حاشية التحفة"، لكن في "القلائد": أنه يجيبه. وخرج بسامع المؤذن نفس المؤذن، ويجيب مؤذنين مرتبين سمعهم ولو بعد صلاته، والأول آكد، قال غير واحد: إلا أذاني الفجر فسواء، ولو سمع بعض الأذان .. أجاب حتى فيما لم يسمعه أيضاً؛ تبعاً لما سمعه، ولو ترك المؤذن الترجيع .. أتى به السامع؛ تبعاً لإجابته فيما عداه كما في "حاشية التحفة" لـ (سم)، ولو كان المؤذن يغير معنى بعض كلماته .. فيظهر أنه لا تسن إجابته؛ لأنه بعض أذان وهو لا يسن، فكذا إجابته، لكن نقل (سم) عن "العباب"، و"شرحه": سن إجابته، ثم قال: وقد يتوقف فيه، بل في إجزائه فليتأمل. (إلا في الحيعلتين) وفي ألا صلوا في رحالكم (فيقول) في إجابتها (عقب كل: لا حول) أي: عن المعصية (ولا قوة) على الطاعة (إلا بالله، ويكرر ذلك أربعاً في الأذان بعد الحيعلتين) ومرتين في: ألا صلوا في رحالكم والإقامة؛ لخبر الصحيح: "أن من قال ذلك مخلصاً من قلبه .. دخل الجنة"، ويسن أن يجيب كلاً من الحيعلة بلفظة أيضاً، ثم يحوقل ويزيد مع حي على الفلاح: اللهم اجعلنا من المفلحين. (وإلا في التثويب، فيقول) في إجابته مرتين: (صدقت وبررت) -بكسر الراء، وحكي فتحها- أي: صرت ذا بر؛ لخبر فيه، وبالحق نطقت؛ لأنه مناسب، وقيل: يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم، كما في "الأذكار"، فينبغي الجمع بينه وبين ما قبله. (وإلا في) كلمة (الإقامة) فيقول: (أقامها وأدامها) ما دامت السماوات

والأرض، وجعلني من صالحي أهلها مرتين، ولو ثنى الإقامة .. لم يجبه في الزائد، كما في "الإمداد"، وتردد فيه (م ر). (و) يسن (أن يقطع القراءة) ونحو الذكر، كتدريس وإن كان واجباً؛ لأنه لا يفوت، بخلاف الإجابة؛ (للإجابة، وأن يجيب بعد) انقضاء ما لا تطلب معه الإجابة نحو (الجماع والخلاء والصلاة ما لم يطل الفصل) كما في "التحفة"، و"النهاية"، بل وأن طال كما في "الإمداد"، فإن أجاب فيما ذكر .. كرهت، إلا مصلياً أجاب بحيعلة أو تثويب أو صدقت أو قد قامت الصلاة .. فتبطل؛ لأنه كلام آدمي، بخلاف الإجابة بغير ذلك ولو بـ (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) و (أقامها الله). (و) تسن (الصلاة) والسلام (على النبي صلى الله عليه وسلم) من المؤذن والمقيم والسامع (بعده) وبعدها، وكذا قبل الإقامة، ولا يسن بعدهما بعد لا إله إلا الله أن يقول: محمد رسول الله، قال في المغني: (وجهلة المؤذنين تقول قبل الإقامة: استغفر الله العظيم، وهو من البدع). (ثم يقول) عقب ما ذكر: (اللهم رب هذه الدعوة) وهي الأذان، أو هو والإقامة (التامة) أي: السالمة من تطرق نقص؛ لاشتمالها على جميع شرائع الإسلام (والصلاة القائمة) أي: التي ستقام (آت محمداً الوسيلة) وهي أعلى درجة في الجنة لا تكون إلا له صلى الله عليه وسلم بالوعد الصادق، وحكمةُ طلبها له الإشارة إلى أنها من فضل الله عليه، ولينال السائل لها له صلى الله عليه وسلم الشفاعة منه. (والفضيلة) عطف عام على خاص؛ لشمولها الوسيلة وغيرها (وابعثه مقاماً محموداً) أي: حال كونه في مقام محمود، وفي رواية صحيحة أيضاً: "المقام المحمود" (الذي وعدته) به بقولك: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء:79] وهو هنا اتفاقاً، وعلى الأشهر في الآية مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء، يحمده فيه الأولون والآخرون.

وقال اللَّقَّاني: (الحق أن الشفاعة أول المقام المحمود). (و) يسن (الدعاء عقبه وبينه وبين الإقامة)؛ لأنه بينهما لا يرد، كما في خبر الترمذي، وأن يقول بعد أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك، اغفر لي، وبعد أذان الصبح: اللهم هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك وأصوات دعاتك، اغفر لي. قال الكردي: (وروى مسلم: "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً .. غفر له ذنبه". وفي روايه للبيهقي زيادة: "وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة، وبعد الشهادتين والمتقدمتين: اللهم اكتب شهادتي هذه في عليين، وأشهد عليها ملائكتك المقربين، وأنبياءك المرسلين وعبادك الصالحين، واختم عليها بآمين، واجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .. بدرت إليه بطاقة من تحت العرش فيها أمانة من النار"، وتردد في "الإيعاب" هل يقول ذلك بعد الشهادتين أو بعد الدعاء بعد الأذان؟ ورجح الثاني) اهـ وفي "الأذكار" و"شرح البداية" للفاكهي: ويقول بعد قوله: وأشهد أن محمداً رسول الله: وأنا أشهد أن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً. (والأذان) وحده (أفضل من الإمامة) عند (م ر)، بل ومنها مع الإقامة عند الزيادي، وعند (حج): الأذان مع الإقامة أفضل من الإمامة؛ لما ورد في فضل الأذان، ومنه: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة"، وخبر: "الأئمة ضمناء، والمؤذنون أمناء"، والأمانة أعلى من الضمان، وخبر: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس"، ورجح الرافعي أن الإمامة أفضل منه مطلقاً؛ لأنها فرض كفاية، وهو سنة، ولقيامه صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده بها دونه. (ويسن) للمتأهل لهما (الجمع بينهما) ولو لجماعة واحدة؛ لحديث حسن فيه، والنهي عن ذلك لم يثبت.

(وشرط المقيم: الإسلام والتمييز) وغيرهما كما مر. (ويستحب أن تكون الإقامة في غير موضع الأذان، وبصوت أخفض من الأذان)؛ لحضور المصلين، (والالتفات في الحيعلة) فيها كالأذان، لا وضع أصبعيه في صماخيه فيها، ويسن لكل محل جماعةٍ مؤذنان؛ للاتباع ويزاد فيهما بقدر الحاجة، ويرتبون في أذانهم إن اتسع الوقت، وإلا .. تفرقوا في أقطار المسجد الكبير وأذنوا من غير مراعاة ترتيب، واجتمعوا عليه في مسجد صغير، ويقفون عليه كلمة كلمة إن لم يحصل اختلاط واضطراب، وإلا .. أذن بعضهم بالقرعة، ويندب أن يقيم المؤذن دون غيره؛ لخبر: "من أذن فهو مقيم" (فإن أذن جماعة .. فيقيم الراتب) وإن تأخر أذانه، (ثم) إن لم يكن راتب، أوكانوا كلهم راتبين .. فليقم (الأول)؛ لتقدمه، فإن أقام غيره .. اعتد به، لكنه خلاف الأولى، (ثم يقرع إن أذنوا معاً) وتشاحوا؛ لعدم المرجح، ولا يقيم في المحل الواحد إلا واحد، كما عليه السلف. (و) وقت (الإقامة بنظر الإمام والأذان بنظر المؤذن)؛ لخبر: "المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة" فإن أقام من غير استئذانه .. اعتد بها في الأصح. تنبه: يجوز الاستنابة في الأذان والإمامة ونحوهما من الوظائف، بشرط كون المناب أهلاً ومثل المنيب، فإن أناب غير أهلٍ كصبي وفاسق .. لم تصح إنابته، بل ويأثم المنيب، فإن تكرر منه ذلك .. انعزل، ولا يستحق شيئاً مما رصد لتلك الوظيفة. * * *

باب صفة الصلاة

(باب صفة الصلاة) أي: كيفيتها؛ إذ صفة الشيء ما كان زائداً عليه، وما سيذكره هو ذات الصلاة من واجب ومندوب. وينقسم الواجب: إلى ما هو داخل في ماهيتها، ويسمى ركناً، وإلى ما هو خارج عنها -أي: يفعل قبل التلبس بها، ثم يستمر إلى آخرها- ويسمى شرطاً كالطهارة. وينقسم المندوب: إلى ما يجبر بسجود السهو ويسمى بعضاً وإلى ما لا يجبر ويسمى هيئة. (فروضها) أي: أركانها (ثلاثة عشر) على ما في أكثر الكتب، يجعل الطمأنينة في محالها الأربعة هيئةً تابعة لها، ويؤيده جعلهم لها في التقدم والتأخر على الإمام، مع نحو الركوع ركناً واحداً، وقياس ذلك: أنه لو شك بعد الانتقال عن السجود مثلاً هل اطمأن فيه، أم لا؟ .. أنه لا يضر على القاعدة: إنه لا يضر الشك في شيء من الأركان بعد الفراغ من صلاة أو غيرها. وأما الأثناء .. فيضر الشك في أصل الركن مطلقاً، لا في بعضه بعد فراغه، لكن المعتمد أنه يضر الشك فيها أثناء الصلاة مطلقاً؛ نظراً إلى القول بأنها ركن مستقل. والأركان المذكورة ثلاثة أقسام: قلبي وهو: النية. وقولي وهو: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده والسلام. وفعلي وهو: القيام والركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين، والجلوس في التشهد الأخير، والترتيب. (الأول: النية)؛ لما مر في الوضوء، ولوجوبها في بعض الصلاة؛ لأنه بتمام التكبير يتبين دخوله فيها من أوله. وهي (بالقلب) فلا يكفي النطق بها مع غفلته، ولا يضر النطق ما فيه، فلو

نوى بقلبه الظهر ونطق لسانه بغيره .. كان العبرة بما نواه، ثم الصلاة فرض، ونفل مقيد بوقت أو سبب، ونفل مطلق. (فيكفيه في النفل المطلق) وهو ما لا يتقيد بوقت ولا سبب (و) ما ألحق به من المقيد، وهو ما المقصود منه إيجاد مطلق الصلاة، لا صلاة مخصوصة، وذلك نحو (تحية المسجد وسنة الوضوء) والاستخارة والطواف والزوال، والقدوم من سفر، ودخول منزل، والخروج منه أو من الحمام، وصلاة الحاجة، وبأرض لم يعبد الله فيها، ونحوها (نيةُ فعل الصلاة)؛ لتتميز عن غيرها، فلا يكفي إحضارها في الذهن مع عدم قصد فعلها، وهي هنا ماعدا النية؛ لأنها لا تنوى، وإلا .. لزم التسلسل؛ إذ كل نية تحتاج إلى نية، لكن هذا على القول أنه ينوي كل فرد فرد من أجزائها، فإن قلنا: ينوي مجموع الصلاة، وهو المعتمد .. فلا يلزم ذلك، كالعلم يتعلق بغيره ونفسه، وكالشاة من الأربعين تزكي نفسها وغيرها، وتندرج سنة الوضوء وما بعدها في غيرها من فرض أو نفل وإن لم تنو، بمعنى أنه يسقط طلبها ويثاب عليها عند (م ر)، وقال (حج): لا يثاب عليها إلا إذا نواها مع تلك الصلاة. ٍأمَّا ما ليس في المعنى النفل المطلق كسنة الضحى .. فلا يندرج في غيره، بل إذا نوى مع ذلك غيره .. لم تنعقد الصلاة؛ لأن التشريك بين فرضين أو نفلين مقصودين أو بين فرض ونفل مقصود مبطلٌ فيما لم يبنَ على التداخل كالطهارة. (وفي) النافلة (المؤقتة والتي لها سبب) إنما يكفيه (نية الفعل) للصلاة (والتعيين) لما أراده منهما؛ ليتمز عن غيره من الصلاة، وتمييزها إمَّا بما اشتهرت به كالضحى أو بالإضافة (كسنة الظهر) القبلية أو البعدية، ولا يجب تعين المؤكدة، بل تنصرف إليها عند الإطلاق، ويسن أن لا يطول فصل بين القبلية والبعدية وبين الفرض، وقيل: يجب، وكذا في سنة غير الظهر (أو) كسنة (عيد الفطر أو الأضحى) لا سنة العيد فقط، وإن اكتفي بذلك العز بن عبد السلام، كما في الكفارات، لكن فرقوا بأن الصلاة آكد، وكذا يقال في الكسوفين، وينوي في الجمعة قبليتها أو بعديتها، ولا يجوز أن يضيف سنة الوتر إلى العشاء وإن توقف فعلها على فعلها، بل ينوي سنة الوتر ولو في غير الأخيرة، أو مقدمة الوتر أو صلاة الليل في الأخيرة، ويصح نية الوتر، ويحمل على ما يريده عند

(حج)، وعلى ركعتين عند (م ر)، والأولى فيما زاد على ركعتين أن يقول: ركعتين من الوتر مثلاً وقيل: يجب. (وفي الفرض) ولو نذراً أو كفاية إنما يكفيه ثلاثة أمور: (نية الفعل، والتعيين صبحاً أو غيرها) لما مر لا فرض الوقت، ولا ينافي ذلك أنه قد ينوي الجمعة ويتم ظهراً، وينوي القصر ويتم؛ لأن ما هنا باعتبار الذات، وصلاته غير ما ما نواه لعارض اقتضاه. (ونية الفرضية) ويجمع الثلاثة قولك: أصلي فرض الظهر، أو أصلي الظهر فرضاً، وبذلك يتميز الفرض عن النفل، ومنه المعادة؛ لأن المراد بنية الفرض فيها صورته، وهنا المراد الفرض الحقيقي، وإنما تجب نية الفرضية (للبالغ) أي: عليه لا على الصبي، واعتمده (م ر)، لكن أوجبها (حج) عليه أيضاً، ويكفي نية المكتوبة فيها، والمنذورة في النذر عن نية الفرضية. واعلم: أن من الفرض ما لا يشترط فيه نية الفرضية بلا خلاف وهو الحج والعمرة والزكاة وما تشترط فيه على الأصح وهو الصلاة وما لا تشترط فيه على الأصح وهو الصوم. (ويستحب ذكر عدد الركعات) فإن أخطأ فيه ولو سهواً .. لم تنعقد عند (م ر). (و) ذكر (الإضافة إلى الله) تعالى؛ ليتحقق معنى الإخلاص، ومراعاة لمن أوجب ذلك. (و) ذكر (الأداء والقضاء) ولو في النفل؛ ليمتاز كل عن ضده، ويصح كل منهما بنية الآخر إن جهل حال لنحو غيم، أو قصد المعنى اللغوي؛ إذ كل بمعنى الآخر لغةً، وإلا .. لم يصح؛ لتلاعبه، وظاهر الشرح الصحة عند الإطلاق، ولو صلى الصبح مثلاً قبل وقته، وعليه صبح فائتة .. وقع عن الفائته مطلقاً عند (م ر)، وقيده (حج) بما إذا لم ينو به صبح اليوم الذي هو فيه في ظنه، وإلا .. لم يصح عنه؛ للصارف، وإذا نوى الصبح وأطلق، وعليه صبح فائت .. وقع عن صبح يومه لاعن القضاء، وتردد (سم) فيمن صلى الظهر مثلاً ثانياً، ولم يقيده بأداء ولا إعاده ولا قضاء، فهل يقع إعاده أو قضاء؟

واعلم: أن لهم استحضاراً حقيقياً، بأن يستحضر أركان الصلاة مفصلات، وما يجب التعرض له من القصد والتعيين ونية الفرضية، والقصر في السفر، والمأمومية للمأموم، والإمامة للإمام، ومقارنة حقيقية (و) وهي أنه (يجب أن يقرن النية) المشتملة على جميع ما مر (بالتكبيرة) أي: بابتداء تكبيرة الإحرام، ويستمر مستصحباً لذلك كله إلى الراء، واستحضاراً عرفياً وهو أن يستحضر هيئة الصلاة إجمالاً مع ما يجب التعرض له كما مر ومقارنة عرفية بأن يقرن ما استحضره بالتكبير. ٍقال القليوبي: (قال بعضهم: المقارنة العرفية عدم الغفلة بذكر النية حال التكبير مع بذل المجهود. وقال شيخنا (م ر): المراد بها الإكتفاء باستحضار ما مر في أي جزء من التكبير أوله أو وسطه أو آخره. وقال بعضهم: هو استحضار ذلك قبيل التكبير، وإن غفل عنه فيه وفاقاً للأئمة الثلاثة، والذي يتجه الأول؛ لإنه المنقول عن السلف) اهـ والأول هو أصل المذهب، لكن المختار الثاني، وصوبه المحققون؛ إذ الأول لا تحويه القدرة البشرية. (الثاني) من الأركان (أن يقول: الله أكبر)؛ للخبر الصحيح: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم". وحكمه افتتاحها بالتكبير: ليستحضر المصلي عظمة معناها الدال على عظمة من تهيأ لخدمته، حتى يتم له الهيبة والخشوع، ومن ثم زيد في تكريرها؛ ليدوم له ذانك في جميع صلاته؛ إذ لا روح ولا كمال لها بدونهما، ومر أنه يتبين بتمامها دخوله فيها بأولها كغيرها من العقود. (ولا يضر تخلل يسيرِ وصفٍ لله تعالى) بين الله وأكبر، كالله الجليل، أو عز وجل أكبر، بخلاف نحو الله لا إله إلا هو أكبر؛ إذ وجود ثلاث كلمات فاصلة بينهما مضر. وخرج بـ (تخلل): إلحاق صفات بعد التكبير أو تقديمها على الجلالة فلا يضر، وبـ (الوصف) غيرة كـ (هو) أو (يا) نحو الله هو، أو يا رحمن أكبر، فيضر. (أو) يسير (سكوت) كسكتة تنفس (ويترجم) وجوباً (العاجز) عن النطق بالتكبير بالعربية (بأي لغة شاء) ولا يعدل لذكر غيره. ٍ

(ويجب تعلمه) لنفسه، ونحو طفله (ولو بالسفر) وإن طال إن قدر ووجد مؤن السفر المعتبرة في الحج. ووقت وجوب التعلم من الإسلام فيمن طرأ إسلامه، وفي غيره من التمييز عند (حج)، ومن البلوغ عند (م ر)، وكذا غير التكبير من الواجبات. والأخرس يحرك لسانه به إن قدر، وإلا .. نواه (ويؤخر الصلاة) عن أول الوقت (للتعلم) إن رجاه؛ حتى لا يبقى إلا ما يسعها بمقدماتها، فحينئذٍ يجب فعلها بحسب حاله، ولا يعيد إلا فيما فرط في تعلمه. (ويشترط إسماع نفسه) جميع حروف (التكبير) حيث لا مانع من نحو لغط، وإلا .. فيرفع قدر ما يسمعه لو لم يكن مانع (وكذا القراءة، وسائر الأركان) والسنن القولية، فلا يعتد بها إلا بما ذكر. ويشترط أيضاً لتكبيرة التحرم: إيقاعها في القيام في الفرض وإلى القبلة، وتقديم الجلالة، وعدم مد همزة الجلالة ويجوز إسقاطها إن وصلها بـ (إماماً) أو (مأموماً)، لكنه خلاف الأولى، بخلاف همزة أكبر؛ لأنها همزة قطع وعدم مد ألف لجلالة زيادة على سبع ألفات، وعدم مد باء أكبر؛ إذ مده يصيره جمع كبر، وهو طبل له وجه واحد، وعدم تشديد بائها، لكن قال الكردي: (لا يمكن تشديد الباء إلا بتحريك الكاف) وعدم زيادة واو ساكنة أو متحركة بين الكلمتين، وعدم واوٍ قبل الجلالة وإنما صح في السلام زيادتها؛ لتقدم ما يمكن العطف عليه ثم لا هنا، وتأخيرها عن جمع تكبيرة إمامه، وفقد الصارف فيضر هنا التشريك على المعتمد بخلاف تكبيرات الانتقال؛ لأن الانعقاد يحتاط له أكثر من غيره، ولو كبر للإحرام تكبيرات ناوياً بكل افتتاحاً .. دخل بالأوتار وخرج بالأشفاع إن لم يتكلم، أو ينو خروجاً أو افتتاحاً بينهما .. وإلاَّ فيخرج منها ويدخل بالتكبير، فإن لم ينو بغير الأولى شيئاً .. لم يضر. (الثالث) من الأركان (القيام) من أول التحرم إجماعاً (في الفرض) ولو منذوراً أو كفاية، أو على صورة الفرض، كصلاة صبي ومعادة (للقادر) عليه ولو بمعين، ولو بأجرة فضلت عما يعتبر في الفطرة، أو بعكازة أطاق القيام عليها؛ لخبر البخاري: "صل قائماً، فإن لم تستطع .. فقاعداً .. فإن لم تستطع .. فعلى جنب" زاد النسائي: "فإن لم تستطع .. فمستلقياً".

(وشرطه) أن يعتمد على قدميه، و (نصب فقار) أي: عظام (ظهره) لا رقبته، ولا يضر استناده إلى شيء وأن كان بحيث لو رفع .. لسقط؛ لوجود اسم القيام، لكن يكره كقيامه على ظهر قدميه، وإنما لم يجز نظيره من السجود؛ لأنه ينافي وضع القدمين المأمور به فيه، ولو وقف منحنياً بحيث صار إلى أقل الركوع أقرب، أو مائلاً لأحد جنبيه بحيث لا يسمى قائماً .. لم يصح. (فإن لم يقدر) على القيام إلا منحنياً أو متكئاً على شيء ( .. وقف منحنياً) في الأولى، وكما قدر في الثانية؛ إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، ويلزمه في الأولى زيادة انحناء لركوعه إن قدر، وإلا .. ميز كلاً من القيام والركوع والاعتدال بالنية. (فإن لم يقدر) على القيام بأن لحقته به مشقة شديدة أو ظاهرة -عبارتان معناهما واحد- وهي: التي لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم، كدوران رأس. وهل التي تذهب الخشوع شديدة؟ قال (حج): لا، و (م ر): نعم، بل قال الشرقاوي: أو كماله ( .. قعد) كيف شاء ولا ينقص ثوابه. ولو نهض محتملاً للمشقة .. قال (حج): لم تجزه القراءة في نهوضه؛ لأنه دون القيام الصائر إليه، ولا يَرد أن النهوض أعلى من الجلوس الذي هو فرضه؛ لأن الجلوس إنما هو بفرضه ما دام فيه، وفيه نظر. وأفضل القعود هنا: الافتراش، فالتربيع؛ للخلاف في أفضليته حتى على الافتراش، فالإقعاء المسنون؛ لأنه في كل جلوس تعقبه حركة، وهو أن يلصق بطون أصابع رجليه بالأرض، ويضع ألييه على عقبيه، بخلاف الإقعاء الآخر فمكروه مطلقاً، وهو أن يجلس على وركيه ناصباً ركبتيه. (وركع) المصلي قاعداً ولو نفلاً (محاذباً جبهته) ما (قدام ركبتيه) وهذا أقله. (والأفضل أن يحاذي محل سجوده) وهما على وِزَان ركوع القائم تقريباً. (فإن لم يقدر) على القعود بأن نالته به مشقة شديدة ( .. اضطجع) وجوباً (على جنبه)؛ للخبر المتقدم، ويستقبل القبلة بوجهه ندباً، وبمقدم بدنه وجوباً (و) الاضطجاع على الجنب (الأيمن أفضل) ويكره على الأيسر بلا عذر.

(فإن لم يقدر) على الاضطجاع ( .. استلقى) على ظهره (ويرفع رأسه) قليلاً (بشيء) وجوباً، ليتوجه بوجهه للقبلة، فإن تعذر به .. وجب بأخمصاه، وإلا ندب .. ثم إن أطاق الركوع والسجود .. أتى بهما، أو الركوع فقط .. كرره للسجود، وزاد له قليلاً على أكمل الركوع إن أمكن؛ ليتميز عن الركوع، فإن لم يمكنه .. لم يلزمه جعل أقل الركوع له وأكمله للسجود. (ويومىء برأسه للركوع والسجود) حتماً من عجز عما ذكر (و) يجب كونه (للسجود أكثر). وظاهر قوله: (قدر إمكانه) أنه لا يكفي للسجود أدنى زيادة على الركوع إذا قدر على أكثر من ذلك، وبه صرح في "الإمداد"، لكنه صرح في "الفتح"، و"التحفة" بالاكتفاء. (فإن لم يقدر) على الإيماء برأسه ( .. أومأ بطرفه) إلى أفعال الصلاة، ومن لازِمِه الإيماء بالجفن والحاجب، ولا يجب هنا زيادة إيماء للسجود، واعتمده (حج) و (م ر)، ونظر فيه (سم). (فإن لم يقدر) عليه ( .. أجرى الأركان) الفعلية (على قلبه) وكذا القولية إن اعتقل لسانه، بأن يمثل نفسه مكبراً، وقائماً وقارئاً وراكعاً وهكذا، ولا إعادة عليه. وقال (سم): إذا كان عدم القدرة للإكراه .. تجب؛ لندرته، ومتى قدر على مرتبة أثناء صلاته أعلى مما هو فيها .. لزمه الانتقال إليها، كما أن من عجز عن مرتبة .. انتقل لما دونها وبنى حتى على قراءته، ويقرأ في انتقاله هاوياً، لا ناهضاً. تنبيه: كما يسقط القيام بالعجز الحسي يسقط بالعجز الشرعي، ومنه ما لو لم يمكن مداوته إلا قاعداً أو مستلقياً .. فيصلي كذلك بلا إعادة، وما لو كان دائم حدث ويستمسك بالقعود مثلاً .. فيصلي قاعداً بلا إعادة، وما لو خاف من صلاته قائماً السقوط، ومن لو صلى جماعة .. عجز عن القيام ولا يعجز عنه منفرداً، فيصلي جماعة قاعداً، ولا إعادة وإن كان الانفراد قائماً أفضل، ومن لو قام .. خاف رؤية عدو وفساد تدبير الحرب،

فيصلي قاعداً ويقضي، بخلاف ما لو خاف من رؤيته على نفسه .. فلا قضاء، وما لو صلى بمكان ضيق لا يمكنه القيام فيه حال المطر .. فيصلي فيه قاعداً، وانتظاره انقطاع المطر أفضل، وما لو كان لا يمكنه الصلاة قائماً إلا بثلاث حركات متوالية .. فيصلي قاعداً وجوباً، ولا إعادة كما قاله عبد الله بن عمر مخرمة، لكن أفتى (حج) في هذه بوجوب القيام، ومن لو صلى قاعداً توجه إلى القبلة أو قائماً فلا فيصلي قاعداً. (ويتنفل القادر) على القيام (قاعداً) إجماعاً؛ لكثرت النوافل (ومضطجعاً) وعلى اليمين أفضل (لا مستلقياً)؛ لعدم وروده (ويقعُدُ) من صلى مضطجعاً وجوباً إن قدر (للركوع والسجود) ولا يومئ بهما، ويكفي الاضطجاع في الاعتدال وبين السجدتين. قال في "الإمداد": ووجوب القعود للركوع والسجود لا يحيل ذلك؛ إذ يتصور بترك الطمأنينة في ذلك القعود. (وأجر القاعد) في النفل (القادر) على القيام (نصف أجر القائم) فيه (و) أجر (المضطجع) فيه (نصف أجر القاعد) فيه؛ للخبر الصحيح بذلك، أما العاجز .. فلا ينقص أجره بالقعود والاضطجاع، وكذا الأنبياء، وللمتنفل قراءة الفاتحة في نهوضه إلى القيام؛ لأنه أعلى من الجلوس وفي هويه، وله أيضاً أن يكبر للإحرام في حال نهوضه. (الرابع) من الأركان: قراءة (الفاتحة) في قيام كل ركعة أو بدله في الفرض والنفل للمنفرد وغيره، في السرية والجهرية، حفظاً أو تلقيناً أو نظراً في مصحف؛ لخبر الصحيحين: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، ولخبر: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" (إلا لمعذور لسبقٍ) حقيقةًٍ (أو غيره) وهو السبق الحكمي، كزحمة ونسيان وبطء حركة، كأن لم يقم من السجود إلا والإمام راكع أو قريب منه، فتسقط عنه (الفاتحة) كلها في الأولى وبعضها في الثانية كما يأتي في شروط القدوة. (والبسملة) آية كاملة منها عملاً، ويكفي في ثبوتها الظن، سيما وقد قرب من اليقين؛ لإجماع الصحابة على ثبوتها في المصحف بخطه، مع مبالغتهم في تجريده عما ليس منه حتى نقطه وشكله، وأما إثبات نحو أسماء السور والأعشار فيه .. فأحدثها

الحجاج فيه، على أنه ميز ذلك بجعله بغير خط المصحف، بل هي من المتواتر عند بعض قراء السبع، وصح عدّها آية منها. وخبر: "إذا قرأتم .. فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم"، ويجهر بها حيث يجهر بالفاتحة، كما رواه أحمد وعشرون صحابياً بطرق ثابتة. والأصح: أنها آية من كل سورة إلا (براءة)؛ لأنها نزلت بالسيف، فتحرم أولها، وتكره أثناءها، وقال (م ر): (تكره أولها، وتسن أثناءها، وتندب أثناء غيرها اتفاقاً). واعلم: أن واجبات الفاتحة عشرة: الأول: قراءة جميع آياتها. الثاني: وقوعها كلها في القيام أن وجب. الثالث: عدم الصارف، فلو نوى بها نحو ولي .. وجبت إعادتها، بخلاف ما لو شرك. الرابع: أن تكون قراءتها بحيث يسمع جميع حروفها لو لم يكن مانع. الخامس: كونها بالعربية؛ فلا يعدل عنها وإن عجز عنها. (و) السادس: مراعاة (التشديدات منها)، فلو خفف مشدداً من الأربعة عشر المشددة .. لم تصح قراءته لتلك الكلمة، ومنه فك الإدغام في حق العالم، بل تبطل صلاته إن غير المعنى، ولو شدد مخففاً .. أساء ولم تبطل صلاته ولا قراءته ما لم يغير المعنى، فتبطل قراءته، وكذا صلاته إن علم وتعمد. والسابع: رعاية حروفها، فلو أسقط منها حرفاً ولو همزة قطع كهمزة أنعمت .. وجبت إعادة الكلمة التي هو منها وما بعدها قبل طول فصل وركوع، وإلا .. بطلت صلاته. (ولا يصح إبدال) قادر أو مقصر بترك التعلم (الظاء عن الضاد) ولا إبدال حرف آخر منها بغيره، ومنه عند (حج) أن ينطق بالقاف مترددة بين القاف والكاف، وتبطل صلاته إن غير المعنى وعلم وتعمد، وإلا .. فقراءته لتلك الكلمة، فيبني عليها إن قصر الفصل، ويسجد للسهو، لكن قال (ب ج): المتعمد أنه متى تعمد .. ضر وإن لم يغير المعنى؛ لأن الكلمة حينئذٍ صارت أجنبية، كما نقله سلطان عن (م ر)، وقرره العزيزي.

نعم؛ إن كان الإبدال قراءة شاذة .. لم تبطل إن لم يختل المعنى. (و) الثامن: أنه (يشترط) لصحة القراءة (عدم اللحن المخل بالمعنى) بأن غيره، كضم تاء (أنعمت)، أو كسرها، أو أبطله كـ (المستيقن) ممن يمكنه التعلم ولو بقراءة شاذة، كقراءة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] برفع الجلالة ونصب العلماء، وعليها فالخشية مستعملة في التعظيم، أي: إنما يعظم الله من عباده العلماء، وهو معنى صحيح، لكنه غيَّر معنى المتواترة، ولو قرأ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ ِ) بكسر اللام .. لم تبطل إن قلنا: العالمين مختص بالملائكة والإنس والجن؛ لأنه حينئذٍ بمعنى العالَمين بفتح اللام، ورجح (حج) في "فتاويه" البطلان، قال: (لأن تغيير المعنى ليس المراد به رفع المعنى المقصود من أصله، بل أن تصير الكلمة لا تفيد المعنى المقصود بتمامه) اهـ أي والحاصل: أنها تبطل بتغيير المعنى، وبإبطاله وكذا بإبدال حرف في غير القراءة الشاذة وإن لم يغير المعنى، وكذا فيها إن غيره، ولو نطق بالكلمة الواحدة مرتين .. حرم، كأن يقف ولو يسيراً بين السين والتاء من (نستعين). تنبيه: بين اللحن المخل بالمعنى وبين الإبدال، عموم وخصوص وجهي. (و) التاسع: (الموالاة) في (الفاتحة)، وكذا في التشهد عند (م ر)؛ بأن لا يفصل بين شيء منهما وما بعده بأكثر من سكتة التنفس؛ للاتباع، مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (فتنقطع "الفاتحة" بالسكوت الطويل) وهو ما يزيد على سكتة التنفس (إن تعمده) وإن لم ينو القطع؛ لإشعاره بالإعراض، فإن لم يتعمده، كأن سكت لإعياء، أو لتذكر آية، أو سهواً .. لم يضر وإن طال؛ لعذره، كما لو كرر آية منها في محلها، ولو لغير عذر أو عاد إلى ما قرأه قبل، واستمر، ولو شك أثناءها في ترك البسملة مثلاً، ثم ذكر أنه أتى بها .. لزمه إعادة ما قرأه على الشك فقط، وقال ابن سريج: (يجب استئنافها)، قال (حج) و (م ر): (إذا ما قرأه مع الشك كالأجنبي لتقصيره بقراءته) (أو كان يسيراً) أي: وتنقطع بالسكوت اليسير إن (قصد به قطع القراءة)؛ لتعديه، بخلاف مجرد قصد قطع القراءة فلا يقطعها، وإنما بطلت الصلاة بنية قطعها؛ لأن النية ركن في الصلاة، فتجب إدامتها فيها حكماً، والقراءة لا تفتقر إلى نية لها خاصة، ومن ثم لم تؤثر نية قطع الركوع أو غيره من الأركان غير النية.

تنبيه: في عبارة المتن قلاقة ظاهرة؛ لأنها تقتضي أن (الفاتحة) تنقطع بالسكوت الطويل حيث تعمده، أو كان يسيراً، فيكون البطلان بالسكوت الطويل إن كان يسيراً، وهو تنافٍ ظاهرٌ، وعبارة "المنهاج" مع بعض توضيح من "النهاية": (ويقطع الموالاة السكوت الطويل العمد، وكذا يسير قصد به قطع القراءة في الأصح) اهـ وقد يجاب بأن الضمير في (كان) عائد على السكوت، لا بقيد كونه طويلاً، أي: فتنقطع (الفاتحة) بتعمد السكوت حيث كان طويلاً أو يسيراً قصد به قطع القراءة، وتنقطع الموالاة أيضاً بقراءة آية من غيرها. (وبالذكر) وإن قل، كالحمد ولو من عاطس وإن سن ولو فيها وكإجابة مؤذن بغير الحيعلتين؛ لعدم اختصاص ذلك بالصلاة لمصلحتها، فأشعر بالإعراض بخلاف اليسير في العقود، (إلا إذا كان ناسياً) أو جاهلاً؛ لعذره. (وإلا إذا سن في الصلاة) بأن كان مأموراً به لمصلحتها، فلا تنقطع به القراءة، وذلك: (كالتأمين) لقراءة إمامه (والتعوذ) من العذاب (وسؤال الرحمة) عند قراءة آيتها منه، أو من إمامه، وقوله: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين آخر (التين)، وبلى إنه على كل شيء قدير آخر (القيامة)، وآمنا بالله آخر (المرسلات)، والحمد لله آخر و (الضحى)، وسبحان ربي العظيم عند قراءة آية التسبيح، والاستغفار عند قراءة آيته، وفي ندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، خلاف يأتي في القنوت (وسجود التلاوة لقراءة إمامه) إن سجد (والرد عليه) أي: على إمامه إذا توقف وسكت عن القراءة ولو في غير الفاتحة، فلا تنقطع بذلك، ويندب الاستئناف للخلاف. أما غير قراءة إمامه .. فلا يسجد لها، وإلا بطلت صلاته. وأما فتحه عليه قبل سكوته .. فلا يسن وتنقطع به الموالاة، بل وتبطل به الصلاة إن لم يقصد القراءة على ما يأتي في شروط الصلاة. ويجب -أيضاً ولو خارج الصلاة وهو العاشر- ترتيب (الفاتحة) بأن يأتي بها على نظمها المعروف؛ للاتباع، ولأنه مناط الإعجاز فلو قدم كلمة أو آية .. نظر فإن غير المعنى أو أبطله .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، وإلا .. فقراءته وإن لم يغيره ولم يبطله لم يعتد بما قدمه مطلقاً، وكذا بما أخره إن قصد به عند شروعه فيه التكميل على ما قدمه، وإلا بأن قصد الاستئناف أو أطلق .. كمل عليه إن لم يطل فصل، فإن عجز عن قراءة (الفاتحة) .. قرأ سبع آيات من غيرها ولو مفرقة وإن تفاوتت ولم تفد معنى منظوماً، كـ (ثُمَّ نَظَرَ) [سورة المدثر:21]

لكن بشرط كونها بقدر حروفها ولوظناً، فإن عجز عن القرآن .. أتي بذكر، ويعتبر سبعة أنواع منه، أو من دعاء، أو منهما. مثالها من الذكر: (سبحان الله، والحمد لله، وولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، فهذه خمسة أنواع. و (ما شاء الله كان) نوع منه، و (ما لم يشأ لم يكن) نوع، فهذه سبعة أنواع، لكن حروفها لم تبلغ قدر (الفاتحة)، فيزيد ما يبلغ قدرها ولو بتكريرها، ولو أحسن شيئاً من (الفاتحة) .. أتي به في محله، ويبدل الباقي إن أحسن شيئاً من الذكر، وإلا .. كرره حتى يبلغ قدر الفاتحة، فإن عجز عن جميع ما مر .. وقف قدر (الفاتحة) معتدلة ولو ظناً؛ إذ الوقوف بقدر (الفاتحة) واجب كـ (الفاتحة)، والميسور لا يسقط بالمعسور. ويسن الوقوف أيضاً قدر السورة والقنوت والقعود بقدر التشهد الأول. (الخامس: الركوع)؛ للكتاب والسنة والإجماع. وهو لغة: الانحناء، وشرعاً: انحناء خاص وسيأتي في السنن أكمله وأكمل غيره. (وأقله) للقائم (أن ينحني) بلا انخناس (حتى تنال) يقيناً (راحتاه) وهما ما عدا الأصابع من الكفين (ركبتيه) لو وضعهما عليهما عند اعتدال خلقته، فلا يحصل مع انخناس، ولا ببلوغ الأصابع دون الراحتين أو أحدهما، ولا ببلوغ راحتي طويل يدين ولو كان معتدلهما لم تبلغهما، ولا مع الشك؛ لأنه في جميع ذلك لم يسم ركوعاً، بل وتبطل صلاته إن رفع عمداً. والانخناس: أن يخفض عجيزته، ويرفع أعلاه، ويقدم صدره. أما القاعد .. فقد مر ركوعه. (ويشترط أن يطمئن) في الركوع يقيناً؛ للأمر بها في خبر المسيء صلاته فيه، وفيما بعده. وهي (بحيث تستقر أعضاؤه) حتى ينفصل رفعه من ركوعه عن هويه، ولا تقوم زيادة الهوي مقامها (وأن لا يقصد به) أي: الهوي (غيره) أي: غير الركوع فقط، بأن يوجد الصارف عنه مطلقاً وإن لم يقصده كمسألة السقوط الآتية، ومع عدم الصارف لا يجب قصده، لأن نية الصلاة منسحبة عليه كغيره من الأركان، فيكفيه أن يهوي إليه بقصده، أو بقصده مع غيره ولو مع وجود الصارف، وكذا بلا قصد حيث لا صارف.

(فلو هوى لتلاوة) أي: لسجودها، أو لقتل نحو حية (فجعله) عند بلوغه حد الراكع (ركوعاً .. لم يكفيه) بل يجب أن ينتصب، ثم يركع؛ لصرفه هويه لغير واجب فلم يقم عنه، ولو شك وهو ساجد هل ركع؟ .. لزمه الانتصاب فوراً ثم الركوع، ولا يجوز له القيام راكعاً، وإنما لم يحسب له هويه عن الركوع؛ لأنه لا يلزم من هوي السجود من قيام وجودُ هوي الركوع، بخلاف ما لو شك غير مأموم بعد تمام ركوعه في الفاتحة، فعاد للقيام، ثم تذكر أنه قرأها .. فيحسب له انتصابه عن الاعتدال، وما لو رفع من السجود يظن جلوسه للاستراحة أوالتشهد الأول، فبان له الحال بخلافه .. فيكفيه رفعه، فإنَّ القيام في الأول والجلوس في الأخيرين واحد لا يختلف، فقول الزركشي، واعتمده (م ر): (إنه لو هوى إمامه فظن أنه يسجد للتلاوة فتابعه فبان أنه ركع .. حسب له، واغتفر ذلك للمتابعة) خالفهُ فيه (حج) لما مر، وفي "الشرح": (لو أراد أن يركع فسقط .. قام ثم ركع، ولا يقوم راكعاً، فإن سقط أثناء انحنائه عاد للمحل الذي سقط منه) اهـ وقياس ما يأتي في السقوط من الهوي من الاعتدال أنه يقوم هنا إلى الركوع، لا إلى المحل الذي سقط منه. (السادس: الاعتدال، وهو) لغة: الاستقامة والمماثلة. وشرعاً: (أن يعود) الراكع (إلى ما كان عليه) قبل ركوعه من قيام وغيره، فلو صلى نفلاً من قيام وركع منه .. تعين اعتداله من قيام، ولو ركع من جلوس بعد اضطجاعه مع القدرة بأن قرأ فيه، ثم جلس؛ لأنه يجب عليه الجلوس ليركع منه .. عاد إلى الاضطجاع، أو إلى الجلوس؛ لأنه أعلى منه، كما قرره الحفني، لكن رجح غيره: أنه يجب عوده للجلوس؛ لأنه ابتدأ ركوعه منه. (وشرطه) أي: الاعتدال (الطمأنينة فيه) يقيناً (وأن لا يقصد به غيره) نظير ما مر في الركوع. (فلو رفع) من الركوع (فزعاً من شيء .. لم يكف) ذلك الرفع للاعتدال؛ لوجوده الصارف، ولو سقط من ركوعه من قيام قبل الطمأنينة .. عاد إليه وجوباً، واطمأن ثم يعتدل، أو بعدها .. نهض معتدلاً.

ومن شرطه أيضاً: أن لايطوله كما يأتي. وخرج بـ (فزعاً) ما لو شك راكعاً في (الفاتحة)، فرفع بعد الطمأنينة ليقرأها، فتذكر أنه قرأها .. فيكفيه هذا الرفع للاعتدال؛ لأنه ليس أجنبياً كما مر بخلاف صرفه للفزع. (السابع: السجود مرتين) في كل ركعة؛ للكتاب والسنة والإجماع. وهو لغة: الخضوع، وشرعاً: وضع الأعضاء السبعة الآتية. (وأقله أن يضع) المصلي (بعض بشرة جبهته) أو بعض شعرها (على مصلاه) وبعضاً من كلًّ من كفيه وركبتيه وقدميه و (الجبهة): ما اكتنفه الجبينان وهما المنحدران عن جانبيها، وإنما وجب كشفها دون بقية الأعضاء؛ لسهولته، وذلك للحديث الصحيح: "إذا سجدت .. فمكن جبهتك، ولا تنقر نقراً"، مع خبر: (أنهم شكوا إليه صلى لله عيه وسلم شدة الحر فلم يرشدهم لسترها) ولو جاز .. لأرشدهم لذلك. تنبيه: عد السجدتين ركناً واحداً؛ لاتحادهما، والمناسب -لما يأتي في التقدم والتأخر- عدهما ركنين، وكرر السجود دون غيره؛ لأنه أبلغ في التواضع، ولما فيه من إرغام الشيطان. و (شرطه الطمأنينة) يقيناً (ووضع جزء) على مصلاه وإن قل ولو مستوراً، وإن لم يتحامل عليه من كل (من ركبتيه، وجزء من بطون) كل من (كفيه) يقيناً، و (الكف): ما ينتقض الوضوء بمسه الذكر، لكن لا يجزئ وضع بطن أصبع زائدة وإن نقض مسه (و) جزء من بطون (أصابع) كل من (رجليه) في آن واحد؛ للخبر الصحيح: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين". (و) شرطه أيضاً (تثاقل رأسه) بحيث لو كان تحته قطن .. لانكبس وظَهَرَ أثره على يده، أي: أحست بذلك، وتخصيص الجبهة بذلك ظاهر من الحديث السابق. (وعدم الهوي لغيره) نظير ما مر في الركوع (فلو سقط) من الاعتدال (على وجهه) قهراً .. لم يحسب له؛ إذ لا بد من نيته أو فعل اختياري، ولم يوجد واحد منهما، و (وجب العود إلى الاعتدال)؛ ليهوي منه، والطمأنينة إن لم يطمئن.

وخرج بسقوطه من الاعتدال سقوطه من الهوي إلى السجود، أو من الاعتدال بعد قصده الهوي، فلا يضر؛ لعدم الصارف؛ إذ الهوي مقصود له. نعم؛ إن سقط على جبهته بقصد الاعتماد عليها .. وجب اعادة السجود بعد أدنى رفع لجبهته. (و) شرطه أيضاً (ارتفاع أسافله) أي: عجزه وحولها (على أعاليه) وهي رأسه ومنكاباه يقينا؛ لما صح عن البراء أنه قال: (هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعله)، فلو ارتفع أعاليه .. لم يصح جزماً، أو استويا فكذا على الأصح، فلو لم يتمكن من ارتفاع أعاليه .. صلى بحسب حاله وأعاد، ولو عجز عن وضع جبهته إلاَّ على نحو وسادة .. وجب إن حصل به التنكيس، وإلا .. فلا؛ إذ لا فائدة فيه. (وعدم السجود على شيء) محمول له (يتحرك بحركته) ولو بالقوة عند (م ر)، كأن يسجد على شيء لا يتحرك بحركته قاعداً ولو قام لتحرك بحركته، فلا يصح خلافاً لمالك وأبي حنيفة؛ لأنه كالجزء منه، وتبطل به صلاته إن علم وتعمَّد، وإلا .. أعاده (إلا أن يكون) شيئاً (في يده) كمنديل فيصح سجوده عليه مع الكراهة؛ لأنه في حكم المنفصل. وخرج بمحموله نحو سرير يصلي عليه، وهو يتحرك بحركته؛ لأنه في معنى المنفصل. وعلم مما مر أنه لا بد من مباشرة [بعض] جبهته مصلاه (فلو عصب جبهته لجراحة، وخاف من نزع العصابة) محذور تيمم، وكذا مشقة شديدة كما في "الإيعاب" .. (سجد عليها)؛ للعذر (ولا قضاء)؛ لأنه عذر غالب دائم. تنبيه: ظاهر المتن بل صريحه أن السجود وضع الجبهة فقط، وأن وضْعَ بقية الأعضاء شروط، وهو ظاهر صنيع غيره من الكتب. قال (ب ج): (وصريح كلامه -أي: "المنهج"- أن مسمى السجود وضع الجبهة فقط، والبقية شروط له، وقيل: مسمى السجود: وضع الجميع) اهـ ورجح هذا القيل الأشخرُ، كما بستطه في "الأصل".

(الثامن: الجلوس بين السجدتين) ولو في النفل. (وشرطه: الطمأنينة) فيه يقيناً (وأن لا يطوله، ولا الاعتدال)؛ لأنهما شرعا للفصل، لا لذاتهما فكانا قصيرين، فإن طول أحدهما فوق ذكره المشروع فيه قدر الفاتحة في الاعتدال، وقدر أقل التشهد في الجلوس بين السجدتين عامداً عالماً .. بطلت صلاته، واختار كثيرون أنهما طويلان. (وأن لا يقصد) بالرفع (غيره) أي: الجلوس (فلو رفع فزعاً من شيء .. لم يكفه)؛ لما مر. (التاسع: التشهد الأخير) أي: المأتي به آخر كل صلاة، فيشمل نحو الصبح؛ لما صح من الأمر به في خبر: "قولوا التحيات لله ... " إلخ؛ وبأنه فرض بعد أن لم يكن، كما في رواية ابن مسعود. وسمي الكل تشهداً؛ تسمية له باسم جزئه. (وأقله: التحيات) جمع تحية أي: جميع ما يحيا به، أي: يعظم به من سلام وغيره ثابت (لله) ومختص به بطريق الاستحقاق الذاتي (سلامٌ) بالتنوين ولو حذفه لم يضر؛ لأنه لم يغير المعنى، وخالف (سم)، أي: اسم السلام، وهو الله. (عليك) أي: حفيظ ورقيب، بالحفظ والمعونة، أو التسليم، أو السلامة من الآفات عليك، وقيل: معناه الله معك. (أيها النبي، ورحمة الله وبركاته) خوطب به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يكشف له عن المصلين، ولذا قال في "الإحياء": (واحضر شخصه الكريم في قلبك عند ذلك). (سلام علينا) أي: الحاضرين من آدمي وملك وجني (وعلى عباد الله الصالحين) جمع صالح من جميع الخلق، وهو القائم بحقوق الله وحقوق عباده. وإنما فسر في خبر: "أو ولد صالح يدعو له" بالمسلم؛ لأن المراد فيه الحث على التزوج للنسل، وهنا المراد تعظيم المدعو له، فناسب تفسيره بما مر.

(أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) أو عبده ورسوله، وكذا: وأن محمداً رسوله عند (م ر). (وتشترط موالاته) بمعناها في (الفاتحة). نعم؛ يغتفر زيادة الكريم هنا بعد أيها النبي، وزيادة ياء قبله، وزيادة والملائكة المقربين بعد الصالحين، وزيادة وحده لا شريك له بعد إلا الله. ولا يشترط ترتيبه، بل يسن، ولا موالاته عند (حج). (وأن يكون بالعربية) -كغيره من الأذكار- إن قدر عليها، وإلا .. ترجم عن المأثور فقط. وبقية شروط الفاتحة: شروط هنا أيضاً. ويجب أيضاً إدغام النون في اللام في أن لا إله إلا الله، واللام في الراء من الرحمن، وكذا كل مدغم، فلو أظهر .. لم يصح، فإن أعاده على الصواب .. صحت، وإلا .. بطلت، ولا نظر لكون النون واللام لمَّا ظهرت خلفت الشدة؛ لأن في ذلك تركَ شدة أو إبدال حرف بأخر، وهو مبطل إن غير المعنى كما هنا، على ما مر. قال في "التحفة": (فزعْمُ عدم إبطاله؛ لأنه لحن لا يغير المعنى ممنوعٌ؛ لأن محل ذلك حيث لم يكن فيه ترك حرف، والشَّدة بمنزلة الحرف، كما صرحوا به، نعم؛ لا يبعد عذر الجاهل بذلك) اهـ لكن نازعه (سم) في الإبطال به من القادر، قال: لأنه لا يزيد على اللحن الذي لايغير المعنى، سيما وقد جوز بعض القراء الإظهار في مثل ذلك. قال ابن الجزري في أحكام النون الساكنة والتنوين: (وخيَّر البزي بين الإظهار والإدغام فيهما، أي: النون والتنوين عندهما، أي: عند اللام والراء ... إلخ) اهـ وأما قوله: (لأن محل ذلك .... إلخ) فجوابه: (أنه لم يترك هنا حرفاً، بل رجع إلى الأصل هنا) اهـ، وهو ظاهر. (العاشر: القعود) على القادر (في التشهد الأخير)؛ لأنه محله، فيتبعه في الوجوب باتفاق من أوجبه.

(الحادي عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده) أي: التشهد (قاعداً)؛ إذ القعود ركن فيها. والمراد بالبعدية عدم تقدمها على شيء منه، لا الموالاة بينهما، فلا يضر تخلل ذكر أو سكوت طويل. والأصل في وجوبها: آية (صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب:56] مع الإجماع على عدم وجوبها في غير الصلاة، فتعين كونها فيها. (وأقلها: اللهم صل) أو صلى الله (على محمد، أو على رسوله، أو على النبي) دون: أحمد، أوعليه والرسول والحاشر والعاقب ونحوها. وإنما أجزأت دون (عليه) في الخطبة؛ لأنها أوسع من الصلاة. وشروطها: شروط التشهد. ولو قال بإثبات الياء: (صلي) .. حرم، وفي البطلان به خلاف بينته في "الأصل". ولو عجز المصلي عن التشهد، أو الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام .. لم يجب بدله عند (سم)، ونقل (ب ج) عن (م ر) الوجوب. ولو ظن مصلي فرض أنه في نفل، فكمل عليه .. لم يضر، بخلاف ما لو شك، هل نوى فرضاً أو نفلاً؟ أو هل نوى ظهراً أو عصراً؟ فيضر. (الثاني عشر: السلام، وأقله: السلام عليكم) وشروطه عشرة: الإتيان بأل، فلا يصح مع حذفها، بخلافه في التشهد؛ لوروده فيه لا هنا، وبكاف الخطاب، وميم الجمع، وأن يتلفظ به بحيث يسمع نفسه لو لم يكن مانع، وأن يوالي بين كلمتيه، وأن يأتي به أو ببدله من جلوس، ومستقبل القبلة بصدره إلى تمامه، وأن لا يقصد به غيره فقط، وأن لا يزيد فيه على الوراد، ولا ينقص عنه. نعم؛ لو قال: السلام التام، أو الحسن، أو السلم -بكسر السين، أو فتحها مع

سكون اللام، أو بفتح السين واللام- وقصد به معنى السلام ولو مع غيره .. لم يضر، وكفى. ولو جمع بين أل والتنوين في السلام، أو زاد فيه الواو .. لم يضر؛ لوجود ما يعطف عليه، بخلاف زيادتها في التكبير. ولو قال: عليكم السلام .. صح مع الكراهة، أو سلام أو سلامي أو سلام الله عليكم أو عليك أو عليكما .. بطلت صلاته، أو عليهم لم تبطل؛ لأنه دعاء ولا خطاب فيه، لكنه لا يجزئه، بل قال الرشيدي: (ينبغي أن محل عدم ضرره حيث لم يقصد به التحلل). (الثالث عشر: الترتيب) لأركانها، كما ذكر في عدها المشتمل على قرن النية بالتكبير في القيام، والقراءة به، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام بقعودها، فالترتيب فيما عدا ذلك، وعده ركناً بمعنى الجزء فيه .. تغليب، وبمعنى الفرض .. صحيح. وخرج بالأركان السنن، فإذا قدّم مؤخراً .. اعتد به وفات المتروك، حتى لو أتى به بعده، أو أعادهما جميعاً .. لم يحصل. نعم؛ لو قدّم السورة على (الفاتحة)، ثم أتى بها بعدها .. اعتد بها؛ لأن هذا ترتيب بين واجب وسنة، لا بين مندوبين. (فإن تعمد تركه) أي: الترتيب بتقديم ركن قولي هو السلام أو فعلي مطلقاً (كأن سجد قبل ركوعه) عامداً عالماً ( .. بطلت صلاته) إجماعاً؛ لتلاعبه. أمَّا تقديم قولي -غير السلام- على قولي أو فعلي .. فلا يضر، لكن لا يحسب ما تقدم على محله. (وإن سها) بترك الترتيب، ثم تذكر المتروك ( .. فما) فعله (بعد المتروك لغو)؛ لوقوعه في غير محله. (فإن تذكر) -غير مأموم- المتروك (قبل أن يأتي بمثله) من ركعة أخرى ( .. أتى به)

فوراً؛ محافظة على الترتيب، وإلا .. بطلت صلاته. أما المأموم .. فلا يعود للمتروك، بل يأتي بركعة بعد سلام إمامه. وكالتذكر الشك فلو شك راكعاً هل ترك الفاتحة؟ أو ساجداً هل ركع أو اعتدل .. قام فوراً وجباً، ولا يكفيه في الثانية أن يقوم راكعاً كما مر. وما اقتضاه المتن من الاقتصار على فعل المتروك محله في غير هذه الصورة. لكن قال (سم): (يمكن أن يستغني عن ذلك) وفيه نظر. أو شك في قراءة الفاتحة قائماً .. لم يلزمه القراءة فوراً؛ لأنه لم ينتقل عن محلها (وإلا) يتذكر حتى أتى بمثله من ركعة أخرى ( .. تمت به) أي: بالمثل المفعول (ركعته) إن كان آخرها كالسجدة الثانية وألغى ما بينهما، وإن كان أولها أو أثناءها كالفاتحة .. حسب له عن المتروك وأتى بما بعده منها (وتدارك الباقي) من صلاته، هذا إن كان المثل من الصلاة -وإن نوى به غيره كجلوس بين السجدتين نوى به جلوس الاستراحة، وإلاَّ كسجدة التلاوة .. لم يجزه عنه- وعرف عين المتروك ومحله، وإلاَّ .. أخذ باليقين وأتى بالباقي. نعم؛ إن جوز أن متروكه النية، أو تكبيرة التحرم .. بطلت صلاته، ولم يشترط هنا طول ولا مضي ركن؛ لأن هنا تيقُنَ ترك انضم لتجويز ما ذكر، وهو أقوى من مجرد الشك في ذلك. وفي تلك الأحوال كلها ما عدا المبطل يسجد للسهو ما لم يكن متروكه السلام، فيأتي به ولو بعد طول الفصل، ولا سجود للسهو؛ لفوات محله بالسلام. (ولو تيقن، أو شك في آخر صلاته) أو بعد سلامه بشرطه الآتي (ترك سجدة من الركعة الأخيرة .. سجدها، وأعاد تشهده)؛ لوقوعه في غير محله، وسجد للسهو (أو من غيرها) أي: الأخيره (أو شك فيها) هل هي من الأخيرة أو من غيرها؟ ( .. أتى بركعة)؛ لأن الناقصة في مسألة اليقين كملت بسجدة من التي بعدها، ولغى ما بينهما، وأخذ بالأسوأ في مسألة الشك وهو جعل المتروك من غير الأخيرة حتى تلزمه ركعة؛ لأنه أحوط.

(وإن قام إلى) الركعة (الثانية) مثلاً (وقد ترك سجدة من الأولى) أو شك فيها (فإن كان قد جلس) قبل قيامه وبعد سجدته التي قام عنها (ولو للإستراحة .. هوى للسجود) فوراً من قيام، واكتفى بذلك الجلوس وإن ظنه للإستراحة؛ إذ الفرض يتأدى بنية النفل حيث كانت نية الصلاة شاملة له بطريق الأصالة، كما يجزئ التشهد الأخير بنية التشهد الأول؛ لشمول نية الصلاة له، بخلاف سجدة التلاوة، فلم تشملها نية الصلاة إلا بطريق التبع للقراءة المندوبة، وبخلاف التسليمة الأولى بنية الثانية؛ لوقوعها خارج الصلاة، فلا تقوم مقام الأولى عند شكه في الأولى، بل يأتي بها. (وإلاَّ) يجلس قبل قيامه ( .. جلس) للركن (مطمئناً، ثم يسجد، فإن تذكر) يقيناً (ترْكَ ركن غير النية وتكبير التحرم بعد السلام .. بنى على صلاته إن قرب الفصل) بأن لا يسع ركعتين بأخف ممكن (ولم) يأت بمناف كأن (يمس نجاسة) غير معفو عنها، وإلاَّ .. استأنف فيهما. (و) لكن (لا يضر استدبار القبلة) إن قصر زمنه عرفاً، وإن خرج من المسجد مثلاً من غير فعل كثير متوال، وكذا إن حصل منه أفعال متوالية على ما هو الظاهر من حديث ذي اليدين، كما يأتي. (ولا الكلام) إن قل، وهو ست كلمات عرفية فأقل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تكلم بها في قصة ذي اليدين، واستدبر القبلة، ومشى إلى ناحية المسجد. (فأن طال الفصل) عرفاً، وهو قدر ركعتين بأخف ممكن ( .. استأنف) الصلاة وإن لم يحدث فعلاً؛ لأنه وإن كان سكوتاً، وهو ولو طويلاً لا يبطلها، انضم إليه سلام في غير محله. أمّا النية وتكبيرة التحرم .. فبتذكر ترك أحدهما يتبين عدم انعقادها، وكذا بالشك في أحدهما وإن لم يضر الشك في غيرهما بعد السلام؛ لأن الانعقاد يحتاط له أكثر من غيره. * * *

فصل: في سنن الصلاة

(فصل: في سنن الصلاة) أي: بعض سننها؛ إذ لم يذكر جميعها؛ لأنها كثيرة جداً. والسنن: جمع سنة، وهي لغة: الطريقة ونحوها. وشرعاً: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. وتسمى بعضاً إن جبر تركها بالسجود، وإلا .. فهيئة. والمراد هنا ما يشملهما، وبـ (الصلاة) الفرض والنفل. (ويسن) لذكر مستور تفرقه بين قدميه قدر شبر، ولغيره ضمها، ولكل (التلفظ بالنية) أي: المنوي السابق فرضه كقصد الفعل ونفله كعدد الركعات (قبيل التكبير)؛ ليساعد اللسانُ القلبَ، ولأنه أبعد عن الوسواس، وخروجاً من خلاف من أوجبه في كل عبادة لها نية -وإن شذ- قياساً على الحج. (واستصحابها) ذُكراً -بضم أوله- بقلبه إلى فراغها؛ لأنه معين على الحضور، وأبعد عن الوسواس والشك. أمَّا استصحابها حكماً بأن لا يأتي بما ينافيها من نحو قطع .. فواجب في جميعها. (ورفع اليدين) ولو مضطجعاً، وامرأة إجماعاً؛ للأحاديث الصحيحة. قال الشرقاوي: والسنة تحصل بأي رفع. والأكمل أن ينظر أولاً إلى موضع سجوده، ويطرق رأسه قليلاً، ثم يرفع يديه (مع إبتداء) همزة (تكبيرة الإحرام). (و) أن تكون (كفه) أي: كل منهما (مكشوفة)؛ لكراهة سترهما إلا لعذر. ويظهر أن منه سترَ المرأة كفيها خوفاً من أن يظهر شيء مما يجب ستره من يديها، سيما عند رفعهما في نحو ركوع. ومتوجهة ببطنها (إلى الكعبة) أو بدلها. (ومفرجة الأصابع) تفريجاً وسطاً؛ ليكون لكل عضو استقلال بالعبادة، وأن يميل عند (م ر) أطرافها نحو القبلة؛ ليحصل محاذاة أطراف الأصابع لأعلى أذنيه.

(و) أن يكون رفعه (محاذياً بإبهاميه) أي: بروؤسهما (شحمة أذنيه) وبروؤس بقية الأصابع أعلى أذنيه، وبكفه ومنكبيه. وهذه الكيفية جمع بها الشافعي بين الروايات المختلفة في ذلك. (وينهي رفع اليدين) بهيئتهما المذكورة (مع آخر التكبير) على المعتمد، ولو فعل بعض ما ذكر .. أثيب عليه، وفاته الأكمل. (ويرفع) أيضاً (يديه) والأكمل كونهما بهيئتهما المذكورة السابقة في رفع التحرم. (عند الركوع) بأن يبدأ به قائماً مع ابتداء تكبيرة الإحرام، فإذا حاذى كفاه منكبيه .. انحنى مادّاً التكبير إلى استقراره في الركوع؛ لئلا يخلو جزء من صلاته من ذكر، وكذا سائر الانتقالات حتى في جلسة الاستراحة، كما يأتي. (و) عند (الاعتدال) يرفع يديه، والأكمل كونهما بهيئتهما في التحرم، وكون الرفع مع ابتداء رفع رأسه إلى انتصابه، فإذا انتصب قائماً .. أرسل يديه. وقيل: يجعلهما تحت صدره كالقيام. (و) عند (القيام من التشهد الأول) فيرفع يديه كما مر؛ للاتباع. أمَّا في الأولين .. فلثبوته من رواية نحو خمسين صحابياً، كما في "الأشباه" للسيوطي. بل قال ابن خزيمة وغيره بوجوبه. وأمَّا الثالث .. فلثبوته في "صحيح البخاري"، وغيره. وزاد بعضهم: الرفع من القيام من السجود، وقيده بعضهم، كما قاله الشرقاوي بمن قام من جلسة الاستراحة. وقد بينت ذلك في "الأصل" وذكرت صحة الحديث به، وشمول بعض نصوص الشافعي له. (فإذا فرغ من) تكبير (التحرم .. حط يديه) من انتهاء التكبير؛ لكراهة استدامة الرفع حينئذٍٍ (تحت صدره) وفوق سرته، وكذا إذا قام من التشهد الأول ومن السجود على

القول به (وقبض بكف) يده (اليمنى) وبأصابعها (كوع) يده (اليسرى) وهو العظم الذي يلي إبهام اليد (وأول الساعد) وبعض الرسغ، وهو المفصل بين اليد والساعد، وقد نظم بعضهم ذلك فقال: وعظمٌ يلي الإبهام كوعٌ وما يلي ... لخنصره الكرْسُوع والرسغُ ما وسط وعظمٌ يلي إبهام رجل ملقبٌ ... ببوعٍ، فخذ بالعلم واحذر من الغلط وحكمة ذلك: أن يكون فوق أشرف الأعضاء، وهو القلب، الذي هو محل النية والإخلاص والخشوع؛ إذ من خاف على شيء .. وضع يده عليه. وقيل: يبسط أصابعها في عرض المفصل، أو ينشرها صوب الساعد. ولو ترك الرفع عمداً أو سهواً أول التكبير .. رفع أثناءه لا بعده؛ لزوال سنه حينئذٍ. (و) يسن أيضاً للمصلي (نظر موضع السجود) أي: سجوده في جميع صلاته ولو صلاة جنازة، والأعمى ومن في ظلمة تكون حالتهما كحالة الناظر لمحل سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع (إلا عند الكعبة) .. فينظرها على ما قاله الماوردي، والمعتمد: أنه ينظر محل سجوده. (وإلا عند قوله) في تشهده (إلا الله .. فينظر) ندباً، كما في خبر صحيح (مسبحته) -بكسر الباء- عند الإشارة بها ولو مستورة مادامت مرتفعة، وذلك إلى القيام في الأول، وإلى السلام في الأخير. (و) ويسن، وقيل: يجب أن (يقرأ) في غير صلاة الميت ولو على القبر أو غائباً (دعاء الاستفتاح) سراً (عقب) أي: بعد (تكبيرة الإحرام) بأن لا يفصل ذكرغير مشروع بينهما إلا بسكتة يسيره؛ للاتباع، إلا لمن أدرك الإمام في غير القيام، فلا يسن له -نعم؛ يسن لمن سلم إمامه قبل أن يجلس- وإلاَّ لمن خاف فوت بعض الفاتحة أو بعض الوقت بحيث يخرج بعض الصلاة عنه لو أتى به، لكن يرد على الأخير ما مر قبيل فصل (ومن جهل الوقت).

ومثله: التعوذ في غير الأول. وإلا لمن شرع في التعوذ أو القراءة. وورد فيه ادعية كثيرة أفضلها: "وجهت وجهي .. إلخ" إلا أنه يقول: وأنا من المسلمين، بدل: وأنا أول المسلمين. ولا يزيد إمام عليه أن أتى به إلا إن أمَّ محصورين بمحل غير مطروق، وقد رضو بالتطويل، ولم يطرأ غيرهم وإن قل حضوره، ولا تعلق بعينهم حق، كأجراء إجارة عين على عمل ناجز، وأرقاء وحليلات. (ومنه) أيضاً (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) ومنه أيضاً: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وغير ذلك. (ويفوت) ندب دعاء الافتتاح (بالتعوذ) أي: بالشروع فيه، أو في القراءة ولو سهواً. (وبجلوس المسبوق مع الإمام)؛ لفوات محله (لا بتأمينه معه) أي: مع الإمام؛ لأنه يسير. (و) يسن (التعوذ) للقراءة بعد الافتتاح، وتكبيرات صلاة العيد إن أتى بهما ولو في صلاة جهرية، وكونه في الصلاة (سراً) ولو في صلاة جهرية كسائر الأذكار. أمَّا خارجها .. فيجهر به للفاتحة وغيرها إن جهر به و (قبل القراءة) فيفوت بالشروع في البسملة لا بالتكبيرات. وإنما يسن بشروط دعاء الافتتاح السابقة، لكنه يخالفه في أنه يسن في صلاة الجنازة، ولمسبوق جلس مع إمامه بعد قيامه. و (في كل ركعة) وفي كل من قيامات الكسوف، وهو في الأولى آكد، لا للقراءة بعد القيام من سجدة التلاوة؛ لقرب الفصل. قال في "التحفة": (أخذ منه أنه لا يعيد البسملة أيضاً وإن كان السنة لمن ابتدأ من أثناء سورة غير براءة أن يبسمل، وكسجود التلاوة كل ما يتعلق بالقراءة، بخلاف ما إذا سكت إعراضاً، أو تكلم بأجنبي وإن قل كرد سلام، وألحق بذلك إعادة السواك) اهـ

وقيد (م ر) ندب التعوذ والتسمية في أثناء السورة بخارج الصلاة. ومفهومه: أنه لا يتعوذ ولا يبسمل لأثناء السورة في الصلاة، وقرره بعضهم، وعلى ما مر عن "التحفة". فالبسملة في أثناء السورة ليست قرآناً؛ إذ لا بسملة هناك، فيسر بها مطلقاً في الصلاة كالتعوذ. وأفضل صيغ التعوذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والافتتاح أفضل منه؛ للقول بوجوبه. (و) يسن -ولو خارج الصلاة، وفيها آكد سواء الإمام والمنفرد والمأموم لقراءته وقراءة إمامه الذي سمع من آخر فاتحته جملة مفيدة- (التأمين) أي: قول آمين، بمعنى استجب، مخففة الميم مع المد أفصح منه مع القصر، فإن شدد الميم على معنى قاصدين إليك يا رب وأنت أكرم من أن تخيب قاصداً .. لم يضر، وإلا .. بطلت صلاته. وإنما يسن (بعد فراغ) قراءة (الفاتحة) أو بدلها؛ للخبر الصحيح: "إذا قال الإمام: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ) [الفاتحة:7] .. فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة -أي: في الزمن، وقيل: في الإخلاص- غفر له ما تقدم من ذنبه"، أي: من الصغائر، بل قيل: ومن الكبائر. تنبيه: عبر المصنف بـ (عقب الفاتحة)، وهو يفيد فوت التأمين بالتلفظ بغيره بعد (وَلا الضَّآلِّينَ)، وبالركوع ولو سهواً فيهما، وكذا بسكوت طويل عند (حج). نعم؛ يسن بعد (وَلا الضَّآلِّينَ)، وقبل "آمين" كما في الخبر: "رب اغفر لي". قال السيد عمر البصري: (فإن زاد: ولوالدي ولجميع المسلمين .. لم يضر) اهـ وهو مساوٍ لقول غيره: لا بأس بذلك، أي أنه لا مسنون ولا مكروه. وندب لكل أحد سكتة لطيفة بين آخر (الفاتحة) و"آمين"، وحسن بعدها زيادة "رب العالمين". والأفضل: تأمين المأموم مع تأمين إمامه؛ ليوافق تأمين الملائكة وإن وصل التأمين بالفاتحة، ولأن التأمين لقراءة إمامه وقد فرغت، فالمراد من خبر: "إذا أمن الإمام .. فأمنوا" إذا أراد أن يؤمن. ولا يسن تحري موافقته إلا في هذا، فإن فاتته المقارنة .. أمَّن عقبه وإن شرع في

السورة، ولو أخره عن زمنه المسنون .. آمن قبله؛ اعتباراً بالمشروع. ووقضيته: أنه لو جهر به في السرية .. لايؤمن لقراءته، واعتمده في "الأسنى"، لكن في "التحفة"، و"النهاية" خلافه. ولو فرغا من الفاتحة معاً .. كفى تأمين واحد، وإلا .. أمَّن لكل. وقضية كلامهم: عدم ندبه لغير المأموم وإن سمع، كما في "التحفة". (و) يسن للمأموم وغيره (الجهر به في الجهرية) على الأظهر في المأموم، وقطعاً في غيره؛ لما صح: أن ابن الزبير كان يؤمن هو ومَنْ وراءه بالمسجد حتى إن للمسجد للجة. ولما صح عن عطاء: أنه أدرك مئتي صحابي بالمسجد الحرام يرفعون أصواتهم بالتأمين، وقيس بما فيهما: المنفرد. فائدة: يجهر المأموم خلف الإمام في تأمينه؛ لتأمينه، ولدعائه في القنوت، وفي فتحه عليه، وتنبيهه، وفي نحو سؤال الرحمة عند قراءة آيتها، والجهر بتكبيرات الانتقالات إذا كان مبلغاً. (و) يسن (السكوت) بين التحرم والافتتاح، وبينه وبين التعوذ، وبينه وبين البسملة. و (بين آخر "الفاتحة" وآمين، وبين آمين والسورة) إن قرأها، وبين آخرها والركوع؛ ليتميز آمين عن القراءة، وإلا .. فبين آمين والركوع. (و) كلها بقدر سبحان الله، إلا التي بين آمين والسورة (يطولها الإمام) ندباً (في الجهرية بقدر "الفاتحة") التي يقرأها المأموم إن ظن قراءة المأموم لها؛ ليتفرغ لسماع قراءة الإمام، ويشتغل في سكوته هذا بذكرٍ أو قراءة، وهي أولى إن رتب ووالى. وندب: كون قراءة الأولى أطول من قراءة الثانية (و) سكتة لطيفة (بعد فراغ السورة) على ما مر. ويندب وصل البسملة بالحمدلة للإمام وغيره؛ لما ورد: (أن من فعل ذلك .. غفر له، وقبلت حسناته، وتُجُوِّز عن سيئاته، وأعيذ من عذاب النار وعذاب القبر وعذاب يوم القيامة، ومن الفزع الأكبر).

قال في شرحي "الإرشاد": نعم؛ الوقف على رؤوس الآي أفضل؛ للاتباع. (و) يسن في سرية وجهرية -فرض ونفل لإمام ومنفرد ومأموم وسيأتي أنه إذا سمع قراءة إمامه .. لا يقرأ ذلك- (قراءة شيء من القرآن) ولو بعض آية مفهماً. قال (سم): (لا يبعد التأدي بنحو الحروف في أوائل السور كـ: (ألم) و (ص)، بناء على أنه مبتدأ حذف خبره، أو عكسه، ولاحَظَ ذلك، والظاهر: أنه على هذا آية، غايته أنه حذف بعضها، وهو لا ينافي إفادتها) اهـ نعم؛ إنما تندب لغير جنب فقد الطهورين؛ لحرمة غير (الفاتحة) عليه. والأفضل: ثلاث آيات فأكثر، وسورة كاملة أفضل من البعض من طويلة إن ساواها، وكذا إن كان أطول منها عند (حج)، قال: للاتباع الذي قد يربو فضله على زيادة الحروف. نعم؛ البعض الوارد أفضل من سورة كاملة غير واردة، كما في التراويح. ويحصل أصل السنة بتكرير سورة في الركعتين وبالبسملة لايقصد أنها التي أول الفاتحة. وإنما يسن ذلك: (بعد "الفاتحة") فإن قدمه عليها .. لم يحسب، وكونه (غير "الفاتحة") فلو كرر الفاتحة .. لم يكف إن حفظ غيرها. وإنما يسن (في الصبح) ونحوها من كل صلاة ثنائية، كجمعة وعيد وسنة صبح. (و) في (الأولتين من سائر الصلوات) المكتوبة الزائدة على الركعتين، كمغرب وظهر. وفيما قبل تشهد أول من النوافل؛ للاتباع في المكتوبة، وقيس غيرها بها، فلا يسن في غير ذلك -لكن ثبتت قراءته صلى الله عيه وسلم في غير الأولتين أيضاً، والمثبت مقدم على النافي- ولا فيما بعد تشهد أول مطلقاً، ولا فيما بعد الأولتين من المكتوبة وإن لم يقرأ التشهد الأول. نعم؛ يقرأ ذلك في أخيرة الوتر مطلقاً، وفيما لو فرغ المأموم من فاتحته قبل ركوع الإمام؛ إذ السكوت غير مطلوب في الصلاة إلاَّ للإنصات للإمام والمسبوق الذي فاتته

السورة دون شيء من الفاتحة، فيقضيها فيما يأتي به من الركعات كما يأتي (إلا المأموم إذا سمع) قراءة (الإمام) وميَّز حروفها ولو في صلاة سرية، فلا يسن له ذلك؛ وذلك للنهي عن قراءة ذلك خلف الإمام. (وسورة كاملة أفضل من البعض) من طويلة وإن كان أطول منها؛ وفاقاً لـ (حج)، كما مر؛ للاتباع، ولاشتمالها على مبدأ ومقطع ظاهرين. (و) يسن (تطويل قراءة الركعة الأولى) على الثانية بأن تكون على النصف من الأولى أو قريبة منه؛ للاتباع، ولأن النشاط فيها أكثر. نعم؛ لو ورد تطويل الثانية، كما في: (سبح) و (الغاشية) في الجمعة .. اتبع. ويسن كون ما يقرأه فيهما سراً وجهراً مرتباً إن أمكن، وإلا كما في (سبح) و (الغاشية) .. فالأولى أن يأتي في سكتة الثانية بذكر، وأفضل منه يقرأ فيها بعض (الغاشية) سراً، ثم يقرأها كلها جهراً، ولو تعارض الترتيب وتطويل الأولى، كأن قرأ في الأولى: (الإخلاص) .. فهل يقرأ في الثانية (الفلق) نظراً للترتيب، أو (الكوثر) نظراً للتطويل؟ والأقرب الأول، وأفضل منه أن يقرأ فيها بعض (الفلق)؛ ليجمع بين الترتيب والتطويل. ولو لم يسمع قراءة الإمام .. سن له -وكذا في أولتي السرية- أن يسكت بقدر قراءة الإمام جميع فاتحته إن ظن إدراكها قبل ركوعه، وحينئذٍ يشتغل بدعاء أو ذكر لا بقراءة؛ لكراهة تقديمها على الفاتحة. ولو علم أنه لا يمكنه قراءة الفاتحة بعد تأمينه مع الإمام .. سنَّ له أن يقرأها معه، ولا يجب. (و) سن (الجهر) بالقراءة في الصلاة الجهرية لغير مأموم؛ لكراهته في غير ما مر عليه، و (لغير إمرأة) وخنثى (بحضرة) الرجال (الأجانب)؛ لكراهته لهما حينئذٍ؛ لخوف الفتنة، ويندب لهما في الخلوة وبحضرة المحارم والنساء، لكن دون جهر الرجل. وإنما يسن جهر من ذكر: (في) أداء (ركعتي الصبح، وأولتي العشاءين)

العشاء على المغرب (و) في (الجمعة حتى ركعة المسبوق) التي بها (بعد سلام إمامه، وفي العيدين) أداءً وقضاءً (و) في (الاستسقاء) ولو نهاراً (والخسوف) للقمر (و) أداء (التراويح والوتر بعدها) -أي: في رمضان، سواء أصلي التراويح قبلها، أم بعدها، أم لم يصلها- وركعتي طواف وقعت وقت جهر؛ للأحاديث الصحيحة في أكثر ذلك، وقياساً في الباقي. أمَّا القضاء .. فالعبرة فيه بوقته، فإن قضى ليلاً .. جهر ولو في النفل، أو نهاراً .. أسر إلا العيدين .. فيجهر فيهما مطلقاً؛ لورد الجهر بهما في النهار الذي هو محل الإسرار، وإلا ركعتي الفجر ووتر غير رمضان ورواتب العشاءين .. فيسر فيها مطلقاً؛ لورود الإسرار فيها في محل الجهر، فيستصحب. والمراد بالليل من غروب الشمس إلى طلوعها، فيشمل وقت الصبح، وبالنهار ما عدا ذلك، فلو صلى ركعة من الصبح قبل طلوعها ثم طلعت .. أسر في الثانية وإن كانت أداء. (و) يسن (الإسرار في غير ذلك) أي: في غير ما طلب الجهر فيه مما مر فإن أسر في جهرية أو عكسه بلا عذر .. كره. نعم؛ إن شوش على نحو نائم .. أسر، كما في: "التحفة" وغيرها. وإطلاق ذلك يشمل أنه يسر حتى في الفرائض، لكن قال (ع ش) على "شرح المنهج": (قضية تخصيص هذا التقييد، أي: تقييد الجهر بمن لم يشوش بالتوسط في نوافل الليل المطلقة أنَّ الجهر لا يترك فيما طلب فيه لذاته، كالعشاء فلا يترك لهذا العارض) اهـ وسيأتي أن التشويش مكروه إن خف، وإلا .. حرم. (والتوسط في نوافل الليل المطلقة بين الجهر والإسرار) بأن يجهر تارة، ويسر أخرى كما ورد كذلك في صلاة الليل (وقصار المفصل في المغرب) ولو لإمام غير محصورين، وسمي مفصلاً؛ لكثرة الفصول فيه بالبسملة بين السور، أو لقلة المنسوخ فيه. (وطواله) بكسر الطاء، وضمها (للمنفرد، وإمام محصورين رضوا) بالتطويل نطقاً

عند (حج) (في الصبح، والظهر بقريب منه) أي: من طواله (وفي العصر والعشاء أوساطه)؛ للاتباع. قال ابن معين: (طواله من "الحجرات" إلى "عم"، ومنها إلى "والضحى" أوساطه، ومنها إلى آخر القرآن قصاره). وجرى عليه المحلي، و (م ر) في "شرح البهجة"، ووالده في "شرح الزبد". والمصنف هنا حيث مثَّل لأوساطه بقوله: (كـ"لشمس"، ونحوها) أي: في الطول، ونقل ذلك في "التحفة" بصيغة تَبَرّ، ولم يذكر غيره، والأصح: أن طواله كـ (ق)، و (المرسلات)، وأوساطه كـ (الجمعة)، وقصاره كسورتي (الإخلاص). أمَّا إمام غير محصورين .. فيقتصر على قصاره إلا ما ورد .. فيأتي به وإن طال ولم يرضوا به. (و) منه أنه يسن لغير مسافر إن اتسع الوقت (في أولى صبح الجمعة: "ألم تنزيل"، وفي الثانية: "هل أتى") بكمالهما؛ لثبوته مع دوامه من فعله عليه الصلاة والسلام. والقول أنه يترك ذلك في بعض الأحيان؛ لئلا يعتقد العامة وجوبه، مخالف للوارد، ويلزم عليه ترك أكثر السنن المشهورة. فإن ترك (ألم) في الأولى .. أتى بهما في الثانية، أو قرأ (هل أتى) في الأولى .. قرأ (ألم) في الثانية، وكذا كل صلاة سن فيها سورتان معينتان محافظة على الوارد. ويسن أن يقطع غير المعينة ويأتي بالمعينة، والمسبوق إذا سمع قراءة "ألم" .. كان كقراءته لها، فيقرأ بعد سلام إمامه "هل أتى". أما المسافر .. فيسن له في صبح الجمعة سورتا (الإخلاص)، بل قال الشرقاوي: (يسنان له في كل صلاة). وأما إذا ضاق الوقت .. فيقرأ بعضهما عند (م ر)، وسورتين قصيرتين عند (حج).

وصح: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في عشاء الجمعة بـ (الجمعة)، و (المنافقين)، فيسنان فيها ولو لغير محصورين -وسيأتي أنه يقرأ في العيد والإستسقاء بـ (ق) و (اقتربت)، أو (سبح) و (الغاشية) وما يقرأه في الجمعة والوتر وغيرهما .. فهو من الوارد. ويسن أن يقرأ سورتي (الكافرون)، و (الإخلاص) في: مغرب جمعة وسنته وسنة طواف واستخارة وإحرام وتحية مسجد وضحى وزوال وإرادة سفر ونحوها وفي صبح مسافر والأخيرتين من الوتر. (و) يسن: (سؤال الرحمة) بنحو: اللهم اغفر وارحم (عند) قراءة (آية رحمة، والاستعاذة) بنحو: اللهم أعذني من النار (عند) قراءة (آية عذاب، والتسبيح عند آية التسبيح، وعند آخر "والتين"، و) آخر ("القيامة") أن يقول: (بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، و) عند (آخر "المرسلات": آمنا بالله). (يفعل ذلك) كله كل من (الإمام) والمنفرد لقراءة نفسه (والمأموم) لقراءة إمامه أونفسه حيث لم يسمع قراءة إمامه، وغير المصلي لكل قراءة سمعها (ويجهران) أي: الإمام والمأموم وكذا المنفرد (به) أي: بما ذكر (في الجهرية). (و) يسن لكل مصل: (التكبير للانتقال) من كل ركن إلى ما بعده، ومن التشهد الأول إلى القيام (ومده إلى الركن الذي بعده، إلا في) رفعه إلى (الاعتدال) ولو في الثاني من قيام الكسوف ( .. فيقول) ولو مأموماً (سمع الله لمن حمده) أي: تقبل منه حمده، ويكفي من حمد الله .. سمِعََه. والسنة الإسرار بذلك، إلا الإمام .. فيجهر به بقصد الذكر وحده، أو مع التبليغ، فإن قصد التبليغ وحده .. بطلت صلاته. نعم؛ يعذر الجاهل، وإنما يسن الجهر بذلك؛ ليسمع المأمومون أو بعضهم،

فصل: في سنن الركوع

فيعلموا صلاته، وكالإمام مبلغ احتيج إليه، فإذا استوى قائماً .. قال: ربنا لك الحمد سراً. * * * (فصل: ويسن في الركوع: مد الظهر والعنق) حتى يصيرا كالصفيحة الواحدة؛ للاتباع (ونصب ساقيه وفخذيه) إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه؛ لأنه يفوت استواء الظهر، وعبر في "المنهج" بنصب ركبتيه المستلزم لنصب ساقيه (وأخذ ركبتيه بيديه) أي: كفيه مع تفريق الركبتين قدر شبر كالسجود (وتفريق الأصابع) تفريقاً وسطاً؛ للاتباع فيهما (وتوجيهها للقبلة)؛ لأنها أشرف الجهات (ويقول) فيه (سبحان ربي العظيم) أي: أنزهه من كل نقص. قال الإمام الرازي: العظيم: الكاملُ ذاتاً وصفةً، والجليل: الكامل صفةً، والكبير: الكامل ذاتاً. ويسن زيادة (وبحمده) أي: وأحمده، أي: أثني عليه بما أثنى به على نفسه، ويحصل أصل السنة بقول ذلك، أو بنحو سبحان الله مرة، لكن الاقتصار عليه -هنا وفي السجود خلاف الأولى، وتركه رأساً كغيره من أذكار بقية الأركان الفعلية المندوبة- مكروه. (و) قول ذلك التسبيح (ثلاثاً) ولو لإمام غير محصورين وإن لم يرضوا (أفضل) وهو أدنى الكمال، وأكمل منه خمس فسبع فتسع فإحدى عشرة، واختار السبكي: أنه لا يتقيد بعدد. وصح: أنه لما نزل فـ (سبح باسم ربك العظيم) .. قال عليه الصلاة السلام: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل (سبح اسم ربك الأعلى) .. قال: "اجعلوها في سجودكم". (ويزيد) ندباً (المنفرد) ومأموم طول إمامه (وإمام محصورين رضوا) بالتطويل بشروطهم السابقة في دعاء الافتتاح.

فصل: في سنن الاعتدال

(اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت) أي: لا لغيرك (خشع لك سمعي وبصري) قدم السمع على البصر؛ لأنه أفضل، والمراد بهما محلهما؛ ليناسب ما بعده (ومخي وعظمي وعصبي، ومااستقلت به قدمي) مفرد مؤنث، والمراد جملته، فهو من عطف العام على الخاص (لله رب العالمين) تأكيدٌ لقوله: لك؛ وذلك للاتباع، والإتيان بـ"اللهم .. إلخ" مع ثلاث من التسبيح أفضل من مجرد أكمل التسبيح، وبمثله يقال في السجود، ويسن فيه كالسجود زيادة: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح". وتكره القراءة في غير القيام؛ للنهي عنها، ما لم يقصد بها الذكر وحده. * * * (فصل: ويسن) لكل مصل (إذا رفع رأسه) أي: عند ابتداء رفع رأسه (للاعتدال أن يقول) مع رفع يديه: (سمع الله لمن حمده) على ما مر (فإذا استوى قائماً .. قال: ربنا لك الحمد) أو: ربنا ولك الحمد، أو: اللهم ربنا لك أو: ولك الحمد، أو: الحمد لربنا، وأفضلها الأول، ويندب أن يزيد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وإن يزيد (ملء) بالرفع صفة للحمد، وبالنصب حالاً منه، والأحسن من ضميره المستتر في الخبر (السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد) أي: بعدهما، كالكرسي والعرش وغيرهما مما يعلمه الله تعالى، وذلك بتقدير كون الحمد جسماً، ويسن هذا حتى للإمام مطلقاً، كما في "التحفة"، وفي "الإيعاب": (يقتصر إمام غير محصورين على ربنا لك الحمد). (ويزيد المنفرد وإمام محصورين رضوا) بشروطهم السابقة ولو في اعتدال يقنتان فيه، كما في (ب ج) عن (ح ل)، لكن في "التحفة" وغيرها: أنه لا يزيد على (من

شيء بعد) في ذلك (أهل) أي: يا أهل، أو أنت أهل (الثناء) أي: المدح (والمجد) أي: العظمة والكرم (أحق ما قال العبد) أي: قول العبد، أو ما قاله، وأحق مبتدأ، وقوله: (وكلنا لك عبد) اعتراض، وخبر (أحق) قوله: (لامانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد) بفتح الجيم أي: صاحب الغنى والمال، أو الحسب والنسب (منك الجد) أي: عندك جده، وإنما ينفعه عندك رضاك ورحمتك. (و) يسن لإمام ومنفرد ومأموم لم يسمع قنوت إمامه (القنوت في اعتدال ثانية الصبح) وركعة وتر نصف رمضان الثاني بعد ذكر الاعتدال على ما مر؛ للخبر الصحيح عن أنس: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا". ونقل البيهقي العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة، وصح عن أكثر الطرق فعله للنازلة بعد الركوع، فقسنا عليه هذا. وجاء بسند حسن فعل أبي بكر وعمر وعثمان له بعد الركوع، ولخبر الحسن: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر أي قنوته وهي اللهم اهدني) .. إلخ. فلو قنت شافعي في غير ما ذكر .. كره وسجد للسهو، ولا يوافق المأموم الإمام لو فعله، بل ينتظر في السجود إن أطاله، ولو قنت قبل الركوع .. لم يجزه في الأصح، ولا تبطل الصلاة به في الأصح، ويحصل أصل سنته بآية فيها دعاء إن قصده وحده؛ لكراهة القراءة في غير القيام، وبدعاء ولو بدنيوي وغير مأثور. ويشترط في بدله كونه دعاء، قال (م ر): وثناء، كـ (اللهم اغفر لي يا غفور). (وأفضله: اللهم اهدني) أي: دلني دلالة موصلة إلى المقصود (فيمن) أي: مع من (هديت وعافني) من محن الدنيا والآخرة (فيمن) أي: مع من (عافيت) من ذلك (وتولني) أي: قربني إليك، أو انصرني في جميع أحوالي (فيمن توليت) أي: مع من قربته أو نصرته؛ أو مع من قربته ونصرته؛ بناءً على جواز استعمال المشترك في معنييه (وبارك لي فيما أعطيت) أي: أعطني إياه (وقني شر ما قضيت) أي: القضاء، أو

المقضي، فـ (ما) على الأول: مصدرية، وعلى الثاني: موصلة. والمراد وقني ما يترتب على القضاء، أو المقضي من الشر الذي هو كسبي، كالتضجر من القضاء مطلقاً، أو من المقضي الذي ليس بمنهي عنه كالفقر. أمَّا (القضاء)، وهو: الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء، والمقضي الذي تعلقت إرادة الله به .. فلا يمكن أن يقيه منه؛ إذ لابد من وقوعه. قال بعض العارفين: اللهم لا نسألك دفع ماتريد، ولكن نسألك التأييد فيما تريد. ويجب الرضا بالقضاء مطلقاً؛ لأنه حسن بكل حال. وأمَّا المقضي: فإن كان واجباً أو مندوباً .. وجب الرضا به، أو مباحاً .. أبيح، أو حراماً أو مكروهاً .. حرم الرضا به، وإن كان من ملائمات النفوس أو منافراتها كالصحة والسقم .. سن الرضا به. (فإنك تقضي) أي: تحكم على جميع الخلق (ولا يقضى) أي: ولا يقضي أحد منهم (عليك، وإنه) زيادة الواو فيه كالفاء في (فإنك) أخذت من ورودهما في قنوت الوتر (لا يذل) بفتح الياء، وفي رواية بضمها وفتح الدال (من واليت) أي: واليته (ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا) أي: تزايد خيرك وبرك، وهي كلمة تعظيم مختصة به تعالى، ولا يستعمل منها غير الماضي (وتعاليت) كالتفسير لما قبله (فلك الحمد على ما قضيت) أي: على قضائك، فالحمد عليه ثناء بجميل، أو على مقضيك، ومنه جميل، كالعافية والخصب والطاعة، والحمد عليه ظاهر؛ لأنه ثناء بجميل، ومنه غير جميل، كالآلام والمعاصي، والحمد إنما يكون على جميل. ويجاب بأن جميع مقضياته تعالى بالنظر إليه جميلة وحسنة قطعاً، وإنما يوصف بعضها بالقبح وبكونه شراً ومعصية عند إضافته للعبد، ويصح الحمد على المؤلم نفسه بالنظر إلى ترتب الثواب عليه (أستغفرك وأتوب إليك) وهذا كله وارد من روايات متعددة. قال المدابغي: (ولو ترك: فلك الحمد .. إلخ لا يسجد للسهو؛ لسقوطه في أكثر الروايات). (ويأتي الإمام) فيه (بلفظ الجمع)؛ لصحة الخبر بذلك، ولا يأتي في المنفرد،

فتعين حمله على الإمام؛ للنهي عن تخصيص نفسه بالدعاء في خبر الترمذي، وهو "لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل .. فقد خانهم". وفي "التحفة": وقضيته: أن سائر الدعاء كذلك، ويتعين حمله على ما لم يرد عن صلى الله عليه وسلم وهو إمام بلفظ الإفراد، وهو كثير، بل قال ابن القيم: إنَّ أدعيته كلها -أي: غير القنوت- وردت كذلك، ويتجه أنه إن اخترع دعوة .. كره الإفراد، وإلا .. اتبع الوارد، وبه يرتفع الخلاف. (ويسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لصحتها في قنوت الوتر الذي علمه صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي، ويسن كونها (آخره) أي: القنوت، حتى لو جمع بين قنوت الحسن المتقدم، وقنوت عمر المشهور، جعلها آخرهما لا أوله ولا وسطه وإن سنت فيهما في غيره؛ اتباعاً للوارد، وجزم في الأذكار: بسن السلام، وبسن الصلاة على الآل، ويقاس بهم الصحب كما في "التحفة". وقاس الصلاة -أي: والسلام- على الآل والصحب في "النهاية" بالصلاة والسلام على النبي. وفرق في "التحفة" بين سَنَّ ذكر الآل في القنوت دون التشهد الأول؛ بأن القنوت محل دعاء، فناسب ختمه بالدعاء لهم، بخلاف التشهد الأول، ونقل ابن علان في "شرح الأذكار" في "باب أذكار الخروج من بيته" -عند قول المصنف: ويستحب أن يقرأ "لإيلاف قريش"- عن أبي الحسن البكري، والأشخر: أن للذكر من الأصول العامة ما يقتضي عدم التحجر فيه، وأن زيادات العلماء -أي: في القنوت ونحوه من الأذكار- يكون الإتيان بها أولى، وأنها من البدع الداخلة في حيز المسنون. وقول ابن الفركاح: (ما اعتيد من زيادة الآل والأصحاب .. لا أصل له) يرد: بأن مبني على تعيين الوارد وعدم التوسع فيه، وهو خلاف الأظهر. اهـ، وهذا أصل عظيم. وعليه فالإتيان بالعظيم بعد الجلالة في (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه) بعد المكتوبات، داخل في حيز المسنون وإن لم يرد إلا بعد الصبح والعصر، كما قاله أبو رجاء؛ لمناسبته، ولوروده في الجملة. وفي "العباب": (فرع: لو قرأ المصلي آية فيها اسم محمد صلى الله عليه وسلم .. ندب له الصلاة عليه في الأقرب بالضمير كصلى الله عليه وسلم، لا اللهم صلي

على محمد؛ للخلاف في بطلان الصلاة بنقل ركن قولي) اهـ ونقله (سم) عنه، وسلطان عن "الأنوار" وأقراه وعليه: فتندب الصلاة على الأنبياء عند ذكرهم، كما في (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى:19] وإن أتى بالاسم الظاهر؛ إذ الصلاة على غير نبينا صلى الله عليه وسلم ليست ركناً، لكن في "التحفة"، و"النهاية": أنها لا تسن، وحمله في "الإيعاب" على الإتيان بما هو على صورة الركن، ويظهر أن ما ذكر من سن الصلاة على الصحب وإلحاقهم بالآل، إنما هو في مجرد السنية، لا أنه بعض؛ إذ لم يذكر ذلك في سجود السهو من الأبعاض، ثم رأيت (حج)، و (سم) في سجود السهو ذكرا: أنه من الأبعاض، وبه يتأيد ما سيأتي أن بعضهم جعل الأبعاض عشرين، فجعل ذلك والسلام من الأبعاض، وهو ظاهر الإلحاق. (و) يسن (رفع اليدين) مكشوفتين إلى السماء (فيه) أي: في جميع ما مر من القنوت والصلاة والسلام؛ للاتباع، وفارق نحو دعاء الافتتاح بأن ليديه وظيفةً ثمَّ لا هنا. ومنه يعلم رد ما قيل: إنه يجعل يديه تحت صدره في الاعتدال. وبَحْثُ أنه حال رفعهما ينظر إليهما؛ لتعذره حينئذٍ إلى موضع سجوده، محلُّه إن ألصقهما، وهو -ما في "فتاوى م ر"، و"مختصر الإيضاح" لعبد الرؤوف- أولى. وقال (حج)، و (م ر): يتخير بين إلصقهما، وتفريقهما. وسن لمن دعا بتحصيل شيء أن يجعل بطن كفيه إلى السماء وإن دعا برفعه .. جعل ظهر كفيه إليها. وهل يقلب كفيه في القنوت عند (وقني شر ما قضيت)؟ قال (م ر): نعم، ووالده في "فتاويه": لا، أي: لأن الحركة في الصلاة غير مطلوبة، ولا يرفع يده المتنجسة فيكره، ولا يمسح وجهه بيده في الصلاة وإن سن بعد الدعاء خارجها. (و) يسن (الجهر به) أي: بما مر من القنوت ولو الثناء والصلاة والسلام (للإمام) في الجهرية والسرية كمقضية نهاراً، ليسمع المأموم فيؤمن؛ للاتباع، لكن دون جهر القراءة، ما لم يكثر المأمومون .. فيرفع قدر ما يسمعهم. أما منفرد ومأموم سن له .. فيسران به مطلقاً عند (حج)، وعند (م ر): يجهر

بقنوت النازلة المنفرد كالإمام (وتأمين المأموم) إن سمع إمامه (للدعاء) منه؛ للاتباع، ومنه الصلاة على النبي وآله وصحبه. نعم؛ الأكمل أن يشاركه فيها، ثم يؤمن بعدها (ويشاركه في الثناء) سراً -وهو من (فإنك تقضي) - أو يستمع، أو يقول: أشهد، أو صدقت وبررت، كما في "النهاية"، لكن في "التحفة": لا نحو صدقت، وزَعمُ أن ندب المشاركة اقتضت المسامحة -وأن هذا لا يقاس بإجابة المؤذن بذلك؛ لكراهتها في الصلاة- لايصح إلا لو صح في خبرٍ أنه يقول ذلك وحيث لم يصح، بل لم يرد، أبطل على الأصل في الخطاب، وهذا إن سمع قنوت إمامه. (ويسن قنوته) لنفسه سراً ولو في نازلة (إن لم يسمع قنوت إمامه) لنحو صممه أو بعده، أو سمع صوتاً لم يفهمه، أو فهم منه ما ليس بمفيد (ويقنت) من مرَّ ايضاً ندباً (في) اعتدال الركعة الأخيرة من (سائر المكتوبات للنازلة) إذا نزلت بالمسلمين، العامة كقحط وخوف من عدو وجراد ومطر مضر بنحو زرع، والخاصة التي في معنى العامة، كأسر عالم وشجاع؛ لتضرر المسلمين بفقدهما؛ لما صح: (أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة)؛ لدفع تمردهم، لا لتدارك المقتولين؛ لتعذره، وقيس غير خوف العدو عليه. وخرج (بالمكتوبة): النقل والمنذورة وصلاة الجنازة، بل يكره في الجنازة؛ لبنائها على التخفيف، وبـ (النازلة): القنوت من غير نازلة، فيكره. وبحث في "التحفة": أنه يأتي فيه بقنوت الصبح، ثم يأتي بسؤال رفع النازلة، فإن كان جدباً .. دعا ببعض ما ورد في صلاة الاستسقاء، ولعله أراد الأكمل، وإلا فلو اقتصر على سؤال رفع تلك النازلة .. أجزأ. وأفتى ابن زياد بأنه لو اقتصر في قنوت النازلة على قنوت الصبح .. لم يكف. ولا يضر تطويل الاعتدال بالقنوت المشروع ولو لنازلة، خلافاً للريمي في قوله: إن تطويله بقنوت النازلة مبطل، بل لا يضر تطويل اعتدال الركعة الأخيرة ولو بغير قنوت عند (حج)، قال: لأنه محل التطويل في الجملة. * * *

فصل: في سنن السجود

(فصل: ويسن في السجود) أن يكبر لهويه بلا رفع ليديه، و (وضع ركبتيه) أولاًً (ثم يديه) كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، وحديث: تقديم اليدين الذي أخذ به مالك، قال أئمتنا: منسوخ (ثم جبهته وأنفه) معاً. ويسن كونه (مكشوفاً) كاليدين، ويكره مخالفة ذلك الترتيب في القادر. أمَّا العاجز .. فلا كراهة في حقه، ويكره أيضاً عدم وضع الأنف؛ مراعاة لمن يقول بوجوبه (ومجافاة الرجل) أي: الذَّكَر ولو صبياً (مرفقيه عن جبينه، وبطنه عن فخذيه) وتفريق قدميه وركبتيه قدر شبر، موجهاً أصابعها للقبلة، ويبرزهما عن ذيله كما يأتي (ويجافي في الركوع) كذلك (أيضاً)؛ للاتباع؛ إلاَّ تفريق الركبتين ورفع البطن .. فبالقياس. (وتضم المرأة) أي الأنثى ولو صغيرة، وفي خلوة (بعضها إلى بعض) حتى قدميها وركبتيها في الركوع والسجود وغيرهما، ومثلها الخنثى والعاري. (و) يسن في السجود: (سبحان ربي الأعلى) ويسن زيادة (وبحمده). وأقله: مرة، وأكثره: إحدى عشر (و) كونه (ثلاثاً) أدنى الكمال -كما مر في الركوع- فيقتصر إمام غير من مر عليه. (ويزيد المنفرد) ومأموم طول إمامه (وإمام محصورين رضوا) بشروطهم السابقة على الثلاث إلى إحدى عشرة ثمَّ (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح) هو جبريل، وقيل: غيره. (اللهم لك سجدت) ولو قال: سجد الفاني للباقي .. لم يضر إن قصد الثناء (وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي) أي: ذاتي، من إطلاق الجزء على الكل (للذي خلقه وصوره) أي: أحدث فيه صوراً وأشكالاً عجيبة (وشق سمعه وبصره) أي:

فصل: في سنن الجلوس بين السجدتين

منفذهما؛ لأنهما من المعاني، ولا يتصور فيهما الشق (بحوله) هو بمعى قوله: (وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين)؛ للاتباع. (و) يسن (اجتهاد منفرد) وإمام من مرَّ ومأموم طول إمامه (في الدعاء في سجوده) سيما بالمأثور؛ لخبر مسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه -أي: من رحمته- وهو ساجد، فأكثروا فيه الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم". ويسن الدعاء في الركوع أيضاً وإنما هو في السجود أفضل وأرجى للقبول. (و) يسن للذكر (التفرقة بين القدمين والركبتين) قدر شبر (ووضع الكفين حذو المنكبين) بحيث لو سقط شيء من المنكبين .. وقع على الكفين؛ للاتباع؛ و (المنكبان) -مثنى المنكب- وهو مجتمع عظم الكتف والعضد. (وضم أصابع اليدين واستقبالهما) للقبلة (ونشرهما) وفي نسخة: واستقبالها ونشرها، وهو أولى (ونصب القدمين وكشفهما) حيث لا خف (وإبرازهما عن ثوبه وتوجيه أصابعهما للقبلة، والاعتماد على بطونهما) في السجود؛ لأن ذلك أعون على الحركة، وأبلغ في الخشوع والتواضع. أمَّا المرأة .. فيسن لها ذلك، إلا التفرقة .. فتكره لها، وإلا كشف القدمين .. فيحرم، وتبطل به صلاتها، ومثلها الخنثى. * * * (فصل: ويسن في الجلوس بين السجدتين) بعد أن يرفع رأسه من السجود مكبراً من غير رفع يديه. إمَّا الإقعاء المسنون المتقدم في ركن القيام، وإمَّا (الافتراش) الآتي، وهو أفضل (ووضع يديه) على فخذيه (قريباً من ركبتيه) بحيث تسامت رؤوس أصابعهما

الركبتين، فلو لم يرفعهما عن الأرض .. كره (ونشر أصابعهما وضمها) موجهة للقبلة كالسجود، وهذا الضم لا خلاف فيه، بخلافه في التشهد، فالرافعي مخالف للنووي فيه. (قائلاً: رب اغفر لي) ما وقع، وما سيقع من ذنوبي (وارحمني) رحمة واسعة تعم جميع دنياي وآخرتي، وإلا .. فأصل الرحمة لا يخلو منها أحد (واجبرني) أي: أغنني وأصلح لي شأني (وارفعني) أي: ارفع قدري (وارزقني) أي: رزقاً حلالاً، لا تعب فيه، ولا منة لأحد فيه (وعافني) أي: ادفع عني بلايا الدنيا والآخرة، زاد الغزالي؛ لمناسبة ما مر (واعف عني). ويزيد منفرد وإمام مَنْ مرَّ: رب هب لي قلباً تقياً نقياً من الشرك برياً، لاكافراً ولا شقياً، ورب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم. (ويسن) لكل مصل -ولو قوياً، أو في نفل- أن يجلس مفترشاً أو مقعياً (جلسة خفيفة للاستراحة) ويجعل يديه على فخذيه فيها، وتكون (قدر) أقل (الجلوس بين السجدتين)؛ للاتباع، فإن زاد على ذلك .. كره؛ إذ هي من السنن التي أقلها أكملها كسكتات الصلاة، فإن بلغت ما يبطل في الجلوس بين السجدتين .. بطلت صلاته عند (حج) (بعد كل سجدة يقوم عنها) ولو من الركعة الثانية، كأن لم يقعد للتشهد الأول وإن كثرت الركعات، وهي فاصلة بين الركعات ليست من الأولى، ولامن الثانية. ولو أحرم وإمامه فيها .. لم يلزمه موافقته فيها، وإذا تركها الإمام .. سنت للمأموم؛ لأن زمنها قصير. وتكره لبطيء النهضة بحيث يفوته بتأخره لها بعض الفاتحة مع الإمام، ويعذر في التخلف لها إلى ثلاثة أركان عند (م ر)، كالمتخلف لإتمام التشهد الأول. ويسن تكبيرة واحدة يمدها من ابتداء رفعه من السجود إلى القيام، بشرط أن لا يطولها أكثر من سبع ألفات، فإن كان زمن الرفع وجلسة الإستراحة يزيد على سبع ألفات .. اقتصر في مد التكبير على قدرها، ثم اشتغل بذكر إلى أن ينتصب قائماً، ولا تسن تكبيرتان اتفاقاً. (إلا) بعد (سجود التلاوة)؛ لأنها لم ترد فيها.

فصل: في سنن التشهد الأخير

(و) يسن لكل مصل ولو قوياً وامرأة (الاعتماد بيديه) أي: ببطن كفيه مبسوطتين (على الأرض عند القيام) من سجود أو جلوس تشهد أو استراحة؛ لأنه أعون وأشبه بالتواضع مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، أي: أنه كان يقوم كقيام العاجز، وفي رواية: العاجن، وكلاهما بإخراج رأسه إلى ما أمام ركبتيه، فتعين ذلك بالحديث ونصِّ الأئمة، وبذلك يرد القول بأنه يحصل به زيادة ركوع جالس، وهو مبطل عند (حج)؛ إذ لو سلم ذلك .. لم يضر؛ لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم مع تقرير الأئمة له، كما أوضحته في "الأصل". * * * (فصل: ويسن) لكل مصل (في) جلوس (التشهد الأخير) أي: الذي يعقبه السلام (التورك، وهو أن يخرج رجله) أي: قدمه اليسرى (من جهة يمينه، ويلصق) بضم الياء (وركه بالأرض) أي: بمقره، وينصب رجله اليمنى واضعاً أطراف أصابعها بالأرض متوجهة للقبلة. والافتراش مثله، إلا أنه فيه لا يخرج يسراه، بل يفرشها، أي: يجلس عليها. وليس من التورك المسنون جلوسه على وركه اليمنى مع إخراج رجله اليمنى من جهة يساره وإن لم يمكنه إلا ذلك، قاله (ح ل) (إلا مَنْ) كان (عليه سجود سهو) ولم يرد تركه بأن قصد فعله أو أطلق فيفترش، ولو قصد تركه .. تورك، فإن عَنّ له فعله .. افترش وإن حصل به انحناء، كركوع الجالس، خلافاً لـ (حج)؛ لتولده من مأمور به، كما في انحناء القائم إلى حد الركوع لقتل نحو حية (أو مسبوق .. فيفترش)؛ لأن الافتراش هيئة المستوفز، فيسن في كل جلوس تعقبه حركة؛ لأنها أسهل عنه، والتورك هيئة المستقر، فيسن في أخير لا حركة بعده، ولأنه بمخالفتهما يعلم المصلي في أي ركعة هو، وإذا رآه المسبوق .. علم في أي التشهدين هو. تنبيه: استثنى المصنف المسبوق -أي: جلوسه- من جلوس التشهد الأخير باعتبار جلوس الإمام، لا باعتبار جلوس نفسه؛ إذ ليس جلوس تشهد أخير.

وقوله: أو مسبوق -بالرفع- لا يخفى على ما فيه؛ لأنه معطوف على خبر كان، أو على مَنْ، وهو مستثنى من كلام تام موجب، وعلى كلٍّ يجب النصب فيه، ويمكن أنه كتبه بلا ألف على لغة ربيعة، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة صلة (لمن) محذوفة، والتقدير: أو من هو مسبوق، وقد بينت ذلك في "الأصل". (ويضع) ندباً (يده اليسرى على فخذه اليسرى في الجلوس للتشهد وغيره) من سائر الجلسات. قال في "الشرح": (أفهم كلامه -أي: حيث أطلق اليد، وهي إسم لها من الأصابع إلى المنكب، ولكنه يتعذر بما فوق المرفق، فيبقى منه إلى الأصابع- أنه يسن وضع مرفق يسراه وساعدها أيضاً على الفخذ، وهو ما صرح به غيره، ولا مبالاة بما فيه من نوع عسر) اهـ واعترضه الكردي بأن الوارد إنما هو وضع اليمنى، وقياس اليسرى عليها مع ما فيه من العسر المذهب للخشوع وللهيئة المشروعة بعيد جداً. ويسن في اليسرى كون أصابعها (مبسوطة مضمومة) وكونه (محاذياً برؤوسها) أي: الأصابع (طرف الركبة) ولا يضر انعطافها على الركبتين، كما مر. (و) يسن (وضع اليد اليمنى على طرف الركبة اليمنى) في كل جلوس ليس بدلاً عن قيام (وأن يقبض في) جلوس (التشهدين أصابعها إلا المسبحة فيرسلها) ممدودة (ويضع) رأس (الإبهام تحتها) أي: عند أسفلها على حرف الراحة (كقاعد ثلاثة وخمسين)؛ للاتباع إذ في الإبهام والمسبحة خمس عقد، وكل عقدة بعشرة، فذلك خمسون، والأصابع المقبوضة ثلاثة، وهذه طريقة لبعض الحساب، وأكثرهم يسمونها تسعة وخمسين بجعل الأصابع المقبوضة تسعة، نظراً إلى عقدها، فالخلاف إنما هو في المقبوضة، أهي ثلاثة أو تسعة؟ وآثروا الأول؛ تبعاً للفظ الخبر، ولو أرسل الأبهام والسبابة معاً، أو وضع الإبهام على الوسطى، أو حلَّق بينهما برأسهما، أو بوضع أنملة

الوسطى بين عقدتي الإبهام .. أتى بالسنة أيضاً؛ لورود جميع الكيفيات الخمس، أي: كان يفعل مرة هكذا، ومرة هكذا، لكن رواة الأول أفقه. تنبيه: سميت مسبحة -بكسر الباء- لأنها يشار بها عند التوحيد، وخصت بذلك؛ لاتصالها بـ (نياط) القلب، أي: العرق الذي فيه، فكأنها سبب لحضوره، وتسمى -أيضاً- سبابة؛ لأنها يشار بها عند السب والمخاصمة. (و) يسن (رفعها) -أي: المسبحة- مع إمالتها قليلاً؛ لئلا تخرج عن سمت القبلة (عند أول قوله: "إلا الله")؛ للاتباع، ولا يضعها إلى القيام أو السلام، قاصداً بذلك الإشارة إلى أن المعبود واحد؛ ليجمع في توحيده بين اعتقاده وقوله وفعله، وتكره الإشارة بغيرها وإن قطعت؛ لفوات ما هو السنة فيه، ويكون رفعها (بلا تحريك)؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف القول ببطلان الثلاث حركات ولو خفيفة. واعترض بأنه كما ثبت عدم التحريك ثبت التحريك أيضاً، والمثبت مقدم على النافي. (وأكمل التشهد) عندنا (التحيات) مرَّ معناها (المباركات) أي: الناميات (الصلوات) أي: الخمس، وقيل: الدعاء بخير (الطيبات) أي: الصالحات؛ للثناء عليه تعالى (لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) ومرَّ الكلام على جميع ذلك. واختار الشافعي رضي الله تعالى عنه هذا؛ لتأخره، ولقول ابن عباس -الراوي ذلك-: (كان صلى الله عليه وسلم يعلمنا ذلك كما يعلمنا السورة)، ولزيادة (المباركات) فيه، فهو أوفق بقوله تعالى: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61] فهو أولى من خبر ابن مسعود وإن كان أصح، وهو (التحيات لله والصلوات والطيبات إلى آخر ما مر)، إلا أنه قال فيه: (وأن محمداً عبده ورسوله)، فالإضافة إلى الجلالة تقوم مقام زيادة (عبده) في رواية ابن مسعود؛ لما في التلفظ بالجلالة من الفوائد، كالتلذذ والتبرك بذكره وغير ذلك.

(وأكمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى آله، كما في "الروضة": اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وفي "الأذكار": زيادة "في العالمين" قبل "إنك حميد مجيد". وأولى من ذلك ما في "الأذكار"، وهو: (اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد). (المجيد): الكامل شرفاً وكرماً، ومحل نَدْبِ هذا لمنفرد وإمام من مرَّ. لكن في "التحفة": أنه يسن لو لإمام غير من مرَّ، ولا بأس بزيادة (سيدنا)، بل في "التحفة": أنه يسن، أي: مراعاة للأدب، وينبغي زيادته مع إبراهيم أيضاً، وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وغيرهما من باقي أولاده. وخص بالذكر؛ لأن ذكر الرحمة والبركة لم يجتمع في القرآن لنبي غيره. (و) يسن (الدعاء بعده) أي: ما مر من التشهد والصلاة ولو للإمام؛ للأمر به في الأحاديث الصحيحة، بل يكره تركه (بما شاء) من ديني أو دنيوي، وبالأول أولى، وبالمأثور أفضل، ويحرم بمحرم وتبطل به صلاته، وإنما كره بعد التشهد الأول؛ لبنائه على التخفيف، ومحله في غير مأموم. أمَّا هو .. فالمسبوق يستحب له في كل تشهد وافق فيه إمامه أن يوافقه فيه وفيما بعده، لقولهم: إنه يوافق إمامه في الأفعال وجوباً، وفي الأقوال ندباً.

وأما الموافق إذا فرغ من تشهده قبل إمامه .. فقيل: لا يشتغل بالصلاة على الآل، ولا بما يطلب في الأخير من الدعاء. ووجه: بأنه ليس للمتابعة حتى تقتضي الإتيان به، بل لو أتى به الإمام .. لم يتابعه فيه؛ لعدم طلبه منه، فبقي على كراهته، فيدعو بما لا يطلب في الأخير، وقيل: إنه كالمسبوق، ونقله الكردي عن (م ر)، والرشيدي عن "فتاوى الشهاب الرملي". (وأفضله: اللهم إني اعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر) أي: البرزخ (ومن فتنة المحيا والممات) أي: الحياة والموت (ومن شر فتنة المسيح) بالحاء المهملة، وهو الوارد؛ لأنه يمسح الأرض، أي: يطؤها كلها في أربعين يوما إلا مكة والمدينة. وبالمعجمة؛ لأنه ممسوح العين، أي: أعور، وكذا حماره، ويحط رجله عند منتهى نظر عينه الصحيحة (الدجال) أي: الكذاب من الدجل وهو التغطية؛ لأنه يغطي الحق بالباطل، وينبغي أن يختم دعاءه به؛ للامر به في الخبر. (ومنه: اللهم إني أعوذ بك من المغرم) أي: الدين (والمأثم) أي: الإثم. (ومنه:) أي: الأفضل المأثور (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت) أي: إذا وقع .. يقع مغفوراً (وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لاإله إلا أنت). ومنه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. ومنه: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وروي كبيراً -بالموحدة- فيسن الجمع بينهما، وغير ذلك. وينبغي التعميم في الدعاء؛ لما ورد: أنه أحبُّ الدعاء، وورد أيضاً: أن بين الخاص

فصل: في سنن السلام

والعام كما بين السماء والأرض، ولا يحرم الدعاء بالمغفرة لجميع المؤمنين. نعم؛ إن أراد أن يغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم .. حرم؛ لمخالفته لما علم قطعاً: أن بعض المؤمنين لا يغفر لهم جميع ذنوبهم، ويدخلون النار. وينبغي أن لا يزيد إمام في الدعاء على قدر التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فإن أطالهما .. أطاله، أو خففهما .. خففه، بل ينبغي أن ينقص عنهما، فإن زاد عليهما، وكذا إن ساواهما، كما في "التحفة" .. كره ما لم يكن ذلك لانتظار داخل يقتدي به. أمَّا المنفرد وإمام من مرَّ .. فقضية كلام الشيخين أنهما كالإمام، لكن أطال جمع: أنهما يطيلان ما شاءا ما لم يقعا في سهو. (ويكره) لكل مصل (الجهر بالتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء) وباقي أذكار الصلاة إلا ما مرَّ من القراءة والقنوت، والمواضع التي يجهر بها كل من الإمام والمأموم -كما مر في التأمين- وقد يحرم إذا اشتد به التشويش. * * * (فصل: وأكمل السلام: السلام عليكم ورحمة الله)؛ للاتباع، واختار كثيرون زيادة: "وبركاته"؛ لثبوتها من طرق عديدة، واعتمده (حج) في الجنازة. (ويسن) أن لا يمده؛ لأنه خلاف الأولى، وأن يسلم (تسليمة ثانية) وإن تركها إمامه، وأن يقول بعدها: أسألك الفوز بالجنة. نعم؛ إن عَرَضَ معها او قبلها مبطل كحدث .. حرمت، وإن لم تكن من الصلاة .. فهي من توابعها، وأن يفصل بينهما بقدر سبحان الله. (والابتداء به) أي: السلام فيهما (مستقبل القبلة) بوجهه، أما بصدره .. فيجب إلى الميم من "عليكم". ويسن أن لا يلتفت بوجهه إلا مع الميم من "عليكم"؛ للنهي عن الالتفات في

الصلاة (والالتفات في التسليمتين) الأولى يميناً، والثانية شمالاً (بحيث يرى) أي: يرى مَنْ على جانبه، وفي "الأحياء": مَنْ خلفه (خده الأيمن في الأولى، وخده الأيسر في الثانية) ويسن إنهاؤه مع تمام الإلتفات به، ولو سلم الأولى يساراً .. سلم الثانية يساراً أيضاً؛ لأنه هيئتها المشروعة لها، ففعلها يميناً تغيير للسنة فيكره، وإن أتى بهما يميناً أو يساراً أو تلقاء وجهه .. فخلاف الأولى، ولو اقتصر على تسليمة .. جعلها تلقاء وجهه، ولو سلم الثانية فشك في الأولى .. أعادهما. ويسن كونه (ناوياً بالتسليمة الأولى) مع أولها نية (الخروج من الصلاة)؛ رعاية للقول بوجوبها قياساً على التحرم. والأصح: عدم وجوبها قياساً على سائر العبادات. وعليه: يسن قرنها بأوله، كما يجب على مقابله، فإن قدم النية على أوله .. بطلت، وكذا لو أخرها عنه على الضعيف، وتفوته على المعتمد السنة. وبالجملة: ففيها خطر، فليُحْترز منه أو تُترك. (و) سن لكل مصل (السلام على من على يمينه من ملائكة ومؤمني إنس وجن) إلى آخر الكون علواً وسفلاً (و) أن (ينوي المأموم بتسليمته الثانية الرد على) من قد سلم عليه من المأمومين وعلى (الإمام إن كان) أي: المأموم (عن يمينه) أي: الإمام. (وإن كان) أي: المأموم (عن يساره) أي: الإمام ( .. فبالأولى) ينوي الرد عليه إن فعل في السنة، بأن أخر تسليمته الأولى عن تسليمتيه، وإلا .. كان رده على الإمام قبل سلامه عليه. (وإن كان) الإمام (قبالته .. تخير) بين أن ينويه عليه بالأولى أو الثانية (والأولى أحب)؛ لسبقها (و) أن (ينوي الإمام) الابتداء على من عن يمينه بالأولى، وعلى من يساره بالثانية، وعلى من خلفه بأيهما شاء، و (الرد) بالثانية (على المأموم) الذي

عن يساره إذا لم يفعل بالسنة، بأن سلم قبل أن يسلم الإمام الثانية، ولم يصبر إلى فراغه، وإلا .. نوى بها الابتداء عليه، كما مر. ويسن أن يجهر الإمام يتسليمتيه دون المأموم، وأن ينوي بعض المأمومين الرد على بعض، فمن عن يمين المسلم ينويه عليه بالثانية، ومن عن يساره ينويه عليه بالأولى، ومن خلفه وأمامه بأيهما شاء، والأولى أفضل، هذا إن جروا في سلامهم على السنة، فلو تقدم سلام بعض على بعض .. نوى به الرد على من قد سلم عليه، والابتداء لمن لم يسلم عليه، كما لو لقيه شخصان خارج الصلاة .. فسلم عليه أحدهما، فسلم عليهما قاصداً الرد على من سلم عليه والابتداء على من لم يسلم عليه. ويسن رد َغير المصلي على المصلي إذا سلم، كما يسن رده على من سلم عليه وهو فيها بعد سلامه. قال (سم): (وقياسه: ندب رد بعض المأمومين بعد تسليمتيه على من سلم عليه منهم إذا لم يتأت الرد بإحداهما) اهـ ويظهر أن قوله: (إذا لم يتأت) ليس بقيد، والأصل في ذلك خبر البزار: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة). تنبيه: استشكل قولهم: في السلام (ينوي به السلام)؛ لأن الخطاب كاف في صرفه إليهم، والصريح لا يحتاج لنية، ولذا لايحتاج خارج الصلاة إليها. وأجيب بأنه خارجها لم يوجد صارف، وفيها كونه واجباً في الخروج منها صارف، ومعه يحتاج الصريح إلى النية، وألحقت الثانية بالأولى في ذلك. قال (ب ج): يشترط مع نية السلام على من ذكر نية التحلل، فلو نوى السلام على من ذكر من غير ملاحظة التحلل .. ضر؛ لصرفه عن الركن. قال (سم): وهو الوجه، وهذا معتمد (حج)، ومال (م ر) إلى عدم ضرر ذلك؛ لأن السلام لم يخرج عن مدلوله، وهو التحية ولو مع النية المذكورة، بخلاف غيره مما يضر الصارف فيه. * * *

فصل: في سنن بعد السلام

(فصل: يندب الذكر والدعاء بعد الصلاة) بحيث لا يفحش الطول بينهما، بل بحيث ينسبان إليها عرفاً، ولا يضر الفصل بالراتبة، لكن الأفضل اتصال الذكر بسلام الفرائض. وإذا صلى جمعاً .. أخر ذكر الأولى إلى فراغ الثانية. والأكمل: أن يأتي لكل منهما بذكر، ويحصل أصل السنة ولو بغير مأثور، ولكنه بالمأثور أفضل، فيقدم منه ما معناه، أجَلُّ، ثم الأصح، ثم الأكثر رواية، فإذا سلم .. مسح جبهته بيده اليمنى، وقال: استغفر الله ثلاثاً، ثم استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثاً، ويمسح بيمينه على رأسه، ويقول: بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن، ثم اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام، ثم لا إله إلا الله وحده إلى قدير من غير يحي ويميت، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم "آية الكرسي"، و"الإخلاص"، و"المعوذتين"، ويسبح، ويحمد، ويكبر عشراً عشراً -وهو الأقل- أو ثلاثة وثلاثين في كلٍّ، وتمام المئة: لاإله إلا الله وحده إلى قدير بلا يحي ويميت. والأحسن كون التكبير أربعة وثلاثين، ويزيد بعد الصبح: اللهم بك أحاول وبك أصاول وبك أقاتل، اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وعملاًً مقبولاً، ورزقاً طيباً. وبعده وبعد المغرب: اللهم أجرني من النار سبعاً، وبعدهما وبعد العصر، بل بعد جميع المكتوبات -كما في "الجامع الصغير"، وأقرَّه المناوي- قبل أن يثني رجليه بأن يبقى على هيئته في الصلاة، وقبل أن يتكلم بغير ذكر ودعاء وقرآن، لا إله إلا الله إلى قدير بزيادة يحي ويميت عشراً، ويفوت ذلك وغيره من المشروط بما ذكر بالقيام ولو لصلاة جنازة على المعتمد، ولو زاد في المشروع على القدر الوارد، فإن كان لنحو شك .. عذر، وإلا .. فلا يحصل الثواب المترتب عليه. وقال كثيرون: يحصل ثواب المشروع، وثواب الزيادة. (ويسر) كل مصل (به) أي: بالذكر والدعاء (إلا الإمام) أو غيره (المريد تعليم

الحاضرين .. فيجهر)؛ أي: بكل منهما (إلى أن تعلموا) فيسر، وعليه حمل الشافعي وأصحابه أحاديث الجهر، وكلام "الروضة" يوهم بالجهر بالذكر. (ويقبل) الإمام ندباً -إن لم يرد الأفضل الآتي- (على المأمومين) عقب سلامه (يجعل يساره إلى المحراب) ويمينه إليهم، وإن كان بالمسجد النبوي عند (حج) (ويندب فيه) أي: الذكر الذي هو دعاء بعد الصلاة، بل (وفي كل دعاء: رفع اليدين)؛ للاتباع. ولو فقدت إحدى يديه أو كان بها علة .. رفع الأخرى، ويكره رفع اليد المتنجسة ولو بحائل. وغاية الرفع: حذو المكبين إلا إذا اشتد الأمر .. فيزيد. قال الغزالي: (ولا يرفع بصره إلى السماء حال الدعاء)، وقال ابن العماد: يسن؛ لأنها قبلة الدعاء. وتسن الإشارة فيه بسبابة اليمنى، ويلاحظ ما مر في رفعها في التشهد، وتكره بأصبعين (ثم مسح الوجه) بعد فراغ دعائه (بهما) إلا في الصلاة؛ للاتباع. (و) تندب (الدعوات المأثورة) وهي كثيرة؛ لمزيد بركتها وظهور الاستجابة بها. ومنها: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل والفشل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم أني أعوذ بك من جهد البلاء ومن درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وغير ذلك. ويسن آخر كل دعاء: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

(والحمد لله، والصلاة) والسلام (على النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وصحبه (أوله) ووسطه (وآخره)؛ لللاتباع. والأفضل تحري مجامع الحمد، كـ (الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). ومجامع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضلها: صلاة التشهد، لكن لا سلام فيها، فيزيد آخرها: وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه. (و) الأفضل (أن ينصرف الإمام) والمأموم والمنفرد (عقب سلامه) ويأتي بالذكر والدعاء في المحل المنصرف إليه، لكن في غير المقيد بنحو لا إله إلا الله إلى قدير بعد الصبح، وغيرها مما مر، وغير من يجلس بعد صلاة الصبح على ما يأتي في الطواف إن شاء الله تعالى. وهذا (إذا لم يكن ثَمَّ نساء) وإلا .. مكث حتى ينصرفن، بل قال ابن العماد: يحرم جلوس الإمام في المحراب؛ لأنه أفضل بقعة في المسجد، وجلوسه فيه يمنع الناس من الصلاة فيه، ويشوش عليهم، وزيفه في "الإيعاب": بأن للإمام حقاً فيه حتى يفرغ من الذكر والدعاء المطلوب عقب الصلاة حيث لم يرد الأفضل من قيامه عقب سلامه، وما ذكره من التشويش ممنوع، ومن وجوب الانتقال متجه إن لم تكن له حاجة واحتيج لمكانه على نظر فيه) اهـ (و) إذا لم يفعل الأفضل من الانتقال بل مكث .. فيندب أن (يمكث المأموم) في مصلاه (حتى يقوم الإمام) من مصلاه إن أراد القيام بعد الذكر والدعاء، وينبغي له أن يختصرهما بحضرة المأمومين، فإذا قاموا .. طوله إن أراد. ويكره للمأموم الانصراف، أي: من المسجد، كما قاله عبد الرؤوف قبل ذلك، حيث لا عذر. قال في "الإيعاب": (لأنه قد يذكر سهواً فيتابعه) اهـ، وهذا ينافي تقييد عبد الرؤوف بالمسجد؛ إذ لايكون انتقاله غالباً ولو لمحل في المسجد إلا بحركات متوالية، فتبطل صلاته وتفوت عليه متابعته، ولعلهما سنتان:

الأولى: أن لا يخرج من المسجد قبل إمامه؛ لما فيه من الاستعجال في العبادة، ومن استدبارالإمام المقبل بوجهه عليهم. والثانية: أن لا ينصرف من مصلاه إلا بعد مكثه قليلا؛ لاحتمال أن يذكر امام سهواً فيتابعه. (و) يندب لكل مصل أن (ينصرف) من مكان الصلاة كباب المسجد بعد فراغه (في جهة حاجته، وإلا) تكن له حاجةٌ ( .. ففي جهة يمينه) ينصرف إن أمكنه مع التيامن أن يرجع في طريق غير التي جاء منها، وإلا .. راعى العود في طريق آخر. (و) أن (يفصل بين) كل صلاتين -سواء (السنة والفرض) والسنتين والفرضين- (بكلام) نحو إنسان، وإن لم يعقل، أو كان الكلام ذكراً، كتسبيح، كما قاله الشرقاوي (أو انتقال) من مكانه لآخر ولو في أثناء الصلاة الثانية؛ للنهي في مسلم عن وصل صلاتين إلا بعد كلام أو خروج. ومحل ذلك، حيث لم تعارضه فضيلة نحو صف أول، وإلا .. فلا يسن الانتقال. والأفضل الفصل بين الصبح وسنته باضطجاع، وعلى الأيمن أفضل. قال الشرقاوي: (وأن يقول في اضطجاعه: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أعوذ بك من النار ثلاثاً، وينبغي زيادة وعزرائيل) اهـ لكن الذي في "الحصن الحصين"، وغيره كـ"الأذكار" أنه يقول: اللهم رب جبريل .. إلخ، وهو جالس، ثم يضطجع على شقة الأيمن. (وهو) أي: الفصل بالانتقال (أفضل)؛ تكثيراً للبقاع التي تشهد له يوم القيامة (والنفل) ولو لمن بالكعبة والمسجد حولها (في بيته) ليلاً ونهاراً وإن أمن الرياء في المسجد (أفضل)؛ للخبر المتفق عليه: "صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، ولأن فيه البعدَ عن الرياء، وعود بركة الصلاة على البيت وأهله، وهذا إن لم يكن معتكفاً، ولم يخف بتأخيره للبيت فوت وقت أو تهاوناً، وفي غير الضحى واستخارة ومنشئ سفر وقادم منه ومبكر لجمعة وسنة طواف وإحرام بميقات به مسجد وقبلية مغرب ومن يجلس لتعلم أو تعليم، وكذا راتبة قبلية دخل وقتها فلا ينتقل لها من المسجد؛ إذ في الانتقال بعد استقرار الصفوف مشقة خصوصاً مع كثرة المصلين، كما في الجمعة.

(ومن سنن الصلاة الخشوع) وهو سكون القلب والجوارح، وهو روح الصلاة وأهمها؛ إذ بفقده يفقد ثواب ما فقد فيها من كلها أو بعضها، ولأن لنا وجهاً أنه شرط لصحتها، لكن في بعضها وإن قل. فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث، كتسوية ردائه لغير مصلحة، كتحصيل سنة ودفع مضرة كبرد، بخلاف مالو سقط رداؤه أو عمامته .. فيسن له رد ذلك؛ لأنه سنة في الصلاة، كما يسن له السواك فيها بدون ثلاث حركات متوالية. (وترتيل القراءة وتدبرها وتدبر الذكر) أي: تأمل معانيهما إجمالاً، ولو بأن يتصور بأن للتسبيح مثلاً تعظيماً لله تعالى، لا تفصيلاً؛ لأنه يشغله عما هو بصدده. ولا يثاب على الذكر إلا بمعرفة معناه ولو إجمالاً، كما مر؛ إذ لا مُتَعبَّد بلفظه إلا القرآن، لكن لايكمل ثوابه إلا بمعرفة معناه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [ص:29]. (والدخول فيها بنشاط)؛ لأنه تعالى ذم المنافقين بكونهم (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى) [النساء:142]. (وفراغ قلب) من الشواغل ولو دينية؛ إذ هي -في غير ما هو فيه من الصلاة- مكروهة ولو في أمور الآخرة أو مسألة فقهية. وفي كلام ابن الرفعة: أنه لا بأس بالتفكر في أمور الآخرة، ولعله أخذه من قول سيدنا عمر رضي الله عنه: (أنه يجهز الجيش في الصلاة)، ويحمل على أنه خطر بباله أمر فاستدامه خوف نسيانه. فالأدب: أن لا يتفكر إلا في معنى ما يقوله من قراءة أو ذكر أو دعاء، وفي الخبر: "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل" وبه يتأيد القول بأن حديث النفس الاختياري، والأسترسال مع الاضطراري مبطل. تنبيه: المصافحة بعد الصلاة: قال الشيخ عز الدين: بدعة مباحة، قال النووي: (إن صافح من كان معه قبل الصلاة .. فمباحة، أو من لم يكن معه قبلها .. فسنة؛ إذ المصافحة عند اللقاء سنة إجماعاً) اهـ ويؤخذ منه أنه صافحه عقب السلام، أو عند الانصراف إذا كان بينهما بعض

فصل: في شروط الصلاة

المأمومين؛ إذ في قيامه لمصافحته عقب سلامه تفويت لفضيلة المكث في مصلاه بعد سلامه، كما في الحديث: "أنه لم تزل الملائكة تصلي عليه ما لم يقم أو يحدث". وأما ما يقع الآن من أنه يصلي بجنبه، فإذا سلموا .. اشتغلوا أولاً بالذكر والدعاء، ثم يتصافحون .. فهذه مصافحة ليست عند لقاء، بل بعده، فليست بسنة. ولو مد شخص يده ليصافحك .. فصافحه وإن لم تسن؛ لأن في عدم مصافحته كسر خاطر له، على أن كثيراً قالوا بسنيه ذلك مطلقاً؛ لأن في الصلاة غيبة، وبالسلام يحصل اللقاء، لكن في النوم غيبة أعظم من غيبة الصلاة ولم تسن بعده، وبعضهم استحبها بعد العصر والصبح؛ لأن الملائكة الحفظة يجتمعون معهم فيهما على صور بني آدم؛ لتحصل البركة بمصافحتهم، والله أعلم. * * * (فصل): في شروط الصلاة، والمراد بها هنا: ما يعم المانع. والشروط جمع: (شرط) -بسكون الراء وفتحها- وهو لغة: العلامة، ويطلق على: تعليق أمر بأمر، كل منهما يقع في المستقبل. وفي "الأسنى" و"التحفة": إن الشَّرْط بالسكون ليس معناه العلامة، وإنما هي معنى الشَّرَط، بفتح الراء. قال في "النهاية": وقد صرح بذك في "المحكم"، و"العباب"، و"الصحاح"، و"القاموس". واصطلاحاً: للصلاة ما يتوقف عليه صحة الصلاة وليس منها. أو ما وجب للصلاة، وقارن كل معتبر سواه. ومن حيث هو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. وهذا تعريف بالأعم، فإنه ليس مانعاً؛ إذ يدخل فيه العرض العام، كالماشي بالقوة للإنسان؛ فإنه يلزم من عدمه عدم الإنسان، ولا يلزم من وجوده وجود الإنسان ولا عدمه. والمانع عكس الشرط، يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم.

والسبب: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم. وزاد بعضهم في تعريف الثلاثة: لذاته، وليس بلازم. وإنما قدم الأركان على الشروط مع أن الشرط مقدم طبعاً، فحقه أن يقدم وضعاً؛ لأن فيه إشارة إلى أهمية الأركان، ولأنه لما أدخل الموانع في الشروط، وهي لا تكون إلا بعد الانعقاد .. حسن تأخيرها. وإنما أدخل الموانع في الشروط مع أن الأول عدمي والثاني وجودي؛ إشارة إلى اتحادهما في أنه لا بد من فقد الأول ووجود الثاني، فالأول شرط تجوزاً لا حقيقة؛ لما مر، ولأن الشروط من باب المأمورات، والموانع من باب المنهيات؛ فلذا فرق بين الناسي وغيره فيها، لا في الشروط. واعلم: أن للصلاة شروط وجوب -وقد مرت في أول باب الصلاة- وشروط صحة -وذكرها هنا- وهي على ما ذكره: خمسة عشر، وهي أربعة أقسام: قسم شرط لكل عباده، وهي الإسلام والتميز والعلم بالفرضية وأن لا يعتقد فرضاً سنة. وقسم شرط للصلاة فقط، وهو طهارة الحدثين، وطهارة الخبث وستر العورة والوقت واستقبال القبلة. وقسم شرط النية، وهي الثلاثة الأخيرة. وقسم من الموانع؛ لأن المطلوب تركها لا فعلها، وهو ترك الكلام والأفعال والأكل، وقد جعل الجميع شروطاً للصلاة فقال: (وشروط) صحة (الصلاة: الإسلام، والتميز)؛ لما مر في الوضوء. (ودخول الوقت) يقيناً أو ظناً بالاجتهاد، كما مر. (والعلم) بكيفيتها بأن يعرف أفعالها وأقوالها وترتيبها؛ إذ مَنْ لم يعرف ذلك .. ليس متمكناً من نيتها. فلو أسلم شخص ودخل في صلاة جماعة وفعل مثلهم من غير معرفة ذلك .. لم تصح. والعلم (بفرضيتها) فلو تردد في فرضيتها أو اعتقدها سنة .. لم تنعقد.

(وأن لا يعتقد فرضاً) معيناً (من فروضها سنة) بخلاف المبهم، كأن اعتقد أن واحداً من الركوع والاعتدال سنة، فلا يضر؛ إذ لم يفعل ركناً مع اعتقاده سنيته، بل مع التردد في ذلك، وهو لا يضر، وبخلاف ما لو أن جميع مطلوباتها فروض، أو أن بعضها فرض، وبعضها سنة، ولم يقصد بفرض معين السنة .. فتصح ولو من عالم عند (حج)، واعتمد (م ر) هذا في العامي. وأمَّا العالم .. فلا بد من تمييزه فرائضها من سننها، إلا أن يعتقد فرضية جميع أفعالها. والعالم هنا: من اشتغل بالعلم زمناً تقتضي العادة أن يميز بين الفرض والسنة. والعامي بخلافه. واعتمد (حج) أن ترك تعلم ما يجب عليه ليس بكبيرة؛ لصحة عبادته مع تركه، وخالفه (م ر) كشيخ الإسلام وغيرهما، ولا يضر قصد الركن بالشرط وعكسه. (و) السادس: (الطهارة عن الحدث) الأصغر والأكبر بماء أو تراب، فإن عجز عنهما .. صلى فاقد الطهورين وأعاد، كما مر. فإن صلى بغير طهر مع وجود أحدهما عالماً عامداً .. لم تنعقد صلاته وعليه الإثم، أو ناسياً .. أثيب على قصده لا فعله إلا ما يتوقف على طهر كالذكر، وكذا القراءة من غير نحو جنب. (فإن سبقه) حدثه غير الدائم أو أكره عليه، وبالأولى ما لو تعمده ( .. بطلت) صلاته وإن كان فاقد الطهورين؛ للخبر الصحيح: "إذا فسا أحدكم في صلاته .. فلينصرف وليتوضأ، وليعد صلاته". ويسن لمن أحدث في صلاته أو قبلها قرب إقامتها أن يأخذ بأنفه، ولينصرف؛ ستراً على نفسه، ولئلا يخوض الناس فيه. ويؤخذ منه أنه يسن ستر كل ما يوقع الناس فيه، كما لو نام عن صلاة الصبح فتوضأ بعد طلوع الشمس .. فيوهم أنه يصلي الضحى. وتبطل أيضاً بكل مناف عرض له بلا تقصير، وتعذر دفعه حالاً، كتنجسه برطب، وتطيير الريح ثوبه، وكأن حركه غيره ثلاثاً متوالية، فإن أمكن دفعه حالاً، كأن كشف

عورته ريح، وكذا حيوان كآدمي على ما قاله (ح ل)، أو تنجس نحو ردائه فألقاه، أو نفض النجس اليابس لا بنحو كمه حالاً .. لم يضر، ويغتفر هذا العارض؛ لقلته بخلاف الرطبة، واليابسة التي لم يلقها حالاً، أو نفضها بمحمولة ككمه، فيضر. ولا يرد ما مر أنه لا يضر قلب ورق القرآن بنحو عود؛ لأن الحمل هنا أغلظ، بدليل أنه لا يحرم حمل حامل المصحف، ويضر حمل حامل النجاسة. وإنما ضر ملاقاة نحو ثوبه للنجس، ولم يضر سجوده على ما لا يتحرك بحركته؛ لأن المعتبر هنا أن لا يكون شيء مما ينسب إليه ملاقياً للنجس ونحو الثوب منسوب إليه، والمعتبر هناك سجوده على قرار، وبعدم تحركه بحركته هو قرار. ولو صلى على نحو ثوب على نجس، وارتفع برجله المبتلة أو غيرها، فإن انفصل عن رجله حالاً ولو بتحركه .. لم يضر، وإلا .. ضر. (و) السابع: (الطهارة عن الخبث) الذي لا يعفى عنه (في الثوب) وغيره من كل محمول له، أو ملاق لمحموله (والبدن) ومنه داخل الفم والأنف والعين وإن لم يجب غسلها في الجنابة؛ لأن النجاسة أغلظ (والمكان) الذي يلاقيه بدنه أو محموله في صلاته؛ للخبر الصحيح: "تنزهوا عن البول، فإن عامة عذاب القبر منه" وثبت الأمر باجتناب النجس، وهو لا يجب في غير الصلاة، فتعين فيها. والأمر بالشيء نهي ضده، والنهي يقتضي الفساد. نعم؛ التضمخ بالنجس لغير حاجة حرام في بدن وثوب. (ولو تنجس) بغير معفو عنه (بعض ثوبه أوبدنه) أو مكانه الضيق (وجهله) في جميعه ( .. وجب غسل جميعه)؛ لتصح صلاته معه، إذ ما بقي جزء بلا غسل .. فالأصل بقاء النجاسة، وإنما لم ينجس ما مسه رطباً؛ لأنه لا تنجيس إلا بيقين، فإن علم انحصار النجس في محل منه ككمه .. لم يجب إلا غسله. (ولا يجتهد) وإن كان النجس بأحد كميه؛ لتعذر الاجتهاد في العين الواحدة. فلو فصل أحدهما .. جاز الاجتهاد فيهما، فإن ظن أحدهما هو النجس .. غسله، ويقبل خبر الثقة بأن هذا هو النجس، ولو شق الثوب لم يجتهد؛ لاحتمال كون الشق في محل النجاسة.

وخرج بتقييد المكان بالضيق: ما لو اتسع، بأن زاد على قدر موضع صلاته، فيندب الاجتهاد، وله أن يصلي فيه بدون اجتهاد إلى أن يبقى قدر النجس. (ولو غسل نصف) أي: بعض (متنجس) كثوب تنجس كله أو بعضه، واشتبه (ثم باقيه) بصب الماء عليه، لا في نحو جفنة، وإلا .. لم يطهر منه شيء؛ لأن طرفه الآخر نجس مماس لماء قليل غير وارد، فينجسه ( .. طهر كله إن غسل) الباقي مع (مجاوره) من المغسول أولاً. (وإلا) يغسل المجاور ( .. فيبقى المنتصف) بفتح الصاد (على نجاسته)؛ لأنه رطب ملاق لنجس دون ملاقيه، لأن نجاسة المجاور لا تتعدى لما بعده، وإلا لتنجس السمن الجامد كله بالفأرة الميته فيه، وهو خلاف النص. (ولا تصح صلاة من يلاقي بعض بدنه، أو) محموله من (ثوبه) أو غيره (نجاسة) في جزء من صلاته (وإن لم يتحرك بحركته)؛ لنسبته إليه. ولو انغرزت إبرة ببدنه واتصلت بدم كثير ولم تستتر .. لم تصح صلاته إن أمكن إخراجها بلا مشقة؛ لأنه حامل متصلاً بنجس. ولو ضرب عقرب في صلاته .. لم يضر، أوحية .. ضر؛ إذ الحية يعلو سمها في ظاهر البدن، والعقرب تفرغه في الباطن، وخرج بـ (محموله): نحو سرير على نجس، فتصح صلاته عليه إذا لم يلاق النجس ببدنه ولا محموله. (و) لا تصح (صلاة قابض) أو شاد أو حامل ولو بلا قبض ولا شد (طرف) نحو (حبل على نجاسة) أو على ملاقيها، كأن شد بقلادة نحو كلب، أو بمحل طاهر من سفينة تنجرُّ بجره بحراً أو براً وفيها نجاسة، أو من حمار حامل لها (وإن لم يتحرك بحركته)؛ لحمله متصلاً بنجس. قال الكردي: (وحاصل المعتمد: أنه إن وضع طرف الحبل بغير شد على جزء طاهر من شيء متنجس كسفينة متنجسة، أو على شيء طاهر متصل بنجس كساجور

كلب .. لم يضر مطلقاً، أو وضعه على نفس النجس ولو بلا نحو شد .. ضر مطلقاً، وإن شده على الطاهر المتصل بالنجس .. نُظر إن انجر بجره .. ضر، وإلا .. فلا، ثم قال: قال في "الإيعاب": تعبيره -أي: "العباب"- بالجر أولى من تعبير "الجواهر" بيتحرك بحركته؛ إذ مجرد الحركة لا أثر لها) اهـ وخرج (بقابض) وما بعده: ما لو جعله المصلي تحت قدمه، فلا يضر وإن تحرك بحركته، كما لو صلى على بساط مفروش على نجس، أو بعضه الذي لا يماسه نجس، ولو حبس بمحل نجس .. صلى فيه، وتجافى عن النجس قدر إمكانه، ولا يضع جبهته على الأرض ويعيد. (ولا يضر محاذاة النجاسة) لبدنه أو محموله في الصلاة (من غير إصابة) لها (في ركوع أو غيره) وإن تحرك بحركته، كبساط يصلي عليه وبطرفه خبث؛ لعدم ملاقاته لها ونسبته إليه. نعم؛ تكره الصلاة مع محاذاتها في إحدى جهاته الست، بحيث يعد محاذياً لها عرفاً. (وتجب إزالة الوشم)؛ لحمله نجاسة تعدى بحملها؛ إذ هو غرز الإبرة إلى أن يدمى، ثم يذر عليه نيلة أو كحل أو نحوهما، فإن امتنع .. أجبره الحاكم وجوباًً، كرد المغصوب، ولا تصح صلاته قبل إزالته، وينجس ما لاقاه مع رطوبة، وإنما يحرم وتجب إزالته بشروط: الأول: أن لا تكون فيه منفعة، فإن كانت فيه منفعة ولم يقم غيره مقامه .. جاز. الثاني: أن يكون من هو فيه تجب عليه الصلاة، وإلا بأن كان نحو مجنون .. لم تجب إزالته حتى يفيق. الثالث: أن يكون حياً، فلا تجب إزالته عن ميت. الرابع: إنما تجب إزالته (إن لم يخف) منها (محذوراً من محذورات التيمم) السابقة كبطء برء، وإلا .. لم تجب إزالته وإن تعدى به، فإن لم يتعد به .. لم تجب إزالته مطلقاً عند (م ر). وفي "التحفة": يجب إن لم يخف حصول مشقة وإن لم تبح التيمم، وحيث لم تجب إزالته يعفى عنه ولا ينجس ملاقيه.

الخامس: أن لا يكتسي بجلد رقيق، وإلا .. لم تجب إزالته على من لم يتعد به؛ لمنعه من مماسة النجاسة حينئذٍ. ولو وصل عظمه أو ربطه أو دهنه بنجس .. جرى فيه أحكام الوشم. ولو وصله بعظم آدمي ولو حربياً عند (م ر) .. وجب نزعه إن وجد غيره، ولم يخف محذور تيمم ولم يمت. ولو وصلت المرأة شعرها بشعر نجس أو شعر آدمي ولو من شعرها .. حرم، ولو بإذن حليلها؛ لأن من كرامته أن لا يستعمل بل يدفن، أو وصلته بشعر طاهر من غير آدمي .. جاز بإذن حليلها، أو بخيوط حرير أو نحوه .. جاز ولو بغير إذن حليل. (ويعفى عن محل استجماره) بما يجزئ من حجر ونحوه، وكذا ما يلاقيه من الثوب -عند (م ر) - في حق نفسه وإن انتشر بعرق ما لم يجاوز الصفحة والحشفة؛ لمشقة اجتناب ذلك مع حل الاقتصار على نحو الحجر. أما لو حمل مستجمراً، أو أمسكه، أو أمسك به المستجمر، أو من به نجس ولو معفواً عنه .. لم تصح صلاته. وكحمل المستجمر: حمل حيوان مذبوح ولو مأكولاً، وغسل ما بظاهره من نحو الدم، أو أدمياً ميتاً، أو بيضة مذرة استحالت دماً، أو قارورة ختمت على نحو دم ولو برصاص، أو مائعاً فيه ميتة لا دم لها سائل؛ إذ لا حاجة لجميع ذلك. أما حمل الحي .. فلا يضر إن لم يعلم نجاسة بظاهره، ولا نظر لنجاسة باطنه؛ لحمله صلى الله عليه وسلم أمامه بنت بنته في الصلاة؛ إذ لا يترتب على نجاسة الباطن حكم حتى تتصل بالظاهر، أو يتصل بها ما بعضه بالظاهر. (و) يعفى (عن طين الشارع) أي: محل المرور إن لم يكن شارعاً، كدهليز حمام وما حول الفساقي (المتيقن نجاسته) ولو بمغلظ وإن مشى حافياً، وإن كانت برجليه رطوبة وفي غير وقت مطر، وكطينه: ماؤه؛ لعسر تجنبها. وخرج (بالطين): عين النجس وإن عم الطريق عند (حج)، قال: لندرة ذلك، وبكونه من الشارع ما لو تلطخ نحو كلب به، ونفضه على إنسان، وكذا لو رش الأرض المتنجسة سقاء مثلاً فطار منه شيء على إنسان .. فلا عفو، وإنما لم يعف عن المغلظ فيما لا يدركه الطرف وفي دم الأجنبي؛ لأنه لا تعم به البلوى، بخلافه هنا.

(و) إنما يعفى عن ذلك في ثوب وبدن وإن انتشر بعرق لا في المكان كالمسجد، و (عما يتعذر) أو يتعسر (الاحتراز عنه غالباً) بأن لا ينسب صاحبه إلى سقطة أو كبوة أو قلة تحفظ وإن كثر، ولا يبعد أن اللوث في جميع أسفل الخف وأطرافه قليل، بخلاف مثله في الثوب والبدن، بدليل قوله كغيره: (ويختلف بالوقت وموضعه من الثوب والبدن) فيعفى في زمن الشتاء وفي الذيل والرجل عما لا يعفى عنه في زمن الصيف، وفي اليد والكم. وكطين الشارع طين غيره المتنجس إذا عم الابتلاء به، فيعفى عن طين أرض الحراثة وإن كثر؛ لعموم البلوى به، وعن تراب المقبرة في القليل، وأما غير متيقن النجاسة .. فالأصل طهارته. وجزم النووي بطهارة ماء الميازيب المشكوك في نجاستها. نعم؛ لو تحققت نجاسته .. عفى عنه. وأفتى الزيادي بالعفو عن رماد النجس على الخبز المعمول بالنار من نحو البعر وإن قدر على عمله بطاهر. وأفتى ابن صلاح بطهارة الأوراق التي تعمل وتبسط رطبة على الحيطان المعمولة برماد نجس. قال (ع ش): ومثلها -أي: الأوراق- الحوائج، أي: الثياب ونحوها المنشورة على تلك الحيطان، أي: كما يعفى عن الآجر المعمول بالنجاسة ولا ينجس ملاقيه، وعن التنانير ونحوها المعمولة بالسرجين، وعن رشاء البئر، ومحل النزح منه المتنجسين، ويجوز حمل الخبز المعمول في التنانير المعمولة بالسرجين في الصلاة، كما قاله الخطيب خلافاً لـ (م ر). (وأما دم البثرات) -جمع بثرة- وهي: خراج صغير (و) دم (الدماميل والقروح) أي: الجراحات (والقيح والصديد) وهو ماء رقيق مختلط بدم أو دم مختلط بقيح (منها) أي: القروح (ودم البراغيث والقمل والبعوض والبق) ونحوها مما لا نفس له سائلة (و) دم (موضع الفصد والحجامة وونيم الذباب) أي: روثه، ومثله بوله

(وبول الخفاش) وروثه (وسلس البول، ودم الاستحاضه، وماء القروح، والنفاطات المتغير ريحه) أما ما لايتغير به .. فطاهر ( .. فيعفى عن قليل ذلك) حيث لم يخالطه أجنبي (و) عن (كثيرة) رطباً وجافاً في بدن وثوب، وكذا مكان في دم برغوث وبول وروث خفاش وذباب، وإن تفاحش وانتشر بعرق ونحوه وجاوز البدن إلى الثوب، وطبَّق الثوب الملبوس لحاجة؛ لعموم البلوى بذلك، فيعفى عنه بثلاثة شروط: أن لا يختلط بأجنبي. ولا يجاوز محله الذي استقر فيه عند الخروج وإن لم يستقر دم جرح رأسه إلا في قدمه، لكن للثوب الملاقي للبدن حكمه. ولا يحصل بفعله قصداً، فإن اختل شرط من ذلك .. عفى عن قليله فقط في غير المختلط بأجنبي، أمَّا المختلط به .. فلا يعفى عن شيء منه. قال في "التحفة": ومحله في الكثير، وإلاَّ نافاه ما في "المجموع" عن الأصحاب في اختلاط دم الحيض بالريق في حديث عائشة أنه مع ذلك يعفى عنه. (إلا إذا فرش الثوب الذي فيه ذلك) المعفو عنه (أو حمله لغير ضرورة) أو لحاجة، وصلى فيه ( .. فيعفى عن قليله) فقط، وهو ما يعسر الاحتراز عنه، ويختلف باختلاف البلاد والأوقات. قال في "الأسنى": وذكروا له تقريباً في طين الشارع وهو ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة أو كبوة أو قلة تحفظ (دون كثيره) وهو ما ينسب صاحبه لما ذكر، بخلاف ما لو لبسه لتجمل أو نحوه وإن كان زائداً .. فيعفى حتى عن كثيره. وخرج (بالأجنبي) -وهو ما لم يحتج لمماسته- نحو ماء طهر وشرب وتنظيف وتبرد وتنشيفٍ احتاجه، وما سقط على المعفو عنه من مأكول ومشروب .. حال تعاطيه، وما صب في الأمعاء لإخراج ما فيها، وماء بلل رأسه عند حلقه، ومماسة آلة نحو فصد لنحو ريق أو دهن، وسائر ما يحتاج إليه، فليس بأجنبي، فلا يضر مخالطة المعفو عنه له. قال الشرقاوي: (ولو رش بدنه أو ثوبه المتنجس بمعفو عنه .. عفي عنه عند

الرشيدي، وهذا كله بالنسبة للصلاة لا لنحو مائع، فلو وقع الملوث بذلك فيه .. نجسه إن لم يحتج إليه، فلو أدخل يده لإخراج ما في إناء وهي متلوثة بذلك .. لم يضر إن كان ناسياً، وإلا .. تنجس، وهذا ما اعتمده شيخنا الحفني، خلافاً لمن أطلق العفو) اهـ والذي أطلق العفو هو (م ر)، ويفهم أيضاً من كلام غيره، وأنت خبير بأن هذا مما يحتاج إليه، وقد مر: أنه لا يضر. قال في "التحفة": (بل أطلق بعضهم المسامحة في الاختلاط بالماء، واستدل له بنقل الأصبحي عن المتولي، والمتأخرين ما يؤيده، وقال أيضاً: وفي "المجموع" التصريح بأنه لا يضر اختلاط الدم بالريق قصداً، وبه يتأيد قول المتولي: لايؤثر اختلاط الدم المعفو عنه برطوبة البدن) اهـ ويعفى عن قليل دم المنافذ عند (حج)، قال الرشيدي: (وهو أولى بالعفو من المختلط بنحو ماء طهر) وخرج بقولي: ولم يجاوز محله ما جاوزه، فهو أجنبي، ولا يعفى إلا عن قليله، كما قال: (ويعفى عن قليل دم الأجنبي) وهو: ما أصابه من غيره أو من نفسه لكن بعد استقراره كأن دميت يده اليمنى، وانتقل منها دم لليسرى، فما انتقل إلى اليسرى أجنبي. نعم؛ المنتقل من الجرح إلى ما حاذاه من الثوب ليس بأجنبي (غير) دم (الكلب والخنزيز) وفرع أحدهما؛ لأن جنس الدم يتطرق إليه العفو، فيقع في محل المسامحة وإن لطخ نفسه به عمداً ولو لغير حاجة عند (حج)، ويجتهد عند الاشتباه في قلته وكثرته، فإن لم يتأهل .. رجع إلى ثقة يجتهد له فيه، ويعتبر في اجتهاده الزمان والمكان، فما رأى أنه مما يغلب التضمخ به ويعسر الاحتراز عنه .. فقليل، وإلا .. فكثير. ولو شك أهو قليل أو كثير؟ فله حكم القليل ولو تفرق في محال ولو جمع كان كثيراً .. فله حكم القليل عند الإمام، واعتمده (م ر). وإنما لم يعف عن قليل البول في غير سلس مع أن الابتلاء به أكثر؛ لأنه اقذر وله محل مخصوص.

أمَّا دم الكلب والخنزير .. فلا يعفى عنه هنا؛ لغلظه، وإنما عفى عنه في طين الشارع؛ لعموم البلوى به فيه، لا هنا. وخرج بقولي أيضاً: ولم يحصل بفعله ما لو حصل المعفو عنه بفعله، فإنما يعفى عن قليله، كما قال: (ولو عصر البثرات أو الدماميل أو قتل البرغوث) أو نحوه في ثوبه أو بدنه، أو نام في ثوبه لغير حاجة، وكان ممن لا يعتادون النوم في ثيابهم ( .. عفى عن قليله فقط) على المعتمد؛ إذ لا كثير مشقة في تجنبه حينئذٍ، وإنما لم ينظروا لكون دم الفصد والحجامة بفعله؛ لأن الضرورة في ذلك أقوى منها في دم نحو البرغوث وعصر الدمل، ولو مرت نحو القملة بين أصابعه .. فالأقرب عدم العفو؛ لكثرة مخالطة الدم للجلد فلا ضرورة، بخلاف قتلها بغير مرت، ولو رعف في الصلاة .. لم تبطل وإن تلوث بدنه ما لم يكثر. (ولا يعفى عن جلد البرغوث ونحوه) مما لا نفس له سائلة في بدن ولا ثوب ولو بمكة ونحوها أيام ابتلائهم بالذباب، وأفتى بالعفو فيه: الحافظ ابن حجر حينئذٍ. والصيبان وجلد القمل يعفى عنهما في تضاعيف الخياطة إن لم يعلم بجلد القمل؛ لعسر تفتيش الثوب لذلك كل وقت. وفي "القلائد": ولو ضرب حية أو عقرباً فخرج منه ماء حياتها .. فهو طاهر كلحمه حياً. وبينت في "الأصل" عن "فتوى حج": أن هزال اللحم المضني كاللحم وإن قرب من لون الدم، فإن تحقق أن حمرته أو صفرته من الدم الذي على اللحم .. فهو نجس، لكن يعفى عنه، وأمَّا ما يتقاطر من الكبد مما يشبه الدم بعد اشتوائها .. فطاهر، أو قبله، فإن كان بلون الدم .. فنجس، وإلا .. فلا. (ولو صلى بنجس) لا يعفى عنه (ناسياً أو جاهلاً) به، فإن علمه أثناءها .. قطعها وتطهر عنه واستأنفها، أو بعدها ( .. أعادها) متطهراً عنه وجوباً في الوقت أداءً إن أدركه، وإلاَّ .. فبعده قضاءً على التراخي؛ إذ لا تقصير منه، وإنما وجبت الإعادة؛ لأن الطهارة من باب المأمورات، وهو لا يؤثر فيه الجهل والنسيان، بخلاف المنهيات، والقديم لا قضاء، ورجحه في "المجموع".

وعلى الأول: لو مات قبل التذكر .. فلا مؤاخذة؛ لرفعها عن الخطأ والنسيان. ولو شك هل أصابه النجس قبل الصلاة أو بعدها .. فلا قضاء؛ إذ الأصل في كل حادث تقديره بإقرب زمن، بخلاف ما لو تيقنه وشك في زواله قبلها .. فيعيد؛ إذ الأصل عدم زواله، ولو أخبره عدل بنحو كشف عورته .. لزمه قبوله، أو بنحو كلام مبطل .. فلا؛ لأن فعل نفسه لا يرجع فيه لقول غيره، ومحله فيما لا يبطل سهوه؛ لاحتمال أنَّ ما وقع منه سهو، أمَّا هو كالفعل الكثير .. فينبغي قبوله. (الشرط الثامن: ستر العورة) عن العيون من إنس وجن وملك، فلا تصح مع عدم سترها مع القدرة عليها ولو خالياً أو في ظلمة؛ لآية (خُذُوا زِينَتَكُمْ) [الأعراف:31]. قال ابن عباس: المراد بها الثياب في الصلاة، فأطلقت الزينة والمسجد وأريد الثياب والصلاة، ولإجماعهم على الأمر بالستر في الصلاة. والأمر النفسي بالشيء نهي عن ضده، والنهي يقتضي الفساد في العبادة والمعاملة إن رجع إلى ذات الشيء كصلاة الحائض؛ لاختلال شرطها، وهو الطهر، أو إلى لازمه كالصلاة في الأوقات المنهي عنها؛ لرجوع النهي إلى لازم الصلاة وهو الأوقات الفاسدة اللازمة لها، بخلاف النهي عن الشيء لخارج عنه كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب، فالنهي راجع إلى الغصب، وهو أمر خارج عن الوضوء غير لازم له، فلم يقتض الفساد، فإن عجز عنها بالطريق السابق في التيمم -فيلزمه سؤال عارية، وقبول تافه كطين- صلى عارياً عند اليأس منها وإن لم يضق الوقت عند (حج)، وأتم ركوعه وسجوده ولو بحضرة من يحرم نظره إليه، ولا إعادة. ومن العجز أن يجد السترة متنجسة، أو يحبس بمحل نجس ولا معه سواها، فيفشها ويصلي عارياً ولو نفلاً، ولا إعادة، ويلزمه سترها خارج الصلاة ولو في الخلوة، لكن الواجب فيها ستر سوأتي الرجل والأمة، وما بين سرة وركبة حرة فقط، إلا لأدنى غرض كتبرد، فيجوز كشفها ولا يجب سترها عن نفسه، لكن يكره نظره لسوأته بلا حاجة. وحكمة الستر والطهارة فيها ما جرت به عادة مريد التمثل بين يدي كبير بهما، والمصلي مريد التمثل بين يدي ملك الملموك، فهو أولى بهما. وفائدة الستر في الخلوة أن يراه الله متأدباً، ولأن مكانه لا يخلو عن ملك وجن.

و (العورة) لغة: النقص، والشيء المستقبح، وسمي المقدار الآتي بها؛ لقبح ظهوره. وتطلق شرعاً: على ما يحرم نظره، وهو جميع بدن المرأة ولو أمة وإن انفصل، كشعرها المبان؛ فإنَّ ذلك يحرم نظره على الرجال، وجميع بدن الرجل؛ فإنه يحرم نظره على النساء. ويذكرون هذا في النكاح وعلى ما يجب ستره في الصلاة، وهو المراد هنا، كما قال: (وعورة الرجل) أي: الذكر ولو قناً وصبياً غير مميز فيما إذا أحرم عنه وليه وطاف به (و) عورة (الأمة) أي: من فيها رق ولو مكاتبة أو, مبعضة وأم ولد (ما بين السرة والكبة) وإن تدلى عنهما، كسلعة وشعر أصلهما فيها وتدلى عنها؛ للخبر الحسن: "غظ فخذك؛ فإن الفخذ عورة". ويجب أيضاً ستر جزء منهما؛ ليتحقق ستر العورة، وقيس بالذكر الأمة، بجامع أن رأس كل غير عورة. (و) عورة (الحرة) والخنثى الحر ولو غير مميزين (في صلاتها) وصلاته (وعند الأجانب) ولو خارجها (جميع بدنها) وبدنه حتى باطن القدم، وهو مما يغفل عنه في السجود (إلا الوجه والكفين) ظهراً وبطناً إلى الكوعين، فيجب سترهما؛ لأنهما غاية لما يجب ستره، فينتهي إلى الكوعين؛ لقوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور:31] أي: ما يغلب ظهوره، وهو: الوجه والكفان؛ للحاجة لكشفها. تنبيه: لا منافاة بين ما قدمته من أنَّ عورة الحرة: جميع بدنها، وبين ما ذكر المصنف من أنها عورة حتى عند الأجانب: ما عدا الوجه والكفين؛ لأن المراد من الأول: ما يحرم نظره وإن لم يكن عورة، ومن الثاني: ما هو عورة حقيقية. وعليه: فيجب عليهما سترهما خوف الفتنة على المعتمد. (و) زيد لها عورتان: إحداهما: (عند محارمها) الذكور ومملوكها المسلم العفيف إن كانت عفيفة، وعند

النساء وفي الخلوة: (ما بين السرة والركبة). ثانيتهما: ما لايبدو عند المهنة عند الكافرات، والخنثى كالأنثى، إلاَّ أنَّه لو ستر جميع بدنه إلا وجهه وكفيه ودخل الصلاة، ثم انكشف شيء من غير ما بين سرته وركبته .. لم يضر؛ لأن تحققنا الانعقاد، وشككنا في المبطل، ولا بطلان بالشك، قاله الخطيب، قال: (وهذا الفتوح من العزيز الرحيم، فتح الله على من تلقاه بقلب سليم) اهـ، ونحن تلقيناه بقلب سليم. (وشرطه الساتر) ثلاثة: كونه: يشمل المستور لبساً أو نحوه. وكونه: (ما) أي: جرماً وكونه (يمنع) إدراك (لون البشرة) أي: في مجلس التخاطب لمعتدل بصر، ولو حكى الحجم، كسروال ضيق وإن كره، أو لم يستر حجم الأعضاء، ككونه طيناً (وإن) لم يُعْتَدْ به الستر، ككونه (ماء كدراً) أو, صافياً تراكمت خضرته حتى منع الرؤية، أو حفرة أو خابية ضيقي الرأس وإن وجد ثوباً؛ لحصول المقصود بذلك، بخلاف ما لا يشمله، كما قال. (لا خيمة ضيقة) بحيث أحاطت بأعلاه وجوانبه (وظلمة) وما لاجرم له كأثر صبغ لا جرم له وإن ستر البشرة؛ إذ لا يعد ذلك ساتراً عرفاً، ولا جرم يحكى لون البشرة كزجاج ومهلهل؛ إذ مقصود الستر لا يحصل به، وتتصوّر الصلاة في الماء في صلاة جنازة، والمومئ ومن يخرج عنه للسجود. (ولا يجب الستر من أسفل) في الصلاة ولا خارجها. وتردد في "الإمداد" في رؤية ذراع المرأة من كمها المتسع إذا أرسلته. وفي "التحفة": لم تصح مع ذلك؛ لعدم عسر تجنبه، ولأنها رؤية من الجانب لا من أسفل، واستقرب في "الإيعاب" عدم الضرر. ولو رئيت عورته في سجوده لارتفاع ذيله على قدميه، أو من ثقب قي دكة صلى عليها .. لم يضر؛ إذ هي رؤية من أسفل. (ويجوز) له (ستر بعض العورة بيده) أو بيد غيره حيث لا نقض، بل يجب ما لم يجد غيره يستره به وعلى الوجوب بيده فيبقيها -عند الخطيب- في السجود؛ لأن ستر العورة متفق عليه بين الشيخين، ووضع الكفين في السجود مختلف فيه، وعند (م ر):

يجب وضعها في السجود؛ لأن الستر إنما يجب على القادر، وهو عاجز حينئذٍ. وعند (حج): يتخير؛ لتعارض الواجبين، ويجب ستر بعض عورته بما وجده، وتحصيله قطعاً وإن اختلفوا في وجوب تحصيل ماء لا يكفيه لطهره؛ لأن المقصود منه رفع الحدث، وفي تجزيه خلاف. وهنا المقصود الستر، ولا خلاف في تجزيه. (فإن وجد) المصلي أو غيره (ما يكفي سوأتيه) أي: قبله ودبره، سميا بذلك؛ لأن كشفهما يسوء صاحبهما ( .. تعين لهما)؛ لفحشهما، وللاتفاق على أنهما عورة (أو) وجد كافي (أحدهما .. فيقدم قُبُلَه) وجوباً؛ لبروزه ومقابلته في الصلاة للقبلة، والدبر مستور بالأليتين غالباً. والمراد بـ (القبل والدبر): ما ينقض مسه الوضوء. وظاهر كلامهم: أن بقية العورة سواء وإن كان ما قرب إليهما أفحش، لكن تقديمه أولى. ولا يجوز لمن فقد السترة غصبها ولو للصلاة، بخلاف الطعام في المخمصة؛ لصحة صلاته عارياً بلا إعادة. نعم؛ إن احتاج ذلك لنحو حرٍّ أو برد .. جاز. ولو أوصى بثوب لأولى الناس، أو وقفه عليه .. قدمت به المرأة؛ لفحش عورتها ثم الخنثى ثم الأمرد، ويقدم الحرير على المتنجس في الصلاة، والمتنجس يقدم خارجها. ويستحب للذكر أن يلبس أحسن ثيابه ويتقمص ويتعمم ويتطيلس ويرتدي ويتزر أو يتسرول، ولو اقتصر على ثوبين .. فقميص مع رداء، أو إزار أو سراويل أولى من رداء مع إزار أو سراويل ومن إزار مع سراويل، ويلتحف بالثوب الواحد إن اتسع، ويخالف بين طرفيه، فإن ضاق .. ائتزر به، وجعل شيئاً على عاتقه ولو نحو حبل؛ لكراهة الصلاة بدون ذلك، بل نقل السمهودي عن السبكي عن الشافعي: أنه يجب، واختاره؛ لخبر: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء". ويسن للمرأة كالخنثى في الصلاة: ثوب سابغ لجميع البدن، وخمار سابغ، وملحفة كثيفة. وإتلاف الثوب في الوقت، وبيعه كالماء، أي: حرام، ولا ينعقد؛ للعجز عن

تسليمه شرعاً، ويقدم الثوب على الماء؛ لدوام نفعه، ولأن للماء بدلاً، بخلافه. (ويزر) -ندباً- جيب (قميصه) قبل إحرامه، أو يستره ولو بلحيته أو يده (أو يشد وسطه) -بفتح السين على الأصح- (إن كانت عورته تظهر) له أو لغيره منه (في ركوع أو غيره) فإن لم يفعل .. صح إحرامه، ويجب عليه ستره عند ركوعه، فإن لم يسترها .. بطلت صلاته. ولو استعار ثوباً، فأحرم بالصلاة فيه ثم طلبه صاحبه أثناءها .. أتم عارياً ولا إعادة، أو فرشه على نجس .. لم يكن لصاحبه الرجوع فيه قبل فراغها؛ لفساد صلاته بذلك، وفي (حج)، و (م ر) خلاف في ذلك، فليراجع. (الشرط التاسع: استقبال) عين (القبلة) أي: الكعبة أو بدلها، وليس منها الحجر ولا الشاذروان؛ لأن كونهما منها ظني، وهو لا يكتفي به في القبلة. وفي "التحفة" عن "الخادم": (المراد بالعين: أمر اصطلاحي، وهو سمت البيت وهواؤه إلى السماء، والأرض السابعة، والمعتبر مسامتتها عرفاً لا حقيقةً، وكونها بالصدر في القيام والقعود، وبمعظم البدن في الركوع والسجود، ولا عبرة بالوجه إلا ما مرَّ في مبحث القيام) اهـ ولا بد في استقبالها من كونه: يقيناً بمعاينة، أو مس، أو بأمارة تفيد ما يفيد هذين، وهذا فيمن لا حائل بينه وبينها، أو ظناً في من بينه وبينها حائل؛ لآية: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:144] أي: عين الكعبة، أي: بدليل (أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين في وجه الكعبة، وقال: "هذه القبلة") فالحصر فيها دافع لحمل الآية على الجهة، وخبر: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" محمول على أهل المدينة ومن سامتهم. وقال الشرقاوي: ("الجهة" عند اللغويين: العين، وإطلاقها على غير العين مجاز. والمراد بالمسجد الحرام: الكعبة، بخلافه في غير هذا الموضع من القرآن، فمتى أطلق فيه .. فالمراد به جميع الحرم) اهـ والمراد بالصدر: جميع عرض البدن، فلو استقبل طرفها فخرج شيء من العرض لا من غيره كطرف يد عن محاذاته .. لم تصح، بخلاف مستقبل الركن، فمستقبل بجميع

العرض لمجموع الجهتين، ومن ثم لو كان إماماً .. امتنع التقدم عليه في كل منهما. (إلا في صلاة شدة الخوف) وما ألحق به فرضاً ونفلاً، كما يأتي. وصلاة عاجز عن الاستقبال كمريض لا يجد من يوجهه، ومربوط بخشبة، وغريق، ومصلوب، فيصلي بحسب حاله ويعيد. (وإلا في نفل السفر المباح) أي: الجائز، فيشمل ما عدا الحرام، ولا بد من شروط القصر الآتية إلا طول السفر، فيجوز التنقل ولو بنحو عيد لا معادة، وصلاة صبي فرضاً وإن كانا في الحقيقة نفلاً في سفر قصير. وضبطه الشيخ أبو حامد بميل ونحوه، والقاضي والبغوي بأن يخرج إلى محل لا يسمع منه نداء الجمعة، وبينهما تقارب، والأخير أحوط لزيادته؛ وذلك لما صح من: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به)، أي: في جهة مقصده، ولأن بالناس حاجة بل ضرورة إلى الأسفار، فلو كلفوا الاستقبال .. لتركوا أورادهم أو معاشهم؛ لمشقته فيه. أما الفرض ولو نذراً أو جنازة .. فلا يصليه راكباً ولا ماشياً وإن استقبل وطال سفره؛ لأن الاستقرار شرط له. نعم؛ من خاف من نزوله مشقة شديدة، أوخوف فوت رفقة إن توحش .. صلى راكباً بحسب حاله وأعاد عند (م ر). وفي "التحفة": ويحمل القول بالإعادة على من لم يستقبل، أو لم يتم الأركان. ويجوز فعله على سرير يحمله رجال وزورق جارٍ وأرجوحة، وعلى دابة واقفة أو سائرة ولجامها بيد مميز؛ ليكون سيرها منسوباً إليه بحيث لا يتحول عن القبلة إن أتم الأركان، لا على مقطورة مطلقاً، ونظر في "الفتح" في الأخيرة. وإذا جاز التنفل راكباً (فإن كان في) ما يسهل فيه الاستقبال وإتمام الركوع والسجود وحدهما أو مع غيرهما، كأن كان في (مرقد) كهودج (أو سفينة .. أتم) وجوباً (ركوعه وسجوده) وسائر الأركان، أو بعضها إن عجز عن الباقي (واستقبل) وجوباً؛ لتيسر ذلك عليه، ومحل ذلك في غير ملاح السفينة. أما هو، وهو من له دخل في سيرها، بأن يختل سيرها إذا اشتغل عنها ولو من

ركابها .. فلا يلزمه التوجه في جميع صلاته، ولا إتمام الأركان، بل يلزمه التوجه في التحرم فقط إن سهل كراكب الدابة، وألحق بالملاح مسير الدابة وبعضهم حامل السرير (وإن لم يكن في) نحو (مرقد ولا سفينة) مما يسهل فيه ما مر. (فإن كان راكباً) على ما لا يسهل فيه الاستقبال، وإتمام الأركان أو بعضها كدابة ( .. استقبل) وجوباً (في إحرامه فقط إن سهل عليه) لنحو وقوفها أو سهولة انحرافها. أمَّا إذا سهل في جميع صلاته دون إتمام شيء من الأركان، أو سهل إتمام الأركان دون الاستقبال في جميع صلاته .. فلا يجب غير الاستقبال عند التحرم إن سهل؛ لوقعه أول الصلاة، فيجعل ما بعده تابعاً له؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع .. استقبل بناقته القبلة، فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه). نعم؛ الواقفة لا يصلي عليها ما دامت واقفة إلا إلى القبلة، لكن لا يلزمه إتمام الأركان، فإن سافر لغرض .. أتم لجهة مقصده. (وطريقه) أي: جهة مقصده لا عينه وإن لم يسلك طريقه، ولا يضر انحرافه عن جهة مقصده في منعطفات الطريق (قبلته في باقي صلاته) بالنسبة لمن سهل عليه التوجه للقبلة في التحرم، وفي جميعها بالنسبة لغيره؛ للخبر السابق، والعبرة بوجهه وإن ركب مقلوباً، وكالنفل في ذلك سجدة تلاوة وشكر. ولو انحرف عن صوب طريقه لا إلى القبلة .. بطلت صلاته إن علم وتعمد واختار، وإلاَّ بأن انحرف جاهلاً أو ناسياً أو لغلبة دابته .. فلا إن عاد عن قرب، ويسجد للسهو إلا في النسيان عند (حج)، فهو مستثنا من قاعدة: (ما أبطل عمده يسجد لسهوه). ولو أحرف قهراً .. بطلت صلاته؛ لندرته. (ويومئ الراكب) وجوباً إن لم يضع جبهته في إيماء السجود على نحو السرج (بركوعه وسجوده) وإيماء السجود (أكثر) أي: أخفض من إيماء ركوعه وجوباً إن أمكنه؛ ليتميز عنه، ولا يلزمه وضع جبهته على نحو السرج، ولا بذل وسعه في الإنحناء؛ للمشقة. (وإن كان) المسافر (ماشياً .. استقبل) القبلة (في الإحرام والركوع والسجود).

ويتمهما (و) في (الجلوس بين السجدتين)؛ لسهولة ذلك عليه، بخلاف الراكب، ولا يمشي إلا في قيامه. ومنه: الاعتدال وتشهده وسلامه؛ طول زمنها. فلا بد في ترك القبلة في السفر من كونه مباحاً، ومن ترك الأفعال الكثيرة لغير حاجة، ودوام السفر، ودوام سيره، وعدم وطئه نجاسة غير معفو عنها عمداً -مطلقاً- أو خطأ في نجاسة رطبة لا يابسة او خطأ للجهل مع مفارقتها حالاً، فأشبه ما لو وقعت عليه فنحاها حالاً، ولا معفو عنها كطين شارع وذرق طير، ولا إن أوطأ أو وطئت دابته نجاسة ولو رطبة أو بالت؛ لأنه لم يلاقها. نعم؛ لو كان عنانها بيده .. بطت إلا إن وطئتها يابسة وفارقتها حالاً، كالماشي. (ومن صلى) فرضاً أو نفلاً (في الكعبة واستقبل من بنائها شاخصاً ثابتاً) كعتبة أو باب مردود، أو على سطحها مستقبلاً شيئاً ثابتاً فيها، كعصاً مسمرة أو مبنية فيها، وتراب مجموع من أجزائها، أو شجرة، وقد ارتفع جميع ما ذكر (قدر ثلثي ذراع) آدمي تقريباً أو أكثر وإن بعد عنه ( .. صحت صلاته) وإن خرج بعض بدنه عن الشاخص؛ لأنه متوجه ببعضه جزءاً منها، وبباقيه هواءها تبعاً. ولو زال الشاخص أثناء صلاته .. اغتفر عند الخطيب كزوال الرابطة، وخالفه (م ر)، بخلاف ما دون ثلثي ذراع، ونحو حشيش وعصا مغروزة فيها؛ لأنه لا يعد من أجزائها عرفاً، فلا تصح الصلاة إليه. وإنما جاز استقبال هوائها لمن هو خارجها وإن ارتفع عليها كعلى جبل أبي قبيس؛ لأنه يعد عرفاً مستقبلاً لها بخلاف من هو فيها، لأنه في هوائها، فلا يسمى عرفاً مستقبلاً له، فاندفع تشنيع بعض الحنفية غفلة عن رعاية العرف المناط به ضابط الاستقبال اتفاقاً، قاله في "التحفة". ولو استقبل بعضاً منها قدر ثلثي ذراع، لكن لم يحاذ أسفله كخشبة معترضة بين ساريتين .. صحت صلاته إن كانت صلاة جنازة، بخلاف غيرها فلا تنعقد؛ لعدم استقباله في بعضها قاله (م ر)، لكن المعتمد الانعقاد مطلقاً، ثم عند عدم الاستقبال تبطل.

(ومن أمكنه) أي: سهل عليه بلا مشقة لا تحتمل عادة (مشاهدتها) أي: الكعبة، كأن كان في المسجد الحرام أو خارجه ولا حائل، أو أخبره بها عدد التواتر، أو, بنى محرابه على مشاهدتها ( .. لم يقلد) أي: لم يأخذ بقول غيره فيها ولو عن علم ما لم يبلغوا عدد التواتر. وإنما جاز الأخذ بقول الغير في المياه ونحوها، وأخذ الصحابة بقول المخبر عنه صلى الله عليه وسلم مع إمكان اليقين بالسماع منه؛ لأن المدار في القبلة لكونها أمراً حسياً على اليقين، ولذا لا يكتفي بكون الشاذروان منها؛ لأنه منها لا يقيناً، بخلاف الأحكام ونحوها. فعلم أن من بالمسجد في ظلمة أو أعمى لا يعتمد إلا المس، أو خبر عدد التواتر. نعم؛ إن لم يمكنه لمسها إلا بمشقة لنحو كثرة الصفوف أو الزحام .. أخذة بخبر من يشاهدها، ويكفيه لمس بعض المصلين. قال بعضهم: (ولو كان في بيته مثلاً، ولا يمكنه مشاهدتها إلا بصعود السطح .. فلا يلزمه) اهـ، وهو ظاهرعند من يكتفي بمطلق المشقة، أمَّا من قيدها بالمشقة التي لا تحتمل عادة .. فلا. وفي معنى رؤية الكعبة رؤية موقفه صلى الله عليه وسلم الثابت تواتر لا آحاداً، فإنه في رتبة الخبر عن علم ورؤية القطب بعد الاهتداء إليه، ومعرفته يقيناً وكيفية الاستقبال به، ورؤية الجم الغفير في الصلاة. (فإن عجز) عن علمها وما في معناه ولو لحائل بنى لحاجة ( .. أخذ) وجوباً (بقول ثقة) في الرواية بصير ولو أمة، لا فاسق أو صبي، وإن وقع في القلب صدقة وقُبل قوله في نحو الصوم؛ إذ الصلاة يحتاط لها أكثر، ولدخول الاجتهاد في الوقت وهو أقوى من خبرغير الثقة. (يخبر عن علم) كقوله: هذه الكعبة، ولا يكلف صعوداً لرؤيتها ولو ثلاث درج، ولا دخول مسجد؛ للمشقة كما قاله (ع ش)، أو رأيت الجم الغفير يصلون هكذا، أو القطب ههنا، وهو يعرف دلالته .. ومثل خبره رؤية محراب كثر طارقوه، ولم يطعن فيه عالم بالمواقيت أو من ذكر مستنداً، وإلا .. فلا يعتمد. نعم؛ يجوز الاجتهاد فيه يمنة ويسرة، إلاَّ ما ثبتت صلاته صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز الاجتهاد فيه مطلقاً.

قال الشرقاوي: وفي معنى الخبر عن علم بيت الإبرة المعروف، ويعتمد قول صاحب المنزل إن علم ان إخباره عن علم، ولا يجوز الاجتهاد معه. وفي (ب ج): وعليه سؤال صاحب المنزل، ولا يجتهد إن أخبره عن علم. (فإن فقد) إخبار الثقة وما في معناه بأن، لم يجده في محل يجب طلب الماء منه، أو لحقته مشقة لا تحتمل عادة في سؤاله، أو السعي إليه ( .. اجتهد) بصير وجوباً بأن يستدل على القبلة (بالدلائل) وهي ستة: الأطوال، والأعراض مع الدائرة الهندسية، والقطب، والكواكب، والشمس، والقمر، والرياح، وهي مرتية في القوة كما ذكر، وأصول الرياح جمعت في قوله [من الكامل]: شملت بشام والجنوب تيامنت ... وصبت بشرق والدبور بمغرب وكل ريح انحرفت عن هذه الاصول يقال لها نكباء. والقطب عند أهل الهيئة: نقطة تدور عليها الكواكب، وهي وسطها. وعند الفقهاء: نجم صغير في بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي، ففي مصر يكون خلف أذن المصلي اليسرى، وفي العراق خلف أذنه اليمنى، وبأكثر اليمن قبالته مما يلي جنبه الأيسر، وبالشام وراءه، وهذا تقريب، وإلا .. فبعض تلك النواحي تختلف. وبالجملة: فقد تحررت القبلة في غالب بلدان المسلمين وقراها في مساجدهم وغيرها. ولا يجب تعلم دلائل القبلة إلا فيما لم تتحرر فيه القبلة من نحو بدو وقرية من لا يبالي بدينه، والسفر الذي يقل فيه العارفون بالقبلة. فغير العالم بها يتعين عليه فيما ذكر تعلم أدلتها إن قدر على التعلم، ولا عارف بها معه، بأن لا يجد مريد الصلاة من يخبره بالقبلة إلا بمشقة، وليس بين قرى متقربة بها محاريب معتمدة. ولا يجوز له لتقليد إلاَّ إن ضاق لوقت ويعيد. وإن قدر على التعلم ولم يتعين عليه .. تخير بين التقليد، وأن يتعلم ويجتهد. وإن لم يعلم الأدلة، ولم يقدر على تعلمها .. قلد وجوباً كما قال:

(فإن عجز) عن الاجتهاد (لعماه) أي: لعمى بصره (أو عمى بصيرته .. قلد ثقة عارفاً) بالأدلة يجتهد له كالعامي في الأحكام، فإن صلى بلا تقليد .. قضى وإن صادف القبلة. (فإن تحير) المجتهد بأن لم يظهر له شيء لنحو تعارض أدلة، أو اختلف على أعمى مجتهدان وإن ترجح أحدهما عنده ( .. صلى كيف شاء)؛ لحرمة الوقت وإن لم يضق، وجوز زوال تحيره فيه عند (حج). ولا يجوز للمجتهد التقليد وإن تحير؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً. (ويقضي) أي: ومتى ظهرت له القبلة .. أعاد صلاته في الوقت أداءً إن أدركه، وقضاءً إن لم يدركه؛ لأنه عذر نادر ولا يدوم. (ويجتهد) في القبلة وجوباً إن لم يكن ذاكراً لدليل الأول، ويسأل المجتهد الأعمى (لكل فرض) عيني أداءً وقضاءً ولو منذورة ومعادة وإن لم يفارق محله؛ سعياً في إصابة الحق ما أمكن؛ إذ لا وثوق ببقاء الظن الأول، والاجتهاد الثاني إن وافق الأول .. فزيادة، وإلا .. فهو لا يكون غالباً إلا بالأقوى، والأخذ بالأقوى واجب. وخرج بـ (القبلة): الثوب، فلا تجب إعادة الاجتهاد فيه، كما مر. فعلم أن مراتب القبلة: العلم بنفسه، ثم الإخبار عن علم، ثم الاجتهاد، ثم التقليد. وإذا صلى باجتهاد نفسه أو باجتهاد مقلده (فإن تيقن) هو أو مقلده (الخطأ فيها) معيناً ولو يمنة أو يسرة بمشاهدة أو إخبار ثقة (أو بعدها .. استأنفها) وجوباً ولو قضاءً بعد الوقت، سواءً تيقن الصواب أم لا، لكنه لا يفعل المقضي إلا إذا تيقنه. (فإن) لم يتيقنه، بل (تغير اجتهاده) إلى أرجح ( .. عمل بالثاني) لا فيما مضى، بل (فيما يستقبل) فإن كان في الصلاة .. فيتحول إلى ما ظنه الصواب وهكذا، حتى لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بالاجتهاد .. صحت صلاته، لكن إن ظهر له الصواب مقارناً للخطأ، وإلا .. بطلت؛ لمضي جزء منها إلى غير قبلة محسوبة له. أمَا إذا كان الاجتهاد الثاني أضعف .. فكالعدم، وكذا المساوي على المعتمد، (ولا قضاء للأول) من الاجتهادين، ولا لغير الأخير من الاجتهادات؛ لأن الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد، والخطأ غير معين.

ومثل ذلك ما لو صلى أربع صلوات لأربع جهات كذلك، ثم عرف القبلة، ولم يدر عين ما أداه لغيرها .. فلا يلزمه إعادة شيء، قال في "التحفة": وقيل يقضي؛ لاشتمال صلاته على الخطأ قطعاً، فليس هنا نقض اجتهاد باجتهاد، واختاره جمع؛ لظهور مدركه، والتعليل إنما يظهر في أربع صلوات. (الشرط العاشر: ترك الكلام) عمداً مع علم التحريم، وتذكر الصلاة، وعدم الغلبة لا بقرآن وذكر ودعاء وقربة واجابته صلى الله عليه وسلم، فتبطل بغير ذلك ولو حديثاً قدسياً، ونحو إنجيل ومنسوخ تلاوة، وإن خوطب به ما لا يعقل كـ (يا أرض)، ولو لمصلحة الصلاة أو كرهاً؛ لخبر مسلم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام)، وخبر معاوية بن الحكم لما شمت العاطس في الصلاة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، وإنما لم يأمره بالإعادة؛ لعذره بقرب عهده بالإسلام. (وتبطل) الصلاة (بنطق حرفين) متوالين بالقيود السابقة وإن لم يفهما، لكن لا يضر زيادة ياء قبل (أيها النبي) في التحيات كما مر، فلا تبطل بغير متوالين وإن كثرت نحو ت ث ج؛ لعدم كونه كلاماً. (أو حرف مفهم) عند المتكلم نحو (ف) و (ق) و (ع) من الوفاء والوقاية والوعاية؛ لأنه كلام لغة وعرفاً، وإن أخطأ بحذف هاء السكت. أمَّا غير المفهم .. فلا تبطل به الصلاة ما لم ينطق به بقصد النطق بحرفين؛ إذ الشروع في المبطل مبطل. (أو) حرف (ممدود)؛ لأنه بحرفين. وتبطل الصلاة بجميع ما ذكر (ولو) حصل (بتنحنح، وإكراه)؛ لندرته فيها (وضحك) وتثاؤب (وبكاء) ولو من خوف الآخرة (وأنين، ونفخ من الفم، والأنف) إن تصور، وعطاس وسعال في الكل. والمراد حصل بواحد منهما حرفان، أو حرف مفهم، فلا يضر صوت لا حرف فيه، وإن أفهم وتكرر، أو قصد به محاكاة صوت بعص الحيوانات، كأن نهق أو صهل ولو لغير حاجة ما لم يقصد به اللعب.

(ويعذر في يسير لكلام) عرفاً، وهو ست كلمات عرفية فأقل؛ أخذاً من حديث ذي اليدين، كما بينته في "الأصل". (إن سبق لسانه) إليه، كالناسي بل أولى (أو نسي) أنه في الصلاة، كأن سلم معتقداً كمال صلاته، فتكلم يسيراً عمداً، أو ظن بطلان صلاته بكلامه ناسياً، فتكلم يسيراً. (أو جهل التحريم) فيما تكلم به فيها وإن علم تحريم جنسه، وهذا إن عذر. إمَّا بخفاء تحريم ما أتى به بحيث يجهله أكثر العوام كالتنحنح، فإنه يجهل أكثرهم بطلان الصلاة به، وتكبير المبلغ بقصد الإعلام؛ لأن العامي إنما يجب عليه تعلم المسائل الظاهرة دون الخفية، فلا تقصير منه فيه فعذر، ولو شك في كون ما تكلم به من الظاهر أو ن الخفي .. فكالخفي. وأمَّا بكونه من الظاهر (وهو قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء) أي: عمن يعرف ذلك، بأن لا يجد مؤنة توصله إليه؛ وذلك لحديث ذي اليدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تكلم معتقداً أنه ليس في صلاة، وذو اليدين كان جاهلاً تحريم الكلام في الصلاة. وخرج (بنسيان الصلاة): نسيان تحريم ما أتى به، وبجهل التحريم ما لو علمه وجهل كونه مبطلاً، فتبطل صلاته فيهما. ولو سلم إمامه فسلم، ثم سلم الإمام ثانياً، فقال له المأموم: قد سلمت قبل هذا، فقال: سلمت ناسياً للصلاة على النبي صى الله عليه وسلم مثلاً .. لم تبطل صلاة المأموم؛ لقلته مع ظنه أنه ليس في صلاة، فيسلم بعد أن يسجد للسهو؛ لوقوع كلامه بعد انقضاء القدوة. وكما يعذر بما مر أيضاً بالغلبة، كما قال: (أو حصل) أي: اليسير من الكلام (بغلبة ضحك أو غيره) كبكاء وغيره مما مر بجامع عدم التقصير في كل. وخرج (بغلبة): ما لو قصده، كأن تعمد السعال لما يجده في صدره، فحصل منه حرفان مثلاً من مرة، أو ثلاث حركات متوالية، فتبطل به الصلاة، وهذا خصوصاً في شربة التنباك كثير. نعم؛ إن صار نحو السعال مرضاً مزمناً، بحيث لم يخل منه زمناً يسع الصلاة بلا نحو

سعال .. فلا بطلان ولا قضاء وإن شفي، كمن به حكة لا يصبر معها على عدم الحك، ولا يلزمه انتظار الزمن الذي يخلو فيها عن ذلك في الأخيرة، وقياسها الأولى وإن كان ظاهر "النهاية" اللزوم فيها، وقياس الأولى أيضاً: عدم لزوم الانتظار لمن يهتز لنحو برد. ولو تنحنح إمامه، فظهر منه حرفان .. لم تجب مفارقته ما لم تدل قرينة على عدم عذره، أو لحن لحناً بغير لمعنى في الفاتحة .. لم تجب مفارقته حالاً، ولا عند الركوع إذا لم يجوز كونه أمياً، بل له انتظاره، كما لو قام لخامسة. (ولا يعذر) كما في "المجموع" وإن خالفه جمع (في) الكلام (الكثير) وهو ما زاد على ست كلمات عرفية (بهذه الأعذار) المتقدمة من التنحنح وما بعده إلى هنا، بل تبطل صلاته؛ لأنه يقطع نظمها، ولأن السبق والنسيان والغلبة في الكثير نادرة. (و) قد (يعذر) فيه، وذلك (في التنحنح لتعذر القراءة الواجبة) أو غيرها من الأركان القولية كالتشهد. ونازع في "التحفة": بأن الكثير لا يغتفر؛ للغلبة التي لا محيص عنها، فبالأولى لقراءة التي له محيص عنها بالسكوت حتى يزول، وألحق في "الزبد" السعال بالتنحنح، وأقره الشهاب الرملي. وخرج بـ (الواجبة): المسنونة كالجهر، فلا يغتفر له. (ولو نطق) المصلي (بنظم القرآن) أو ذكر (بقصد التفهيم) كقوله لمن استأذنه في الدخول، أو في أخذ شيء: باسم الله، أو: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12]، أوكتنبيه إمامه أو غيره بنحو سبحان الله، وكالفتح على إمامه والتبليغ ولو من الإمام. (أو أطلق) فلم يقصد بنطقه شيئاً مع وجود قرينة تصرفه إليها ( .. بطلت صلاته). أمَّا الأول .. فظاهر، وأمَّا الثاني .. فلأن القرينة المقارنة سوق اللفظ تصرفه إليها ما لم ينو صرفه عنها، فلا يكون المأتي به قرآناً ولا ذكراً حينئذٍ، بل بمعنى ما دلت عليه تلك القرينة، كـ (الله أكبر) من المبلغ فإنها بمعنى ركع الإمام وهكذا، ولا بد في كل مرة من النية، فإن أطلق ولو في واحدة .. بطلت صلاته، وفيه صعوبة، واكتفى الخطيب بالنية في الأولى فقط.

وعلى كلًّ لا تبطل به صلاة الجاهل؛ لأنه خفي، بل اعتمد السبكي والأذرعي وغيرهما أن كل ما لا يصلح لمكالمة الآدميين -كالتسبيح والتهليل، وكما لا يحتمل غيرالقرآن كـ"الإخلاص"- لا تبطل به على كل التقادير. أمَّا إذا قصد القراءة وحدها أو الذكر وحده أو مع نحو التفهيم .. فلا بطلان؛ لبقاء ما تكلم به على موضوعه، وكذا مع الإطلاق عند جمع. وخرج بـ (نظم القرآن): مغير النظم كـ (يا إبراهيم سلام كوني) ما لم يقصد بكل كلمة القراءة على حيالها مع فصلها، وكذا مع وصلها، كما في "الغرر" وغيرها، وفي "الأصل" هنا بسط. (ولا تبطل) الصلاة (بالذكر والدعاء) الجائزين ولو بمستحيل عادة؛ لمشروعيتهما فيها، ومن ثم لو أتى بهما بالعجمية مع إحسانه العربية أو لا من إحسانها وقد اخترعها، أو كانا محرمين كالذكر بألفاظ لا يعرف معناها، وكالدعاء لجميع المسلمين بمغفرة جميع ذنوبهم .. بطلت صلاته. وشرط عدم إبطالهما أن لا يقصد بهما تفهيماً وحده، وأن لا يطلق، وأن يكونا في غير نحو صدقت، المتقدم في القنوت و (بلا خطاب) لمخلوق غير النبي صلى الله عليه وسلم فيهما نحو (الله يغفر لك) ولو لميت. وأن، يكون الدعاء بلا تعليق: كـ (اللهم اغفر لي إن شئت)، وإلا .. بطلت، بخلاف خطاب الله ورسوله ولو في غير تشهد، فلا يضر. واستثنى في: "الأسنى": خطاب ما لا يعقل والميت والشيطان، فلا يضر على ما بينته في "الأصل". (ولا) تبطل (بالتلفظ بقربة) بالعربية حيث لا تعليق ولا خطاب مضر، وتوقفت على التلفظ بها، وذلك (كـ) التلفظ بـ (العتق والنذر) أي: نذر التبرر لا اللجاج، وكالوصية والصدقة وسائر القرب المنجزة، وعتمد (م ر) البطلان بما عدا النذر؛ لأن المناجاة لا تتحقق إلا فيه كـ (لله علي كذا). وفي "الإيعاب": أنها تبطل بلفظ التصدق؛ لأنه لا يحتاج فيه إليه. وأجيب بأنه وإن لم يحصل به تمام الملك يحصل به سببه، ولا تبطل بإجابته صلى الله عليه وسلم بقول ولا فعل، ويقتصر على قدر الحاجة وإن كثر.

وتجب إجابة الأبوين في نفل إن تأذيا بعدمها، وتبطل. وتحرم في فرض وتبطل. (ولا) تبطل (بالسكوت الطويل) ولو (بلا عذر) وإن نام ممكناً. تنبيه: الذكر: ما تضمن الثناء على الله تعالى. والدعاء: ما تضمن حصول شيء وإن لم يكن نصاً فيه نحو: (كم أحسنت إليَّ وأسأت وأنا المذنب). ولو قال: السلام، أو الغافر، أو النعمة بقصد القرآن أو اسم الله في الأولين .. لم تبطل، أي: إن قدر تمام الجملة، وقد يشكل ما مر في شرح البسملة: أن المقدر ليس بقرآن. وليس من الذكر: "قال الله"، بخلاف "صدق الله" فهو ذكر. ولو قرأ الإمام: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، فقالها المأموم، أو قال: استعنا بالله .. لم تبطل إن قصد تلاوة أو دعاء. وإنما لم تبطل بنحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة:5] في قنوت عمر وإن لم يقصد به نحو دعاء؛ إذ لا قرينة فيه تصرفه عن موضوعه، وثم قرينة إجابته للإمام تصرفه لذلك. ولو قصد الثناء بـ (استعنا بالله) .. لم تبطل عند (حج)؛ لاستلزامه الثناء، كما: كم أحسنت إلىَّ. ولو قرأ شخص: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) [الأحزاب:69] فقال: برئ والله .. لم يضر، لكن نظر فيه في "القلائد". (ويسن لمن نابه شيء) في صلاته (أن يسبح) بقصد الذكر وحده، أو مع التفهيم (إن كان رجلاً، و) أن (تصفق المرأة) والخنثى ولو خاليتين عن الرجال الأجانب، والأولى (بـ) ضرب (بطن كف على ظهر أخرى) سواء اليسرى واليمنى؛ لخبر: "من نابه شيء في صلاته .. فليسبح، فإنه إذا سبح .. التفت إليه" وإنما التصفيق للنساء، فلو صفق الرجل وسبح غيره .. كان خلاف السنة. ولو كثر التصفيق وتوالى .. أبطل عند (حج)، ولا يضر حيث قصد به الإعلام ولو مع اللعب، أو أطلق إن لم يكن متوالياً، فإن قصد به اللعب وحده .. بطلت ولو بواحدة.

ولو صفقت بخارج الصلاة بضرب بطن على بطن .. كره ولو بقصد اللعب عند (حج). (الشرط الحادي عشر: ترك) تعمد زيادة ركن فعلي، وفعل فاحش، أو بقصد اللعب وحده، أو شرع به في مبطل، وترك (الأفعال الكثيرة) بقيودها الآتية. (فلو زاد) فيها (ركوعاً أو غيره من الأركان) الفعلية لغير قتل نحو حية ( .. بطلت) صلاته (إن تعمده) ولم يكن للمتابعة ولو بحركة واحدة وإن لم يطمئن فيه؛ لتلاعبه. قال في "التحفة": (ومنه أن ينحني الجالس إلى أن تحاذي جبهته ما أمام ركبتيه، ولو لتحصيل توركه أو افتراشه المسنون؛ إذ المبطل لا يغتفر للمندوب، بخلاف الانحناء لقتل نحو حية؛ لأنه لخشية ضرره صار بمنزلة الضروري، وسيأتي اغتفار الكثير للضرورة، فأولى هذا) اهـ وخالفه (م ر)، وغيره في كون هذا لانحناء المذكور مبطلاً، بخلاف زيادة ما هو من جنس أفعالها المسنونة كرفع اليدين أو الواجبة لكن سهواً، كزيادة ركعة سهواً، وزيادة ركن قولي أو فعلي للمتابعة، فلا تبطل بشيء من ذلك. وكذا لا تبطل بزيادة قعود عهد غير ركن بقدر الجلوس بين السجدتين بعد الاعتدال وقبل السجود، أو بعد سجدة التلاوة، بخلافه قبل نحو الركوع؛ لأنه لم يعهد. ولو سجد على خشن أو يده، فانتقل عنه لغيره بعد رفع رأسه مختاراً .. فيتجه -أخذاً من قولهم: وإن لم يطمئن- بطلان صلاته عند (حج). وخرج بمختاراً: ما لو سجد على نحو شوكة .. فلا تبطل برفعه، ويلزمه العود؛ لوجود الصارف، وهو: رفعه للتأذي بالشوكة، ولو هوى لسجدة تلاوة .. فله تركه، ويعود للقيام وجوباً. (أو فعل ثلاثة أفعال متوالية) بأن لا يعد عرفاً كلٌّ منقطعاً عما قبله، سواء كانت من ثلاثة أعضاء كحركة يديه ورأسه، أم من عضوين (كثلاث خطوات) متوالية وإن كانت وإن كانت بقدر خطوة أم من عضو واحد، كثلاث مضغات (أو حكات) توالت مع تحريك كفه. ولو شك في فعل، أكثير هو أم قليل؟ فكالقليل، أو هل توالى أم لا؟ فكغير المتوالي.

وإنما بطل الفعل الكثير في غير شدة خوف ونفل سفر، و (في غير) حك؛ لأجل (جرب) وقمل ونحوهما من كل فعل ضروري بحيث لا يقدر على تركه، أمّا مع هذه الثلاثة .. فلا تبطل الصلاة بالفعل الكثير. ومن الضروري أيضاً: الصيال عليه من آدمي أو نحو حية، فلا تبطل في الأفعال؛ لدفعه وإن كثرت، بل له ذلك في نحو قتل الحية وإن لم تصل عليه، وكما تبطل الصلاة بفعل واحد حصل به زيادة ركن فعلي تبطل أيضاً به بقصد اللعب، أو بقصد أن يفعل ثلاثة متوالية. (أو) إن فحش كأن (وثب وثبة فاحسة) وهي التي فيها انحناء بكل البدن. وقضيته: أن لنا وثبة غير فاحشة، فلا تبطل بها الصلاة، وهي التي لا يكون فيها ذلك، لكن قال غير واحد: أنها لا تكون إلا فاحشة. (أو ضرب ضربة) أو رفس رفسة (مفرطة .. بطلت) صلاته؛ لمنافاة ذلك للصلاة، لكثرته أو فحشه وإشعاره بالإعراض عنها (سواء كان عامداً) في فعله ما ذكر غير زيادة الركن الفعلي، لما مر أنه لا يضر سهوه (أو ناسياً) له، أو جاهلاً بحرمته وإن عذر؛ لندرة ذلك فيها ولقطعه النظم، بخلاف القولي، ولذا فرقوا بين عمده وسهوه. وقيل: لا يضر ذلك سهواً أو جهلاً، وعذر به؛ لقصة ذي اليدين: (أنه صلى الله عليه وسلم قام بعد أن سلم من ركعتين، ومشى إلى ناحية في المسجد). وأجابوا بأنه يحتمل أنه كلما أخذ خطوتين .. وقف، وهذا احتمال في غاية البعد. ولذا قال النووي في "شرح مسلم": تأويل حديث ذي اليدين صعب. والخطوة -بفتح الخاء-: المرة، وبضمها: ما بين القدمين، وهو المراد في صلاة المسافر. وتحصل بمجرد نقل الرجل لأمام أو غيره، فإذا نقل الثانية .. حسبت ثانية. ويؤيده: أن حركة اليدين على التعاقب أو المعية حركتان. وفي " الإمداد": أنّ نقل الأخرى إلى مساواة الأولى، خطوة واحده، ويؤيده: أن ذهاب اليد ورجوعها ووضعها ورفعها، حركة واحدة، والأول أصح. والمعتمد: أن نقل الرجل لجهة العلو ثم السفل خطوة، قاله (ب ج). (ولا يضر الفعل القليل) الذي ليس بفاحش ولا بقصد اللعب ولا شرع به في ثلاث.

ومنه: الحركة والحركتان، كخطوتين وإن اتسعتا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل القليل، وأذن فيه فخلع نعليه في الصلاة، ووضعهما عن يساره، وحمل أُمامة، وغمز رجل عائشة في السجود، وأشار برد السلام، وأمر بقتل الأسودين في الصلاة. وبدفع المار ولأن المصلي يعسر عليه السكون على هيئة واحدة في جميع الصلاة، فعفي عن القليل، لكن يكره لغير حاجة. (ولا) يضر أيضاً (حركات خفيفات وإن كثرت) وتوالت، لكنه خلاف الأولى لغير حاجة (كتحريك الأصابع) مع قرار كفه، وقيل: ولو مع تحركها؛ لأن أكثر اليد ساكن، وكحلٍّ وعقدٍّ وإن لم يكن لغرض، وتحريك نحو جفنه ولسانه وأذنه؛ لأنها تابعة لمحالها المستقرة. (الشرط الثاني عشر: ترك) المفطر، فتبطل مع التعمد، وعلم التحريم بوصول مفطر جوفه وإن قل ولم يؤكل. ولو كعود دخل في نحو أذنه. وترك نحو (الأكل والشرب) أي: إيصاله عيناً لجوفه ولو سهواً أو جهلاً أو كرهاً وإن لم يفطر بذلك؛ لإشعاره بالإعراض عنها، ولأن لها هيئة تذكر بها، بخلاف الصوم. (فإن أكل قليلاً ناسياً أو جاهلاً بتحريمه) وعذر بما مر ( .. لم تبطل) صلاته؛ لعذره. نعم؛ تبطل بثلاث مضغات توالت ولو ناسياً أو جاهلاً، كما مر. (الشرط الثالث عشر: أن لا يمضي ركن قولي) كالفاتحة (أو فعلي) كالاعتدال (مع الشك في التحرم) أي: في تكبيرة الإحرام، أو في النية، كأن تردد في أصل النية أو في جزء من أجزائها، أو شرط من شروطها، أو هل نوى ظهراً أو عصراً؟ (أو يطول زمن الشك) أي: التردد فيما ذكر، أو لم يعد ما قرأه مع الشك وإن لم يمض معه ركن ولا طال زمنه؛ لانقطاع نظم الصلاة بذلك، ولندرة مثل ذلك في الثانية، ولتقصيره بترك التوقف إلى التذكر في الأولى؛ إذ كان يمكنه الصبر عن القراءة حال الشك

إلى التذكر مع عدم إعادة ما قرأه مع الشك في الثالثة، فتبطل بما ذكر وإن كان جاهلاً، بخلاف من زاد ركناً ناسياً؛ إذ لا حيلة له في النسيانً. أمَا لو تذكر قبل مضي ركن وقبل طول الزمن وأعاد ما قرأه مع الشك .. فلا بطلان؛ لكثرة عروض مثل ذلك. قال الشرقاوي: (وطوله بأن يسع ركناً، وقصره بأن لا يسعه، كأن خطر له خاطر وزال سريعاً). وخرج بتعبيره بـ (الشك): ما لو ظن أنه في صلاة أخرى، فتصح وإن أتمها على ذلك فرضاً كانت أو نفلاً. ويؤخذ من ذلك أنه لو قنت قي سنة الصبح ظانّاً أنها الصبح .. لم يضر وإن طال الزمن، أو مضى ركن مع ذلك الظن. (الشرط الرابع عشر: أن لا ينوي قطع الصلاة، أو يتردد في قطعها) حالاً أو بعد مضي ركعة -مثلاً- ولو بالخروج إلى صلاة أخرى في غير ما يأتي. وكالتردد في قطعها: التردد في الاستمرار فيها، فتبطل في الجميع؛ لمنافاته للجزم المشروط دوامه فيها كالإيمان، ولا مؤاخذة في الوسواس القهري، وهو الذي يطرق الفكر بلا اختيار. وخرج بـ (نية قطعها): نية الفعل المبطل، فلا تبطل بها حتى يشرع فيه؛ إذ لا ينافي ذلك النية، لا يقال: نية المبطل نية لقطعها؛ لأنا لا نسلم كون نية المبطل نية لقطعها، بل الثانية لازمة للأولى، وذلك المبطل لا ينافي الجزم بنفسه، بل يلازمه، فلم تؤثر نيته حتى يشرع فيه، بخلاف نية القطع فمنافية للنية بنفسها، فأثرت وإن لم يشرع فيه. والحاصل: أن المنافي للنية، كالتعليق والتردد ونية القطع، يضر حالاً، ومنافي الصلاة إنما يضر عند وجوده، وأن نية القطع والتردد تبطل الإيمان والصلاة اتفاقاً، ولا تبطل النسك اتفاقاً، ولا الصوم والاعتكاف وما مضى من الوضوء على الأصح، ويحتاج الباقي منه لنية جديدة. والفرق: أن الصلاة أضيق باباً، ومثلها الإيمان بل أولى. (الشرط الخامس عشر: عدم تعليق قطعها بشيء) ولو محالاً عادياً -كصعود السماء-

فصل: في مكروهات الصلاة

لا عقلياً كجمع الضدين كالطول والقصر لشيء واحد في وقت واحد؛ إذ التعليق ينافي الجزم حتى بالمستحيل عادةً؛ لإمكان وقوعه، بخلاف المستحيل العقلي؛ لعدم إمكانه، وهذا في التعليق القلبي. أمَا اللفظي: فمبطل مطلقاً، ولكن قد علم مما مر. السادس عشر: أن لا يصرف صلاته لصلاة أخرى فتبطل بذلك. نعم؛ قد تنصرف نفلاً مطلقاً، وذلك كأن ظن دخول وقت فأحرم بفرضه، فبان عدم دخوله، أو صلى ما ظنه عليه، فبان أنه ليس عليه، أو أحرم بفرض قاعداً، وهو قريب عهد بالإسلام ونحو ذلك، وفي نفي مقيد أحرم به قبل وقته جاهلاً، فتنقلب صلاته فيما ذكر نفلاً مطلقاً، ولا يلزم من بطلان الخصوص بطلان العموم. نعم؛ يسن لمنفرد رأى جماعة أن يقلب فرضه نفلاً مطلقاً، لا معيناً. فتبطل بشرط كون صلاته ثلاثية أو رباعية، وأن لا يقوم إلى الثالثة، فإن كان في ثنائية أو قام لثالثة .. لم يسن بل يجوز، فيسلم في الأولى من ركعة، ليدرك الجماعة، فإن خشي فوت الجماعة لو قلبها .. ندب قطعها، ويصلي جماعة، وأن يتسع الوقت، وإلا .. حرم قلبها، وأن لا يكره الاقتداء بإمام الجماعة، وأن لا يرجو جماعة غيرها، وإلا .. جاز القلب فيهما، وأن تكون الجماعة مطلوبة، فلو كانت صلاته فائتة والجماعة القائمة في حاضرة .. حرم القلب. ومن الشروط أيضاً للصلاة -بمعنى التحرز عن المبطل- عدم تطويل الركن القصير عمداً، واقتداء بنحو امرأة، وغير ذلك. * * * (فصل): في مكروهات الصلاة. (يكره) لكل مصل (الالتفات) فيها (بوجهه) بغير قصد لعب، وإلا .. بطلت يميناً أو شمالاً، وقيل: يحرم؛ لخبر: "لايزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت .. أعرض الله عنه"، وصح أنه اختلاس من الشيطان. أمَا بصدره .. فتبطل (إلا لحاجة) .. فلا يكره، بل قد يسن، كالالتفات إلى معصوم يخاف عليه.

ومثله الإشارة، فتكره إلا لحاجة كرد سلام بيد أو رأس. (ورفع البصر إلى السماء) وغيرها مما علا؛ لخبر: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في الصلاة، لينتهن أو لتخطفن أبصارهم". (وكف شعره أو ثوبه) بنحو تشمير كمه أو شد وسطه، لخبر: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعراً ولا ثوباً". وحكمته: أن ذلك يمنع من سجودها معه، وينافي الخشوع والتواضع. ومن ثم كره كشف الرأس فيها، أو إحدى المنكبين والاضطباع. (ووضع يده على فمه بلا حاجة)؛ للنهي الصحيح عنه، ولمنافاته لهيئة الخشوع. أمَّا لحاجة .. فيسن كما للتثاؤب؛ لخبر صحيح فيه. وهل يضع اليمنى أو اليسرى؟ قال (م ر): اليسرى، و (حج): يتخير، والسنة تحصل بكلًّ سواء ظهر الكف أو بطنها. فال بعض الحفاظ: نهي في الصلاة عن مسح الحصا والجبهة من التراب والنفخ وتفقيع الأصابع وتشبيكها والسدل وتغطية الفم والأنف. (ومسح جبهته) قبل السلام، أما بعده .. فيسن. (وتسوية الحصا) ونحوه (في محل سجوده)؛ للنهي، ولأنه ينافي الخشوع كما فيما قبله. (والقيام على رجل) واحدة (وتقديمها) على الأخرى (ولصقها بالأخرى)؛ لمنافاته الخشوع، ولا بأس بالاستراحة على أحدهما لنحو طول قيام. قال في "الإحياء": نهي عن الصفين والصفد في الصلاة، والصفد: اقتران القدمين معاً، والصفن: رفع إحدى الرجلين، لكن يسن الصفد للمرأة. (والصلاة حاقناً) بالنون أي: بالبول (أو حاقباً) بالباء أي: بالغائط (أو حازقاً) لأي: بالريح؛ للنهي عنها مع مدافعة الأخبثين. ويسن تفريغ نفسه قبل الصلاة وإن خاف فوت الجماعة، وهذا (إن وسع الوقت) وإلا .. وجبت الصلاة مع ذلك؛ لحرمة الوقت إلاَّ أن يخاف ضرراً .. فتحرم.

(ومع توقان الطعام) أي: المأكول والمشروب، وكل ما اشتغل به قلبه، بحيث يختل خشوعه لو قدمها عليه كوطء حليلته؛ للأمر بتقديم العشاء، وياكل ما يتوفر معه الخشوع، فإن لم يتوفر إلا بالشبع .. شبع، وهذا (إن وسع) الوقت (أيضاً) وكان المتوق إليه حاضراً، أو قريباً من الحضور، وإلا .. صلى فوراً وجوباً؛ لما مر. (وأن يبصق) بالصاد والزاي (في غير المسجد) ولو خارج الصلاة (عن يمينه)؛ للنهي عنه، بل عن يساره؛ إكراماً لملك اليمين، ولأن ملك اليسار يتنحى عنه في الصلاة إلى فراغها، فالبصاق حينئذٍ إنما يقع على القرين، وهو شيطان الشخص الذي يولد بولادته، ويموت بموته، وهذا في غير مسجده صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يكن إنسان عن يساره، وإلا .. بصق عن يمينه؛ احتراماً لهما وإن تردد في "التحفة" في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحق بالاحترام من الأنسان الذي عن يساره مع جزمه بأنه لا يبصق عن يساره الذي في ناحيته إنسان. وإطلاقهم يشمل الطائف، فيبصق عن يساره وإن كانت الكعبة عن يساره. نعم؛ إن أمكن أن يطأطئ رأسه فيبصق لجهة السفل لا يميناً ولا شمالاً .. فهو أولى (أو قبالته) وإن، لم يكن من هو خارج الصلاة مستقبلاً عند (حج). (ويحرم في المسجد) البصاق إن اتصل بشئ من أجزائه وإن لم يكن في صلاة ولا مستقبلاً، بل يبصق في نحو ثوبه وإن وقع على نجس معفو عنه، ويحك بعضه ببعض؛ لخبر: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" أي: إن أمكن. أمَّا ما لا يمكن كالمبلط .. فتجب إزالتها منه، ولا يكفي دلكها فيه. والمعنى أن دفنها يقطع الإثم لا أصله، ويجب على من علم بمستقذر في مسجد إخراجه وإن، عين شخص لإزالته منه. (وأن يضع يده) اليمنى أو اليسرى (على خاصرته) لغير حاجة؛ للنهي عنه، وأنه راحة أهل النار، وأن الشيطان أهبط من الجنة كذلك. (وأن يخفض رأسه) أو يرفعه عن ظهره (في ركوعه) وإن لم يبالغ؛ لما مرَّ. ويكره ترك السورة في الركعتين الأولتين من كل صلاة، وترك تكبير الانتقالات،

وأذكار ركوع واعتدال وسجود وجلوس بين السجدتين والأبعاض؛ لتأكدها، وللخلاف في وجوب بعضها. (وقراءة السورة في) الركعة (الثالثة والرابعة) من الرباعية، والثالثة من المغرب. ولعل مراده بالكراهة في هذه خلاف الأولى، قال الكردي: [1/ 200]: خلاف الأولى، وخلاف السنة شيء واحد على المعتمد، ومقابله يفرق بينهما، وهو ظاهر "شرح الشيخ" حيث قال: (والمعتمد أن قراءتها فيهما ليست خلاف الاولى، ولا خلاف السنة، بل ليست بسنة) أي: بل مباحة. اهـ فمن يدخل خلاف الأولى في المكروه، كما هو عادة المتقدمين .. يقولون: مكروه كراهة غير شديدة، وهو خلاف الأولى، وكراهة شديدة، وهو: المكروه. ومن فرق بينهما، كما في "جمع الجوامع: .. قال: ما نهي عنه غير جازم، فإن كان مخصوصاً، كما في خبر: "إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، وخبر: "لا تصلوا في أعطان الإبل" .. فمكروه. أو غير مخصوص، بل استفيد من الأمر كالنهي عن ترك المندوبات المستفاد من أوامرها؛ إذ الأمر بالشيء نهي عن تركه .. فخلاف الأولى. قال المحلي: فالخلاف في شئ أمكروه هو، أو خلاف الاولى؟ اختلاف في وجود المخصوص فيه، كصوم يوم عرفة للحاج خلاف الاولى. وقيل: مكروه؛ لحديث أبي داوود وغيره: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" اهـ، أي: من قال: إنه مكروه .. قال: سببُ الكراهة النهي المخصوص في خبر أبي داوود، ومن قال: إنه خلاف الأولى .. قال: سببه: النهي لمأخوذ من فطرة صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونحن مأمورون باتباعه في الفطر، والأمر بالفطر نهي عن ضده، وهو الصوم. فإذا علمت ما تقرر .. ظهر لك أن قراءة السورة في الثالثة والرابعة ليس مكروهاً. وأما كونه خلاف الأولى .. فإن قلنا بالمعتمد من عدم سنها فيهما وأن الاتباع تركه فيهما .. فهي خلاف الاولى؛ لما مر في صوم يوم عرفة، ولأنا مأمورون باتباعه، والأمر بالشيء نهي عن ضده. فقول (حج) في "الشرح"، و"الإمداد": إن قراءتها فيهما ليست خلاف السنة،

بل ليست سنة، فيه نظر؛ لأنه كون قراءتها مباحة، ولا طلب فيها بفعل ولا كف، وليس كذلك، بل المطلوب فيها الكف؛ للاتباع، والمباح لا طلب فيه فعلاً ولا تركاً. فالوجه أن خلاف السنة وخلاف الأفضل مرادفان لخلاف الأولى. نعم؛ قد يكون خلاف الأفضل مستحباً أيضاً كالأفضل، كالإقعاء المسنون في الصلاة، فإنه وإن كان مسنوناً فالافتراش أفضل منه، فهو وإن كان مستحباً خلاف الأفضل، بل وخلاف الأولى، كما في: "كاشف اللثام" للكردي، فهو داخل في حيز المنهي عنه؛ لما في الإتيان به من ترك الأفضل وإن كان مسنوناً في نفسه. أمَّا إن قلنا بسنية قراءتها في الأخيرتين كما هو مقابل الأظهر في "المنهاج"، وثبت في "صحيح مسلم" .. فلا كلام في سنيتها، فضلاً عن كونها غير سنة، هذا ما ظهر، فليتأمل. (إلا لمن سبق بالأولى والثانية) أو أحدهما ( .. فيقرؤها) أي: السورة (في الأخيرتين) من صلاة الإمام؛ لأنهما أوليا صلاته، فإن لم يتمكن من قراءتها فيهما .. قرأها في أخيرتيه؛ لئلا تخلو صلاته عنها، وكسبقه بالأولتين ما لو لم يتمكن من قراءة السورة فيهما .. فيقرأها في أخيرتيه إن تمكن، ولو سبق بالاولى فقط أو لم يتمكن من قراءة السورة فيها .. قرأها في الثانية والثالثة. أمَّا إذا تمكن من قراءتها ولم يقرأها .. فلا يتداركها لتقصيره. ومحل ذلك حيث لم تسقط عنه، تبعاً للفاتحة أو بعضها، وإلا .. فلا يتداركها، ومرَّ أن المأموم إذا فرغ من فاتحته قبل ركوع إمامه أنه يقرؤها ولو في الأخيرتين. (والاستناد إلى ما تسقط بسقوطه)، للخلاف في صحته حينئذٍ، ومحله إن سمي قائماً، وإلا بأن أمكنه رفع قدميه .. فلا تصح؛ لأنه معلق لا قائم. (والزيادة في جلسة الاستراحة على قدر) أقل (الجلوس بين السجدتين، وإطالة التشهد الأول، والدعاء فيه، وترك الدعاء في الأخير) كما مر فيها.

(ومقارنة الإمام في أفعال الصلاة) أو أقوالها؛ للخلاف في صحة صلاته حينئذٍ، وهذه الكراهة ونحوها من كل مكروه من حيث الجماعة تفوت فضلها، لكن نقل المناوي عن السيوطي: أن فضيلة التضعيف -وهوعود بركة الجماعة بعضهم على بعض- لا تفوت وإن فاتت فضيلة الجماعة. وعليه: فينبغي أن يطلب الجماعة التي كثرت وتوفر صلاحها؛ ليعظم التضعيف. (والجهر في موضع) ندبِ (الإسرار، والإسرار في موضع) نَدبِ (الجهر والجهر) للمأموم (خلف الإمام) في غير ما يندب له فيه خلفه، كما مر في التأمين؛ وذلك لمخالفته الاتباع المتأكد في ذلك. (ويحرم) على المصلي حيث لا عذر (الجهر) في الصلاة وخارجها (إن شوش على غيره) من مصل أو قارئ وغيرهما؛ للضرر، ويؤخذ بقول المتشوش ولو فاسقاً؛ إذ لا يعرف إلا منه، وهذا إن اشتد التشويش، وإلا .. فهو مكروه، وبه يجمع الخلاف، أما من له عذر، كأن كثر اللغط فاحتاج للجهر، ليأتي بالقراءة على وجهها .. فلا كراهة ولا حرمة. (وتكره الصلاة) أيضاً (في المزبَلة) -بفتح الموحدة أجود من ضمها- موضع الزبل (والمجزرة) موضع الجزر، أي: الذبح؛ لصحة النهي عنها، ولمحاذاة النجاسة فيهما؛ لأنه بفرشه طاهراً عليها يحاذي النجاسة، ومحاذاتها مكروهة، كما مر. (و) في (الطريق في البناء) أو الصحراء وقت مرور الناس فيه ولو احتمالاً؛ لأنه يشغله، ومن ثم كان استقباله كالوقوف فيه حيث لم يبعد عنه، بحيث إنه لو نظر إلى محل سجوده فقط .. اشتغل بمرورهم، وكذا يقال لو صلى تجاه نحو شباك. وتكره أيضاً في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد، وفي الوادي الذي نام فيه صلى الله عليه وسلم، وهو وادي القرى شآم المدينة. (و) في (بطن الوادي مع توقع السيل) ونحوه: من كل محذور كحية؛ لخشية

الضرر، وانتفاء الخشوع ومحله -فيما مر ويأتي- إن اتسع الوقت للخروج مما ذكر وفِعلِ الصلاة ولم يخش فوات جماعة، وإلا .. صلى فيه وحيث لم يتحقق الضرر، وإلا .. وجب الخروج منه وتأخير الصلاة. (و) في (الكنيسة) وهي متعبد اليهود، و (البيعة) وهي متعبد النصارى -بفتح الباء- ونحوها من أماكن الكفرة، بل يحرم دخولها إن منعوه، أو كان فيها صورة محرمة. (و) في (المقبرة) -بتثليث الباء وفيه كلام في "الأصل"- إن لم تنبش، أو نبشت وصلى على حائل طاهر؛ للخبر الصحيح: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" مع النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والعلة محاذاة النجاسة تحته ولو بأجزاء الميت، فاستوى فيها المنبوشة وغيرها، وما تحته وما أمامه، أو بجانبه، بل قال (حج) و (م ر): (ولو دفن ميت بمسجد .. كانت الصلاة فيه مكروهة) اهـ. ويؤخذ من ذلك أنها لا تكره بمقبرة من لا تأكل الارض أجسادهم كالأنبياء والشهداء، وفيه كلام في "الأصل". (و) في (الحمام) ولو جديداً عند (حج)، أو مسلخته؛ للخبر المتقدم، ولأنه محل كشف العورات والشياطين. ومثله: كل محل معصية أو غضب، كأرض ثمود، وكل موضع غير مأهول، كالمفازات والشعوب والأرحبة الخراب، وكل موضع يتشوش فيه الإنسان أو يتخوف؛ لأنه مأوى الشياطين. (و) في (عطن الإبل) ولو طاهراً، وهو ما تنحى إليه إذا شربت؛ ليشرب غيرها، فإذا جمعت .. سيقت منه إلى المرعى، أو لتشرب ثانياً؛ للخبر الصحيح: "صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين" وجميع مباركها كالعطن، فالكراهة في أعطان الإبل لعلتين، وفي محال غيرها لعلة، وهي النجاسة إن كانت نجسة (و) على (سطح الكعبة)؛ لأنه خلاف الأدب. (و) في (ثوب) أو إليه، أو عليه (فيه تصاوير، أو شيء) آخر (يلهيه) كخطوط؛ للخبر الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم صلى وعليه ثوب ذات أعلام فلما فرغ قال: "ألهتني هذه"، قال (حج): وزَعْمُ عدم التأثر بها حماقة، وظاهرٌ أن هذا في البصير.

فصل: في سترة المصلي

وكالثوب كل ما يشتغل به قلبه، كآدمي يستقبله. (والتلثم) للرجل، (والتنقب) لغيره؛ للنهي عن الأول، والقياس عليه في الثاني. (وعند غلبة النوم) والغضب؛ لفوات الخشوع. وإنما لم تقتض الكراهة فيما ذكر الفساد كالكراهة للزمان؛ لأن لشارع جعل للصلاة أوقاتاً مخصوصة لا تصح في غيرها، ولم يجعل لها مكاناً مخصوصاً، فكان الخلل في الزمان أشد منه في الأمكنه، فالنهي فيها ليس راجعاً لذات العبادة، ولا للازمها، فلم يقتض الفساد، بل ولا يمنع أصل الثواب، كما في "فتاوى م ر"، وبقي من المكروه أمور، منها: الإقعاء، كما مر، والصلاة خلف أقلف، وموسوس، وولد زنا، وافتراش السبع في السجود، والإسراع بأن يقتصر على أقل الواجب وغيرها. * * * (فصل: يستحب) لكل أحد (أن يصلي) ويسجد لنحو تلاوة (إلى شاخص) من نحو عمود أو جدار وإن لم يقصد الاستتار به، لكن يشترط عدم الصارف، فإن عَسُرَ عليه .. فإلى نحو عصا، وهي أولى، أو متاع يجمعه. ولا بد من كون طول جميع ما ذكر: (قدر ثلثي ذراع) بذراع الآدمي المعتدل هنا وفيما يأتي فأكثر وإن لم يكن له عرض و (بينه) أي: وبين أصابع قدميه عند (م ر)، وعقبيهما عند (حج) في القائم، وبين أليتي الجالس (وبينه) أي: الشاخص (ثلاثة أذرع فما دون، فإن لم يجد) بأن عسر، أو تعذر عليه ما مر ( .. بسط مصلى) كسجادة -بفتح السين، وكسرُها لحن- (أو خطَّ خطاً) قبالته طولاً -وهو أولى- أو عرضاً، والارتفاع معتبر في الجميع كما في "المنهج"، وفي الثلاثة الأول كما في "التحفة"، وظاهرِ هذا المتن، والقربُ بثلاثة أذرع في الجميع، لكن العبرة في الخط والمصلى بأعلاهما، فإن بعد أعلاهما أكثر من ثلاثة أذرع .. لم يكف.

ولو صلى على نحو فروة طولها ثلثا ذراع .. حرم المرور على الفروة فقط. ولو طال المصلى أو الخط بأن كان بينه وبين أعلاه أكثر من ثلاثة أذرع .. لم يعتبر. (ويندب) للمصلي وغيره ممن ليس في صلاة (دفع المار) بينه وبين سترته (حينئذٍ) أي: حين استتاره بمعتبر مما مر، حيث لم يخش ذهاب خشوعه، ولم يقصر بنحو وقوفه بطريق. (ويحرم المرور) بينه وبين سترته المعتبرة (حينئذٍ) أي: حين إذ استتر بسترة معتبرة، وإن لم يجد المار طريقاً إلا لضرورة كخوف محذور عليه أو على غيره. بل اعتمد الإسنوي ما نقله الإمام عن الأئمة: أن له المرورَ حيث لا طريق غير ما بين المصلي وسترته. أمَّا سن الاستتار بترتيبه السابق؛ فللاتباع في الإسطوانة والعصا مع أخبار كثيرة، منها: خبر أبي داوود: "إذا صلى أحدكم .. فليجعل أمام وجهه شيئاً، فإن لم يجد .. فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا .. فليخط خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه" أي: في إكمال صلاته، وقاسوا المصلى بالخط وقدموه عليه؛ لأنه أظهر في المراد. وما اقتضاه المتن من جعل العصا في رتبة الجدار، والخط في رتبة المصلى .. تبع فيه الإسنوي، والمعتمد ماقدمته، ويكفي في أصل السنة مقابلته لجزء منها وإن قل. والأفضل: جعل السترة بحيث تحاذي أحد حاجبيه الأيمن أو الأيسر وهو الأولى عند المدابغي، قال: لأن الشيطان يأتي من جهته. وقال (ع ش): الأيمن أولى؛ لشرفه، ولأن الشيطان إذا رأى السترة .. لا يأتي بالكلية، وهذا لا يتأتى في الجدار والمصلى، إلا أنه يمكن في الجدار بأن يفصل طرفه أو شيء من وسطه، كما هو مشاهد. وإنما سن جعلها يمينه أو يساره؛ لكراهة الصمد إليها، للنهي عنه، لكن لو صمد إليها .. لم تخرج عن كونها سترة معتبرة، ولو لم يمكن إلا الصمد إليها .. فلا كراهة. وأمَّا سن الدفع .. فللخبر الصحيح: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه .. فليدفعه، فإن أبى .. فليقاتله، فإنما هوشيطان". ويؤخذ منه أنه يلزمه تحري الأسهل فالأسهل في الدفع، كما في الصائل، وليحذر من دفعه بثلاث حركات متوالية؛ فإنها مبطلة.

وأمَّا حرمة المرور .. فلخبر: "لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي: المستتر كما أفاده الحديث السابق- ماذا عليه من الإثم .. لكان أن يقف أربعين- أي: سنة كما في رواية- خير له من أن يمر بين يديه". والخبر الدال على عدم الحرمة ضعيف، ولو رآه مستتراً بالأدون، فشك في تقصيره بالاستتار به .. حرم المرور. وكل صف سترة لمن بعده عند (حج). تنبيه: العبرة في الدفع باعتقاد المصلي، وفي حرمة المرور باعتقاد المار. ولم يجب الدفع، وإن كان من باب النهي عن المنكر؛ للاختلاف في تحريم المرور، ولأن الإنكار إنما يجب حيث لا خوف فوت مصلحة أو وقوع في مفسدة، وهنا يؤدي إلى فوات الخشوع، قاله (م ر). لكن قال (حج): (علة الدفع مركبة من: عدم تقصير المصلي، وحرمة المرور، فلذا لايدفع المراهق؛ لعدم الحرمة عليه) اهـ ولو تعارض الرداء والسترة .. قدمت إن كان مستور العاتقين، وإلا .. سترهما وإن فاتت، أو الخشوع والسترة، أو الصف الأول .. قدم الخشوع عليهما، أو الصف الأول والسترة .. قدِّم. ويحرم المرور مع السترة في جميع الأحوال (إلا إذا صلى في قارعة الطريق) أو درب ضيق، أو باب مسجد، أو نحو ذلك (وإلا لفرجة) تركت (في الصف المتقدم) أو سعة بحيث لو دخلها .. لوسعته معهم بلا مشقة، أو استتر بما يشتغل به قلبه كامرأة ورجل استقبله، أو لم تستجمع سترته الشروط المتقدمة .. فلا يحرم المرور ولو في محل سجوده، لكنه خلاف الأولى، ويحرم حينئذٍ الدفع. ولو صلى بلا سترة فوضعها غيره بين يديه ولو بلا إذنه .. اعتد بها، زاد في "الفتح": إن نوى الاستتار بها. ويجوز المنع من الوقوف في حريم المصلي أو القارىء، وهو قدر ما يسجد فيه. وحيث منعنا المرور بين يدي المصلي، فهل يجوز مد نحو اليد فيه حال عدم سجوده؟ قال في "القلائد": نعم، ونقل (ب ج) عن (ع ش) المنع. * * *

فصل: في سجود السهو

(فصل:) في سجود السهو وما يتعلق به. واقتصروا على تقييده بالسهو للغالب، وإلا .. فيكون أيضاً للعمد، كما يأتي. (يسن) متأكداً (سجدتان للسهو) أي: للخلل الواقع في الصلاة غير الجنازة، وفي سجدة تلاوة وشكر، ولا مانع من جبر الشيء بأكثر منه، فإنه عهد، كما في ترك كلمة من نحو القنوت، وفي إفساد يوم بجماع؛ وذلك للأحاديث الآتية ولم يجب؛ لأنه لم ينب عن واجب، بحلاف جبرانات الحج. وإنما تسن (بأحد أسباب ثلاثة)، بل خمسة: ترك بعض، ونقل قولي غير مبطل، وزيادة فعل يبطل عمده فقط، والشك في ترك بعض، وإيقاع فعل مع التردد في زيادته. فإن سجد لغير ذلك .. بطلت صلاة غير الجاهل المعذور بنحو قرب عهد بالإسلام، كما في "التحفة"، لكن في "الفتح": ولو مخالطاً لنا. ويمكن شمول الأول للأخيرين بأن يراد به ترك المأمور به الشامل للأبعاض يقيناً أو شكاً، وللتحفظ. وجعلها في "المنهاج" شيئين: ترك مأمور به الشامل للأبعاض والتحفظ، أو فعل منهي عنه ولو احتمالاً. فيشمل: ما يبطل عمده كنقل الفعلي، وما لا يبطل عمده كنقل القولي، كالفاتحة، والقيام إلى ركعة مع الشك، أهي رابعة أم خامسة؟ فهي منهي عنها احتمالاً؛ لاحتمال أنها خامسة، وبفرض أنها رابعة يسجد؛ لترك التحفظ المأمور به، فلم يخرج عنهما. (الأول: ترك كلمة) أو حرف (من التشهد الأول) ولو عمداً. والمراد به: اللفظ الواجب في التشهد الأخير دون ما يسن فيه، فلا سجود بتركه؛ وذلك لما صح (أنه صلى الله عليه وسلم تركه ناسياً، وسجد قبل أن يسلم). وقيس بالنسيان العمد، بل خلله أكثر، ولو صلى التسبيح أو راتبه نحو الظهر أربعاً وترك التشهد الأول .. سجد إن قلنا: إنه سنة حينئذ.

قال (سم): وهو المعتمد، بخلاف ما لو صلى أربعاً نفلاً مطلقاً بقصد أن يتشهد تشهدين او أطلق، فاقتصر على الأخير كما في "التحفة"، لكن خالفه (م ر) في صورة القصد. (أو) ترك كلمة أو حرف ولو عمداً من (القنوت) الراتب، وذلك (في الصبح، أو) في (وتر نصف رمضان الأخير)؛ قياساً على ترك التشهد الأول دون قنوت النازلة؛ لأنه عارض، وترك كله أولى بالسجود. لايقال: (كلمات القنوت لا تتعين، فلِمَ كان ترك بعضه كترك كله؟) لأن عدم تعينها إذا لم يشرع فيه. وفارق بدله بأنه لا حد له. (أو) ترك (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول) والمراد الواجب منها بعد التشهد الأخير، لأنها ذكر يجب الإتيان به في الأخير، فيسجد؛ لتركه في الأول كالتشهد الأول. (أو) ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو على آله في (القنوت) أي: بعده؛ قياساًعلى ما قبلها. (أو) ترك (الصلاة على الآل في التشهد الأخير)؛ قياساً على ذلك أيضاً. وصورة السجود لتركها: أن يتيقن ترك إمامه لها بعد أن سلم إمامه وقبل أن يسلم هو، أو بعد أن سلم وهو ناسياً وقصر الفصل، فيعود ويسجد؛ لترك إمامه لها. أمَّا لتركه هو لها .. فلا يعود للإتيان بها؛ إذ لا يعود لسنة غير السجود للسهو، ولا ليسجد للسهو لتركه لها؛ إذ لو صح عوده للسجود لتركها .. كان متمكناً منها، وما هو متمكن منه لا يسجد لتركه. تنبيه: جعل المصنف الأبعاض: ستة، وفي "التحرير": أنها ثمانية بزيادة القيام للقنوت، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الآل، والجلوس للتشهد، والصلاة على النبي بعده وعلى الآل في الأخير. وبعضهم عد القيام والجلوس لكل من الستة، فصارت اثني عشر.

قال الشرقاوي: (وزيد ثمانية: الصلاةعلى الصحب، والسلام على النبي، وعلى الآل والصحب، والقيام لكلٍ، فهذه عشرون) اهـ ولو اقتدى شافعي بحنفي في صبح .. قنت إن أمكنه أن يلحقه في السجدة الأولى، ويسجد للسهو؛ لترك إمامه له، وكذا لو اقتدى به في إحدى الخمس؛ لأنه لا يصلي على النبي في التشهد الأول؛ لأنه عنده منهي عنه يقتضي الإتيان به السجود، بخلاف ما لو اقتدى مصلي الصبح بمصلي سنتها؛ لتحمل الإمام عنه القنوت، والإمام لا قنوت عليه، فلم يتطرق خلل إلى صلاته، وهذا في ترك البعض المعين يقيناً. فلو شك في ترك بعض مبهم .. فلا يسجد، أو معين، كالقيام للصلاة على الآل .. سجد، وهذا هو السبب الثاني، لكن أدرجه المصنف في الأول. وسميت هذه أبعاضاً؛ تشبيها ًلها بالبعض حقيقة، وهو الركن؛ بناء على أن الصلاة حقيقة فيها فقط، ولا تجبر باقي السنن، فإن سجد لشيء منها .. بطلت صلاته على ما مر، ولنا قول قديم: أنها تجبر كلها بالسجود. (الثاني) من الأسباب (فعل ما لا يبطل سهوه) الصلاة (ويبطلـ) ـها (عمده، كالكلام القليل ناسياً، أو الأكل القليل ناسياً، أو زيادة ركن فعلي ناسيا ًكالركوع) وكذا زيادة ركعة فأكثر ناسياً، وكالناسي: جاهل معذور بنحو قرب عهد بإسلام، أو بخفاء المبطل؛ لكونه مما يخفى على أكثر العوام كالتنحنح، وعود إلى التشهد الأول بعد قيامه عنه، وتطويل ركن قصير بغير مشروع، وجلوسه لتشهد تركه إمامه ونحو ذلك، فلا تبطل به صلاة الجاهل مطلقاً، ويسجد للسهو إن لم يكن مأموماً؛ وذلك لما روى الشيخان: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، وسجد للسهو بعد السلام)، ولما مر من حديث ذي اليدين، ومعاوية بن الحكم. واستثنى من ذلك: ما لو حول المتنفل دابته عن القبلة سهواً وردّها فوراً .. فلا يسجد عند (حج)، مع أن عمده مبطل، لكن خفف عنه؛ لمشقة السفر مع عدم تقصيره. وما لو سها فسجد للسهو، ثم سها قبل سلامه .. فإنه لا يسجد للسهو؛ إذ سجود السهو يجبر ما قبله وما فيه وما بعده، لا نفسه، كأن ظن سهواً فسجد، فبان أن لا سهو، فيسجد ثانياً؛ لسهوه بالسجود.

(ولا يسجد لما) أي: لفعل (لا يبطل سهوه ولا عمده، كالالتفات) الواحد (والخطوة والحطوتين) وإن تواليا، والثلاث غير متوالية عمداً أو سهواً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولم يسجد، وأمر به ولم يأمر بالسجود له كما مر في شروط الصلاة (إلا إن قرأ) الفاتحة أو السورة (في غير محل القراءة) كالركوع وجلس التشهد. (أو تشهد) التشهد الأول، أو الآخر (في غير محله) كالقيام والجلوس بين السجدتين. (أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في غير محله) كالركوع ( .. فيسجد لذلك) وإن لم يبطل عمده .. فهو مستثنى من قاعدة: ما لا يبطل عمده .. لا سجود لسهوه (سواء فعله سهواً أو عمداً)؛ لتركه التحفظ المأمور به في جميع الصلاة فرضاً ونفلاً، أمراً مؤكداً كتأكيد التشهد الأول، فهو وإن لم يكن بعضاً حقيقة يشبه البعض. وعليه: فيسجد لترك البعض وشبهه. نعم؛ لو قرأ السورة قبل الفاتحة، أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم قبل التشهد .. لم يسجد؛ لأن كلاّ ًفي محله في الجملة، ونقل بعض ما ذكر كنقل كله. ويسنثنى أيضأ: ما لو قنت في موضع لا يشرع فيه بنيته، كقبل الركوع، أو في اعتدال ولو أخيراً لغير نازلة في غير صبح، ووتر النصف الأخير من رمضان. وما لو فرقهم في الخوف أربع فرق أو فرقتين، وصلى بكلٍ ركعة في الأولى، وبفرقة ركعة وبالأخرى ثلاثاً في الثانية .. فيسجد الإمام وغير الفرقة الأولى للسهو؛ للمخالفة بالانتظار في غير محله، وتكرير الفاتحة كما في "الإمداد"، وتكرير التشهد كما في فتاوى (حج)، فيسجد لجميع ذلك وإن كان عمده لا يبطل، وقضية كلام المصنف أنه لا يسجد لغير ما ذكره، وفيه خلاف. حاصله: أن الركن يسجد لنقله مطلقاً، وكذا البعض إن كان تشهداً، فإن كان قنوتاً .. سجد لنقله بنيته، والهيئة يسجد لنقل السورة منها مطلقاً، وغيرها لا يسجد نقله عند (م ر) مطلقاً، ويسجد له عند (حج) إن نوى به أنه ذِكرُ ذلك المنقولِ عنه، كأن قال: سبحان ربي العظيم في القيام أو السجود بنية أنه ذكر الركوع. فلا يسجد لنقل التسبيح عند (م ر)، ولا لنقل الصلاة على الآل إلى التشهد الأول، ولا بالبسملة أول التشهد، ويسجد له عند (حج) بشرطه المتقدم.

نعم؛ نقل السلام عمداً مبطل، وكذا تكبيرة الإحرام بأن كبر أثناء صلاته بقصد الإحرام؛ لتضمنه إبطال الصلاة. تنبيه: ما مر من الأفعال المنهي عنها أربعة أقسام: قسم يبطل عمده وسهوه وجهله، كالكلام الكثير، وقسم يبطل عمده وجهله دون سهوه، كزيادة ركن فعلي، وقسم يبطل عمده دون سهوه وجهله، كالتنحنح ونحوه من المبطل الخفي، وقسم لا يبطل مطلقاً، كالحركتين. (ولو نسي) الإمام أو المنفرد (التشهد الأول) وقعوده أو أحدهما (فذكره بعد انتصابه) أي: وصوله لحد يجزئ في القيام بأن لا يكون أقرب إلى أقل الركوع ( .. لم يعد) إليه؛ لحرمته حينئذٍ، لأخبار صحيحة فيه، ولتلبسه بفرض وهو القيام، أو بدله، كأن شرع من يصلي قاعداً في القراءة. (فإن عاد عالماً بتحريمه عامداً .. بطلت) صلاته؛ لزيادته فعلاً يخل بهيئتها بلا عذر، بخلاف قطع القولي لنفل كالفاتحة للتعوذ، فغير محرم وإن كره، وبخلاف زيادة فعل لا يخل بهيئتها كجلوس قبل السجود، وبخلاف زيادته لعذر كما يأتي. (أو) عاد (ناسياً) للصلاة، أو حرمة عوده، واستشكل عوده للتشهد مع نسيانه الصلاة، وأجيب بأن المراد عوده لمحله. (أو جاهلاً) بتحريم العود ولو مخالطاً لنا؛ لخفائه ( .. فلا) تبطل صلاته؛ لعذره فيهما، ولخبر: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" في الأول، يلزمه القيام فوراً عند تذكره وعلمه (ويسجد للسهو)؛ لأنه يبطل عمده. أما المأموم فإذا انتصب إمامه ولو بعد جلوسه للاستراحة، فتخلف عامداً عالماً -زيادة على قدر أقل جلسة الاستراحة عند (م ر) وعلى أكثرها عند (حج) - ولم ينو المفارقة .. بطلت صلاته وإن لم يأت بشيء من التشهد. ولو قام الإمام عنه ثم عاد .. لم تجز موافقته -لأنه إما عامد وصلاته باطلة، أو ساه وهو لا تجوز موافقته- بل يقوم المأموم إن لم يكن قد قام فوراً، وينتظره قائماً؛ حملاً لعوده

على السهو أو الجهل، أو يفارقه وهي هنا، وفيما إذا قام الإمام لخامسة أولى؛ للخلاف في جواز انتظاره حينئذٍ. ولو جلس الإمام يتشهد فشك المأموم أهي ثالثة أو رابعة؟ وجب قيامه فوراً؛ إذ المشكوك كالمعدوم، وينتظره قائماً أو يفارقه وهو أولى، وقيل تجوز موافقته مع الشك ويأتي بعد سلام إمامه بركعة. ولو انتصب المأموم وجلس إمامه للتشهد فإن كان ناسياً لم يعتد بفعله (ويجب) عليه (العود لمتابعة إمامه) إن لم ينو المفارقة وتذكر قبل قيام الإمام، وإلا لم يجب. وحيث وجب ولم يعد .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، أو عامداً سن له العود، كما إذا ركع قبل إمامه عمداً؛ لأن له قصداً صحيحاً بانتقاله من واجب لواجب .. فاعتد بفعله وخير بينهما، بخلاف الساهي لوقوع فعله بلا روية، فكأنه لم يفعل شيئاً فتلزمه المتابعة، كما لو لم يقم ليعظم أجره، والعامد كالمفوت على نفسه تلك الفضيلة فلم يلزمه لعود. وإنما خير من ركع سهواً وإمامه قائم، أو سجد الثاني سهواً وإمامه جالس؛ لعدم فحش المخالفة، ولم يسن له العود لعذره، بخلاف المتعمد فيهما .. فلا عذر له فندب له العود، كذا في "التحفة". (وإن تذكر) غير المأموم ترك التشهد الأول (قبل انتصابه) بمعناه السابق ( .. عاد) له ندباً وإن خشي تشويش المأمومين كما في "الإيعاب" لأنه لم يتلبس بفرض، ويسجد للسهو إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود؛ لأن ذلك يبطل مع تعمده وعِلمِ تحريمه، بخلاف ما إذا كان أقرب إلى القعود، أو سواء لعدم بطلان تعمده بقيده الآتي. وفي: "المجموع" أنه لا يسجد لذلك مطلقاً، وعلى الأول فالسجود للنهوض مع العود، أما المأموم فمر آنفاً أنه يعود لمتابعة إمامه وجوباً أو ندباً. (ولو تركه) أي: ترك غير المأموم التشهد الأول (عامداً) هذا قسيم قوله أولاً: (ولو نسي التشهد ... إلخ) (فعاد) له عامداً عالماً ( .. بطلت) صلاته بتعمده ذلك (إن كان) وقتَ العود (إلى القيام أقرب) منه إلى القعود؛ لزيادته ما غير نظمها، بخلاف ما لو عاد وهو إلى القعود أقرب، أوعلى السواء. وفي "المجموع": (ويحل هذا التفصيل إن قصد بالنهوض ترك التشهد، ثم بدا له

العود إليه فعاد؛ لأن نهوضه حينئذٍ جائز. اما لو زاد هذا النهوض عمداً لا لمعنى .. فتبطل صلاته؛ لا خلاله بنظمها بمجرد خروجه عن اسم القعود) اهـ بل قال (سم): تبطل بمجرد الشروع في النهوض؛ إذ الشروع في المبطل مبطل) اهـ وقد يقال: المبطل الخروج عن اسم القعود لا ما قبله من النهوض والقنوت كالتشهد فيما مر (و) منه أنه (لو نسي) غير المأموم (القنوت فذكره بعد وضع جبهته) للسجود ( .. لم يرجع) بل إن عاد بعد وضع الأعضاء السبعة بشروطها عامداً عالماً .. بطلت صلاته لتلبسه بفرض ثم قطعهِ لسنة. أو بعد وضع الجبهة وقبل وضع بقية الأعضاء .. كره للخلاف في البطلان بذلك حينئذٍ (أو قبله) أي: قبل وضع الجبهة وإن وضع غيرها ( .. عاد) ندباً؛ لعدم تلبسه بفرض (ويسجد للسهو إن بلغ حد الراكع)؛ لزيادته ما يبطل عمدُه، فان لم يبلغه .. لم يسجد وياتي هنا نظير ما مر في التشهد عن "المجموع" في الهوي بقصد ترك القنوت، وبلا معنى، وما يترتب على كلًّ، وكذا الجاهل والناسي يأتي فيهما ما مر ثمّ، ويجري في المأموم هنا جميع ما مر ثمَّ. نعم؛ للمأموم هنا التخلف للقنوت ما لم يسبق بركنين فعليين؛ لأنه لم يحدث فعلاً لم يفعله الإمام بل أدام ما كان فيه، نظير ما إذا جلس الإمام للاستراحة على ما فيه، بل وإن لم نقل بذلك؛ لأن استواءهما في الاعتدال أصلي وفي جلسة الاستراحة عارض. قال الكردي: (واعتمد في "التحفة" في مسألة القنوت لزوم العود إليه مطلقاً؛ أي: وإن نوى المفارقة أو لحقه الإمام إلى السجود، فإن علم أو تذكر وهو في الاعتدال أو السجود الأول .. عاد للاعتدال، أو وقد رفع رأسه من السجدة الأولى .. وافقة وأتى بركعة بعد سلام إمامه. وفرق بين القنوت والتشهد بأن فحش المخالفة من القنوت إلى السجود أكثر منه من التشهد إلى القيام.

وكلام "المجموع" و"التحقيق" و"الجواهر" و"الأنوار" يؤيد كلام (م ر)؛ اي: من أنه لا يجب العود إلا إذا لم ينو المفارقة، ولم يلحقه الإمام إلى السجود) اهـ بتوضيح (الثالث) من أسباب سجود السهو: (إيقاع ركن فعلي مع التردد) حال فعله (فيه) أي: في زيادته، بخلاف تردده في زيادته بعد فعله، كأن شك في تشهد أخير صلى أربعاً أم خمساً .. فلا يسجد لذلك التردد؛ لقولهم: لو شك في ترك مأمور به .. سجد، أو في فعل منهي عنه .. فلا؛ لأن ّالأصل أن المشكوك كالمعدوم، نعم؛ استثنوا الشك في الركن بعد السلام كما يأتي (فلو شك) أي: تردد ولو مع رجحان أحد الطرفين (في) ترك شيء معين نحو (ركوع أو سجود أو ركعة .. أتى به)؛ إذ الأصل عدم فعله، ولا يرجع فيه لظنه ولا لقول غيره أو فعله وإن كثروا ما لم يبلغوا عدد التواتر، وإلا .. وجب الأخذ بقولهم وكذا بفعلهم عند (حج)؛ لأنه في الحقيقة إنما أخذ بما حصل له من اليقين بخبرهم، والعملُ بخلافه تلاعب. ورجوعه صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين إلى الصلاة يحتمل أن المخبرين فيه بلغوا حد التواتر فأخذ بقولهم، أو أنه تذكر (و) إذا أتى بالمشكوك (سجد) للسهو لخبر مسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً .. فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتيم قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً .. شفعن له صلاته" أي: ردتها للأربع وانجبر خلل الزيادة، "وإن كان صلى إتماماً لأربع .. كانتا ترغيماً للشيطان" فالسجود حينئذٍ للزيادة إن كانت، وإلا .. فللتردد المضعف للنية المحوج للجبر، ولذلك يسجد (وإن زال الشك قبل السلام)؛ لتردده في زيادته حال فعله وهو مضعف للنية (إلا إذا زال الشك قبل أن يأتي بما يحتمل الزيادة)؛ فلا يسجد؛ إذ ما أتى به واجب بكل تقدير، فلا يؤثر التردد فيه (فلو شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً و) لم يستمر شكه، فإن (زال الشك في غير الأخيرة) ولو في نهوضه إليها وإن كان للقيام أقرب؛ لأن النهوض ليس منها ( ... لم يسجد)؛ لأن ما فعله قبل التذكر واجب بكل تقدير.

وقضيته أن النهوض إلى الأخيرة بتقدير كونها خامسة واجب وليس كذلك (أو) زال (فيها) أي: الأخيرة وهو لا يَصْدُقُ أنه فيها إلا عند الانتصاب ( .. سجد)؛ لتردده حال انتصابه -الذي هو جزء منها- في زيادتها وأفهم كلامه أن نهوضه إليها لا يحتمل الزيادة، فلا يسجد للتردد الزائل فيه. أما زيادته باحتمال أن الأخيرة خامسة فواضحة. وأما أنه هل يقتضي السجود فرجح (م ر) و (حج) تبعاً للإسنوي أنه يقتضيه إن صار إلى القيام اقرب، وخالفه ابن العماد وتبعه كثيرون كـ"الأسنى" و"الإمداد" وغيرهما بأن صيرورته لما ذكر لا يقتضي السجود، وليس بشيء؛ بل القياس أنه بمجرد خروجه عن اسم الجلوس يسجد. ولو شك في ترك بعض معين .. سجد، أو في إرتكاب منهي عنه .. فلا كما مر أو هل سجد للسهو أو لا .. سجد، أو هل سجد سجدة أو سجدتين .. سجد أخرى؛ عملاً بالأصل من أن المشكوك كالمعدوم غالباً (و) من غير الغالب (لا يضر الشك بعد السلام) الذي لا عود بعده إلى الصلاة (في ترك ركن) وإلا لعسر وشق، ولأن الظاهر مضيها على الصحة (إلا النية وتكبيرة الإحرام) فيؤثر الشك في كل منهما بعد السلام؛ لشكه في أصل الانعقاد، فتلزمه الإعادة ما لم يتذكر أنه أتى بهما ولو بعد طول الزمان. ومن الشك في النية ما لو شك هل نوى فرضاً أو نفلاً، لا الشك في نية القدوة في غير جمعه ومعادة ومجموعة مطر. وإنما لم يضر الشك في النية بعد فراغ الصوم؛ لمشقة الإعادة فيه، ولأنه اغتفر فيه ما لم يغتفر فيها هنا. أما الشك قبل السلام .. فقد علم مما مر (و) إلا الشك في (الطهارة) بأن تيقن الحدث، ثم شك بعد السلام هل تطهر أو لا؟ فلا تصح كما لو شك فيها قبل لدخول في الصلاة؛ لأن الشك في أصل الطهارة، والأصل عدمها. ومثلها الشك في أصل غيرها من الشروط كالسترة، بخلاف ما لو تيقن الطهارة وشك في رافعها .. فلا يضر؛ إذ الأصل بقاؤها وقد صرحوا بأنه يجوز دخول الصلاة بطهر مشكوك فيه، كأن تيقن الطهر وشك في رافعه (ويسجد المأموم لسهو) وعمد (إمامه

المتطهر و) إمام (إمامه) أيضاً إذا سجد وإن لم يعلم أنه سها، أو كان السهو قبل الاقتداء به؛ لتطرق الخلل إلى صلاته، ولذا يسجد إذا علمه (وإن تركه الإمام) بأن لم يسجد (أو) انقطعت قدوته به لمفارقته له، أو بطلان صلاة الإمام كأن (أحدث قبل تمامها) وبعد وقوع السهو منه. وقضية التعليل بتطرق الخلل: أنه لو اقتدى به بعد سجوده للسهو .. لم يسجد المسبوق آخر صلاته وإن سجد إمامه؛ إذ لم يبق خلل يتطرق لصلاة الماموم، بخلاف المسبوق المقتدي به قبله، يسجد آخر صلاته وان سجد إمامه؛ لأن سجوده يجبر خلل صلاته، لا ما تطرق لصلاة المأموم. أما المحدث فلا يلحقه سهوه إمامه؛ إذ لا قدوة في الحقيقة وإن كانت الصلاة خلفه جماعة؛ لأن ذلك بالنسبة لحصول الثواب بقصده لها، من غير حيلة له في الاطلاع على حدث الإمام، لا لوجود رابطة بينهما ليترتب عليه أحكامها. وعند سجود الإمام المتطهر يلزم المأموم متابعته وإن جهل سهوه موافقاً أو مسبوقاً، فإن تخلف عامداً عالماً بقصد عدم السجود .. بطلت صلاته بمجرد سجود الإمام، بل وإن لم يتلبس به أوْ لا بقصد ذلك .. فتبطل بتخلفه بركنين كأن هوى للسجدة الثانية. فإن تخلف لعذر كزحمة .. لم تبطل، فإن زال عذره والإمام في السجدة الثانية .. سجد فوراً حتماً، أو بعدها فإن كان موافقاً .. سجد؛ لأنه يستقر عليه بسجود الإمام، أو مسبوقاً .. فات لأنه لمحض المتابعة وقد فاتت. ويسن آخر صلاته (إلا إذا علم المأموم خطأ إمامه) في سجوده، ويتصور كأن يكتب له أنه سجد لترك السورة مثلاً، أو أشار له بذلك، أو تكلم به وعذر ( .. فلا يتابعه) فيه، حتى لو علم غلطه وهو ساجد معه .. عاد للجلوس، ثم إن شاء فارقه وسجد، أو انتظر سلامه ثم يسجد؛ لأنه يلحقه سهوه بذلك السجود. ولو فعل إمامه زائداً كأن قام لخامسة .. لم تجز متابعته ولو لمسبوق وشاك في فعل ركعة، ولا نظر لاحتمال أنه ترك ركناً؛ لأن الفرض أنه علم أو ظن الحال، والأفضل هنا مفارقته، فإن لم يعلم أو يظن ذلك .. تابعه ولو شاكاً في ذلك، وتحسب له كما سيأتي (ولا يسجد المأموم لسهو نفسه خلف إمامه المتطهر)؛ لأنه يتحمله عنه كما يتحمل عنه نحو السورة ودعاء القنوت، ويتحمل عن المسبوق الفاتحة وقيامها والتشهد الأول.

أما المحدث وذا الخبث الخفي .. فلا يتحمل عنه شيئاً، وإنما اثيب على الجماعة خلفهما لوجود صورتها؛ إذ يغتفر في الفضائل ما لا يغتفر في غيرها كالتحمل المستدعي بقوة الرابطة. وخرج بـ (خلف إمامه): ما لو سها بعد القدوة، أما قبلها .. فلا يتحمله عنه، وإنما لحقه سهو إمامه ولو قبل القدوة؛ لأنه عهد تعدي الخلل من صلاة الإمام إلى صلاة المأموم كأن كان الإمام أميا، فيتطرق بطلان صلاته إلى صلاة المأموم دون عكسه (ولو ظن) المأموم، (سلام إمامه فسلم فبان خلافه) أي: خلاف ما ظنه ( .. أعاد السلام معه) أو بعده وهو أولى؛ لامتناع تقدمه على سلامه (ولا سجود) لسلامه الأول وإن أبطل عمده؛ لأنه سهو حال القدوة كما لو نسي نحو الركوع؛ فإنه يأتي بركعة بعد سلام إمامه، ولا يسجد سواء تذكر قبل سلامه أو بعده، بخلاف ما لو سلم المسبوق بعد سلام إمامه سهواً فيسجد؛ لأنه سهو بعد انقطاع القدوة، وكذا مع سلامه عند (م ر)؛ لضعف القدوة حينئذٍ كما قال (ولو تذكر المأموم في) جلوس (تشهده ترك ركن) فإن كان النية أو تكبير التحرم .. تبين عدم انعقادها أو (غير النية والتكبير) للتحرم، فإن كان سجدة من الأخيرة .. سجدها أو غيرها ( .. صلى ركعة بعد سلام إمامه)؛ لفواتها بفوات الركن كما علم من الترتيب، ولا يجوز له إن يقوم لها، كما لا يجوز للمسبوق أن يقوم لما بقي عليه إلا بعد سلام إمامه (ولا يسجد) للسهو؛ لإتيانه بالركعة بعد سلام إمامه؛ لوقوع السهو حال قدوته (أو شك في ذلك) أي في تركه غير النية والتكبير وسجدة من الأخيرة ( .. أتى بركعة بعد سلام إمامه وسجد) للسهو؛ لإتيانه بالركعة متردداً في زيادتها بعد انقضاء القدوة (وإذا سجد إمامه) للسهو ( .. لزمه متابعته) إن لم يعلم خطأه (فإن كان مسبوقاً .. سجد) وجوباً (معه)؛ للمتابعة (إن سجد، ويستحب أن يعيده) أي: سجود السهو (آخر صلاته)؛ لأنه محل سجود السهو الذي لحقه بتطرق النقص إليه من صلاة إمامه. ولو اقتصر إمامه على سجدة .. سجد سجدتين، لكن لا يفعل الثانية إلا بعد سلام

إمامه؛ لاحتمال سهوه وتداركه للثانية قبل سلامه. ولو تركه اعتقاداً لعدم طلبه .. أتى به المأموم بعد سلام إمامه (وسجود السهو وإن كثر) السهو من نوع أو أكثر (سجدتان) يجلس بينهما؛ لاقتصاره صلى الله عليه وسلم عليهما في خبر ذي اليدين مع أنه سلم وتكلم. ويجبر كل ما أتى به على الأوجه ما لم يخصه ببعضه، وكيفيتهما (كسجود الصلاة) في واجبات ومندوبات كما مر، وقيل: يقول: سبحان من لا ينام ولا يسهو، هذا إن سهى؛ لأنه اللائق بالحال، فإن تعمده .. فاللائق به الاستغفار. وقضية تشبيه سجود السهو بسجود الصلاة أنه لا يجب له نية، وهو قياس عدم وجوب نية سجدة التلاوة. والوجه الفرق بينهما؛ إذ سجدة التلاوة سببها القراءة المطلوبة في الصلاة، فشملتها نيتها ابتداءً من هذه الحيثية وإن لم تشملها من حيث قيامها مقام سجدة الصلاة. وأما سجود السهو فليس سببه مطلوباً فيها بل سببه منهي عنه، فلم تشمله نية الصلاة ابتداء فوجبت نيته على إمام ومنفرد دون مأموم؛ لأن أفعاله تنصرف لمحض المتابعة بلا نية، وهذا ما اعتمده (حج) واعتمد (م ر) وجوب النية في كل من سجدة التلاوة وسجود السهو. وتبطل الصلاة بالتلفظ بالنية فيهما على الأوجه؛ إذ لا ضرور إليها. فرع: لو سجد واحدة ثم أعرض عن الثانية .. لم يضر، فلو سجد الثانية قبل طول فصل .. ضمت للأولى، أو بعده فيسجد سجدتين؛ لسقوط حكم الأولى بالإعرض مع طول الفصل قاله (سم). (ومحل سجود السهو) لزيادة أو نقص أو لهما (بين التشهد) وما يتبعه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله والدعاء بعدهما (والسلام) لكن لو أتى بالصلاة على الآل وما بعدها من المندوب بعده .. حصل أصل السنة، أما الواجب كالتشهد .. فتبطل بسجوده قبله ولو مأموماً سجد إمامه قبل إكماله عند (م ر)، ولا يجوز بعد السلام إلا على قول قديم جرى عليه الماوردي، وابن الرفعة وغيرهما، ومع ضعفه يجوز تقليده. قال ابن العربي: وثبت سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو؛ للشك في عدد

الركعات، وللقيام من الركعتين ولم يتشهد، ولسلامه من ركعتين ومن ثلاث، ولشك في ركعة خامسة. وأخذ من قوله: (بين تشهده وسلامة): أنه لو أعاد نحو التشهد .. بطلت صلاته، وليس كذلك، بل عدم تخلل شيء بينهما مندوب لا واجب. ولو اقتدى بمن يراه بعد السلام، وتوجه على المأموم السجود .. سجد بعد سلام إمامه وقبل سلامه، ولا ينوي متابعته؛ لفراقه له بسلامه. (ويفوت) السجود (بالسلام عامداً) بأن كان ذاكراً للسهو عالماً بأن محله قبل السلام؛ لفوات محله، فلا يعود له وإن قرب الفصل؛ لعدم عذره. (وكذا) يفوت بالسلام (ناسياً إن طال الفصل) عرفاً بين السلام والترك للسجود بأن مضى قدر ركعتين خفيفتين؛ لتعذر البناء بالطول كالمشي على نجاسة وفعل أو كلام كثير، بخلاف استدبار القبلة فسومح فيه؛ لسقوط الاستقبال في نحو نفل السفر، وبخلاف كلام قليل كما مر وكذا يفوت بعدم إرادته عند تذكر تركه وإن أراده بعد؛ لإعراضه عنه. (فإن) سلم ناسياً ولم يعرض عنه، و (قصر) الفصل بين السلام والترك ( .. عاد) أي: ندب له العود (إلى السجود) بلا إحرام إن لم يطرأ مناف للصلاة بعد السلام، كخروج وقت جمعة؛ للاتباع. (و) إذا عاد إليه، بأن وضع جبهته بالأرض بنية العود، كما قاله (حج)، وكذا إن نواه وإن لم يشرع فيه كما في "النهاية" (صار عائداً إلى الصلاة) أي: بان أنه لم يخرج منها؛ لاستحالة حقيقة الخروج منها ثم العود إليها، وأن سلامه وقع لغواً؛ لعذره بكونه لم يأت به إلا ناسياً ما عليه من السهو، فيحتاج لسلام ثان. وتبطل بطرو مناف كحدث بعد العود، وتصير الجمعة ظهراً إن خرج وقتها بعد العود، ويحرم العود إن ضاق الوقت بحيث يخرج بعضها، وما ذكر من العود يؤيد القول بالبناء على ما مضى بكل مناف للصلاة عارض بغير اختياره، كما هو مذهب الحنفية. تنبيه: قد يتعدد سجود السهو صورة في صور منها: المسبوق، وخليفة الساهي، ومن ظن سهواً فسجد فبان عدمه .. فيسجد، وما لو سها إمام الجمعة أو المقصورة فسجدوا، ثم خرج الوقت قبل سلامه، أو بطلت صلاة بعضهم بعد السجود ولو بعد

فصل: في سجود التلاوة

خروج الباقين من الصلاة، حيث لم يكن الباقون أربعين. وبه يلغز بأن شخصاً بطلت صلاته في المسجد، فبطلت صلاة جماعة في بيوتهم بعد سلامهم، أو وجب إتمام المقصورة بعد السجود فيتمونها ظهراً، ويسجدون للسهو أيضاً آخر صلاتهم؛ لوقوع الأول في غير محله. فائدة: نقل الشيخ علي الأجهوري المالكي عن أهل العلم: أن صلاة بسجود سهو خير من سبعين صلاة بلا سجود سهو؛ لأنها إذا كانت بغير سجود سهو .. احتملت القبول وعدمه، ومع السهو يرغم بها أنف الشيطان، وما يرغم أنفه .. يرجى بها رضى الرحمن، ففضلت بتلك الصفة. وحكي أن رجل شكى للنبي صلى الله عليه وسلم وسوسة الشيطان، فقال: "إن الشيطان لا يدخل بيتاً ليس فيه شيء، فذلك من محض الإيمان". وقال النخعي: كل صلاة لا وسوسة فيها لا تقبل؛ لأن اليهود والنصارى لا وسوسة لهم. وقال علي كرم الله وجهه: الفرق بين صلاتنا وصلاة أهل الكتاب: وسوسة الشيطان؛ لأنه فرغ من عمل الكفار، لأنهم وافقوه. * * * (فصل: يسن سجود التلاوة)؛ إجماعاً، ولخبر مسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد .. اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلتاه؛ أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار". ولخبر الشيخين عن ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته)، وفي رواية لمسلم: (في غير صلاة) ولم تجب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تركها في سجدة "والنجم" متفق عليه. وإنما يسن (للقارئ والمستمع) أي: قاصد السماع (والسامع) قصده أم لا، لا لمن لم يسمع، وإنما يسجد المذكورون؛ لقراءة مشروعة. بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة لذاتها، كقراءة جنب مسلم بقصدها ولو مع نحو

الذكر، وكقراءة في نحو ركوع، وشملت المشروعة بقراءة صبي وكافر ولو جنبين. وقراءة محرمة ومكروهة لا لذاتها، كقراءة امرأة برفع صوتها بحضرة أجانب، وقراءة في نحو حمام؛ إذ حرمة الأول، وكراهة الثاني عارضة، لا ذاتية. وأن تكون مقصودة، لا كقراءة نائم وطير معلم وغير مميز. وأن تكون القراءة لجميع آية السجدة، فلو قرأها إلا حرفاً .. حرم السجود، ومن قارئ واحد وفي زمان واحد عرفاً. وأن تكون في غير صلاة جنازة، فهذه ستة شروط عامة. فإن كان القارئ مصلياً .. اشترط أن لا يكون مأموماً مطلقاً، وأن لا يقصد بقراءته السجود على ما يأتي. وشرط السامع مع ما مر: أن يسمع جميع آية السجدة، وعدم حرمة أو كراهية استماعه لذاته، فلا يسجد مصل لسماع قراءة غير نفسه إن لم يكن مأموماً، وإلا .. فلا يسجد لغير قراءة إمامه؛ لكراهة استماعه لغيره. فإذا علمت ذلك .. فيسن لكل من الثلاثة المذكورين أن يسجد لكل قراءة ولو من جني أو ملك (إلا لقراءة النائم والجنب والسكران) ونحوهم ممن اختل في قراءته، أو سماعه شرط، مما مر. (ويتأكد) السجود (للمستمع) أكثر منه للسامع ولهما (إن سجد القارئ)؛ لما قيل: أنَّ سجودهما يتوقف على سجوده، ولهما الاقتداء به، وأن يقتدي من سجد للتلاوة بمصل في سجدته، فإذا سجد .. فارقه، أو بمن في ثانية سجود للسهو. وهي: أربع عشرة سجدة: ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان، ومحالها معروفة ففي (الأعراف): آخرها، وفي (الرعد): (والآصَال): وفي (النحل): (يُؤمَرُون) وقيل (يَسْتَكبِرُون)، وفي (الإسراء): (خُشُوعاً)، وفي (مريم): (بُكِيّاً) وفي (الحج) الأولى عقب (ما يَشَاء) والثانية: عقب (تفلِحُون) ونفى هذه أبو حنيفة، وفي (الفرقان): (نفوراً)، وفي (النمل): (العظيم)، وقيل: يعلنون، وفي (السجدة): عقب (لا يَسْتكبرُون)، وفي (ص): (وأناب)، وقيل: مآب، وفي (فصلت): (يسئمون)، وقيل: تعبدون، وفي (النجم): آخرها كـ"إقرأ"، وفي (الإنشقاق): (لا يسجدون)، وقيل: آخرها.

والأفضل: أن يسجد عند المحل الثاني، ليجزيه على القولين، ولا يكرر السجود؛ لأنه يأتي بسجدة لم تشرع. (ولا يسجد المصلي لغير قراءة نفسه) من مصل وغيره، وإلا .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، ولا لقراءة نفسه قبل الدخول في الصلاة وإن قصر الفصل. (إلا المأموم .. فيسجد) لقراءة إمامه فقط (إن سجد إمامه) وإن لم يسمع قراءته. (وإلا) بأن سجد لغير قراءة إمامه، أو لقراءة إمامه ولم يسجد الإمام، أو سجد الإمام وتخلف عنه وإن لم يسمع قراءته ( .. بطلت صلاته) إن علم وتعمد ولم ينو المفارقة في الثالثة؛ لفحش المخالفة مع انتقاله من واجب إلى سنة، بخلاف القيام عن التشهد الأول وأمامه فيه، فإنه انتقل من واجب لواجب، فلم يضر. وفي "التحفة": (وكره لمأموم قراءة آية سجدة؛ لعدم تمكنه من السجود، ويؤخذ منه: أن المأموم في صبح الجمعة إذا لم يسمع قراءة الإمام .. لا يسن له قراءة سورتها، وقراءته لما عدا آيتها يخل بسنة الموالاة) اهـ ولو سجد لسجود إمامه وقراءة نفسه .. استقرب بعضهم البطلان؛ تقديماً للمبطل. ومثله ما لو سجد لقراءته وقراءة غيره. ولو لم يعلم بسجود إمامه إلا بعد أن رفع رأسه منه .. انتظره، أو قبله سجد وإن ظن أنه لا يدركه فيه، فإن رفع قبل سجوده .. لزمه الرفع معه، ولا يسجد إلا إن نوى المفارقة. ويسن للإمام تأخير السجود في السرية إلى السلام؛ لئلا يشوش على المامومين وإن طال الفصل كما في "الإمداد". وقال (م ر): إن قصر الفصل، وإلا .. سجد فوراً. (ويتكرر السجود) ندباً (بتكرر القراءة) لآية فيها سجدة (ولو في مجلس وركعة)؛ لتجدد سببه مع توفيه حكم الأول، فإن لم يسجد للقراءة الأولى .. كفاه سجدة للجميع إن نوى الكل، أو أطلق، وإلا .. فلِمَا نواه، وهذا إن لم يطل فصل بين القراءة الأولى والسجود، وإلا .. لم ينو ما طال فيه الفصل، فإن نواه .. لم تنعقد. ويجوز تعددها بتعدد قراءة الآية، فيأتي بالثانية عقب الأولى، وهكذا من غير قيام في الصلاة، وإلا .. بطلت؛ لزيادته صورة ركن.

ويسن لمن قرأ أو سمع قراءة آية سجدة أن يسجد (إلا إذا قرأها في وقت الكراهة، أو في الصلاة بقصد السجود) في وقت الكراهة، أو في الصلاة فقط ( .. فلا يسجد) بل يحرم حينئذٍ؛ لعدم مشروعيته، ولأنه مراغمة للشرع (فإن فعل) ذلك في الصلاة ( .. بطلت صلاته) إن تعمد وعلم عدم مشروعيته؛ لأنه زاد فيها ما هو من جنس بعض أركانها تعدياً. أمَا لو قرأها بقصد السجود وغيره من مندوبات القراءة، أو الصلاة .. فلا بطلان ولا كراهة؛ لمشروعيته حينئذٍ. وأفهم المتن: أنه لو قرأها في غير وقت كراهة، وغير صلاة بقصد سجود فقط .. يسجد، وهو ظاهر "التحفة"، ونقله في "النهاية" عن النووي، و"الأنوار"، ولم يتعقبهما، وفي "الإمداد"، و"الإيعاب": عدم الصحة، ونقل عن شيخ الإسلام وغيره لعدم مشروعية القراءة حينئذٍ. ولا فرق في حرمة القراءة بقصد السجود فقط في الصلاة عند (حج) بين: "ألم تنزيل"، وغيرها في صبح الجمعة وغيره، واستثنى (م ر): "ألم تنزيل" في صبح الجمعة. ولا بد في سجدة التلاوة، ولو خارج الصلاة وسجدة الشكر من شروط الصلاة من طهر، وستر، واستقبال، ودخول الوقت -وهو هنا قراءة آخر الآية- أو وقت نحو هجوم النعمة وغيرها. ولا بد هنا أيضاً من عدم الفصل بين قراءة الآية والسجود ما لم ينذرها، وإلا .. وجب قضاؤها، وعدم الإعراض عنها، وغير ذلك من شروطها المتقدمة، ومن ترك موانعها، ككلام كثير أو فعل كثير توالى وغير ذلك. والسجود المذكور كسجود الصلاة في واجب ومندوب؛ لأنها ملحقة بها. وأركانها خارج الصلاة: نية سجود التلاوة أو الشكر وإن لم يعين سببها، وندب تلفظ بها. وتكبيرة تحرم كالصلاة، وندب رفع يديه معها لا القيام، بل هو مباح. وسجود، وسن فيه سجد وجهي للذي خلقه ... إلخ، واللهم اكتب لي بها عندك

فصل: في سجود الشكر

أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داوود. وأن يكبر بلا رفع يديه للهوي، فإن اقتصر على تكبيرة ونوى بها التحرم فقط .. صح، كالصلاة. وأن يكبرللرفع من السجود. وزاد بعضهم الجلوس او الاضطجاع بعد السجود. والخامس: السلام. والسادس: الترتيب لا التشهد، لكن لو آتى به .. لم يضر. وأركانها في الصلاة شيئان: النية عند (م ر)، والسجود. ولا يرفع يديه فيها، ولا يجلس بعدها للاستراحة، ويلزمه أن ينتصب عنها قائماً ثم يركع. والأحب أن يقرأ شيئاً من القرآن قبل الركوع. * * * (فصل: يسن سجود الشكر عند هجوم نعمة) لها وقْعٌ من حيث لا يحتسب، سواء كانت ظاهرة، كحدوث ولد ولو ميتاً بلغ أربعة أشهر، وقدوم غائب، وشفاء مريض، ووظيفة دينية وهو أهل لها أو باطنة، كحدوث علم له أو لنحو ولده أو عامة، كمطر عند الحاجة إليه لا خاصة بأجنبي. والمراد بـ (الهجوم): تجدد وقوعها سواء كان يتوقعها، أم لا. وخرج بالتجدد: النعم المستمرة كالعافية، والغنى، فلا يسجد لها؛ لأنه يستغرق العمر، ونظر فيه في "التحفة"، قال فالوجه التعليل بأنه لم يرد له نظير، وبالظاهرة: ما لا وقع له كحدوث درهم. نعم؛ إن كان الواجد له مضطراً إليه .. سجد، وكمعرفته لشخص. وبمن حيث لا يحتسب: ما لو تسبب تسبباً تقضي العادة بحصولها عقبه، كربح متعارف لتاجر.

ومنه يعلم: أنه لا يعتبر تسببه في الولد بالوطء، ولاالعافية بالدواء؛ لأنه لاينسب عادة لما ذكر. (واندفاع نقمة) عنه أو عمن مر ظاهرة من حيث لا يحتسب، كنجاة من نحو هدم أو غرق، وكشف المساوئ؛ لما صح (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يُسَرُ به .. خرَّ ساجداً لله تعالى) بخلاف غير الظاهرة، كاندفاع رؤية نحو عدوٍ، وما تسبب به تسبباً تقضي العادة بدفعه به. ولو ضم إلى السجود صدقة أو صلاة .. كان أولى، ولو أقامهما مقامه .. فحسن، وينوي بهما الشكر. ومنه: صلاة ركعتين لنحو من مات، نحو ولده شكراً لله، والشكر على ما فيه من الثواب، أو على قضاء الله بذلك؛ لأنه جميل، والأولى إظهاره لذلك حيث لا محذور فيه. (و) يسن أيضاً (لرؤية فاسق) متجاهر بفسقه، كافر وقاطع طريق، أو مستتر مصر ولو على صغيرة وإن لم يشمله اسم الفاسق، فليسجد شكراً لله على سلامته من ذلك، وإن كان هو فاسقاً بفسقٍ أخف من فسقه، وإلا .. سجد زجراً له. (و) يسن أن (يظهرها للمتظاهر) بمعصيته ولو صغيرة إن لم يخف مفسدة؛ لعله يتوب. تنبيه: في النسخة التي شرحت عليها "الأصل": ولرؤية فاسق، ويظهرها للمتظاهر وهي سديدة، لكن أكثر النسخ: ولرؤية فاسق متظاهر ويظهرها للمتظاهر، وفيها -كما قاله العلامة الكردي- شبه تكرار بإقامة الظاهر مقام المضمر، وتناف؛ إذ قوله: ولرؤية فاسق متظاهر، يفيد عدم طلب السجود لرؤية الفاسق غير المتظاهر مع إخفاء السجود. وقوله -بعد ذلك: ويظهرها للمتظاهر- يفيد أن المختص به المتظاهر إنما هو إظهارها فقط. وقال الشارح: وفي نسخة: ولرؤية فاسق متظاهر ظاهراً، وهي أحسن، أي: لأنها سالمة من شبه التكرار والتنافي، لكنها تفيد أنه لايسجد لرؤية فاسق مستتر، لكن ليس ذلك مما تفرد به، بل صرح بالجزم به في "النهاية" و"المغني" و"الإمداد"، و"العباب" وغيرها، وبذلك يَخِفُ الاعتراض على "المتن"، فلم يبق في كلامه إلا

الإظهار في مقام الإضمار، وهو قد يحسن لنكت لا يبعد إتيان بعضها هنا. وأيضاً شرط الأخذ بمفهوم المخالفة: أن لا يكون المذكور إنما ذكر لبيان الواقع، كما هنا بدليل ما قدمه. (أو) رؤية (مبتلى) في بدنه أو عقله؛ للاتباع ( .. فيسرها) ندباً؛ لئلا ينكسر قلبه بإظهارها ما لم يعص بسببها، ولم تعلم توبته، وإلا .. أظهرها حيث لا ضرر، وإنما يسجد السليم من تلك البلية، أو من هو به أخف من المرئي. ويسن لمن رأى مبتلى أن يقول سراً: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً" رواه الترمذي وحسنه. ومنه: أن من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء ما عاش. ولو حصل مقتضى السجود قبل أن يصلي التحية .. سجد، ثم صلى التحية؛ لأنه يفوت بها ولا عكس، فإن أراد الاقتصار على أحدهما .. فسجود التلاوة أفضل من التحية، وهي أفضل من سجود الشكر. ولو لم يتمكن من التحية أو سجود التلاوة أو الشكر .. قال أربع مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها تقوم مقامها. (و) يستحب سجود الشكر (في) قرءة آية ("ص")؛ للاتباع، وشكراً على قبول توبة سيدنا داوود من خاطر خطر له، وهو أنه إن مات وزيره في الغزو .. يتزوج بزوجته، وهذا وإن كان مباحاً إلا أن مقامات الأنبياء تأبى مثل ذلك، وخص ذلك بداوود مع وقوع نظيره لغيره كآدم؛ لأنه لم ينقل عنهم ما نقل عن داوود من القلق. والتحقيق: أنها ليست لمحض الشكر، ولا لمحض التلاوة، بل هي سجدة شكر، وسببها التلاوة، ولا تصح إلا بنية الشكر وحده، فلو نوى بها الشكر والتلاوة .. لم تنعقد، وإنما تسن سجدة "ص" (في غير صلاة)؛ للاتباع. (فإن سجد فيها عامداً عالماً بالتحريم .. بطلت صلاته) وإن كان تابعاً لإمامه. أمَّا الناسي والجاهل ولو مخالطاً لنا .. فلا تبطل صلاته ويسجد للسهو، ولو سجدها إمامه الذي يراها في الصلاة .. لم يتابعه، بل يفارقه أو ينتظره، وهو أفضل.

فصل: في صلاة النفل

قال في "التحفة": (فإن قلت: ينافي هذا أن العبرة بعقيدة المأموم .. قلت: لا منافاة؛ لأن محله فيما لا يرى المأموم جنسه في الصلاة، ومن ثم قالوا: يجوز الاقتداء بحنفي يرى القصر في إقامة لا نراها نحن؛ إذ جنس القصر جائز عندنا. نعم؛ يسجد للسهو لسجود إمامه لذلك؛ لأنه مبطل في اعتقاد المأموم، واغتفر لما مر، فكان كالساهي) اهـ والأصح: جوازها، كسجدة التلاوة على الراحلة للمسافر بالإيماء، ففيها ما مر في نفل السفر. * * * (فصل): في صلاة النفل. هو لغة: الزيادة. وشرعاً: ما طلبه الشارع طلباً غير جازم. ويرادفه: السنة، والمندوب، والمرغوب فيه، والحسن، والمستحب، والتطوع. واعترض مرادفة الحسن للنفل بقول التاج السبكي: الحسن: المأذون فيه واجباً أو مندوباً أو مباحاً. وأجيب بأنه مرادف له باعتبار أحدِ ماصَدَقَاته. والفرض: يفضل ثوابه ثواب النفل بسبعين درجة، وقد يفضل الفرض، كإبراء المعسر أفضل من إنظاره، وابتداء السلام أفضل من رده. وشرع؛ لتكميل بعض الفرائض، بل ليقوم في الآخرة مقام ما ترك منها لعذر، كما بسطته في "الأصل". (أفضل الصلاة المسنونة: صلاة العيدين) الأكبر فالأصغر؛ لشبههما بالفرض في الجماعة وتعيين الوقت، وللخلاف في كونهما فرض كفاية. وفضل الأكبر؛ لكونه في شهر حرام، وفيه نسكان: الحج والأضحية. وإنما فضل تكبير الأصغر؛ لأنه منصوص عليه، وفي "الأسنى" أنهما سواء. (ثم الكسوف) للشمس (ثم الخسوف) للقمر (ثم الاستسقاء).

قدم كسوف الشمس على خسوف القمر؛ لتقدمها في القرآن، وكثرة الانتفاع بها، وقدما على الاستسقاء؛ للإتفاق عليهما، ولم يترك صلى الله عليه وسلم الصلاة لهما، بخلاف الاستسقاء فتركه أحياناً. (ثم الوتر) -بفتح الواو وكسرها- لخبر: "أوتروا، فإن الله وتراً يحب الوتر"، وخبر: "الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس .. فليفعل، أو بثلاث .. فليفعل، أو بواحدة .. فليفعل" رواه أبو داوود بإسناد صحيح؛ ولوجوبه عند أبي حنيفة، ولطلب الجماعة فيه في بعض الأوقات. وصرفه عندنا عن الوجوب خبر: هل علي غيرها، قال: "لا". وتسميته واجباً في الحديث، كتسمية غسل الجمعة واجباً في بعض الأحاديث، فالمراد به مزيد التأكيد، ولذا كان أفضل مما لا تسن فيه الجماعة، وليس الوتر من رواتب الفرائض، فلا تصح إضافته للعشاء. ومن جعله من الرواتب نظر إلى توقفه على فعل العشاء ولو قضاءً، ولو صلى ما عدا ركعة الوتر .. أثيب عليه ثواب الوتر، وكذا من أتى ببعض التراويح .. أثيب على ما أتى به ثواب التراويح، كما في "التحفة"، زاد الرشيدي: وإن قصد الاقتصار عليه. (وأقله ركعة)؛ لما مر في الحديث، فلا عبرة بمن خالفه، لكن قال الشرقاوي: المداومة عليها مكروهة. ولو نوى الوتر وأطلق .. حمله على ما يريد عند (حج)، وعلى الثلاث عند (م ر)، ولو نذر الوتر .. لزمه ثلاث؛ لأن الاقتصار على واحدة مكروه، فلا يتناولها النذر. (وأكثره: إحدى عشرة) ركعة وإن تخللها غيرها؛ للخبر المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة). وأدنى الكمال: ثلاث؛ لخبر: (كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث). وأكمل منها: خمس، فسبع، فتسع، وإنما يحصل كمال سنته إذا فعل بالأوتار، وأمّا أصل السنة .. فيحصل مطلقاً كما مر، وقيل: أكثره ثلاث عشرة؛ للخبر الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها، لكن حمل على أنها حسبت سنة العشاء، وألحقه بعضهم

بالنفل المطلق في أن من نوى عدداً .. له أن يزيد وينقص، وهو ضعيف، وأفتى (حج) بأن من صلى الوتر ثلاثاً له أن يصلي باقيه بنية الوتر، وخالفه (م ر). (ووقته: بين صلاة العشاء) ولو جمعها تقديماً (وطلوع الفجر) الصادق؛ لنقل الخلف عن السلف. ووقت اختياره: إلى ثلث الليل في حق من لا يريد التهجد. (وتأخيره) كله (بعد صلاة الليل) أي: الواقعة فيه بسائر أنواعها، من نحو راتبة وتراويح وقضاء فائتة ونفل مطلق أفضل وإن لم يكن بعد نوم؛ لخبر: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (أو لآخره إذا كان) واثقاً أنه (يستيقظ) له .. آخره ولو بمن يوقظه (أفضل)؛ لخبر مسلم: "من خاف أن لا يقوم آخر الليل ... فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره .. فليوتر آخر الليل، فإن صلاته آخر الليل مشهودة"، وعليه يحمل إطلاق بعض الأخبار أفضلية تقديمه، وبعضها أفضلية تأخيره، ويجري هذا التفصيل فيمن له تهجد اعتاده. ثم إن فعله بعد نوم .. فهو وتر وتهجد، وإلا .. فوتر فقط. وعلم من قولي كله: أن فعل بعض الوتر أول الليل أو كله ولو جماعة خلاف الأفضل. ولو أوتر ثم أراد فعل صلاة .. فليؤخرها قليلاً. وقيل: يشفعه، أي: يصلي ركعة فيصير وتره شفعاً، ثم يعيده بعد ما يريده من الصلاة؛ ليقع الوتر آخر صلاته، وبذلك فعل جمع من الصحابة، ويسمى نقض الوتر، ولعلهم لم يبلغهم النهي الصحيح عن ذلك، وهو: "لا وتران في ليلة". (ويجوز وصله بتشهد) في الأخيرة، وهو أفضل (أو بتشهدين في) الركعتين (الأخيرتين)؛ لثبوت كل منهما في مسلم من فعله صلى الله عليه وسلم، ويمتنع في الوصل أكثر من تشهدين، وفعل أولهما قبل الأخيرتين؛ لأنه لم يرد، فإن فعل في غيرهما .. أبطل إن طالت به جلسة الاستراحة. والفصل أفضل من الوصل إن ساواه عدداً؛ لأنه أحاديثه أكثر، ولأنه أكثر عملاً، والموجب للوصل مخالف للسنة الصحيحة، فلا يراعى.

وضابط الوصل والفصل: أن كل إحرام جمعت فيه الركعة الأخيرة مع ما قبلها وصل وإن فصل فيما قبلها بأن سلم من كل ركعتين مثلاً. وكل إحرام فصل فيه الركعة الأخيرة عما قبلها فصل. وعليه: فيتبعض الوتر فصلاً، ووصلاً. فلو صلى عشراً بإحرام .. ففصل؛ لفصلها عن الركعة الأخيرة، وله التشهد بعد كل ركعتين أو أربع؛ لأن هذا فصل لا يمتنع فيه ذلك، وإذا صلاه بتشهدين .. لم يأت بسورة بعد التشهد الأول، وإذا صلاه مفصولاً .. كبر بعد كل سلام في أيام النحر والتشريق، ولو لم يسع الوقت الثلاث إلا موصولة .. فالوصل أفضل. (وإذا أوتر بثلاث) .. ندب له أن (يقرأ) بعد الفاتحة (في) الركعة (الأولى "سورة الأعلى، وفي الثانية "الكافرون"، وفي الثالثة "المعوذات") -بكسر الواو- ويجوز فتحها، أي: المعوذ بهن، يعني: (الإخلاص)، و (المعوذتين) سواء اقتصر عليها، أم زاد عليها، وفصلها عما قبلها أو وصلها، وقرأ فيما قبلها أطول من (الأعلى) مع الترتيب والموالاة، كأن قرأ فيما إذا أوتر بخمس (المطففين)، فـ (الإنشقاق) في الأولى، و (البروج) و (الطارق) في الثانية. وسن بعد الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. (ثم يتلو الوتر في الفضيلة ركعتا الفجر)؛ لما صح من شدة مواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما مع خبر: "إنهما خير من الدنيا وما فيها"، وندب تخفيفهما؛ للاتباع، وأن يقرأ بعد (الفاتحة) فيهما بآية (البقرة)، و (آل عمران)، أو بـ (الكافرون)، و (الإخلاص)، أو بـ (ألم نشرح)، و (ألم تر). ولو قرأ آية (البقرة)، و (ألم نشرح)، و (الكافرون) في الأولى، وآية (آل عمران)، و (ألم تر)، و (الإخلاص) في الثانية .. كان أحسن، وعند الاقتصار فـ (الكافرون)، و (الإخلاص) أولى، ومرَّ قبيل شروط الصلاة ما يندب بينهما وبين الفرض.

(ثم) يتلو ركعتي الفجر بقية الرواتب المؤكدة، فهي في مرتبة واحدة وهي ثمان: (ركعتان قبل الظهر أو الجمعة، وركعتان بعدهما، وركعتان بعد المغرب) وندب تطويلهما حتى ينصرف أهل المسجد لمن صلاهما فيه. ومحل ندب (الكافرون)، و (الإخلاص) فيهما إن لم يرد تطويلهما. (و) ركعتان (بعد العشاء) ولو لحاج بمزدلفة، وإنما ندب له ترك النفل المطلق؛ ليستريح، وندب تأخير راتبة قبلية بعد إجابة المؤذن فإن تعارضت القبلية وفضيلة التحرم .. أخر القبلية، وينوي بقبلية الجمعة سنتها. قال (ب ج): إن كانت مجزية، وإلا .. صلى قبلها أربعاً، وقبل الظهر أربعاً، وبعده أربعاً، وسقطت بعدية الجمعة. ويدخل وقت الراتبة مؤكدة وغيرها القبلية بدخول وقت الفرض ولو مجموعاً جمع تقديم، ويجوز تأخيرها، وإن كانت بعدية .. لم يدخل وقتها إلا بفعل الفرض، فلا تجوز صلاتها قبله ولو قضاءً. ولذا يلغز بأن لنا صلاة خرج وقتها ولم يدخل. ولو أخر القبلية إلى ما بعد الفرض .. جاز جمعها مع البعدية بسلام واحد عند (م ر)، لا نحو سنة الظهر والعصر. فرع: يجوز أن يطلق في نية سنة الظهر المتقدمة مثلاً، ويتخير بين ركعتين وأربع، نقله (سم) عن (م ر). (ثم) يتلو ما مر. (التراويح) فهي في الفضل بعد ما ذكر وإن فعلت جماعة؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم على الرواتب أكثر منها، ولشرف الرواتب بشرف متبوعها. وبه يعلم: أن جميع الرواتب ولو غير مؤكدة أفضل من التراويح، خلافاً للمصنف. (وهي) لغير من بالمدينة (عشرون ركعة) كل ليلة من رمضان بنية قيام رمضان، أو سنة التراويح، أو من صلاة التراويح، والإتيان بـ (من) أولى كما مر؛ لما صح أنه صلى الله عليه وسلم صلى التراويح ليلتين أو ثلاثاً فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر، وقال: "خشيت أن تفرض عليكم [صلاة الليل] فتعجزوا عنها".

وتعيين كونها عشرين جاء في حديث ضعيف، وأجمع عليه الصحابة. وفي رواية مرسلة: ثلاث وعشرون، وجمع بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث، فحسبت مع العشرين. وسميت كل أربعة ترويحة؛ لأنهم كانوا يتروحون، أي: يستريحون عقبها. أمَّا من بالمدينة ولو مجتازاً .. فله فعلها ستاً وثلاثين. قال الشرقاوي: ويثابون على الست عشرة ثواب النفل المطلق، لا التراويح على الأقرب. و (يسلم) في التراويح حتماً (من كل ركعتين)؛ لشبهها بالفرض في طلب الجماعة، فلا تغير عما ورد، فلو أحرم بأكثر من ركعتين عامداً عالماً .. لم تنعقد، وإلا .. انعقدت نفلاً مطلقاً، ولو اقتصر على بعض العشرين .. صح وأثيب عليه ثواب التراويح خلافاً لبعضهم، كما مر. فقولهم: وهي عشرون، أي: أكثرها. (ووقتها): (بين) فعل (العشاء) ولو مقدمة في الجمع (و) طلوع (الفجر) الصادق كالوتر. قال عميرة: (وفعلها عقب العشاء أول الوقت من بدع الكسالى). وفي "الإمداد": (ووقتها المختار يدخل بربع الليل) اهـ ولو تعارض فعله مع العشاء أول الوقت أو في جوف الليل بعد النوم .. قدمتا؛ لكراهة النوم قبل العشاء، وكذا لو لم يفعل العشاء إلا بعد ثلث الليل؛ لأن فوات فضيلة الوقت في التراويح أهون من فوات ذلك في العشاء، ولو بان فساد العشاء .. وقعت نفلاً مطلقاً. (ثم) يتلو التراويح (الضحى)؛ لمشروعية الجماعة في التراويح دونها، وأقلها: (ركعتان)، وأدنى كمالها: أربع، فَسِتٌّ. وأكثرها: (إلى ثمان)، وعند (حج) أكثرها: اثنتا عشرة، والثمان أفضل. (ويسلم من كل ركعتين) ندباً، ويجوز أكثر منهما ولو كلها بسلام إمَّا بتشهد آخرها، أو في كل شفع من ركعتين أو أربع.

ووقتها: (بعد ارتفاع الشمس) كرمح كما في: "التحقيق" و"المجموع"، لا من طلوع الشمس على في ما "الروضة" (إلى الاستواء، وتأخيرها إلى ربع النهار أفضل)؛ لحديث صحيح فيه. ويسن أن يقرأ فيها: (والشمس) و (الضحى)، أو (الكافرون) و (الإخلاص)، وهما أفضل. (ثم) بعد الضحى (ركعتا الإحرام) بنسك ولو مطلقاً، وتصح بأكثر منهما بإحرام واحد. (وركعتا الطواف) وهما أفضل من ركعتي الإحرام؛ للخلاف في وجوبهما. (وركعتا التحية) للمسجد، أي: تعظيمه؛ إذ التحية شرعاً: فعل يحصل به التعظيم فعلاً كان أو قولاً. والمراد: تعظيم رب المسجد؛ إذ لو قصد تعظيمه بها .. لم تنعقد، لكن لا تشترط ملاحظة المضاف، وهو رب، لكنها أولى، ولو أطلق .. صح، بل لو قيل: المراد بهما تعظيم المسجد نفسه بإيقاع الصلاة فيه لله، لا له .. لم يبعد، وعليه: فلا تقدير مضاف، ولعله أولى. والتحيات متعددة، تحية البيت: الطواف، والحرم: الإحرام، ومنى: رمي جمرة العقبة يوم العيد، وعرفة ومزدلفة: الوقوف، ولقاء المسلم: السلام، ومن الخطيب: الخطبة. وتحية المسجد الخالص -ولو المسجد الحرام إن لم يرد الطواف حالا ًولو مدرساً ينتظر، أو لم يرد الجلوس فيه- بركعتين فأكثر، والركعتان أولى، بل قد تجب، كأن دخل وقت خطبة الجمعة، ويكره تركها بلا عذر؛ للخبر المتفق عليه: "إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". نعم؛ من دخل قرب قيام فريضة تشرع له الجماعة فيها، وخشي لو اشتغل بها فاتته فضيلة التحرم .. انتظره قائماً، ودخلت التحية في الفريضة، فإن صلاها أو جلس ..

كره، كما تكره لخطيب دخل وقت الخطبة مع تمكنه منها، ولمريد طواف حالاً مع تمكنه منه، ولمن خاف فوت راتبة لو صلاها، ويحرم اشتغاله بها -كغيرها من السنن- عن فرض ضاق وقته أو وجب قضاؤه فوراً. وخرج بالمسجد: نحو الرباط، وبالخالص: المشاع، فلا تصح فيه عند (حج). (ثم) بعد ما مر (سنة الوضوء) وإن كان سببها متقدماً وسبب سنة الإحرام متأخراً. ودليل ندبها: الاتباع. ولو اغتسل عن جنابة واندرج الأصغر في الأكبر، أو توضا عنه .. فله أن يصلي ركعتين للوضوء، وركعتين للغسل، وأن يكتفي لهما بركعتين، أو يدرجهما في صلاة أخرى. (وتحصل التحية بفرض أونفل) آخر (هو ركعتان أو أكثر نواها) معه (أو لا)؛ إذ المقصود أن لا تنتهك حرمته بدخوله بلا صلاة فيه، ثم المراد بحصولها بغيرها عند عدم نيتها: سقوط الطلب بذلك. وتحصل فضيلتها أيضلً إن نواها، وكذا إن لم ينوها عند (م ر)، وكلام المصنف يحتمله، ويحتمل أن المراد بحصولها سقوط الطلب فقط. نعم؛ إن نفاها .. لا يحصل له فضلها، ولا يسقط طلبها، أو نذرها .. لم تندرج في غيرها. وأمَّا أقل من ركعتين، كركعة وسجدة نحو تلاوة وصلاة جنازة .. فلا تحصل به؛ للحديث المتقدم، وكالتحية غيرها مما مرَّ في ركن النية. (وتتكرر) التحية (بتكرر الدخول) ولو على قرب؛ لتجدد سببها (وتفوت بالجلوس) قبل فعلها (عامداً) عالماً وإن قصر الفصل ولو لوضوء عند غير الخطيب. نعم؛ لا تفوت بالجلوس مسوفزاً كعلى قدميه، ولا ليستريح قليلاً ثم يقوم لها، وكذا بالجلوس للشرب عند (حج)؛ لكراهته للقائم (أو ناسياً) أو جاهلاً (وطال الفصل) بقدر ركعتين بأقل مجزئ، بخلاف القصير؛ لعذره فيهما لا بالقيام وإن طال وقصد به الإعراض عنها عند (حج)، ولا بجلوسه؛ ليحرم بها جالساً. ويقوم مقامها ومقام سجدة التلاوة والشكر الباقياتُ الصالحات أربعاً.

زاد ابن الرفعة: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كما مَّر. (ويستحب زيادة) رواتب غير التي مرت، لكنها ليست متأكدة كتأكدها، وهي فعل (ركعتين قبل الظهر أو الجمعة، وركعتين بعده أو بعدها وأربع قبل العصر، وركعتين) خفيفتين (قبل المغرب)؛ للاتباع، حتى في راتبتي الجمعة، كما أوضحه الكردي. (و) ركعتين (قبل العشاء)؛ للخبر الصحيح: "بين كل أذانين -أي: أذان وإقامة- صلاة"، ويسن تأخيرها بعد إجابة المؤذن، وبعد فراغ الفرض إن خشي فوت فضيلة التحرم كغيرها من قبليات الفرائض، بل وغيرها. (و) من المندوب غير الراتب ركعتان (عند) إرادة الخروج إلى (السفر) أو غيره يفعلهما (في بيته)؛ للاتباع، ويقرأ فيهما سورتي (الإخلاص). (و) ركعتان (عند القدوم) ويبدأ بهما (في المسجد) قبل دخول منزله، ويكفيانه عن ركعتي دخوله؛ فإنهما سنة لكل دخول إليه ولو من غير سفر، وركعتان عقب الأذان ينوي بهما سنته، وركعتان عند الزفاف لكل من الزوجين، أي: بعد العقد وقبل الوقاع، وركعتان أو أربع سنة الزوال. قال السيوطي: لا يفصل بينهن بتسليم بعد الزوال قبل فعل الظهر، وركعتان لمن خرج من حمام، ولمن دخل أرضاً لا يعبد الله فيها، وللمسافر إذا نزل منزلاً، ولمن مرَّ بأرض لم يمر بها قط، وللقتل، وللخروج من مسجده صلى الله عليه وسلم. قال السيوطي: وإذا نزل به ضيق أو شدة أو خصاصة في الرزق، أو مات له نحو ولد أو قريب، أو أحزنه أمر، وللتوبة ولو من صغيرة، يقول بعدهما: اللهم إني أتوب إليك من ذنب كذا، اللهم إن هذا آخر العهد به. وركعتا رد الضالة، يقول بعدهما: اللهم رادّ الضالة وهادي الضلال، تهدي من الضلال، رٌدَّ عليَّ ضالتي بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك. (وصلاة الاستخارة): أي: طلب الخير فيما يريد أن يفعله. ومعناها في الخير: الاستخارة في تعيين وقته.

وهي: ركعتان؛ للاتباع، ويقرأ فيهما: (الكافرون)، و (الإخلاص)، ثم يدعو بعدهما بدعائها، وهو "اللهم إني أستخيرك بعلمك ... إلخ"، فإن لم يرد الاستخارة بعد الصلاة .. استخار بالدعاء ولو بنحو: اللهم اختر لي ما هو الخير، ويكررها إلى أن ينشرح صدره لشيء، ثم يمضي فيما انشرح له صدره، فإن لم ينشرح .. أخَّر إن أمكن، وإلاَّ .. شرع فيما تيسر، ففيه الخير إن شاء الله تعالى. (و) صلاة (الحاجة) وهي ركعتان، فإذا سلم .. أثنى على الله بمجامع الحمد، ثم صلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم سأل الله تعالى حاجته. (وصلاة الأوابين) وأكملها: عشرون ركعة بين المغرب والعشاء، وتندرج في غيرها عند (م ر)، وأقلها: ركعتان. (وصلاة التسبيح): أربع ركعات، يقول في كل ركعة بعد الفاتحة والسورة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. زاد في "الإحياء": ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم خمس عشرة مرة، وفي كل من الركوع والاعتدال والسجودين والجلوس بينهما وجلوس الاستراحة أو التشهد عشراً، فذلك خمس وسبعون مرة، علَّمها صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وذكر له فضلاً عظيماً فيها. منه: "لو كانت ذنوبك مثل زبد البحر، أو رمل عالج .. غفر الله لك" وحديثها حسن. قال التاج السبكي: لا يسمع بعظيم فضلها ويتركها إلا متهاون بالدين. ففي حديثها: "إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة، وإلا .. ففي كل جمعة، وإلا .. ففي كل شهر، وإلا ففي كل سنة، وإلا .. ففي العمر مرة". والأفضل لمن يصليها نهاراً: وّصْلُها، ولمن يصليها ليلاً: فَصْلُها ركعتين ركعتين. ومن البدع القبيحة: صلاة الرغائب أولّ جمعة من رجب، وصلاة نصف شعبان، وحديثهما باطل، كما قاله النووي. (ومن فاتته صلاة مؤقته) بوقت مخصوص وإن لم تشرع جماعة، أو اعتادها وإن لم تكن مؤقتة ( .. قضاها) ندباً وإن طال الزمان؛ للأمر به، وللاتباع في سنة الصبح والظهر القبلية.

(ولا يقضي) نفلاً مطلقاً، ولا (ما له سبب) كالكسوف والتحية؛ إذ لا مدخل للقضاء في ذلك؛ إذ فعله لعارض، وقد زال وإن نذره؛ لزوال سببه، ويؤيده قولهم: (لو قطع نفلاً مطلقاً .. سن قضاؤه، ولو فاته ورده من النفل المطلق .. ندب قضاؤه، وكذا من غير صلاة؛ لئلا يميل إلى الدعة) اهـ فقيدوا ندب القضاء بالنفل المطلق، فيفيد أن ذا السبب لا يقضى وإن نذره. (ولا حصر للنفل المطلق) عن الوقت والسبب؛ لخبر أبي ذر: "الصلاة خير موضوع، استكثر منها، أو أقل" فله صلاة ما شاء ولو من غير نية عدد ولو ركعة، بتشهد بلا كراهة، ولا خلاف الأولى، بخلافها في الوتر؛ للخلاف فيها فيه. (فإن أحرم) فيه (بأكثر من ركعة ... فله أن يتشهد في كل ركعتين) وهو أفضل (أو) في (كل ثلاث أو) كل (أربع) وهكذا؛ لأنه معهود في الفرائض في الجملة. قال المدابغي: (فإن قلت: عهد التشهد عقب الثانية كالصبح، وعقب الثالثة كالمغرب، وعقب الرابعة كالعصر، والخامسة عقب أيًّ .. قلت: ذلك مدفوع بقولهم: في الجملة). (ولا يجوز) ولا يصح (في كل ركعة) من غير سلام؛ إذ لم يعهد له نظير أصلاً، ظاهره: وإن لم يطول جلسة الاستراحة. قال في "التحفة": وهو مشكل؛ لما مر، إلا إن يفرق. قال الونائي: فمن تشهد بعد ركعة مفردة ولو العاشرة في عشر نواها وقد تشهد في التاسعة .. بطلت صلاته، كما لو جلس في الثالثة بقصد التشهد وإن لم يزد على جلسة الاستراحة إن تشهد في الثانية قاله (ع ش). أمَّا مع السلام .. فجائز، لكن كونه مثنى أفضل. ولو صلى عشراً بخمس تشهدات في الخمس الأُول، وتشهدٍ آخر الخمس الثانية .. لم يصح ما لم ينو في تشهد كل من الخمس الأُول أنه يقتصر عليه، ثم ينوي أخرى، وهكذا. ويسن أن يقرأ السورة ما لم يتشهد، بخلافه في الفرض لا يقرؤها بعد الثانية وإن ترك التشهد الأول؛ لأنه في الفرض له جابر، وهو السجود، بخلافه هنا.

(وله) فيه إذا أحرم بعدد (أن يزيد) على ما نواه في غير متيمم رأى الماء اثناءه (و) أن (ينقص) إن كان أكثر من ركعة (بشرط تغيير النية قبل ذلك) أي: قبل الزيادة والنقص. فلو نوى أربعاً وسلم من ركعتين، أو قام لخامسة قبل تغيير النية .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، فلو قام لزائدة سهواً أو جهلاً، ثم تذكر أو علم .. قعد وجوباً، ثم إن شاء .. استمر على ما نواه أولاً، وتشهد وسلم، وإن أراد الزيادة .. قام إليها، وسنّ له سجود السهو في الصورتين؛ للزيادة سهواً أو جهلاً. (والأفضل: أن يسلم من كل ركعتين)؛ لما صح من خبر: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وفي خبر ابن حبان: "صلاة الليل والنهار". (وطول القيام) في الصلاة (أفضل من عدد الركعات)؛ للخبر الصحيح: "أفضل الصلاة طول القنوت"، ولأن ذكره القراءة وهي أفضل من ذكر غيره. فلو صلى عشراً وأطال قيامها، وصلى آخر عشرين في ذلك الزمن .. فالعشر أفضل، كما اقتضاه كلام المصنف، واعتمده في "التحفة" و"النهاية" وغيرهما، وهو أوجه احتمالين في "الجواهر"، ويرجحه الحديث المذكور. لكن قاعدة: (إن الفرض أفضل من النفل، وإن ما يتجزأ من الواجب .. يقع القدر المجزئ منه فرضاً، وما عداه نفلاً) ترجح العشرين؛ لأن كلها، أو غالبها يقع واجباً، بخلاف العشر. (ونفل الليل المطلق أفضل) من نفل النهار المطلق؛ لخبر مسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"، وحملوه على النفل المطلق؛ لما مر في غيره، وروي: "أنَّ كل ليلة فيها ساعة إجابة"، ولخبر الحاكم: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين من قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومنهاة عن الأثم". ويسن للمجتهد: نوم القيلولة، بل هي شرط من شروطه. الثاني: ترك المعصية بالنهار. الثالث: ترك كثرة الأكل. ولو نوى القيام فغلبته عينه حتى يصبح. كتب له ما نواه، وكان نومه صدقة عليه من ربه.

(ونصفه الأخير) إن قسمه نصفين؛ أي: الصلاة فيه أفضل منها في النصف الأول؛ لقلة المعاصي فيه، وللخبر الصحيح: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل"، وخبر: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة"، كما يأتي. (وثلثه الأوسط) إن قسمه أثلاثاً (أفضل) من طرفيه؛ لخبر: "أي الصلاة أفضل؟ قال: جوف الليل"، ولأن الغفلة فيه أكثر، والعبادة فيه أثقل، وأفضل منه السدس الرابع والخامس؛ للخبر المتفق عليه: "أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داوود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه". (ويكره قيام) أي: إحياء (كل اليل دائماً) ولو بعبادة وغير صلاة؛ للخبر الصحيح: "صم وأفطر، ونم وقم" .. إلخ، ولأنه من شأنه أن يضر، لكن قال كثير: فإن لم يجد به مشقة .. استحب، لاسيما المتلذذون بمناجاته تعالى، فإن وجدها وخشي منها محذوراً .. كره، وإلا .. فلا، ورفقه بنفسه أولى؛ لأن الطبيب الأعظم قد أرشد إليه من هو أعظم قدراً ومنزلة، وفي تركه سلوك للأدب، وهضم للنفس. وخرج بـ (كل الليل): قيام بعضه، وبـ (دائماً): قيام ليال كاملة كعشر رمضان الأخيرة، وليلتي العيدين. وإنما لم يكره صوم الدهر بقيده؛ لأنه يستوفي بالليل ما فاته بالنهار، وهنا لا يمكنه نوم النهار كله أو غالبه؛ لأنه يتعطل به دينه ودنياه. (و) يكره (تخصيص ليلة الجمعة) دون غيرها، ودون ما إذا ضم إليها ليلة قبلها أو بعدها، فلا كراهة (بقيام) أي: بصلاة، فلا يكره إحياءها بغيرها، ولا بها وبغيرها. (و) يكره (ترك تهجد اعتاده) ونقصه بلا ضرورة؛ للنهي عنه في خبر: "لا تكن كفلان، كان يقوم الليل فتركه". ويسن أن يتهجد في شيء من صلاة الليل بعد نوم ولو ركعتين. (وإذا استيقظ .. مسح) النوم عن (وجهه، ونظر إلى السماء وقرأ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [البقرة:164] إلى آخر السورة) ندباً، وأن ينام أو يستريح من نعس، أو فتر عن صلاة أو غيرها حتى يذهبا.

فصل: في صلاة الجماعة وأحكامها

(وافتتاح تهجده بركعتين خفيفتين) غير الوتر؛ للاتباع (وإكثار الدعاء والاستغفار بالليل)؛ لخبر مسلم: "إن في الليل ساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة"، ولأن الليل محل الغفلة. (والنصف الأخير والثلث الأخير أهم) أي: أعظم تأثيراً في القبول؛ للخبر الصحيح: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني؟ فأستجيب له، ومن يسألني؟ فأعطيه، ومن يستغفرني؟ فإغفر له". ومعنى (ينزل): ينزل أمره أو ملائكته أو رحمته، أو هو كنايه عن مزيد القرب المعنوي والرحمة، ويجب على كل مؤمن أن يعتقد من هذا الحديث وما شابهه من المشكلات الواردة في الكتاب والسنة، كـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن:27] و (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح:10] ونحو ذلك مما يوهم الجسمية أو الجهة: أنه ليس على ظاهرة؛ لقيام الأدلة العقلية باستحالة ذلك في حقه تعالى، والأدلة الشرعية إذا خالفت الأدلة العقلية .. وجب صرف الشرعية عن ظاهرها باتفاق السلف والخلف، إمَّا مع تفويض ذلك إليه تعالى، وهو مذهب غالب السلف، أو مع التأويل، كما هو مذهب غالب الخلف. مثاله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح:10] .. فيجب باتفاق صرف اليد عن ظاهرها من الجسمية المعروفة، ونقول: له يد ليست جسماً، ولا تشبه أيدي الخلق بوجه، ثم نفوض معرفة ذلك إليه تعالى، وهو مذهب السلف، أو نؤولها بالقدرة، وهو مذهب الخلف، وقد بينت في "الأصل" هنا كثيراً من تخبيط أهل الضلال، وأوضحت ما يتعلق بذلك. * * * (فصل): فيما يتعلق بالجماعة في الصلاة من شروطها وآدابها ومكروهاتها ومسقطاتها وغير ذلك. والأصل فيها: الكتاب والسنة، كخبر الصحيحين: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".

وحقيقة الجماعة هنا: الارتباط الحاصل بين الإمام والمأموم ولو واحداً. وشرعت بالمدينة، وهي من خصائص هذه الأمة، كالجمعة والعيدين والكسوفين والاستسقاء. وفي قولهم: صلاة الجماعة فرض كفاية، قلب؛ إذ المراد الجماعة في المكتوبة فرض كفاية، أمَّا ذات الصلاة .. ففرض عين، فلذا عدل المصنف عن ذلك إلى قوله: (الجماعة) في الجمعة: فرض عين، وفي التراويح ووتر رمضان وعيد وكسوف واستسقاء سنة، وفي غير ذلك من السنن مباحة، وفي نحو الأداء بالقضاء وعكسه مكروهة، وفيما إذا اختلف نظم الصلاتين كصبح وكسوف ممنوعة. و (في) أول ركعة من (المكتوبة) غير الجمعة (المؤداة للأحرار الرجال) العقلاء البالغين المستورين غير المعذورين، والمستأجرين إجارة عين على عمل ناجز (المقيمين) ولو ببادية توطنوها (فرض كفاية). فتحصل بإقامة كلهم أو بعضهم، ويسقط الحرج عن الباقين إن كانت (بحيث يظهر بها الشعار) في محل إقامتها بأن تقام في البلد الصغيرة بمحل، وفي الكبيرة بمحال بحيث يُمكِنُ قاصدُها أن يدركها من غير مشقة ظاهرة، فلو أقاموها في البيوت أو الأسواق. لم يكف وإن ظهر بها الشعار ما لم تفتح أبوابها، بحيث لا يحتشم أحد من دخولها؛ لأن لأكثر الناس مروءات تأبى دخول بيوت الناس والأسواق. وتحصل الجماعة بالجن إن كانوا على صور الآدميين؛ وذلك لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيها الصلاة، أي جماعة .. إلا استحوذ عليهم الشيطان"، أي: غلب وإذا امتنعوا من إقامتها .. قوتلوا وإن قلنا: إنها سنة. وخرج بـ (المكتوبة): غيرها من منذورة وجنازة ونفل، وبـ (المؤداة): القضاء، وبـ (الرجال): النساء، وبـ (الأحرار): من فيه رق، وبـ (البالغين): الصغار، وبـ (المستورين): العراة، وبـ (غير المعذورين): المعذورين، وبـ (المقيمين): المسافرون، فليست في ذلك فرض كفاية -كما مر- بل سنة إلا في العراة، وفي سنة لا تشرع فيها الجماعة فمباحة وإن نذر أن يصليها جماعة، وإلا -فيما إذا اختلف فيه النظم-:

فممنوعة، وفي الأداء بالقضاء وعكسه .. فمكروهة، كما مر. (و) الجماعة (في التراويح) سنة؛ للاتباع. (و) في (وتر رمضان) سواء فعل (بعدها) أي: التراويح كما هو الأفضل أم قبلها، أم لم تفعل (سنة) أيضاً؛ لفعل الخلف عن السلف، وكذا في العيدين والكسوفين والاستسقاء. (وآكد الجماعة): الجماعة في الجمعة، ثم (في الصبح)؛ لأنها أشق، وصبح الجمعة آكد من صبح غيرها؛ لخبر: "ما من صلاة أفضل من صلاة الفجر يوم الجمعة، وما حسبت من شهدها منكم إلا مغفوراً". (ثم) في (العشاء)؛ لأنها الأشق بعد الصبح. روى مسلم: "من صلى العشاء في جماعة .. فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة .. فكأنما قام الليل كله". (ثم) في (العصر)؛ لأنها الصلاة الوسطى، فهي -من حيث ذات الصلاة- أفضل الصلوات بعد الجمعة ثم الصبح ثم العشاء ثم الظهر ثم المغرب، وأفضلية الصبح والعشاء عليها من حيث المشقة، لا الذات. (والجماعة للرجل) ولو صبياً (في المسجد أفضل) منها خارجه؛ للخبر المتفق عليه: "إن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، ولفضل المشي إليها. نعم؛ إن كان يصليها في أهله جماعة، وذهابه إلى المسجد يفوتها وقام الشعار بغيره، ولم يتعطل مسجد بغيبته .. فهو أفضل (إلا إذا كانت الجماعة في البيت أكثر) منها في المسجد على ما قاله القاضي أبو الطيب؛ لأن الفضيلة المتعلقة بذات الجماعة أفضل من الفضيبة المتعلقة بمكانها. وردَّ بأن محله حيث لم تشاركها الأخرى، وهنا الجماعة وجدت في الموضعين، وزادت في المسجد بفضيلته، والكلام في غير المساجد الثلاثة. أمَّا هي .. فالجماعة القليلة فيها أفضل من الكثيرة في غيرها، بل قال المتولي: الانفراد فيها أفضل من الجماعة في خارجها، واعتمده (م ر)، وأجاب عن القاعدة المذكورة بأنها أغلبية.

(وما كثرت جماعته) في غير ما مر (أفضل) مما قلت؛ لخبر: "وما كان أكثر .. فهو أحب إلى الله تعالى" (إلا إذا كان إمامها) أي: الجماعة الكثيرة (حنفياً) أو نحوه مما لا يعتقد بوجوب بعض الواجبات وإن علم أنه يأتي بها؛ لأنه يقصد بها النفلية، وهو مبطل عندنا، لكن جوزوا الاقتداء به؛ رعاية لمصلحة الجماعة، واكتفاءً بصورتها. (أو فاسقاً) أو متهماً به (أو مبتدعاً) ببدعة لا يكفر بها، كمعتزلي ورافضي ومجسم وجهوي. (أو) كان (يتعطل) عن الجماعة بغيبته عنه (مسجد قريب) منه أو بعيد عنه؛ لكون جماعته لا يحضرون إلا إن حضر، أو كان محل الجماعة الكثيرة مبنياً من شبهة، أو شك في ملك بانيه لبقعته، أو كان إمامه لا يصلي في الوقت المحبوب، أو سريع القراءة والمأموم بطيئها، بحيث لا يدرك معه الفاتحة ( .. فالجماعة القليلة) فيما ذكر، وما شابهه مما فيه توفر مصلحة أو زيادتها مع الجمع القليل دون الكثير (أفضل)؛ لما فيه من المصلحة المقصودة للشارع، بل الصلاة خلف المبتدع والذين قبله مكروهة؛ للخلاف في صحتها خلفهم، أمَّا إذا لم يحضر بحضوره أحد .. فتعطيله والذهاب لمسجد الجماعة أولى. (فإن لم يجد إلا جماعة إمامها مبتدع ونحوه) ممن يكره الاقتداء به ( .. فهي) أي: الجماعة معهم (أفضل من الانفراد) واعتمده (م ر) تبعاً للسبكي وغيره. وعند (حج): الانفراد أفضل من الجماعة وراء من ذكر. (وتدرك) فضيلة جميع (الجماعة) بإدراك جزء من الصلاة مع الإمام من أولها أو أثنائها أو آخرها بأن بطلت صلاة الإمام، أو فارقه بعذر عقب اقتدائه به من أولها أو من أثنائها، أو سلم عقب اقتدائه به وإن لم يجلس معه. (ما لم يسلم) أي: يشرع في السلام عند (م ر)، أو ينطق بالميم من (عليكم) عند (حج) قبل أن يفرغ المأموم من تحرمه، لكن ليس كفضيلة من أدركها كلها. ولذا يسن لمن أدرك بعض الجماعة انتظار جماعة أخرى إن ترجاها، ولم يفت بانتظاره لها وقت الاختيار، ولو قصدها فلم يدركها .. كتب له أجرها؛ لحديث فيه، وهو ظاهر مدركاً لا نقلاً.

(و) تدرك (فضيلة) تكبيرة (الإحرام) التي هي صفوة الصلاة (بحضور) المأموم (تحرم الإمام واتباعه) له فيها (فوراً)؛ لخبر البزار: "لكل شيء صفوة، وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى، فحافظوا عليها". نعم؛ يعذر في وسوسة خفيفة، فلا يضر الإبطاء لأجلها، وهي التي لا يؤدي الاشتغال بها إلى فوات ركنين فعليين، أو ما لا يطول الزمان بها عرفاً، حتى لو أدى إلى فوات القيام أو معظمه .. فاتته. ولا يسن الإسراع لخوف فوات التحرم، بل يندب أن يمشي بسكينة، كما لو أمن فوتها، وكذا إن خاف فوت الجماعة في غير الجمعة. (ويستحب) للإمام؛ إذ الخلاف والتفصيل الأتي إنما هو فيه. أمَّا المنفرد .. فيندب له انتظار من يريد الاقتداء به ولو مع نحو تطويل؛ إذ لا يتضرر به أحد، ومثله إمام من مَرَّ. (انتظار الداخل) لمحل الصلاة التي ظن اقتداءه به (في الركوع) غير الثاني من صلاة الكسوف (و) في (التشهد الأخير) من كل صلاة تشرع الجماعة فيها؛ لخبر أبي داوود: (أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر ما دام يسمع وقع نعل)، ولأنه إعانة على خير. وإنما ينتظره (بشرط): أن يعتقد الداخل إدراك الركعة بالركوع، وفضيلة الجماعة بالتشهد، وأن لا يعتاد البطء بتحرمه، وأن لا يظن إتيانه بالتحرم على غير الوجه الشرعي، وأن لا يخشى خروج الوقت في الجمعة مطلقاً، وفي غيرها إن شرع فيها، ولم يبق ما يسعها من الوقت. و (أن لا يطول الانتظار) بحيث لو وزع على جميع أفعال الصلاة .. لظهر له أثر محسوس في كل على حياله، وإلا .. كره. ولو لحق آخر وكان انتظاره وحده لا طول فيه، ومع من قبله فيه طول .. كره. قال (م ر): بلا شك، قاله الإمام، لكن في "الإمداد": أنه لا يكره عند غير الإمام.

(و) أن (لا يميز بين الداخلين) ولو لملازمة الصلاة، أو علم أو صلاح أو مشيخة أو نحوها، بل يسوي بين انتظارهم، وأن يكون انتظاره لله تعالى، فإن ميز بينهم أو انتظر لا لله تعالى .. كره، وقيل: يحرم. وعند توفر الشروط المذكورة يسن الانتظار ولو لإمام غير محصورين وإن لم تغن صلاته عن القضاء، وهذه الشروط تجري في انتظار المنفرد إلا تطويل الانتظار، كما مر. (ويكره أن ينتظر في غيرهما)؛ لعدم الفائدة، كما يكره فيهما عند فقد شرط مما مر، إلا عند ضيق الوقت .. فيحرم. تنبيه: أشعر تعليلهم -لندب الانتظار فيما مر بحصول الفائدة به من إدراك الركعة أو الجماعة. وبمنعه في غيرهما بعدم الفائدة- أنه متى وجدت للانتظار فائدة في غير ما مر .. ندب. ولذا زادوا الانتظار في السجود الثاني للمتخلف لإتمام فاتحته حتى يركع؛ خوفاً من فوات الركعة عليه. وندبوا للإمام تطويل الخطبة لمن دخل قرب الإقامة، واشتغل بالتحية؛ ليدرك الركعة الأولى، ولمن علم من حاله أنه إن ركع قبل إحرامه يحرم هاوياً، فيسن انتظاره قائماً حتى يحرم؛ خوفاً من بطلان صلاته. ويؤخذ منه سن انتظار مسبوق اشتغل بسنة وتأخر بعد ركوع إمامه؛ ليأتي من الفاتحة بقدر ما أتى به من المسنون، وكذا مسبوق تأخر جهلاً لإتمام الفاتحة بعد ركوع إمامه، فينتظرهما في الركوع؛ ليدركا الركعة. (ولا ينتظر في الركوع الثاني من) صلاة (الكسوف)؛ لأن الركعة لا تحصل بإدراكه. ولو رأى مصل نحو حريق .. خفف، وندب له قطعها لإنقاذ نحو مال، ووجب لإنقاذ حيوان محترم. (ويسن) للمصلي ولو في وقت الكراهة (إعادة الفرض) أي: المكتوبة ولو جمعة (بنية الفرض) أي: الصوري، وإلا .. فهي في الحقيقة نافلة، أو بنية إعادة الصلاة

المفروضة، حتى لا تكون نفلاً مبتدأ، أو بنية ما هو فرض على المكلف، كما في صلاة الصبي عند (حج). قال (ب ج): ولا يجب عليه ملاحظة ذلك، بل الشرط أن لا ينوي الفرض حقيقة. واختار الإمام: أنه ينوي الظهر أو العصر، وهكذا من غير تعرض لنية الفرضية، ويجب فيها القيام، ويحرم قطعها؛ لأنهم أوجبوا لها أحكام الفرض؛ لكونها على صورته، إلا في التيمم .. فجوزوا جمعها مع الأولى بتيمم واحد (مع منفرد أو جماعة وإن كان قد صلاها معها) أو زادت الأولى بفضيلة ككثرتها، أو كون إمامها أعلم. وإنما تسن بشروط: كونها فرضاً أو نفلاً تشرع فيه الجماعة ولو وتراً عند (حج)، وأن تكون مؤداة لا مقضية، وكون الأولى صحيحة وإن لم تغن عن القضاء، كمتيمم لبرد لا فاقد الطهورين؛ إذ لا يجوز تنفله، وأن لا تزيد الإعادة على مرة، وأن ينوي بها الفرضية، على ما مر، وأن تقع جماعة من أولها إلى آخرها عند (م ر)، واكتفى (حج) فيها بركعة كالجمعة، وأن يقع منها في الوقت ركعة فأكثر، وأن ينوي الإمام الإمامة، وأن يكون فيها ثواب جماعة حال الإحرام بها، فلو انفرد عن الصف أو اقتدى بنحو فاسق .. لم تنعقد؛ للكراهة المفوتة لفضيلة الجماعة، وأن تعاد مع من يرى جواز الإعادة، فلو كان الإمام شافعياً والمأموم حنفياً .. لم تصح؛ لأن المأموم لا يرى جواز الإعادة، فكان الإمام منفرد بخلاف العكس، وأن لا تكون صلاة خوف أو شدته؛ لأن المبطل إنما احتمل فيها، للحاجة، وأن لا تكون إعادتها للخروج من الخلاف، وإلا .. ندب قضاؤها، ولو منفرداً. (وفرضه الأولى)؛ لما مر، ولخبر: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة .. فصلياها معهم، فإنها لكما نافلة"، و (صليتما): يصدق بالانفراد والجماعة، فلو بان بطلانها .. لم تكف الثانية وإن نوى بها الفرض على المعتمد؛ إذ المراد الفرض صورة لا حقيقة. نعم؛ تنعقد له الثانية نفلاً مطلقاً؛ لعذره. وفي القديم: أن الفرض أحدهما، يحتسب الله ما شاء منهما، وقيل: كلاهما. (ولا يندب إعادة) المنذورة أو النفل غير ما مر، ولا صلاة (الجنازة)؛ إذ لا يتنفل -أي: يبتدأ- بها من غير ميت. * * *

فصل: في أعذار الجمعة والجماعة

(فصل: أعذار الجمعة والجماعة) المرخصة لتركهما حتى تنتفي الكراهة على القول بسنيتها، والحرمة على القول بأنها فرض عين أو كفاية، وفي الجمعة فلا رخصة في تركها تمنع الإثم، أو الكراهة إلا لعذر عام، نحو: (المطر) والثلج والبرد ليلاً أو نهاراً (إن بلَّ) كل منهما (ثوبه) ولو لبعد منزله، أو كان نحو البرد كباراً يؤذي (ولم يجد كناً) يمشي فيه؛ للاتباع، أو خاص (و) ذلك نحو (المرض الذي يشق) معه الحضور (كمشقته) مع المطر وإن لم يبلغ حداً يسقط القيام في الفرض، وهي التي تذهب الخشوع، كما في "الإيعاب" وغيره، لكن التي تذهب الخشوع تسقط القيام في الصلاة، فينافي قولهم: (وإن لم تسقط القيام في الفرض) ثم رأيت الرشيدي أشار لذلك، بخلاف اليسير، وحمى خفيفة فليس بعذر. (وتمريض من لا متعهد له) ولو غير قريب ونحوه، أو له متعهد، لكنه مشغول بشراء نحو أدوية له؛ إذ دفع ضرر الآدمي من المهمات. (وإشراف القريب) له (على الموت) وإن لم يأنس به (أو) كونه (يأنس به) ولو أجنبياً له متعهد (ومثله الزوجة والصهر) وهو كل قريب لها (والمملوك والصديق والأستاذ والمعتق والعتيق)؛ لتضرره، أو شغل قلبه السالب لخشوعه بغيبته عنه. (والخوف) بغير حق (على) معصوم من (نفسه أو عرضه أو ماله) أو اختصاصه وإن قلاَّ، بل وإن كانا لغيره وإن لم يلزمه الدفع عنهما. ومن ذلك: خوفه على نحو خبز في تنور ولا متعهد له غيره وإن علم حال وضعه أنه لا ينضج إلا بعد فوات الجمعة مثلاً ما لم يقصد به اسقاطها، وكذا كل عذر تعاطاه بقصد ذلك فيأثم به، ولا تسقط عنه. لكن في "النهاية" كـ"التحفة": لو خشي تلفه .. سقطت عنه؛ للنهي عن إضاعة المال.

وكخوفه على ما ذكر خوفه من نحو جراد على نحو زرع، وفوت نحو ضائع لو اشتغل عنه بالجماعة. (و) خوف (ملازمة) أو حبس (غريمه) الذي له عليه دين (وهو معسر) عنه، وقد تَعسَّر إثبات إعساره، بخلاف الموسر بما عليه، والمعسر القادر على الإثبات. نعم؛ إن كان الحاكم لا يثبت إعساره إلا بعد حبسه .. فعذر. (ورجاء عفو) ذي (عقوبة عليه) ولو على بعد أو بمال، سواء كانت العقوبة قوداً أم حداً أم تعزيراً، فيعذر زمن تغيبه، لا مطلقاً، بل مدة يسكن فيها عادة غضب المستحق، بخلاف ما لا يرجو العفو عنه ذلك، كحدود الله كحد زنا وشرب خمر إذا ثبت عند الإمام؛ إذ لا يصح العفو عن ذلك، وكما عُلم بقرائن الأحوال أن المستحق لا يعفو عنه. (ومدافعة الحدث) بول أو ريح أو غائط، وكل خارج من الباطن كدم، وفي كل مشوّش للخشوع. وإنما يكون عذراً (مع سعة الوقت) بحيث لو تفرغ عنه .. أدرك الصلاة كلها في الوقت، وإلا .. حرم إن لم يخش ضرراً يبيح التيمم، أو سبقه. (وفقد لبس لائق) به بحيث تختل مروءته بخروجه بدونه، وكذا فقد مركوب كذلك. وهل لو كان بمحل الجماعة من لا تليق به مجالسته أو يتأذى به كذلك، أم لا؟ فيه ينظر دقيق، ورجحوا أنه غير عذر. (وغلبة النوم) والنعاس بأن يعجز عن دفعهما؛ لمشقة الانتظار حينئذٍ. (و) من العذر العام (شدة الريح) والريح الباردة، وظلمة شديدة (بالليل) أو بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس دون النهار. نعم؛ لو تأذى بالشديدة فيه كتأذيه بالوحل .. فعذر، كالسموم بالنهار. (و) من الخاص (شدة الجوع والعطش) بحضرة مأكول أو مشروب يشتاقه، أو قرب حضوره، أو بعد مع اتساع الوقت؛ للأخبار. ومنها: "لا صلاة بحضرة طعام"، وحينئذٍ يكسر شهوته ولا يشبع إلا في نحو لبن،

فيأتي عليه إن لم تبق نفسه متعلقة به، وإلا .. شبع الشبع الشرعي: ثلث للطعام وثلث للماء وثلث للنفس. (و) من العام شدة (البرد) ليلاً ونهاراً وإن ألفه (و) شدة (الوحل) -بفتح الحاء- بأن لم يأمن معه التلويث أو الزلق، وكثرة ثلج أو برد بالأرض بحيث يشق المشي عليهما، كمشقة الوحل .. فعذر ليلاً ونهاراً. نعم؛ تلويث أسفل نحو الخف ليس بعذر. (و) شدة (الحر ظهراً) عند (حج)، وعند (م ر) مطلقاً وإن وجد ظلاً. نعم؛ السموم عذر ليلاً ونهاراً. (و) من الخاص (سفر الرفقة) قبل الجماعة لمريد سفر مباح وإن قصر، بحيث لو تخلف .. لاستوحش. (وأكل منتن) كبصل وثوم، وكذا فجل في حق من يتجشأ به (نيء) - بكسر النون، وبالمد والهمز- أو مطبوخ بقي له ريح يؤذي للنهي عن دخول المساجد لمن أكل ذلك. وألحق بأكل ذلك كل كريهٍ من بدنه أو مماسه، كذي صنان وقصاب، ومن ثم منع نحو أجذم وأبرص من مخالطة الناس. وإنما يكون كل مما عذراً (إن لم تمكنه) أي: تسهل عليه (إزالته) وإلا .. فليس بعذر وإن أكله لعذر. نعم؛ إن أكله بقصد إسقاط نحو الجمعة .. وجب عليه إزالته، فإن لم تمكن .. وجب عليه الحضور، واعتزال الناس. قال الشرقاوي: وأكل ذي ريح كريه لمن بالمسجد أو يريد دخوله ولم تسهل إزالته مكروه، وكذا لغيره إن وجد غيره يقوم مقامه في نحو التأدم به، ولم تتق نفسه إليه، ولم يزله قبل الاجتماع. (و) من العام (تقطير) الماء من نحو (سقوف الأسواق) التي في طريقه إلى محل الجماعة، ولا طريق له سواه وإن لم تبل ثوبه؛ لغلبة النجاسة والقذارة فيها. ومن الأعذار أيضاً: نحو زلزلة، وسمن مفرط، وسعي في استرداد مال يرجو حصوله، وعمىً لمن لم يجد قائداً ولو بأجرة وجدها وإن أحسن المشي بالعصا؛ إذ قد

فصل: في شروط الإمام

يحدث في طريق ما لم يعلمه ويتأذى به، واشتغال بتجهيز ميت، ووجود من يؤذيه في طريقه، وليالي زفاف في مغرب وعشاء، وتطويل إمام على المشروع، وتركه سنة مقصودة، وسرعة قراءته والمأموم بطيئها. وهذه الأعذار تمنع الإثم أو الكراهة لمن لم تتأت له الجماعة في بيته، ولا تحصل فضيلة الجماعة. نعم؛ من كان ملازماً لها قبل العذر وقاصداً أنه لولا العذر لخرج إليها .. فيحصل له أجر يحاكي أجر الفاعل لها. أمَّا من تأتت له الجماعة في بيته .. فلا يسقط عنه الطلب وإن قام الشعار بغيره. * * * (فصل): في شروط الإمام. (شرط صحة القدوة) في الإمام (أن يعلم) المقتدي (بطلان صلاة إمامه بحدث أو غيره) مما اتُّفق على بطلان الصلاة به ككفر، وكشف عورة؛ لأنه حينئذٍ ليس في صلاة مع تقصير المأموم. (وأن لا يعتقد بطلانها) أو يظنه بظن مستند لاجتهاده، أو اجتهاد مقلده (كمجتهدَيْن اختلفا) اجتهاداً (في القبلة) ولو بالتيامن والتياسر، فصلى كل لجهة غير التي صلى إليها الآخر. (أو) في ماءين في (إناءين أو ثوبين) طاهر ومتنجس، فتوضأ أو لبس كل منهما ما ظن طهارته، فليس لأحدهما الاقتداء بالآخر؛ لاعتقاده بطلان صلاته، فإن تعدد الطاهر ولم يظنّ من حال غيره شيئاً .. صح اقتداء بعضهم ببعض على الأصح ما لم يتعين إناء أو ثوب واحد للنجاسة. فلو اشتبه خمسة من آنية فيها واحد متنجس على خمسة من الناس، فاجتهدوا، فظن كلٌّ طهارة إناء فاستعمله، وأمَّ بالباقين في صلاة من الخمس .. أعاد كل ما ائتم فيه آخراً، فلو ابتدؤا بالصبح .. أعادوا العشاء، إلا إمامها .. فيعيد المغرب؛ لتعين إنائي إماميهما للنجاسة.

(وكحنفي علمه) شافعي اقتدى به (ترك فرضاً) عند الشافعي كالبسملة أو الاعتدال. قال (حج): ما لم يكن أميراً، وإلا .. فتصح عند خوف الفتنة، وخالفه (م ر) وغيره، أو أخل بشرط، كأن لمس زوجته ولم يتوضأ، فلا يصح اقتداء الشافعي به حينئذٍ؛ اعتباراً بعقيدة المأموم، بخلاف ما لو علمه .. افتصد؛ لأنه يرى صحة صلاته وإن اعتقد هو بطلانها. وقيده جمع بما إذا نسي الحنفي أنه افتصد؛ لجزمه حينئذٍ بالنية، وإلا .. فهو متلاعب، واعتمده (م ر)، ورده (حج) لجزمه بأنه متلاعب في اعتقاده، لا في اعتقادنا. أما إذا لم يعلم أنه ارتكب ما يخل بصلاته وإن شك فيه .. فتصح خلفه؛ لأن الظاهر أنه يراعي الخلاف، ويأتي بالأكمل عنده، بل يجب على إمام منصوب بمحل لم تجر العادة فيه بمذهب معين، وكان يصلي خلفه غير أهل مذهبه أن يراعي غيره من أهل غير مذهبه، وإلا .. حرم عليه، ولم يستحق معلوم تلك الإمامه. (و) الثاني: (أن لا يعتقد) المأموم (وجوب قضائها) على الإمام (كمقيم تيمم)؛ لفقد ماء بمحل يغلب فيه وجوده، ومحدث صلى مع حدثه؛ لفقد الطهورين، ومتحيرة وإن كان المأموم مثله على الأصح؛ لعدم الاعتداد بصلاته من حيث وجوب قضائها، فكانت كالفاسدة وإن صحت؛ لحرمة الوقت، هذا إن علم المأموم بحاله قبل الصلاة وإن نسي، وإلا .. صحت خلفه ولا قضاء وإن علم ذلك بعد الصلاة. أما من لا قضاء عليه .. فتصح خلفه، وإن كان قاعداً أو مضطجعاً. (و) الثالث: (أن لا يكون) الإمام (مأموماً) حال الاقتداء به؛ لاستحالة كونه تابعاً ومتبوعاً (ولا مشكوكاً فيه) أي: في كونه إماماً أو مأموماً. فلو رأى رجلين يصليان وتردّد في أيهما الإمام .. لم يصح اقتداؤه بواحد منهما، وإن ظنه الإمام بالاجتهاد عند (حج)؛ إذ لا مميز إلا النية، ولا اطلاع عليها. وأجاب (م ر) بأن للقرائن مدخلاً في النية كما قالوه في: بيع الوكيل المشروط عليه الإشهاد بالكناية عند توفر القرائن، وكالشك في كونه مأموماً: الشك في أنه هل تلزمه الإعادة، أم لا؟ وخرج بـ (حال الاقتداء به): ما لو انقطعت القدوة، فقام مسبوق فاقتدى به آخر، أو مسبوقون فاقتدى بعضهم ببعض .. فتصح إلاَّ في الجمعة مطلقاً عند (م ر).

(و) الرابع: أن (لا) يكون (أمياً) ولو في سرية وإن لم يعلم بحاله؛ لأن الإمام بصدد التحمل عن المأموم، وهذا غير صالح له (وهو) هنا (من لا يحسن حرفاً من "الفاتحة") بأن عجز عنه بالكلية، أو عن إخراجه من مخرجه، أو عن أصل تشديد منها لرخاوة في لسانه ولو في السرية في الجديد. ويجوز اقتداؤه بمن يجوز كونه أمياً، أو به مانع اقتداء آخر إن لم تقم قرينة ظاهرة على ذلك كإسراره في محل الجهر، وإلا .. لم يصح الاقتداء به، فإن حدث له ذلك أثناء الصلاة خلفه .. فارقه وجوباً. (إلا إذا اقتدى به مثله) في الحرف المعجوز عنه، وإن اختلفا بدلاً، كأن عجزا عن الراء، وأبدله الإمام غيناً، والمأموم لاماً، بخلاف عاجز عن راء بعاجز عن سين وإن اتفقا في البدل؛ لإحسان أحدهما ما لا يحسنه الآخر، وإلا إذا كان الإبدال قراءة شاذة، كما مر في الفاتحة. ومن الأمي: أرتٌ يدغم في غير محله، كالمتقيم بإبدال السين تاءً، وإدغام أحدهما في الآخر. وألثغ يبدل حرفاً، بآخر كمن يقرأ غير المغضوب بالعين المهملة في (غير) سواء أدغم، أم لا، فكل أرت ألثغ، ولا عكس. نعم؛ لا تضر لثغة يسيرة بأن لم تمنع أصل مخرجه وإن لم يكن الحرف صافياً. وتكره القدوة بـ (التمتام)، وهو من يكرر التاء، والقياس: التأتأء. وبـ (الفأفأه) -بهمزتين وبالمد- وهو من يكرر بالفاء، و (الوأواء) وهو من يكرر الواو، وكذا سار الحروف من الفاتحة وغيرها. وكذا تكره بلاحن لحناً لا يغير المعنى، فإن غيره ولو في غير (الفاتحة) أو أبطله .. أبطل صلاة من أمكنه التعلم ولم يتعلم؛ لإتيانه بما ليس بقرآن. وكاللحن هنا: الإبدال، لكنه يبطل وإن لم يغير المعنى كما مر وإن عجز لسانه أو لم يمض زمن يمكن فيه التعلم، فإن كان في (الفاتحة) أو بدلها .. فكأمي، أو في غيرها وغير بدلها .. صحت صلاته والقدوة به، وكذا إن جهل وعذر، أو نسي أنه لحن أو أنه في الصلاة.

لكن قال الرشيدي: فيه -أي: الأخير- وقفة؛ لأن حقه الكف عن ذلك وإن لم يكن في صلاة. (و) الشرط الخامس: (أن لا يقتدي الرجل) أي: الذكر (بالمرأة) أو الخنثى، ولا الخنثى بامرأة أو خنثى؛ لما صح خبر: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وروى ابن ماجه: "لا تؤمنّ المرأة رجلاً". بخلاف اقتداء المرأة بالمرأة وبالخنثى وبالرجل، والخنثى بالرجل، والرجل بالرجل فيصح؛ إذ لا محذور. (ولو صلى خلفه) أي: خلف من ظنه أهلاً للإمامه (ثم تبين) بعد الصلاة (كفره) ولو مخفياً كزنديق (أو جنونه أو كونه امرأة) أو خنثى لغير امرأة (أو مأموماً أو أمياً) أو تاركاً للفاتحة في جهرية -قال الشرقاوي: أو في سرية- أو للبسملة، أو تجب عليه الإعادة، أو تاركاً تكبيرة الإحرام أو الاستقبال، ونحو ذلك مما من شأنه أن لا يخفى، ولو على بعد ( .. أعادها) وجوباً؛ لتقصيره بترك البحث عما ذكر. (لا إن بان) إمامه متلبساً بما شأنه أن يخفي .. فلا إعادة؛ لعدم تقصيره، وذلك كأن بان (محدثاً أو جنباً) ولو في جمعه وزاد على الأربعين، أو حائضاً، أو تاركاً للنية أو للفاتحة في سرية أو للتشهد (أو عليه نجاسه خفية) في ثوبه أو بدنه أو ملاقيهما (أو ظاهرة) -على ما في "التحقيق"- وهي التي تأملها المأموم .. رآها، ويفرض نحو البعيد قريباً، وقيل: هي العينية، والخفية ضدها (أو قائماً لركعة زائدة) وقد ظنه في أصلية فقام معه وأتى بأركانها كلها لحسبان هذه الركعة ولو في جمعة؛ لعدم تقصيره بخفاء الحال عليه. بخلاف ما لو تحمل عنه المحدث ومن بعده الفاتحة .. لم تحسب له الركعة التي تحملها عنه فيها، وما لو علم الخلل قبل الاقتداء .. فلا تنعقد وكذا لو ظنه وإن بان أن لا خلل؛ لعدم الجزم بالنية، فإن علمه في أثنائها: فإن كان مما لا يطلع عليه كالحدث .. لم يضر، لكن تجب مفارقته إن بقي في الصلاة؛ لبقاء القدوة الصورية.

فصل: في شروط صحة الجماعة

أو مما يطلع عليه عادة .. وجب استئنافها؛ لتبين عدم انعقادها؛ إذ القاعدة: أنَّ كل ما يوجب الإعادة إذا طرأ في الأثناء ولم يفارقه حالاً، أو ظهر .. يوجب الاستئناف، ولا يجوز الاستمرار مع نية المفارقة، وما لا يوجبها لا يوجب الاستئناف، ويجوز الاستمرار مع نية المفارقة عند علمه به. (ولو نسي حدثه) -أي: إمامه أو شيئاً مما بعده بعد علمه لذلك- فاقتدى به ولم يحتمل زواله (ثم تذكره .. أعاد)؛ استصحاباً لحكم العلم مع نسبته في النسيان إلى نوع تقصير، والله أعلم. * * * (فصل): في باقي شروط الاقتداء وبعض آدابه ومكروهاته. (يشترط لصحة الجماعة) بعد توفر صفات الإمام المتقدمة (سبعة شروط: الأول: أن لا يتقدم) المأموم (على إمامه) في الموقف -أي: المكان- لا بقيد الوقوف، فإن تقدم يقيناً عليه في غير شد خوف .. لم تصح؛ لخبر: "إنما جعل من الإمام ليؤتم به" و (الائتمام): الاتباع، أما لو شك فيه .. فلا يضر سواء جاء من خلفه، أم من أمامه. والعبرة في التقدم في القائم (بعقبه) أي التي اعتمد عليها من رجليه أو إحداهما، وهو مؤخر القدم مما يلي الأرض (أو بأليتيه إن صلى قاعداً) ولو راكباً (أو بجنبه إن صلى مضطجعاً) أو برأسه إن صلى مستلقياً. فمتى تقدم في جزء من صلاته بشيء مما ذكر في غير شدة خوف .. لم تصح، ولا عبرة بغير ما ذكر ما لم يعتمد على ذلك الغير وحده، كأصابع القائم وركبتي القاعد، وإلا .. فالعبرة بما اعتمد عليه. فلو اعتمد على إحدى رجليه، وقدم الأخرى على رجل الإمام .. لم يضر، وإن اعتمد عليهما .. ضر عند (حج)، ولم يضر عند (م ر)، وهو قياس الاعتكاف فيما لو أخرج إحدى رجليه من المسجد، واعتمد عليهما.

والضابط في ذلك: أن لا يتقدم المأموم بجميع ما اعتمد عليه على جزء مما اعتمد عليه الإمام في قيام أو غيره وإن اختلفا، كأن كان الإمام مثلاً قائماً، والمأموم ساجداً، وفي هذه الحالة قد يتقدم المأموم على الإمام إذا لم يعتمد المأموم على قدميه، بل على ركبتيه ويديه وكذا في نهوضه إلى القيام، فليتنبه له. (فإن ساواه .. كره) كراهة مفوتة لفضيلة الجماعة فيما ساواه فيه فقط، وكذا يقال في كل مكروه من حيث الجماعة. قال في "التحفة" كـ"النهاية": الفائت هنا فيما إذا ساواه في بعض السبعة والعشرون في ذلك البعض الذي وقعت فيه المساواة، لكن قال السيد عمر البصري: إن أراد فوت فضيلة السبعة والعشرين من حيث ذلك المندوب الذي فوته .. فواضح، أو مطلقاً، فعدم الإتيان بفضيلة لا يخل بفضيلة ما أتى به، وسبقه إلى ذلك (سم) والطبلاوي، ويجري ذلك في غيره من المكروهات الآتية وغيرها. (ويندب) للمأموم ولو امرأة اقتدى وحده بمستور (تخلفه عنه) أي: الإمام (قليلاً)؛ إظهاراً لرتبة الإمام، ولأنه الأدب، والأفضل في الذكر أن تتأخر أصابعه عن عقب الإمام يسيراً بحيث يخرج عن محاذاته. ووقع في عبارت: أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع، ولعله الأقل في أداء السنة، بدليل أنه: (إذا جاء آخر .. أحرم عن يساره، ثم يتقدم أو يتأخران)؛ إذ التقدم والتأخر لا يكون بعد ثلاثة أذرع (وأن يقف الذكر) إن لم يحضر ذكر غيره (عن يمينه) وإن فاته نحو سماع قراءته؛ لخبر ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه وقف عن يساره صلى الله عليه وسلم، فأخذ برأسه، فأقامه عن يمينه) فيدب لمن رأى من يفعل خلاف السنة أن يرشده إليها، فإن لم يقف عن يمينه بل عن يساره أو خلفه أو تأخر عنه كثيراً .. كره وفاتته فضيلة الجماعة. (فإن جاء) ذَكَرٌ (آخر .. فعن يساره) يحرم إن وجد محلاً، وإلاَّ .. فخلفه، ثم يتأخر إليه مَنْ على اليمين، فإن خالف ما ذكر .. كره، فإن زالت المخالفة بنحو تأخر من عن يمينه إلى من أحرم خلفه .. زالت الكراهة. قال (ب ج): ولو قيل: إن الجاهل يغتفر له تلك المخالفة ولو مخالطاً .. لم يبعد.

(ثم) بعد إحرام الثاني (يتقدم الإمام أو يتأخران) في القيام أو الاعتدال أو الركوع (وهو) أي: تأخرهما (أفضل) من تقدم الإمام؛ لأنه متبوع، فلا يناسبه الانتقال. ولو استمرا على حالهما من غير ضم أحدهما للآخر بعد تقدم الإمام أو تأخرهما .. استمرت الفضيلة؛ لطلبه ابتداء قاله (ب ج)، ولو لم يمكن إلا تقدم الإمام أو تأخرهما .. فعل الممكن، فإن لم يفعل .. كره في حق من أمكنه فقط. وأصل ذلك: خبر مسلم عن جابر، قال: (قام صلى الله عليه وسلم فقمت عن يساره، فأدارني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعاً حتى أقامنا خلفه). أما إن تأخر من على اليمين قبل إحرام الثاني أو لم يتأخرا، أو تأخرا في غير ما مر .. فيكره. (ولو حضر ذكران) ابتداء معاً أو مرتباً ( .. صفا خلفه) بحيث يكونان محاذيين لبدنه. (وكذا) إذا حضرت (المرأة) وحدها (أو النسوة) فقط، فتقف هي أو هن خلفه، ولو محارمه؛ للاتباع. ولو جاء ذكر وامرأة .. أحرم الذكر عن يمينه، والمرأة خلفهما، وحينئذٍ يحصل لكل فضل الصف الأول. (و) أن (يقف خلفه الرجال) ولو أرقاء إن وسعهم الصف، وإلا .. قدم الأحرار إن لم يسبق إليه الأرقاء، ولم يفضلوا الأحرار بنحو علم. (ثم) إن تم صفهم .. صف خلفهم (الصبيان) وإن كانوا أفضل من الرجال، أو كان الرجال فسقة، فإن لم يتم صف الرجال .. كمل بالصبيان، فيدخلون الصف على أي صفة اتفقت، وهذا (إذا لم يسبقوا) أي: الصبيان (إلى الصف الأول) أو غيره (فإن سبقوا إليه .. فهم أحق به) فلا ينحون منه للرجال ولو قبل التحرم؛ لأنهم من جنسهم يقيناً، بخلاف الخناثى والنساء فينحون عنه ولو بعد التحرم إن لم يشق. (ثم) بعد الصبيان وإن لم يكمل صفهم (الخناثى، ثم) بعدهم وإن لم يكمل صفهم (النساء).

وظاهر إطلاقهم: أن البالغات وغيره سواء، وقياس الرجال: تقديم البالغات؛ وذلك لخبر مسلم: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهي" أي: البالغون العاقلون، ثم الذين يلونهم ثلاثاً، ومتى خولف الترتيب المذكور .. كره، وكذا كل مندوب يتعلق بالموقف وتفوت به فضيلة الجماعة. (وتقف) ندباً (إمامتهن) أي: النساء (وسطهن)؛ لأنه أستر لهن، ولثبوته من فعل عائشة وأم سلمة. قال الكردي: المعروف من كلامهم ندب مساواة إمامتهن لهن، لكن قال الشوبري: مع تقدم يسير. (و) يقف (إمام العراة) أو المستورين (غير المستور) إن كان فيهم بصير ولا ظلمة (وسطهم) -بسكون السين- ويقفون صفاً واحداً إن أمكن؛ لئلا ينظر بعضهم عورة بعض، فإن كانوا عمياً أو في ظلمة .. تقدم إمامهم. وفي "التحفة": ويسن أن لا يزيد بين كل صفين -والأول والإمام- على ثلاثة أذرع فإن زاد على ذلك .. كره للداخلين أن يصفوا مع المتأخرين، بل يصفوا بينهما. (ويكره) للمأموم (وقوفه منفرداً عن الصف) من جنسه ابتداء ودواماً؛ للنهي الصحيح عنه، وللخلاف في صحتها حينئذٍ، فينبغي أن يدخل الصف وإن فاتته الركعة ولو الأخيرة؛ لأن الخلاف في هذا أقوى من القول بأن الجماعة لا تدرك إلا بركعة، وهذا إن وجد سعة بأن كان لو دخله .. وسعه وإن عدمت الفرجة، ولو وجدت فرجة، وكذا سعة عند (حج)، وبينها وبينه صفوف .. خرقها جميعها ليدخل؛ لأنهم مقصرون بتركها؛ لأن تسوية الصفوف بأن لا تكون في كل منها فرجة أو سعة متأكدة، فيكره تركها. نعم؛ إن كان تأخرهم لعذر، كوقت الحرَّ بالمسجد الحرام .. فلا كراهة؛ لعدم التقصير. (فإن لم يجد سعة) في الصف ( .. أحرم) مع الإمام (ثم جر) ندباً من القيام (واحداً) حراً يظن بقرائن الأحوال أنه يساعده من صف فيه أكثر من اثنين، فإن جر مع وجود سعة، أو لم يظن موافقته مع خوف الفتنة، أو قنّاً بل ويدخل في ضمانه .. حرم،

وكذا قبل إحرامه، أو مَن صفه اثنان عند (حج)، أو مِن غير القيام .. كره، وإذا لم توجد شروط الجر المذكورة؛ فإن أمكنه الخرق ليصطف مع الإمام .. خرق، ولا تكره حينئذٍ مساواته في المكان، وله -إن كان مكانه يسع أكثر من اثنين- جرُّهما إليه، والخرق أولى إن سهل، ولا تفوت بصفة مع الإمام فضيلة الصف الأول على من خلف الإمام، (ويندب) مع الشروط المتقدمة (أن يساعده المجرور)؛ لينال فضل المساعدة على البر، وذلك يعادل فضيلة صفه كما في "النهاية"، و"شرحي الإرشاد"، بل في "التحفة"؛ لأن فيه إعانة على البر مع حصول ثواب صفه. (الشرط الثاني) لصحة القدوة: (أن يعلم انتقالات إمامه) أو يظنها قبل أن يشرع في الركن الثالث؛ ليتمكن من متابعته. ويحصل ذلك (برؤية) للإمام أو لبعض المأمومين (أو سماع نحو صوت ولو من مبلغ) عدلِ روايةٍ، أو اعتقد صدقة ولو غير مصل، ولو ذهب المبلغ .. لزم المأموم المفارقة إن لم يرج عوده قبل مضي ركنين. (الشرط الثالث: أن يجتمعا) أي: الإمام والمأموم في مكان؛ إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع، ثم هما إمَّا أن يكونا بمسجد أو غيره من فضاء أو بناء، أو أحدهما بمسجد والآخر بغيره. فإن كانا (في مسجد) أو مساجد متلاصقة، تنافذ أبوابها وإن انفرد كلٌّ بمؤذن وصلاة .. فيصح الاقتداء (وإن بعدت المسافة) جداً (وحالت الأبنية) المتنافذة أو اختلفت، كبئر وسطح ومنارة داخلات فيه (و) إن (غلق الباب) أو الأبواب المنصوبة على كلًّ بنحو ضبة بلا تسمير وإن لم يكن لها مفتاح؛ لأنه كله مبني للصلاة، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، فلم يؤثر اختلاف الأبنية والمساجد المتلاصقة كمسجد واحد. (بشرط إمكان المرور) العادي من كل منهما للآخر ولو بانعطاف وازورار؛ لأنها حينئذٍ كالبناء الواحد، بخلاف ما إذا كانا في أبنية لا تتنافذ كأن سمر الباب بينهما، أو كان

أحدهما بسطحه الذي لا مرقى له من المسجد وإن كان له مرقى من درج خارجه، أو أمكن الاستطراق من فرجة أو بنحو وثبة؛ إذ لاعبرة باستطراق غير معتاد. ولو سمر الباب بينهما أثناء الصلاة .. ضر، كزوال مرقى أثناءها، لكن قال (ب ج): يغتفر في في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. وبخلاف ما لو حال -بين جانبيه أو بين المساجد- نهر، أو طريق قديم بأن سبق أو قارن وجود ما ذكر .. فلا تصح القدوة حينئذٍ مع بعد المسافة أو الحيلولة الأتية. وفي "التحفة": (تسمير أبواب المساجد المتنافذة المتلاصقة يمنع كونها كمسجد واحد قطعاً، بخلاف تسمير باب أو أبواب المسجد الواحد لا يصيره كمسجدين، وهو ظاهر "المنهاج" وغيره، ثم قال: ومحله ما لم يفتح لكل من النصفين باب مستقل، ولم يمكن التوصل من أحدهما للآخر) اهـ وعلم من اشترط إمكان المرور: أن الشباك يضر. قال (ب ج): (ويشترط في المأموم خلف الشباك من خارج المسجد وصوله للإمام من غير ازورار) اهـ ومن المسجد: رحبته -وهي صحن المسجد على ما قاله ابن الصلاح، أو ما كان خارج المسجد محوطاً عليه؛ صيانة له، كما قاله ابن عبد السلام، سواء علم وقفيتها مسجداً، أم لا؛ عملاً بالظاهر وهو التحويط، وإن كانت منتهكة، أو فصل بينهما طريق حادث- لا حريمه، وهو موضع اتصل بالمسجد وهيِّئ لمصلحته، كانصباب ماء وطرح قمامة .. فليس له من أحكام المسجد شيء. (فإن كانا) أي: الإمام والمأموم (في غير مسجد) كفضاء وبيت واسع وسفينتين وسطحين ( .. اشترط) مع ما مر أن يجمعهما ثلاث مئة ذراع، وأن لا يكون بينهما حائل يمنع مروراً أو رؤية، وأن يصل إلى الإمام لو سار إليه بالسير المعتاد بغير انعطاف. فإذا علمت ذلك .. فيشترط: (أن لا يكون بينهما) أي: بين الإمام ومَنْ خلفه، أو بجنبه الأيمن أو الأيسر (و) لا (بين كل صفين) أو شخصين ممن يصلي خلفه أو بجانبه (أكثر من ثلاث مئة ذراع) بذراع الآدمي المعتدل وإن بلغ ما بين الإمام والأخير فراسخ.

بشرط إمكان متابعته، وأن لا يتقدم المتأخر في الأفعال على من قبله إذا كان لا يرى الإمام؛ لأنه له كالرابطة وليست الثلاث مئة الذراع تحديداً، بل (تقريباً، فلا يضر زيادة ثلاثة أذرع) كما في "التهذيب"، وغيره، واعتمده في "الإمداد"، وأكثر المحشين المتأخرين، لكن قال في "المجموع": ونحوها وما قاربها، واعتمداه في "التحفة"، و"النهاية"، وهذا التقدير مأخوذ من العرف في القدوة، لا في غيرها، بدليل أنه لو حلف لا يدخل مكاناً فيه زيد، أو لا يجتمع به، فاجتمع به في المسجد .. لا يحنث. واشتراط القرب حيث لم يجمعها مسجد يعم ما لو كانا في فضاء أو فلكين مكشوفين، أو مسقوفين، لكن المكشوفان، كالفضاء يشترط فيهما القرب فقط، والمسقوفان كبناءين يشترط فيهما القرب وعدم الحائل. وما لو كان أحدهما في البر والآخر بسفينة، أو في بناءين كبيتين وصحن وصفه من مكان أو مكانين، سواء في ذلك المدرسة والرباط وغيرهما، فالشرط في الكل القرب، وعدم حائل يمنع الاستطراق، ورؤية الإمام أو مَنْ خلفه، وما ذكر من اعتبار القرب فقط، وهو المعتمد، تبع النووي فيه العراقيين. واعتمد الرافعي كالمراوزة: أنه لا بد في البناءين من اتصال المناكب، بحيث لا يكون بين البناءين فرجة تسع واقفاً، فيما إذا صلى بجنبه، بأن يتصل بمنكب آخر واقف ببناء الإمام بمنكب آخر واقف ببناء المأمومين، وما عدا هذين من أهل البناءين لا يضر بُعدُهم عنهما بثلاث مئة ذراع. وإن صلى خلفه .. فالشرط أن لا يزيد ما بين الصفين أو الشخصين الواقفين بطرفي البناءين على ثلاثة أذرع تقريباً؛ لأن هذا المقدار غير مخل بالاتصال، (و) إنما يكتفي بالقرب على الأول بشرط: (أن لا يكون بينهما جدار أو باب مغلق) ومن ذلك صفف المدارس الشرقية والغربية إذا كان المأموم لا يرى الإمام ولا من خلفه، فلا تصح القدوة على الطريقين؛ لأن الجدار معد للفصل بين الأماكن، وفي معناه الباب المغلق ابتداء، فإن طرأ غلقه في أثنائها بغير فعله، وعلم بانتقالات الإمام .. لم يضر. (أو) أن لا يكون بينهما باب (مردود)؛ لمنعه الرؤية وإن لم يمنع الاستطراق، ومثله الستر المرخي (أو شباك)؛ لمنعه الاستطراق وإن لم يمنع الرؤية.

وألحق به الخوخة الصغيرة، وعند إمكان المرور والرؤية لا يضر انعطاف في جهة الإمام، بحيث لو مشى إليه المشي المعتاد .. لا يستدبر القبلة وإن انحرف عنها وصارت لأحد جنبيه. (ولا يضر تخلل الشارع) بين الإمام والمأموم وإن كثر طروقه. (و) لا (النهر الكبير) وإن لم يمكن عبوره، ولا النار ونحوها (و) لا تخلل (البحر بين السفينتين)؛ لأن هذه لا تعد للحيلولة، فلا يسمى واحد منهما حائلاً عرفاً. نعم؛ لو كان في الجدار منفذ يمكن الاستطراق منه، ولا يمنع المشاهدة، ووقف أحد المأمومين في مقابل ذلك المنفذ أو بأحد جنبيه، كما في "التحفة"، و"النهاية" بحيث يرى الإمام أو من معه في بنائه، ويصل إليه من غير ازورار .. صحت قدوة من في أحد البناءين بالآخر، وهذا في حق من بالبناء الآخر، كالإمام بالنسبة لمن خلفه، فلا يتقدمون عليه بالإحرام أو الموقف، وكذا لا يجوز بالأفعال، ولا كونه امرأة لغير نساء عند (م ر). قال (سم): وقياسه عدم جواز كونه أمياً، ولا تلزمه الإعادة. ولا يضر زوال الرابطة أثناء الصلاة، ولا ردّ باب المنفذ، ولا بناء حائل بينهما حيث لا تقصير. وفي (ب ج): ويظهر اشتراط وصول من خلف الرابطة إليه من غير ازورار؛ لأن هذا إذا ألغي في حق الإمام .. فلا يلغى في حق الرابطة، وإلا .. لزم إلغاؤه بالكلية، وهو لا يصح في غير مسجد. (إذا وقف أحدهما) أي: الإمام والمأموم (في سفل، والآخر في علو .. اشترط) في غير مسجد (محاذاة أحدهما الآخر) بأن يكون الأسفل بحيث لو مشى جهة الأعلى مع فرض اعتدال قامته .. أصاب رأسه قدميه مثلاً. وليس المراد كون الأعلى لو سقط .. سقط على الأسفل، وهذا على طريق المراوزة. والمعتمد: أنه لا يشترط إلا القرب وعدم الحيلولة، أمَّا في المسجد .. فليس ذلك بشرط باتفاق الطريقين.

(ولو كان الإمام في المسجد والمأموم خارجه .. فالثلاث مئة) الذراع (محسوبة من آخر المسجد) أي: طرفه الذي يلي من خارجه؛ لأنه مبني للصلاة، فلا يعد فاصلاً، هذا إن لم تخرج الصفوف عنه، وإلا .. فمن آخر صف. وفي عكس صورة المتن تعتبر من طرفه الذي يلي الإمام. (نعم؛ إن صلى) المأموم (في علو داره بصلاة الإمام في المسجد .. قال الشافعي) رضي الله عنه: (لم تصح) صلاته سواء كانا محاذيين، أم لا؛ إذ المحاذاة عند القائل بها إنما تعتبر في غير مسجد كما مر وفي غير مرتفع من الأرض؛ لأن ذلك قرار، بل في نحو سطح، كما مر. وإنما لم تصح هنا؛ لعدم الاتصال، لأن الهواء لا قرار له. والمعتمد: نصه الآخر بالصحة كما في "التحفة"، و"النهاية"، وغيرهما. قال في "الإيعاب": وصرح به في "التتمة"، واعتمده ابن الرفعة، فقال: لو كانا على سطحين .. فالشارع بينهما كالنهر عريضاً أو لا، ولا ينافيه ما مر عن القمولي؛ أي: من أنه لو صلى الإمام بصحن المسجد والمأموم بسطح داره .. اشترط إمكان الاستطراق العادي، ولا يكفي المشاهدة؛ لأن السطح وصحن المسجد ثَمَّ كبناءين، فاشتراط إمكان الاستطراق العادي بخلاف السطحين هنا، فالواقفان عليهما كأنهما في صحراء وبينهما نهر، وقد تقرر أنه لا يضر. ويحمل النص بعدم الصحة على ما إذا بعدت المسافة أو حالت أبنية منعت الرؤية. تنبيه: يؤخذ من اعتبارهم في السير كونه سيراً معتاداً أن السير في السفن، من المرتفع منها كالأسطحة إلى المنخفض، لا يمنع قدوة من بأحدهما بالآخر؛ لأنه يصل إلى الإمام في ذلك بالسير المعتاد فيه؛ إذ العادة في كل شيء بحبسه. أمَّا السفن الكبار .. فلأنهم يفعلون في ذلك سلماً. وأمَّا الصغار .. فالوثبة التي يحتاجها إلى التوصل من المرتفع إلى المنخفض لطيفة لا تمنع كون ذلك سيراً معتاداً، وكذا الفرمان إذا حال بين الإمام والمأموم لا يضر؛ إذ المعتبر في الحائل العرف، والفرمان لا يعد حائلاً عرفاً.

ويؤيد ذلك: أنه يفعل لسطوح البيوت تحويط بجدار، لو فرض الاستطراق منه .. لاحتاج في ذلك إلى وثبة لطيفة مع أن ذلك لم يعدوه حائلاً ولا مانعاً للمرور إلى الإمام، هذا ما ظهر، والله أعلم. (ويكره ارتفاع أحدهما) أي: الإمام والمأموم (على الآخر) ارتفاعاً يظهر في الحس وإن قل إن أمكن وقوفهما بمستوٍ، سواء المسجد وغيره، وعند ظهور تكبر من المرتفع وعدمه؛ للنهي عن ارتفاع الإمام على المأموم، وقياساً في ارتفاع المأموم. وإنما يكره الارتفاع (لغير حاجة) تتعلق بالصلاة، كتبليغ توقف عليه سماع المأمومين وكتعليمهم صفة الصلاة، وإلا .. استحب، فإن لم يمكن استواؤهما ولا حاجة .. أبيح، لكن ينبغي حينئذٍ أن يكون المرتفع هو الإمام إن أمكن. ولو تعارض الصف المتقدم مع ارتفاع أو نخفاض، والصف الثاني مع بقاء فرجة في المتقدم .. صف في الثاني. (الشرط الرابع: نية) نحو (القدوة أو الجماعة) ولو أثناءها، أو الائتمام بالإمام، أو بمن في المحراب ومع الإطلاق عند غير الخطيب؛ لأن المتابعة عمل، فافتقرت للنية، ولا يضر كون الجماعة تصلح للإمام أيضاً؛ لأنها تنزل في كل على ما يليق به؛ لأن قرائن الأحوال قد تخصص النيات. واعلم: أن النية القدوة تجب مطلقاً في جمعة ومعادة ومجموعة مطر، ولا تنعقد فرادى، والمنذورة جماعة تجب فيها الجماعة، لكن تنعقد فرادى، وأمَّا غيرها .. فإنما تجب على من أراد الاقتداء. (فلو تابع) قصداً في فعل ولو مندوباً أو سلام بأن وقف سلامَه على سلامِه (بلا نية) اقتداء به (أو مع الشك فيها .. بطلت) صلاته (إن طال) عرفاً (انتظاره) له؛ ليتبعه في ذلك، لأنه وقف صلاته على صلاة غيره بلا رابطة بينهما. وفي "الإمداد" أن ذلك يغتفر للجاهل، وخالفه (م ر). وقيل: وقف فعله على فعل هو نية الاقتداء، أمَّا لو تابع اتفاقاً أو بعد انتظار يسير أو طويل بلا متابعة .. فلا يضر جزماً؛ إذ لا يسمى متابعاً في الأولى، واغتفر في الثانية؛ لقلته، وفي الثالثة لم يتحقق بفائدته، وهي المتابعة، فألغي.

وتقييده مسألة الشك بالطول والمتابعة هو المعتمد وإن كان ظاهر "العزيز" وغيره أن الشك هنا كهو في أصل النية، فتبطل بانتظار طويل وإن لم يتابع، ويسير مع المتابعة؛ لأن الشاك في أصلها ليس في صلاة، بخلافه هنا، فإن غايته أنه كالمنفرد، فلا بد من مبطل، وهو الانتظار الكثير مع المتابعة، ومن ثم أثر الشك في الجمعة إن طال، أو مضى معه ركن وإن قصر؛ لأن الجماعة شرط فيها، ولا تنعقد فرادى. والانتظار الكثير هو ما يسع ركناً، أو ما يفهم من صاحبه المتابعة. ولو انتظر في كل ركن قليلاً ولو جمع كان كثيراً .. فله حكم الكثير عند الطبلاوي، وحكم القليل عند (سم). ولو ركع مع الإمام فشك في نية الاقتداء، ولم يكن أتم الفاتحة .. لزمه العود فوراً لإتمام الفاتحة؛ لأنه منفرد. وأفهم كلام المصنف: أنه لا يجب تعيين الإمام، لكن لو عينه فأخطأ .. بطلت صلاته؛ لأن ما يجب التعرض له جملة وتفصيلاً كالصلاة، أو جملة لا تفصيلاً كنية الاقتداء، فإنها يجب التعرض لها جملة كـ (مأموماً) لا تفصيلاً كـ (مأموماً بزيد) يضر الخطأ فيه، وما لا يجب التعرض له جملة ولا تفصيلاً كعدد الركعات .. لا يضر الخطأ فيه، فالخطأ في تعيين الإمام مبطل ما لم يشر إليه كـ (بزيد هذا) أو (من في المحراب)؛ لأنه مع تعليق القدوة بالشخص لا يضر الخطأ في الاسم. وأفهم أيضاً: أن نية الإمامة لا تجب على الإمام في غير ما مر، بل تسن، ولو نواها في الأثناء .. حصلت له حينئذٍ. (الخامس: توافق نظم صلاتيهما) أي: الإمام والمأموم، بأن يتفقا في الأفعال الظاهرة وإن اختلفا عدداً ونية (فإن اختلف) نظمهما (كمكتوبة) أو منذورة أو جنازة أو نفل (وكسوف) فعل بقيامين وركوعين في كل ركعة (أو) كفرض ولو نذراً أو نفل أو كسوف (وجنازة .. لم تصح القدوة) وكذا عكسهما، سواء علم نية الإمام أم جهلها وإن بان له ذلك قبل التكبيرة الثانية من صلاة الجنازة خلافاً للروياني؛ لتعذر المتابعة. ومن ثم يصح الاقتداء في القيام الثاني من الركعة الثانية من الكسوف، وتدرك به الركعة عند (م ر)، وكذا في آخر تكبيرات الجنازة، وبعد سجود التلاوة، والشكر عند (حج).

أمَّا لو صلى الكسوف كسنة الصبح .. فيصح الاقتداء بمصليها مطلقاً في غير مصلِّ كسوف بالكيفية الأولى وغير جنازة. ويصح الفرض خلف صلاة التسبيح، وعند تطويل بما يبطل تطويله في غيرها ينتظره في الركن الذي بعده. (و) حيث توافق نظم صلاتيهما (يصح) الاقتداء في جميع الصلوات، وحينئذٍ يصح (الظهر خلف) مصلي (العصر، و) خلف مصلي (المغرب) أو الصبح، والمقتدي في الأخيرتين كمسبوق، فيتم صلاته بعد سلام الإمام، ولا يضر متابعته في قنوت الصبح، والتشهد الأخير في المغرب كالمسبوق، بل هي أفضل من المفارقة وإن لزم عليه تطويل الاعتدال بالقنوت وجلسة الاستراحة في التشهد؛ لأنه للمتابعة، وله فارقه إذا اشتغل بهما، وهو فراق بعذر لا تفوت به فضيلة الجماعة، وكذا كل مفارقة بعذر، وكما يصح ما مر يصح أيضاً عكسه. وإذا تمت صلاته قبل إمامه، فإن شاء .. فارقه، وانتظاره أفضل، وعند انتظاره يتشهد، ثم يطيل بالدعاء، وهذا إن لم يخش خروج الوقت ما لم يشرع فيها وقد بقي منه ما لا يسعها، وإلا .. فالمد جائز، وحيث لم يحدث في انتظاره جلوساً لم يفعله الإمام، كأن صلى المغرب خلف مصلي العشاء، وإلا .. تعينت مفارقته قبل أن يجلس للتشهد الأخير، أو ينتظره في السجود قبله. (و) يصح (القضاء خلف) مصلي (الأداء وعكسه، والفرض خلف) مصلي (النفل وعكسه)؛ لاتفاق النظم في الجميع، والانفراد هنا أفضل؛ خروجاً من الخلاف؛ لأنه -وإن كان ضعيفاً ولم يقتض الكراهة- يؤثر نقصاً في الصلاة، فالصلاة منفرداً -من حيث كونها متفقاً على صحتها- أفضل منها جماعة مع وجود الخلاف فيها، ومحل كون الانفراد فيما ذكر أفضل في غير مصلي مكتوبة خلف معادة وعكسه؛ لأن المعادة لمَّا اختلف في فرضيتها .. لم تكن كالنفل المحض. (لسادس: الموافقة في سنة فاحشة المخالفة) أي: تفحش مخالفة المأموم للإمام فيها فعلاً أو تركاً.

(فلو ترك الإمام سجدة التلاوة، وسجدها المأموم أو عكسه) بأن سجدها الإمام، وتركها المأموم، (أو ترك الإمام) جميع (التشهد الأول وتشهده المأموم .. بطلت) صلاته إن علم وتعمد وإن لحقه على القرب؛ لعدوله عن فرض المتابعة إلى سنة. ويخالف ذلك سجود السهو والتسليمة الثانية؛ لأنهما يفعلان بعد فراغ القدوة. أمَّا غير الفاحشة المخالفة كجلسة الاستراحة، وقنوت أتى به وأدرك الإمام في السجدة الأولى .. فلا يضر، كما مر؛ لأنه يسير. وفارق القنوت التشهد الأول حيث يضر التخلف له وإن أدرك الإمام في القيام بأنه في التشهد .. أحدث جلوساً لم يفعله الإمام، وفي القنوت .. أطال ما كان فيه الإمام، فإن أتى الإمام ببعض التشهد الأول .. جاز للمأموم إكماله؛ لأنه مستصحب. (وإن تشهد الإمام وقام المأموم) سهواً .. لزمه العود، فإن لم يعد .. بطلت صلاته، أو (عمداً .. لم تبطل) صلاته بتقدمه، وكذا لو سجد عمداً وإمامه في القنوت .. لم تبطل؛ لانتقاله من واجب إلى واحب فيهما كما مر وهذا كالمستثنى من بطلان ما فيه فحش مخالفة. (السابع: المتابعة) للإمام، وهي تكون في المكان والتحرم والأفعال، وكل واجب ومندوب. أمَّا الأولى .. فمر أن الواجب: أن لا يتقدم على إمامه ولا يتأخر عنه في غير المسجد بأكثر من ثلاث مئة ذراع على ما مر. والمندوب: أن يخرج عن محاذاته بثلاثة أذرع فما دون. وأما الثاني .. فالواجب فيه: أن يتأخر جميع تكبير إحرامه عن جميع تكبير إمامه، والمندوب: أن يحرم بعده فوراً. (فإن قارنه في التحرم) أو في بعضه، أو شك أثناء التكبير في المقارنة أو بعده، وطال الزمن، أو أعتقد تأخر تحرمه فبان تقدمه ( .. بطلت) أي: لم تنعقد صلاته؛ لخبر: "إذا كبر الإمام .. فكبروا"، ولأنه إنما يتبين دخوله في الصلاة بتمام التكبير، فالاقتداء قبل ذلك اقتداء بمن ليس في صلاة، أو بمن لم يعلم كونه فيها، ولإمكان الاطلاع على حال الإمام في الآخيرة.

وفارق ما لو بان جنباً، فإفتاء البغوي: أنه لو كبر فبان أن إمامه لم يكبر .. انعقدت له منفرداً، ضعيف. أمَّا لو زال الشك عن قرب .. فلا يضر، كالشك في أصل النية، وأمَّا لو لم يبن تقدمه بعد اعتقاد تأخر إحرامه .. فلا يضر أيضاً، وهذا من المواضع التي فرقوا فيها بين الظن والشك. وأما المتابعة في الأفعال .. فتكون مندوبة بأن يجري على إثر إمامه في الأفعال والأقوال، بحيث يكون ابتداءه بكل منهما متأخراً عن ابتداء إمامه، ومتقدماً على فراغه منه. وأكمل من هذا أن يتأخر ابتداء فعل المأموم عن جميع حركة الإمام، فلا يشرع حتى يصل الإمام لحقيقة المنتَقَل إليه. نعم؛ لو علم من حاله أنه لو أخر، كذلك لم يدركه في المنتَقَل إليه .. قدم انتقاله، بحيث يظن إدراكه فيه. وتكون واجبة بأن لا يتأخر عنه بركنين، ولا يتقدم عليه بركنين. (وكذا) تبطل صلاة المأموم مع الحرمة (إن تقدم عليه) -أي: على الإمام- عامداً عالماً بالتحريم (بركنين فعليين) متوالين طويلين، أو طويل وقصير؛ لفحش المخالفة، وذلك بأن يركع ويعتدل ويهوي للسجود، والإمام قائم، كما اعتمده شيخ الإسلام، والخطيب، و (م ر) وغيرهم. قال في "التحفة": (أو أن يركع قبل الإمام، فلما أراد الإمام أن يركع .. رفع، فلما أراد أن يرفع .. سجد، فلم يجتمع معه في ركوع ولا اعتدال، وفارق التخلف بأن التقدم أفحش، ومن ثم حرم بركن مع العلم والعمد بخلاف التخلف به، فمكروه) اهـ وبما ذكره تعلم: أن (أو) في كلامه للتنويع، لا للترديد. (أو تأخر) عنه (بهما) أي: بالركنين التامين، بأن فرغ الإمام منهما، وهو فيما قبلهما، كأن يزول عن حد الاعتدال، والمأموم في القيام، وهذا إن كانا (لغير عذر) -مما يأتي، كالتخلف؛ لإكمال سنة كالسورة- وإلا .. لم تبطل. والعذر في التقدم أن يكون ناسياً أو جاهلاً معذوراً، لكن لا يعتد له بهما، فإن لم يعد

للإتيان بهما مع الإمام .. أتى بعد سلام إمامه بركعة، وإلا .. بطت صلاته، وفي التخلف بما ذكر، وبما يلأتي في قوله: (فإن تخلف بعذر) ... إلخ. (فإن قارنه في غير التحرم) من أفعال الصلاة .. لم يضر، لكن يكره، وتفوت به فضيلة الجماعة فيما قارنه فيه فقط على ما مر. والأوجه: كراهة المقارنة في الأقوال أيضاً ولو في سرية ما لم يعلم من إمامه أنه لو تأخر إلى فراغه من القراءة .. لم يدركه في الركوع. (أو تقدم عليه بركن فعلي، أو تأخر عنه به) ولو طويلاً ( .. لم يضر) في صحة الصلاة؛ لقلة المخالفة. (ويحرم تقدمه عليه بركن فعلي) تام مع العلم والتعمد، بل هو من الكبائر؛ لخبر: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟! " قال (م ر): والسبق ببعض ركن كالسبق بالركن، واعتمد (حج): أن السبق ببعض ركن مكروه، كالتأخر بركن تام. والحاصل: أن التقدم عليه بركنين فعليين حرام ومبطل، كالتأخر بهما لغير عذر، وبركن حرام، ولا يبطل، وكذا ببعضه عند (م ر)، وبمجرد حركة الهوي مكروه كالتأخر بركن تام. ويسن العود لمن سبق إمامه إلى ركن لا تفحش المخالفة به كالركوع، والسجود الثاني قبله؛ ليوافقه إن تعمد، وإلا .. تخير، ولا تبطل بالتقدم بركن أو ركنين قوليين، لكن يكره. ولو علم أنَّ إمامه يقتصر على الفاتحة .. لزمه أن يقرأ الفاتحة مع قراءته لها كما في "التتمة"، وهو ظاهر إن أراد البقاء على متابعته، وعلم أنه لا يكمل فاتحته إلا وقد سبقه بأكثر من ركنين فعليين. (وإن تخلف) المأموم (بعذر) .. عذر في التخلف في عشر مسائل: ست لا خلاف فيها. والعذر (كبطء قراءة) واجبة (بلا وسوسه) بل لعجز خلقي، وينبغي في وسوسة، كالخلقية بحيث يقطع كل من رآه أنه لا يمكنه تركها، أن يأتي فيه ما في بطيء الحركة.

(و) كـ (اشتغال المأموم الموافق) عن الفاتحة (بدعاء الافتتاح) أو غيره من السنن كالتعوّذ، والإنصات للإمام، حتى ركع إمامه وإن لم يشرع فيها، أو لم يسن له دعاء الافتتاح. (أو) كأن (ركع إمامه فشك) بعد ركوعه، وقبل أن يركع هو (في) قراءته ("الفاتحة"، أو تذكر) حينئذٍ (تركها). أمَّا لو ركع قبل إمامه، فشك في ركوعه في قراءته الفاتحة .. فيلزمه العود لقراءتها؛ لأنه لما ندب أو جاز له العود منه إلى القيام .. كان كالشك فيها قبل ركوعه. وأمَّا لو شك في قراءتها أو تذكر تركها بعد ركوعه مع إمامه .. فلا يعود، بل يصلي ركعة بعد سلامه. (أو) كأن (أسرع الإمام قراءته) الفاتحة والسورة، أو السورة فقط في جهرية، وركع قبل أن يتم المأموم فاتحته وإن لم يكن بطيء قراءة. أمَّا لو أسرع في الفاتحة ولم يقرأ غيرها .. فالمأموم معه مسبوق. أو: كأن انتظر المأموم سكته إمامه؛ ليقرأ فيها الفاتحة فلم يسكت، بل ركع عقبها أو قرأ سورة قصيرة. فهذه ست صور إذا تخلف فيها المأموم عن إمامه (عذر) في تخلفه؛ لإتمام قراءة ما بقي عليه من الفاتحة؛ لعذره بوجوب ذلك عليه (إلى) تمام (ثلاثة أركان طويلة) وهي المقصودة لذاتها، فلا يحسب منها اعتدال ولا جلوس بين السجدتين؛ لأنهما مقصودان للفصل، لا لذاتهما. وذلك بأن ينتهي إلى الرابع، أو إلى ما هو على صورته وهو التشهد الأول، فما دام لم يتلبس الإمام به .. يسعى المأموم على ترتيب نفسه. والأربع المسائل المختلف فيها: أحدها: لو نام في تشهده الأول متمكناً، فانتبه، فوجد إمامه راكعاً. ثانيها: لو سمع تكبير الرفع من سجدة الركعة الثانية، فجلس للتشهد ظاناً أن الإمام فيه فإذا هو في الثالثة، فكبر للركوع فظنه لقيامها، فقام فوجده راكعاً. ثالثها: لو نسي كونه مقتدياً، وهو في سجوده مثلاً، ثم ذكر فلم يقم عن سجدتيه إلاَّ

والإمام راكع، فهذه الثلاث عند (م ر): يتخلف فيها المأموم، وهو تخلف بعذر. وعند (حج): أنه فيها كالمسبوق، فيركع مع الإمام، وتسقط عنه الفاتحة أو بعضها. ورابعها: التخلف لإتمام التشهد الأول إذا قام الإمام قبل أن يتمه المأموم، فعند (م ر): هو متخلف بعذر يغتفر له ما مر. وعند (حج) كالموافق المتخلف لغير عذر يغتفر له ما لم يسبق بركنين فعليين. واعتمد جمع: أنه كالمسبوق، فيركع مع إمامه، وتسقط عنه الفاتحة أو بعضها. (فإن زاد) التخلف على ما ذكر بأن انتهى الإمام إلى الرابع بأن لم يفرغ المأموم من فاتحته إلاَّ والإمام قد انتصب للقيام أو جلس للتشهد ولو الأول ( .. نوى المفارقة أو وافقه) أي: أنه يجب عليه إذا تلبس إمامه بالرابع إما نية المفارقة .. فيجري على ترتيب صلاة نفسه، أو نية موافقته (فيما هو فيه) فيترك ترتيب نفسه ويتبعه بالفعل أو بالقصد، فإن كان قائماً .. وافقه فيه بالقصد، ويعتد له بما قرأه من الفاتحة، أو جالساً وافقه بالفعل، فيجلس معه ويلغي ما قرأه بفراقه حد القائم، وإذا تبعه وركع الإمام قبل إكماله الفاتحة .. عذر، لتخلفه لها، كما مر. (و) إذا نوى موافقته .. (أتى بركعة) بدل الركعة التي فاتته (بعد سلامه) -أي: الإمام- كالمسبوق، فإن جرى على ترتيب صلاة نفسه بلا نية مفارقة .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، وإلاَّ .. لم تبطل، ويلغى ما أتى به، فلا يعتد له بتلك الركعة؛ لفحش المخالفة. وإن تلبس الإمام بالخامس وهو إلى الآن لم ينو موافقته، ولا مفارقته .. بطلت صلاته إن علم وتعمد. (هذا) كله (في الموافق، وهو من أدرك مع الإمام قدر " الفاتحة") بالنسبة إلى القراءة المعتدلة، لا لقراءة الإمام، ولا لقراءة نفسه على الأوجه. ولو شك هل أدرك زمناً يسعها، أو لا؟ تخلف لإتمامها، ويدرك الركعة عند (م ر) ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة، وعند (حج) إن أدرك الإمام في الركوع .. أدركها، وإلا .. فلا.

(وأما المسبوق) وهو من لم يدرك ما مر في الموافق في ظنه من الركعة الأولى أو غيرها (إذا ركع الإمام) وهو باق (في "فاتحته") .. لم يكملها، أو في سنة كالافتتاح، أو وهو ساكت. (فإن) كان قد (اشتغل بسنة، كدعاء الافتتاح أو التعوذ) أو لم يشتغل بشيء بأن سكت زمناً بعد تحرمه مع علمه بأن واجبه (الفاتحة)، أو وردد آية ( .. قرأ) وجوباً من (الفاتحة)، سواء علم أنه يدرك الإمام قبل سجوده، أم لا (بقدرها) أي: بقدر حروف السنة التي اشتغل بها أو السكوت، أو المردد في ظنه؛ لتقصيره في الجملة بعدُوله عن فرض إلى غيره وإن ندب له الافتتاح، والتعوّذ؛ لظنه أنه يدرك (الفاتحة)، فركع الإمام على خلاف ظنه. (ثم إن) أكمل قراءة ما لزمه قبل هوي الإمام للسجود، فإن (أدركه في الركوع .. أدرك الركعة، وإلا) يدركه فيه، بأن لم يطمئن فيه قبل ارتفاع الإمام عن أقله ( .. فاتته الركعة)؛ إذ المسبوق لا يدرك الركعة إلا بالركوع، ولا يركع بل لو رفع إمامه من الركوع مع هويه إليه. رجع معه وجوباً، وإلا .. بطلت صلاته إن علم وتعمد؛ لأنه زيادة محضة، (و) حينئذٍ (يوافقه) وجوباً فيما هو فيه، فما بعده من الأفعال (ويأتي بركعة) بعد سلامه؛ لفواتها. وإن لم يفرغ وقد أراد الإمام الهوي للسجود .. فقد تعارض في حقه وجوب وفاء ما لزمه، وبطلان صلاته بهوي إمامه للسجود، فلا مخلص له إلا نية المفارقة؛ ليكمل (الفاتحة)، ويجري على ترتيب نفسه، وهي مفارقة بعذر وإن قصر بارتكاب سببها. أمَّا إذا جهل أن واجبه (الفاتحة) .. فهو متخلف لما لزمه بعذر كما قاله (حج)، و (م ر). وقال (سم): (قضيته: أنه كبطيء القراءة مع أن فرضه في المسبوق، وهو لا يدرك الركعة إلا بالركوع مع الإمام) اهـ وأجيب: بأن كونه معذوراً أن صلاته لا تبطل بتخلفه إلا بأكثر من ثلاثة أركان طويلة وإن كان لا يدرك الركعة إلاَّ بالركوع مع الإمام. (وإن لم يشتغل) المسبوق بعد إحرامه (بسنة) ولا غيرها، بل بالفاتحة ( .. قطع القراءة) إذا ركع إمامه (وركع معه).

فصل: في أحكام المسبوق

وإن كان بطيء قراءة .. فلا يلزمه إلا ما أدركه هنا، بخلاف ما مر في الموافق؛ لأن ما هنا رخصة، فناسبها رعاية حالة لا غير، وهو بركوعه معه أو قبل ارتفاعه عن أقله مدرك للركعة بشرطه الآتي؛ لأنه لم يدرك غير ما قرأه، فتحمل الإمام عنه بقيتها، كما لو أدركه راكعاً، أو ركع الإمام عقب تحرمه، فإن لم يركع مع إمامه، بل تخلف لإتمام الفاتحة، وفاته الركوع معه .. لم يحرم وإن علم وتعمد، لكن يكره، وتفوته الركعة. وإذا سجد إمامه .. تبعه وجوباً إن لم ينو المفارقة، وما ذكره من التفصيل في المشتغل بسنة .. هو الأصح في "المنهاج". والثاني: يركع وتسقط عنه البقية، ونقله في "التحفة" عن المعظم. والثالث: يتخلف لإتمام (الفاتحة)، ويعذر إلى ثلاثة أركان طويلة، ومال إليه في "شرحي الإرشاد". وخرج بقوله: (وأما المسبوق إذا ركع الإمام في فاتحته): المسبوق الذي لم يدرك شيئاً من القيام مع الإمام، كأن كبر فركع الإمام، فيتابعه قولاً واحداً. * * * (فصل: ومن أدرك الإمام المتطهر راكعاً) ركوعاً محسوباً له، أو قريبا من الركوع بحيث لا يمكنه قراءة جميع الفاتحة (واطمأن معه) في الركوع يقيناً (قبل ارتفاعه عن أقل الركوع) السابق ( .. أدرك الركعة) أي: ما فاته من قيامها وقراءتها، أي: ثواب ذلك وإن قصر بتأخير تحرمه لغير عذر حتى ركع إمامه وإن فارقه ولو حالاً؛ وذلك لما صح من خبر: "من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه .. فقد أدركها". وبه علم أنه لا يسن الخروج من خلاف من قال بعدم إدراكها به؛ لمخالفته لسنة صحيحة، وقد يجب إن ضاق الوقت، أو كانت ثانية جمعة. (وإن أدركه) وهو غير متطهر، أو (في ركوع) غير محسوب نحو (زائد) -ولم يعلمه المأموم- أو في أصلي، ولم يطمئن معه، أو اطمأن بعد ارتفاع الإمام عن أقله، أو شك في الاطمئنان قبل ذلك، سواء غلب على ظنه شيء، أم لا. (أو) أدركه (في) الركوع (الثاني من) صلاة (الخسوفين) وإن كان المأموم في غير

خسوف، كما مر ( .. لم يدركها)؛ لعدم أهلية نحو المحدث للتحمل، ولأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع رخصة لا يصار إليها إلا بيقين. وقال (سم): يكفي الاعتقاد الجازم بإدراك الركوع، ولا يسع الناس إلا هذا، ولأن الركوع الثاني وقيامه من كل ركعة من صلاة الكسوف تابع للركوع الأول وقيامه، فهو في حكم الاعتدال، ولذا يسن فيه: سمع الله لمن حمده. وأمَّا إدراك الركوع الزائد .. فإن قرأ المأموم (فاتحته) .. أدرك الركعة ما لم يعلم ذلك وإن نسي. وإذا أتى الشاك في الطمأنينة بعد سلام إمامه بركعة .. سجد للسهو، للشك في زيادة الركعة المذكورة. ويشترط في المسبوق الذي أدرك الإمام راكعاً: أن يكبر للإحرام في القيام أو بدله، ثم يكبر للهوي. ومثله من يسجد للتلاوة خارج الصلاة، أو للشكر؛ لأنه تعارض في حقه قرينتا الافتتاح والهوي؛ لاختلافهما، وحينئذٍ لا يحتاج لنية الإحرام في الأولى؛ إذ لا تعارض. وحاصله: أن في ذلك ثمان صور: الأولى: أن يأتي بتكبيرتين: واحده للإحرام، والأخرى للانتقال. الثانية: أن يكبر واحدة، وينوي بها التحرم فقط، فيصح في هاتين الصورتين. والست الباقية: أن يقتصر على تكبيرة وينوي بها الإحرام والركوع، أو لم ينو شيئاً، أو ينوي بها الركوع فقط، أو ينوي أحدهما مبهماً، أو يشك أنوى بها التحرم وحده أو لا؟ أو يتم تكبيرة الإحرام وهو إلى الركوع أقرب منه إلى القيام، فلا تنعقد في جميع ذلك. ولو كبر ثنتين وأطلق في الأولى وقصد بالأخرى الانتقال .. صحت على المعتمد قاله المدابغي. وقضيته: أنه إذا أطلق في الأولى أن الإحرام ينعقد موقوفاً على الثانية إن كبرها .. صحت، وإلا .. فلا، وهذا مما لا نظير له، على أن في معارضة تكبير الركوع لتكبير الإحرام في الأولى -مع أنها لا يدخل وقتها، ولا تطلب إلا بعد تمام تكبير التحرم- غاية الإشكال. تتمات: إذا خرج الإمام من صلاته بحدث أو غيره .. انقطعت قدوة المأموم به،

فصل: في صفات الأئمة المستحبة

ولا تنقطع بنية الإمام قطعها؛ لعدم توقفها منه على نية إلا في نحو الجمعة. وحيث بقيت القدوة الصورية مع انقطاع حقيقتها، كأن ظهر شيء من عورته مع بقائه في صورة الصلاة .. وجبت نية المفارقة فوراً. وهل المخل بالفورية هنا قدر سبحان الله، كالشك في أصل النية أو قدر جلسة الاستراحة؟ على الخلاف أنه أقلها أو أكثرها، ولعل الأول أقرب. ويجوز للمأموم قطع القدوة بنية المفارقة مع الكراهة المفوته لفضيلة الجماعة، حيث لا عذر يرخص في ترك الجماعة ابتداءً، وإلا .. فلا كراهة. نعم؛ إن ترتب عليه تعطيل الجماعة .. امتنع. وتجوز نية القدوة أثناء الصلاة، فلو نواها منفرداً .. جاز مع الكراهة، وتبعه حتى لو نواها قائماً قبل قراءة (الفاتحة) بمن في الركوع .. تبعه فيه، وسقطت عنه (الفاتحة). وللإمام أن يقتدي بآخر بعد تأخره عنه في المكان، ويعرض عن الإمامة، فيصير المأمومون مقتدين بمن اقتدى به تبعاً له، عند (حج)؛ لأنه استخلاف، وهو لا يحتاج المأمون فيه لنية اقتداء بالثاني، كما يأتي. وما أدركه المأموم مع الإمام مما يحسب له أول صلاته، وما يفعله بعد سلامه آخرها؛ للخبر المتفق عليه: "فما أدركتم .. فصلوا، وما فاتكم .. فأتموا"، والائتمام يستلزم سبق ابتداء، فيعيد في ثانية الصبح القنوت، وفي ثانية المغرب التشهد، وفعلهما مع الإمام إنما كان للمتابعة. * * * (فصل): في صفات الأئمة المستحبة. (أحق الناس بالإمامة: الوالي) في محل ولايته ولو فاسقاً، ويقدم الأعلى فالأعلى، لخبر: "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه". نعم؛ لو ولى الإمام أو نائبه شخصاً على مسجد مثلاً .. فهو أولى من والي البلد وقاضيها، والكلام فيمن تضمنت ولايتهم الإمامة نصاً أو عرفاً، بخلاف ولاة الحروب والشرطة، فلا حق لهم فيها. وإذا كان الوالي أحق (فيتقدم) بنفسه (أو يقدم غيره)؛ إذ الحق له، فينيب من أراد.

(ولو) أقيمت الصلاة (في ملك غيره) وقد أذن في الصلاة فيه، وإن لم يأذن في الجماعة. نعم؛ إن زاد زمنها على زمن الانفراد .. احتيج لإذنه فيها أيضاً؛ وذلك لأن تقدم غيره بحضرته من غير إذنه لا يليق ببذل الطاعة له. وسيأتي أن صلاة الجنازة، القريب أولى بها. (و) الأحق بعد الوالي في الملوك (الساكن) أي: مستحق المنفعة (بملك) لها (أو إعارة أو إجارة أو وقف أو وصية) أو إذن سيد، فحينئذٍ (يتقدم أو يقدم) من تصح إمامته ولو فاسقاً، ومع وجود أفضل منه وإن لم يكن مقدمه أهلاً للصلاة ككافر؛ لخبر أبي داوود: "لا يؤمن الرجل الرجل في بيته" (إلا أن المعير أحق من المستعير)؛ إذ المعير مالك للمنفعة، وله الرجوع فيها متى شاء. (والسيد أحق من عبده) أي: قنه (الذي ليس بمكاتب) كتابة صحيحة، أما هو .. فمقدم على سيده بالتقدم والتقديم؛ لأنه مستقل. (والإمام الراتب) بمحل جماعة (أحق من غير الوالي) الذي ولاه. وإن اختص الغير بنحو فقه وورع .. (فيتقدم أو يقدم) أهلاً للإمامة، ولو لم يحضر الراتب أو لم يأذن ولم يظن رضاه .. سن الإرسال إليه ليحضر، أو يأذن، فإن خيف فوت أول الوقت ولا فتنة ولا تأذ .. أمَّ القوم أحدهم، فإن ضاق الوقت .. جمعوا مطلقاً، وهذا في مسجد غير مطروق، وإلا .. فلا تكره فيه الجماعة مطلقاً وإن تعددت في وقت واحد، وهذا في المقدم بالمكان، فيتقدم أو يقدم، وأمَّا المقدم بالصفة، كأفقه .. فله التقدم لا التقديم. (ثم) إن لم يكن مقدم بالمكان، كأن كانوا بموات، أو بمسجد لا راتب له، أو له راتب ولم يصل معهم ولم يقدم أحداً .. (قدم) بالصفة. فيقدم (الأفقه) بأحكام الصلاة؛ إذ الحاجة إلى الفقه أهم؛ لعدم انحصار حوادث الصلاة.

(ثم) إن استوى اثنان فقهاً .. قدم (الأقرأ) أي: الأحفظ، كما في "شرحي الإرشاد"، أو الأصح قراءة كما في "التحفة" و"النهاية"؛ إذ حاجة الصلاة إلى القراءة أشد من الورع. (ثم) إن استويا فيما مر .. قدم (الأورع) و (الورع): ترك الشبهات، فإن ترك ما زاد على الحاجة من الحلال .. كان زاهداً، ومن ثم يقدم الأزهد على الأورع. (ثم) إن استويا، فيما مر .. قدم (من سبق بالهجرة) إليه صلى الله عليه وسلم بالنسبة لآبائه، أو لدار الإسلام بالنسبة إلى هجرته (هو أو أحد آبائه) إليها. (ثم) -بعد من ذكر- يقدم الأسن، والمراد به (من سبق إسلامه) فيقدم شاب أسلم أمس على شيخ أسلم اليوم، فإن أسلما معاً .. قدم الشيخ، ويقدم المسلم بنفسه على المسلم تبعاً وإن تأخر إسلام الأول. (ثم) يقدم -بعد من ذكر- (النسيب) بما يعتبر في الكفاءة (ثم حسن الذكر) بأن يكون ثناء الناس بالجميل عليه أكثر؛ لأنه أهيب، والقلوب إليه أميل. (ثم نظيف الثوب) فالوجه (ثم نظيف البدن، و) بعده (طيب الصنعة، ثم حسن الصوت)؛ لميل القلوب إلى الأقتداء به، واستماع كلامه. (ثم حسن الصورة) أي: الوجه، فالأحسن زوجة، فالأبيض ثوباً على لابس الثوب الأسود. قال في "الشرح": وهذا أخذه من "الروضة"، و"التحقيق"، وهو المعتمد؛ إذ المدار-كما أشعر به تعليمهم- على ما هو أفضى إلى استمالة القلوب، وكل واحد مما ذكر أفضى إلى ذلك مما بعده، وحينئذٍ فالأولى بعد الاستواء في النسب وما قبله: الأحسن ذكراً، فالأنظف ثوباً فبدناً فصنعة، فالأحسن صوتاً فوجهاً. (فإن استووا) في جميع ما مر وتشاحوا ( .. أقرع) بينهم. (والعدل) ولو مفضولاً (أولى من الفاسق، وإن كان) الفاسق حراً [أو] (أفقه، أو أقرأ)؛ إذ لا وثوق بمحافظته على الواجبات، ولخبر الحاكم وغيره: "إن سرَّكم أن

تقبل صلاتكم .. فليؤمكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم"، وفي مرسل: "صلوا خلف كل برٍّ وفاجر"، ويعضده صلاة ابن عمر خلف الحجاج، وكفى به فاسقاً، فتكره خلفه إن وجد غيره، على ما مر. ومثله المبتدع، بل أشد؛ لأن اعتقاده لا يفارقه، بل تحرم على أهل الصلاح؛ لأن ذلك يحمل الناس على تحسين الظن بهما، وتكره الإمامه لكل منهما إلا أن يقتدي به مثله، ويحرم نصبه إماماً؛ لما فيه من الخلل، فيوقع الناس بإمامته في النقص، ولا يصح ولا يستحق المعلوم وإن باشر الإمامة. ويجوز لكل ذي وظيفة من إمامه وأذان وتدريس وغيرها، أن ينيب مثله أو أحسن منه فيها، ويستحق حينئذٍ المعلوم. (و) كذلك (البالغ) ولو قناً (أولى من الصبي وإن كان) الصبي حراً، أو (أفقه أو أقرأ)؛ لكراهة الاقتداء، وللخلاف في إمامته. (والحر أولى من العبد)؛ لأنه أكمل (ويستوي العبد الفقيه) أو القارئ مثلاً (والحر غير الفقيه) أو القارئ؛ لانجبار نقص الرق بما انضم إليه من صفة الكمال. وإنما كان الحر أولى في صلاة الجنازة مطلقاً؛ لأن القصد بها الدعاء والشفاعة، وهو بهما أليق. (والمقيم) والمتم (أولى من المسافر) الذي يقصر؛ لأنه إذا أمَّ .. لا يختلفون، وإذا أمَّ القاصر .. اختلفوا. (وولد الحلال أولى من ولد الزنا) ومن لا يعرف له أب وإن كان أفقه أو أقرأ؛ إذ إمامته خلاف الأولى. (والأعمى كالبصير) حيث لم يزد أحدهما بشيء مما مر، كحرية ونظافة؛ أذ الأول أخشع؛ لعدم نظره ما يشغله، والثاني أحفظ لتجنب الخبث، فإن لم يكن الأعمى خاشعاً .. فالبصير أولى، أو لم يكن البصير متحاشياً عن الخبث .. فالأعمى أولى، والسميع والأصم سواء. * * *

فصل: في بعض سنن الجماعة

(فصل): في بعض سنن الجماعة. (يستحب) لمريد الجماعة غير المقيم (أن لا يقوم إلا بعد فراغ الإقامة) جميعها وإن فات عليه بذلك الصف الأول؛ لأنه وقت الدخول في الصلاة، وهو قبله مشغول بالإجابة، وهذا إن كان بحيث إذا لم يقم إلا بعدها .. يدرك فضيلة التحرم، وإلا كأن بعد أو كان ثقيل القيام .. قام قبل ذلك بحيث يدركها، أمَّا المقيم .. فيقوم عند إرادته الإقامه. ويندب: أن لا يبتدئ نفلاً حال أو قرب الإقامة بحيث تفوته فضيلة التحرم؛ لخبر: "إذا أقيمت الصلاة .. فلا صلاة إلا المكتوبة". ولا يجلس ثم يقوم؛ لأنه يشغل عن كمال الإجابة كقيامه مع الإقامة. فإن كان في صلاة فرض فائت .. وجب إتمامه ما لم يخش فوت وقت الحاضرة، وإلا .. قطعه حتماً إن لم يمكنه إدراك الحاضرة لو قلبه ركعتين نفلاً، أو في فرض حاضر وكان صبحاً، أو قام لثالثته .. أتمه ندباً إن لم يخش فوت الجماعة لو أتمها، وإلا .. ندب قطعها إن اتسع الوقت لو قطع أو قلب، وإلا .. حرم. وإن كانت نفلاً .. أتمها ندباً إن نوى عدداً، وإلا .. اقتصر على ركعتين إن أمن فوت الجماعة بأن يدركها ولو قبيل سلام الإمام، أو رجا جماعة أخرى، وإلا .. ندب قطعه. نعم؛ الجمعة يجب القطع لإدراك ركعة منها مطلقاً. (و) يستحب (تسوية الصفوف، والأمر بذلك) لكل أحد (و) هو (من الإمام) ولو بنائبه (آكد) والمراد به تعديلها، والتراص فيها، ووصلها، وسد فرجها، وتقاربها، وتحاذي القائمين بحيث لا يتقدم صدر واحد ولا شيء منه على مَنْ بجنبه، ولا يشرع في الثاني حتى يتم الذي قبله، فإن خالف في شيء من ذلك .. كره، وفاتته فضيلة الجماعة عند (حج). وعند الشهاب الرملي: كل مكروه من حيث الجماعة مفوت لفضيلتها إلا تسوية الصفوف؛ لخبر أبي داوود وغيره: "أقيموا الصفوف، وحاذوا المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً ..

وصله لله، ومن قطع صفاً .. قطعه الله"، وفي "الأصل" ما ينبغي مراجعته. ولا يضر طول الفصل بين الإقامة والصلاة لتعديل الصفوف، كما في "التحفة" في (باب الأذان). وعد في "الزواجر" قطع الصف وعدم تسويته من الكبائر، قال: وهو ظاهر خبر: "من قطع صفاً .. قطعه الله"؛ إذ هو بمعنى لعنه الله، واللعن من علامة الكبائر، لكن لم أر من عده كبيرة، بل هو عندنا مكروه. (وأفضل الصفوف: الأول) وهو الذي يلي الإمام وإن تخلله منبر أو مقصورة أو أعمدة. (فالأول) وهو الذي يليه وهكذا، والصف الأول صادق على المستديرين حول الكعبة، المتصل بما وراء الإمام، وعلى غير من في جهته وهو أقرب إلى الكعبة منه، ولم يفصل بينه وبين الإمام صف، وأفضل كل صف يمينه وإن بعد. وإنما أفضلية الأول فالأول (للرجال) وإن كان ثم غيرهم، وللخناثى الخلص أو مع النساء، وللنساء الخلص، بخلاف النساء مع الذكور، أو الخناثي والخناثى مع الذكور، فالأفضل لهن التأخير. وأصل: ذلك خبر مسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء -أي: مع غيرهن- آخرها، وشرها أولها". ويسن أن يكتنف المأمومون الإمام بأن يكون محاذياً لوسطهن؛ لخبر أبي داوود: "وسطوا الإمام، وسدوا الخلل". ويسن المبادرة إلى الصف الأول وإن فاتته بقصده الركعة غير الأخيرة، أمَّأ هي .. فإدراكها أولى من إدراك الصف الأول. (وتكره إمامة الفاسق) والاقتداء به حيث لم يخش فتنة؛ لعدم أمانته، وللخلاف في صحته. (و) إمامة (الأقلف) والاقتداء به (وهو الذي لم يختن) ولو قبل البلوغ، لكن قال بعضهم: تكره بعد البلوغ، لا قبله. (و) إمامة (المبتدع) الذي لم يكفر ببدعته، والاقتداء به وإن لم يوجد غيره على ما مر، والمبتدع المخالف لأهل السنة في العقائد.

وأمَّا الخلاف بين أهل السنة كالأشعرية والماتريدية .. فلا يؤثر، بل جله أو كله لفظي أو قريب منه. وأمَّا من يكفر ببدعته، كمن يقول: بأنه تعالى جسم كالأجسام، ومنكر البعث .. فلا تصح له صلاة. (و) إمامه (التمتام) وهو من يكرر التاء، والقياس: التأتاء (والفأفاء) وهو يكرر الفاء (والوأواء) وهو من يكرر الواو، وكل من يكرر حرفاً للزيادة ولتطويل القراءة بالتكرير، ولنفرة الطباع عن سماع كلامهم، وإنما صحت إمامتهم؛ لعذرهم مع إتيانهم بأصل الحرف، بل ولأن المكَرَّرَ حرفٌ قرآني. ويكره أيضاً: إمامه لاحن لا يغير المعنى، والموسوس، ومن يكرهه أكثر القوم لعذر شرعي. (وكذا تكره الجماعة) أي: إقامتها (في مسجد له إمام راتب) قبله أو معه أو بعده (وهو غير مطروق)؛ لأن ذلك يورث الطعن في إمامته، ويفرق الناس عليه (إلا إذا) غاب الراتب أول الوقت، و (خُشِيَ) بالبناء للمفعول (فوات فضيلة أول الوقت، ولم يُخش) بالبناء للمفعول (فتنة) ولا تأذى الراتب لو تقدم غيره .. فيسن، كما مر أول الفصل الذي قبل هذا. (ويندب: أن يجهر الإمام بالتكبير) للتحرم والانتقالات (وبقول: "سمع الله لمن حمده")؛ للانتقال من الركوع (وبالسلام) قاصداً بذلك الخروج من الصلاة، وبما قبله الذكر وحده أو مع التبليغ، وإلا .. بطلت صلاته، كما مر في سنن الصلاة مستوفى؛ وذلك للاتباع في الكل، فإن كبر المسجد .. ندب مبلغ يجهر بذلك، وإلا .. كره. (و) أن (يوافقه المسبوق في الأذكار) الواجبة والمندوبة حتى في دعاء التشهد الأخير وإن كان المأموم في محل تشهده الأول؛ لأنه للمتابعة، كما مر. ومن ذلك: أنه يكبر لما يحسب له وإن لم ينتقل معه إليه، كركوع وسجود تلاوة وجده فيهما، ولما انتقل معه فيه وإن لم يحسب له، فإذا أدركه في الاعتدال .. كبر للهوي

ولما بعده من سائر الانتقالات دون ذكر الاعتدال، أو في سجود مثلاً لم يكبر للهوي إليه؛ لأنه لم يتابعه فيه، ولا هو محسوب له. وخرج بـ (الأذكار): الأفعال، فتجب عليه متابعته فيها فيما أدركه معه منها وإن لم يحسب له. نعم؛ لو أدركه في جلسة الاستراحة .. لم تجب عليه موافقته فيها؛ لعدم فحش المخالفة، وتجب عليه المتابعة، حتى تبطلُ صلاته بتخلفه عنه بركنين فيما لو اقتدى به في نحو الاعتدال، لكن لو سبقه حينئذٍ بركن، كأن قام من سجدته الثانية، والمأموم في الجلوس بينهما .. تابعه ولا يسجد الثانية؛ لأنها للمتابعة، وقد فاتت، وكذا لو كان بطيء الحركة، فلم يصل إلى قرب السجود إلاَّ وقد فرغ الإمام من السجدتين وإذا سلم الإمام .. انتقل المسبوق إلى القيام أو بدله مكبراً ندباً إن كان قيامه من موضع تشهده الأول، ولا يلزمه القيام فوراً، بل لا يضر تطويله. وإن لم يكن محل تشهده .. قام فوراً بلا تكبير، وإلاَّ .. بطلت صلاته إن علم وتعمد، وإلا .. لم تبطل، ويسجد للسهو. قال في "التحفة": (ويظهر أن المخل بالفورية هنا هو ما يزيد على قدر جلسة الاستراحة، ومر أن تطويلها المبطل يقدر به الجلوس بين السجدتين؛ لأنهم عدّوا قدرها تطويلاً غير فاحش، وكذا كل مخل أوجبوا على المأموم القيام أو نحوه فوراً، فضبط الفورية يتعين بما ذكرته) اهـ والحاصل: أنهم اغتفروا ما بقدر جلسة الاستراحة. لكن قال (حج): المراد به أكثرها، وقال (م ر): أقلها، وهو قدر الله سبحان الله، والزائد عليه مبطل والله أعلم. * * *

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر (باب) كيفية (صلاة المسافر) من حيث القصر والجمع، ويتبعه الجمع في المطر، فاندفع الإعتراض بأن الترجمة ناقصة على أن المعيب أن يترجم لشيء، ويذكر أنقص منه، أمَّا ذكر الزائد كما هنا .. فلا. والأصل في القصر: آية (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ) [النساء:101]. وهي وإن كانت مقيدة بالخوف فقد صح جوازه في الأمن، كما في خبر يعلي ابن منية. والإتمام جائز؛ لخبر عائشة: أنها قالت: يا رسول الله؛ قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: "أحسنت". وأمَّا خبر: "فرضت الصلاة ركعتين" أي: في السفر .. فمعناه لمن أراد الاقتصار عليهما؛ جمعاً بين الأدلة. (يجوز للمسافر سفراً طويلاً) أي: مرحلتين فأكثر بأن يقصد ذلك وإن لم يبلغه (مباحاً) أي: جائزاً في ظنه، فيشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه، كأن يسافر وحده سيما بالليل؛ لخبر أحمد (كره صلى الله عليه وسلم الوحدة في السفر، ولعن راكب الفلاة وحده) أي: إن ظن ضرراً، وقال: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب". نعم؛ من أنس بالله كأنس غيره بالرفقة .. لا تكره له، كما لو دعت حاجة للوحدة. (قصر الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين) ولو صلاة صبي ومعادة، لا صبح ومغرب إجماعاً.

(أداءً) ولو بأن سافر وقد بقي من الوقت قدر ركعة، أي: شرع فيها، وأدرك من قدر الوقت ركعة كما في "الفتح"، واعتمده في "المغنى" وغيره. (وقضاءً) عما فات، وقضى في سفر قصر يقيناً وإن تخلل بينهما إقامة طويلة. (لا فائتة الحضر، و) لا (المشكوك) في (أنها فائتة حضر أو سفر) ولا فائتة سفر لا يجوز فيه القصر؛ وإن قضاها في سفر يجوز فيه القصر؛ لأنها ثبتت في ذمته تامة. والأصل: الإتمام في المشكوك. وخرج بـ (الطويل): القصير، وبـ (المباح): الحرام، فلا يجوز في الحرام قصر ولا غيره مِن رخص السفر، ولا شيء من رخص الطويل في القصير. (والسفر الطويل يومان) أو ليلتان (معتدلان) أو يوم وليلة وإن لم يعتدلا، أي: أربعة وعشرون ساعة ذهاباً فقط تحديداً ولو ظناً (يسير الأثقال) أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال ودبيب الأقدام مع اعتبار الحط والترحال والنزول المعتاد لنحو استراحة وصلاة وأكل وشرب على العادة. قال الشرقاوي: قدر ذلك (ع ش) باثنين وعشرين ساعة ونصف -وفيه نظر- وهو أربعة أبرد، وبالفراسخ ستة عشر فرسخاً، وبالأميال الهاشمية -أي: العباسية- ثمانية وأربعون ميلاً. والميل: ستة آلاف ذراع؛ وذلك: لما صح أن ابني عمر وعباس رضي الله عنهم كانا يقصران ويفطران في أربعة أبرد، ولا يعرف لهما مخالف، ومثله لا يكون إلا عن توقيف، بل جاء ذلك في حديث مرفوع صححه ابن خزيمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومسافة البحر كالبر، فلو قطعها في أحدهما في لحظة .. ترخص أي: وصل فيها مقصداً لا ينتهي سفره بوصوله، لكن لو نوى إقامة نحو يومين فيه وحينئذٍ فيترخص فيه. ولو شك في طول سفره .. اجتهد، وأخذ باجتهاده؛ لأن القصر وإن كان رخصة لا يصار إليها إلا بيقين، فالظن الناشئ عن اجتهاد أقامه الفقهاء مقام اليقين. فائدة: الرخص المتعلقة بالسفر الطويل: القصر والجمع والفطر في رمضان ومسح الخف ثلاثاً.

فصل: فيما يتحقق وينتهي به السفر وبعض شروط القصر

والمتعلقة بالسفر الطويل والقصير: أكل الميتة -وليس مختصاً بالسفر- والنفل على الراحلة وماشياً والتيمم وإسقاط الفرض به -ولا يختص ذلك بالسفر أيضاً- واستصحاب الوديعة معه فيه إذا لم يجد مالكها، ولا وكيله، ولا حاكم أمين وعدم القضاء في استصحاب إحدى زوجتيه لغير من صحبها مدة السفر. (والإتمام) للصلاة (أفضل) من القصر حيث جاز في السفر (إلا في) ما إذا قصد ما أمده (ثلاث مراحل) وإن لم يبلغها؛ خروجاً من خلاف بعض أقوال الحنفية: إنها لا تقصر إلا في ذلك، بل حقق الكردي: أن المعتمد عندهم: أن الثلاث بقدر يومين عندنا، وحينئذٍ فالقصر في اليومين أفضل؛ رعاية لما اعتمده من أن الصلاة، غير المغرب فرضت ركعتين، فزيدت صلاة الحضر، وبقيت صلاة السفر كذلك. (و) إلا (لمن وجد في نفسه كراهة القصر) لا رغبة عن السنة؛ لأنه كفر، بل لإيثاره الأصل، وهو الإتمام، فالأَوْلى له القصر، وكذا من شك في جوازه؛ لظن تخيله بشبهة، كتقيده بالخوف في الآية، فيؤمر به؛ قهراً لنفسه، أو كان ممن يقتدى به بحضرة الناس، فتعاطي الرخصة له أفضل؛ لئلا يشق على غيره. ولملاّح معه أهله الإتمام أفضل له؛ للخلاف في جوازه له، وقد يجب، كأن يضيق الوقت عن الإتمام. * * * (فصل) فيما يتحقق، وينتهي به السفر، وبعض شروط القصر. (وأول السفر) الطويل هنا، والقصير في نحو التنفل في السفر (الخروج من السور) وكتفيه الخارجين عن محاذاة بابه (في) البلد (المسوره) المختص بها ولو في جهة مقصده فقط وإن تعدد أو تهدم وبقيت تسميته سوراً، أو كان ظهره ملصقاً به، أو كان وراءه عمارة؛ إذ ما في باطنه ولو نحو مزارع محسوب من موضع الإقامة، وما كان خارجه لا يعد من البلد، والخندق كالسور، لكن لا عبرة به مع وجود السور، وكذا تحويط أهل القرى عليها بنحو التراب. (و) أوله فيما لا نحو سور له في جهة مقصده مختص به الخروج (من العمران)

وإن تخلله نحو خراب وميدان وإن كبر، ولا تشترط مجاوزة الخراب والمزارع التي وراء البلد وإن اتصلت به. لكن قيد (حج)، و (م ر) الخراب بما اتخذوه مزارع، أو حوّطوا عليه، وإلا .. فلا بد من مجاوزته، والقريتان إن اتصلتا عرفاً .. كقرية، وإلاَّ .. فكلٍّ حكمُه، وكل من الاتصال أو الانفصال الطارئ كالأصلي. والمعتبر في سفر البر الخروج من العمران بحيث لا يسير بينه وإن سافر في طول البلد أو عرضه. ومثله: سفر البحر المنفصل ساحله عن العمران، وفي سفر البحر المتصل ساحله بالعمران عرفاً الخروج منها (مع ركوب السفينة) وجريها، أو جري الزورق إليها آخر مرة، فإذا جرى كذلك .. جاز القصر لمن به ولمن بالسفينة ولو قبل وصوله إليها. وإنما يعتبر جري السفينة أو الزورق (فيما لا سور له) كما في "التحفة"، و"الشرح"، واستوجهه الخطيب. قال الكردي: وفي "شرح الإرشاد"، وكلام (م ر): اضطراب في النفل بينته في "الأصل". على أنه لا فرق في ذلك بين السور والعمران، فلا بد من ركوب السفينة أو جري الزورق إليها في السواحل التي لا تصل السفينة إليها؛ لقلة عمق البحر فيها؛ فيذهب للسفينة بالزورق، فإذا جرى إليها أي: آخر مرة .. كان ذلك أول سفره. قال (زي): (ومحل ما تقدم: ما لم تجر السفينة محاذية للبلد، وإلا كأن سافر من بولاق إلى الصعيد .. فلا بد من مفارقة العمران) اهـ (و) أوله لساكن الخيام: (مجاوزة الحلة) -بكسر الحاء- وهي بيوت مجتمعة أو متفرقة، بحيث يجتمع أهلها للسمر في نادٍ واحد، ويستعير بعضهم من بعض. ويشترط: مجاوزة مرافقها المختصة بها، كمطرح رماد وملعب صبيان وناد ومعاطن إبل وماء وحطب، وقد يشمل اسم الحلة لجميع ذلك؛ إذ كلها وإن اتسعت، معدودة من مواضع إقامتهم، هذا إن كانت بمستو. فإن كانت بواد وسافر في عرضه، أوبربوة .. اشترط مجاوزة العرض، ومحل الصعود والهبوط إن اعتدلت هذه الثلاثة.

فإن أفرطت سعتها، أو كانت البيوت ببعض عرضه .. اكتفي بمحاوزة الحلة ومرافقها. (وينتهي سفره) المجوز لترخصه (بوصوله) ما مر مما يشترط مجاوزته في ابتداء السفر وإن لم يدخله؛ لأن السفر على خلاف الأصل، فانقطع بمجرد وصوله، بخلاف الإقامة فأصل، فاشترط في قطعها الخروج، لا مجرد رجوعه. وذلك بأن يصل (سور وطنه) فيما له سور (أو عمرانه إن كان) وطنه (غير مسور) وإن لم ينو الإقامة به. (وبنية الرجوع) وبالتردد فيه من مستقل ماكث ولو بمحل لا يصلح لإقامة، كمفازة قبل وصوله مسافة قصر (إلى وطنه) سواء أقصد مع السفر ترك السفر، أو أخذ شيء منه، فلا يترخص في إقامته ولا رجوعه إلى أن يفارق وطنه؛ تغليباً للوطن، فإن سافر .. فسفر جديد. وخرج بـ (وطنه): غيره، فيترخص، وإن دخله وكان له أهل فيه، و (بنية الرجوع): رجوعه إليه ضالاً عن الطريق، وبـ (المستقل) نحو عبد وزوجة، فلا أثر لنيتهم، وبـ (الماكث): السائر لجهة مقصده، فلا أثر لنيته؛ إذ فعله يخالف نيته، فألغيت ما دام فعله موجوداً، وبـ (قبل وصوله مسافة القصر): ما لو رجع، أو نوى الرجوع من بعيد لحاجة، ما لم يصل وطنه. (و) ينتهي أيضاً (بوصول موضع نوى) المستقل (الإقامة فيه مطلقا) أي: من غير تقييد بزمن وإن لم يصلح للإقامة. (أو) نوى أن يقيم فيه (أربعة أيام) بلياليها (صحيحه) أي: غير يومي الدخول والخروج؛ لأن في الأول الحط، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر. (أو) أن يقيم فيه (لحاجة لا تنقضي إلا بالمدة المذكورة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين في إقامة ثلاثة أيام بمكة مع حرمة المقام بها عليهم، والترخص فيها يدل على بقاء حكم السفر فيها، وفي معناها ما فوقها ودون الأربعة، وألحق بإقامتها نية إقامتها.

وشمل قوله: (بوصوله): ما لو خرج قاصداً مرحلتين ثم عنَّ له أن يقيم بمحل قريب منه، فيترخص ما لم يصله؛ لانعقاد سبب الرخصة في حقه، فلم تنقطع إلا بوصوله ما غيَّر النية إليه. (وإن كان) المستقل نوى الإقامة بمحل لحاجة، كريح وقافلة ورفقة يريد السفر معهم إن خرجوا، وإلاَّ فوحده. فإن نوى أن يسافر إلا إن سافروا .. لم يترخص؛ لعدم جزمه بالسفر، وذلك بأن (يتوقع قضاءها) أي: الحاجة (كل وقت) أي: قبل مضي أربعة أيام صحاح (ترخص) بقصر وغيره، ولو غير مقاتل (إلى ثمانية عشر يوماً) بلياليهن غير يومي الدخول والخروج؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم أقامها بعد فتح مكة؛ لحرب هوزان، يقصر الصلاة) حسنه الترمذي، وإن ضعفه الجمهور؛ لأن له شواهد تجبره، وصح رواية: عشرين، فحمل على أنه عدَّ يومي الدخول والخروج منها. واعلم أن للقصر ثمانية شروط: الأول: السفر الطويل، كما مر. وشرطه: أن يكون لغرض صحيح، ولم يعدل عن طريق قصير إلى طويل؛ لغرض القصر وحده، بل لنحو أمن أو سهولة، أو تنزه ولو مع القصر، فالتنزه لا يصح كونه غرضاً حاملاً على السفر، ويصح كونه غرضاً حاملاً على العدول من قصير إلى طويل، فإن سافر لغير غرض صحيح، كأن كان لمجرد رؤية البلدان والتنقل فيها .. لم يقصر، ولو كان لمقصده طريقان: طويل وقصير .. فالعبرة بما سلكه منهما. الثاني: كونه مباحاً، كما مر، فلا يترخص العاصي بسفره، كآبق وناشزة ومدين بغير رضا دائنه إن حل وقدر على وفائه وإن قل وقصر السفر وجرت العادة بالمسامحة في مثله، وغير الدين من الحقوق كالدين .. فلا بد من نحو وفائه، أو أذن من له الحق أو ظن رضاه، والمراد بالمعصية ولو صورة، كسفر صبي بغير أذن أصله، وإن قصد مع المعصية غيرها كسفر بغير إذن دائن للحج، ولو نوى به مباحاً ثم في أثنائه نوى به معصية .. امتنع ترخصه من حينئذٍ، أو عكسه .. ترخص إن بقي من سفره مرحلتان. وخرج بـ (العاصي بسفره): العاصي في سفره كأن سافر سفراً مباحاً، ثم في أثنائه سرق مثلاً فيترخص، ومن العاصي بسفره من يتعب نفسه أو دابته بالركض من غير غرض يبيح ذلك.

الثالث: أن يقصد محلاً معلوماً أولاً، بأن يعلم أن مسافته مرحلتان فأكثر، سواء كان معيناً كمكة، أو غير معين كالحجاز. (و) بما تقرر علم أنه (لا يقصر هائم) وهو من لايدري أين يذهب، سلك طريقاً أم لا، ومن لم يسلكه يسمى راكب التعاسيف، أي: الطرق المائلة، ولا يترخص بشيء من رخص السفر وإن طال تردده؛ لأنه عبث لا يليق به الترخيص. وبعض أفراده حرام، كمن يتعب نفسه أو دابته بالسفر بلا غرض. فما أوهمه كلام بعضهم: أنه عاص بسفره مطلقاً .. يرده قولهم: لو قصد مرحلتين .. قصر فيهما، وكذا فيما بعدهما عند (م ر)، لكن نظر بعضهم في كونه في المرحلتين هائماً، وأمَّا بعدهما .. فإنما جاز ترخصه عند (م ر) تبعاً. (و) لا (طالب غريم، أوآبق لا يعرف موضعه) وقد عقد سفره بنية أنه متى وجده .. رجع؛ لأنه لم يعزم على سفر طويل، ومن ثم لو علم أنه لا يجده إلا بعد مرحلتين .. قصر فيهما كما لو قصدهما الهائم، وكذا فيما بعدهما عند (م ر)، والمرحلتان مثال. فلو علم أنه لا ينقضي قبل عشر مراحل .. قصر فيها. وقد شمل ذلك قولنا السابق بأن يعلم أن مسافته مرحلتان فأكثر. كما شمل قولنا: (أولاً) مَنْ قصد في ابتداء سفره مرحلتين، ثم عنَّ له بعد مفارقته العمران أنه يهيم أو يرجع إذا وجد غرضه، أو يقيم قبلها، فيترخص إلى أن يقيم؛ لانعقاد سبب الرخصة في حقه، كما مر. نعم؛ إن كان من طرأ له أنه يهيم عاصياً بذلك .. امتنع عليه الترخيص. أمَّا من نوى ابتداء دون مرحلتين، ثم نوى في سفره الزيادة .. فلا يترخص، ما لم يكن من محل نيته الزيادة إلى مقصده مرحلتان. (ولا) تقصر (زوجة وعبد لا يعرفان المقصد) للزوج والسيد؛ لفقد شرط القصر، وهو تحقق السفر الطويل (إلا بعد مرحلتين) فيقصران؛ لتحققه، وكذا قبلهما أن علما أن سفر متبوعهما يبلغهما ولو برؤيتهما له يقصر الصلاة، بخلاف إعداده عدة كثيرة لا تكون إلا لسفر طويل عادة، خلافاً للأذرعي.

فصل: في بقية شروط القصر

لكن استوجه (سم) كلامه حيث ظن بهذه القرينة طول سفره. ومثلهما، فيما مر الجندي، وأجيرُ عينٍ، وأسير. ولو نووا مسافة القصر دون متبوعهم، أو مع الجهل بحاله .. قصر الجندي فقط؛ لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره إن كان متطوعاً، ولم يختل به النظام، بخلاف من يختل يه، كأكثر الجيش، وشجاع. * * * (فصل) في بقية (شروط القصر) وهي خمسة: الأول: (العلم بجوازه) فلو قصر أو جمع جاهلاً بجواز ذلك .. لم يصح؛ لتلاعبه. (و) الثاني: (أن لا يقتدي) في جزء من صلاته (بمتم) حال قدوته به وإن ظنه مسافراً، أو تبين كونه محدثاً، أو ذا نجاسة بعد تبين إتمامه، ولو كان اقتداؤه به لحظة ودون تكبيرة الإحرام، وإن أحدث عقب اقتدائه به ولم يجلس معه، كأن أدركه في آخر صلاته، ولو من نحو صبح أو جمعه أو سنة؛ لأنها تامة. (ولا بمشكوك السفر) وإن بان مسافراً؛ لأنه حينئذٍ لم يجزم بنية القصر، والجزم بها شرط، فإذا اقتدى في جزء من صلاته بأحدهما أو بمن لم يعلم من حاله شيئاً .. لزمه الإتمام؛ لتقصيره بشروعه متردداً فيما يسهل كشفه في الأخيرين؛ لظهور شعار المقيم والمسافر غالباً، والأصل الإتمام، ولأن ذلك هو السنة في الأولى؛ لما صح عن ابن عباس أنه سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: (تلك السنة). وخرج (بمتم حال القدوة): ما لو لزمه الإتمام بعد مفارقة المأموم له. و (بتبين حدثه بعد تبين إتمامه): ما لو تبين من ظنه مسافراً .. محدثاً، ثم متماً، أو بانا معاً، فلا يلزمه الإتمام. وإذا علمه متماً ونوى القصر خلفه وهو مسافر .. انعقدت تامة؛ لأنه من أهل القصر في الجملة، بخلاف المقيم فلا تنعقد له؛ لأنه ليس من أهله. قال (ب ج): والذي أفاده شيخنا الحفني: أنها لا تنعقد فيهما؛ لأنه متلاعب. ولو استخلف قاصر لنحو خبث متماً من المقتدين به أو غيرهم .. أتم المقتدون وإن لم

ينووا الاقتداء به حيث لا تجب نيته، كأن كان مقتدياً به، وموافقاً لنظم صلاته، واستخلف عن قرب؛ لأنهم مقتدون به حكماً، بدليل لحوقهم سهوه. ولو لزمه الإتمام، ففسدت صلاته وإن لم تسقط القضاء، كصلاة فاقد الطهورين ونحوه عند (حج) .. وجب في الإعادة والقضاء إتمامها، بخلاف ما لو تبين عدم انعقادها. والضابط: أن كل ما عرض فساده بعد موجب الإتمام يجب إتمامه، وما لا، فلا. ولو ظنه مسافراً وشك في نيته القصر ونواه .. قصر إن قصر وإن علق نيته، كأن قال: إن قصر قصرت؛ لأن الظاهر من حال المسافر القصر، ولا يضر التعليق؛ لأنه محل ضرورة حيث لم يكن تصريحاً بمقتضى الحال، وإلا .. لم يضر، كما هنا. (و) الثالث: (أن ينوي القصر) وما في معناه، كصلاة السفر أو الظهر ركعتين؛ لأنه خلاف الأصل، فاحتيج لصارف عنه، بخلاف الإتمام، ولا بد من كون نيته (في الإحرام) بأن يقرنها به يقيناً. الرابع: التحرز عما ينافي نية القصر، بأن لا يأتي بما ينافيها إلى السلام، فإن عرض مناف لها، كأن تردد، هل يقطعها؟ أو شك، هل نوى القصر أم لا؟ أتم وإن تذكر حالاً؛ لأنه الأصل، وبه فارق الشك في أصل النية إذا تذكر حالاً. نعم؛ لأنه يضر تعليقها بنية إمامه، كما مر قريباً. ولو قام إمامه لثالثة، فشك، أهو متم أو ساه؟ .. أتم وإن بان أنه ساه. نعم؛ لو أوجب إمامه القصر -كحنفي- بعد ثلاث مراحل .. لم يلزمه الإتمام؛ حملاً لقيامه على السهو، بل ينتظره أو يفارقه، ويسجد فيهما للسهو؛ لتوجهه عليه بقيام إمامه. ولو قام القاصر لثالثة عامداً عالماً بلا موجب للإتمام، كنيته .. بطلت صلاته، أو ناسياً أوجاهلاً .. فلا، وليعد عند تذكره أو علمه، فإن أراد أن يتم .. عاد ثم قام بنية الإتمام؛ لأن قيامه الأول لغو، ويسجد للسهو. (و) الخامس: (أن يدوم سفره من أول صلاته إلى آخرها) فإن انتهت به سفينته إلى ما يقطع ترخصه، أو شك هل بلغتها؟ أو نوى الإقامة المنافية للترخيص، أو شك في نيتها .. أتم؛ لزوال تحقق الرخصة. * * *

فصل: في الجمع بين الصلاتين بالسفر والمطر

(فصل) في الجمع بين الصلاتين بالسفر والمطر. (ويجوز) في السفر المجوز للقصر (الجمع بين العصرين) أي: الظهر والعصر، وغلبت؛ لشرفها، لأنها الوسطى. (و) بين (العشاءين) أي: المغرب والعشاء، وغلبت؛ لأنها أفضل، والنهي عن تسمية المغرب عشاء حيث لا تغليب، وعبر بعضهم بالمغربين كأنه أراد به دفع تسمية المغرب عشاء وهو مكروه. و (الجواز) يصدق: بـ (خلاف الأولى) كما يأتي، وبـ (المندوب) كأن كان عالماً يقتدى به، وبـ (الواجب)، كأن نوى تأخير الظهر مع العصر وبقي من وقت العصر أربع ركعات، فيجب عليه الجمع تأخيراً مع القصر؛ ليدركهما أداء. ومنعه المزني كأبي حنيفة مطلقاً إلا في النسك بعرفة ومزدلفة، وجوزا القصر ولو للعاصي بسفره؛ لأنه الأصل عندهما في صلاة السفر، فليس برخصة، بل عزيمة، وفيه فسحة عظيمة؛ إذ يندر غاية الندور مسافر غير عاص بسفره؛ إذ يمتنع سفر من عليه حقٌ حالٌ وإن قل ولو ميلاً إلا برضا دائنه، أو ظن رضاه. وأما الجمع .. فيمتنع عندهما مطلقاً، وعندنا يمتنع على العاصي للمعصية، وهو مذهب مالك وأحمد كما في "الميزان"، فصار الجمع للعاصي ممتنع اتفاقاً بين الأئمة الأربعة، فلينتبه لذلك. (تقديماً) في وقت الأولى، قال (ب ج): (فلا بد من فعلهما جميعهما في الوقت، لكن نقل (سم) عن الروياني: أنه يجوز الجمع إن بقي من وقت المغرب -مثلاً- ما يسع المغرب، ودون ركعة من العشاء؛ لأن وقت المغرب يمتد إلى الفجر عند العذر، فكما اكتفي بعقد الثانية في السفر ينبغي أن يكتفي بذلك في الوقت) اهـ والجمعة كالظهر. (وتأخيراً) في وقت الثانية ولو لمتحيرة، وفاقد طهورين، بخلاف جمع التقديم، فلا يصح من متحيرة؛ لأن شرطه ظن صحة الأولى، وهو منتف فيها، وألحق بها من لم تسقط صلاته القضاء كفاقد الطهورين، كما في "شرحي الإرشاد" و"الشرح"، لكن نظر فيه في "التحفة"، وقال في"النهاية": فيه وقفة، وإذا جمعهما كان كل منهما

أداء؛ لأن وقتيهما صارا بالجمع كالوقت الواحد، وذلك لثبوت جمع التأخير في الصحيحين عن أنس، وابن عمر، وجمع التقديم: في البيهقي، وصححه ابن حبان، وحسنه الترمذي. فيمتنع جمع العصر مع المغرب، وجمع العشاء مع الصبح، وهي مع الظهر؛ اقتصاراً على الوارد. وكذا صلاتان نذرهما في وقتين من يوم واحد. وكون النذر يسلك به مسلك واجب الشرع إنما هو في العزائم لا في الرخص على أنه ليس كل واجب يجمع. (وتركه) أي: الجمع (أفضل)؛ لما فيه من إخلاء أحد الوقتين عن الصلاة، وخروجاً من خلاف من منعه وإن خالف السنة الصحيحة؛ إذ تأويلهم لها له نوع تمسك في جمع التأخير، وطعنهم في صحتها في جمع التقديم محتمل مع اعتضادهم بالأصل فروعي، لكن قال الكردي: في التأخير أحاديث لا تقبل التأويل، ومرَّ أن الجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه، لكن الحنفية يجعلونه للنسك، ونحن نجعله للسفر. والأفضل لمن كان سائراً في أحد الوقتين، نازلاً في الآخر الجمع في وقت النزول. وإن كان نازلاً أو سائراً فيهما .. فالتقديم عند (حج) أفضل؛ مسارعة لبراءة الذمة، والتأخير عند (م ر) أفضل؛ لأن وقت الثانية وقت للأولى في العذر وغيره، والأولى وقت للثانية في العذر فقط. فإن اقترن أحد الجمعين بكمال دون الآخر .. فهو أولى اتفاقاً (إلا لمن وجد في نفسه كراهة الجمع، أو شك في) دليل (جوازه) أو كان ممن يقتدى به .. فيسن له الجمع نظير ما مر في القصر (أو) كان (يصلي منفرداً لو ترك الجمع) وفي جماعة لو جمع، وكذا كل كمال اقترن بالجمع وخلا عنه تَركُه .. فالجمع أفضل، وكذا بعرفة وبمزدلفة وإن لم يقترن به كمال، كما يأتي. (وشروط) جمع (التقديم أربع) ويزاد خامس: وهو بقاء وقت الأولى، فإن خرج أثناء الثانية، أو شك في خروجه .. بطلت؛ لبطلان الجمع. قال (ب ج) والمدابغي وغيرهما وهو الصحيح، خلافاً لما نقله (سم) عن الروياني

كما مر، لكن قال الكردي: ولم يرتضه الشارح، أي: (حج). وسادس: وهو ظن صحة الأولى؛ لتخرج صلاة المتحيرة، كما مر. وسابع: وهو العلم بجوازه، كما في القصر. الأول من الشروط الأربعة: (البداءة بالأولى)؛ إذ الوقت لها، والثانية تبع لها، والتابع لا يتقدم على المتبوع، فإن قدم الثانية .. بطلت إن علم وتعمد، وإلا .. وقعت نفلاً مطلقاً إن لم يكن عليه فائتة من نوعها، وإلا .. وقعت عنها -على ما مر في ركن النية من صفة الصلاة- وكذا لو بان فساد الأولى .. وقعت له الثانية نفلاً مطلقاً، أو عن فرض فائت عليه من نوعها. (و) الثاني: (نية الجمع)؛ تمييزاً للتقديم المشروع عن غيره، وتكفي النية (فيها) أي: الأولى (ولو مع السلام) منها، أو بعد نية فعله ثم تركه؛ لوجود محل النية، وهو الأولى. ولو نوى تركه بعد تحلله، ولو أثناء الثانية ثم أراده ولو فوراً .. لم يجز عند (حج)؛ لفوات محل النية. وفارق القصر بأنه يلزم من تأخر نيته عن الإحرام تأدي جزء منها على التمتم، والأفضل قرن نيته بتحرم الأولى؛ خروجاً من الخلاف. (و) الثالث: (الموالاة بينهما) في الفعل؛ للاتباع في الجمع بنمرة، وقياساً في غيره، ولأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجبت الموالاة كركعات الصلاة الواحدة، ولا يضر فصل بأقل من ركعتين خفيفتين ولو مع تردد في نية الجمع إن تذكرها، بخلاف الطويل ولو سهواً، أو في شغل الطهارة، ولذا تركت الرواتب بينهما، بل يصلي قبلية الظهر مثلاً، ثم الفرضين، ثم بعدية الأولى، ثم قبلية الثانية، ثم بعديتها. ولو جمعها ثم علم بعد فراغهما أو في أثناء الثانية -وقد طال الفصل بين سلام الأولى والتذكر فيهما- ترك ركن من الأولى .. بطلت الأولى بترك الركن، وتعذر التدارك، وبطلت الثانية؛ لعدم صحة الأولى، وتقع له نفلاً مطلقاً على ما مر وله جمعهما تقديماً وتأخيراً؛ لأنه لم يصل. أمَّا إذا لم يطل فصل .. فيلغو ما أتى به من الثانية ويبني، أو علم ترك ركن من الثانية .. فيتداركه إن لم يطل فصل، وإلا .. فيعيدها في وقتها، أو جهل الترك، هل هو

من الأولى أو الثانية؟ فيعيدهما لوقتهما ولا جمع، فيجعل الترك من الأولى؛ لتلزمه إعادتها، ومن الثانية؛ ليمنعه من جمع التقديم لطول الفصل بها، وله جمعهما تأخيراً. (و) الرابع: (دوام السفر إلى) تمام (الإحرام بالثانية) فلو أقام قبله .. فلا جمع، وتعين إيقاع الثانية لوقتها، أمَّا عقد الأولى .. فلا يشترط السفر عنده، حتى لو أحرم بالأولى في الإقامة ثم سافر، فنوى .. كفى. ولا يشترط في جمع التأخير شيء من الشروط الثلاثة الأولى؛ لأنها إنما اشترطت؛ لتتحقق التبعية، لعدم صلاحية الوقت للثانية، والوقت هنا للثانية، فلم يحتج لشيء منها. نعم؛ هي سنة فيه. (و) إنما (يشترط في) جمع (التأخير) شيئان: أحدهما: (نيته) -أي: التأخير- أي: نية إيقاع الأولى في وقت الثانية، فإن نوى التأخير بلا نية إيقاع .. عصى وصارت قضاء. ولا بد من كون نية التأخير (قبل خروج وقت الأولى ولو بقدر ركعة)؛ ليتميز عن التأخير المحرم، وهذا بناء على أنه يكفي قدر ركعة لوقوع الأولى في وقت الثانية أداءً، وإن عصى بتأخير النية إلى ذلك، واعتمده (حج). واعتمد (م ر) أنها لا تقع أداءً إلا إذا بقي من وقتها ما يسع جميعها. ولو ترك هذه النية عامداً عالماً .. أثم، وصارت الأولى في وقت الثانية قضاء، أو جهلاً أو سهواً .. فقضاء بلا إثم. (و) الثاني: (دوام السفر إلى تمامها) أي: الثانية (وإلا) يدم إلى تمامها بأن أقام ولو في أثنائها ( .. صارت الأولى) وهي الظهر أو المغرب (قضاء)؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر وقد زال قبل تمامها. وقضيته: أنه لو قدم الثانية وأقام في أثناء الأولى .. لا تكون قضاء؛ لوجود العذر في جميع المتبوعة، واعتمده الإسنوي كالسبكي، وهو قياس جمع التقديم، لكن فرق بين الاكتفاء في جمع التقديم بدوام السفر إلى عقد الثانية واشتراط دوامه -هنا- بأن وقت الظهر ليس وقتاً للعصر إلا في السفر، وقد وجد عقد الثانية، فيحصل الجمع ووقت

العصر يجوز فيه الظهر بعذر السفر وغيره، فلا ينصرف فيه الظهر الى السفر إلا إذا وجد فيهما، وإلا .. جاز أن ينصرف إليه؛ لوقوع بعضها فيه، وأن ينصرف لغيره؛ لوقوع بعضها في غيره الذي هو الأصل، واعتمد ذلك (م ر)، وتردد فيه (حج). (ويجوز الجمع بالمطر) وكذا الثلج والبرد إن ذابا، وبلاَّ الثوب أو كبر قطعهما (تقديماً) لا تأخيراً؛ إذ استدامه المطر ليست إلى المصلي بخلاف السفر. ويجوز جمع العصر إلى الجمعة بعذر المطر كالسفر؛ ذلك لما صح: أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر. قال الشافعي كمالك رضي الله عنهما: أرى ذلك بعذر المطر، ويؤيده جمع ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم به. وإنما يباح الجمع به في العصرين والعشاءين (لمن) وجدت فيه الشروط السابقة في جمع التقديم. نعم؛ الشرط هنا: وجود المطر عند الإحرام بالأولى، والتحلل منها، ودوامه إلى الإحرام بالثانية، ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك. و (صلى) أي: أراد أن يصلي (جماعة في مكان) مسجد أو غيره، وكانت تلك الجماعة تأتي ذلك المكان من محل (بعيد) عنه (وتأذى) كل منهم تأذياً لا يحتمل عادة (بالمطر) أو نحوه (في طريقه) إليه. بخلاف ما لو صلى منفرداً أو جماعة في بيته، أو في غيره وهو قريب بحيث لا يتأذى به، أو وجد كناً يسير إليه فيه .. فلا يرجع. ولا يجوز بغير سفر ومطر، كمرض ووحل وريح وظلمة وخوف على المشهور. واختار النووي وغيره الجمع بالمرض تقديماً وتأخيراً، وهو مذهب أحمد، واختاره جمع من أئمتنا. وضبط المرض بما يشق معه فعل كل فرض في وقته، كمشقة بلل المشي في المطر، بحيث تبل ثيابه. وقال آخرون: لا بد من مشقة ظاهرة زائدة على ذلك بحيث تبيح الجلوس في الفرض.

قال في "التحفة": (وهو الأوجه على أنهما متقاربان، ثم قال: ويراعي الأرفق به، فإن كان يزداد مرضه كأن يحم مثلاً وقت الثانية .. قدمها بشروط جمع التقديم، أو في وقت الأولى .. أخرها بنية الجمع، وبما أفهمه ما قررته -أن المرض موجود، وإنما التفصيل بين زيادته وعدمها عادةً- يندفع ما قيل في كلامهم هذا؛ جواز تعاطي الرخصة قبل سبب وجودها اكتفاء بالعادة. وقضيته: حل الفطر قبل مجيء الحمى؛ بناءً على العادة. وعلله الحنفية بأنه لو صبر لمجيئها .. لم يستمرئ بالطعام؛ لاشتغال البدن. ونظيره الفطر قبل لقاء العدو إذا أضعفه الصوم عن القتال) اهـ وفي .. الأصل .. بسط في هذا المقام. * * *

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة من حيث ما تميزت به من اشتراط أمور لصحتها، وأخرى للزومها، وكيفية لأدائها، وتوابع لذلك. وهي بإسكان الميم وتثليثها، والضم أفصح، وبالسكون فقط: اسم للأسبوع. وسميت بذلك؛ لاجتماع الناس لها، أو لاجتماع آدم بحواء فيه، أو لأن الله جمع خلق آدم فيه، ويسمى في الجاهلية: يوم العروبة. وهي فرض عين. وروي أن يومها سيد الأيام وأعظمها. وصحح ابن حبان خبر: "لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة". وفي خبر مسلم: "إنه خير يوم طلعت عليه الشمس". وفي الخبر: "يعتق الله فيه ست مئة ألف عتيق من النار، من مات فيه .. كتب له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر". وهي من خواص هذه الأمة، وأفضل أيام الأسبوع، بل عند أحمد إنه أفضل من يوم عرفة، وفضَّل كثير من أصحابه ليلته على ليلة القدر. والجديد: أن صلاتها مستقلة لا ظهر مقصورة؛ لأنه لا يغني عنها، ولقول عمر: (إنها تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم). وهي: ركعتان، وهي كغيرها في الأركان والشروط والآداب. ولكن إنما (تجب الجمعة على كل مكلف) أي: بالغ عاقل، وكذا متعد بمزيل عقله، وإن لم يكن مكلفاً .. فتلزمه كغيرها لزوم انعقاد سبب؛ إذ لا تصح منه فيقضيها عند إفاقته فوراً (حرٍّ، ذكرٍ، مقيم) بمحل الجمعة، أو بمحل يسمع النداء منه (بلا مرض، ونحوه مما تقدم) في أعذار الجمعة والجماعة. فدخل في (مكلف حر ... إلخ) الأخير؛ إذ المعتمد أن المعتمد أن الإجارة غير عذر في

الجمعة، بخلاف جماعة غيرها إن طال زمنها على زمن الانفراد، ويفرق بأن الجماعة صفة تابعة وتتكرر، فاشترط لاغتفارها أن لا يطول زمنها على زمن الانفراد وإلا .. اكتفي لتفريغ الذمة بالصلاة فرادى، بخلاف الجمعة فلم تسقط وإن طال زمنها على زمن الانفراد، والكلام في الصحيحة. أمَّا الفاسدة .. فتجب فيها الجماعة ما لم يضع يده على ما يتلف أو يفسد عمله فيه بحضوره الجمعة أو الجماعة، وإلا .. فلا تجب وإن أثم؛ وذلك للخبر الصحيح: "الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض". فلا جمعة على غير مكلف ومن أُلحق به كصبي ومجنون ومغمىً عليه، ولا على من فيه رق وإن قل، ولا على غير ذكر من امرأة أو خنثى، ولا على مسافر ولو سفراً قصيراً، ولا على من له عذر من أعذار الجمعة السابقة مما يمكن إتيانه هنا، كمرض يشق معه الحضور كمشقة المشي في المطر أو الوحل. نعم؛ تسن لمريض أطاقها، ولعجوز مبتذلة، ولسيد قن أن يأذن له في حضورها، ويجب أمر الصبي بها كغيرها من مأمورات الشرع. ومن العذر: إبرار قسم من حلف عليه أنه لا يخرج من بيته مثلاً خوفاً عليه، ومن حلف أنه لا يصلي خلف زيد فولي إمامة الجمعة، وقيل: يصلي خلفه ولا يحنث؛ لأنه مكره شرعاً، ولو اجتمع في الحبس أربعون .. لزمهم إقامتها فيه عند (م ر). (وتجب) الجمعة على أعمى وجد قائداً ولو بأجرة فاضلة عما يعتبر في الفطرة، وإلا .. فلا وإن أحسن المشي بالعصا أو قرب منزله، ولم يخش ضرراً عند (حج)، وعلى زمن وجد مركباً لا يشق عليه ركوبه، و (على المريض، ونحوه) ممن عذر بمرخص في ترك الجماعة (إن حضر) محل إقامتها، أو قريباً منه مما لا يبقى معه مشقة في الحضور (وقت إقامتها) ولا يجوز له الانصراف إن لم يصل الظهر قبل حضوره؛ لزوال المشقة بحضوره، لكن لو انصرف .. لا يجب عليه العود. نعم؛ إن كان هناك مشقة في عدم انصرافه لا تحتمل عادة، كمن به إسهال ظن انقطاعه، فحضر ثم عاد .. فله الانصراف وإن أحرم بها، حيث علم أنه إن استمر فيها .. جرى جوفه، بل يجب، وكذا إن زاد ضرره بتطويل الإمام.

(أو حضر في الوقت) أي: بعد الزوال (ولم يشق عليه الانتظار) بأن لم يزد ضرره بالانتظار، فلا يجوز له الانصراف؛ لأن المانع: مشقة الحضور وقد حضر، أمَّا إذا حضر قبل الوقت .. فله الانصراف وإن لم يتضرر بالانتظار، ولمن لا تلزمه الانصراف مطلقاً ما لم يحرم بها. (و) كما تجب على أهل محل إقامتها تجب أيضاً (على) غيرهم من (من بلغه) نداء الجمعة، بحيث يعلم أن ما سمعه نداؤها وإن لم تبن له كلماته، وبحيث يكون معتدل السمع؛ لخبر: "الجمعة على من سمع النداء"، وهو ضعيف، ولكن له شاهد جيد، وهو خبر: "من سمع النداء، فلم يأته .. فلا صلاة له إلا من عذر"، أي: تجب على مقيم بمحل بحيث يبلغه ولو بالقوة، وهو واقف بطرف محلته الذي يلي (نداء) شخص (صيت) أي: عالي الصوت عرفاً، يؤذن كعادته في علو الصوت، وهو واقف بمستو ولو تقديراً (من طرف موضع الجمعة) الذي يلي السامع (مع سكون الريح) ولو تقديراً؛ لأنها تارة تعين على السمع، وتارة تمنعه. (والصوتِ)؛ لأنه يمنع وصول النداء. وتجب أيضاً على مسافر من محلها إلى المحل المذكور، وعلى العاصي بسفره. وأفهم قولنا: بمستو ولو تقديراً: أنه لو علت قرية وسمعوا النداء، ولو استوت .. لم يسمعوا، أو انخفضت .. فلم يسمعوا، ولو استوت .. لسمعوا .. وجبت في الثانية دون الأولى؛ لتقدير الاستواء. ولمن حضر صلاة عيد يومُه يوم جمعة الانصراف بعده قبل دخول وقتها، وعدم العود إليها وإن سمعوا النداء؛ تخفيفاً عليهم، فإن لم يحضروا العيد .. لزمتهم. وهذا في محل لا يبلغ أهله أربعين كاملين، وإلا .. فتجب عليهم ببلدهم وإن لم تكن مصراً، ويحرم ذهابهم لها لبلدة أخرى. و (لا) تجب (على مسافر سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً) إن فارق محل إقامته قبل الفجر. (ويحرم على من لزمته) وإن لم تنعقد به، كمقيم غير متوطن (السفر بعد الفجر)

ولو قصيراً أو طاعةً؛ لأنها منسوبة إلى اليوم وإن كان وقتها بالزوال، ولذا دخل غسلها بالفجر، ولزم بعيد الدار السعي قبل وقتها من الفجر؛ ليدركها. (إلا مع إمكانها) بأن يغلب على ظنه إدراكها (في طريقه)، أو مقصده؛ لحصول المقصود، وحينئذٍ فلا يحرم وإن تعطلت بلده عن الجمعة بأن كان تمام الأربعين فيها؛ لأنه تعطيل لحاجة .. فلا يضر، بخلاف ما لو عطل أربعون بلدهم عن الجمعة؛ لأنه لغير حاجة، ولو تبين خلاف ظنه أنه يدركها .. فلا إثم، لكن لو أمكنه العود وإدراكها .. وجب. (أو توحش بتخلفه عن الرفقة) وإن لم يخف ضرراً. وفي "التحفة" كـ"النهاية": أن مجرد الوحشة ليس بعذر. ولو احتاج للسفر؛ لإدراك عرفة أو مال .. جاز ولو بعد الزوال، بل يجب لإنقاذ حيوان. ويكره السفر ليلة الجمعة؛ لما روي بسند واهٍ: "من سافر ليلة الجمعة .. دعا عليه ملكاه". (وتسن الجماعة في ظهر المعذورين) الذين ببلد الجمعة؛ لعموم الأدلة الطالبة للجماعة (ويخفونها) كأذانها ندباً (إن خفي العذر)؛ لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام، ولذا كره إظهارها، بخلاف من هم خارج البلد أو فيها وقد ظهر عذرهم، فيظهرونها ندباً. ولو زال العذر أثناء الظهر قبل فوات الجمعة .. أجزأتهم. ويسن لهم الجمعة (ومن صحت ظهره) ممن لا تلزمه الجمعة، كالصبي ( .. صحت جمعته) إجماعاً؛ لأنها أكمل في المعنى وإن كانت أقصر صورة، فإذا اجزأت الكاملين الذين لا عذر لهم .. فأصحاب الأعذار أولى. قال (ق ل): قوله: صحت جمعته، أي: أجزأته عن ظهره؛ لأنها تسقط الظهر عن غير أهل الأعذار، فأهل الأعذار بالأولى. والفرق بين الإجزاء والصحة أن الإجزاء يستلزم اسقاط القضاء، بخلاف الصحة. (ومن وجبت عليه) الجمعة وإن لم تنعقد به ( .. لا يصح إحرامه بالظهر قبل سلام الإمام) من الجمعة يقيناً ولو بعد رفع رأسه من ركوع الثانية؛ للزومها له ما أمكن، كما

فصل: في شروط الجمعة

يأتي؛ إذ يمكن أن يشك الإمام في فعل ركن من الأولى، فيأتي بركعة ويدركها معه المأموم، فإن سلم إمامها قبل إحرامه بها .. لزمه فعل الظهر في وقته فوراً، ويكون حينئذٍ أداء على الأصح فيهما. تنبيه: لو جرت عادة أربعين ببلد بعدم إقامة الجمعة .. قال (حج): لا يجوز لهم صلاة الظهر إلا بعد اليأس منها، بأن يضيق الوقت عن واجب الخطبتين والصلاة، واعتمد (م ر) جواز الظهر وإن لم يضق الوقت. (ويندب للراجي زوال عذره) قبل فوات الجمعة، كقن يرجو العتق ومريض يرجو الشفاء، أي: يتوقعانه وإن لم يظناه (تأخير ظهره إلى اليأس من) إدراك (الجمعة) بأن يرفع الإمام رأسه من ركوع الثانية، أو يكون بمحل لا يصل منه لمحل الجمعة إلا وقد رفع الإمام رأسه منه، كما في "التحفة". نعم؛ لو أخروا الجمعة إلى أن يبقى من الوقت قدر أربع ركعات .. لم يسن تأخير الظهر قطعاً، ولا يشكل بما لو أحرم بالظهر قبل سلام إمام الجمعة ولو احتمالاً، حيث لم يصح؛ لأن الجمعة في هذه لازمة، فلا ترتفع إلا بيقين، بخلافها في المعذورين. أمَّا من لا يرجو زوال عذره كالمرأة والزمن .. فيسن له -حيث عزم أن لا يصلي الجمعة- تعجيل الظهر لأول وقتها؛ ليحوز فضله. واعتمد (م ر) ندب التعجيل مطلقاً. * * * (فصل: للجمعة) أي: لصحتها (شروط زوائد) على شروط غيرها من بقية الصلاة. (الأول:) أن تقع كلها مع خطبتيها في (وقت الظهر)؛ للاتباع، رواه البخاري، وعليه عمل الخلفاء الراشدين، وخبر الشيخين بـ (الانصراف منها، وليس للحيطان ظل يستظل به) لا ينافي ذلك؛ لأنه إنما يدل على شدة التعجيل، ومعه لم يحصل عند الانصراف منها ظل يستظل به، خصوصاً وبيوتهم غير مرتفعة. وقال (حج)، و (م ر): (ولو أمر الإمام بالمبادرة بها أو عدمها .. وجب ما أمر به، قال السيد عمر البصري: يحتمل أن المراد بالمبادرة قبل الوقت، وبعدمها تأخيرها

إلى وقت العصر، كما قال بكلٍّ بعض الائمة، ولا بعد فيه وإن لم يقلد؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف) اهـ وبينت في "الأصل" أن هذا من أمر الحاكم لا من حكمه، وقد قالوا: العبرة بعقيدة المأمور لا الآمر. ومنه: لو أمر الإمام بقتل الحر بالعبد وهو يرى ذلك والجلاد لا يراه، فقتله الجلاد بذلك الأمر بلا إكراه .. لزمه القصاص وحده، وغير ذلك. (فلا) يجوز الشروع فيها مع الشك في بقاء وقتها، ولا تصح، ولا (تقضى جمعة)؛ لأنه لم ينقل، بل إذا فات الوقت .. يصلي الظهر قضاء عنه لا عنها، وكذا لا تقضى راتبتها (فلو ضاق الوقت) عن أن يسعها مع خطبتيها بأقل مجزئ، ولو بخبر عدل أو فاسق اعتقد صدقه، أو شكوا في بقائه ( .. أحرموا بالظهر) وجوباً؛ لفوات الوقت، ولو شك في بقائه - فنوى الجمعة إن بقي الوقت، وإلا .. فالظهر- فبان بقاؤه .. صح عند (م ر)، ولا يضر هذا التعليق؛ لاستناده إلى أصل بقاء الوقت، كما لو نوى صوم غد ليلة الثلاثين من رمضان إن كان منه. ولو مد الركعة الأولى حتى لو يبق من الوقت ما يسع الثانية .. أثم، وانقلبت ظهراً من الآن عند (حج)، وعند خروج الوقت عند (م ر)، فعليه يجهر إلى خروجه؛ وذلك لأنهما صلاتا وقت واحد، فجاز بناء أطولهما على أقصرهما كصلاة الحضر مع السفر. ولو خرج الوقت وهم فيها .. أتموا ظهراً وجوباً، ولا يشترط تجديد نيته. ولو سلم بعض العدد في الوقت وبعضه خارجه جهلاً .. بطلت جمعة الكل، فيتمونها ظهراً إن قرب الفصل بين سلامهم وعودهم إلى الظهر، ولا يضر الشك في أثنائها في خروج الوقت؛ لأن الأصل بقاؤه. ولو قام المسبوق ليكمل، فخرج الوقت .. انقلبت له ظهراً أيضاً. (الثاني) من الشروط: (أن تقام في خِطة) -بكسر الخاء- محل الأبنية، وما بينها من كل محل معدود منه بأن لم يجز لمريد السفر القصر فيه، وإن لم يكن مسجداً، سواء كان ذلك من (بلد أو قرية) ولو مبنية من نحو خشب أو قصب أو سعف؛ للاتباع، ويشترط اجتماع الأبنية عرفاً.

وكالبلد والقرية بناء واحد يجتمع فيه العدد المعتبر، والسراديب والغيران بحيث تعد إقامتهم كالقرية الواحدة. ولو تعددت مواضع متقاربة، وتميز كل باسمٍ .. فلكل حكمه إن عد مع ذلك كل قرية مستقلة عرفاً، وحريم القرية لا تجوز فيه الجمعة إلا تبعاً لأربعين في الخطة، وغير الحريم لا يجوز فيه إن جاز القصر فيه، وإلا .. جازت، قاله (ب ج). وفي (حج): أنه لا يضر خروج من عدا الأربعين إلى محل القصر، وقد تجب إقامتها في غير أبنية كأن خربت قريتهم، فأقاموا لعمارتها، أو بقصد عدم التحول منها، ولو في غير مظال، بخلاف غير أهلها، أو بقصد التحول منها، وما لو نزل أربعون بمكان؛ ليعمروه قرية .. فلا تقام في جميع ذلك. فعلم: أنه لا يشترط لها مسجد، بل تصح في الفضاء، ولا إذن إمام، لكن يشترط لتعددها. وخرج بالأبنية: الخيم؛ لأنهم كالمستوفزين، ولأن قبائل العرب حول المدينة لم يؤمروا بها. نعم؛ إن سمعوا النداء من قرية أو بلد .. لزمتهم، وكذا لو كانت الخيام في خلال الأبنية. (الثالث) من الشروط: (أن لا يسبقها، ولا يقارنها جمعة في تلك البلد) مثلاً وإن عظمت وكثرت مساجدها؛ للاتباع (إلا لعسر الاجتماع) بأن لم يكن في محل الجمعة موضع يسعهم بلا مشقة ولو غير مسجد. والعبرة بمن يغلب فعلهم لها عادة، كما في "التحفة"، و"النهاية"، و"المغني". أو بمن تصح منه، من تلزمه ومن لا تلزمه، واعتمده جمع، وفيه فسحة عظيمة. واعتمد (سم) في "حاشية التحفة": أن العبرة بمن يحضر بالفعل في تلك الجمعة. قال في "الإيعاب": وهو القياس، فإن عسر اجتماعهم إمَّا لكثرتهم، أو لقتال بينهم، أو لبعد أطراف البلد، وحدُّه هنا: كما في الخارج عن البلد؛ أي: بأن لا يبلغهم النداء بشرطه المتقدم .. جاز التعدد بحسب الحاجة، وتبطل فيما زاد عليها. ومن شك أنه من الأولين أو الآخرين، أو أن التعدد لحاجة، أو لا .. لزمته إعادة الجمعة إن أمكن، وإلا .. فالظهر.

أمَّا إذا سبقت واحدة مع عدم عسر الاجتماع .. فهي الصحيحة، وما بعدها باطل، وأمَّا إذا تقارنتا .. فهما باطلتان، والعبرة في السبق، والمقارنة بالراء من تكبيرة إحرام الإمام وإن تأخر إحرام العدد إلى ما بعد إحرام الأخرى، وإن علم سبق وأشكل الحال، أو علم السابق ثم نسي .. فالواجب الظهر على الجميع؛ لالتباس الصحيحة بالفاسدة. وإن علمت المقارنة أو شك فيها، أو لم يعلم سبق ولا مقارنة .. أعيدت الجمعة إن اتسع الوقت؛ لعدم وقوع الجمعة مجزئة، فإن أيس من إعادتها .. صلى الظهر، واكتفى (م ر) باليأس العادي. وقال (حج): لابد من الحقيقي كما مر. والاحتياط للمصلي ببلد تعددت جمعته لحاجة، ولم يعلم سبق جمعته أن يعيدها ظهراً؛ خروجاً من خلاف من منع التعدد ولو لحاجة، وهو ظاهر النص، وألَّف فيه السبكي أربعة مصنفات، قال: وهو الصحيح مذهباً ودليلاً، وقول أكثر العلماء. (الرابع) من الشروط: (الجماعة) في الركعة الأولى، فلو أحدث الإمام في الثانية أو فارقوه فيها .. لم يضر، ويتمونها فرادى. أمَّا العدد .. فيشترط: بقاؤه إلى السلام، حتى لو أحدث واحد من الأربعين قبل سلامه ولو بعد سلام من عداه .. بطلت جمعة الجميع. (وشرطها) أي: الجماعة فيها زيادة على شروط الجماعة في غيرها: (أربعون)؛ لأن هذا العدد فيه كمال، ولذا كان زمن بعث الأنبياء، وقدر ميقات موسى وغير ذلك، والجمعة ميقات المؤمنين، فاعتبر لها هذا العدد الكامل، حتى قيل: إنه لم يجتمع أربعون إلا وفيهم ولي لله، فلا بد فيها من أربعين ولو بالإمام؛ للإجماع على اشتراط العدد فيها، ولا مدخل للرأي فيه، فاشترط فيه توقيف؛ إذ الغالب على أحوالها التعبد. وقد صح: أن أول جمعة صليت بالمدينة كانت أربعين، ولقول جابر: (مضت السنة: أن في كل ثلاثة إماماً، وفي كل أربعين جمعة)، وخبر: "لا جمعة إلا في أربعين"، وغير ذلك. لكن قال بعضهم: لم يثبت في الجمعة حديث، لكن الخبر الصحيح، وهو "صلوا كما رأيتموني أصلي" قد يدل لذلك؛ إذ لم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك. وأمَّا خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر .. فمحتمل لعودهم أو لمجيء غيرهم، فلم يصلح دليلاً لما دون الأربعين.

ولو صلاها شخص في قرية، أو صلى مريض الظهر، ثم حضر أحدهما محل جمعة .. حسب من الأربعين، وتكون الجمعة للمريض نفلاً مطلقاً كما رجحه (ب ج)، وقيل: الظهر نفلاً مطلقاً والجمعة الفرض. ولا بد في كل من الأربعين في كونه: (مسلماً، ذكراَ، مكلفاً) أي: بالغاً عاقلاً (حراً) مميزاً؛ ليخرج السكران، بناء على أنه غير مكلف، فلا تلزم أضداد هؤلاء؛ لنقصهم كما قدمته، ولا تنعقد بهم كما ذكره هنا، فلا تكرار (متوطناً) بمحل إقامتها، فلا تنعقد بغير أهل محل إقامتها وإن لزمهم حضورها. قال في "التحفة": (لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم الجمعة بعرفة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياماً وفيه نظر؛ لأنه كان مسافراً؛ إذ لم يقم بمحل أربعة أيام صحاح، وعرفة لا أبنية بها، فليست دار إقامة إلا أن يجاب بأنه لم يقم فيها الجمعة؛ لعدم أبنية ومستوطن) اهـ قال السبكي: (لم يقم عندي دليل على عدم انعقادها بالمقيم غير المتوطن) اهـ ومن توطن خارج السور .. لا تنعقد به الجمعة داخله، وعكسه؛ لأنه يجعلهما كبلدتين منفصلتين، كما في "التحفة"، وفي "الأصل" هنا ما له تعلق بذلك. والمتوطن هنا من (لا يظعن) أي: يسافر عن محل إقامته شتاءً، ولا صيفاً (إلا لحاجة) كتجارة وزيارة، فلا تنعقد بمسافر ومقيم ناوٍ العودَ لبلده ولو بعد مدة طويلة، كالمتفقهة، ومتوطن خارج بلد الجمعة وإن لزمته. وفي صحة تقدم إحرام من لا تنعقد بهم خلاف رجح في "الإيعاب" كـ"شرح المنهج" لزوم تأخرهم. وفي "المغني"، و"النهاية" و"التحفة" عدم اللزوم. (فإن نقصوا) عن العدد المعتبر بانفضاض أو غيره في الخطبة، أو بينها وبين الصلاة، أو (في) الركعة الأولى من (الصلاة .. بطلت) الخطبة في الأوليتين، والجمعة

في الثالثة (وصارت ظهراً) وإن أمكن استئنافها جمعة إلا إن تموا على الفور ممن سمع أركان الخطبتين .. فحينئذٍ يبني في الصور الثلاث على ما مضى إن أدركوا الفاتحة والركوع قبل ارتفاع الإمام عن أقله، كما في تباطئهم الآتي، أو أحرم قبل الانفضاض من كمل العدد به وإن لم يسمع الخطبة؛ لأنهم لما لحقوا والعدد تام .. صار حكمهم واحداً. ثم إن أدرك الأوّلون الفاتحة .. لم يشترط تمكنهم منها؛ لأنهم تابعون لمن أدركها، وإلا .. اشترط أن يدركها هؤلاء مع الركوع قبل ارتفاع الإمام عن أقله. ولو أحرم تسعة وثلاثون لاحقون بعد رفع الإمام من ركوع الأولى، ثم انفض الأربعون الذين أحرم بهم .. فالجمعة باقية وإن لم يدرك اللاحقون الركعة الأولى؛ لما مر. ولا يضر تباطؤ المأمومين بالإحرام بعد إحرام الإمام بشرط أن يتمكنوا من الفاتحة والركوع قبل ارتفاع الإمام عن أقله، وإلا .. لم تصح. ولو كان في الأربعين أمي قصر في التعلم .. لم تصح؛ لارتباط صحة صلاة بعضهم ببعض، فصار كاقتداء القارئ بالأمي. وجرى في "التحفة" أخذاً من التعليل: أنه لا فرق بين أن يقصر، وأن لا، وأَنَّ الفرق بينهما غير قوي؛ لما تقرر من الارتباط. ومنه يعلم: أنه لا بد من إغناء صلاة كل من الأربعين عن القضاء كما في (حج) و (م ر). ولو جهلوا الخطبة كلهم .. لم تصح الجمعة. (ويجوز كون إمامها عبداً أو مسافراً أو صبياً) أو محدثاً لم يبن حدثه إلا بعد الصلاة على ما في "الشرح"، وفي "فتاويه"، و (سم). وإن بان في الصلاة. ومثله ما لا يطلع عليه، كنجاسة خفية ونحوها، أو محرماً برباعية كالعصر. (إن زاد على الأربعين) ولم يتحمل على أحد منهم الفاتحة، ولا أثر لحدثه؛ لأنه لا يمنع الجماعة، فإن لم يكن زائداً على الأربعين .. لم تنعقد؛ لانتفاء العدد المعتبر. ومثله: لو بان كافراً أو امرأة، أو ذا نجاسة ظاهرة، ونحو ذلك مما يطلع عليه وإن زاد على الأربعين. ولو بان حدث المأمومين، أو بعضهم بعد الصلاة .. صحت للإمام وللمتطهر منهم؛ تبعاً له وإن لم يبلغوا الأربعين.

واغتفر في حقه فوات العدد هنا، ولم يغتفر في تبين حدثه؛ لأنه -مع عذره لكون ذلك مما يخفى- متبوعٌ مستقل، كما اغتفر في حقه انعقاد صلاته جمعة قبل أن يحرموا خلفه. وأمَّا تعليل "الشرح" بأنه لم يكلف العلم بطهارتهم .. فيقال بمثله في المأمومين لو بان حدثه، وهو غير صحيح. تنبيه: الناس في الجمعة ستة أقسام: من تلزمه وتنعقد به، وتصح منه، وهو من اجتمعت الشروط المذكورة فيه، ولا عذر له. ومن لا تلزمه ولا تنعقد به، وتصح منه، وهو من فيه رق ومسافر وعبد وصبي وامرأة ومن لم يسمع النداء. ومن لا تلزمه وتنعقد به، وهو من له عذر كمريض. ومن تلزمه ولا تصح منه، وهو المرتد. ومن لا تلزمه ولا تنعقد به، وهو الكافر الأصلي، وغير المميز. ومن تلزمه وتصح منه ولا تنعقد به، وهو المقيم غير المتوطن، ومتوطن بمحل خارج بلد يسمع منه النداء. (الخامس) من الشروط: (خطبتان قبل الصلاة)؛ للاتباع. وأخرت خطبة نحو العيد؛ للاتباع أيضاً، ولأن هذه شرط للجمعة، وهو مقدم، بخلاف تلك فتكملة، فكانت الصلاة أهم منها. (وفروضهما) من حيث الجميع ثمانية، ومن حيث المجموع (خمسة: حمد الله)؛ للاتباع، أي: الحمد، وما اشتق منه مع إضافته للجلالة، كالحمد لله، أو لله الحمد، أو أحمد الله، أو أنا حامد لله. فلا يكفي نحو لا إله إلاَّ الله، خلافاً لمالك وأبي حنيفة، ولا الشكر لله، ولا الحمد للرحمن. (والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: مصدرها، وما اشتق منه، كاللهم صل، أو صلى الله، أو أصلي، أو نصلي، أو الصلاة والسلام على سيدنا محمد أو على محمد أو أحمد أو الرسول أو النبي أو الحاشر أو البشير أو نحو ذلك. لا سلام الله على محمد، ولا رحم الله محمداً ولا صلى الله عليه.

(والوصية بالتقوى)، للاتباع، ولأنها المقصود الأعظم من الخطبة، فلا يكفي مجرد التحذير من الدنيا؛ لظهوره لكل أحد، بل لا بد من الحث على الطاعة والزجر عن المعصية، أو أحدهما ولو بغير لفظ الوصية؛ إذ الغرض منها الوعظ نحو احذروا عقاب الله أو النار، او أطيعوا الله. (وتجب هذه الثلاثة في) كل من (الخطبتين)؛ اتباعاً للسلف والخلف، إذ كل واحدة مستقلة ومنفصلة عن الأخرى. (الرابع: قراءة آية مفهمة) وإن تعلقت بحكم مسوخ، أو قصة، لا بعض آية وإن طال وأفهم عند (حج)؛ وذلك للاتباع. ولو قرأ آية وعظ بقصد الوعظ والقراءة .. حصلت ركنية القراءة، وكذا إن أطلق، فإن قصد بها أحدهما .. حصل. وتكفي الآية (في إحداهما) وقبلهما وبعدهما وبينهما؛ لثبوت أصل القراءة من غير تعين محلها، ويسن كونها في الأولى؛ لتكون في مقابلة الدعاء في الثانية، وخروجاً من خلاف من أوجبها فيها، وكونها في آخرها، بل تسن قراءة (ق) بكمالها بعد فراغ الأولى دائماً وإن لم يرض الحاضرون، ويحصل أصل السنة بقراءة بعضها، فإن تركها .. قرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب:70]. (الخامس:) ما يقع عليه اسم (الدعاء للمؤمنين والمؤمنات) خصوصاً كالحاضرين، أو عموماً ولو لجميع المؤمنين ما لم يُرد جميعَ ذنوبهم، فيحرم؛ لما مر، وذلك لاتباع السلف والخلف، وذكر المؤمنات سنة، وإلا .. فيكفي المؤمنين، لأن المراد بهم الجنس الشامل للإناث، بل لو قصد به أربعين من الحاضرين .. كفى، ولا يكفى تخصيصه للغائبين وإن كثروا. ومنه يعلم: أنه لا يحصل بالدعاء للصحابة، والولاة ركن الدعاء، ولا بأس بالدعاء للسلطان بعينه حيث لامجازفة في وصفه. ويسن الدعاء لولاة المسلمين وجيوشهم، لاسيما ولاة الصحابة وولاة العدل، وذكر الولاة المخلطين بما فيهم من الخير مكروه، وبما ليس فيهم حرام إلا لخوف فتنة، فيستعمل التورية.

وصرح القاضي بأن الدعاء لولاة الأمر لا يقطع الولاء ما لم يقطع نظم الخطبة. وفي (التوسط) بشرط أن لا يطيله إطالة تقطع المولاة، كما يفعله كثيرٌ من الخطباء الجهال. (وشرطهما) أي: وشروط كل منهما: (القيام) فيهما (لمن قدر) عليه بالمعنى السابق في قيام فرض الصلاة، فإن عجز عنه .. خطب جالساً، فإن عجز .. فمضطجعاً، والأولى أن يستخلف، ويجوز الاقتداء به وإن لم يتبين عذره؛ لأن الظاهر أنه معذور، فإن بانت قدرته على القيام .. لم يؤثر، كما لو بان الإمام الزائد على الأربعين محدثاً. ولو علم بعضهم قدرته .. صحت جمعة الباقين إن تم بهم العدد. (وكونهما) أي: أركانهما فقط (بالعربية) وإن كان الكل أعجميين؛ للاتباع. نعم؛ إن لم يكن فيهم من يحسنها، ولم يمكن تعلمها قبل ضيق وقت .. خطب غير الآية واحد منهم بلسانهم. أمَّا الآية .. فيأتي ما مر في الفاتحة فيها، وإن أمكن تعلمها .. وجب على كل منهم، فإن مضت مدة إمكان التعلم ولو لواحد ولم يتعلم .. عصوا كلهم، ولا جمعة، بل يصلون الظهر. وفائدتها بالعربية مع عدم معرفتهم لها العلم بالوعظ في الجملة. والواجب: سماعها لا معرفة معناها. (و) كونهما (بعد الزوال)؛ للاتباع، ولو هجم وخطب فبان أنهما في الوقت .. صح عند (ع ش)، وقال (سم): لا تصح. (والجلوس بينهما)؛ للاتباع، فلو تركه .. لم تصح ولو سهواً، خلافاً للأئمة الثلاثة، والجالس يفصل بسكتة ولا تجب لها نية، بل عدم الصارف، لكن تسن، ولو لم يجلس بينهما .. حسبتا واحدة. وأقل الجلوس بينهما كونه (بقدر الطمأنينة) في الصلاة، وأكمله بقدر سورة (الإخلاص)، وأن يقرأها فيه. (وإسماع العدد الذي تنعقد به) الجمعة لأركانها ولو بالقوة، بحيث يكون لو

أصغى .. لسمع عند (م ر)، فلا تصح مع الإسرار ولا مع صمم ولو لبعضهم، ولا مع لغط أو نوم يمنع سماع ركن. ولا يشترط طهرهم ولا سترهم، ولا كونهم بمحل الصلاة، ولا داخل السور أو العمران، بخلاف الخطيب. نعم؛ لا يضر عدم سماع الخطيب؛ لأنه يفهم ما يقول. قال (سم): أي: يعلم ما يقوله من الألفاظ. ولا يشترط الفهم كما مر، ولا سماع الأربعين غير الأركان. وفي "التحرير": يشترط تقدم خطبتين ممن تصح الصلاة خلفه. قال الشرقاوي: هذا يفيد كونه لا تلزمه الإعادة. (والمولاة بينهما) أي: بين أركانهما (وبينهما وبين الصلاة) بأن لا يفصل طويلاً عرفاً بما لا تعلق له بهما. قال في "التحفة": (ثم رأيت بعضهم فصل فيما إذا أطال القراءة بين أن يكون فيها وعظ فلا تقطع، وإلا .. فتقطع) اهـ ومنه يؤخذ أن الزائد على الآية من القراءة ليس من الركن وهو قاعدة: ما يتجزأ كالركوع، إنَّ أقل مجزئ منه يقع واجباً، والزائد عليه سنة. وحينئذٍ فما زاد على الواجب وطال الفصل به .. يقطع الموالاة، وبمثله يقال في الدعاء. لا يقال: القراءة قيدوا الركن فيها بكونها بآية، ولم يقيدوا الدعاء بشيء، قلت: بل قيدوا الركن منه بما يقع عليه اسم الدعاء. ومنه يعلم: أن طول الدعاء بما يقطع الموالاة يضر خصوصاً في الدعاء للصحابة وولاة الأمر؛ لأنه ليس من ركن الدعاء كما مر، وطول الفصل هنا قدر ركعتين بأقل مجزئ، كما في الموالاة بين صلاتي السفر. (وطهارة الحدثين) الأصغر والأكبر، فإن سبقه .. تطهر واستأنف وإن قرب الفصل؛ لأن الخطبة تشبه الصلاة، أو نائبة عنها. (وطهارة الخبث) الذي لا يعفى عنه في ثوب وبدن ومكان، وما يتصل بها بتفصيله في المصلي.

فصل: في بعض سنن الخطبة والجمعة

(والستر) للعورة وإن قلنا بالأصح إنها ليست بدلاً عن ركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقب الخطبة، فالظاهر أنه يخطب متطهراً مستوراً. فالشروط المذكورة: ثمانية، ويزاد: كونهما ممن يصح الاقتداء به كما مر، وكونهما قبل الصلاة، وترتيب أركانهما الثلاثة الأول على ما اعتمده الرافعي، والمعتمد سنة. * * * (فصل): في بعض سنن الخطبة والجمعة. (تسن) الخطبة (على منبر) ولو بمكة، خلافاً لمن قال: يخطب بباب الكعبة؛ للاتباع، ويسن وضعه يمين المحراب، أي: يمين المصلي فيه، وكان منبره عليه الصلاة والسلام ثلاث درج غير المسماة بالمستراح. نعم؛ إن طال .. وقف على السابعة. (فإن لم يتيسر) المنبر ( .. فعلى مرتفع)؛ لأنه أبلغ في الإعلام، فإنِ فقد .. استند إلى نحو خشبة. (وأن يسلم) الخطيب (عند دخوله) المسجد على أهل كل صف، لكنه على من عند دخوله (و) من (عند طلوعه) المنبر آكد، ولا تندب له التحية إن قصد المنبر من حال دخوله، وإلا .. ندبت. (و) أن يسلم أيضاً (إذا أقبل عليهم) بعد صعوده الدرجة التي تلي المستراح؛ لأنه استدبرهم في صعوده، فكأنه فارقهم. قال (ب ج): (ويؤحذ منه: أنَّ من فارق غيره ثم عاد إليه سن له السلام عليه وإن قصرت المسافة جداً) اهـ قاله (ع ش). وكون ما ذكر مفارقة فيه نظر، وأمَّا سنه .. فلا يبعد أنه خصوصية للخطيب؛ إذ من استدبر غيره في مكان واحد .. لا يعد مفارقاً له، وفي المرات كلها يلزم المأمومين الرد عليه على الكفاية.

وإنما ندب له استقبالهم مع أن فيه استدبار القبلة؛ لأنه اللائق بالخطاب، وأبلغ في قبول الوعظ. ومن ثم كره خلافه إلا لمن بالمسجد الحرام؛ لأنه من ضرورة الاستدارة المندوبة في الصلاة. (وأن يجلس) على المستراح (حالة الأذان)؛ ليستريح من تعب الصعود. (وأن يقبل عليهم) بوجهه، ويرفع صوته زيادة على الواجب، ولا يعبث؛ للاتباع، وأن يؤذن بين يديه، ويسن اتخاذ المؤذن إلا لعذر وبفراغ الأذان يشرع في الخطبة، وهذا الأذان هو الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم لما كثر الناس في زمن عثمان رضي الله عنه .. أمر بالأذان الأوّل. قال الشافعي: وتركه أحب إليَّ. وفي "التحفة"، و"النهاية": إن قراءة المرقي آية (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الأحزاب:56] ثم الحديث، بدعة حسنة؛ إذ فيه ترغيب للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وتحذير من الكلام، وكان صلى الله عليه وسسلم يأتي بالخبر المذكور في خطبه، وهو صحيح. (وأن تكون) الخطبة (بليغة) اي: في غاية من الفصاحة، ورصانة السبك، وجزالة اللفظ؛ لأنه أوقع في القلوب، ومن لازم البلاغة رعاية ما يقتضيه الحال، ويحسن تضمينها آيات وأحاديث مناسبة؛ إذ الحق أن التضمين والاقتباس جائز منهما ولو في الشعر وإن غير نظمها، ولا محذور أن يراد بالقرآن غيره كـ (ادخلوها بسلام آمنين) لمن استأذنه في الدخول. نعم؛ إن كان في ذلك مجون .. حرم، بل ربما يكون كفراً. (و) أن تكون (مفهومة)؛ لأن الغريب الوحشي لا ينتفع به أكثر الناس. قال علي كرم الله وجهه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!). (قصيرة) بالنسبة للصلاة؛ لخبر مسلم: "أطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة"،

فتكون متوسطة، ولا يعارضه خبره: "إن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت قصداً"؛ لأن الطول والقصر من الأمور النسبية. فعلم: أنَّ سَنَّ قراءة (ق) في الأولى لاينافي كونها قصيرة. قال الأذرعي: وحسن أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال، فقد يقتضي الحال الإسهاب، كالحث على الجهاد إذا قرب العدو أو صال، وكالنهي عن محرم عم فيهم. (وأن يعتمد) حال خطبته (على نحو عصاً) أو سيف أو قوس (بيساره)؛ للاتباع، وإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح (ويمناه بالمنبر) إن لم يكن به نحو عاج، او نحو ذرق طير؛ لاشتراط الطهارة فيها كالصلاة. فإن لم يشغلها بذلك .. وضع اليمنى على اليسرى، أو أرسلهما إن أمن العبث، ولو شغل اليمنى بحرف المنبر وأرسل اليسرى .. فلا بأس. ويسن التيامن في المنبر الواسع، وإن يختم الخطبة الثانية بقوله: أستغفر الله لي ولكم. (و) أن (يبادر بالنزول) إذا فرغ من الخطبة؛ ليبلغ المحراب مع فراغ المؤذن من الإقامة؛ مبالغة في تحقيق الموالاة بين الخطبة والصلاة ما أمكن. (ويكره) ما ابتدعه جهلة الخطباء، ومنه: (التفاته) في الخطبة الثانية، والإشارة بيده أو غيرها، لكن استثنى في "الإيعاب" الإشارة بالسبابة للحاجة، كتنبيههم؛ لخبر مسلم بذلك. (ودق درج المنبر) في صعوده برجله أو نحو سيف، والدعاء إذا انتهى إلى المستراح قبل جلوسه عليه، والوقوف في كل مرقاة وقفة خفيفة يدعو فيها. وساعة الإجابة إنما هي من جلوسه إلى فراغ الصلاة على الأصح من خمسين قولاً. والمبالغة في الإسراع في الثانية، وخفض الصوت فيها. (ويقرأ) ندباً (في) الركعة (الأولى: "الجمعة" وفي التانية: "المنافقون"، أو في الأولى: "سبح الأعلى" وفي الثانية "الغاشية") للاتباع فيهما، رواه مسلم، لكن الأوليان أفضل.

فصل: في سنن الجمعة

ولو ترك ما ندب في الأولى .. قرأه مع ما ندب في الثانية فيها وإن ادى لتطويلها على الأولى. ولو قرأ ما ندب في الثانية في الأولى .. عكس في الثانية؛ لئلا تخلو صلاته عنهما. وفي "التحفة": لو اقتدى في الثانية، فسمع قراءة الإمام (المنافقين) فيها .. فالظاهر: أنه يقرأ (المنافقين) في الثانية أيضاً، واعترضه (سم) بأن سماعه كقراءته، فكأنه قرأ (المنافقين) في الأولى، فيقرأ (الجمعة) في ثانيته؛ لئلا تخلو صلاته عنهما. ثم قال: لو أدرك الإمام في ركوع الثانية .. فالوجه: أنه يقرأ (المنافقين) في ثانيته؛ لأن الإمام تحمل عنه السورة كالفاتحة. ويسن كون قراءته فيهما (جهراً) ولو مسبوقاً قام ليأتي بثانيته؛ للاتباع. تتمة: ورد: "أن من قرأ (الفاتحة) و (الإخلاص) و (المعوذتين) سبعاً سبعاً عقب سلامه من الجمعة قبل أن يثني رجله، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعطي من الأجر بعدد من آمن بالله ورسوله" وفي رواية لابن السني بإسقاط (الفاتحة) بَعُدَ من السوء إلى الجمعة الأخرى، وفي رواية زيادة: "وقبل أن يتكلم حفظ له دينه ودنياه وأهله وولده". قال الغزالي: (وقل: اللهم ياغني يا حميد، يا مبدئ يا معيد، يا رحيم يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وبطاعتك عن معصيتك). قال الشرقاوي: (من واظب عليه أربع مرات مع ما تقدم .. أغناه الله، ورزقه من حيث لا يحتسب، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وحفظ له دينه ودنياه وأهله وولده). * * * (فصل): في سنن الجمعة. (يسن) لمن لم يخش منه فطراً ولو على قول (الغسل لحاضرها) أي: لمن لم يرد عدم حضورها وإن لم تلزمه، بل وإن حرم، كزوجة بغير إذن زوجها؛ للأخبار الصحيحة.

وصَرَفه عن الوجوب خبر: "من توضأ يوم الجمعة .. فبها ونعمت، ومن اغتسل .. فالغسل أفضل"، أي: فالغسل مع الوضوء أفضل من الوضوء وحده. أمَّا من يريد عدم حضورها .. فلا يسن له على المعتمد؛ لخبر: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء .. فليغتسل، ومن لم يأتها .. فليس عليه غسل"، ويكره تركه؛ للخلاف في وجوبه. (ووقته: من الفجر)؛ لأن الأخبار علقته باليوم، ويفوت باليأس من فعل الجمعة، ولا يبطله الحدث ولو أكبر. قال (ب ج): (ولا يسن إعادته عند طروء حدث كما تصرح به عبارة "المجموع"، خلافاً للعباب) اهـ شوبري واعتمد (ع ش): ندب إعادته اهـ ولا يسن قضاؤه كغيره من الأغسال إذا فات عند (م ر). (ويسن تأخيره إلى الرواح) أي: الذهاب إلى الجمعة؛ لأنه أبلغ في دفع الروائح الكريهة، ولو تعارض مع التبكير .. أخَّر، وأتى به حيث أمن الفوات؛ للخلاف في وجوبه، ولذا كره تركه، فإن عجز عنه أو عن غيره من الأغسال المندوبة .. تيمم بنية أنه بدل عن غسل نحو الجمعة، أو بنية طهر الجمعة، أوللجمعة، أو للصلاة، ولا يكفي نويت التيمم بدلاً عن الغسل؛ لعدم ذكر السبب. وإنما قام مقام الغسل؛ إذ المقصود منه العبادة والنظافة، فإذا فاتت هذه .. بقيت العبادة، وتوقف (حج) في كراهة تركه، لكن قال (ع ش): الأقرب الكراهة؛ إعطاء للبدل حكم المبدل منه. ويندب الوضوء لذلك الغسل، وسائر الأغسال المسنونة ولو لحائض، ومن لم يكن محدثاً. ويطلب التيمم بدلاً عن الوضوء المطلوب للغسل، فإذا تيمم بنية كونه بدلاً عن الوضوء الواجب، أو المندوب والغسل .. كفى لهما. (و) يسن (التبكير) إلى المصلى (لغير الإمام) ودائم حدث، أمَّا هما .. فيندب لهما التأخير (من طلوع الفجر)؛ لما صح: (أن للجائي بعد غسله غسل الجنابة، أو كغسلها، في الساعة الأولى بدنه، والثانية بقرة، والثالثة كبشاً أقرن، والرابعة دجاجة، والخامسة عصفوراً، والسادسة بيضة).

والمراد: أنَّ مابين الفجر وخروج الخطيب ستة أجزاء متساوية، سواء طال اليوم أم قصر. (ولبس) الثياب (البيض) بأن تكون ثيابه كلها بيضاء، والأعلى منها آكد؛ للخبر الصحيح: "البسوا من ثيابكم البيض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم". نعم؛ محل أفضليته في غير أيام الوحل ونحوه من كل ما يخشى منه تدنيسه، وفي غير أيام العيد، وإلا .. فما هو أعلى في العيد أفضل وإن لم يكن بياضاً. ولو وافق يومها يوم العيد .. روعي العيد، فيلبس الأعلى؛ لأن زينته آكد، لأنها لجميع الناس، ويلي الأبيض ما صبغ قبل نسجه، قيل ويكره ما صبغ بعد نسجه ورده في "التحفة". (والتنظيف) بحلق رجل غير محرم، ومريد تضحية في عشر ذي الحجة، عانته ونتف إبطه وسواك وإزالة ريح كريه وقص شارب وتقليم ظفر يديه ورجليه ويكره من أحدهما بغير عذر كتنعل إحدى رجليه. والأفضل في التقليم: أن يبدأ بمسبحة يمينه إلى خنصرها، ثم إبهامها، ثم خنصر يساره إلى إبهامها على التوالي، وأن يكون ذلك يوم الخميس، أو صبح الجمعة، وأن يبادر بغسل محل التقليم؛ إذ الحك به قبل غسله يخشى منه البرص، وكره المحب الطبري نتف شعر الأنف، بل يقصه. وندب لمن أزال نحو ظفره وهو متوضئ إعادة وضوئه؛ خروجاً من خلاف من أوجبه. أمَّا المرأة .. فيسن لها نتف العانة إن لم تتأذ به. وأمَّا المحرم .. فتحرم إزالة شعره وظفره. ويكره لمريد التضحية إزالة شيء من بدنه في عشر ذي الحجة. وخرج بـ (العانة والإبط): الرأس، فلا يسن حلقه إلا لنسك ومولود وكافر أسلم ومن شق عليه بقاؤه، ويباح فيما عدا ذلك. وخبر "من حلق رأسه أربعين مرة في أربعين أربعاء .. صار فقيهاً" لا أصل له، لكن عمل به، وظهر صدقه. ويسن دفن ما خرج من أجزاء الحي، وقد يجب، كأن كان من امرأة وخشي نظر أجنبي إليه.

(والتطيب) لذكر غير محرم وصائم؛ للخبر الصحيح: "من غسل واغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة ولم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يخرج من صلاته .. كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها". ويسن أن يبالغ الخطيب في حسن الهيئة. وفي موضع من "الإحياء": يكره السواد، أي: خلاف الأولى، وقال الشيخ عز الدين: إدامة لبسه بدعة، وقضيته: إن لا بدعة في غير إدامته؛ للأحاديث الصحيحة بلبسه صلى الله عليه وسلم له في مواضع عديدة، لكن لا ينافي ذلك أفضلية البياض. (والمشي)؛ للخبر الصحيح: "من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ .. كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها، وقيامها" ويستمر له هذا الثواب إلى مصلاه. ومعنى: (غسل) قيل: جامع حليلته فألجأها إلى الغسل؛ إذ يسن له الجماع قبل ذهابه، ليأمن أن ينظر ما يشغل قلبه. والأولى فيه أن معناه: غسل ثيابه ورأسه ثم اغتسل؛ لخبر أبي داوود: "وبكر -بالتخفيف- اي: خرج من بيته باكراً، وبالتشديد: أتى الصلاة أوّل وقتها. و (ابتكر)، أي: أدرك أوّل الحطبة. ويندب كون مشيه (بسكينة) هي كالوقار التأني مع اجتناب العبث وحسن الهيئة؛ لخبر: "إذا أقيمت الصلاة .. فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة" وفي رواية: "وأنتم تمشون" وهو يبين أن المراد بالسعي في الآية المضي. ومن ثم كره العدو إليها كسائر العبادات غير السعي والطواف، لكن هذا عَدْوٌ فيهما، لا إليهما. نعم؛ إن ضاق الوقت ولم يدركها إلا بالعدْوِ .. وجب، وإن لم يَلِقْ به؛ إذ لا نقص فيه، وبه فارق اللباس غير اللائق به. ويسن أيضاً عدم الركوب هنا، وكذا في نحو عيد وجنازة وعيادة مريض. (والاشتغال بقراءة أو ذكر في طريقه، وفي المسجد) وإنما تكره القراءة في الطريق إذا التهى عنها.

(والإنصات) في الخطبة لمن سمعها ولو زائداً على الأربعين؛ لآية: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآن) [الأعراف:204]. وإنما يحصل (بترك الكلام والذكر للسامع) مع الإصغاء لما لا يجب سماعه، بخلاف الأركان لأربعين، فيجب سماعها. ويحرم كلام فوت سماع ركن؛ لتسببه في إبطال الجمعة عند (حج). وأمَّا (م ر) .. فلا يشترط عنده السماع للفعل كما مر. (وبترك الكلام دون الذكر لغيره) أي: لغير السامع لنحو بعد، بل يشتغل بقراءة أو ذكر سراً، بحيث لا يشوش على أحد، بخلاف الكلام، فمكروه وإن لم يسمع، خلافاً لقول قديم عندنا، كالأئمة الثلاثة بتحريمه؛ لخبر الصحيحين: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: انصت، والإمام يخطب .. فقد لغوت". وإنما لم يحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من كلمه وهو يخطب، ولم يبين له وجوب السكوت، والأمر في الآية للندب. ومعنى لغوت: تركت الأدب؛ جمعاً بين الأدلة. ولا يكره الكلام لمن أبيح له قطعاً كالخطيب، وقبل الخطبة أو بعدها، أو بينهما أوحال الدعاء للملوك، وداخل لم يستقر في مكانه ولو لغير حاجة. بل يسن تشميت عاطس، وتنبيه من خاف وقوع محذور به لو لم ينبهه، وتعليم غيره خيراً ناجزاً أو نهيه عن منكر. بل قد يجب غير الأول إذا لم يوجد غيره كرد السلام على مسلم، ويقتصر على أقل ما يكفي. بل لو كفت الإشارة لنحو التعليم .. ندب الاقتصار عليها. (ويكره: الاحتباء فيها) -أي: الخطبة- لحاضرها؛ لما صح من النهي عنه، ولأنه يجلب النوم. قال ابن زياد: ولو علم من عادته إن الاحتباء يزيد في نشاطه، فلا بأس به. (و) كره (سلام الداخل) على الحاضرين في الخطبة وإن لم يأخذ لنفسه مكاناً؛ لاشتغالهم بما هو أهم (لكن تجب إجابته)؛ لأن الكراهة لأمر خارج، بخلافه على قاضي الحاجة.

(ويستحب) للسامع وكذا غيره على ما قاله بعضهم (تشميت العاطس) إذا حمد الله، والرد عليه؛ لأن سببه قهري. ومقتضاه: أنه لو تسبب فيه لا يشمت حينئذٍ، فإن لم يشمته أحد .. قال: يرحمني الله. وورد: "من عطس أو تجشى، فقال: الحمد لله على كل حال .. رفع الله عنه سبعين داء، أهونها: الجذام". (و) يسن (قراءة الكهف) لكل أحد، وإكثارها (يومها وليلتها) ويسن أوّل كل منهما مبادرة إلى الخير، وحذراً من الإهمال، ونهارها أفضل؛ لما صح: "أن الأول يضيء له ما بين الجمعتين"، ولخبر الدارمي: "أن الثاني يضيء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق"، وفي رواية زيادة: (وصلى عليه ألف ملك حتى يصبح، وعوفي من بلية، أو ذات الجنب والبرص والجذام، وفتنة الدجال". والمراد بالجمعتين: الماضية، والمستقبلة. والنور كناية عن الثواب الذي يملأ ما ذكر لو جسم، وهي فيهما أفضل من جميع الأذكار غير ما ورد بخصوصه، كأذكار المساء والصباح، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والجمع بينها وبين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من مجرد تكريرها. وندب فيها أيضاً (آل عمران)، و (هود)، و (الدخان). (وإكثار الصلاة) والسلام (على النبي صلى الله عليه وسلم فيهما) أي: يومها وليلتها، وأقل إكثارها ثلاث مئة، كما إن أقل إكثار الكهف ثلاث مرات؛ للأحاديث الآمرة بذلك. (و) إكثار (الدعاء)؛ لما فيه من الذل والخضوع اللائق بجناب العبد (في يومها) وليلتها؛ لما جاء عن الشافعي: (أنه بلغه إن الدعاء يستجاب في ليلتها) (و) رجاء إن يصادف (ساعة الإجابة) في يومها. وأرجاها: (فيما بين جلوس الإمام للخطبة، وسلامه) كما رواه مسلم، وفي أخبار: أنها في غير ذلك، وجمع بانها تنتقل فيها.

وليس من شرط الدعاء التلفظ به، بل إحضاره في قلبه كافٍ فلا ينافي الإنصات للخطبة. وساعة الإجابة في حق أهل كل مسجد، ما بين جلوس خطيبه والسلام، كما صح في الحديث. (ويكره التخطي) ولو في غير أماكن الصلاة قال الونائي: وإن لم يرفع رجله على العاتق، ومنه كما في (ب ج): التخطي بالأجزاء، أو بالبخور ونحوهما؛ للأمر بجلوس المتخطي، وقوله له: قد آذيت، وقيل: حرام، واختير من حيث الدليل. (ولا يكره للإمام) إذا اضطر إليه في بلوغه المنبر أو المحراب، ولا لمن أذنوا له فيه لغير حياء (و) لا (لمن بين يديه فرجة) وبينها وبينه صف أو صفان، أي: رجل أو رجلان، فإن زاد على تخطي رجلين .. كره إن وجد غيرها ورجا سدها ولم تقم الصلاة، وإلا .. ندب سدها. قال (ب ج): (والمعتمد كما في "المجموع": (إنه إذا وجد فرجة .. لا يكره مطلقاً، وأمَّا استحباب تركها: فإذا وجد موضعاً .. استحب، وإلا فإن رجا سدها .. فكذلك، وإلا .. فلا يستحب) اهـ وقوله: "وإلا: فإن رجا سدها" فيه شيء؛ لأنه إذا لم يجد موضعاً .. معذور) اهـ وقال أيضا: (والمراد بالتخطي: أن يرفع رجله بحيث تحاذي أعلى منكب الجالس. وعليه: فما يقع ليس من التخطي، بل من خرق الصفوف). وقال أيضا: (وحاصله: أن التخطي توجد فيه ستة أحكام يجب إن توقفت الصحة عليه، وإلا .. فيحرم مع التأذي، ويكره مع عدم فرجة، ويندب مع الفرجة القريبة لمن لم يجد موضعاً، وفي البعيدة لمن رجا سدها ولم يجد موضعاً، وخلاف الأولى في القريبة لمن وجد موضعاً، وفي البعيدة لمن رجا سدها ووجد موضعاً، ويباح في هذه لمن لم يجد موضعاً) اهـ (و) لا (لمعظم) لنحو صلاح (إذا ألف موضعاً) من المسجد؛ لأن النفوس تسمح له بذلك، كما في "التحفة" و"النهاية".

لكن في "الشرح": أنه مقصر بالتأخير، فلا يعذر، ويظهر أن لا خلاف، فإن ظن رضاهم .. جاز، وإلا .. كره. ويحرم إن يقيم غيره؛ ليجلس مكانه بغير رضاه، وإلا .. فلا حرمة ولا كراهة إن ساوى ما قام إليه ما قام منه في الفضيلة، وإلا .. كره للقائم فقط؛ إذ الإيثار بالقرب مكروه. نعم؛ لو آثر شخصاً أحق منه بذلك ككونه أعلم فيرد على الإمام إذا غلط، ويعلمه إذا جهل .. استوجه (م ر) عدم الكراهة. (ويحرم) على من تلزمه الجمعة (التشاغل) عنها ببيع وغيره مما لا يضطر إليه، وإن كان عبادة وعلم أنه يدرك الجمعة (بعد) الشروع في (الأذان الثاني) لآية: (إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة:9] والأمر للوجوب، فيحرم الفعل، وقيس بالبيع غيره، وكذا يحرم على من لا تلزمه نحو مبايعة من تلزمه حينئذٍ؛ لأنها معونة على معصية. وخرج بـ (التشاغل): فعل ذلك وهو ماش، أو بمحل قريب كمن عند باب المسجد؛ لإنتفاء التفويت، لكن يكره. نعم؛ له شراء ما يتطهر به لوجوبه، وتوقف الجمعة عليه. (ويكره) التشاغل بما مرَّ لمن مر (بعد الزوال) قبل الأذان السابق؛ لدخول وقت الوجوب، فربما فوته. نعم؛ إن فحش التأخير في بلد .. لم يكره. (ولا تدرك الجمعة إلا بركعة)؛ لما مر أنها يشترط فيها الجماعة، وكونهم أربعين في جميع الركعة الأولى. فلو أدرك مسبوق ركوع الثانية مع إمامها بشرطه، واستمر معه إلى سجودها الثاني عند (م ر)، وإلى السلام عند (حج) .. أتى بركعة بعد سلام إمامها جهراً، وتمت جمعته. وقولنا: مع إمامها قيد عند (م ر)، فلو أراد آخر إن يقتدي بذلك المسبوق في ركعته التي قام إليها .. لم يدرك الجمعة بإدراكها معه، وانقلبت له ظهراً. وعند (حج): يدرك بها الجمعة، وإمامها ليس قيداً.

وعليه: لو أحرم خلف الثاني آخر، وخلف الثالث آخر، وهكذا .. حصلت الجمعة للكل، وتسللت إلى وقت العصر. ولو شك مدرك الثانية قبل سلام إمامه هل سجد معه؟ سجد وأتمها جمعة، أو بعد سلامه؟ سجد وأتمها ظهراً؛ لأنه لم يدرك معه ركعة، ويسجد للسهو في هذه؛ لقيامه متردداً في زيادة الأخيرتين دون الأولى؛ لأنه سهو حال القدوة. أما لو أدرك الأولى مع الإمام وتذكر في تشهده ترك سجدة من الأولى، أوشك فيها .. فيأتي بعد سلام إمامه بركعة، ويدرك الجمعة؛ لإدراكه مع الإمام ركعة ملفقة من ركوع الأولى وما قبله ومن سجودي الثانية، وسجد للسهو في صورة الشك. (فإن أدركه بعد ركوع الثانية .. نواها جمعة) وجوباً على الأصح، وإن كانت الجمعة تفوت بفوات ركوع الثانية (وصلاها ظهراً)؛ لعدم إدراك ركعة مع الإمام؛ لمفهوم خبر: "من أدرك ركعة من الجمعة .. فليصل إليها أخرى". وإنما ينوي الجمعة؛ موافقة للإمام، ولأن اليأس منها إنما يحصل بالسلام؛ إذ قد يترك الإمام ركناً ويتذكره، ويعلم المأموم ذلك بنحو كتابة الإمام، فيتداركه بإتيانه بركعة، فيدرك المأموم الجمعة. (وإذا أحدث الإمام) أو بطلت صلاته بغير الحدث (في الجمعة، أو) في (غيرها .. استخلف) هو أو أحد المأمومين (مأموماً) به قبل حدثه في الجمعة أو مأموماً، أو غيره في غيرها لكن بشرط كون غير المأموم (موافقاً لصلاته) أي: الإمام (ويراعي) الخليفة (المسبوق نظم) صلاة (إمامه)؛ لأنه التزمه بقيامه مقامه، فيمشي على نظمها، كأن يستخلفه في أولى الرباعية أو ثالثتها. بخلاف ما إذا استخلفه في ثانيتها أو رابعتها .. فليس موافقاً نظم صلاته؛ لأنه محتاج إلى القيام، وهم إلى الجلوس. (و) إذا استخلف مسبوقا أو غيره قبل إن ينفرد المأمومون بركن .. (لا يلزمهم تجديد نية القدوة) به؛ لأنه منزل منزلة الإمام، لكن تسن.

والحاصل: أن الاستخلاف في الجمعة إما أن يكون أثناء الخطبة، أو بينها وبين الصلاة، أو في الصلاة. فإن كان الأول .. اشترط سماع الخليفة ما مضى من أركان الخطبة. وإن كان الثاني .. اشترط سماع الخليفة جميع أركانها؛ إذ من لم يسمع ذلك ليس من أهل الجمعة، وإنما يصير من أهلها إذا دخل الصلاة. وإن كان الثالث .. فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قبل اقتداء الخليفة بالإمام، فممتنع مطلقاً. ثانيها: أن يدرك الخليفة الإمام في القيام الأول أو ركوعه، فتحصل له الجمعة وللقوم، فإن استخلف الإمام مقتدياً به قبل خروجه أو تقدم بنفسه .. فذاك، وإلا .. لزم المأمومين تقديم واحد، ويلزمه التقدم إن ظن التواكل. ثالثها: أن لا يدرك الإمام قبل حدثه إلا بعد ركوع الأولى، وهذا لا يجوز له الاستخلاف عند (حج)؛ لأنه يفوِّت الجمعة بذلك على نفسه، إذ شرطه إن يدرك ركعة مع الإمام، ويستمر معه إلى السلام، وهذا لم يستمر معه إلى السلام، فيجب إن يتقدم غيره ممن أدرك ركوع الأولى، ومع ذلك لو تقدم .. صحت جمعة القوم دونه. وعند (م ر): لو أدرك الخليفة ركوع الثانية وسجدتيها مع الإمام، ثم استخلف .. أدرك الجمعة. وأمَّا الاستخلاف في غير الجمعة .. فعلى قسمين: أحدهما: أن لا يقتدي الخليفة بالإمام قبل حدثه، فيجوز إن لم يخالف الإمام في ترتيب صلاته كالركعة الأولى مطلقاً، أو ثالثة الرباعية. بخلاف ثانيتها ورابعتها، أو ثالثة المغرب، فلا يصح حيث لم يجددوا نية اقتداء به، وإلا .. جاز. ثانيهما: أن يقتدي به قبل نحو حدثه، فيجوز مطلقاً؛ لأنه يلزمه نظم صلاة الإمام باقتدائه به. ثم إن كان عالماً بنظمها .. جرى عليه، وإلا .. فيراقب من خلفه، فإذا هموا بالقيام .. قام، وإلا .. قعد، وفي الرباعية إذا هموا بالقعود .. قعد وتشهد معهم، ثم يقوم، فإذا قاموا معه علم أنها ثانيتهم، وإن لم يقوموا .. علم أنها رابعتهم.

وإنما يجوز الاستخلاف قبل إن ينفردوا بركن ولو قولياً، وإلا .. امتنع في الجمعة مطلقاً، وفي غيرها بغير تجديد نية اقتداء. ولو فعل الركن بعضهم .. ففي غير الجمعة يحتاج من فعله لنية اقتداء به دون من لم يفعله. وفي الجمعة إن كان غير الفاعلين له أربعين .. بقيت الجمعة، وإلا .. بطلت إن كان الإنفراد في الركعة الأولى، وإلا .. بقيت، أفاده العلامة الكردي. * * *

باب صلاة الخوف

(باب) كيفية (صلاة الخوف) وما يذكر معها من اللباس من حيث إنها يحتمل فيها ما لا يحتمل في غيرها، كتطويل الاعتدال في صلاة عسفان، وفحش المخالفة في صلاة ذات الرقاع للفرقة الثانية، واقتداء المفترض بالمتنقل في صلاة بطن نخل، وكثرة الأفعال، وترك القبلة في صلاة شدة الخوف. وهي جائزة عندنا حضراً وسفراً، ووردت على ستة عشر نوعاً، اختار الشافعي رضي الله عنه منها أربعة: الأول: صلاة عُسْفان، وهي: والعدو في جهة القبلة، والمسلمون كثير بحيث يقاوم العدو كل فرقة منا ولا ساتر، فيصلي الإمام بهم ويسجد بصف أول، ويحرس ثان، فإذا قاموا .. سجد من حرس ولحقه، وسجد معه بعد تقدمه، وتأخر الأول ندباً بلا كثرة أفعال في الثانية، وحرس الصف الآخر، فإذا جلس للتشهد .. سجدوا، وتشهد وسلم بالجميع، وجاز عكسه، ولو حرس فيهما فرقة صف .. جاز. الثاني: صلاة بطن نخل، وهي: والعدو في غير القبلة أو فيها وثم ساتر، فيصلي مرتين كل مرة بفرقة، والأخرى تحرس، فتقع الثانية له نفلاً، وهي سنة هنا. الثالث: صلاة ذات الرقاع، وهي: والعدو كذلك، فتقف فرقة في وجه العدو، ويصلي الثنائية بفرقة ركعة، ثم عند قيامه للثانية تفارقه، وتتم وتقف في وجه العدو، وتجيء الحارسة فيصلي بها الثانية، ثم تقوم وتأتي بثانيتها وتلحقه ويسلم بها، ويقرأ في انتظاره قائماً، ويتشهد في انتظاره جالساً، ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين، وبفرقة ركعة، وهو بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة أفضل من عكسه، وينتظر في تشهده، أو في قيام الثالثة وهو أفضل، والرباعية بكل فرقة ركعتين، ويجوز بكل ركعة وهذه أفضل مما قبلها. ويسن في الجميع حمل سلاح لا يمنع صحة الصلاة، ولا يؤذي، فإن خيف من تركه .. وجب حمله.

الرابع: صلاة شدة الخوف، وهو ما ذكره بقوله: (إذا التحم القتال المباح) ولو مع غير كافر، أو اشتد الخوف بأن لم يأمنوا هجوم العدو (أو هرب هرباً مباحاً من حبس) بغير حق (أو عدو) مسلم أو كافر زاد على ضعفينا (أو) نحو (سبع) كحية وسيل إذا لم يجد عنه معدلاً (أو ذب) ظالماً (عن) نحو (ماله) أو حريمه، أو مال أو حريم غيره .. ففي جميع ذلك لا يجوز له إخراج الصلاة عن وقتها، بل يصلي بالممكن من الأنواع المذكورة بشروطها، ولا إعادة عليه. لكن صلاة شدة الخوف لا يصليها إلا إن ضاق الوقت عند (م ر)، وهي: أن يصليها كيف أمكن راجلاً أو راكباً ولو في الأثناء إن احتاج إليه. و (عذر) فيها (في ترك القبلة) عند العجز عن الاستقبال بسبب العدو ونحوه؛ لآية: (فَإن خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) [البقرة:239] الآية. قال ابن عمر: (مستقبلي القبلة وغير مستقبليها). ويجوز، بل يسن اقتداء بعضهم ببعض حيث لم يكن الحزم في الإنفراد وإن اختلفت جهتهم كالمصلين حول الكعبة وإن بعدوا عن بعضهم في غير مسجد أكثر من ثلاث مئة ذراع؛ للضرورة. أمَّا الإنحراف بسبب غير العدو كجماح دابة وطال .. فتبطل صلاته. (و) فيما يحتاج إليه من (كثرة الأفعال) المتوالية، كضربات وطعنات وركض مع التوالي. (و) في (الركوب) ابتداء، أو في الأثناء حيث احتيج إليه، ولو أمن وهو راكب .. نزل فوراً وجوباً، وبنى إن لم يأت بمناف كاستدبار القبلة. (و) في (الإيماء بالركوع والسجود)؛ للعجز عنهما، للضرورة، ويجب كونه للسجود (أخفض) كما مر. ويعذر في حمل سلاح عليه نجس لا يعفى عنه إذا احتاج إليه وإن لم يضطر إليه، ويقضي على الأظهر. (ولا يعذر في الصياح) أو النطق بدونه؛ لعدم الحاجة إليه، بل الساكت أهيب، وفرض الاحتياج إليه لنحو تنبيه أو لزجر نحو خيل، أو ليعرف أنه فلان الشجاع، نادر.

فصل: في اللباس

أمَّا العاصي بقتاله كباغ، أو بنحو هربه .. فلا يجوز له شيء من ذلك. ولا يصليها طالب عدو خاف فوته لو صلاها متمكنا؛ لأن الرخصة إنما وردت في خوف فوت ما هو حاصل وهي لا تتجاوز محلها، وهذا محصل إلا أن يخشى كرهم، أو كميناً، أو انقطاعاً عن الرفقة، وخاف محذوراً .. فله ذلك؛ لأنه خائف. ولو أخذ له مال وهو في الصلاة .. جاز له صلاة شدة الخوف في طلبه إن خاف ضياعه عند (م ر). وله وطئ نجس لا يعفى عنه مع القضاء، ولا يجوز عند (حج)؛ لأنه غير خائف، بل طالب، ويجوز قطعها عنده؛ ليتبعه، وكذا الخلاف في نظائر ذلك. ولا تجوز اتفاقاً منهما، لخائف فوت الوقوف لو لم يصل صلاة شدة الخوف، بل يجب إخراج الصلاة عن وقتها، وإن كثرت وإدراك الوقوف. ومثل الحج العمرة المنذورة في وقت معين عند (م ر). * * * (فصل) في اللباس. (ويحرم) استعمال (الحرير) وإن لم ينسج، وكذا اتخاذه عند (حج) وهو ما حل عن الدود بعد موته (والقز) وهو نوع من الحرير كَمِد اللون، وهو ما قطعه الدود وخرج منه حياً (للذكر) أي: على الذكر والخنثى (البالغ) العاقل ولو كافراً، لكنه لا يُمنع منه؛ لأنه لم يلتزم أحكامنا في ذلك، فيعاقب على لبسه في الآخرة. ويحرم الحرير والقز على من ذكر بسائر وجوه الاستعمالات، كالتستر والتدثر والاستناد إليه والجلوس عليه إلا ما استثني مما يأتي بعضه؛ إجماعاً في اللبس، إلا وجه شاذ في القز؛ للخبر الصحيح: "إنه حرام على ذكور أمته"، وللنهي عن لبسه والجلوس عليه، ولأن فيه خنوثة لا تليق بشهامة الرجال. (إلا لضرورة) كحرٍّ، وبرد خشي منهما مبيح التيمم، وكحرب جائز ولم يجد غيره. قال الشوبري: وإن لم يفجأه، بل خرج إليه باختياره، لكن نظر فيه بأنه حينئذٍ لحاجة. والكلام في الضرورة أو لحاجة كستر عورة ولو في الخلوة، وكذا ما زاد عليها

عند خروجه إلى الناس، و (كجرب وحكة وقمل) وقد تأذى بلبس غير الحرير تأذياً لا يحتمل عادة، أولم يؤذه، لكنه يزيلها. والحكة: الجرب اليابس، فيحل استعماله حضراً وسفراً إن كان القمل لا يندفع بدونه، ولا بأسهل منه؛ لخبر الصحيحين بالإرخاص فيه لعبد الرحمن بن عوف والزبير؛ لحكة كانت بهما. وفي الصحيحين أيضاً: "أنه أرخص لهما في غزاة بسبب القمل". بل لو لم يجد غيره .. وجب لبسه لنحو ستر عورة؛ لقاعدة: ما جاز بعد الامتناع .. وجب، لكنها لا تطرد، فقد تخلفت هنا للبس الحرير؛ للحاجة بلا ضرورة، فإنه يجوز بعد الامتناع، ولم يجب. (ويحل المركب من حرير وغيره) لذكر وغيره إن زاد وزن غير الحرير ولو ظناً؛ تغليباً لحكم الأكثر، وكذا (إن استويا في الوزن)؛ لأنه حينئذٍ لا يسمى ثوب حرير. والأصل: الحِلُّ، وصح خبر ابن عباس: (إنما نهي عن الثوب المصمت) أي: الخالص من الحرير. ولو تغطى بلحاف حرير وغشاه، فإن خاط الغشاء من أعلاه وأسفله .. جاز؛ لكونه كحشو الجبة. وإنما حل الجلوس على حرير بحائل، وإن لم يخطه عليه؛ لأن الحائل فيه يمنع الاستعمال، بخلاف هذا. ولو شك في كثرته .. فالأصل الحل عند (حج)، كالشك في كبر الضبة. وخرج بالاستعمال: المشي عليه، فلا يحرم، وبالذكر والخنثى: الأنثى، فيحل لها إجماعاً لبساً، وعلى الأصح في الافتراش ولو خليه، وبالبالغ العاقل: الصبي والمجنون، فيحل (إلباس الصبي) ولو مراهقاً، والمجنون (الحرير و) حلي (الذهب والفضة) اتفاقاً في العيد، وعلى الأصح في غيره؛ إذ ليس لهما شهامة تنافي خنوثة ذلك، وكالإلباس سائر الاستعمالات. والمراد بالحلي: ما يتزين به النساء، لا نحو الخنجر المعروف بمصر، فيحرم إلباسه لهما، وجوز أبو حنيفة افتراشه وتوسده.

(و) يحل (الحرير للكعبة) أي: سترها به إن خلا عن نقد، سواء الديباج وغيره؛ لفعل السلف والخلف، وكذا قبره صلى الله عليه وسلم وسائر الإنبياء. ويكره تزيين البيوت ولو لغير ذكر، حتى مشاهد الصلحاء، والمساجد بالثياب غير الحرير، ويحرم به وبالصور؛ لعموم الأخبار. لكن في "الإحياء": وتزيين الحيطان بالديباج لا ينتهي إلى التحريم. ويجوز الاستناد إلى ثياب الكعبة والدخول بينهما. وكما يحرم استعمال الحرير .. يحرم اتخاذه على صورة يختص بها الرجال البالغون، أو جدران البيوت، أو الدواب عند (حج). (و) يحل (تطريف معتاد) أي: تسجيف ظاهر الثوب وباطنه بحرير قدر العادة الغالبة لأمثاله في كل ناحية وإن جاوزت أربع أصابع، وزاد وزن الحرير، كما هو قضية إطلاقهم؛ وذلك للخبر الصحيح: "أنه صلى الله عليه وسلم كانت له جبة مكفوفة الفرجين والكمين بالديباج". وفارق الطراز بأنه محل حاجة، وقد يحتاج لأكثر، والطراز: مجرد زينة، فيتقيد بالوارد. قال (م ر): (وقضيته: أنه يجوز فيه الزيادة على أربع أصابع؛ للحاجة، وفي "الروضة": المنع) اهـ ولو سجف بزائد على عادة أمثاله .. حرم عليه وعلى غيره وإن أعتيد لأمثاله مثله؛ لأنه وضع بغير حق. وأفتى ابن زياد بأنه لو غطى عمامته مثلا بالقصب .. حرم وإن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار. والفرق بينه وبين المموه بأن هذا ملبوس يتصل بالبدن كما قاله البلقيني، بخلاف ذاك. ويؤيده إطلاق قول النهاية: وأفتى الوالد بحرمة عرقية طرزت بذهب؛ أخذاً بعموم كلامهم. لكن قال الشرقاوي: الشاش الذي في أطرافه القصب يحل إن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار.

نعم؛ إن قلد أبا حنيفة .. جاز؛ لأنه يجيز قدر أربع أصابع من ذلك. (وتطريز) أي: وضع خرقة من حرير خالص على ثوب، وتخاط عليه بالإبرة كالشريط (وترقيع)؛ لخبر ابن عباس السابق، مع خبر مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع أصبع أو أصبعين أو ثلاث أو أربع). ويفرق بينهما وبين المنسوج بأن الحرير هنا متميز بخلافة ثم. وإنما يحل التطريز والترقيع (قدر أربع أصابع) معتدلة مضمومة. قال (ق ل)، و (ح ل): أي: عرضاً ولو احتمالاً، وإن زاد طولاً، أي: ولم يزد وزنها على وزن الثوب. قال (ب ج): بأن لا يزيد كل طراز أو رقعة على أربع أصابع. وفي "الشرح" وفي "شرحي الإرشاد": أن لا يزيد المجموع على أربع أصابع. وفي "التحفة": أن لا يزيد المجموع على ثمان أصابع وإن زاد على طرازين. وفي "الإيعاب": لا تجوز الزيادة على طرازين أو رقعتين، ويجوز كون كل أربع أصابع. وعن "الجواهر": يجوز أن يجعل في طرفي العمامة قدر أربع أصابع في كل منهما. والظاهر: أنه يجري في الحضاية المعروفة. وأما التطريز بالإبرة .. فكالنسج، يعتبر فيه أن لا يكون أكثر وزناً مما طرز عليه ومن ذلك المناشف والعمائم المطرزة به. نعم؛ إن كان مختصاً بالنساء .. حرم عند من يقول بحرمة التشبه بهن، وعكسه وهو الأصح. (و) يحل (حشو) لنحو مخدة وجبة وكوفية بالحرير؛ لاستتاره بالثوب كإناء نقد غشي بغيره، فيحل استعمالها؛ لأنه لا يعد مستعملاً لحرير، وبهذا فارق حرمة البطانة منه. (وخياطة به، وخيط سبحة) ومفتاح وميزان وكوز ومنطقة وليقة دواة وتكة لباس وخيط الخياطة والأزرار وكيس مصحف، وكذا كيس الدراهم عند (حج)، وغطاء كوز لا عمامة رجل، وخلع الملوك إن خشي بعدم لبسها فتنة.

(والجلوس عليه فوق حائل) من ثوب أو غيره ولو رقيقا ومهلهلاً، إذ لا يعد مستعملاً له عرفا، وإن مسه من خلال المهلهل مساً .. لا يعد استعمالاً. (ويحرم على الرجل) والخنثى استعمال (المزعفر). وفي "التحفة": حكمه: حكم الحرير، حتى لو صبغ به أكثر الثوب .. حرم. وفي "الإمداد": أن الأقرب تحريم ما زاد على أربع أصابع منه. نعم؛ إن صبغ به السدى، أو اللحمة .. أتى فيه تفصيل المركب من حرير وغيره. وفي "النهاية": إن صح إطلاق المزعفر عليه .. حرم، وإلا .. فلا. (والمعصفر) سواء صبغ قبل نسجه أم بعده كما في "التحفة"؛ أخذاً بإطلاقهم، كما صحت به الأحاديث، واختاره البيهقي وغيره، ولم يبالوا بنص الشافعي على حله، ولا بكون جمهور العلماء على حله. وفي "الإمداد": إن صبغ قبل النسج .. حل، وإلاَّ .. حرم، وجرى (م ر) والخطيب وغيرهما على حله مطلقا. والمعتمد في المورس: حلة؛ لما صح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالورس حتى عمامته). ويحل استعمال الورس والزعفران في البدن على خلاف كبير. ففي "التحقيق": يكره التطلي بـ (الخلوق)، وهو: طيب من زعفران وغيره، فلو حرم الزعفران .. لحرم هذا. نعم؛ في الورس تشبُّه بالنساء؛ لاختصاصه في قطرنا بهن، ومرَّ حرمته. ويحرم نحو جلوس على جلد سبع، كنمر وفهد به شعر. (ويسن التختم بالفضة للرجل) ولو غير ذي منصب؛ للاتباع. وإنما يسن له حيث كان (دون مثقال)؛ لخبر إبي داوود: أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن وجده لابس خاتم حديد: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟! " فطرحه، وقال: من أي شيء اتخذه؟ قال: "من فضة، ولا تبلغه مثقالاً" وحسنه الحافظ ابن حجر.

وفي "التحفة": (وسنده حسن وإن ضعفه النووي) اهـ وقال المناوي في "شرح الشمائل": (جرت عادة أهل القرن العاشر الإنتصار لكلام النووي كيفما كان، والإنصاف: أن خبر النهي صالح لكراهة التنزيه) اهـ ومنه يعلم: أن غالب الخواتم مكروهة؛ لبلوغها المثقال، بل تزيد ولا تغتر بما تجده في الكتب من إباحة ذلك أو سَنِّهِ، فإنما بنوه على ضعف الحديث، وقد علمت حسنه، واختلفوا في تعدده. وفي "التحفة": ويتجه اعتماد كلام "الروضة" الظاهر في حرمة التعدد مطلقاً؛ لأن الأصل في الفضة التحريم على الرجل، إلا ما صح الإذن فيه، ولم يصح في الأكثر من الواحد، ثم رأيت المحب علل بذلك وهو ظاهر جلي. ولبسه (في الخنصر) اليمنى أو اليسرى أفضل؛ للاتباع، (و) كونه في (اليمنى أفضل)؛ إذ حديث لبسه فيها أصح، وله التختم بما نقش عليه اسمه، ولا كراهة في نقشه بذكر الله. والأفضل: جعل فصه داخل الكف؛ لأن حديثه أصح من حديث جعله ظاهر الكف. والأفضل في اللباس: كونه من قطن، ويليه الصوف، والكمين إلى الرسغ ونحو القميص والإزار إلى نصف الساقين. (ويكره نزول الثوب) والإزار (من الكعبين) أي: عنهما، ونزول الكم عن الرسغ، وإفراط توسعة الثياب والأكمام. (ويحرم) نزول ذلك كله عما ذكر (للخيلاء) أي: بقصده، بل ويفسق؛ للوعيد الشديد الوارد فيه، فإن لم يقصد به ذلك .. كره إلا لعذر، كأن يكون ذلك شعار العلماء وهو منهم، فلبسه؛ ليعرف فَيُسأَل، كما وقع للشيخ عز الدين: أنه أنكر على من أخل في إحرامه فلم يقبل منه، فلبس شعار العلماء فأمرهم فامتثلوا. واستدل له السيوطي بآية: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف:199] وهذا في الرجل. أما المرأة .. فلها إرسال ثوبها على الأرض ذراعاً. والذراع من الكعبين كما في "الإمداد" و"النهاية"، أو من نصف الساق، كما في "التحفة"، أو من أول ما يمس الأرض كما في "الفتح".

وتسن العمامة للصلاة، ولقصد التجمل؛ للأحاديث الكثيرة فيها، واشتداد ضعف بعضها يجبره كثرة طرقها. وتحصل السنة بكونها على الرأس، أو على نحو قلنسوة تحتها، وضبطها طولاً وعرضاً بما يليق بلابسها، فإن زاد .. كره، وعليه يحمل إطلاقهم كراهة كبرها. وتتقيد كيفيتها بعادته أيضاً، فتنخرم مروءة فقيه بلبسه عمامة سوقي لا تليق به، وعكسه، ولو اطردت عادة محل بإزرائها من أصلها .. لم تنخرم بها المروءة؛ لأن وضعها عام، فلم ينظر لعرف يخالفه. ولا تختل المروءة بلبس قلنسوة بلا عمامة لمن اعتاد ذلك وإن كانتِ العمامة أفضل، ولا يسن تحنيك العمامة. واختار بعضهم ما عليه كثيرون من سَنِّه؛ وهو: تحديق الرقبة وما تحت الحنك واللحية ببعض العمامة، وجاء في العذبة أحاديث كثيرة صحاح وحِسان، ناصة على فعله صلى الله عليه وسلم لها لنفسه ولجماعة من أصحابه، وعلى أمره بها وتركُه لها في بعض الأحيان إنما يدل على عدم وجوبها أو على عدم تأكد ندبها. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم أرسلها بين كتفيه تارة، وعلى جانبه الأيمن أخرى، على إن كلاً منهما سنة، وهذا تصريح بأن أصلها سنة، وإرسالها بين الكتفين أفضل منه على الأيمن؛ لأن حديث الأول أصح، وإرسال الصوفية لها على الجانب الأيسر؛ لكونه جانب القلب، لكونهم لم يبلغهم في ذلك شيء، ولا عذر لهم بعد إن يبلغهم ذلك. واقل ما ورد في طولها: أربع أصابع، وأكثره: ذراع، وبينهما شبر. ويحرم إفحاش طولها بقصد الخيلاء، وإلا .. كره. وبحث الزركشي حرمة التزيي بزي صالح على غير صالح إن غرَّبه غيره؛ ليعطيه مثلاً، وهو ظاهر إن قصده. وأما حرمة القبول .. فهو من قاعدة: أن من أعطي لصفة ظنت فيه .. لم يجز له قبوله، ولا يملكه إلا إن كان كذلك باطنا. واعلم: أن الطيلسان سنة في حق من لاق به، وإلا كلبس سوقي طيلسان فقيه .. كره، بل ربما لا يندب له مطلقا، وقد تختل المروءة بتركه، فيكره تركه.

قال في "التحفة": وهو قسمان: (محنك)، وهو طويل عريض قريب من طول، وعرض الرداء، مربع يجعل على الرأس فوق نحو العمامة، ويغطى به أكثر الوجه، وهذا الأكمل فيه، ثم يدار طرفه، والأولى اليمين من تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة جميعها، ثم يلقي طرفيه على الكتفين، وهذا أحسن ما قيل فيه. وبينت في "الأصل" كيفيتين أخريين تقاربان هذه، وقد تلحقان بها في تحصيل السنة، ويطلق مجازاً على الرداء الذي هو حقيقة ما يجعل على الكتفين. والثاني: مقوّر، والمراد به ما عدا الأول، فيشمل المدور والمثلث والمربع والمسدول، وهو ما يرخى طرفاه من غير إن يضمهما أو احدهما ولو بيده. ثم قال: (وحكم الأول: الندب باتفاق العلماء، بل يتأكد للصلاة وحضور الجماعة، وجاءت فيه أحاديث صحاح، وآثار عن الصحابة فمن بعدهم. والحاصل: أن ما كان مشتملاً على هيئة السدل -بأن يلقي طرفي نحو ردائه من الجانبين، ولا يردهما على الكتفين، ولا يضمهما بيده ولا غيرها- مكروه) اهـ مختصراً. وحاصل السدل: أن العلماء اختلفوا فيه، فقال بعضهم: لا بأس به، ومنهم مالك، وكرهه بعضهم مطلقا، ومنهم الشافعي، وبعضهم في الصلاة، وحجتهم: صحة النهي عنه. وقال في "در الغمامة": (قال ابن الأثير في "شرح مسند الشافعي": "الرداء الآن يسمى طيلساناً، فتارة يكون على الرأس، وهو مع التحنيك الطيلسان الحقيقي، وتسميته بالرداء مجاز، وتارة يكون على الأكتاف، وهو الرداء الحقيقي، وتسميته طيلساناً مجاز"، وقال فيه -في مبحث تحويل الرداء في الاستسقاء-: "الرداء: الثوب الذي يطرح على الأكتاف يلقى فوق الثياب، وهو مثل الطيلسان إلا أن الطيلسان يوضع على الرأس والأكتاف، والرداء على الأكتاف، وربما وضع في بعض الأحيان على الرأس) اهـ واستفيد من قوله: "مثل الطيلسان .. الخ" أنه مثله في طوله وعرضه، وأنه يندب كف طرفيه ولو بيده، حتى يخرج عن السدل المكروه. وقال فيه أيضاً بعد كلام طويل: "والسدل مكروه في الصلاة وغيرها، كما في "المهذب" و"البيان"، وغيرهما؛ لصحة النهي عنه".

وفسره أئمتنا وغيرهم، كصاحب "المغني" وغيره من الحنابلة، وصاحب "الهداية" وغيره من الحنفية بأن يسبل الثوب الموضوع على الرأس والكتف من غير أن يضم جانبية باليد أو غيرها، وتفسيره بأنه وضع وسط الرداء على الرأس وإرساله حتى يصل الأرض، للغالب بالنسبة لذكر الوسط والأرض. وإلاَّ .. فظاهر كلامهم، بل صريحة أن لا يتقيد بذلك. ومن ثم حرر ذلك بعضهم، فقال: (يكره السدل، وهو أن يلقي طرفي ردائه من الجانبين، ولا يردهما على الكتفين، ولا يضمهما بيده. وظاهر هذا التفسير وما قبله: أن كراهة السدل لا تنتفي بإلقاء أحد الطرفين أو ضمه فقط، وهو محتمل. ويؤيده قولهم -بعد ذكر كيفياته-: وإنما كره بهذه الكيفية؛ لأنها من زي اليهود والنصارى) اهـ ويحتمل خلافه؛ لأن المقصود زوال هيئته التي هي شعار اليهود، لينتفي التشبه بهم، وقد زالت إلى آخر ما ذكره فيها. وقد مرَّ في خصال الفطرة أن سدل الرداء يكون في الارتداء على أحد الكتفين، وهو ظاهر إطلاق ما مر هنا أيضاً، ومر ثم كراهة جعل الرداء على أحد الكتفين؛ لعدم العدل. وعليه: فلا بد لنفي الكراهة في الرداء من جعله على الكتفين، ورد طرفيه على الكتفين، أو ضمهما بيده. أورد أحدهما أو ضمه بيده، وإنما أطلت في ذلك؛ لأن غالب من يرتدي أو كلهم، لا يسلم من الكراهة. (ويكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي) كالزهد في الدنيا وكسر النفس وحله، وفي "الإمداد" كـ"النهاية": أنه خلاف الأولى، ويقاس به أكل الخشن. وندب إن يبدأ بيمينه لبساً، ويساره خلعاً، وأن يخلع نعليه إذا جلس، ويجعلهما وراءه، أو بيساره إن لم يكن فيهما إنسان، وإلا فتحته وإن يطوي ثيابه ذاكراً اسم الله؛ لئلا يلبسها الجن كما في الخبر. ويتأكد لمن يقتدي به تحسين الهيئة، والمبالغة في التجمل والنظافة، والمتوسط من نحو الملبوس بقصد التواضع أفضل، فإن قصد بالأعلى إظهار نعمة الله عليه .. ساوى

المتوسط تواضعاً، والمشي حافياً في بعض الأوقات بقصد التواضع، ويندب نفض نحو فراش احتمل حدوث مؤذ عليه. تتمة: يحل لآدمي لبس متنجس في غير نحو صلاة حيث لا رطوبة؛ لأن نجاسته عارضة، وفي تكليف إدامته الطاهر مشقة، أمَّا مع الرطوبة .. فيحرم؛ لحرمة التضمخ في البدن والثوب بالنجس لغير حاجة، وكذا لا يحل المكث به في المسجد بلا حاجة؛ لوجوب تنزيهه منه، أمَّا نجس العين .. فلا يحل إلا لضرورة. وخرج باللبس: غيره، كفرش جلد ميتة، فيحل، وبالآدمي: غيره، فيحل إلباس دابته جلد ميتة غير مغلظ، ومحل ذلك كله حيث لا ضرورة، وإلا كفجأة قتال وخوف على عضو له ولم يجد طاهراً .. فيحل. ويحل مع الكراهة استصباح بدهن نجس أو متنجس بغير مغلظ، كالشمع المتخذ من دهن الحمير؛ لخبر: الفأرة تموت في السمن الذائب، فقال صلى الله عليه وسلم: "استصبحوا به، أو انتفعوا به" ودخان النجس يعفى عن قليله. نعم؛ يحرم ذلك في المسجد مطلقاً، لكن مال الإسنوي إلى جوازه معللاً بقلة الدخان. وكالمسجد دار غيره ولو مستأجرة إن أدَّى إلى تنجيس شيء منها. نعم؛ ما جرت به العادة .. يتسامح به، وكذا قليل دخانها الذي لا يؤثر نقصاً. ويجوز تنجيس البدن لغرض، كعجن سرجين، ووطء مستحاضة، وإصلاح فتيلة في دهن نجس، والتداوي به، وتنجيس ملكه كوضع نجس في إناء طاهر ما لم يضع به مالاً. * * *

باب صلاة العيدين

(باب صلاة العيدين) عيد الفطر والأضحى وما يتعلق بهما، وهي كالكسوف والاستسقاء من خواص هذه الأمة. والعيد مشتق من: العود؛ لتكرره بتكرر السنين، أو لعود السرور فيه. وأوّل عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر من السنة الثانية من الهجرة، وشرع فيها كالأضحية، وفرض رمضان في شعبانها، وزكاة الفطر في رمضانها. وصلاة عيد الأضحى أفضل من صلاة عيد الفطر، ويوم من رمضان أفضل من يوم عيد الفطر، والتهنئة بالعيد سنة. ويدخل وقتها في عيد الفطر بمغرب ليلته، وفي الأضحى بصبح عرفة كالتكبير، وبالعام والشهر. (هي سنة) مؤكدة؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها، وإنما ترك صلاة عيد النحر بمنى؛ لكثرة ما عليه من الأشغال في ذلك اليوم، ولا دليل أنه تركها مطلقاً، بل روي أنه فعلها، وحمل على أنه فعلها منفرداً، ولذلك كانت للحاج منفرداً ولو بغير منى أفضل من الجماعة، ولغيره جماعة لو مسافرين أفضل. ويكره تعدد الجماعة فيها بلا حاجة. وهي فرض عين عند أبي حنيفة، وكفاية عند أحمد، وقول عندنا. (ووقتها بعد طلوع) أوّل شيء من (الشمس) وإن قل، وقيل: بعد تمام طلوعها (إلى الزوال) من اليوم الذي يعيد فيه الناس وإن تأخر يوماً، كما في الوقوف بعرفة. (ويسن تأخيرها إلى الارتفاع) للشمس قدر رمح؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف مالك، وقول عندنا، ففعلها قبل ذلك خلاف الأولى. (وفعلها في المسجد)؛ لشرفه، وتقف الحيض ببابه؛ ليسمعن الخطبة، لندبه لهن وحرمة دخولهن المسجد، و (ال) في المسجد للجنس الصادق بالمتعدد.

نعم؛ مرَّ كراهة التعدد بلا حاجة (إلا إذ ضاق) المسجد عن الناس، ولا نحو مطر .. فتندب في الصحراء، ويكره مخالفة ذلك فيهما. نعم؛ مسجد مكة وبيت المقدس لا يضيقان بأهلهما. وألحق ابن الأستاذ بهما مسجد المدينة؛ لأنه الأن متسع، واعتمداه في "المغني" و"النهاية". وإذا خرج إلى الصحراء .. استخلف في المسجد من يصلي بالضعفة ومن لم يرد الخروج، ولا يخطب إلا بإذنه. (و) يسن (إحياء ليلتهما) ولو جمعة (بالعبادة) من نحو صلاة وقراءة وذكر؛ لخبر: "من أحيا ليلتي العيد .. أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب"، ويحصل بإحياء معظم الليل وبصلاتي الصبح والعشاء في جماعة، بل وبصلاة الصبح جماعة. نعم؛ الحاج لا يسن له من الصلاة غير الرواتب، بل اختار جمع عدم سن الرواتب له، بل أنكر ابن الصلاح سن إحيائها للحاج. (و) يسن (الغسل) لكل من العيدين. ويدخل وقته (من نصف الليل)؛ ليتسع الوقت لأهل السواد الآتين إليها قبل الفجر؛ لبعد خطتهم. (والتطيب والتزين) بما مر في الجمعة، إلا إنه هنا يسن له أن يلبس أحسن ثيابه ولو غير بياض، وعند التساوي البياض أولى. وفارق الجمعة بأن المراد هنا إظهار النعم، وهو بالأعلى أولى، وفي الجمعة إظهار الكمال، وهو في البياض أعلى، وإلا أنه هنا يسن الغسل والتزين والتطيب (للقاعد) أي: لمن لم يرد الخروج لصلاة العيد (والخارج) لها (والكبار، والصغار للمصلي) منهم ولو منفرداً (وغيره)؛ لأن الغسل هنا لليوم، بخلافه في الجمعة فلمريد الحضور، ولذا لم يسن لغيره. نعم؛ لا يزيل شيئا من بدنه في الأضحى حتى يضحي من معه أضحية. (و) يسن (خروج العجوز) بإذن زوجها لصلاة العيد والجماعات (ببذلة) أي: في

ثياب مهنتها (بلا طيب) ويتنظفن بالماء، ويكره مع التزين أو التطيب، كما يكره لذات هيئة ولو عجوزاً، ولشابه ولو مبتذلة، بل يصلين في بيوتهن، ولا بأس بجماعتهن، ولا بأن تعظهن واحدة منهن، وندب التزين لمن لم يخرج منهن. (والبكور) لمريد صلاة العيد ومن الفجر؛ ليحوز فضيلة القرب من الإمام وإنتظار الصلاة، هذا إن خرجوا للصحراء، وإلا .. فيسن خروجه بما يريده من الزينة، ويمكث بعد صلاة الفجر. فإن لم يخرج بذلك أو أراد زيادة تزيين .. ذهب وتزين، ورجع فوراً، ولو تعارض البكور وتفريق الفطرة .. فالأولى تفريقها، أو والغسل .. أخر له. ومحل ندب التبكير (لغير الإمام) أمَّا هو .. فالسنة حضوره وقت صلاته (والمشي) إلى المصلى (ذهاباً) أي: في ذهابه إلا لعذر وبسكينة؛ للخبر الصحيح في الجمعة: "وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة". أمَّا مع العذر، كبعد أو ضعف .. فلا بأس بركوبه، كما في رجوعه منها. (والرجوع) من المصلى (بطريق آخر أقصر) من طريق الذهاب؛ للاتباع. والحكمة: أن أجر الذهاب أعظم، فندب تطويله؛ ليكثر الأجر بكثرة الخطا، وليستفتى ويتصدق ويزور فيهما، ولتشهد له الطريقان، وغير ذلك (كما في سائر العبادات) فيسن فيها ما ذكر؛ لما ذكر إلا في الحج والغزو .. فيسن فيهما الركوب مطلقاً. (و) يسن للإمام (الإسراع) في الخروج إلى الصلاة (في) عيد (النحر، والتأخر) قليلاً (في) الخروج إلى صلاة عيد (الفطر)؛ لخبر مرسل فيه، وهو حجة في مثل هذا. وحكمته: اتساع وقت الأضحية بعد الصلاة. ووقت إخراج الفطرة قبلها؛ فإن هذا أفضل أوقاتهما. (و) يسن لكل أحد (الأكل) والشرب (فيه) أي: الفطر (قبلها) أي: الصلاة ولو في الطريق أو المسجد، ولا تنخرم به المروءة؛ للعذر. (و) يسن (تمر، ووتر) أي: كون مأكوله ذلك، وألحق به الزبيب.

ويمسك في الأضحى؛ للاتباع، وليمتاز يوم العيد عما قبله بالمبادرة بالأكل أو تأخيره، أي: من حيث الأصل وإن كان صائماً فيما قبل الأضحى، ومفطراً فيما قبل عيد الفطر؛ لأن المراد شأنه ذلك. وصلاة العيد: ركعتان، وهي كغيرها فيما يجب، ويسن، ويكره لكنها تزيد على غيرها بأمور تندب فيها (و) منها: أنه (يكبر) مصليها (في الأولى) ولو قضاء (قبل القراءة) والتعوذ (سبعاً يقيناً) غير تكبيرة الإحرام والركوع، فإن شك أخذ بالأقل (مع رفع اليدين) في كل تكبيرة حذو المنكبين كما مر في صفة الصلاة، وأن يضع يمناه على يسراه بين كل تكبيرتين. ووقت التكبيرات المذكورة (بين الاستفتاح والتعوذ) فلو تركها ولو سهواً، وشرع في التعوذ، أو في قراءة السورة قبل الفاتحة .. لم تفت، أو في الفاتحة هو أو إمامه قبل تمام المأموم التكبيرات المذكورة .. فاتت؛ لفوات محلها، فلا يتداركها. ولو أتى به بعد (الفاتحة) .. سن له إعادتها وإن حصل تكرير ركن قولي، وهو مبطل في قول؛ لأنه ضعيف جداً؛ ولأن محله حيث لا عذر، أمَّا معه كما هنا .. فلا، أو بعد الركوع بأن ارتفع ليأتي به .. بطلت صلاته إن علم وتعمد. (وفي الثانية خمساً) يقيناً، سوى تكبيرة القيام، نظير ما تقرر في الأولى. ولو ترك إمامه التكبيرات .. لم يأت بها، أو نقص أو زاد .. وافقه سواء أتى به قبل القراءة أو بعدها وقبل الركوع. نعم؛ الزيادة التي لا يراها أحدهما لا يوافقه فيها. وإنما أتى المأموم بدعاء الافتتاح، وتكبير الانتقال وإن تركه إمامه؛ لأنهما سنة من الصلاة، والتكبير سنة فيها؛ ولأنهما آكد بكونهما مجمعاً عليهما. وعبارة (سم): (ولو تركه الإمام .. لم يأت به المأموم، فإن أتى به .. لم تبطل صلاته؛ لأنه ذكر هذا إن اتحدت صلاتهما، أمَّا لو اقتدى مصلي العيد بمصلي الصبح مثلاً .. فإنه يأتي بالتكبير؛ لأن المخالفة مع اتحاد الصلاة تفحش في الجملة، وتعد افتئاتاً على الإمام) اهـ ويكره ترك التكبيرات والزيادة فيها والنقص منها، وترك رفع اليدين والذكر بينهما.

(ولا يكبر المسبوق إلا ما أدرك) من التكبيرات مع إمامه. قال في "الشرح": (فلو اقتدى به في الأولى مثلاً، وأدرك منها تكبيرة .. كبرها فقط، أو في أوّل الثانية .. كبر معه خمساً فقط، وأتى في ثانيته بخمس فقط؛ لأن في قضاء ذلك ترك سنة أخرى) اهـ قال (ب ج): قال (م ر): ويسن أن يتدارك المتروك مع تكبيرها قياساً على قراءة الجمعة من الركعة الأولى من الجمعة، فإنه إذا تركها فيها .. سن له أن يقرأها مع المنافقين في الثانية، وجرى (حج) على أنه لا يتدارك. (و) سن (قراءة "ق") في الأولى (و"اقتربت") في الثانية، وإن أمَّ بجمع غير محصورين (أو "الأعلى") في الأولى (و"الغاشية") في الثانية بكمالها؛ للاتباع، والأوليان أولى، ومرَّ أنه يجهر في العيد ولو قضاء. (ويقول) ندباً (بين كل تكبيرتين) من السبع والخمس المتقدمة (الباقيات الصالحات) المذكورة في آية: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) [الكهف:46] وهي عند ابن عباس، وجماعه: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولو زاد ذكراً آخر .. جاز إن لم يطل فصل. ومن الجائز: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويسن كون ذلك (سراً) والتكبير جهراً، وكونه (واضعاً يمناه على يسراه) تحت صدره (بينهما) أي: بين كل من التكبيرات المذكورة، ولو والى التكبير والرفع .. لم تبطل صلاته، حيث لم يزد على المسنون عند (م ر). وقال (حج): (تبطل، وإنه لو اقتدى بحنفي والى التكبير والرفع .. لزمه مفارقته، قال: وليس كما مر في سجود الشكر من أنه لا يلزمه مفارقته إذا سجد في (ص)؛ لأن المأموم يرى مطلق السجود في الصلاة، لا توالي الأفعال اختياراً، ويظهر ضبط الموالاة بأن لا يستقر العضو بحيث ينفصل رفعه من هويه، حتى لا يسميان حركة واحدة) اهـ ولا تبطل بالشك في الموالاة.

فصل: في توابع ما مر

ويسن وصل التعوذ بالتكبيرات (ثم) إذا أتم الصلاة .. (خطب) ندباً ولو لاثنين .. ولو مسافرين وإن خرج الوقت، وصلوا فرادى لا لواحد ولا لجماعة النساء إلا أن يخطب لهن ذكر .. فلا يعتد بهما قبلها إجماعاً (خطبتين) كخطبتي الجمعة في الأركان والسنن دون الشروط، فلا تجب لهن، بل تسن. لكن لابد من السماع، ولو لواحد، وكذا كونها عربية عند (م ر) ويسن أن يسلم كما مر في خطبة الجمعة، وأن يقبل عليهم ثم (يجلس قبلهما جلسة خفيفة) بقدر الأذان في الجمعة، ثم يشرع فيهما (ويذكر فيهما) أي: الخطبتين (ما يليق) بالحال فيتعرض لأحكام زكاة الفطر في عيده، ولأحكام الأضحية في عيدها؛ للاتباع في بعض ذلك، وقياسا في الباقي. (ويكبر) ندباً (في) الخطبة (الأولى) عند افتتاحها (تسعاً) متوالية يقيناً إفراداً. (وفي) الخطبة (الثانية) عند افتتاحها (سبعاً ولاء) كذلك؛ لقول بعض التابعين: إنه من السنة، والتكبير المذكور مقدمه، والشيء قد يفتتح بمقدمه. وقال الكردي: وقوله: (متوالية) قال (سم): فيضر الفصل الطويل. وفي "المغني" و"النهاية": الولاء في التكبيرات، وكذا الإفراد سنة، فلو فصل بين التكبيرات بذكر أو قراءة .. جاز، وفي "شرحي الإرشاد": كان حسناً. وينبغي أن يفصل بين الخطبتين بالتكبير، ويكثر منه في فصول الخطبة. * * * (فصل) في توابع ما مر. (يكبر) ندباً كل أحد (غير الحاج) ويسن كونه (برفع الصوت إن كان رجلاً)، إظهاراً لشعار العيد. أمَّا غير الذكر .. فلا يرفع صوته به إن خلا عن الرجال الأجانب، لكن دون جهر الرجل؛ قياساً على جهر الصلاة (من غروب ليلة العيدين في الطرق ونحوها) من المنازل

والمساجد والأسواق وغيرها، ماشياً وراكباً وقائماً وقاعداً ومضجعاً في جميع الأحوال، إلا في نحو خلاء؛ لآية: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) [البقرة:185] أي: عند إكمالها، وهذا التكبير المرسل والمطلق إذ لا يتقيد بصلاة ولا غيرها. ويسن تأخيره عن أذكارها، فإن قدمه عليها .. كره إن نوى به المقيد، وإلا .. فاته الأفضل، ولا كراهة. وتكبير ليلة عيد الفطر آكد من تكبير ليلة عيد الأضحى؛ للنص عليه، وتكبير ليلة عيد الأضحى بالقياس عليه، ومقيد الأضحى أفضل من المرسل بقسميه؛ لشرفه بالصلاة. (ويتأكد مع الزحمة) وتغاير الأحوال؛ قياسا على التلبية للحاج. وصيغته المحبوبة المندوبة التي تداولها أهل كل عصر؛ لاشتمالها على ما صح في مسلم على الصفا مع زيادة أخذت من فعل بعض الصحابة والسلف هي: (ثلاث تكبيرات متوالية، ويزيد:) بعد الثلاث (لا إله إلا الله، والله اكبر الله اكبر، ولله الحمد، وندب زيادة: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) الأصيل: العصر، والمراد جميع الأزمنة. ويزيد ندبا: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله اكبر؛ لأنه مناسب، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك على الصفا. (ويستمر) مكبراً كذلك (إلى تحرم الإمام) أي: نطقه بالراء منه لمن صلى مأموماً، وإلى إحرام نفسه لمن صلى منفرداً، وإلى الزوال لمن لم يصل؛ لتمكنه من إيقاعه إليه. وفي (ب ج) وغيره: المراد من تحرم الإمام دخول وقت إحرامه المطلوب، سواء صلى معه أو منفرداً، أو لم يصل، أو أخر الإمام صلاته. (ويكبر الحاج من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر) أيام (التشريق)؛ لأن أوّل صلاة يصليها بعد تحلله الظهر.

وآخر صلاة يصليها بمنى قبل نفره الثاني الصبح، إي: شأنه الأكمل ذلك، فلا فرق بين أن يقدم أو يؤخر عن ذلك، ولا بين من بمنى وغيره كما في "الشرح" وغيره لـ (حج) واعتمد (م ر): أن العبرة بالتحلل، تقدم أو تأخر، فمتى تحلل .. كبر. وقال الرشيدي على قول "المنهاج": ويختم بصبح آخر أيام التشريق، أي: من حيث كونه حاجاً، كما يؤخذ من العلة، وإلا .. فمن المعلوم أنه بعد ذلك يكبر إلى الغروب مثل غيره، فتنبه له، وأقره غيره عليه. (ويكبر غيره) أي: الحاج (من) عقب فعل (صبح عرفة إلى) عقب فعل (عصر آخر) أيام (التشريق)؛ للاتباع، وهذا معتمد (حج). واعتمد (م ر): أنه يدخل بفجر يوم عرفة وإن لم يصلها، وينتهي بغروب آخر أيام التشريق، وعلى كل يكبر بعد صلاة العصر وينتهي به عند (حج)، وعند (م ر) بالغروب. وإنما يندب التكبير المذكور لحاج وغيره (بعد صلاة كل فرض أو نفل، أداء وقضاء وجنازة ومنذورة) في الأيام المذكورة دون غيرها، فلو فاتته صلاة من هذه الأيام وقضاها في غيرها .. لم يكبر. وخرج بـ (الصلاة): سجدة تلاوة وشكر، فلا يكبر بعدهما، والخلاف في تكبير يرفع به صوته، ويجعله شعاراً للوقت، وإلا فلو استغرق عمره بالتكبير .. كان حسناً. (وإن نسي) التكبير، أو تركه عمداً عقب الصلاة ( .. كبر إذا تذكر) أو إذا أراده ما دامت أيام التشريق وإن طال الفصل؛ لأنه شعار للوقت، لا تتمة للصلاة، بخلاف سجود السهو. (ويكبر) ندباً (لرؤية النعم) مرة كما في "الايعاب" (في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة)؛ لقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:28] وأما (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:203] .. فقال البيضاوي: كبروه إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق.

(ولو شهدوا) وقُبلوا (قبل الزوال) يوم الثلاثين من رمضان برؤية الهلال، وقد بقي من الوقت ما يسع جمع الناس، وصلاة العيد أو ركعة منها (برؤية الهلال الليلة الماضية .. أفطرنا وصلينا العيد) أداء؛ لبقاء وقته. أو قبل الزوال بزمن لا يسع ما ذكر (أو بعد الزوال، وعدلوا قبل الغروب) .. قبلوا وافطرنا، لكن الصلاة (فاتت) أي: فات أداؤها؛ لخروج وقتها. نعم؛ تسن لمنفرد ومن حضر معه إن بقي ما يسع ركعة، ثم مع الناس؛ إذ تسن إعادتها، ومحل اشتراط الوقت للإعادة في غير ذلك. (وتقضى) إذا فات وقتها متى شاء مريده ككل مؤقتة، وفي باقي اليوم أولى، فإن عسر اجتماع الناس فيه .. ففي الغد، أمَّا المنفرد .. فيعجل. (أو) شهدوا (بعد الغروب) أو قبله، وعُدِّلوا بعده .. لم يُقبلوا بالنسبة لصلاة العيد؛ إذ لا فائدة في قبولهم إلا منع الصلاة في الغد، و (صليت من الغد أداء)؛ للخبر الصحيح: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، وعرفة يوم يعرف الناس". أمَّا بالنسبة لغيرها، كأجل وطلاق وعتق ونحوها علقت بشوال .. فيقبلوا. ومن الغير زكاة الفطر، فتخرج قبل الغد، ويصح صوم الغد كما في (ب ج)؛ لأنه ثاني شوال. * * *

باب صلاة الكسوف

(باب صلاة الكسوف) للشمس وللقمر. ويقال أيضا: خسوفان، وللأول: كسوف، وللثاني: خسوف، وهو الأشهر والأفصح، وقيل: عكسه. وشرعت صلاة كسوف الشمس في السنة الثانية للهجرة، وصلاة خسوف القمر في جمادى الآخر من السنة الخامسة. (هي سنة مؤكدة) لمنفرد وغيره، ويكره تركها وإن لم يثبت فيه نهي مخصوص؛ لتأكدها، وللخلاف في وجوبها، وهو إذا لم يكن شاذاً .. ينزل منزلة النهي المخصوص. (وهي ركعتان) يحرم بهما بنية صلاة كسوف الشمس أو القمر ولو سلم منها والكسوف باق لم يفتتح أخرى له، كما لا يجوز زيادة في عدد ركوعها على الأوجه، وتسن إعادتها مع جماعة، ويجوز فيها ثلاث كيفيات: أحدها -وهي أقلها-: أن تصلى كركعتي سنة الصبح، وليس له حينئذٍ أن يصليها بأكمل من ذلك، كما إنه إذا نوى الأكمل .. ليس له أن يأتي بالأقل، بل يأتي بأدنى الكمال، أو بالأكمل، وفي الإطلاق يخير بين الثلاث الكيفيات عند (م ر). وعند (حج): لا يجوز إلا الاقتصار حينئذٍ على الأقل. وظاهر كلامهم: أن له الأكمل بنية أدنى الكمال، وعكسه، وهذا في غير مأموم، أمَّا هو فإذا أطلق .. فيتبع إمامه، وإن نوى الأقل والإمام الأكمل أو عكسه .. لم تصح له؛ لعدم تمكنه من متابعة إمامه. (و) ثانيها: أنه (يستحب) حيث لا عذر (زيادة قيامين) يقرأ الفاتحة في كلٍ وجوباً، وشيئاً من القرآن بلا تطويل ندباً (وركوعين) يقتصر فيهما على العادة، بأن يجعل في كل ركعة قياماً بعد الركوع وركوعاً بعد القيام الثاني. وندب تعوذ للقراءة في كل قيام، وسمع الله لمن حمده، ثم ربنا لك الحمد في كل اعتدال وإن كان يقرأ فيه.

(و) ثالثها: وهي الأكمل: أنه يندب (تطويل القيامات) وإن لم يرض المأمومون إلا لعذر، كما إذا بدأ بالكسوف قبل الفرض كما يأتي. فيقرأ بعد ما يطلب من (الفاتحة) والافتتاح والتعوذ في القيام الأول (البقرة)، وفي الثاني: (آل عمران)، وفي الثالث: (النساء)، وفي الرابع: (المائدة)، أو قدرهن، (والبقرة) لمن يحسنها أفضل. وفي "الأم": يقرا في الأوّل: (البقرة) والثاني كمئتي آية معتدلة منها، والثالث كمئة وخمسين منها، والرابع كمئة منها. قال الشيخان: الأمر في ذلك على التقريب، فيخير بينهما، وبينت وجهه في "الأصل". (وتطويل الركوعات والسجودات)؛ للاتباع، بأن يسبح في أول كل منهما كمئة آية من البقرة، وفي الثاني كثمانين، وفي الثالث كسبعين، وفي الرابع كخمسين تقريباً في الجميع، والمعتبر الوسط من الآيات. وتسن جماعة وفي المسجد وإن ضاق؛ لأن الخروج للصحراء يعرضها للفوات. (والجهر) بالقراءة (في) صلاة كسوف (القمر) إجماعا؛ لأنها ليلية أو ملحقة بها، والإسرار في صلاة كسوف الشمس؛ للاتباع. (ثم خطب خطبتين) بعد الصلاة إجماعا كخطبتي الجمعة في أركان وسنن على ما مر في خطبة العيد (أو واحدة) على ما في "البويطي". والمعتمد: أنه لا بد من الخطبتين. (ويحث) الخطيب الناس (على الخير) من توبة وصدقة وعتق، ويحذرهم من الغفلة والتمادي في الغرور، ويذكر ما يناسب الحال؛ للاتباع في التحذير والأمر به في الباقي. ولا تدرك الركعة بالركوع الثاني من كل منهما كما مر. وسن هنا الغسل لا التزين؛ لخوف الفوات. (وتفوت) صلاة (الكسوف) إذ لم يشرع فيها (بالانجلاء) التام يقيناً، لا لبعضه أو مع الشك، ولا نظر هنا لقول المنجمين وإن كثروا.

فإن انجلى أثناءها .. فيتمها أداء وإن كانت لا توصف بالقضاء. ولو بان الانجلاء قبل الشروع فيها وهي-كسنة الصبح- وقعت نفلاً مطلقاً، وإلا .. لم تنعقد. (و) تفوت أيضاً (بغروب الشمس) كاسفة؛ لزوال سلطانها، والانتفاع بها. (و) تفوت صلاة (الخسوف) للقمر قبل الشروع فيها (بالانجلاء) لجميعه، كما في الشمس. (وبطلوع الشمس)؛ ولزوال سلطانه (لا بالفجر) أي: بطلوعه والقمر خاسف، فلا تفوت في الجديد؛ لبقاء ظلمة الليل، والانتفاع بضوئه، وله الشروع فيها لو خسف بعد الفجر (ولا بغروبه خاسفاً) ولو بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، كما لو غاب تحت سحاب مع بقاء سلطانه. ولا تفوت الخطبة بالانجلاء؛ لأن خطبته صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعده. (وإذا اجتمع صلوات وخاف) مريدها (فواتها .. قدم) الأخوف فوتاً، ثم الآكد، لكن يقدم (الفرض) العيني وجوباً، ولو منذوراً عند خوف فواته وإن كان غيره أخوف منه فوتاً؛ لتحتمه، فكان أهم. ففي الجمعة يخطب لها ثم يصليها، ثم يصلي الكسوف، ثم يخطب له. (ثم) يقدم وجوباً بعد الفرض العيني صلاة (الجنازة)؛ لأنها وإن لم يخش فوت وقت صلاتها بالتأخير مظنة التغير. فإن خيف تغيرها .. وجب تقديمها حتى على الفرض العيني ولو جمعة وإن خرج وقته؛ لأن الاشتغال بدفنها عذر في إخراج الفرض عن وقته، ولا بأس بتأخيرها عن الجمعة؛ لكثرة المصلين إن لم يخش تغيرها؛ لأنه تأخير يسير لمصلحة. كما أطبقوا على تأخيرها إلى ما بعد صلاة نحو العصر؛ لكثرة المصلين حينئذٍ، وقضيته: وإن قد صلِّى عليها. (ثم) بعدهما .. يقدم (العيد)؛ لأنه آكد من الكسوف (ثم الكسوف) ولو اجتمع

كسوف ووتر .. قدم الكسوف وإن تيقن فوت الوتر؛ لأن الكسوف آكد ولا يقضى إذا فات بخلاف الوتر. (وإن وسع الوقت) وأمن الفوات ( .. قدم الجنازة) مطلقاً، (ثم الكسوف)؛ لخوف فوته بالانجلاء. فيقرأ فيه بعد (الفاتحة) بنحو سورة (الإخلاص) في كل قيام، ثم الفرض، ثم العيد، لكن يؤخر خطبة الكسوف عن الفرض؛ إذ لا يخاف فوتها. وإن اجتمع عيد وكسوف مع جمعة وصلاهما بعدها .. كفى لهما خطبتان بعدهما، يذكر أحكامهما فيهما، ويراعي العيد، فيكبر في الخطبة؛ لأنه أفضل. وإنما لا يضر التشريك هنا مع أنهما سنتان مقصودتان؛ لأنهما تابعتان للصلاة، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره. فإن صلاهما قبلها .. سقطت خطبتهما؛ للمبادرة بأداء الفرض، وخطب بعدهما بقصد خطبتها فقط، فإن نواهما معها .. بطلت؛ لأنه شرَّك بين فرض ونفل مقصود، وهو يضر، وليس هذا كما لو نوى الفرض وسنة الوضوء بالصلاة؛ لأن المقصود من سنة الوضوء يحصل بالفرض. وخطبة الجمعة لا تتضمن خطبة الكسوف. (ويصلون لنحو الزلازل والصواعق) والريح الشديدة (منفردين) ركعتين، لا كصلاة الكسوف ولا جماعة؛ لعدم ورودها، وذلك لئلا يكونوا غافلين. ويظهر أنها ينوي بها رفع ذلك، وأنها تدخل في غيرها. * * *

باب صلاة الاستسقاء

(باب صلاة الاستسقاء) وما يتبع ذلك. والاستسقاء لغة: طلب السقيا. وشرعاً: طلب سقيا العباد كلاً أو بعضاً من الله تعالى عند الحاجة إليها. ولو قال باب الاستسقاء .. لكان أعم، فيشمل الاستسقاء بالصلاة وغيرها، والأصل فيه الاتباع، والإجماع. نعم؛ النوع الثالث بدعة عند الحنفية، وهو مردود بالأخبار الصحيحة. وقدم الكسوف عليها؛ لأنها أفضل منها. (وسن) مؤكداً لكل أحد (الاستسقاء) بأنواعه الثلاث عند الاحتياج للماء أو زيادته ولو للغير ما لم يكن ذا بدعة أو ضلالة. وأدنى الثلاثة كونه (بالدعاء) فرادى أو مجتمعين في أي وقت من غير صلاة. وأوسطها بالدعاء (خلف الصلوات) ولو نفلاً (وفي خطبة الجمعة) ونحوها كعقب درس وأذان؛ لأنه في ذلك أقرب إلى الإجابة. (و) ثالثها وهو (الأفضل): الاستسقاء بخطبتين وركعتين على الكيفية الآتية؛ لثبوتها في الصحيحين وغيرهما. ويكرر الاستسقاء بأنواعه الثلاثة، أو بعضها حتى يسقوا؛ لخبر: "إن الله يحب الملحين في الدعاء". فإن أرادوا التكرير بالصلاة والخطبة .. خرج بهم من الغد صياماً، فإن شق ورأى التأخير أياماً .. صام بهم ثلاثاً، وخرج بهم في الرابع صياماً، وهكذا. فإن سقوا قبل الصلاة .. أتموا صيام الأيام إن لم تتم، واجتمعوا لشكر ودعاء، وخطب بهم، وصلوا صلاة الاستسقاء. وفرق في "التحفة" بين هذا، وما لو وقع الانجلاء بعد اجتماعهم. ووجهه: أن القصد بالصلاة ثم دفع التخويف المقصود بالكسوف، كما دلت عليه

الأحاديث، وقد زال، وهنا تجديد الشكر على هذه النعمة الظاهرة، ولم يفت. أو بعدها .. لم يجتمعوا لشكر ولا دعاء. ويسن -كما في "التحفة" و"النهاية"- أو يجب -كما في "فتاوى (م ر) "-، حيث اقتضت المصلحة ذلك (أن يأمر الإمام) أو نائبه العام، كالقاضي والوزير أو ذو شوكة بمحل انحصرت قوته فيه (الناس) مريد الحضور وغيره (بالبر) من نحو صدقة وعتق وتوبة وخروج من المظالم. (و) يأمر المطيقين منهم بموالاة (صوم ثلاثة أيام) قبل يوم الخروج الآتي؛ لأن الصوم معين على الرياضة والخشوع، وبأمره يصير واجباً، فيجب فيه تبييت النية، والتعيين كما قاله الشرقاوي. ولو لم يبيت ونوى نهاراً .. كفاه عن المأمور به، ووقع نفلاً مطلقاً. فتبييت النية إنما هو لدفع الإثم، وإذا لم ينو نهاراً .. لم يجب عليه الإمساك، ولا يجب قضاؤه، ويكفي صوم هذه الأيام المأمور بها عن نذر أو قضاء أو كفارة. ولا يجوز فطره عند (م ر) في السفر؛ لأنه لا يقضي، ولا يجب على الآمر وإن قلنا: المتكلم يدخل في عموم كلامه؛ لبعد أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً بغير صيغة التزام. وإذا سقوا قبل تمام الأيام المأمور بها .. وجب إتمامها. ولو أمر الإمام بالصيام في النصف الأخير من شعبان، أو أمر الصبيان بالصوم .. وجب، ولو أمر من هو في ولايته، ثم خرج عنها .. لم يسقط، ولو أمر بصدقة .. وجب أقل متمول، والمخاطب به من يخاطب بزكاة الفطر، فإن عين قدراً على كل إنسان أو بعض الناس .. لزمه ما عينه إن كان غنياً، فإن كان بقدر زكاة الفطر .. لزم من تلزمه، وإن كان زائداً عليها .. وجب إن كان غني زكاة، أي: بأن فضل عما يكفيه للعمر الغالب، وإلا .. وجب أقل متمول، وإذا أمر بحرام على المأمور وإن لم يكن حراماً عند الآمر .. لم تجب طاعته فيه، أو بمباح للمأمور كالتسعير، أو بمندوب لا مصلحة عامة فيه، كصلاة راتبة .. وجب ظاهراً فقط، أو بمندوب فيه مصلحة عامة كالصيام للاستسقاء .. وجب ظاهراً وباطناً، أو بواجب .. تأكد وجوبه، وفي "الأصل" بسط هنا.

(ويخرجون) بعد صوم الثلاثة حيث لا عذر (في) اليوم (الرابع صياماً) فيه كالثلاثة قبله؛ إذ الصائم لا ترد دعوته، ونظم من لا يرد دعاؤهم بعضهم بقوله (البسيط): وسبعة لا يرد الله دعوتهم ... مظلومُ والدُ ذو صوم وذو مرض ودعوةٌ لأخ بالغيب، ثم نبي ... لأمة ثم ذو حج بذاك قضي (إلى الصحراء) ولو في مكة والمدينة وايلياء؛ لأنهم يخرجون بالصبيان والبهائم، والمسجد ينزه عنهم. وفي "التحفة": إلا في المساجد الثلاثة على ما قاله جمع؛ لاتباع السلف والخلف. والصبيان والبهائم توقف بباب المسجد، وإلا إن قلوا .. فالمسجد أفضل لهم (بثياب البذلة) -بكسر الموحدة، وسكون المعجمة- أي: ثياب الخدمة؛ لأنه اللائق بالحال من إظهار المسكنة، ولا يصحبون طيباً (متخشعين) في مشيهم وجلوسهم، مع حضور القلب وامتلائه بالهيبة والخوف من الله تعالى. (و) يخرجون (بالمشايخ والصبيان) ولو غير مميزين؛ لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، وبالمجانين الذين لا يخاف منهم عند (حج) (والبهائم)؛ لأن الجميع طالبون فضله تعالى؛ ولخبر: "لولا شباب خشع، وبهائم رتع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع .. لصب عليكم العذاب صباً". ويكره إخراج الكفار ولو ذميين معنا أو منفردين؛ لأنهم ربما كانوا سبب القحط، فإن خرجوا .. أمروا بالتميز عنا، ولا ينفردون بيوم كما في "التحفة" و"شرحي الإرشاد". وفي "الايعاب": ينبغي أن يحرص الإمام على أن يكون خروجهم في غير يوم خروجنا. وفي "شرحي الزبد والبهجة" لـ (م ر): ولا يمنعون في يومنا ولا غيره. ويسن كون خروجهم (بعد غسل وتنظيف) بالماء والسواك وقطع الروائح الكريهة؛ لئلا يتأذى بعضهم ببعض، وخروج في طريق، ورجوع بأخرى. (ويصلون) الاستسقاء (ركعتين كالعيد) أي: كصلاته، فيكبر في أوّل الأولى

سبعاً، وأول الثانية خمساً يقيناً، ويأتي بجميع ما مرَّ ثم، ويجوز إن يصليها بأكثر من ركعتين بإحرام واحد إن نوى ذلك عند (حج). وتخالف العيد في: جواز الزيادة على الركعتين، وفي عدم تقييدها بوقت، بل تجوز ولو في الليل، ووقت الكراهة. نعم؛ الأكمل صلاتها في وقت العيد، وفي المناداة لها والصوم قبلها. (ويخطب خطبتين) كخطبتي العيد فيما مر فيهما، لكن يجوز هنا خطبتان (أو واحدة) على ما مر في الكسوف وكونها قبل الصلاة (وبعدها أفضل)؛ لأنه الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم، بخلاف خطبة العيد والكسوف لم ترد قبل صلاتهما. (و) في أنه إذا خطب هنا (استغفر الله تعالى بدل التكبير) قبل الخطبة الأولى تسعاً، وقبل الثانية سبعاً يقيناً؛ لأنه اللائق، ولآية (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) [نوح:10] ويسن الإكثار من قراءتها إلى (أَنْهَاراً). ومن الاستغفار، والأولى كون صيغته: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. وقيل: يكبر كالعيد (ويدعو) في الخطبتين (جهراً) والأولى كونه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه دعاء الكرب، وهو: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات وورب الأرض ورب العرش الكريم. ومنه: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث. ويسن الإكثار من: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ومن الأدعية الواردة في ذلك ومنها: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مُريعاً -بضم أوله- غدقاً مجللاً سحاً طبقاً دائماً، اللهم اسقنا الغيث والرحمة ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وادرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.

فصل: في توابع ما مر

(و) تخالف الخطبة هنا خطبة العيد أيضاً في أنه إذا خطب هنا (استقبل القبلة) بالدعاء (بعد) مضي (ثلث الخطبة الثانية) كما هو الأفضل إلى فراغ الدعاء فإن استقبل في الأولى .. جاز ولم يستقبل في الثانية، وإلا .. كره. (وحوَّل الإمام والناس) حال جلوسهم (ثيابهم) أي: أرديتهم (حينئذٍ) أي: حين استقباله القبلة، بأن يجعل ما كان على كل جانب من الأيمن والأيسر والأعلى والأسفل على الآخر، وهذا في المربع. أمَّا المثلث والمدور والبالغ الطول .. فليس فيه إلا تحويل ما على أحد الجانبين على الآخر. وحكمته: التفاؤل بتغيير الحال إلى الرخاء. (وبالغ فيها) أي: الثانية حال استقباله (في الدعاء سراً وجهراً) فإذا أسرَّ .. دعوا سراً، وإذا جهر .. أمَّنُوا على دعائه، ويجعلون ظهور أكفهم في الدعاء إلى السماء ككل دعاء لرفع بلاء واقع أو متوقع. (ثم) بعد فراغه من الدعاء (استقبل الناس) وحثهم على الطاعة، وصلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وختم بأستغفر الله لي ولكم، وترك كلٌّ رداءه محولاً حتى ينزع ثيابه، ويستشفع كلٌّ بخالص عمله، وبأهل الخير سيما أقاربه صلى الله عليه وسلم. * * * (فصل) في توابع ما مر: (ويسن أن يظهر غير عورته) لكل مطر، و (لأول مطر السنة) آكد؛ للاتباع، ولأنه حديث عهد بربه، أي: بتكوينه. والمراد بأول مطر السنة: أوَّل واقع بعد طول العهد بعدمه، وبالعورة: عورة المحارم. وأصل السنة يحصل بكشف جزء من بدنه وإن قل.

(ويغتسل ويتوضأ في السيل) سواء سيل أوّل السنة وغيره (فإن لم يجمعهما) .. فليغتسل، فإن لم يغتسل ( .. فليتوضأ). قال (ب ج): (ولا يحتاج فيهما من حيث التبرك إلى نية، وله نية السبب ونية غيرهما إن صادفه، ويحصلان معه، وهذا هو المعتمد، ثم قال: والقياس أنه لا يحتاج لترتيب، إذ المقصود وصول الماء إلى الأعضاء) اهـ لكن في "التحفة": أنهما كغيرهما، فيكفي نية الغسل في السيل للغسل، أمَّا الوضوء .. فلا بد له من نية معتبرة مما مرَّ في بابه. (ويسبح للرعد) وهو ملك (والبرق) وهو أجنحته يسوق بهما السحاب، فالمسموع صوته، أي: يسبح عندهما، وإن لم يسمع ولم ير (ولا يتبعه) أي: البرق، ومثله: الرعد والمطر (بصره)؛ لما صح: أن ابن الزبير كان إذا سمع الرعد .. ترك الحديث، وقال: (سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)، وقيس بالرعد البرق. وقال الماوردي: إن السلف كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق، ويقولون عند ذلك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبوح قدوس، فيختار الاقتداء بهم. (ويقول عند نزول المطر اللهم صيِّباً) -بتحتية مشدّدة- المطر الكثير (هنيئاً، وسيِّباً) أي: عطاء (نافعاً) مرتين أو ثلاثاً؛ للاتباع المأخوذ من أحاديث متفرقة. ويكثر الدعاء والشكر حال المطر (و) يقول (بعده) أي: بعد نزول المطر (مطرنا بفضل الله ورحمته) ويكره تنزيهاً: مطرنا بنوء كذا، أي: بوقت النجم الفلاني؛ لإيهام أن للنوء تأثيراً، فإن اعتقد أنه يؤثر .. كفر. (و) يقول (عند التضرر بكثرة المطر) أو دوام الغيم: (اللهم حوالينا ولا علينا) -أي: اصرفه عما يضره من نحو الأبنية إلى ما لا يضره من نحو الجبال والصحارى- اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، اللهم سقيا رحمة -أي: اسقنا سقيا رحمة- ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم ولا غرق. ولا يصلي للتضرر بذلك كما في "المنهاج" قال (م ر): (لأنه لم يرد، لكن

فصل: في حكم تارك الصلاة

ذكروا: أنها تسن لنحو الزلزلة في بيته منفرداً، وظاهر أن هذا مثله) اهـ قال (ب ج): فينوي بها رفع المطر. (ويكره سب الريح) ولو غير معتادة؛ لأنها من روح الله أي: غالباً؛ للنهي عن سبها، بل يسأل الله خيرها ويستعيذ به من شرها، كما في الحديث. * * * (فصل) في حكم تارك الصلاة المكتوبة جحداً أو كسلاً. (من جحد) وهو مكلف (وجوب) الصلاة (المكتوبة) أو ركناً مجمعاً عليه منها أو فيه خلاف واه، كذا في "التحفة"، وفيه نظر؛ إذ لا يكفر بارتكاب المجمع عليه إلا إن علم من الدين بالضرورة، وما فيه خلاف .. ليس معلوماً من الدين بالضرورة. ( .. كفر) إجماعاً وإن فعلها، ككل معلوم من الدين بالضرورة؛ إذ الإيمان التصديق بما علم من الدين بالضرورة، وعدم التصديق بذلك ضده، وهو الكفر. أمَّا غير المكلف .. فمرفوع عنه كل حرج، فلا معصية ولا كفر له. (أو تركها) أي: المكتوبة (كسلاً) أو تهاوناً مع اعتقاد وجوبها (أو) ترك (الوضوء) لها ونحوه من واجباتها المعلومة من الدين بالضرورة (أو) ترك (الجمعة) إن وجبت عليه إجماعاً، لا أهل القرى؛ لخلاف أبي حنيفة في وجوبها عليهم (و) إن (صلى الظهر) كما في "التحقيق" وغيره، وهو المعتمد. وأفتى الغزالي، وأقره الرافعي وابن الرفعة وصاحب الإرشاد: أنه إذا قال: أصلي الظهر .. لا يقتل، أي: وإن كان مرتكباً كبيرة بتركها. قال في "الفتح": ويقويه أن أبا حنيفة وصاحبيه قالوا: تجزئه الظهر، إلا أن يقال: إنه واه. ( .. فهو مسلم) وإن عصى بتركها؛ لما في الحديث: "إن الله إن شاء .. عفا عنه، وإن شاء .. عذبه"، والكافر لا يدخل في ذلك تحت المشيئة.

وأمَّا خبر مسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" .. فمحمول على جحدها، أو على التغليظ. (و) مع كونه مسلماً (يجب) على الإمام أو نائبه دون غيرهما (قتله) ولو بصلاة واحدة، لكن بشرط إخراجها عن وقت الضرورة. فلا يقتله بترك الظهر حتى تغرب الشمس، ولا بترك المغرب حتى يطلع الفجر. ويقتله في الصبح بطلوع الشمس، وفي العشاء بطلوع الفجر، لا يقال لا يقتل بالحاضرة؛ لأنه لم يخرجها عن وقتها، ولا بالفائتة؛ لأنه لا قتل بالقضاء وإن وجب فوراً؛ لأنا نقول: بأن يقتل بالحاضرة إذا أمره بها الإمام أو نائبه دون غيرهما في الوقت، بحيث يبقى منه ما يسع الصلاة والطهارة. وقيل: ما يسع ركعة، وتوعده بالقتل على إخراجها، فامتنع حتى خرج وقتها؛ لأنه حينئذٍ معاند للشرع عناداً يقتضي مثله القتل، فهو ليس لحاضرة فقط، ولا لفائتة فقط، بل لمجموع الأمرين: الأمر، والإخراج مع التصميم. وخرج بـ (كسلاً): ما لو تركها لعذر ولو فاسداً، كأن قال: صليت، وإن ظن كذبه. وقال (ب ج): وإن قطع بكذبه؛ لاحتمال طروء حال عليه .. تجوز له الصلاة بالإيماء، لكن يجب أمره بها، وكأن فقد الطهورين، وكذا كل من تلزمه الإعادة؛ للخلاف في وجوبها عليه، وكذا كل ما اختلف فيه خلافاً غير واهٍ، وإن لم يقلده؛ لأن خلاف العلماء شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. وإنما يقتل (بالسيف) ويمتنع بغيره؛ لخبر: "وإذا قتلتم .. فأحسنوا القتلة". (بعد الاستتابة) وجوباً -على ما في "الروضة"- كالمرتد، أو ندبا -كما في "التحقيق"- بمعنى أن القتل يجوز بغيرها، وإن وجبت لا لقتله بل من حيث الأمر بالمعروف. وفرقوا بأن المرتد في النار، فوجبت استتابتة، بخلاف هذا، فهو مسلم مصيره إلى الجنة، فإذا استتيب .. قتل. (إن لم يتب) فإن تاب .. وجب قبول توبته، وصار معصوماً؛ لأنه بالتوبة خرج عن المعاندة المقتضية لقتله.

واستشكل قبول توبته، وهو حد، والحدود لا تسقط بالتوبة، وأجيب بأجوبة: منها: أن التوبة هنا تفيد تدارك الفائت، بخلافها في نحو الزنا والسرقة، وتوبته هنا بعوده لفعل الصلاة. وقضيته: أنه لو قال: تبت وسأصلي بعد، ولم يذكر عذراً للتأخير .. أنه غير تائب. ويؤيده قولهم: أنه يستتاب فوراً، فإن تاب فوراً، وإلا .. قتل؛ لأن الإمهال يؤدي إلى تأخير صلوات. وقيل: يمهل بعد الاستتابة حالاً ثلاثة أيام، ولو قتله إنسان قبل أمر الإمام له بها .. ضمنه، أو بعده وبعد إخراجها عن وقتها بغير أمر الإمام .. أثم، ولا ضمان ولو قبل الاستتابة إن لم يكن مثله وقلنا: الاستتابة مندوبة، وإلاَّ .. ضمنه. وخرج بـ (المكتوبة): المنذورة المؤقتة، فلا يقتل بتركها؛ لأنها ليست كالمكتوبة. قال في "الشرح": (ولا يقتل بفائتة بعذر، وكذا بغير عذر، وقال: أصليها؛ لتوبته بخلاف ما إذا لم يقل ذلك) اهـ ومحل قتله بها: إن فاتته بعد أمر الإمام له بإيقاعها في وقتها .. فامتنع فلا قتل بفائتة إلا مع ذلك، كما مر. * * *

باب الجنائز

(باب الجنائز) بفتح الجيم: جمع جنازة، به وبالكسر: اسم للميت في النعش، وقيل: بالفتح لذلك، وبالكسر للنعش وهو فيه، وقيل: عكسه، من جَنَزَ: ستر. وهذا الباب يشتمل على مقدمات ومقاصد، وبدأ بالأول فقال: (يستحب) لكل أحد (ذكر الموت بقلبه) ولسانه (والإكثار منه) أي: من ذكره بأن يجعله نصب عينيه؛ لأنه معين على امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لخبر: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات، فإنه ما ذكر في كثير -أي: من الأمل- إلا قلله، ولا في قليل -أي: من العمل- إلا كثره". (و) يستحب (الاستعداد له) أي: للموت (بالتوبة) وهي الندم والإقلاع، والعزم على أن لا يعود إلى المنهي عنه، والخروج من المظالم إن كانت عليه. وحينئذٍ تكون واجبة فوراً، قيل وكل لحظة تمضي ولا يتوب فهو ذنب وهكذا. وعليه: فلا نجاة إلا مع عفو ومسامحة، نسأل الله العافية. (والمريض أولى) أي: أشد مطالبة بذلك؛ لنزول مقدّمات الموت به. (ويسن عيادة المريض المسلم حتى الأرمد والعدوّ)؛ إذ فيها قطع العداوة، وجلب المودة مع ما في ذلك من الصلة، وإدخال السرور وغيرهما، ومن لا يعرفه؛ لما مر في العدو بإبدال قطع العداوة بقطع التناكر. (والجار)؛ لما استفاض من عظم حقوقه (والكافر) غير الحربي (إن كان جاراً أو قريباً) أو نحوهما، كخادم، ومن رجي إسلامه وفاء بحقوقهم، وللاتباع؛ لخبر الشيخين عن البراء: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المريض وغيره) فإن انتفى ما ذكر .. أبيحت.

نعم؛ أهل الجور تكره زيارتهم، وقد تحرم. ومحل سن العيادة إن لم يشق على المزور، وإلا .. كرهت، وحيث سنت فيبادر بها، ولو أوّل يوم من مرضه، لكن لا يواليها كل يوم، بل تكون (غِباً) أي: يوماً بعد يوم إلا أن يكون مغلوباً عليه. نعم؛ نحو القريب والصديق ممن يأنس أو يتبرك به المريض. يزوره بقدر قابليته له ولو مراراً في يوم واحدٍ، (ويخفف) المكث عنده ندباً، بل يكره إطالته؛ لما فيها من إضجاره ومنعه من بعض تصرفاته ما لم يفهم منه الرغبة في الإطالة .. فتندب. (ويدعو له بالعافية إن احتملت حياته) أي: طمع فيها ولو على بعد. والأفضل: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات؛ للخبر الصحيح: "أن من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال ذلك سبع مرات، عافاه الله من ذلك المرض". ويذكر له ما في المرض من الثواب، حتى قال بعضهم: إن ساعة أو يوماً منه خير عنده من قيامه أربعين سنة، وإنه يعقبه الفرج، وإن ما من تعب إلا وله عند الله فرج. (وإلا) يطمع في حياته ( .. فيرغبه في توبة) بلطف بأن يدخل له ذلك في مناسبة كلام لا يختص به. (و) في (وصية) فيما له وعليه بخط موثوق به، ويشهد بها، ويكفي قوله: اشهد عليّ بما في هذه الورقة. بل تسن الوصية لكل أحد؛ لخبر الصحيحين: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاَّ ووصيته مكتوبة عنده". وروى ابن ماجه: "من مات على وصية .. مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفوراً له". ومن فوائدها: الاتباع وتذكيره بالصدقة وإراحة الوارث والتكلم مع الموتى. وليحذر من الإضرار فيها ببعض الورثة، ففيه وعيد شديد، منه أنه من الكبائر. ومنه أنه يختم له بشر عمله، وأن الله يقطع ميراثه من الجنة وغير ذلك. (و) في (تحسين ظنه بالله) تعالى، بأن يذكر له كرم الله تعالى، والأحاديث الدالة

على سعة فضله وكرمه تعالى، ويذكر له من أعماله ما يزيل عنه القنوط، وأنه من أهل الإسلام والصلاة والصيام، وأنه تعالى يحب العفو، ويأمره بملازمة الطيب والتزين كالجمعة، وبقراءة القرآن والذكر وحكايات الصالحين، لا سيما قراءة: (قل هو الله احد)، وآية (الكرسي)، وآخر (الحشر)، ولا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإن من أكثر من ذلك في مرض موته تكون -إن شاء الله- خاتمته حسنة، وفيه ثواب عظيم بينته في "الأصل". وبالجملة: فليحرص على صلاح آخر عمره، فإنه عليه مدار الدنيا والآخرة، ويلازم الصبر؛ ليكون له أسوة بالأنبياء ومن اتبعهم. (ويحسن المريض ظنه بربه) تعالى، فإن ذلك هو حسن الخاتمة؛ لخبر مسلم: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله" أي: أنه يرحمه ويعفو عنه، ولخبر: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". وهذا الوقت ينبغي فيه تغليب جانب الرجاء على الخوف؛ إذ لم يبق في تغليبه للمريض فائدة. بخلاف الصحيح فيسوي بينهما؛ ليبعثه الخوف على العمل، واجتناب المنهي عنه، وليخرجه الرجاء عن القنوط، فإنه مذموم. (ويكره له الشكوى) إلا لنحو صديق؛ ليدعوَ له أو ليتعهده، أو لنحو طبيب؛ ليداويه، فلا بأس بذلك، وإلا كتبرمه من القضاء، كقول بعضهم: ما فعلت تحتك يا رب؟ .. فإنه حرام، بل يخشى منه الكفر، ولا يحرم التبرم من المقضي -كالمرض والفقر- دون القضاء، والأنينُ خلاف الأولى إن لم يغلبه أو يحصل به استراحة من ألمه، وإلا .. فهو مباح، وينبغي إن يبدله بنحو تسبيح. (و) يكره (تمني الموت)؛ لضر في بدنه أو ماله؛ للنهي الصحيح عنه (بلا خوف فتنة الدين) وإلا .. فيسن، وكذا تمنيه لنحو شهادة أو محبة لقاء الله، أو ببلد شريف كمكة، أو جار صالح، وهذا خرج بقولنا: لضر في بدنه أو ماله. ويسن التداوي مع الاعتماد على الله تعالى، والرضا عنه؛ للأمر به، ولجمعه بين

فضيلتي: التوكل وتعاطي السبب الذي خلقه الله؛ للتداوي به، وخروجاً من تزكية النفس بأنه من المتوكلين الراضين، وربما لا يصبر ويرجع إلى التداوي. (و) لكن يكره (إكراهه على تناول الدواء) وإن ظن أنه ينفعه، ومثله الطعام؛ لما فيه من التشويش عليه، ولخبر: "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم" لكنه ضعيف، فلذلك كان مكروها. (وإذا حضره) -أي: المريض- أمارات (الموت .. ألقي) ندباً (على شقه الأيمن) ووجه للقبلة، كما في اللحد (فإن تعذر) على الأيمن ( .. فالأيسر) فإنه أبلغ في الاستقبال من الاستلقاء على قفاه، (وإلا) يتيسر على الأيسر ( .. فعلى قفاه و) يجعل (وجهه وأخمصاه) -بفتح الميم أشهر من ضمها وكسرها- وهما المنخفض من بطن القدمين، والمراد هنا: جميع أسفلهما (للقبلة)؛ لأنه الممكن، (ويرفع رأسه) بشيء؛ ليتوجه وجهه للقبلة. (ويلقن) ندباً ولو غير مكلف (لا إله إلا الله) بأن تذكر عنده؛ للأمر به في خبر مسلم، ولا تسن زيادة: محمد رسول الله؛ لأنه لم يرد مع أنه مسلم، فلو كان كافراً .. لقن جميع الشهادتين قطعاً. (ولا يلح عليه) بها؛ لئلا يضجر، بل يسن أن يقتصر على مرة؛ فإن قالها، وإلا .. أعيدت عليه، فإذا قالها .. لم تعد عليه إلا إن تكلم بغيرها؛ لتكون آخر كلامه؛ لما صح: "أن من كانت آخر كلامه دخل الجنة"، أي: مع الفائزين، وإلا .. فكل مسلم يدخلها. (ولا يقال له: قل) لئلا يتأذى، بل يذكرها بين يديه. (والأفضل تلقين غير الوارث) والعدو والحاسد إن كان ثم غيرهم، وإلا .. قدم الوارث. ولو اجتمع ورثة .. قدم أشفقهم، ولو كان المريض فقيراً .. لقنه مطلقاً الوارث؛ لعدم التهمة، وكذا لو كان غير متهم ألبتة وإن كان المريض غنياً.

وورد: "أن جبريل عليه السلام يحضر من مات على طهارة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم" فليحرص المريض ومن حضره الموت على طهارته. ويسن أن يقرأ عنده: (يس)؛ لخبر: "اقرؤوا على موتاكم (يس) " أي: من حضره الموت. وروي: "أن المريض إذا قرئ عليه (يس) .. يموت رياناً، ويدخل قبره رياناً". (فإذا مات) أي: تحقق موته بظهور أماراته، كاسترخاء قدم وامتداد جلدة الوجه، وميل الأنف وانخلاع الكف ( .. غمض عيناه) ندباً (وشد لحياه بعصابة عريضة) تعمها، يربط بها فوق رأسه؛ لئلا يدخل فمه الهوام، ويقبح منظره. (ولينت) أصابعه و (مفاصله) عقب موته، فيرد ساعده لعضده، وساقه لفخذه، وهو لبطنه، ثم يردهما؛ تسهيلاً لغسله، لبقاء الحرارة فيه، وإلا .. لم تلن بعد، فإن لم تلن .. تلطف في تليينها (ولو بدهن إن احتيج إليه) ويظهر أنه حينئذٍ سنة؛ لتوقف سنة التليين عليه، إذ للوسائل حكم المقاصد. فقولهم: (لا بأس به حينئذٍ) ظاهره أنه مباح، وهو غير ظاهر. ومفهوم كلامهم: أنه لو لغير حاجة به بأس، ولعله مكروه. وبه يعلم فساد عادة جهتنا من دهنهم لكل أحد. (وتنزع ثياب موته) أي: التي مات فيها ولو طاهرة، ولو شهيدا؛ خوف التغيير. وفي "التحفة": لا ينزع عنه الطاهر، ويشمر لحقوه خوف التنجيس، وليحذر من كشف شيء من بدنه خصوصاً عورته. (ويستر بثوب خفيف) طرفاه في غير محرم تحت رأسه ورجليه، إتباعاً لما فعل به صلى الله عليه وسلم. (ويوضع على بطنه شيء ثقيل) والأولى: كونه فوق الثوب ومن حديد، كسيف ومرآة؛ لأنه أبلغ في دفع النفخ لسر فيه، فإن فقد .. فطين، ثم ما تيسر؛ لئلا ينتفخ. وكون أقله قدر عشرين درهماً، فإن زاد قدراً لو وضع عليه حياً آذاه .. حرم، وإذا لم يثبت على بطنه، لكونه على أحد جنبيه .. ربط بنحو عصابة على بطنه؛ ليثبت عليها.

ويكره وضع نحو مصحف على بطنه. فإن كان عليه قذر .. حرم. (ويستقبل به القبلة) كالمحتضر فيما مر، ويندب وضعه على نحو سرير من غير فرش؛ لئلا يتغير بنداوة الأرض إن كانت ندية. (ويتولى جميع ذلك) أي: الإلقاء وما بعده (أرفق محارمه به) المتحد معه ذكورة أو أنوثة، ومثله أحد الزوجين، بل أولى، ويجوز تولي المحرم ذلك، كالأخ لأخته، وعكسه. بل بحث الاذرعي جوازه لأجنبي مع أجنبية مع الغض وعدم المس، واعتمده في "الإمداد"، و"المغني" وغيرهما، واستبعده (م ر). (ويدعى له) عند فعل ما ذكر به وغيره بالثبات والرحمة والمغفرة؛ لاحتياجه حينئذٍ إلى الدعاء. (ويبادر) حالاً ندباً كغيره مما مر (ببراءة ذمته) بقضاء دينه، واستحلال من يعلم أن له عليه حقاً بنحو غيبة مسارعة إلى الخير، ولفك نفسه من حبسها عن مقامها الكريم حتى يقضى عنه، وإن خلف وفاء ولم يعص به عند (حج). فإن لم يتيسر المبادرة .. سأل وليه غرماءه إن يحللوه ويحتالوا عليه، فإذا فعل ذلك .. برئ الميت حالاً، وهو على خلاف القاعدة؛ إذ الحوالة لا تصح إلا برضا المحيل والمحتال، وأن تكون على من عليه دين للمحيل، وليس هنا كذلك وإن كان ضماناً. فالضامن والمضمون عنه لا يبرآن إلا بأداء الدين أو الإبراء منه، وإنما جوز ذلك؛ للحاجة. واخذ الزركشي من الحديث: أن الأجنبي في ذلك كالوارث، وأنه لا فرق بين أن يخلف الميت تركه، أم لا. (وإنفاذ وصيته)؛ استجلاباً للبرء، وإدخال الثواب عليه، والدعاء له. نعم؛ قد تجب المبادرة فيهما كأن أوصى بها، أو طلب الدائن أو الموصى له حقه، أو عصى الميت في الدين، كأن عصى باستدانته أو بتأخير أدائه، وتمكن الوصي أو الوارث من تركته ولم يؤدِّ منها. (ويستحب الإعلام بموته) بالنداء ونحوه (للصلاة) عليه والدعاء له، وتكره ترثيته

فصل: في غسل الميت وما يتعلق به

بذكر محاسنه في نظم أو نثر؛ للنهي عنها، ومحلها حيث لا ندب معها، وإلا .. حرمت. نعم؛ إن كانت بحقٍّ في نحو عالم وخلت عن نحو الندب .. ندبت. وندب تقبيل وجه نحو عالم لكل أحد، ولأهل ميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ولغيرهم خلاف الأولى. * * * (فصل) في غسل الميت وما يتعلق به. (غسله) أي: الميت المسلم الغير الشهيد ولو غريقاً وسقطاً وقاتل نفسه (وتكفينه والصلاة عليه) وحمله (ودفنه فرض كفاية) إجماعاً، إلا قولاً للمالكية في غسله أنه سنة على من علم بموته من أقاربه وغيرهم، فإذا فعله واحد منا ولو غير مميز أو ميتاً أو غسل الميت نفسه، وكذا لو غسلته الجن عند (م ر) .. سقط الحرج عن الباقين. أمَّا الكافر .. فيجب تكفين وحمل ودفن ذي أمان، ويجوز غسله، وتحرم الصلاة عليه. ولا يجب لحربي شيء من ذلك، ويجوز عليه ما عدا الصلاة. (وأقل الغسل) للميت (تعميم بدنه) كله، كالحي ولو من كافر وغير مميز، حتى غسل ما ظهر من فرج المرأة عند جلوسها على قدميها، ولا تجب لهذا الغسل نية، بل تسن؛ إذ المقصود منه النظافة، ولا يشكل بالأغسال المسنونة؛ لأن الغسل من الحي يقع عادة وعبادة، فاحتاج لنية، وغسل الميت لا يقع إلا عبادة. ويجب كون غسله (بعد إزالة النجاسة) العينية عنه إن كانت عليه. أمَّا الحكمية والتي في معناها من العينية .. فتكفي جرية واحدة لها ولغسله، كما مر. (ويسن) إن يغسل (في قميص)؛ لأنه أستر له، وكونه بالياً سخيفاً؛ ليصل الماء إليه بسهولة، ثم إن اتسع .. أدخل يده في كمه، وإلا .. فتح دخاريصه، فإن لم يجده أو لم يرد غسله فيه .. ستر ما بين سرته وركبته مع جزء من كل منهما.

(وفي خلوة) عن غير الغاسل ومعينه والولي وإن لم يعاون؛ إذ قد يكون ببدنه ما يطلب إخفاؤه (وتحت سقف)؛ لأنه استر. (و) يرفع (على) نحو (لوح) مهيأ لذلك؛ لئلا يصيبه الرشاش، ويستقبل به القبلة، ويرفع منه ما يلي الرأس، ويغطي وجهه بخرقة من أوّل ما يضعه على المغتسل. (ويغض الغاسل، ومن يعينه بصره) ندباً في غير عورة، وفيها وجوباً، إلا حليل وحليلته، فلا حرمة فيهما، لكنه يكره؛ لأنه قد يكون به ما يكره اطلاع أحد عليه (إلا لحاجة) إلى النظر، كمعرفة المغسول من غيره، فلا بأس به، واللمس كالنظر. وندب غسله بماء بارد؛ لأنه يشد البدن، والمسخن يرخيه، فلا يغسل به إلا لنحو شدة برد أو وسخ، ولا يبالغ في تسخينه، والماء المالح أولى من العذب؛ لأنه يرخي البدن. ويكره غسله من زمزم؛ للخلاف في نجاسة الميت، وندب أن يعد إناء واسعاً للماء، ويبعده عما يقذره من الرشاش وغيره، ويعد معه إناءين صغيراً ومتوسطاً يغرف بالصغير من الكبير إلى الوسط، ثم يغسله بالمتوسط. (و) سن (مسح بطنه) بيده اليسرى (بقوة) غير شديدة؛ (ليخرج ما فيه) من الفضلات؛ لئلا تخرج بعد الغسل. ويكون ذلك (بعد إجلاسه) عند وضعه على المغتسل برفق (مائلاً) إلى ورائه قليلاً، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى؛ لئلا يسقط، ويضع يده اليمنى على كتفه وإبهامه في نقرة قفاه، وهو مؤخر عنقه؛ لئلا يتمايل رأسه (مع فوح مجمرة بالطيب) من موته إلى انقضاء غسله ولو محرماً وخالياً. (و) مع (كثرة صب) الماء عليه؛ ليذهب عين الخارج وريحه ما أمكن. ثم يضجعه لقفاه (وغسل سوأتيه والنجاسة) التي حولهما، كما يستنجي الحي، لكن يجب كونه (بخرقة) يلفها على يده اليسرى في غسل السوأتين، وندباً في غسل النجاسة في غيرهما، وتلف ثانية؛ لغسل سائر البدن. (ثم أخذ) خرقة (أخرى) ولفها على يده اليسرى؛ (ليسوكه) بها بسبابتها، مبلولة

بالماء، ولا يفتح أسنانه؛ لئلا يسبق الماء إلى بطنه، فيسرع فساده، ثم ينظف بخرقة أخرى على خنصرها مبلولة أنفه (ويخرج) بها (ما في أنفه) من أذى. (ثم يوضئه) ثلاثاً ثلاثاً كالحي، بمضمضة واستنشاق وينشفه ويميل فيهما رأسه؛ لئلا يسبق الماء إلى بطنه، ولا يكفي عنهما ما مر؛ لأنه كالسواك، ويخرج بعود لين ما تحت أظفاره وظاهر أذنيه وصماخيه. (ثم) بعد ذلك (غسل رأسه، ثم لحيته بالسدر) أو نحوه كخطمي، ولا يعكس؛ لئلا ينزل الماء من رأسه إلى لحيته، فيحتاج إلى غسلها ثانياً، ويسرحهما بمشط واسع الأسنان برفق. (ثم غسل ما أقبل منه) بأن يبدأ بشقه (الأيمن) مما يلي وجهه من عنقه إلى قدمه (ثم الأيسر) كذلك (ثم) يحوله إلى شقه الأيسر، فيغسل منه (ما أدبر) بأن يغسل شقه (الأيمن) مما يلي قفاه من كتفه إلى قدمه (ثم) يحوله إلى الأيمن، فيغسل (الأيسر) كذلك، ولا يعيد غسل رأسه ولحيته، بل يبدأ بصفحة عنقه فما تحتها. ويحرم كبه على وجهه، وإنما كره للحي؛ لأنه فعله بنفسه، وهنا فعله به غيره. وهذه الغسلة -بكيفيتها المذكورة- يندب كونها (بالسدر) أو الخطمي أو نحوهما (ثم) إذا فرغ من الغسل كما ذكر (أزاله) -أي: السدر أو نحوه- بصب الماء الخالص من رأسه إلى قدمه (ثم صب) وجوباً (الماء الخالص) عما يسلبه الطهورية الكائن في غير محرم (مع قليل كافور)؛ لأنه يدفع الهوام، وهو في الأخيرة آكد، ويكره تركه. ويغسله بذلك (من قرنه إلى قدمه) وهذه غسلة واحدة، وفي بعض النسخ زيادة: (البارد قبل الخالص)، لكن التي نقلت منها ليس فيها ذلك. وندب أن يكرر غسله بالقراح (ثلاثاً) والأولى كونها متوالية، فتحصل الثلاث من خمس، والأولى غسله بسدر ثلاثاً، ثم مزيله، ثم ثلاث قراح، فتحصل الثلاث من سبع، كغسله بسدر فمزيلة بسدر، فمزيلة فثلاث قراح، فإن غسله بسدرٍ فمزيلة فقراح ثلاثاً .. حصلت الثلاث من تسع. (ثم) بعد فراغه من غسله (نشفه) ندباً (بثوب) -أي: خرقة مع المبالغة في

ذلك؛ لئلا تبتل أكفانه، فيسرع فساده، وبه فارق التنشيف في طهر الحي. ويؤخذ منه: أن الأرض التي لا تُبلي سريعاًً أفضل من التي تبلي سريعاً؛ لأن تنعم الروح مع البدن أكمل من تنعمه وحده وإن محل ذلك في المؤمن الطائع. وندب أن يكون نتنشيفه (بعد إعادة تليينه) يعد فراغ غسله؛ لتبقى لينه، وأن يأتي بذكر الوضوء والذكر على الأعضاء. (ويكره أخذ شعره) أي: الميت غير المحرم (وظفره) وإن كان لما يزال؛ للفطرة، واعتاد إزالته حياً؛ لأنه محدث، وقد صح النهي عن محدثات الأمور التي لم يشهد لها الشرع باستحباب، وقيل: يسن؛ لأنه تنظيف. وردوه بأن أجزاء الميت محرمة، ولذا حرم ختنه وإن عصى بتأخيره أو تعذر غسل ما تحت قلفته، وحينئذٍ يجري الخلاف في أنه ييمم عما تحتها عند (حج)، ويصلي عليه، أو لا ييمم ويدفن بلا صلاة عند (م ر). أمَّا المحرم .. فلا يفعل به شيء مما يحرم على المحرم؛ لأنه يبعث ملبياً، لكن لا فدية على من فعل به ذلك، بخلاف معتدة الوفاة فتطيب؛ لأن امتناعها منه؛ للتفجع وقد زال. ولو خرج بعد الغسل نجس ولو من فرج، وقبل التكفين .. وجبت إزالته فقط -ولو بعد الصلاة عند (حج)، و (م ر)، وقال جمع: لا تجب بعدها- لا إعادة الغسل؛ لأن الفرض قد سقط، ولو لم يمكن قطع الخارج منه .. صح غسله والصلاة عليه، لكن يجب فيه الحشو والعصب على محل النجس، والمبادرة بالصلاة عليه كالسلس. وسن كون الغاسل أميناً، فإن رأى خيراً .. سن ذكره، أو ضده .. حرم الإ لمصلحة، ككونه متجاهراً بمعصيه؛ ليحذر ذلك. (والأولى بغسل الرجل الرجال) -بالرفع- فيقدمون حتى على الزوجة. نعم؛ الأفقه بباب الغسل أولى من الأقرب، والأسن والفقيه ولو أجنبياً أولى من غير الفقيه ولو قريباً، عكس الصلاة؛ إذ القصد هنا إحسان الغسل، والأفقه أولى به، وثم الدعاء وهو من الأسن والقريب أقرب؛ للإجابة. فيقدم رجال العصبة، فالولاء، فالوالي إن انتظم بيت المال، فذووا الأرحام، فالرجال الأجانب فالزوجة الحرة وإن نكحت، فالنساء المحارم.

(و) الأولى (بالمرأة) أي: بغسلها (النساء) فهن أحق من الرجال. وأولاهن ذات محرمية ولو حائضاً؛ لأنها أشفق، فإن استويا في المحرمية .. قدمت ذات عصوبة لو قدرت ذكراً، كعمة على خالة ثم ذات رحم غير محرم، كبنت العم. وتقدم القربى فالقربى، ثم ذات الولاء، ثم محارم الرضاع، ثم محارم المصاهرة، ثم بعد النساء الزوج وإن نكح اختها وأربعاً سواها، ويتقي المس ندباً، بل يلف خرقة، ثم رجال المحارم بترتيبهم في الصلاة. وشرط المقدم: الحرية، والاتحاد في الدين، وعدم القتل المانع للإرث، وعدم الصبا، والفسق، والعداوة. قال في "التحفة": (صريح كلامهما: أن هذا الترتيب واجب، لكن أطال جمع متأخرون في ندبه، وإنه المذهب) اهـ ويغسل أمته ولو مكاتبة، وأم ولد حيث لم تكن مزوجة ولا معتدة ولا مبعضة، وليس لأمة تغسيل سيدها؛ لانتقال الملك فيها للغير. ولكل من الرجل والمرأة تغسيل صغير وصغيرة لم يبلغا حد الشهوة، والخنثى الذى لا محرم له؛ للحاجة، ولضعف الشهوة، وبه فارق حرمة نظر أحد الفريقين له في حياته. (وحيث تعذر غسله)؛ لفقد ماء، أو لتأدي غسله إلى تهريه؛ لنحو حرق أو لدغ أو للخوف على الغاسل، ولم يمكنه التحفظ (أو لم يحضر) في المرأة (إلا) رجل (أجنبي، أو) في الرجل إلا امرأة (أجنبية .. يمم) وجوباً وإن كان عليه نجس لا يعفى عنه عند (حج)، لكن بحائل؛ لحرمة النظر حينئذٍ إلى شيء من بدن الميت والمس. ويؤخذ منه: أنه لو كان في ثياب سابغة وبحضرة نهر مثلاً، وأمكن غمسه به؛ ليصل الماء لكل بدنه من غير مس ولا نظر .. وجب. قال (سم): (أو أمكن صب ماء عليه يعمه). * * *

فصل: في الكفن

(فصل: وأقل الكفن) الواجب (ثوب) يحل له لبسه في حياته، ويليق به؛ لحصول الستر به، فلا يجوز تكفينه بغير ثياب إن وجدت، وإلا .. وجب جلد فحشيش فطين، وما نقص عن تمام البدن من هذه .. تمم مما بعده. قال (ب ج): (ويقدم الحرير على الجلد وما بعده، بل يحرم تكفينه في غير لائق به ولو من الثياب) اهـ ولا بما ليس له لبسه حياً، كحرير ومزعفر لرجل وخنثى إن وجد غيرهما، ويقدم حرير على نجس عين اتفاقاً، وعلى متنجس بما لا يعفى عنه عند (م ر). ويكفي -بالنسبة لحق الله تعالى- ثوب (ساتر للعورة) فقط، فلا يكفي مهلهل، ولا يجب زائد على ما يستر العورة المختلفة بالذكورة والأنوثة دون الرق والحرية؛ لزوال الرق بالموت على الأصح وإن بقيت آثاره كتغسيله لأمته. أمَّا بالنسبة لحق الميت .. فيجب ثوب يعم جميع بدنه إلا رأس محرم، ووجه محرمة وإن كفن من مال غيره؛ تكريماً له، وستراً لما يعرض له من التغيير. وللميت اسقاط الزائد على ستر العورة عند (حج)، بخلاف ساتر العورة؛ لأنه حق الله، وللغرماء المنع من الثاني والثالث، وللورثة المنع من الزيادة على الثلاثة، لا من الثلاثة؛ إذ كل من كفن من ماله ولا دين عليه مستغرق لماله يجب له ثلاثة وإن لم يخلف سواها. ومن كفن من مال غيره .. لم يجب له إلا واحد يعم جميع بدنه ولو عالماً ولياً. (ويسن للرجل) أي: الذكر إن لم يكفن من ماله، أو كان عليه دين مستغرق لتركته برضى دائنه، وإلا .. وجبت، كما مر (ثلاث لفائف) يعم كل منها جميع البدن إلا رأس محرم، ووجه محرمة، وكون كل واسعاً طولاً وعرضاً؛ اتباعاً لما فعل به صلى الله عليه وسلم، ويحرم كونها لا تفضي عليه إلا بمشقة. (وللمرأة) أي: الأنثى ولو صغيرة، وللخنثى (خمسة: إزار) على ما بين سرتها وركبتها أولاً (ثم قميص) يجعل فوق الإزار. وإطلاقهم يقتضي أنه كقميص الحي، بل صرح به الشرقاوي وغيره، فما اعتيد في

جهتنا من جعله إلى نصف الساق، وبلا أكمام .. منكر شديد التحريم. (ثم) بعد القميص (خمار) واسع، كخمار الحي يغطى به الرأس. (ثم) بعد ما ذكر (لفافتان) يلف فيهما؛ لخبر: (أنه صلى الله عليه وسلم كفن ابنته زينب في خمسة) كما ذكر، وكالمرأة الخنثى؛ احتياطاً. ولو قال بعض الورثة: لا نكفنه إلا في ثلاثة .. أجيب كما مر، وكذا لو كان في الورثة محجور عليه .. فليس للميت ولو امرأة إلا ثلاثة، فليتنبه له، فإن العمل في الأنثى على خلافه، ومن كفن في ثلاث .. فهي لفائف ولو لامرأة. (والبياض) أفضل من غيره، بل لو قيل بوجوبه الآن؛ لما في غيره من الإزراء .. لم يبعد، ولو أوصى بغيره .. لم تصح؛ لأنه مكروه، ولا تصح الوصية به. (والمغسول) أفضل من الجديد؛ لأنه آيل للبِلى والصديد، والحي أولى بالجديد. والمراد بإحسان الكفن في خبر مسلم: بياضه ونظافته وسبوغته، لا ارتفاعه؛ لكراهة المغالاة فيه؛ لنهي عنه. نعم؛ إن كان في الورثة نحو صغير .. حرمت، وهذا ما في "شرحي الإرشاد" و"النهاية" وغيرها. ورده في "التحفة" بأن المذهب نقلاً ودليلاً أولوية الجديد، ومن ثم كفن فيه صلى الله عليه وسلم. (و) الثوب (القطن أفضل) من غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كفن منه، ويعتبر حال الميت، فإن كان موسراً .. فمن جياد الثياب بلا مغالاة كما مر، أو متوسطاً .. فمن أوسطها، أو مقلاً .. فمن خشنها، وفي "الأصل" هنا زيادة بسط. (وبُخِّرَ) ندباً كفن غير محرم، وندب كونه ثلاثاً، و (بعود) وأن يكون العود غير مطيب بمسك، ثم بعد تبخيره تبسط أحسن اللفائف وأوسعها إن تفاوتت. ولو تعارض الحسن والسعة .. قدم السعة، ثم تبسط الثانية، وهي التي تلي الأولى سعة وحسناً فوق الأولى، والثالثة فوق الثانية، كما يفعل الحي أحسن ثيابه من أعلى، ثم ما يليه، ويذر على كل واحدة قبل وضع الأخرى حنوط؛ لأنه يدفع سرعة بلائهن، والحنوط -بفتح الحاء- نوع من الطيب يختص بالميت، يشتمل على صندل وذريرة وكافور، وقيل: طيب خلط للميت.

و (الكافور): الجزء الأعظم من الطيب؛ لتأكده، ولأن المراد زيادته على ما يجعل في أصل الحنوط، وندب الإكثار منه. ثم يوضع الميت فوق الأخيرة برفق مستلقياً على قفاه، وتجعل يداه على صدره ويمناه على يسراه، أو يرسلان لجنبه، ويضع عليه حتى رأسه ولحيته حنوطاً وكافوراً، ويشد إلياه بخرقه كالحفاظ بعد دس قطن بينهما عليه حنوط، حتى يصل لحلقة دبره، ويبالغ في شده؛ ليمنع الخارج، ويكره دسه داخل الحلقة، أو يحرم. ويجعل قطناً على كل من المنافذ الأصلية والطارئة ومواضع السجود السبعة؛ إكراماً لها، ثم تلف عليه اللفائف بأن يثني كل منها من طرف شقه الأيسر على الأيمن، ثم من طرف الأيمن على الأيسر، كما يفعل الحي بالقباء، ويجعل الفاضل عند رأسه أكثر، ثم تشد الفائف بشداد عليها؛ لئلا تنتشر عند الحمل إلا في محرم .. فتشد بلا عقد، فإذا وضع في قبره .. حل الشداد؛ لزوال مقتضيه، وكراهة بقاء معقود معه في قبره. ولا يلبس محرم محيطاً، ولا أنثى محرمة قفازين، ولا تشد أكفان ذكر ولا يغطى رأسه، ولا وجه امرأة. فروع: الأول: يحرم كتابة معظم، كقرآن أو ذكر على الكفن؛ صيانة له عن التنجيس. الثاني: اتخاذ الكفن مكروه إلا من حل أو أثر صالح، وللوارث إبداله؛ لأنه ينتقل إليه كما يجوز له نزع ثياب الشهيد الملطخة بدم الشهادة، وتكفينه في غيرها وإن كان فيها أثر العبادة. نعم؛ إن عينه لتكفينه امتنع إبداله. أما القبر .. فيستحب اتخاذه، ولا يصير أحق به ما دام حياً كما قاله (سم). الثالث: محل تجهيز الميت تركته التي لم يتعلق بعينها حق، لا ثلثها فقط، ويقدم من طلب تجهيزه منها من الورثة على من طلبه من ماله، ويراعى فيها حاله سعة وضيقاً وإن كان عليه دين، إلا زوجة وخادمها .. فعلى زوج غني عليه نفقتهما وإن كان لها تركة، ومثلها بائن حامل ورجعية مطلقاً. وخرج بالزوج ابنه، فلا يلزمه تجهيز زوجة أبيه وإن لزمه نفقتها في حياتها، وبالغني الفقير وهو من لا تلزمه الفطرة كما في (ع ش) أو من ليس عنده فاضل عما يترك

للمفلس، أو من لا تلزمه إلا نفقة المعسرين كما في "التحفة" وبـ (عليه نفقتهما) صغيرة وناشزة، فمؤن تجهيزهما في تركتهما، فبيت المال، فمياسير المسلمين، وفي الأصل هنا ما ينبغي مراجعته. واعلم: أن حمل الجنازة من وظيفة الرجال، ولا دناءة فيه، ويحرم حملها بهيئة مزرية، كفي قفة أو يخاف منها سقوطها، والحمل بين العمودين أفضل من التربيع إن أريد الاقتصار على أحدهما. وكيفية الأول: أن يحمله ثلاثة، يضع أحدهم الخشبتين المقدمتين على عاتقيه، وياخذ اثنان بالمؤخرتين (والأفضل أن يحمل الجنازة) عند عجز المتقدم عن حمل المقدمتين كما ذكر (خمسة) بأن يعينه اثنان، فيضع كل واحد منهما إحدى المقدمتين على عاتقه، والثلاثة الباقون على ما ذكرناه، واحد يحمل المقدمتين، واثنان يحملان المؤخرتين، فحاملوها بلا عجز ثلاثة وبه خمسة، فإن عجزوا .. فسبعة فتسعة فأكثر بحسب الحاجة. والتربيع: أن يحمله أربعة، كل واحد بعمود، فإن عجزوا .. فستة فثمانية أو أكثر، أشفاعاً بحسب الحاجة، ويكره الاقتصار على واحد، أو اثنين إلا في الطفل. والجمع بين الكيفيتين: بأن يحمل تارة بالكيفية الأولى، وتارة بالثانية أفضل من الاقتصار على أحداهما (و) ويندب لكل مشيع قادر (المشي)؛ للاتباع. ويكره الركوب لغير عذر في ذهابه معها ولو لذي منصب دون رجوعه، وكونه ولو لراكب (قدامها)؛ للاتباع ولأنهم شفعاء، وحقهم التقدم، وخبر: "امشوا خلف الجنائز" الذي أخذ به الحنفية .. ضعيفٌ (و) كونه (بقريها) بحيث لو التفت .. رآها رؤية كاملة، فإن بعد عنها وعد مشيعاً لها .. حصلت الفضيلة وإن لم يرها لكثرة المشيّعين، أو لمنعطف، وإلا فلا (والإسراع بها) بين المشي المعتاد والخبب إن لم يضره، وإلا تأنّى، ويندب ستر المرأة بشيء كالخيمة ولو من حرير عند (م ر) حتى يجوز تحلية المرأة بالحلي إن رضي الورثة الكاملون، وأن يكون رأس الميت أول النعش ولو لغير القبلة (ويكره اللغط فيها) أي: يكره رفع الصوت حال السير بها، وحال غسله وتكفينه ووضعه في القبر ولو بذكر، لكن قال ابن زياد: إن أدى سكوتهم إلى نحو غيبة .. كان أولى؛ ليشتغلوا به عنها.

فصل: في أركان الصلاة على الميت

نعم؛ يسن الاشتغال بنحو الذكر سراً وإن لم يؤد السكوت لما مر. (و) يكره (إتباعها) بإسكان التاء (بنار) بمجمرة أو غيرها؛ لأنه تفاؤل قبيح. نعم؛ لو احتيج إليه كضوء في دفن بليل في ظلمة .. لم يكره (واتباع النساء) الجنازة إن لم يتضمن حراماً، وإلا حرم للنهي عنه. فروع: من مرت به جنازة .. ينبغي أن يدعو لها، ويثني عليها إن كان أهلاً، ويقول: سبحان الحي الذي لا يموت، ويتأكد الاعتناء بحضور الجنائز من الغسل إلى تمام الدفن؛ لخبر الصحيحين "من صلى على الجنازة .. فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن .. فله قيراطان قيل: وما القيراطان، قال: مثل الجبلين العظيمين"، وفي حديث الطبراني "من تبع جنازة حتى يقضي دفنها .. كتب له ثلاث قراريط" فعليه: يكون الأول لحضور معها من المنزل قبل الصلاة، والثاني للصلاة، والثالث للتشييع ويؤيده ما في البخاري: أن القيراطين غير قيراط الصلاة، ويتعدد بتعدد الجنائز. ووجود منكر مع الجنازة كالنوح لا يمنع من تشيع الميت؛ لأن الحق لا يترك للباطل. * * * (فصل) في أركان الصلاة على الميت وما يتعلق بها، وهي من خصائصنا، لكن نظر فيه بالصلاة على آدم عليه السلام. (أركان صلاة الميت السبعة: الأول: النية، كغيرها) فيجب فيها ما يجب في نية سائر الفروض. ومنه: مقارنة النية للتكبير، ونية الفرضية ولو من أنثى، لا بقيد كونها كفاية كما لا تتقيد ثم بكونها عيناً، وفي نية الفرضية من الصبي الخلاف السابق ثَمَّ. لكن نقل (ب ج) عن (م ر): وجوبها عليه هنا؛ لأنها تسقط الحرج عن غيره، وثمَّ لا تسقط عنه، وتصح نية فرض الكفاية هنا وإن تعينت عليه؛ لأن تعينها عليه عارض.

ويجب على المأموم نية الاقتداء، فإن لم ينوها وتابع في تكبيرة مع انتظار كثير .. بطلت. ولا يجب تعيين الميت، بل يكفى أدنى مميزكـ (على هذا)، أو (من صلى عليه الإمام) ولو في صلاة الغائب، ولابدَّ في الصلاة عليه من شرط كونه غائباً مغسلاً غير شهيد. قال الكردي: (وتندرج في قوله: أصلى على من تصح الصلاة عليه، فإن تذكر هذا الإجمال ونواه .. فواضح، وإلا .. فلا بد من التعرض لهذه الشروط) اهـ ويكفي في الجمع قصدهم لا معرفة عددهم، فلو نوى على بعض منهم معين .. صح، أو مبهم .. لم تصح وإن صلى ثانياً على من بقي منهم. ولو عين الميت وأخطأ ولم يشر إليه .. لم تصح على ما مر في تعيين الإمام، ومن حضر من الموتى بعد النية .. وجب له استئناف صلاة، فإن نواه أثناء صلاته على غيره .. لم تصح ولم يبعد بطلانها إن علم وتعمد؛ لتلاعبه. ولو نوى عشرة، فبانوا أحد عشر .. لم تصح، أو عكسه .. صحت، أو على حي وميت .. صحت على الميت إن جهل. ولو نوى حاضراً وغائباً، والإمامُ حاضراً أو عكسه .. صحت؛ إذ توافق النيات غير شرط. (الثاني) من الأركان: (أربع تكبيرات) بتكبيرة الإحرام إجماعاً، فإن زاد ولو عالماً عامداً وبقصد الركنية .. لم يضر، لثبوته في مسلم، ولأنه ذكر، وزيادته لا تضر، كتكرير الفاتحة بقصد الركنية. وإذا زاد الإمام .. لا يتابعه؛ لأنه غير مشروع، وللمأموم حينئذٍ مفارقته، وهو فراق بعذر، أو ينتظره. ولو تابعه المسبوق في الزيادة وأتى بواجبه من نحو قراءة .. حسب له وإن علم الزيادة؛ لأنها جائزة للإمام، وبهذا فارق المسبوق المتابع لإمامه في خامسة، حيث فصل فيه بين الجهل فتصح وتحسب له، والعلمِ فتبطل صلاته. (الثالث: قراءة "الفاتحة") أو بدلها؛ لعموم خبر: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". والأفضل: كونها بعد الأولى، وتصح بعد غيرها على المعتمد، وإذا أتى بها بعد غير

الأولى .. جاز تقديمها على ذكره وتأخيرها عنه، بل يصح الإتيان بها بعد الزائدة كالخامسة. أمَّا غيرها .. فتتعين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة. (الرابع: القيام للقادر) عليه ولو صبياً وامرأة مع رجال؛ لأنها فرض كالخمس، فيأتي هنا ما مر ثمَّ في القيام، وإلحاقها بالنفل في التيمم لا يلزم منه ذلك هنا؛ لأن القيام هو المقوم لصورتها، ففي عدمه محو لصورتها بالكلية. (الخامس: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد) التكبيرة (الثانية)؛ لأنه من السنة، كما رواه الحاكم عن جمع من الصحابة وصححه، ولفعل السلف والخلف. ويسن الصلاة على الآل، والدعاء للمؤمنين عقبها، والحمد قبلها. ويسن ضم السلام للصلاة هنا بخلافه في غيرها من الصلوات؛ لتقدمه فيه. لكن في (ب ج) عن (م ر): عدم سن السلام هنا، وأن لا كراهة في الإفراد هنا. (السادس: الدعاء للميت) بخصوصه بأخروي ولو أقل ما ينطلق عليه اسم الدعاء، كاللهم ارحمه وذلك؛ لأنه المقصود من الصلاة، وما قبله كالمقدمة له. وصح خبر: "إذا صليتم على الميت .. فأخلصوا له الدعاء". وظاهره: أن الطفل كغيره في ذلك، وليس قوله: اللهم اجعله فرطاً .. إلخ، مغنياً عن الدعاء له عند (حج)؛ لأنه دعاء باللازم، وهو لا يكفي؛ لأنه إذا لم يكف بالعموم .. فهذا أولى. وإنما يجزئ الدعاء له (بعد الثالثة) أي: عقبها. قال في "التحفة": (قال في "المجموع": وليس لتخصيصه بها دليل واضح) اهـ ومع ذلك تابع الأصحاب على تعيينه فيها دون الأولى بالفاتحة. قال غيره: (وكذا ليس لتخصيص الصلاة بالثانية ذلك) اهـ واعترضه (سم) بما رده (ب ج) وغيره.

(السابع: السلام) -كغيرها من الصلاة فيما مر فيه- وجوباً وندباً إلا في (وبركاته) .. فسنة هنا عند (حج)، لا ثَمَّ. والمختار من حيث الدليل سنها ثَمَّ أيضاً. ويجب كونه بعد التكبيرة الرابعة، ولا يجب بعدها ذكر. (وسن رفع يديه) على ما مر في الرفع؛ لتكبيرة الإحرام (في) كل من (التكبيرات) الأربع، ويظهر عدم سنه في الزائد عليها لو أتى به؛ لأنه غير مطلوب في ذاته، فالرفع له كذلك، ومثله الرفع للزائد في تكبير العيد. ويسن أن يضع يديه بين كل تكبيرتين تحت صدره، ويجهر الإمام ندباً بالتكبيرات والسلام، لا بغيرها، والمبلغ المحتاج إليه مثله. (والإسرار) بقراءة وذكر وغيرهما إلا ما مر ولو ليلاً؛ لما صح عن أبي أمامه: أنه من السنة، فترك الرفع خلاف الأولى، وترك الإسرار مكروه كتركه في غيرها من الصلاة. (والتعوذ) للفاتحة؛ لأنه سنة للقراءة (دون الاستفتاح) والسورة وإن صلى على قبر أو غائب. نعم؛ ينبغي للمأموم إذا فرغ قبل إمامه من نحو (فاتحة) .. أن يدعو للميت عند (ع ش). وفي "الإيعاب": أنه يأتي بالسورة بعد (الفاتحة)، ويندب الدعاء للمؤمنين عقب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما مر، وبعد الثالثة: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييته منا .. فأحيه على الإسلام، ومن توفيته .. فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده). ويقول مع ذلك في الطفل الذي أبواه مسلمان: (اللهم اجعله فرطاً لأبويه وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً وشفيعاً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره). فإن لم يكونا حيين أو مسلمين .. أتى بما يقتضيه الحال. وقي الكبير: (اللهم إن هذا عبدك وابن عبديك .. إلخ)، وهو المشهور.

ويجوز تأنيث الضمائر إلا الهاء من منزول به، باعتبار أن الميت نسمة، وتذكيرها بملاحظة الميت أو الشخص، فإن لم يلاحظ ذلك .. وجب التذكير في المذكر، والتأنيث في المؤنث، وفي "الأصل" زيادة بسط هنا. ويسن بعد الرابعة الدعاء، قال في "التحفة": (وصح تطويل الدعاء بعد الرابعة، فيسن ذلك، وظاهر إطلاقهم إلحاقها بالثالثة، أو تطويلها عليها) اهـ وفي "النهاية": حده كما بين التكبيرات، أي: الأولى والأخيرة، كما أفاده الحديث. ومنه: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. ويصلي بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويقرأ فيها آية: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) إلى (العَظِيم) [غافر:7]، وآية: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) [البقرة:201]، وآية (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8] اهـ لكن في "فتاوى حج": أن القراءة بعد غير الأولى مكروهة، كالقراءة في غير القيام في غيرها. ولو تخلف عن إمامه بلا عذر بتكبيرة حتى شرع إمامه في أخرى .. بطلت صلاته، بأن كبر إمامه الثالثة وهو لم يكبر الثانية؛ لأنه تخلف فاحش، كهو بركعة. وخرج بـ (حتى كبر أخرى): ما لو تخلف عن إمامه بالرابعة حتى سلم .. فلا تبطل عند (م ر) فإن كان عذر، كأن نسي القراءة ثم تذكر، واشتغل بها حتى كبر إمامه .. لم تبطل بسبقه بتكبيرة، بل بتكبيرتين بأن شرع في الرابعة والمأموم في الفاتحة. قال (ب ج): (هذا على طريقة من يعين "الفاتحة" عقب الأولى) اهـ أو كأن نسي للصلاة أو القدوة، فلا يضر التخلف هنا ولو بجميع التكبيرات، كما لو نسي ذلك في غيرها من الصلاة، فلا يضر ولو بجميع الركعات. بل في "التحفة": أن التخلف لعذر لا يضر مطلقاً، فيجري على ترتيب نفسه، ولو تقدم عمداً بتكبيرة .. لم تبطل؛ لأن غايته أنه كزيادة تكبيرة، وهو لا يضر كما قاله (حج)، وخالفه (م ر)، ما لم يقصد بها الذكر. ويكبر مسبوق، ويقرأ (الفاتحة) ندباً كما قاله (سم)، ووجوباً كما قاله الزيادي؛ لأن المسبوق تتعين عليه (الفاتحة) في الأولى؛ لسقوطها، أو بعضها عنه بتكبير الإمام قبل

قراءته لها، حتى لو قصد تأخيرها .. لم يعتد بقصده. وإذا كبر الإمام قبل إتمامه لها .. تابعه في التكبير، وسقطت عنه كلها أو بعضها إن لم يشتغل بالتعوذ، وإلا .. أتى بقدره -نظير ما مر ثَمَّ- ثم يكبر، ويكون متخلفاً بعذر إن ظن أنه يدرك الفاتحة بعد التعوذ، كأن أدركه من أول صلاته، أو كان الإمام بطيء قراءة، وإلا .. فهو بعيد؛ إذ لا دعاء افتتاح هنا. وكذا لو جمع الموافق بين الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية، فتخلفه لما بقي منهما تخلف بعذر. وإذا سلم الإمام .. تدارك المسبوق ما بقي عليه من التكبيرات بأذكارها حتى لو لم يتم الفاتحة مع سلام الإمام .. أتمها، ولا تسقط عنه كالتكبير، وإنما سقطت تكبيرات العيد؛ لأنها سنة، والاشتغال بها يفوت عليه الإنصات للإمام، بخلافها هنا. ويندب أن لا ترفع الجنازة حتى يتم المسبوق صلاته، ولا يضر رفعها قبل تمامه وإن حولت عن القبلة، وزاد ما بينهما على ثلاث مئة ذراع، وحال حائل في الدوام، لا في الابتداء. ولو أحرم على جنازة سائرة .. صح إن كانت عند إحرامه لجهة القبلة ولا حائل بينهما في الابتداء، ولم يزد ما بينهما على ثلاث مئة ذراع إلى تمام الصلاة، فلا يضر الحائل في الأثناء. وفي "التحفة": يضر الحائل كالزيادة على ثلاث مئة ذراع مطلقاً. (ويشترط فيها) أي: صلاة الجنازة (شروط الصلاة) وفي القدوة فيها شروط القدوة الماران. ويكره ويسن ما كره وسن ثَمَّ مما يأتي هنا منها. ولها شروط زائدة، منها: تقدم طهره بماء أو تراب، وطهر ما اتصل به كصلاة الحي، فيضر نجاسة ببدنه أو كفنه أو برجل نعشه وهو مربوط به. نعم؛ لا يضر نجاسة القبر ونحو دم من مقتول مثلاً لم ينقطع. ومنها: عدم التقدم على الميت الحاضر ولو في القبر، فإن كان غائباً .. جاز. ومنها: أن يجمعهما مسجد أو مكان واحد، بأن لا يكون بينهما حائل، ولا أزيد من ثلاث مئة ذراع تقريباً ابتداءً فيهما كما مر.

أمَّا ما لا يتأتى هنا كالوقت الشرعي .. فليس شرطاً لها، بل لها وقت آخر يدخل بتمام طهره وإن لم يكفن، لكنها تكره قبله؛ لما فيها من الإزراء بالميت. وفرقوا بين الطهر والستر بأن إعتناء الشارع بالطهر أقوى. وكذا فرقوا بينهما في مواضع، مع قول (حج) في كتاب "الأعلام" بأن القول بأن إزالة النجاسة لا تشترط للصلاة قوي، والقول بعدم شرطية السترة واه لا يعتد به، فعليه: السترة أقوى. ويسقط فرضها بذَكر ولو صبياً، ومع وجود رجل؛ لأنه من جنس الرجال، وصلاته أرجى للقبول وإن كانت نفلاً؛ لأنها قد تغني عن الفرض، كما لو بلغ بعدها في الوقت لا بغير ذكر مع وجوده ولو صبياً في محل الصلاة وما ينسب إليه كخارج السور القريب منه؛ لأنه أكمل. وعليه: لو كان الذكر صبياً .. يلزمهن أمره بها، وضربه على تركها، فالوجوب عليهن، والفعل منه، فإن امتنع بعدهما .. صلت النساء، وسقط الفرض وإن حضر بعدها رجال. واستبعد (حج) عدم مخاطبتهن مع وجود صبي، وقال: وإنما يتجه إن راد الصلاة، وإلا .. توجه الأمر عليهن. وتندب الجماعة في صلاتهن على الجنازة، وتقع نفلاً مع الاكتفاء بغيرهن كما في (ب ج)، لكن قال (حج) والجمهور: إن الجماعة لا تسن لهن. ويجب تقديم الصلاة على الدفن، فإن دفن قبلها .. أثم كل من علم بها ولم يعذر، ويسقط الفرض بالصلاة على القبر. (ويصلي) من يأتي جوازاً، بل ندباً، خلافاً لمالك وأبي حنيفة (على الغائب) عن عمران البلد وسورها، وعن حد غوث وإن لم يكن في جهة القبلة؛ لما صح: (أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بموت النجاشي يوم موته، ثم خرج بهم إلى المصلى وصلى عليه هو وأصحابه، وذلك سنة تسع). ويسقط بها الفرض عن أهل محله إن علموا بها، ولا بد من ظنه أن الميت غسل، أو ينوي الصلاة عليه إن غسل. أمَّا من بالبلد .. فلا يصلى عليه إلا من حضره وإن كبرت البلد، وعذر بنحو مرض أو حبس كما في "التحفة".

لكن في "لإمداد"، و"النهاية": أنها تصح إن شق عليه الحضور. (و) على قبر (المدفون) وإن بلي؛ لأن عجب الذنب لا يفنى، سواء دفن قبل الصلاة أم بعدها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة أو رجل كان يقم المسجد. ويسقط بها الفرض وإن أثم دافنوه، بشرط أن لا يتقدم عليه، وعدم حائل، وأن لا يزيد ما بينه وبينه على ثلاث مئة ذراع تقريباً. وإنما يصلي عليهما (من كان من أهل) أداء (فرض الصلاة عليه) أي: على من ذكر منهما (يوم الموت) أي: وقته. والمعتمد: اعتبار قبل الدفن بزمن يتمكن فيه من الصلاة بأن يكون حينئذٍ مسلماً مكلفاً طاهراً؛ لأنه يؤدي فرضاً خوطب به، ولا يصح إلاَّ ممن كان كذلك. فلا تصح من كافر وغير مكلف ونحو حائض حينئذٍ؛ لأنهم متطوعون بها، وهذه لا يتطوع بها. ويرد عليه: صلاة النساء مع وجود الرجال؛ فإنها تطوع وتصح، إلا أن يجاب بأنهن من أهل الفرض في الجملة، أي: بتقدير انفرادهن. ومعنى (لا يتطوع بها): لا يؤتى بها ابتداءً على صورة النفلية، أي: من غير جنازة، بأن يصليها بلا سبب، أو المعنى: لا يطلب فعلها ممن فعلها أولاً. ومع ذلك، لو صلاها ثانياً ولو مراراً ومنفرداً .. وقعت نفلاً مطلقاً، وتجب لها نية الفرضية أي: صورة. أمَّا من صلاها من لم يصل عليها أولاً .. فتقع له ولو على القبر فرضاً كالأول؛ إذ ليس فعل بعضهم أولى بوصف الفرضية من بعض وإن أسقط الأول الحرج. ولا يقال: كيف تقع صلاة الثاني فرضاً مع أنه لو تركها .. لم يأثم؟! لأنه قد يكون الشيء غير فرض، فإذا دخل فيه .. صار فرضاً كالحج ممن قد حج، وإحدى خصال كفارة اليمين. وقولهم: (فرض الكفاية يسقط بفعل واحد) معناه: يسقط الإثم به، ولو فعله غيره .. وقع فرضاً أيضاً.

(إلا النبي صلى الله عليه وسلم) وغيره من الأنبياء، فلا يصلى على قبورهم بحال؛ لخبر: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذو قبور أنبيائهم مساجد"، أي بصلاتهم إليها، وهذا الدليل لا يطابق المُدَّعى؛ لأن المُدَّعى في الصلاة عليها، والدليل في الصلاة إليها. وفيه إشكال آخر، وهو أن النصارى لم يمت نبيهم، ومع ذلك فالحكم وهو منع الصلاة عليهم مسلم؛ لأنا لم نكن من أهل فرضها عند موتهم عند (حج) ولذلك، وللنهي عند (م ر). (وأولى الناس) أي: أحقهم، كما في "النهاية". وفي "التحفة": يحتمل أنه بمعنى أحق، فيكون الترتيب واجباً، ويحتمل أنه على ظاهره، فيكون مندوباً، ثم قال: وكلام "الروضة" ظاهر في الثاني. وقال (سم): ظاهر الندب أنه لو تقدم غير الأولى بغير رضا الأولى .. أنه لا يحرم؛ لأن الجميع مخاطبون بهذا الفرض حتى الأجنبي. (بالصلاة عليه) أي: الميت ولو امرأة (عصباته) الذكور وإن أوصى بها لغيرهم، فلا تنفذ بها وصيته لغيرهم، أي: لا يجب تنفيذها وإن كان هو الأولى؛ رعاية لغرض الميت، فقد أوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى بها لصهيب وأجازها أولياؤهما. ويقدم منهم الأقرب فالأقرب؛ نظراً لمزيد الشفقة، إذ من كان أقرب .. دعاؤه أقرب للإجابة. فيقدم الأب، فالجد لأب وإن علا، فالابن، فابنه وإن سفل، فباقي العصبة من النسب، فالولاء، فالسلطان على ترتيب الإرث في غير ابني عم أحدهما أخ لأم، فيقدم أخ لأم هنا وإن لم يقدم في الإرث، فيقدم أخ شقيق ثم لأب، ثم ابن الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم عم شقيق، فلأب، فابن العم الشقيق، فابن العم لأب، ثم المعتق، فعصبته، فمعتق المعتق، فعصبته، وهكذا، ثم الإمام. (ثم ذوو الأرحام) الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو أم، ثم بنو البنات، فأخ لأم، فخال، فعم لأم.

ولا حق للوالي ولا للزوج ولا للسيد إذ وجد أحد من الأقارب، وإلا .. قدما على الأجانب، بخلاف الغسل والدفن والتكفين فلهما حق فيها، ولا للمرأة مع ذكر، وإلا .. قدمت بترتيب الذكر، ولا لقاتل وعدو ونحو صبي. ولو استوى اثنان في درجة وهما أهل للإمامة .. قدم العدل الأسن في الإسلام على الأفقه، بخلاف ما مر في سائر الصلوات؛ لأن الغرض هنا الدعاء، ودعاء الأسن أقرب للإجابة. ويقدم العدل الحر الأبعد على القن القريب الأفقه والأسن؛ لأنه أليق بالإمامة، لأنها ولاية. فإن استووا في جميع ما ذكر، وغيره مما مر .. أقرع. أمَّا من لم يكن أهلاً للإمامة، كفاسق .. فلا حق له فيها. ولا يقدم نائبه، وإنما يقدم نائب المرأة في ملكها في إمامة الصلاة؛ لأن تقديمه لمعنى خارج عن ذاتها، وهو الملكية، وهو غير موجود هنا. ولا تؤخر الصلاة لغير ولي، أمَّا هو .. فتؤخر له إن رجي حضوره ولم يظن رضاه، وإلا .. صلي عليه. ويسن أن يقف غير مأموم من إمام ومنفرد ولو على القبر عند رأس ذكر، وعجز غيره؛ للاتباع. قال (ب ج)، والونائي بأن يوضع رأس الميت لجهة يسار الإمام والمنفرد، ورأس الأنثى عن يمينهما؛ ليكون معظم الميت عن يمينهما، خلاف ما عليه عمل الناس في الذكر، وعلى ما عليه عملهم في الأنثى، وهذا في غير المسجد النبوي، أمَّا فيه .. فيجعل رأس الميت يسارهما مطلقاً؛ ليكون رأسه جهة القبر الشريف كما قاله بعض المحققين. اهـ ولو حضر رجل وامرأة في نعش واحد .. روعيت المرأة. ويجوز على جنائز صلاة واحدة برضا أوليائها، والأفضل إفراد كل بصلاة إن أمكن، فإن خيف نحو تغيره بالتأخير .. فالأفضل الجمع، بل إن ظنه وجب. ولو حضرت الجنائز مرتبة .. فولي السابقة أولى، وقدم إلى الإمام الأسبق من الذكور أو غيرهم إن كانوا من نوع واحد وإن كان المتأخر أفضل، فلو سبق غير ذكر، ثم حضر

ذكر أُخِّر غير الذكر له، أو حضروا معاً .. أقرع بين الأولياء، وقدم إليه الرجل، فالصبي فالخنثى فالمرأة، فإن اتحد النوع .. قدم إليه أفضلهم بالورع ونحوه، لا بالحرية؛ لانقطاع الرق بالموت. وتحرم الصلاة على كافر ولو ذمياً كما مر، وكذا الدعاء له بأخروي، ولمن شك في إسلامه ولو من والديه، بخلاف من ظنه ولو بقرينة، فيُعلَّق بـ (إن كان مسلماً)، ولو اختلط من يصلي عليه بغيره، كمسلم غير شهيد بكافر أو شهيد، ولم يتميز .. وجب تجهيز كل، وصلى على الجميع، وهو أفضل بقصد من تصح الصلاة عليه منهم، أو على واحد فواحد، بقصد الصلاة عليه إن كان مسلماً أو غير شهيد، ويغتفر التردد؛ للضرورة. ويقول في المثال الأول: (اللهم اغفر للمسلم منهم) إن كان فيهم كافر، وفي اختلاط الشهيد بغيره يدعو لهما ويقول في الثاني: (اللهم اغفر له إن كان مسلماً) إن اشتبه المسلم بغيره، وفي هذه الحالة يدفنان بين قبور المسلمين والكفار. ولو اختلط محرم بغيره .. ستر جميع بدنهما بغير محيط. وتسن الصلاة على الميت بمسجد إن أمن تلويثه، وبثلاثة صفوف فأكثر، ولو كان الصف واحداً. وقال (حج): أقل الصف اثنان، فلا تسن الصفوف الثلاثة إلا من ستة فأكثر، فلو حضر خمسة .. وقف واحد مع الإمام، وأربعة صفين من اثنين، والثلاثة في الأفضلية بمنزلة الصف الأول. والأفضل لمن جاء بعدهم: أن يتحرى الصف الأول. ولو وجد جزء ميت مسلم غير شهيد، ولو نحو شعرة عند (حج) .. صلى عليه بعد غسله، وستره بخرقة بقصد الجملة، وجوباً إن كانت بقيته .. غسلت ولم يصل عليها، وندباً إن صلي على البقية، فإن لم تغسل البقية .. وجبت الصلاة على الجزء بنيته فقط، فإن شك في غسله .. علق، كأصلي على هذا الجزء وعلى البقية إن غسلت. ويشترط في الجزء: انفصاله منه بعد موته، أو يموت بعد انفصاله حالاً. ويجب للجزء ثلاث لفائف إن كان له تركة، أمَّا المنفصل من حي .. فيسن مواراته بخرقة ودفنه إن مات، بخلاف ما لو لم يمت .. فيسن دفنه بلا لف خرقة.

(ولا يغسل الشهيد ولا يصلى عليه) ولو نحو جنب، أي: يحرم ذلك وإن لم يؤد الغسل لإزالة دم الشهادة؛ إشارة إلى تطهير الله لهم بالشهادة، وأنه تعالى يتولى مكافأتهم من غير واسطة بدعاء لهم من مصل، ولا غيره؛ تنويهاً بمحبته تعالى لهم، وإعلاء منزلتهم. (وهو) أي: (الشهيد) (من) أي: مسلم ولو قناً ولو أنثى وغير مكلف (مات في قتال الكفار). قال (ق ل): (أو كافر واحد ولو مرتداً، أو في قطع طريق أو صيال أو قتله كافرٌ استعان به البغاة أو عكسه) اهـ أو انقضت الحرب ولم تبق فيه حياة مستقرة (بسببه) -اي: القتال- ولو برمح دابة له، أو قتله مسلم خطأ، أو عاد إليه سهمه، أو سقط من دابته وإن لم يكن به أثر دم. وخرج بـ (قتال الكفار): قتلهم أسيراً صبراً، وموته حال القتال بنحو حمى، وجرحه فيه مع بقاء الحياة المستقرة بعد انقضائه فيه وإن قطع بموته. وتجب إزالة نجاسة غير دم الشهادة منه إن لم يعف عنها كبول وإن أدت إزالتها لإزالة دم الشهادة، وكذا دم شهادة أصابه من غيره، ونجاسة شهادة غير الدم ولو منه. ويكفن في ثيابه الملطخة وغيرها من التي مات فيها ندباًً، ولا يجاب بعض الورثة لنزعها إن لاقت به، أمَّا كلهم .. فيجابون. نعم؛ مالا يعتاد التكفين فيه كدرع وفرو .. لا يكفن فيه. وإذا لم تكفه ثيابه التي مات فيها .. تممت إلى ثلاثة على ما مر. وخرج بـ (الشهيد) المذكور: شهيد الآخرة، كمبطون وغريق وطالب علم، وقد استوعبتهم في "الأصل" فيغسل ويصلى عليه. (ولا) يصلى أيضاً (على السقط) -بتثليث أوله- من السقوط، أي: تحرم عليه (إلا إذا ظهرت أمارات الحياة، كاختلاج) اختياري بعد انفصاله .. فهو كالكبير، وبالأولى ما لو علمت حياته بنحو صياح وإن لم ينفصل كله، وكذا إن بلغ ستة أشهر عند (م ر)، وإن لم تظهر فيه أمارة حياة. (ويغسل) ويكفن ويدفن وجوباً (إن بلغ أربعة أشهر) أي: مئة وعشرون يوماً، وهي

فصل: في الدفن وما يتعلق به

حد نفخ الروح غالباً، وتحرم الصلاة عليه؛ إذ الغسل أوسع باباً منها، إذ الذمي يغسل ولا يصلى عليه، فإن لم يبلغ الأربعة الأشهر .. لم يجب له شيء. وندب لفه بخرقة ودفنه، فإن ظهر خلقه قبل الأربعة على خلاف الغالب .. وجب له ما عدا الصلاة، ولم يظهر خلقه بعد الأربعة .. لم يجب له شيء. * * * (فصل:) في الدفن وما يتعلق به. (وأقل الدفن) المحصل للواجب (حفرة تكتم رائحتة) بعد طمها من الظهور (وتحرسه من السباع) أن تنبشه وتأكله. فإن لم يمنعه إلا البناء عليه .. وجب، فإن لم يمنعه .. وجب صندوق. ولا يكفي البناء عليه مع إمكان الحفر. ويجوز جعل من بسفينة بين لوحين بعد غسله والصلاة عليه، ويلقى في البحر؛ لينبذه البحر إلى الساحل وإن كان أهله كفاراً، إذ قد يجده مسلم فيدفنه، وهذا إن تعذر دفنه بالبر، وإلا .. وجب. وأمَّا الفساقي .. فيحرم الدفن فيها؛ لما فيه من اختلاط الرجال بالنساء، وإدخال ميت على ميت قبل بلائه، وعدم منعها للرائحة. (وأكمله:) قبر واسع، بأن يزاد في طوله وعرضه قدر ما يسع من ينزله القبر ومن يعينه، لا أزيد؛ لأنه تحجير على الناس. وفي عمقه بأن لا ينقص عن (قامة وبسطة، وذلك أربعة أذرع ونصف) بذراع اليد المعتدلة ولو في صغير، كما هو ظاهر إطلاقهم. واللحد في الأرض الصلبة أفضل من الشق، وإلا .. فالشق أفضل. ويسن أن يوسع كل من اللحد والشق، ويتأكد عند رأسه ورجليه؛ ليمكن وضعه حينئذٍ منحنياً كهيئة الراكع؛ للخبر الصحيح بذلك، وأن يرفع سقف كل من اللحد والشق بحيث لا يمسه عند انتفاخه؛ بل يجب ذلك، وأن يدخله القبر ولو أنثى الرجالُ ولو صغاراً؛ لضعف النساء عن ذلك.

نعم؛ الأنثى أحق بالأنثى في أربعة مواضع: حملها من محل موتها إلى المغتسل، وحملها منه إلى وضعها في النعش، وحملها منه إلى تسليمها لمن في القبر، وحل شدادها فيه. وفي الأخيرين مشقة؛ ولذا كان العمل على خلافهما. ويقدم ندباً من الرجال الأحق بالصلاة عليه درجة. نعم؛ الأحق بالأنثى زوج وإن لم يكن له حق في الصلاة عليها مع أقاربها؛ لأن منظوره أكثر. فالمحرم الأقرب فالأقرب فعبدها؛ لأنه كالمحرم في النظر ونحوه، فممسوح، فمجبوب، فخصي؛ لضعف شهوتهم، فعصبة لا محرم لهم كابن عم، فمعتق، فعصبته كما مر فذو رحم، فرجل صالح، فالأفضل فالأفضل، ثم النساء كترتيبهم في الغسل. وخرج بـ (الأحق درجة): الأحق صفة، فلو اتفق اثنان أسنُّ وأفقه .. قدم الأفقه كالغسل، عكس الصلاة. وأن يدخله القبر وتر واحد فأكثر بحسب الحاجة، وأن يستر القبر بثوب عند الدفن. وأن يقول مدخله: باسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد: (أن من قيل ذلك عند دفنه .. أمن من العذاب أربعين سنة). وسن أن يزيد: الرحمن الرحيم، ويدعو له بما يليق بالحال، كاللهم افتح أبواب السماء لروحه، وأكرم نزله ووسع مدخله ووسع له في قبره. وأن يوضع في القبر على شقه الأيمن، بل قيل: يجب، ويجب توجيهه للقبلة. وندب أن يسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبر، ويتجافى بباقيه حتى يكون قريباً من هيئة الراكع؛ لئلا ينكب لوجهه، وأن يسند ظهره بنحو لبنة طاهرة؛ لتمنعه من الاستلقاء لقفاه، ويجعل تحت رأسه نحو لبنة، ويفضي بخده الأيمن بعد تنحية الكفن عنه إليه أو إلى الأرض. وأن تسد فتح القبر؛ ليمنع إهالة التراب عليه، كذا في "شرح المنهج"، لكن المعتمد: وجوبه. ولو انهار التراب أثناء الدفن .. وجب إصلاحه، أو بعده .. فلا، وأن يحثو من دنا من القبر -أي: من حضره وإن بعد- ثلاث حثيات تراب بيديه، يقول مع الأولى: منها

خلقناكم، اللهم لقنه عند المسألة حجته، ومع الثانية: وفيها نعيدكم، اللهم افتح أبواب السماء لروحه، ومع الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى، اللهم جاف الأرض عن جنبيه. وأن يهال عليه التراب بنحو مساح، وأن لا يزيد على تراب القبر إلا لرفعه نحو شبر. وأن يأخذ كل من حضر شيئاً من تراب القبر، ويقرأ عليه سبع مرات (سورة القدر)، ثم يوضع في الكفن أو القبر، فقد ورد: (أن الميت الذي يفعل له ذلك لا يعذب في قبره). وأن يمكث جماعة بعد الدفن يسألون له التثبيت ويستغفرون له؛ لأنه حينئذٍ في سؤال منكر ونكير. وندب تلقين بالغ ومجنون سبق له تكليف ولو شهيداً بعد تمام الدفن، وهو يا عبد الله ابن أمته ثلاثاً اذكر ما خرجت عليه .. إلخ، وهو مشهور. وأن يرفع القبر قدر شبر، وتسطيحه أولى من تسنيمه. ويحرم دفن اثنين من جنسين بقبر واحد حيث لا محرمية، وكذا معها، أو من جنس واحد حيث لا ضرورة عند (م ر)، وهذا في الابتداء. أمَّا في الدوام، كأن يدخل ميت على ميت .. فحرام إلا إن بلي الأول بالكلية حتى عظامه إلا لضرورة. ولو حفر قبراً فوجد عظام الميت قبل تمام الحفر .. أعاده حتماً، ولا يتم الحفر إلا لضرورة، أو بعده جعله في جانب من القبر ودفن الميت معه فيه، وإذا جاز الجمع .. قدم أفضلهما، لا فرع على أصل من جنسه؛ لحرمته، فإن كانا من جنسين .. قدم الذكر. وكره أن يجعل تحته فرش أو مخدة أو صندوق؛ لأنه إضاعة مال لغير غرض شرعي. نعم؛ إن احتيج لصندوق لنحو نداوة الأرض .. لم يكره، ونفذت وصيته به. وجاز بلا كراهة دفن بليل مطلقاً، ووقت كراهة الصلاة إن لم يتحره، وإلا .. كره كراهة تحريم. وليس من التحري التأخير إليه؛ لكثرة المصلين، والدفن في غيرهما أفضل. والدفن بمقبرة؛ لينال دعاء الزائرين أفضل، وكره مبيت بمقبرة حيث لم تكن مسكونة ولا اجتماع، وإلا .. فلا كراهة.

وكره جلوس على قبر مسلم، ووطء، واتكاء عليه؛ للنهي عن الأولين، وقياساً في الأخير. نعم؛ إن كان له حاجة، كأن لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطء في المقبرة .. فلا كراهة. ومحلها: إن لم يبلَ الميت، وإلا .. فلا كراهة. ولا كراهة في المشي على القبور بالنعل ما لم تكن متنجسة بنجاسة رطبة فيحرم، ويكره باليابسة، وبول عند القبر، وحرم عليه، وعلى التراب المختلط بأجزاء الميت، وكره تجصيص القبر وتبيضه ولو باطناً، لا تطيينه، وكذا يكره بناؤه وكتابة عليه وبناء قبة عليه. نعم؛ إن احتيج لبناء نحو قبة أو بيت؛ لخوف سارق أو سبع ولو بمسبلة، أو كانت الكتابة على القبر والقبة لصالح في غير مسبلة .. فلا كراهة، ولذا تصح الوصية بقبة له. ويحرم لغير خوف نحو سارق بناء في مسبلة، وهي ما جرت عادة أهل البلد بالدفن فيها موقوفة كانت أم لا، وتهدم وجوباً؛ لحرمته، لما فيه من التضييق، وتأبيد البناء بعد بلاء الميت، فيحرم الناس البقعة. وفي "النهاية": ويلحق بحرمة البناء في المسبلة البناء عليه في الموات؛ لأنه تضييق بلا فائدة، أي: في غير قبر نحو عالم. فروع: يسن وضع جريدة خضراء على القبر؛ للاتباع، لأنه يخفف عنه ببركة تسبيحها؛ إذ هو أكمل من تسبيح اليابس؛ لأن فيه نوعَ حياة. وقيس بها: ما اعتيد من طرح الريحان ونحوه، ويحرم أخذ ذلك، وظاهر هذا أن اليابس لا يحرم أخذه؛ نظراً لتقييد الحديث التخفيف بالأخضر بما لم ييبس. وثمر الشجر النابت بالمقبرة المباحة مباح، وصرفه لمصالحها أولى. وثمر المغروس بمسجدٍ ملكُه إن غرس له، فيصرف لمصالحه، وإن غرس ليؤكل أو جهل .. فمباح. ولو ماتت امرأة حامل بجنين حي، فإن كان لا يرجى حياته .. أخر دفنها إلى موته، وإلا .. شق جوفها وأخرج، وما يقع من وضع نحو حجر عليه ليموت .. حرام وإن لم ترج حياته.

وتسن زيارة القبور لذكر مطلقاً ولغيره داخل البلد أو خارجه، مع مَحْرَم لنبي أو نحو عالم، وكذا قريب عند جمع، ولغير من ذكر مكروهة ولو في البلد. ويسن للزائر أن يقرب من القبر كقربه منه حياً، ويقف إذا وصل القبر، وهو أفضل، أو يجلس قُبالة وجهه متطهراً متأدباً. ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية. ويقرأ ما تيسر خصوصاً (يس)، وأحد عشر من (الإخلاص). وورد: (أن من دخل المقابر، فقال: اللهم رب الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليهم روحاً منك وسلام مني .. كتب له بعدد من مات إلى يوم القيامة حسنات)، ثم يستقبل القبلة ويدعو. والتحقيق: أن الميت ينتفع بالقراءة بأحد ثلاثة أمور: أن ينويه بها، أو حضوره عنده، أو دعاؤه له بمثل ثواب قراءته ولو بعد، والدعاء والصدقة تنفعه بلا خلاف. وفي تقبيل ضرائح الأولياء خلاف، فعند (حج): مكروه، وعند (م ر): سنة. (ويحرم نبشه) أي: القبر (قبل بلاء) الميت عند أهل الخبرة بتلك الأرض لإدخال ميت آخر، أو لغيره ولو لنقله إلى مكة أو المدينة، ويحرم نقله قبل دفنه إلى محل آخر وإن أوصى به وأمن تغيره. نعم؛ إن جرت عادتهم بالدفن في غير محلهم .. لم يحرم النقل إليه، وكذا لو نقل لمقبرة أقرب من مقبرة محل موته. ومن بقرب حرم مكة أو المدينة أو إيلياء أو مقابر صلحاء .. فلا يحرم، بل يسن، ونقله خوف نحو سيل جائز ولخوف نبشه واجب، ولو أوصى بنقله فيما ذكر .. نفذت وصيته إن أمن تغيره وقرب المحل، ولا يجوز نقله إلا بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه. ولا يجوز نبشه (إلا لضرورة) كدفن بلا طهر أو لغير القبلة أو في أرض أو ثوب مغصوب أو وقع فيه مال وإن قل ولو من تركته، أو لغيره وإن لم يطلبه وإن تغير الميت.

نعم؛ إذا انمحق الميت وصار تراباً .. جاز نبشه، بل تحرم عمارة القبر حينئذٍ، إلا في نحو صحابي ومشهور بولاية، أو علم .. فلا يجوز؛ احتراماً لهم وإبقاءً لمآثرهم للتبرك بهم، ولأن أجساد الشهداء والأولياء والعلماء لا تفنى، كالمرابط والمؤذن احتساباً، وحافظ القرآن والعامل به، وكثير الذكر والمحب لله، والميت بالطاعون. خاتمة تسن تعزية نحو أهل الميت كصهر وصديق ولو لبعضهم بعضاً، وألحق بالميت مصيبة بنحو مال. ويكره لأهل الميت الاجتماع بمكان، ليأتيهم الناس لـ (التعزية)، وهي الأمر بالصبر، والحمل عليه بوعد الأجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللحي بجبر المصيبة. وأن يعمهم بالتعزية إلا شابة وأمرد حسناً، فلا يعزيهما إلا محارمهما وزوجهما. ويكره ابتداء أجنبي لهما بالتعزية، بل الحرمة أقرب، والرد عليهما، ويحرمان منهما كالسلام، وهي بعد الدفن أولى؛ لاشتغال أهل الميت بتجهيزه قبله إلا أن يرى من أهله جزعاً شديداً. ثلاثة أيام تقريباً لحاضر من الموت، ومن قدوم لغائب، وزوال نحو حبس لمعذور بحبس أو غيره، فتكره بعدها؛ إذ الغالب أن المصاب يسكن بعدها. فيعزى مسلم بمسلم مع المصافحة: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وجاز بكاء على الميت قبل موته وبعده؛ للأخبار بذلك، لكنه بعده خلاف الأولى أو مكروه. وحرم ندب ونوح وجزع بنحو ضرب نحو صدر؛ لخبر مسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها .. تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" رواه مسلم. وله أيضاً: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". والسربال: القميص البالي، والدرع: القميص، والقطران: معروف وهو أبلغ في اشتعال النار بالنائحة.

قال في "كشف النقاب": (البكاء) بالقصر: الدمع، وبالمد: رفع الصوت كما قاله (حج)، و (الإعلام بالموت): الإخبار به من غير ذكر مآثره ومفاخره، و (الندب): عد محاسنه بأداة النداء، كواكهفاه، واسيداه مع البكاء أو رفع الصوت، و (النوح): رفع الصوت بالندب، و (الجزع): ضرب الصدر أو الوجه، ونحوه كشف ثوب ونشر شعر وقطعه وتغيير لباس أو زي، أو ترك لباس معتاد وتسويد وجه وإلقاء الرماد على الرأس، والإفراط في رفع الصوت. فالبكى -بالقصر- مباح قبل الموت، بل يندب؛ للشفقة، ولكنه في حضرة المحتضر خلاف الأولى إن لم يغلبه. وفصل بعضهم فقال: إن كان لمحبة ورقة كالبكاء على طفل .. فلا بأس به، والصبر أجمل، وإن كان لِمَا فقده من نحو علمه أو شجاعته .. فمستحب، أو لِمَا فقده من بره وقيامه به .. فمكروه. وأمَّا الإعلام بموته .. فلا بأس به، بل إن قصد به كثرة المصلين .. فمستحب، وأمَّا (الرثاء) الذي هو: ذكر فضائله ومآثره بحق في نظم أو نثر .. فمكروه، حيث لم يوجد فيها الندب السابق وإن فعلت مع الاجتماع، لكن إن كانت بحق في نحو عالم وخلت عن البكاء والضجر وتجديد الحزن .. فهي بالطاعة أشبه؛ لأن كثير من الصحابة والعلماء يفعلونه. وأمَّا (نعي الجاهلية) الذي هو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره .. فهو من الرثاء. وأمَّا (الندب) وهو تعداد الشمائل بنحو واكهفاه .. فحرام إن كان برفع صوت أو ببكاء، فإن ذكر صفاته الجميلة بغير بكاء ولا رفع صوت ولا كذب .. لم يحرم. وأمَّا الجزع .. فحرام، ولا يعذب الميت بشيء من ذلك إلا إن أوصى به) اهـ قال في "التحفة": ويتأكد نهي الأهل عن ذلك؛ خروجاً من الخلاف، للخبر الحسن: (أن من يقال فيه ذلك يوكل به ملكان يلهزانه، ويقولان له: أهكذا أنت؟!. و (اللهز): الدفع في الصدر باليد مقبوضة) اهـ والنوح والجزع كبيرة كما في "التحفة"، لكن في (ب ج) وغيره: أن ذلك صغيرة. ويسن لنحو جيران أهل الميت وإن لم يكونوا جيرانه أو كانوا ببلد غير بلده ولأقاربه

الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يوماً وليلة، وأن يلح عليهم في الأكل، ولا بأس بالقسم عليهم إذا عرف أنهم يبرون قسمه بلا تضرر، وحرم تهيئة طعام لنائحة ونادبة؛ لأنه إعانة على معصية. نعم؛ ما اعتيد من العمل لأهل الميت طعاماً جزاء لما عملوه له فيمن مات له قَبْلُ من القرض الحكمي، وعليه عمل أهل جهتنا. وبينت في "الأصل" ما في ذلك بما لم أر من نبه عليه، والله سبحانه أعلم. * * *

باب الزكاة

(باب الزكاة) وهي لغة: التطهير والإصلاح، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس:9]، أي: طهرها أو أصلحها، والنماء والمدح، ومنه: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) [النجم:32]. وشرعاً: اسم لما يخرج عن مال أو بدن على وجه مخصوص. والأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. وهي معلومة من الدين بالضرورة، يكفر جاحد أصلها أو بعض جزيئاتها الضرورية. بخلاف المختلف فيه منها؛ كوجوبها في مال الصبي والتجارة. وبخلاف غير المعلوم من الدين بالضرورة، قال الونائي نقلاً عن الشيخ خضر: (وذلك كزكاة الفطر فمن جحدها .. عرّف، فن جحدها بعد ذلك .. كفر) اهـ وفي كونها غير معلومة من الدين بالضرورة مع كفر جاحدها ولو بعد التعريف .. نظر؛ إذ (الإيمان): التصديق بما علم من الدين بالضرورة، و (الكفر): ضده، وهو جحد شيء مما علم من الدين بالضرورة، فما لم يعلم .. كذلك ليس التصديق به داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا جحده داخلاً في حقيقة الكفر. نعم؛ لو قيل: إنها معلومة من الدين بالضرورة، ولكن جهل ذلك شخص؛ لعظم غباوته بأمر الدين لم يبعد فيعرف، فإن جحدها بعد ذلك .. كفر؛ لأنه لا يكفر إلا بجحد ما علم من الدين بالضرورة، وعلمه الجاحد كما حققه (حج) في: "فتح المبين"، و"الفتاوى الحديثية". نعم؛ يمكن أنه أراد بقوله: فإن حجدها، أصل الزكاة، بأن كان غبياً، وعليه فهو واضح. وفرضت في شعبان في السنة الثانية من الهجرة مع زكاة الفطر. والمشهور عند المحدثين: أنها فرضت في شوال من السنة المذكورة، وزكاة الفطر قبل العيد بيومين بعد فرض رمضان، وفي كونها من الشرائع القديمة خلاف. وقدمها على الصوم والحج مع أنهما أفضل منها؛ مراعاة للحديث، واهتماماً بشأنها؛ لأنها مظنة البخل بها.

وكما أنها اسم للمال المخرج، فهي أيضاً اسم للإخراج، فتكون بمعنى التزكية. ووجبت في ثمانية من المال لثمانية أصناف من الناس. ويسن لآخذ الزكاة الدعاء لمعطيها، وقيل: يجب، وأن يقول المعطي ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. (لا تجب الزكاة) للأموال الإ بخمسة شروط، زيادة على كل ما يأتي لكل في بابه: الأول: الحرية، فلا تجب (إلا على الحر) ولو مبعضاً، ملك ببعضه الحر نصاباً لتمام ملكه؛ ولذا كفَّر كالموسر، بخلاف الرقيق؛ لأنه لا يملك، وبخلاف المكاتب؛ لضعف ملكه. والثاني: الإسلام؛ للخبر الصحيح: "فرضها على المسلمين"، فلا تجب إلا على (المسلم) ولو أصالة كالمرتد إن عاد للإسلام، أو وجبت عليه قبل الردة. ولو أخرجها في ردته .. اجزأته إن عاد للإسلام، واغتفر عدم النية. وشمل المسلم: الصبي والمجنون، فلا تجب على الكافر بالمعنى المتقدم في الصلاة. والثالث: قوة الملك، ويعبر عنه بالملك التام، فلا زكاة على مكاتب؛ لضعف ملكه عن احتمال المواساة، ولذا لا تلزمه نفقة قريبه، ولم يرث ولم يورث، ولا على سيده فيما له عليه من دين الكتابة؛ لأنه في معرض السقوط بتعجيزه. الرابع: تعين المالك، فلا زكاة في مال مسجد نقداً أو غيره، ولا في موقوف مطلقاً، ولا في نتاجه وثمرتِه إن كان على جهة كالفقراء أو على نحو رباط أو قنطرة. أمَّا ثمرة الموقوف على معين .. ففيه زكاة. وفي ثمرة الموقوف على إمام مسجد ونحوه خلاف، والراجح: عدم الوجوب. الخامس: تيقن وجود المالك، بأن يكون (غير الجنين) فلا زكاة فيما وقف له ولو جميع التركة؛ لأنه لا ثقة بوجوده فضلاً عن حياته، حتى لو انفصل ميتاً .. لم تجب على بقية الورثة زكاة ذلك؛ لضعف ملكهم على خلاف في ذلك. فمتى وجدت الشروط المذكورة .. وجبت الزكاة في المال عيناً أو ديناً، وفي مغصوب، وضال، ومجحود وإن تعذر أخذه، ومملوك بعقد قبل قبضه، لكن لا يجب دفعها مما ذكر إلا إذا قبضه أو تمكن من قبضه وتركه اختياراً، وتمكن من الإخراج.

زكاة الإبل

والمخاطب بإخراجها من مال المحجور عليه: الولي الذي يعتقد وجوبها في مال المولى عليه، ويعصي بتأخيرها وإن كان المولى عليه حنفياً؛ إذ العبرة بعقيدة الولى. ولو لم يخرجها الولى المعتقد للوجوب .. أثم، ولزم المولى عليه إخراجها ولو حنفياً إذا كمل كما في "التحفة". ولا يمنع الدين من وجوبها وإن حجر به، وقيل: يمنع وجوبها مطلقاً. ولو اجتمع زكاة أو غيرها من حقوق الله كحج وكفارة ودين آدمي في تركة، وضاقت عنهما .. قدم حق الله تعالى وإن سبق تعلق غيرها عليها؛ لخبر: "فدين الله أحق بالقضاء"، ولأنه يصرف للآدمي ففيه حق الله وحق الآدمي. نعم؛ الجزية ودين الآدمي يستويان، وكون حق الله مبنياً على المسامحة كما في الحدود. ولو اجتمعت زكاة وغيرها من حقوق الله .. استويا ما لم تتعلق الزكاة بعين المال بأن بقي النصاب، وإلا .. قدمت. وخرج بـ (تركة): اجتماعهما على حي ضاق ماله، فإن لم يحجر عليه .. قدمت الزكاة جزماً، وإلا .. قدم دين الأجنبي جزماً ما لم تتعلق بالعين، وإلا .. فتقدم مطلقاً. ثم شرع في بيان ما تجب الزكاة فيه بقوله: (وذلك) أي: وجوب الزكاة (في أنواع) خمسة أو ستة؛ لأنها إمَّا زكاة بدن، وهي زكاة الفطر، أو زكاة مال، وهي إما متعلقة بالعين، وهي زكاة النعم والمعشرات والنقد والركاز، وإمَّا متعلقة بالقيمة، وهي زكاة التجارة. (الأول: النعم) الإبل والبقر والغنم، فلا تجب في غيرها من الحيوانات إلا لتجارة، ولا في متولد بين زكوي وغيره، كبين غنم وظباء. وإنما لزم المحرم جزاؤه؛ تغليظاً عليه، وتجب في متولد بين زكويين، كبين بقر وإبل، لكن تعتبر بأخفهما؛ لأنه المتيقن، لكن بالنسبة للعدد لا للسن. فتجب في أربعين متولدة بين ضأن وبقر ما له سنتان. (ففي كل خمس من الإبل إلى عشرين) منها (شاة) ففي خمس: شاة، وعشر: شاتان، وخمسة عشر: ثلاث شياه، وعشرين: أربع شياه.

والمراد بالشاة (جذعة، أو جذع ضأن له سنة) أو أجذع قبل تمامها، أو تمت لها سنة وإن لم تجذع (أو ثنية معز، أو ثني له سنتان) كاملتان. وإنما أجزأ الذكر هنا؛ لصدق اسم الشاة عليه؛ إذ تاؤها للوحدة، لا لتأنيث، ولأنها من غير الجنس. وشرط الشاة هنا: كونها من غنم البلد أو مثلها، أو أعلى منها قيمة، وأن تكون صحيحة وإن كانت إبله مريضة أو معيبة؛ لأن الواجب هنا في الذمة، فلم يعتبر فيه صفة المخرج عنه بخلافها فيما يأتي. فإن لم يجد صحيحة .. فرّق قيمتها، كمن فقد بنت مخاض مثلاً فلم يجدها، ولا ابن لبون .. فيفرق قيمتها؛ للضرورة. (وفي خمس وعشرين بنت مخاض) وهي ما (لها سنة) كاملة، سميت بذلك؛ لأن أمها آن لها أن تحمل مرة أخرى، فتصير من المخاض، أي: الحوامل، وتجزئ في أقل من خمس وعشرين وأن زادت قيمة الشاة عليها. (أو ابن لبون) ولو خنثى، وهو ما (له سنتان) وإن لم يساو قيمة بنت مخاض؛ لأن زيادة السن تجبر نقص الذكورة. وإنما يجزئ (إن فقدها) -أي: بنت المخاض- بأن لم يملكها، أو ملكها معيبة أو مغصوبة وعجز عن إخراجها من الغاصب عند الإخراج، أو مرهونة، ولا يكلف تحصيلها بشراء أو غيره، وله إن لم يطلب جبراناً إخراج بنت لبون فما فوقها ولو مع وجود ابن لبون. نعم؛ لو كانت عنده بنت مخاض كريمة .. منعت إخراج ابن لبون فما فوقه، فيخرجها، أو يحصل بنت مخاض أخرى بنحو شراء، ولا يكلف عن الحوامل حاملاً. (وفي ست وثلاثين بنت لبون) وهي ما (لها سنتان) كاملتان، سميت بذلك؛ لأن أمها آن لها أن تضع ثانياً، وتصير ذات لبن. (وفي ست وأربعين حقة) وهي ما (لها ثلاث) من السنين، سميت بذلك؛ لأنها آن لها أن تركب، ويطرقها الفحل.

(وفي إحدى وستين جذعة) -بالذال المعجمة- وهي ما (لها أربع) سنين تامة، ويلزم من تمامها طعنها فيما بعدها، وكذا فيما قبلها، سميت بذلك؛ لأنها أجذعت، أي: أسقطت مقدم أسنانها. (وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مئة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وفي مئة وثلاثين حقة وبنتا لبون، ثم) بزيادة كل عشر يتغير الواجب، فيجب (في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) وما بين النصب عفو. وأعلم: أن أسنان الزكاة تحديدية لا يغتفر فيها نقص، بل لا بد من الزيادة بأن تطعن بنت المخاض في الثانية، وبنت اللبون في الثالثة، والحقة في الرابعة، والجذعة في الخامسة. والأصل في ذلك: كتاب أبي بكر لأنس، كما في "البخاري". (ومن فقد واجبه) أو ما نزل منزلته من الإبل ( .. صعد إلى أعلى منه) بدرجة، كالحقة إن كانت سليمة، وقال الزيادي: مطلقاً. (وأخذ) جبراناً، أعني: (شاتين كالأضحية) أي: يجزئان فيها بأن يكون كل ثنية معز، أو جذعة ضأن، أو لها سنة وإن لم تجذع، (أو) أخذ (عشرين درهماً) نقرة خالصة (إسلامية)؛ لأنها المراد عند الإطلاق. نعم؛ لو لم يجدها أو غلبت المغشوشة .. أجزأ منها ما يكون فيه من النقرة قدر الواجب. ولا يبعض جبران واحد، فلا يجوز شاة وعشرة دراهم إلا إن كان الآخذ له المالك، ورضي بذلك (أو نزل إلى أسفل منه) أي: من واجبه بدرجة، كبنت المخاض، كما في المثال المذكور.

(وأعطى بخيرته) جبراناً، أي: (شاتين، أو عشرين درهماً) إسلامية كما مر بخيرة الدافع فيهما. ومصرف الجبران بيت المال، فإن تعذر .. فمن مال المستحقين. وقي "شرح سم" على "الغاية": قضية نص "الأم": أنه فيما يقبضه من الزكاة، ويعمل العامل بالمصلحة لهم في دفعه وأخذه، أي: طلبه، وإن لم يجب على المالك موافقته. ويجوز أن يصعد أو ينزل درجتين فأكثر مع تعدد الجبران عند فقد قربى في جهة المخرجة، كأن لم يجد من لزمته بنت مخاض إلا حقة، أو إلا جذعة، فيخرج الحقة مع أخذه جبرانين، أو الجذعة مع أخذه ثلاثة. وكأن لم يجد من لزمته حقة إلا بنت مخاض، فيخرجها مع فقد بنت لبون، ويعطى جبرانين. وللمالك الصعود أكثر من درجة إذا قنع بجبران واحد مطلقاً، أمَّا إذا لم يفقد واجبه .. فيمتنع النزول وكذا الصعود إن طلب جبراناً. والمعيب والكريم هنا كالمعدوم؛ لخبر: "إياك وكرائم أموالهم". وإنما منعت بنت مخاض كريمة ابن لبون؛ لأن الذكر لا مدخل له في فرائض الإبل، فكان الانتقال إليه أغلظ من الصعود والنزول، وأكثر الصعود أربع درجات، وأكثر النزول ثلاث. ولو اتفق في إبل أو بقر في نصاب واحد فرضان .. وجب الأغبط منهما للمستحقين، ففي مئتي بعير يجب الأغبط من أربع حقاق، أو خمس بنات لبون إن وجدا بماله بصفة الإجزاء كاملاً. ولو أخذ الساعي غير الأغبط .. لم يجزئ فيرد، هذا إن قصر الساعي أو دلس المالك، وإلا .. أجزأ، وجبر تفاوت النقص من نقد البلد، أو بجزء من الأغبط، لا من المأخوذ. وإن وجد أحدهما بماله فقط .. أخذ وإن وجد بعض من الآخر، وإن لم يوجدا أو أحدهما بماله بصفة الإجزاء .. فله تحصيل ما شاء منهما كلاً أو بعضاً متمماً به ما عنده بشراء أو غيره ولو غير أغبط؛ لما في تحصيل الأغبط من المشقة. * * *

فصل: في زكاة البقر

(فصل) في واجب البقر. ولا شيء فيما دون الثلاثين منها (وفي ثلاثين من البقر: تبيع) أي: ذكر (ابن سنة) كاملة، سمي تبيعاً؛ لأنه يتبع أمه. (أو تبيعة) أنثى بنت سنة كاملة أيضاً. (وفي الأربعين: مسنة) وهي ما (لها سنتان) كاملتان، سميت بذلك؛ لتكامل أسنانها، وذلك لما صح عن معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: أنه أمره بذلك، ويجزئ عن المسنة تبيعان. (وفي ستين: تبيعان). (ثم) يختلف الواجب بكل عشر. فيجب (في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: مسنة) ففي مئة وعشرين ثلاث مسنات، أو أربعة أتبعة، أي: الأغبط منهما إن وجدا بماله، وإلا .. فما وجد منهما بماله، فإن لم يوجدا فيه .. حصل منهما ما شاء، كما مر. وليس هنا نزول ولا صعود بجبران، وكذا زكاة الغنم. * * * (فصل) في زكاة الغنم. ولا زكاة فيما دون الأربعين منها (وفي أربعين من الغنم: شاة) ويستمر ذلك (إلى مئة وإحدى وعشرين .. فشاتان) تجبان فيها (وفي مئتين وواحدة: ثلاث) من الشياه (وفي أربع مئة:) منها (أربع، ثم في كل مئة: شاة) كما في كتاب الصدّيق، رواه "البخاري"، وما بين النصب عفو. * * *

فصل: في بعض ما يتعلق بما مر

(فصل) في بعض ما يتعلق بما مر. (ولا يجوز) ولا يجزئ (أخذ المعيب من ذلك) أي: من جميع النعم المذكورة؛ للخبر الصحيح. ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، والهرمة: الكبيرة التي أسقطت أسنانها، و (ذات العوار): المعيبة. والمراد عيب المبيع لا الأضحية؛ لأن الزكاة يدخلها التقويم عند التقسيط، فلا يعتبر فيها إلا ما يخل بالتقويم (إلا إذا كانت) نعمه (معيبة كلها) .. فيؤخذ منها حينئذٍ معيب، ولا يكلف صحيحة؛ للإضرار. (وكذا المراض) فلا يجوز أخذ المريض إلا إذا كانت نعمه كلها مراضاً، فيؤخذ منها حينئذٍ متوسط العيب أو المرض؛ مراعاة للجانبين. (ولا يجوز أخذ الذكر إلا فيما تقدم) أنه يؤخذ شاة ذكر عن خمس من الإبل، وفي الجبران وابن لبون، أو حق بدلاً عن بنت مخاض فقدها، والتبيع عن ثلاثين من البقر، وكذا يؤخذ تبيعان عن مسنة وابن لبون، أو حق عما دون خمسة وعشرين من الإبل عند فقد بنت مخاض؛ فلا يؤخذ الذكر إلا فيما ذكر. (وإلا إذا كانت) نعمه (كلها ذكوراً) .. فيخرج ذكراً منها؛ تسهيلاً عليه، لبناء الزكاة على التخفيف، لكن يخرج عن ستة وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن اللبون المأخوذ بدلاً عن بنت مخاض. فلو كانت قيمة المأخوذ عن بنت المخاض خمسين .. كان قيمة المأخوذ عن ست وثلاثين اثنين وسبعين هذا إن قلنا: واجب الخمسة والعشرين الذكور ابن لبون، كما في "التحفة"، و"النهاية"، و"المغني"، وغيرها. فإن قلنا: واجبها ابن مخاض، ونقله في "الإيعاب" عن تصريح الأكثرين .. فلا يعتبر ما ذكر.

(ولا) يجوز (أخذ الصغير إلا إذا كانت) نعمه جميعها (صغاراً) بأن كانت في سن لا فرض فيه، ويتصور بأن تموت الأمهات وقد تم حولها بعد موتها، والنتاج صغار. أمَّا إذا ماتت بعد تمام حولها .. فيبنى حولها على حول الأمهات الثاني الذي ماتت بعد شروعها فيه. أو بأن ملك نصاباً من صغار المعز، وتم لها حول .. فتجب الزكاة فيه وإن لم تكن في سن الإجزاء وهو سنتان. وكالمعز في ذلك البقر، ولا يرد أن شرط زكاة النعم السوم، ولا سوم للصغار؛ لأن النتاج تابع للأمهات، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، ولأن اللبن كالكلأ؛ لأنه ناشئ منه. وإنما يجزئ إن كان من الجنس، فلا يجزئ في خمسة أبعرة صغار إلا شاة مجزئة أضحية. أمَّا لو لم تكن نعمه كلها ذكوراً ولا صغاراً ولا مراضاً، بأن كان فيها ولو واحدة أنثى صحيحة تجزئ أضحية .. فيجب إخراجها. فلو ملك مئة من الغنم، ثم نتجت منها إحدى وعشرون .. وجب شاتان تجزئان أضحية، لكن بالقسط في القيمة، ولا يؤخذ خيار إلا برضا مالكها، كما مر. فرع: يجزئ في الزكاة نوع عن نوع آخر، كضأن عن معز وعكسه، وكأرحبية عن مهرية وعكسه من الإبل، وعراب عن جواميس وعكسه من البقر برعاية القيمة. ففي ثلاثين عنزاً وعشر نعاج: عنز أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز وربع نعجة. فلو كانت قيمة العنز المجزئة ديناراً، وقيمة النعجة المجزئة دينارين .. لزم عنز أو نعجة، قيمتها دينار وربع، ويقاس بذلك البقر والإبل. (وإذا اشترك اثنان) معينان أو أكثر من أهل الزكاة (في نصاب) من جنس واحد وإن اختلف النوع ولو غير ماشية أو في أقل منه ولأحدهما نصاب ولو بضمه للمشترك ( .. وجبت عليهما الزكاة) وزكيا كواحد، كما في خلطة الجوار الآتية، بل أولى، ولكل منهما الانفراد بالإخراج بلا إذن الآخر على المعتمد، فيرجع من أخرجها ببدل ما أخرجه على الآخر؛ لإذن الشارع في ذلك، ولأن الخلطة تجعل المالين مالاً واحداً،

فسلطته على الدفع المبرئ الموجب للرجوع، وبهذا فارقت نظائرها. ثم إنها قد تفيد تخفيفاً، كثمانين بينهما على السواء، وتثقيلاً، كأربعين كذلك، وتثقيلاً على أحدهما، وتخفيفاً على الآخر كستين، لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، وقد لا تفيد شيئاً كمئتين، سواء بينهما، ويأتي ذلك في خلطة الجوار. أمَّا إذا لم يكن لأحدهما نصاب .. فلا زكاة وإن بلغه مجموع المالين، كأن انفرد كل منهما بتسعة عشر، واشتركا في ثنتين، أو خلطا ثمانية وثلاثين، وميزا شاتين .. فالشركة تجعل المال المخلوط وغيره من أموال المتخالطين، ومال خليط أحدهما وخليط خليطة كمال واحد، وقد أوضحت ذلك في "الأصل". ويشترط: دوام الخلطة سنة في الحول، فلو ملك كل أربعين شاة أول محرم، وخلطاها أول صفر .. لم تثبت الخلطة في الحول الأول، فإذا جاء المحرم .. أخرج كل شاة، وثبتت الخلطة في الحول الثاني وما بعده. وفي غير الحولي بقاؤها إلى وقت الوجوب، كبدو الصلاح، هذا في خلطة الشيوع. وأمَّا خلطة الجوار .. فيشترط دوامها سنة، وأن يتحد مشرب الماشية ومسرحها الشامل للمرعى، وطريقه، وما تجتمع فيه؛ لتساق منه للمرعى ومراحها وراعيها. وكذا فحلها إن اتحد نوع الماشية، بأن يكون مرسلاً في الماشية، ومحل حلبها. وفي الشجر والزرع: أن يتحد المكان، وماء السقي والحرث والملقح والجذاذ والحصاد والحمال والحافظ. والجرين وهو موضع تجفيف الثمر، وتخليص الحب من أول الزرع والثمر. وفي التجارة والنقد: اتحاد المكان والحارس ونحوهما. ومعلوم أن خلطة غير الماشية إنما تفيد الإيجاب؛ إذ لا وقص فيها. وخرج بالمعينين: ما لو كان عنده أربعون شاة .. فيجب عليه شاة للحول الأول، وإذا لم يخرجها .. لم يجب عليه شيء للحول الآتي؛ لنقص النصاب، والشركة فيها غير معتبرة؛ لعدم تعين أهل الزكاة المالكين للشاة. وبـ (الأهل): غيره كذمي، فلا عبرة بخلطته، بل إن بلغ نصيب أهل الزكاة نصاباً .. زكاه، وإلا .. فلا وجوب، وكذا لا عبرة بخلطة جنسين، كبقر وغنم. * * *

فصل: شروط وجوب زكاة الماشية

(فصل: وشروط وجوب زكاة الماشية) خمسة، زيادة على الشروط العامة المتقدمة كونها نعماً، فلا زكاة في غيرها كخيل، وكونها نصاباً، فلا زكاة فيما دونه. والثالث: (مضي حول كامل متوال في ملكه)؛ لخبر: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"؛ لأنه وإن قلنا بضعفه اعتضد بآثار صحيحة، بل أجمع عليه التابعون والفقهاء، وهو شرط لوجوب كل زكاة إلا الحبوب والثمار والمعدن والركاز وزكاة الفطر والنتاج والربح بشرطهما. (إلا النتاج) من نصاب قبل تمام حوله ولو بلحظة ( .. فيتبع) أي: النتاج (الأمهات في الحول) إن كان من جنس الأمهات، وملكه بملكها، وبلغت به نصاباً أخر، أو ماتت الأمهات وهو نصاب، أو بعض الأمهات والباقي مع النتاج نصاب. كأن ملك مئة وعشرين شاة، ونتجت واحدة منهن قبل تمام الحول والأمهات باقية، فيجب شاتان، أو نتجت واحده من تسع وثلاثين من البقر في الحول، فتجب مسنة، أو ملك أربعين شاة، فنتجت أربعون، ثم ماتت الأمهات في الحول وجب شاة من النتاج، أو نتج منها عشرون ثم مات عشرون من الأمهات، فتجب شاة كبيرة بالقسط من القيمة. أمَّا ما نتج من دون النصاب وإن بلغ به نصاباً أو نتج مع آخر الحول أو بعده، أو كان من غير جنس الأمهات، كأن نتجت بقرة بعيراً، أو لم يتحد سبب ملكهما، كأن ملك النصاب بإرث والنتاج بشراء .. فليس له في جميع ذلك حكم النصاب. وكذا إن لم يبلغ به نصاباً أخر في نحو مئة من الغنم، نتجت منها عشرون .. فلا أثر له، بل تجب شاة واحدة. وهل هي حينئذٍ زكاة للأمهات مع النتاج أو لها فقط؟ تردد فيه بعضهم. ولو ادعى المالك النتاج بعد الحول .. صدق. وإنما لم يشترط في النتاج الحول؛ لأنه لأجل حصول النماء، والنتاج نماء عظيم. وخرج بقوله: (مضي حول .. إلخ) ما لو مات المالك أو باعه أثناءه .. فينقطع حوله، فيستأنفه من انتقل إليه من وارث أو غيره من وقت انتقاله. نعم؛ السائمة لا يستأنفه فيها إلا من وقت إسامتها مع قصده لها.

وعرض التجارة لا ينعقد حوله حتى يتصرف فيه نحو الوارث إن أبدله بعرض آخر قاصداً للتجارة فيه. ولو زال ملكه عنه في الحول فعاد إليه ولو بإقالة أو ردَّ بعيب أو بهبة أو بادل بمثله مبادلة صحيحة في غير نحو قرض نقد .. استأنف؛ لأنه ملك جديد، فاحتاج لحول، ويكره له ذلك إن قصد الفرار من الزكاة فقط، وقيل: يحرم، وقيل: يأثم على قصده، لا فعله. وفي "الإحياء": أنه لا تبرأ به ذمته من الزكاة باطناً، وإن هذا من الفقه المضر وشمل ذلك بيع بعض النقد ببعض، ولذا قال ابن سريج: بشروا الصيارفة أن لا زكاة عليهم. أمَّا لو أقرض نصاب نقد في الحول .. فلا ينقطع؛ لأن الملك لم يزل بالكلية، لثبوت بدله في ذمة المقترض والدَّين فيه الزكاة، وكذا لو ردَّ المبيع وهو مال تجارة وقد باعه بعرض تجارة .. فلا يستأنف له حولاً. (و) الرابع: (أن تكون) الماشية (سائمة) أي: راعية في كل الحول (في كلأ مباح) أو مملوك قيمته يسيرة، لا يعد مثله كلفة في مقابلة نمائها، وذلك للتقييد بالسوم في الأحاديث في الإبل والغنم، وألحق بهما البقر. وإنما اختصت السائمة بالزكاة؛ لتوفر مؤنتها بالرعي في الكلأ المذكور. (و) لا بد من (أن يكون السوم من المالك) المكلف العالم بملكه لها، أو من نائبه ولو حاكماً. (فلا زكاة) في معلوفة ولا في سائمة في كلأ مملوك وإن قلت قيمته، كما في "الأسنى"، و"شروح الإرشاد"، و"العباب". وفي "النهاية": (لو رعت ما اشتراه أو وهب له .. فسائمة؛ لأن قيمة الكلأ تافهة، وإن جزه وقربه لها .. فمعلوفة، ما لم يكن من الحرم) اهـ وقال في "التحفة": إن عد ذلك العرف تافهاً في مقابلة نمائها .. فسائمة وإلا فلا، واعتمده في "شرح المنهج"، وغيره، وكذا فصل فيما لو استأجر من يرعاها. ولو سرحها نهاراً وألقى لها شيئاً من العلف .. فسائمة، قاله (م ر). قال (سم): وسكوتهم عن الماء مشعر بأنه لا أثر له.

ولا زكاة أيضاً (فيما) أي: في سائمة اعتلفت، أو (سامت بنفسها، أو) علفها، أو (أسامها غير المالك) كالغاصب والمشتري شراء فاسداً، لعدم السوم، أو إسامة المالك أو نائبه، ولا في سائمة علفها المالك بنية قطع السوم وإن قل، أو قدراً لا تعيش بدونه بلا ضرر بيّن، كيومين ونصف ولو مفرقة، بخلاف ما دونها؛ لقلة المؤنة فيه بالنسبة لنماء الماشية. ولا أثر لمجرد قصد العلف، ولا للاعتلاف من مال حربي. (و) الخامس: (أن لا تكون عاملة) لمالكها أو بأجرة أو لغاصب (في حرث ونحوه) كحمل ونضح ولو محرماً، وإلا .. فلا زكاة فيها وإن أسيمت، سواء أخذ في مقابلة عملها أجرة، أم لا؛ لأنها معدة لاستعمال مباح، فأشبهت ثياب البدن. وصح: خبر "ليس في البقر العوامل شيء" وقيس بها غيرها، بل في رواية: "ليس في العوامل شيء" وزمن كونها عاملة، يقاس بزمن علفها فيما مر. تنبيه: يندب أخذ زكاة السائمة عند ورودها ماء؛ لأنه أقرب إلى الضبط، فلا يكلفهم الساعي ردها إلى البلد، كما لا يجب عليه تتبع المراعي، فإن لم ترده كوقت الربيع .. فعند بيوت أهلها، ويصدق مخرجها في عددها إن كان ثقة، وللساعي عدها، وإلا .. فتعدّ وجوباً، والأسهل عند مضيق تمر به واحدة واحدة وبيد كل من الساعي والمالك أو نائبهما قضيب يعد به. * * *

باب زكاة النبات

(باب زكاة النبات) أي: النابت؛ إذ النبات يستعمل مصدراً واسم عين كما هنا. والمراد به: الثمر والحبوب، فالأول من الشجر، وهو ما له ساق، والثاني من النجم، وهو ما لا ساق له كالزرع، قال تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) [الرحمن:6]. والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع. (لا تجب) الزكاة فيما أخرجته الأرض (إلا في الأقوات) أي: المقتاتات وهو ما يقوم بها البدن غالباً؛ لأن الاقتيات ضروري للحياة، فأوجب فيه الشارع شيئاً لأرباب الضرورات، بخلاف ما يؤكل تنعماً أو تأدماً. (وهي من الثمار: الرطب والعنب) إجماعاً دون غيرهما من سائر الثمار. (ومن الحب: الحنطة والشعير والأرز، وسائر المقتات في حال الاختيار) ولو نادراً، كذرة ودخن؛ بناءً على أنه جنس مستقل، لا نوع من الذره وحمص وبسلا، وباقلا ولوبيا، وهو: الدجر والجلبان، و (الماش) وهو نوع منه، وحب الجاروش وغير ذلك من كل ما يقتات اختياراً؛ للخبر الصحيح: "فيما سقت السماء والسيل والبعل العشر، وفيما سقي بالنضخ نصف العشر". وإنما يكون في الثمر والحنطة والحبوب، وأمَّا القثاء والبطيخ والرمان والقضب -بالمعجمة- وهو الرطبة -بفتح فسكون- أي: الحشيش الأخضر .. فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيس بما فيه غيره بجامع الاقتيات، وصلاحية الادخار فيما يجب فيه، وعدمها فيما لا يجب فيه، سواء أزرع ذلك، أو نبت اتفاقاً. وخرج بـ (القوت): غيره، كخوخ، ومشمش وتين وجوز ولوز وتفاح وزيتون وسمسم وزعفران. وبـ (الاختيار): ما يقتات ضرورة، كحب حنظل وغاسول وحلبة وترمس، فلا

تجب الزكاة في شيء منها، ولا تجب أيضاً في ثمار موقوفه على غير معين كمسجد وإمام كما مر بخلاف المعيّن، كأولادِ زيد. والموقوف المصروف لأقارب الواقف فيه خلاف، والأوجه فيه عدم الزكاة. قال الونائي: (وعلى زارع أرض -فيها خراج وأجرة- زكاة معهما، ولا يؤديهما من حبها إلا بعد إخراج الزكاة للكل، ولا يحل لمؤجر أرض أخذ إجارتها من حبها قبل أداء الزكاة، فإن فعل .. لم يمللك قدر الزكاة، ويؤخذ منه. ولو أخذ الإمام الخراج على أنه بدل من الزكاة .. فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد أو التقليد. والأصح: إجزاءه، أو أخذه ظلماً .. لم يجزئ عنها. وبهذا يعلم: أن المكس لا يجزئ عن الزكاة إلا إن أخذه الإمام أو نائبه على أنه بدل عنها باجتهاد أو تقليد صحيح، لا مطلقاً، خلافاً لمن وهم فيه. وصرح أئمتنا بأن النواحي التي يؤخذ الخراج من أرضها -ولم يعلم أصله- بجواز أخذه؛ لأن الظاهر أنه بحق، ويحكم بملك أهلها لها، فلهم التصرف فيها بالبيع وغيره؛ لأن الظاهر في اليد الملك، وحينئذٍ فالوجه: أن أراضي مصر من ذلك. تنبيه: قدم مخالف لشافعي، أو باعه ما لا يعتقد تعلق الزكاة به على خلاف اعتقاد الشافعي، فهل يحل له أخذه اعتباراً بعقيدة المخالف، أو لا اعتباراً بعقيدة نفسه؟ الذي يظهر الثاني، خلافاً لمن مال إلى الأوّل. اهـ "التحفة". ولا يخفى أن الأحوط التقليد الصحيح في هذا أو مثله) اهـ كلام الونائي. (ونصابه) أي: المقتات اختياراً من ثمر وحب (خمسة أوسق)؛ لخبر الشيخين "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهي تحديد (كل وسق ستون صاعاً) إجماعاً. (والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي) فجملتها: ألف وست مئة رطل بغدادي، والأصح عند النووي: أنه مئة وثمانية وعشرون درهماً، وأربعة أسباع درهم. وهي بالكيل المصري: ستة أرداب إلا سدساً عند (حج)، وستة وربع عند (م ر). تنبيه: مذهب أبي حنيفة: وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض إلا الحطب والقصب والحشيش، ولا يعتبر عنده النصاب.

ومذهب أحمد: تجب فيما يكال أو يوزن ويدخر من القوت، ولا بد من النصاب. ومذهب مالك كالشافعي، قاله في "القلائد". (ويعتبر ذلك بالكيل) والتقدير بالوزن وإنما هو؛ للاستظهار، وإلا .. فالمعول عليه الكيل، وإن خالفه لوزن إلا العدس .. فيعتبر بالوزن كما يأتي في الفطرة. قال الكردي: (ويؤيده ما رأيته نقلاً عن البندنيجي: أن مما يستوي فيه الكيل والوزن العدسَ والماش) اهـ وإنما يعتبر حال كونه (تمراً أو زبيباً إن تتمر) الرطب (أو تزبب) العنب (وإلا) يتتمر أو يتزبب ذلك بأن لا يتأتي من الرطب تمر، ولا من العنب زبيب جيدان في العادة، أو كانت تطول مدة جفافه ( .. فرطباً وعنباً) يوسق ويخرج منهما؛ لأن هذا أكمل أحواله. ويضم غير المتجفف إلى المتجفف؛ لتكيل النصاب، لأنهما جنس واحد، ويقطع بإذن الإمام كما لو أضر بأصله .. فيعتبر رطباً، ويقطع بالإذن ويؤخذ الواجب منه رطباً. وفي "التحفة": (وبحث بعضهم أن للمالك الاستقلال بالقسمة. ويؤيده إطلاق "التتمة" عن جمع: تجويز القسمة بين المالك والمستحقين كيلاً أو وزناً، ولا ربا؛ لأن قسمة ذلك إفراز، ويلزم على هذه الطريقة تجويز القسمة بين المالك والمستحقين على التحيل) اهـ وهذا فيما لا يجف، وأمَّا ما يجف .. فلا يصح قبض الزكاة منه إلا جافاً. (ويعتبر الحب) حال كونه (مصفى من) نحو (التبن) والقشر الذي لا يؤكل، ولايدخر معه، ويغتفر قليل لا يؤثر في الكيل. أمَّا ما يدخر في قشرة الذي لا يؤكل معه وهو الأرز، ولو قشرته الحمراء عند (حج)، والعلس .. فنصابه عشرة أوسق تحديداً؛ اعتباراً لقشره بالنصف؛ إذ خالصه يجيء منه خمسة أوسق غالباً. وظاهر "التحفة": اعتبار العشرة مطلقاً، وصرح به في "الإيعاب". لكن في غيرهما من كتبه، و"الأسنى"، و"النهاية"، وغيرها: أن الخمسة لو حصلت من دون العشرة، أو أكثر .. اعتبر ما حصلت منه دون العشرة، وفي "المغني"، و"النهاية": أن القشرة الحمراء من الأرز يكمل الخمسة الأوسق بها.

(ولا يكمل جنس بجنس) إجماعاً في التمر والزبيب، وقياساً في الحبوب. (وتضم الأنواع بعضها إلى بعض)؛ لتكميل النصاب وإن اختلفت جودة ورداءة ولوناً وغيرها، كبر مصري وشامي، وتمر برني ومعقلي؛ لاتحاد الاسم. وفي "التحفة": ومرَّ أن الدخن نوع من الذرة، فيضم إليها، لكنه مشكل؛ لاختلافهم صورة ولوناً مطبعاً وطعماً، ومع اختلاف هذه تتعذر النوعية اتفاقاً، فليحمل كلامهم على نوع من الذرة يساوي الدخن في أكثر تلك الأوصاف. (و) يضم (العلس) وهو قوت أهل ناحية صنعاء، وكل حبتين منه فأكثر في كمام (إلى الحنطة) في إكمال النصاب؛ لأنه نوع منها، بخلاف السلت، فإنه يشبهها لوناً، ويشبه الشعير طبعاً، أصغر من الشعير جرماً. ولا يضر اختلاط برًّ بحبات شعير بحيث لو ميز الشعير .. لم تؤثر نقصاً في البر. (ويخرج من كل) من الأنواع (بقسطه إن سهل)؛ لانتفاء المشقة، بخلاف الماشية فيخرج من نوع منها مع مراعاة القيمة، ولا يكلف بعضاً من كل؛ للمشقة. ولو أخرج هنا عن الكل من النوع الأعلى .. أجزأ؛ لأنه زاد خيراً، وليس بدلاً عن الواجب؛ لاتحاد الجنس. (وإلا) يسهل ( .. أخرج من الوسط)؛ رعاية للجانبين، فإن أخرج من الأعلى أو تكلف، وأخرج من كل حصته وهو أفضل .. جاز. (ولا يضم ثمر عام إلى ثمر عام آخر) في إكمال النصاب وإن أطلع ثمر العام الثاني قبل جذاذ الأول إجماعاً. ومثل ذلك: الشجر الذي يثمر مرتين في العام، بأن أثمر نخل أو كرم ثم بلغ وقت نهايته وإن لم يقطع، ثم أطلع ثانياً في عامه، فلا يضم أحدهما للآخر؛ لأن كل حمل كثمر عام. (وكذلك الزرع) فلا يضم زرع عام إلى زرع عام آخر. (ويضم) في إكمال النصاب (ثمر العام وزرعه بعضه إلى بعض) بأن بلغ وقت نهايتهما في عام واحد جذاذاً في الثمر، وحصاداً في الزرع وإن لم يقطعا فيه.

فصل: في واجب ما ذكر وما يتبعه

وصورته في الثمر: أن يكون عنده نخل مثلاً يثمر بعضه في الربيع، وبعضه في الصيف، أو يكون له نخل مثلاً يثمر مرتين، وإطلاع الثاني قبل جذاذ الأول، وجذاذ الجميع في عام واحد. فإن كان بين وقت جذاذهما اثنا عشر شهراً .. فالثاني ثمر آخر وإن أطلع قبل وقت جذاذ الأول، وكذا إذا كان إطلاع الثاني بعد وقت نهاية الأول كما مر. ولو تواصل بذر الزرع عادة .. فهو زرع عام واحد وإن تمادى شهراً أو شهرين وإن لم يقع حصاده في عام واحد .. فيضم بعضه إلى بعض. أما إذا تفاصل البذر بأن إختلفت أوقاته عادة .. فإنما يضم بعضه إلى بعض إن وقع حصادهما في عام واحد. وما ذكرته من اعتبار الإدراك في الثمر كالزرع .. جرى عليه في "المنهج" وهو ظاهر "التحفة". وقال في "الفتح": وهو وجيه؛ لوضوح القياس على الزرع. لكن في "الشرح" و"الإمداد" و"الأسني": أن العبرة في التمر بالإطلاع في عام واحد وإن لم يقطع في عام واحد، واعتبره الخطيب، و (م ر). وفي "الفتح": (وما استخلف من أصله كذرة سَنبَلَتْ مرة ثانية في عام ضم لأصله) اهـ ويصدق مالك الزرع أنه زرع عامين، ويحلف ندباً إن اتهم. * * * (فصل) في واجب ما ذكر وما يتبعه. (وواجب ما شرب) من ثمر أو زرع (بغير مؤنة) كالمسقي بالمطر أو الماء المنصب إليه من نهر أو جبل أو عين أو ثلج أو ساقية حفرت من النهر وإن احتاجت لمؤنة (العشر). (و) واجب (ما سقي بمؤنة كالنواضح) من نحو الإبل والبقر، وتسمى سواني، أو الدواليب -جمع دولاب- وهو ما يديره الحيوان، أو ناعورة، وهو ما يديره الماء، وكالماء المملوك الذي اشتراه أو غصبه أو اتهبه؛ للمنة في الأخير، ولأنه مضمون عليه في الأولين وإن كان الشراء فاسداً.

أما غير المملوك .. ففيه العشر وإن اشتراه أو غصبه؛ لأنه يرجع بما بذله في ثمنه. وبحث (سم): أن في حصول المباح بكلفة نصف العشر. (نصفه)؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك. والمعنى فيه كثرة المؤنة وخفتها، كما في السائمة والمعلوفة، بالنظر للوجوب وعدمه. تنبيه: ماء العيون والأنهار إن ملك محل منبعه .. فهو مملوك لذي الأرض الذي نبع فيها، وإلا .. فهو باق على إباحته، ففي ما سقي به العشر، ولا يملك حتى يحرز. (و) واجب (ما سقي بهما) أي: بالمؤنة ودونها (سواء) باعتبار عيش الزرع ونمائه، بأن كان النصف من هذا والنصف من ذاك. فلو كان من زرعه إلى إدراكه ثمانية أشهر، فاحتاج في أربعة إلى سقيتين، فسقى فيها بالمطر، وفي أربعة إلى سقية، فسقى فيها بالنضح .. فهذا سواء. (أو أشكل) مقدار ما يسقي به منهما، كأن سقي بالنوعين، وجهل نفع كل منهما باعتبار المدة لا عدد السقيات؛ إذ رُبَّ سقية أنفع من سقيات (ثلاثة أرباعه). أمَّا في الأولى .. فعملاً بواجبهما، ومن ثم لو كان ثلثاه بمطر وثلثه بدولاب، وجب خمسة أسداس العشر، وفي عكسه ثلثا العشر. وأما في الثانية .. فلئلا يلزم التحكم، فإن علم تفاوتهما بلا تعيين .. فقد علمنا نقص الواجب عن العشر وزيادته على نصفه، فيؤخذ المتيقن ويوقف الباقي إلى البيان، ويصدق المالك فيما سقي به منهما، فإن اتهم .. فيحلف ندباً. (وإلا) بأن سقي بهما متفاوتاً وعلم ( .. فقسطه) أي: قسط كل منهما، ويكون التقسيط باعتبار نموّ الزرع، والثمرُ باعتبار المدة. (ولا تجب) الزكاة فيما مر (إلا ببدو الصلاح في الثمر) كله أو بعضه وإن قل، كحبة بأن تظهر مبادئ النضج والحلاوة والتلون. وضابطه: بُلوغه صفة يطلب فيها غالباً؛ لأنه حينئذٍ ثمرة كاملة، وقبله حصرم أو بلح.

(واشتداد الحب) ولو في بعضه أيضاً (في الزرع)؛ لأنه حينئذٍ قوت وقبله بقل، وألحق البعض بالكل فيهما كالبيع، والوجوب على من بدا الصلاح في ملكه. فلو باع نخلاً مثمراً، فبدا الصلاح في مدة الخيار .. فالزكاة على من الملك له، وهو من انفرد بالخيار، حتى لو كان المشتري .. لزمته، وامتنع الفسخ لشركة المستحقين في الثمر، وهي عيب، ولو كان كافراً سقطت وإن رده على البائع. ولو اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فبدا صلاحها قبله .. وجبت الزكاة على المشتري، وامتنع القطع لشركة أهل الزكاة، فلو كره البائع إبقاءها .. فله الفسخ، وإذا فسخ .. لم تسقط الزكاة عن المشتري. والمراد بوجوبها ببدو الصلاح انعقاد سبب الوجوب. ولا يصح الإخراج إلا بعد الجفاف والتصفية، وكثير يفرقون من الرطب والسنابل، وهو لا يجوز ولو للناطور. نعم؛ إن عجل زكاة ذلك من الحب المصفى عنده أو من الثمر الجاف .. جاز. وجاز التفرقة من الثمر إن خرص عليه، وضمن حصة المستحقين لا من السنابل؛ لأنها لا تخرص. وقد صرحوا بأن من تصدق بالمال الزكوي .. يلزمه زكاته، ولا تسقط بالتصدق به. نعم؛ الإمام أحمد يُجَوَّز الأكل له ولعياله والإهداء بالمعروف، وفيه قول عندنا سيأتي قريباً، والكلام في السنابل اشتد حبها، فإن لم يشتد أوشك فيه .. فلا زكاة فيها، ولا يحرم التصرف فيها. (وسن خرص الثمر) الذي تجب فيه الزكاة من رطب وعنب ولو بالبصرة (على مالكه) الموسر ولو بتلك الشجر بعد بدو صلاحه كله، وكذا بعضه على معتمد "التحفة"، و"النهاية"، و"المغني"، خلافاً لـ"شرحي الإرشاد"؛ للأمر بذلك، ولذا قيل بوجوبه. وحكمته: الرفق بالمالك والمستحق. بأن يرى ما على كل شجرة فيقدره رطباً ثم جافاً، أو ثمرة كل نوع رطباً ثم جافاً. أمَّا المعسر .. فلا يجوز الخرص عليه. وخرج بالثمر: الحب؛ لتعذر الحرز فيه.

وفي "التحفة": وبحث بعضهم: أن للمالك إذا اشتدت ضرورته لشيء منه، أَخْذَه ويحسبه، واستدل له بما لا يأتي على قواعدنا وإن نقل عن الأئمة الثلاثة ما قيل: إنه يوافقه. وببعد بدو الصلاح قبله؛ لتعذر خرصه، ولعدم تعلق الزكاة به. والمشهور: إدخال جميع الثمر في الخرص؛ لعموم الأدلة الموجبة لعشر الكل أو نصفه. وأمَّا خبر: "إذا خرصتم .. فحذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث .. فدعوا الربع" .. فحملوه -كالشافعي في أظهر قوليه- على أنه يترك من الزكاة شيء يفرقه في أقاربه وجيرانه. ونظر في "التحفة" في تضعيف مقابل المشهور مع شهادة الحديث له، وبعد تأويله، قال: (ومن ثم قال الأذرعي: ليس عنه جواب شاف، وهو مذهب الحنابلة) اهـ ويكفي خارص واحد إن كان من طرف الحاكم، وإلا .. حكَّم المالك عدلين يخرصان عليه، ويُضَمَّنانه. (وشرط الخارص: أن يكون ذكراً مسلماً حراً عدلاً)؛ لأن الخرص إخبارٌ، وولاية، وانتفاء وصف مما ذكر، يمنع قبول الخبر والولاية. (عارفاً) بالخرص؛ لأن الجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد فيه. (و) إذا خرص .. فلا بد لصحة تصرف المالك في المخروص من أن (يُضَمَّن) الساعي أو الخارص المحكم (المالك) القدر (الواجب) عليه من المخروص، تضميناً صحيحاً صريحاً (في ذمته) كأن يقول: ضمنتك حق المستحقين من الرطب مثلاً بكذا تمراً (ويقبل) المالك أو نائبه ذلك التضمين صريحاً أيضاً، فحينئذٍ ينتقل حق المستحقين إلى ذمة المالك. (ثم) بعد ذلك له أن (يتصرف في جميع الثمر) بما شاء؛ إذ لم يبق فيه لغيره حق، وهذا فائدة التضمين. فإن انتفى الخرص أو التضمين أو القبول .. لم ينفذ تصرفه إلا فيما عدا الواجب شائعاً، ويخير المشتري إن جهل وإن زكىَّ المالك بعد من مال آخر.

نعم؛ إن قال: بعتك هذا إلا قدر الزكاة، وهو العشر مثلاً .. صح، ويرد المشتري قدر الزكاة على البائع؛ لأن له ولاية إخراجها، ولا يصح تصرف المشتري في المبيع قبل إخراج الزكاة أو ردها للمالك، أي: كأن يرد شاة من أربعين مثلاً، وهذا في غير زكاة التجارة. أمَّا هي .. فيصح بيع الكل ولو بعد الوجوب بغير محاباة، وإلا .. بطل في قدرها؛ لأنها متعلقة بالذمة لا بعين المال. ولو تلف المخروص قبل التمكن من أداء الزكاة .. فلا زكاة على المالك، أو تلف بعضه .. زكى الباقي ولو دون نصاب. ولو أتلفه المالك قبل بدو الصلاح .. فلا شيء عليه، أو بعده وقبل التضمين .. لزمه عشر قيمة الرطب عند (حج)، ومثل عشره على ما نقله (سم) عن (م ر). ولو ادعى هلاك المخروص، جاء فيه تفصيل الوديع في دعواه تلف الوديعة، أو الظلم .. لم تسمع دعواه إلا ببينة، أو الغلط في الخرص بما يبعد .. لم تسمع دعواه. نعم؛ يحط عنه القدر المحتمل أو بما لا يبعد كعشر قُبِل إن تلف المخروص، وإلا .. أعيد كيله، وللمالك قطع ما يضر الشجر من الثمر بإذن الإمام إن أمكن. ويندب قطع الثمر نهاراً وإن لم تكن زكوية؛ ليطعم الفقراء مما ليس زكوياً ومما خرص، وضمن حق المستحقين فيه وإلا حرم؛ لشركة المستحقين فيه كما مر. * * *

باب زكاة النقد

(باب زكاة النقد) هو مصدر، معناه: الإعطاء حالاً، أطلق بمعنى المنقود. والمراد به هنا: ما قابل العرض والدين. وقد يطلق على المضروب وحده، ولو عبر بزكاة الذهب والفضة .. كان أولى؛ ليشمل المضروب وغيره. (وزكاته ربع العشر ولو من معدن) والأصل فيه قبل الإجماع. آية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة:34]، فسر الكنز فيها بالمال الذي لم تؤد زكاته، ودلت بمفهومها على: وجوب الزكاة؛ لأن الوعيد الشديد على عدم أدائها يستلزم وجوبها. (ونصاب الذهب عشرون مثقالاً) يقيناً (خالصة) إجماعاً، فلو نقص في ميزان وتم في آخر .. فلا زكاة؛ للشك. (والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً) وهو اثنان وسبعون حبة من شعير لم يقشر، وقطع من طرفيه ما دق وطال، ولم يختلف جاهلية ولا إسلاماً، بخلاف الدرهم. (ونصاب الفضة مئتا درهم إسلامي) خالصة يقيناً بوزن مكة؛ لخبر: "ليس في أقل من عشرين ديناراً شيء، وفي عشرين نصف دينار"، وخبر الشيخين: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" والأوقية أربعون درهماً. (والدرهم) الإسلامي (سبعة عشر قيراطاً إلا خمس قيراط) فيكون خمسين حبة، وخمسي حبة، فهو ستة دوانق؛ إذ الدانق ثمان حبات وخمسا حبة. ومتى زيد عليه ثلاثة أسباع .. كان مثقالاً، أو نقص من المثقال ثلاثة أعشاره .. كان درهماً، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهماً وسبعان (وما زاد) منهما (على ذلك) أي: على ما ذكر فيهما ( .. فبحسابه) وإن قل؛ إذ لا وقص فيهما كالمعشرات؛ لإمكان التجزي فيها بلا ضرورة، بخلاف المواشي، فلا

زكاة فيما دون ما ذكر فيهما ولو بعض حبة وإن راج رواج التام أو أكثر، ويكمل النوع بالنوع لا الجنس بجنس آخر كما مر. (ولا شيء في المغشوش) منهما (حتى يبلغ خالصه نصاباً) فحينئذٍ يخرج خالصاً أو مغشوشاً قدر الزكاة، ويكون متطوّعاً بالغش. ولا يجوز للولي إخراج المغشوش؛ إذ لا يجوز له التبرع بنجاسه ما لم تستغرق مؤنة السبك. قال الشرقاوي: (وقدر العشرين الدينار بالبنادقة -أي: المشاخص- سبعة وعشرون إلا ربعاً، والمئتي الدرهم بالريالات ثمانية وعشرون ونصف تقريباً إن كان في كل واحد درهمان من النحاس، فإن كان فيه درهم .. فخمسة وعشرون ريالاً) اهـ فليراجع. وتجوز المعاملة بالمغشوش معيناً وفي الذمة، لكن لا يجوز بيع بعضها ببعض مطلقاً؛ لأنه من قاعدة مد عجوة ودرهم. ويكره للإمام ضرب المغشوش، ولغيره الضرب مطلقاً، بل يحرم إن كثر غشه، وكان على ضريبة الإمام. ولو اختلط إناء وزنه ألف من أحدهما ست مئة ومن الآخر أربع مئة، وجهل أكثرهما .. زكى ست مئة ذهباً، وست مئة فضة، أو ميز بنار أو ماء. ولو ملك نصاباً نصفه في يده ونصفه مغصوب، أو دين ولو مؤجلاً، أو على معسر .. زكى ما في يده حالاً، والآخر عند قبضه أو قدرته عليه (ولا في الحلي المباح) إذا علمه المالك (ولم يقصد كنزه) سواء اتخذه بلا قصد أو بقصد استعمال مباحٍ، أو بقصد أن يؤجره أو يعيره لمن يحل له؛ لأنه معد لاستعمال مباح في جميع ذلك، فأشبه أمتعة الدار. أمَّا الحلي المكروه كضبة صغيرة لزينة، والمحرم لعينه كإناء من أحدهما، وما حلي به جدار أو مسجد، أو بالقصد كحلي امرأة قصد رجل لبسه، أو سلاح محلى بفضة قصدت امرأة لبسه، ومن المحرم حلي نساء بالغن في السرف فيه، بل وإن لم يبالغن فيه، والسرف: كونه بمقدار لا يعد مثله زينة، بل تنفر منه النفس .. ففي جميع ذلك زكاة. أمَّا إذا لم يعلمه كأن ورثه، ولم يعلم به، ثم مضت أحوال، ثم علمه .. فتجب زكاته؛ لأنه لم يقصد به استعمالاً مباحاً.

ولا يَرِدُ الحلي الذي اتخذه لا بقصد شيء؛ لأن الاتخاذ قريب من الاستعمال، وأمَّا ما قصد كنزه .. فتجب زكاته؛ لما مر. ولو انكسر الحلي المباح، فإن قصد إصلاحه وأمكن بنحو لحام، لا بصوغ .. لم تجب زكاته وإن لم يقصد إصلاحه إلا بعد حول أو أكثر؛ لبقاء صورته ولا أثر لتكسر لا يمنع الاستعمال. فإن لم يقصد إصلاحه أو قصده، وأحوج كسره إلى صوغ جديد، ومضى عليه حول بعد علمه بكسره .. وجبت زكاته. وينعقد حوله من انكساره، فإن لم يعلم بانكساره .. فلا زكاة مطلقاً. ولو كان وزن المحرم مئتين وقيمته ثلاث مئة .. زكى المئتين؛ لأن صنعته محرمة تجب إزالتها، بخلاف المحرم لعارض كحلي لرجل، فالعبرة: بقيمته، فيخير المالك بين أن يخرج ربع عشرة مشاعاً، وبين أن يخرج مصوغاً كخاتم يساوي ربع عشر قيمته. فإذا كان وزنه مئتين، وقيمته ثلاث مئة .. أخرج خاتماً وزنه خمسة، وقيمته سبعة ونصف، ولا يخرج سبعة ونصفاً؛ لأنه ربا. وقياس قول ابن سريج: (أخذ القيمة للضرورة) أخذُ سبعة ونصف، كمن أتلف حلياً ذهباً ونقد البلد ذهب، فيجوز أخذ قيمته ذهباً وإن زادت على وزنه في الأصح. فروع: يحل للمرأة أنواع الحلي من ذهب وفضة، ومنه النعل والتاج وتحلية ما فيه قرآن ولو لوحاً ولو للتبرك وعلاقته بذهب. ويحل للرجل تحلية مصحف بفضة، لا ذهب -نعم؛ له كتابة القرآن بذهب- ولا كتابة كتاب علم بذهب أو فضة. وجرى في "التحفة" على: حرمة التمويه في غير كتابة حروف القرآن مطلقاً. ولو باعت مصحفها المحلى بذهب لرجل .. حرم عليه القراءة فيه إن حصل منه شيء بالعرض على النار، وإلا .. حل. وحرم على رجل وأنثى أصبع من ذهب أو فصة، وعلى غير أنثى حلي الذهب مطلقاً إلا أنف وأنملة لمقطوعهما، ويحل خاتم فضة كما مر ولو لذكر وله، وكذا امرأة وخنثى

تعين عليهما الجهاد تحلية آلة حرب بلا سرف من فضة، كسيف ورمح وجنبية ومنطقة وأطراف السهام، ونحو الدرع والترس والخف وسكين الحرب لا المهنة؛ لأن فيه إرهاباً للكفار. ولا يجوز بذهب؛ لزيادة الإسراف والخيلاء فيه، ولا تحلية ما لا يلبسه كسرج ولجام مطلقاً، والتحلية: جعل عين النقد في محال مفرقة مع الإحكام حتى يصير كالجزء منها، ولإمكان فصلها من غير نقص فارقت التمويه. وقضية تعريفهم هذا للتحلية: أن ما يجعل على غمد نحو السيف ليس من التحلية؛ لعدم انطباق تعريفها عليه، وبه صرح المدابغي، والونائي، وقال: لأنه لم يقاتل بالغمد. واستدلال الشافعية لجواز التحلية بأنه قد ثبت: أن قبيعة ونعل سيفة صلى لله عليه وسلم كانا من فضة يدل: على جواز تحلية الغمد. قال في "المغني": والقبيعة: -بفتح القاف وكسر الباء الموحدة- هي التي تكون على رأس قائم السيف، ونعل السيف ما يكون في أسفل غمده. فانظر إلى استدلالهم بقبيعة سيفه صلى الله عليه وسلم ونعله لصحة التحلية، تجده صريحاً في جواز تحلية الغمد، وفي عدم مطابقة تعريفهم التحلية لما استدلوا به من الحديث؛ لأن الفضة التي في أسفل غمد السيف ليست في محالَّ مفرقة، إلى آخر تعريفهم للتحلية. والكلام حيث لا سرف كتعميم الغمد بالتحلية، وإلا .. حرم وفي غير الخارج عن حد نحو السيف. أمَّا الخارج عنه كالحدوة .. فحرام جزماً لكن أجازه أبو حنيفة بشرط كون بعضه في حد نحو السيف، فليقلده من ابتلي بذلك. تنبيه: محل حرمة الذهب: حيث لم يصدأ، بحيث لم يبن منه شيء، وإلا .. حل؛ لزوال الخيلاء حينئذٍ كما في "التحفة" و"النهاية"، (قالا: كما مر في أناء صدئ، أو غشي) اهـ وربما يفهم تعبيرهما بالتغشية أنه لو غطي بنحو طين أو خرقة .. أنه يحل، وعليه فهو كالحرير، ولكنهم لم يشيروا لذلك.

وكالذهب الفضة المحرمة كالحذوة إذا صدئت، فتحل ولو بما لا يحصل منه شيء بالعرض على النارعلى ما في الآنية عند (حج). (ويشترط الحول في) وجوب زكاة (النقد)؛ لخبر أبي داوود: "ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وكالماشية. نعم؛ لو ملك نصاب نقد ستة أشهر، ثم أقرضه إنساناً .. لم ينقطع الحول كما مر، وكذا لو اشترى بعينه عرض تجارة .. فيبني على حوله فيهما. ولا زكاة في سائر الجواهر كلؤلؤ وياقوت؛ لعدم وروده فيها، ولأنها معدّة لاستعمال مباح، فأشبهت الماشية العاملة. (وفي الركاز) -أي: المركوز- أي: المدفون بالأرض (الخمس) إن إستخرجه أهل الزكاة؛ للخبر الصحيح فيه بذلك، وَلأنه لا مؤنة فيه، بخلاف المعدن. والتفاوت بحسب المؤنة معهود في المعشرات، ويصرف كالمعدن مصرف الزكاة على المشهور؛ لأنه مستفاد من الأرض كالقوت، وقيل: لأهل الخمس. (ولا) يشترط (حول فيه ولا في المعدن)؛ لأنه يشترط لتحصيل النماء فيه، وكلاهما نماء في نفسه. (وشرط الركاز: أن يكون نقداً) ذهباً أو فضة ولو غير مضروبين. وأن يكون (نصاباً) ولو بضمه لِمَا ملكه من جنسه أو عرض تجارة يقوم به. أمَّا غير النقد، والنقد دون النصاب .. فلا شيء فيه؛ لأنه مال مستفاد من الأرض، فاختص فيما تجب فيه الزكاة نوعاً وقدراً. (و) أن يكون (من دفين الجاهلية) وهم من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بعلامة تدل عليه من ضرب أو غيره. (و) أن يوجد (في موات) ولو بدار حرب، أو في خراب أو قلاع أو قبور جاهلية. (أو) في (ملك أحياه) من الموات، أو أرض موقوفة عليه واليد له كما في "النهاية".

فصل: في زكاة التجارة

أمَّا ما وجده على الأرض .. فلقطة إن لم يعلم أنه أظهره نحو سيل، وإلا .. فركاز. أو كان دفين من عاصر الإسلام، وبلغته الدعوة .. فهو فيء. أو وجد بدارنا في طريق نافذ أو مسجد، أو دفنه مسلم، أو من له أمان بموات، أو كان إسلامياً، كأن كان عليه أو معه قرآن أو اسم ملك من ملوك الإسلام، أو شك في كونه إسلامياً .. فلقطة. وأمَّا ما وجد في دار الحرب في ملك حربي .. فغنيمة ما لم يدخل بأمانهم، فيجب رده. وأمَّا ما وجد بدارنا في ملك شخص .. فله، فيحفظ له، فلمن أيس منه فهو لبيت المال كغيره من الأموال الضائعة، فإن نفاه ذلك الشخص .. فلمن ملك منه، ثم لمن قبله، وهكذا حتى ينتهي إلى المحيي، فهو له وإن نفاه عند (حج). وحيث حكم به للمحيي، فعليه خمسه حالاً زكاة الركاز، وزكاة السنين الماضية للباقي كضال وجده. تنبيه: يمنع ذمي من أخذ معدن وركاز بدارنا؛ لأنه دخيل فيها. نعم؛ ما أخذه قبل الإزعاج يملكه كحطبها. * * * (فصل) في زكاة التجارة. ذكرها بعد النقدين؛ لأنها تقوم بهما، وهي من أفضل المكاسب. وأفضلها: السهم من الغنيمة، فالزراعة، فالصناعة، فالتجارة. وصح خبر: "وفي البز صدقته"، وهو الثياب المعدة للبيع والسلاحُ، وزكاة العين لا تجب في هذين، فتعين حمله على زكاة التجارة. وروى أبو داوود: الأمر بإخراج الصدقة مما يعد للبيع. (و) الواجب (في) مال (التجارة) الذي لا زكاة في عينه لولا التجارة، كخيل ورقيق وثياب وغيرها من سائر العروض، وما يتولد منها من نتاج وثمرة وغيرهما (ربع العشر) اتفاقاً في ربع العشر كالنقد؛ لأن عروضها تقوم به.

أمَّا ما في عينه زكاة .. فلا زكاة للتجارة فيه، فإن نقص نصاب العين، كتسعة وثلاثين من الغنم قيمتها: مئتا درهم .. وجبت زكاة التجارة. ومحل ذلك: ما لم يَسبق حولُ التجارة، وإلا كأن اشترى بمال التجارة بعد ستة أشهر من حولها مثلاً نصاب سائمة أو معلوفة للتجارة، فأسامها بعد ستة أشهر .. فتجب زكاة التجارة لانقضاء حولها، ثم يفتتح حولاً لزكاة العين أبداً. ولا يتصور سبق حول العين في السائمة؛ لأنه ينقطع بالمبادلة، بل في نحو الثمر بأن يبدو صلاحه قبل تمام حول التجارة، فيخرج زكاة العين، ثم يفتتح لزكاة التجارة حولها من أداء زكاة العين أبداً، ولو نقصت قيمة النخل مثلاً عن نصاب التجارة .. لا يكمل بقيمة الثمر؛ لأنه أدى زكاة عينه، وما في عينه زكاة لا زكاة للتجارة فيه. ولو زرع للقنية في أرض التجارة .. وجبت زكاة العين في الزرع، وزكاة التجارة في الأرض. (وشروطها) أي: التجارة التي تجب الزكاة في مالها (ستة: الأول: العروض) التي لا تجب الزكاة في عينها لولا التجارة (دون النقد)؛ لوجوبها في عينه، فلا تجب فيه وإن بادل بجنسه؛ لأن التجارة فيه ضعيفة نادرة بالنسبة لغيره، ومرَّ قول ابن سريج: (بشروا الصيارفة أن لا زكاة عليهم). (الثاني: نية التجارة. الثالث: اقتران النية) المذكورة (بالتملك) وكذا في مجلس العقد كما استقر به في "الإمداد". ولا بد من اقترانها بكل ما يملك إلى أن يفرغ رأس مال التجارة، ثُم لا يحتاج إلى تجديد نية بعد ذلك؛ لانسحاب حكم التجارة عليه. (الرابع: أن يكون التملك بمعاوضة) محضة، وهي ما يفسد بفساد العوض، كبيع وإجارة. ومنه: أن يستأجر المنافع كسفينة وبيت ليؤجرها بقصد الربح، وكشراء نحو صبغ أو دباغ ليعمل به للناس بالعوض وإن لم يمكث عنده حولاً، لا لأمتعة نفسه، ولا صابون ليغسل به، ونحوه مما يستهلك؛ إذ لا يقع مسلماً لهم، أي: شأنه ذلك.

أو غير محضة، وهي التي لا تفسد بفساد العوض، كعوض دم ومهر، وعوض خلع نوى به التجارة، فيصير مال تجارة. بخلاف ما ملك بغير معاوضة، كإرث وهبة بلا ثواب وإقالة، ورد بعيب لغرض قنية قصد به التجارة، واقتراض واحتطاب، فلا يصير ذلك عرض تجارة وإن نواها مع تملكه؛ لعدم المعاوضة. والإقالة والرد: فسخ للمعاوضة، لا معاوضة. بخلاف ما لو اشترى بعرضِ تجارةٍ عرضاً آخر للتجارة، فرد عليه عرضه .. فلا تنقطع التجارة فيه. (الخامس: أن لا ينض) مال التجارة (ناقصاً) عن النصاب، (بنقده) الذي يقوم به (في أثناء الحول) فإن نض في أثنائه ناقصاً عن النصاب، كأن اشترى عرضاً بذهب، ثم باعه أثناء الحول بسبعة عشر مثقالاً .. انقطع حول التجارة؛ لتحقق نقص النصاب حساً بالتنضيض، فإذا اشترى بها عرضاً آخر بنية التجارة .. انعقد حولها من شرائها، وهذا إن لم يكن بملكه حال بيعة نقد من جنسه يكمله نصاباً، وإلا .. بقي حولها الأوَّل. ولو اشترى عرض تجارة بعين عشرين ديناراً مثلاً، أو بعين عشرة دنانير، وفي ملكه عشرة أخرى .. فيبني حولها على حول النقد؛ لاشتراكهما في قدر الواجب وجنسه، كما يُبنى حولُ الدين على حول العين من النقد وعكسه، بخلاف ما لو اشتراه بنقد في الذمة، ثم نقد ما عنده فيه .. فينقطع حول النقد. ويبدئ حول التجارة من شرائه؛ لأن صرفه إلى هذه الجهة لم يتعين، بخلافه فيما لو اشتراه بعينه .. فيتعين. نعم؛ لو اشترى عرضاً بنصاب نقدٍَ في ذمته ونقدَ ما عنده في مجلس العقد .. كان كما لو اشترى بعينه، بخلاف ما لو أقبض عن الفضة ذهباً أو عكسه .. فينقطع الحول وإن أقبضه في المجلس. ويبتدئ حوله من شرائه، كما لو اشتراه بعين نقد دون نصاب، وليس في ملكه ما يكمله، أو بعرض قنية؛ لأن ما ملكه به لا حول له حتى يبني عليه. أمَّا لو نض بنقد لا يقوم به، أو يقوم به وهو نصاب .. فلا ينقطع، كما لو باعه بعرض؛ إذ المبادلة لا تقطع حول التجارة.

(السادس: أن لا يقصد القنية) بمال التجارة (في أثناء الحول)، فإن قصدها -ولو محرمة في مالها كله أو بعضه ولو مبهماً عند (م ر)، ويرجع في تعينه إليه- انقطع حول ما نواها فيه بمجرد نيتها، بخلاف مجرد الاستعمال. وإنما أثَّر مجرد نية القنية دون نية التجارة؛ لأن الحبس للانتفاع، والنية محصلة له، والتجارة: التقليب بقصد الربح، والنية لا تحصله، على أن القنية هي الأصل، فيكفي فيها أدنى صارف. (وواجبها: ربع عشر القيمة)؛ لأنها متعلَّق هذه الزكاة، فلا يجزئ إخراجها من عين العرض، كما دل عليه قول عمر رضي الله عنه لمن يبيع الأُدْم: (قومه وأدّ زكاته)، أي: أدّ ربع عشر القيمة آخر الحول. فإن أخر الإخراج بعد التمكن ونقصت القيمة .. ضمن ما نقص؛ لتقصيره، بخلافه قبله. وإن زادت ولو قبل التمكن أو بعد الإتلاف .. فلا يعتبر، ويكتفي بتقويم المالك الثقة. (ويقوم) عرض التجارة ليؤخذ ربع عشر قيمته (بجنس رأس المال) الذي اشترى العرض به وإن لم يكن نصاباً ولا نقد البلد وإن أبطله السلطان، وإن كان غير مضروب .. قوم بالمضروب من جنسه، فإن بلغ به نصاباً .. زكاه، وإلا .. فلا وإن بلغ نصاباً بجنس آخر. ويبتدأ لها حول من آخر الحول الأول، وهكذا وإن مضى سنون، وإدا بلغ نصاباً بما يقوم به .. زكاه منه، لا بد من العين وإن كانت نقد البلد وبلغت نصاباً باعتبارها. (أو بنقد البلد) الغالب (إن ملكه) بنقد، وجهل أو نسي، أو (بعرض) قنية أو نحو نكاح، فإن حال عليه الحول بمحل لا نقد فيه .. اعتبر غالب نقد أقرب البلاد إليه، فإن ساوى نصاباً به .. زكاه، وإلا .. فلا زكاة. فإن غلب نقدان، وتم بأحدهما نصابا .. قوم به، أو بكل منهما .. تخير، ولو ملكه بنقد وعرض؛ كمئتي درهم وعرض .. قوم ما قابل النقد به، والباقي بغالب نقد البلد

وإن كان دون نصاب، أو من أحد الغالبين إذا بلغه به فقط. ويجري ذلك في اختلاف الصفة، كأن اشترى بدنانير صحاح ومكسرة، وتفاوتا قيمة، فيقوم ما يخص كلاً به إن بلغ مجموعهما نصاباً؛ لاتحاد الجنس. (ولا يشترط كونه) أي: مال التجارة (نصاباً إلا في حول آخر الحول) فمتى بلغه آخره .. وجبت زكاته، وإلا .. فلا، سواء اشتراه بنصاب أو دونه، وسواء أباعه بعد التقويم بنصاب أو دونه؛ لأن آخر الحول وقت الوجوب، فقطع النظر عما سواه؛ لاضطراب القيم. ولو قوم آخر الحول بمئتين، وباعه بثلاث مئة؛ لرغبة أو غبن .. ضمت الزيادة إلى الأصل في الحول الثاني، لا الأوّل، وإن قوم بثلاث مئة وباعه بمئتين .. زكى ثلاث مئة. ويضم ربح حاصل في أثناء الحول للأصل في الحول إن لم ينض بما قوم به، وإلا .. فلا ضم، بل يزكى الربح؛ لحوله والأصل لحوله، فلو اشترى في المحرم عرضاً بعشرين ديناراً، وباعه في أوّل رجب بأربعين، واشترى بها فيه عرضاَ آخر، وباعه لتمام الحول بمئة دينار هي قيمته آخر الحول .. زكى خمسين آخر الحول؛ لأن رأس المال عشرون، ونصيبها من الربح ثلاثون، فتزكى مع العشرين؛ لحصوله آخر الحول، ولو ينض قبله؛ وزكى لحول الربح الأول -وهو أوّل رجب- عشرين، ولايزكي معها حصتها من الربح؛ لأنها قد نضت قبل حول أصلها، بل تفرد بحولها، فتزكى لحول الربح الثاني -وهو بعد ستة أشهر أخرى- ثلاثين، وهي نصف الربح الثاني؛ لأن ابتداءه من حين ملكه؛ لتميزه عن الربح الأول بالنضوض قبل حوله. وزكاة مال القراض على مالكه وإن ظهر ربح فيه؛ لأنه ملكه، إذ العامل لا يملك حصته منه إلا بالقسمة، لا بالظهور، فإن أخرجها المالك من غيره .. فذاك، أو منه .. حسبت من الربح، كالمؤن التي تلزم المال، كأجرة كيل ودلال وفطرة عبيدِ تجارةٍ وجناياتهم. * * *

فصل: في زكاة الفطر

(فصل) في زكاة الفطر. أضيفت لأحد سببيها، وهو أول جزء من شوّال؛ لتحقق الوجوب به وإن كان لا بد فيه من رمضان أيضاً، ولذا تصح إضافتها له، فيقال: زكاة الصوم، وزكاة رمضان. ويقال أيضاً: صدقة البدن، وزكاة الأبدان. وزكاة الفطرة، بمعنى القدر المخرج، فبالإضافة بيانية، أي: زكاة الفطرة، أو بمعنى الخلقة، فهي على معنى اللام، أي: أنها تزكية للنفس أو تنمية لعملها. وهي مجمع عليها على ما قيل، وفي الخبر الصحيح: "إنها طهرة للصائم من اللغو والرفث". وورود: "أنّ صوم رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلا بزكاة الفطر" كناية عن توقف تمام ثوابه إلا بها، فلا ينافي حصول الثواب. ووجوبها على الصغير إنما هو بطريق التبع على أنه يمكن أن فيها تطهيراً وتنمية له، لكن لا يعلق صومه كغيره ممن لم يخاطب بها؛ إذ لا تقصير منهم. (وتجب زكاة الفطر بشروط:) منها: (إدراك غروب الشمس ليلة العيد) بأن يدرك حياً حياة مستقرة لذلك، ولآخر جزء من رمضان؛ لإضافتها إلى الفطر في خبر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على كل حر، أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" رواه الشيخان. فالوجوب نشأ من الصوم، والفطر منه، فكان لكل منهما دخل فيه فأسند إليهما، لا لأحدهما؛ لئلا يلزم التحكم، فلا تجب بما يحدث بعد الغروب من نكاح وإسلام وولد وغنى. ولو شك في الحدوث قبل الغروب أو بعده .. فلا وجوب. ولا تسقط بما يحدث بعده من نحو موت وطلاق ولو بائناً، ولو قبل التمكن من الأداء. ولو أخرج زكاة عبده قبل الغروب، ثم مات أو باع العبد قبله .. وجب الإخراج على الوارث أو المشتري.

(و) منها (أن يكون) المخرج عنه (مسلماً) فلا تجب على كافر بالمعنى السابق في الصلاة؛ لأنها طهرة، وليس هو من أهلها. أمّا المخرج .. فقد يكون كافراً؛ لأنه يلزمه فطرة نحو قريبه وعبده المسلمين، لأنها تجب أولاً على المؤدى عنه، ثم يتحملها المؤدّي. وعلى التحمل فهو كالحوالة. فلو أعسر زوج الحرة الموسرة .. لم يلزمها الإخراج، وإنما جاز إخراج المتحمل عنه بغير إذن المتحمل؛ نظراً لكونها طهرة له، فلا تأييد فيه للقول بأنه تحمل ضمان. والكافر المتحمل لها عن المسلم يصح إخراجه لها بلا نية كما في "الروضة" عن الإمام. لكن في "المجموع": أنه ينوي؛ لأن المغلب فيها المالية، لا العبادة. والمرتد إن عاد إلى الإسلام .. أخرجها عن نفسه وعن ممونه، وإلا .. فلا وجوب؛ لأن ماله فيء. ولا فطرة على صغار الأرقاء إلا إن علم إسلام سابيهم. ومنها: أن يكون حراً، أو مبعضا، فلا فطرة على كامل رق، لا عن نفسه ولا عن غيره؛ إذ غير المكاتب لا يملك، وهو ملكه ضعيف لا يحتمل المواساة، وهذا في الكتابة الصحيحة. أمَّا الفاسدة .. فتلزم سيده وإن لم تلزمه نفقته. فعلم أن الرقيق لا تلزمه فطرة زوجته، بل إن كانت أمة .. فعلى سيدها، أو حرة .. فعليها. أمَّا المبعض .. فيلزمه بقسط ما فيه من الحرية، والباقي على مالك باقيه؛ إذ هي تابعة للنفقة، وهي مشتركة كذلك، هذا إن لم تكن مهايأة، أو كانت ووقع جزء من رمضان في نوبة أحدهما، وجزء من شوال في نوبة الآخر، وإلا .. لزمت من وقع زمن الوجوب في نوبته. وكذا شريكان في قن، وولدان في والدٍ تهايأا فيه، والكلام في نفس المبعض. أمَّا مملوكه وقريبه .. فيلزمه جميع فطرته مطلقاً وإن قال الخطيب بالقسط في ممونه أيضاً.

(و) منها (أن يكون) المخرج عن نفسه أو ممونه موسراً، بأن يكون (ما يخرجه فاضلاً عن مؤنته ومؤنة من عليه مؤنته ليلة العيد ويومه)؛ لأن مؤنته ومؤنة ممونه ضرورية، فاعتبر الفضل عنها. والمراد بليلة العيد: المتأخرة عن يومه، كما في النفقات. وإنما لم تعتبر زيادة على يوم وليلة؛ لعدم ضبط ما وراءهما. ويسن لمن طرأ يساره أثناء ليلة العيد أو يومه إخراجها. وأفهم المتن: أنه لا يجب الكسب لها، ومحله إن لم تصر ديناً عليه، وإلا .. وجبت؛ لتعديه. وإنما أوجبوه لنفقة القريب؛ لأن الاضطرار فيها أشد، ولأنه لما وجب لنفسه .. وجب لبعضه أيضاً، وفاضلاً أيضاً عن دينه، ولو مؤجلاً عند (حج)، وإنما لم يمنعها في زكاة المال؛ لتعلقها بعينة فيه. (و) فاضلاً (عن دست ثوب) له أو لممونه (يليق به) أي: بكل منهما، منصباً ومروءة وضعفاً، قدراً ونوعاً، زماناً ومكاناً، حتى ما جرت به عادة أمثاله مما يتجمل به يوم العيد ونحوه، وما يحتاج إليه من الزيادة للبرد .. فيترك له ولو في الصيف؛ لأنه بصدد الاحتياج إليه، ولأنه يبقى للمفلس، والفطرة ليست بأشد من الدين. وكذا لابد من كونه فاضلاً عما اعتيد للعيد من كعك ونحوه. قال الشرقاوي: (ولا يتقيد ذلك بيوم العيد) (و) عن (مسكن وخادم يحتاج إليه). أي: إلى كل منهما له أو لممونه -لأنهما من أموره المهمة، وكالكفارة- إن لاقا به ولم يجد موقوفاً عليه لائقاً به وإن اعتاد السكنى بالأجرة. نعم؛ ثمنهما يمنع فقره ما دام معه، فلو كانا نفيسين يمكن إبدالهما بلائقين به، ويخرج التفاوت .. لزمه ذلك وإن كانا مألوفين. وكالقن أمة احتاجها لنحو تسرًّ له، أمَّا لو احتاج إلى الخادم؛ لخدمة أرضه مثلاً، وللمسكن لإيواء نحو دواب أو ثمرة .. فيباعان في الفطرة، ومثلهما الثوب. ويترك أيضاً للفقيه كتبه، وللجندي سلاحه، وللمرأة حليها، فتمنع الحاجة إلى ذلك -بتفصيله الآتي في قسم الصدقات- وجوبها لم تصر ديناً عليه.

(و) كما تجب عليه الفطرة عن نفسه (تجب) عليه أيضاً (عمن في نفقته) وقت غروب الشمس ليلة عيد الفطر (من المسلمين من زوجة) عليه نفقتها ولو رجعية، أو حاملاً ولو بائناً ولو أمة؛ لوجوب نفقتها، والفطرة تابعة لها، بخلاف بائن غير حامل. وأمَّا خادم زوجته التي يُخدم مثلها عادة .. فإن أخدمها أمته أو أمتها أو أجنبية، ولم يكن لها شيء معين من نفقة أو كسوة أو أجرة ولو بإجارة فاسدة .. لزمته فطرتها، وإن عين لها شيء .. فلا فطرة لها عليه، وبمثله يقال في خادمه. أمَّا من لا يلزمه نفقتها لنحو نشوز أو غيبة أو حبس بدين، أو لعدم تمكين؛ بنحو صغر .. فلا يلزم الزوج فطرتها، ولا فطرة خادمها، ولا نفقتهما، بخلاف نحو مريضة ومن حيل بينه وبينها لعذرها. ولا فطرة عليه لزوجة أبيه وإن لزمه نفقتها؛ لتوقف إعفافه على النفقة دون الفطرة. ولو أعسر الزوج بأن لم يملك شيئاً، أو كان قناً .. لم يلزم زوجته الحرة فطرتها وإن كانت غنية، لكن يسن لها إخراجها؛ خروجاً من الخلاف. وإنما لزمت سيد أمة مزوجة بمعسر؛ لكمال تسليم الحرة دون الأمة؛ إذ للسيد استخدامها والسفر بها. ولو كان الزوج حنفياً .. لم تجب عليه ولا عليها؛ عملاً بعقيدتهما. وفي عكس ذلك يتوجه الطلب عليه وعليها؛ عملاً بعقيدتهما، فأي واحد أخرج عنها من غالب قوت البلد كفى، وسقط الطلب عن الآخر. فإن أخرج الحنفي القيمة، أو من غير غالب قوت البلد على مذهبه .. لم يسقط عن الآخر الطلب. وكذا الواجب عند الحنفي أربعة أرطال فقط، فإذا أخرجها .. لزم الآخر كمال الخمسة والثلث. وممن تجب نفقته دون فطرته: عبد بيت المال والمسجد وموقوف ولو على معين ومَن على مياسير المسلمين نفقته. وممن فطرته على واحد، ونفقته على الآخر قن شرط عمله مع عامل القراض أو المساقاة، ومن أجَّره سيده وشرط نفقته على المستأجر، ومن حج بالنفقة، ففطرة الأولين على السيد، والثالث على نفسه.

(و) من (ولد) وإن سفل (ووالد) وإن علا؛ لعجزهما، بخلاف الوالد الغني بمال، والولد الغني بمال أو كسب لائق به، فلا يجب عليه فطرتهما كنفقتهما. فلو قدر أحدهما على قوت يوم العيد فقط .. لم تجب على أصله ولا فرعه، بل ولا يصح إخراجها عنه إلا بإذنه، وهذا كثير الوقوع، فليتنبه له. (و) من (مملوك) ومنه مكاتب كتابة فاسدة والمدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد والمرهون والمؤجر والموصى بمنفعته والآبق وإن انقطع خبره، وحينئذٍ يتعذر إخراجها عنه إلا على القول بجواز النقل، كما هو الواقع في زماننا، فتأمله. (والواجب) عن كل رأس (صاع) نبوي. وحكمته: أن الفقير لا يجد من يستعمله يوم العيد، وثلاثة أيام بعده غالباً، وهو يحمل نحو ثلاثة أرطال ماء، فيجيء منه ثمانية أرطال، كل يوم رطلان، كذا في "التحفة". لكنه لا يتأتى في نحو الأقط، والصاع لا يصرف لواحد، بل للأصناف الثمانية، أو من وجد منهم، وهو بالدوعني: ميرزه إلا ثلثا من الحب الخالص، فليزد على ذلك بقدر ما فيه من نحو الطين، وبالوزن خمسة أرطال وثلث تقريباً، وإلا .. فالمدار إنما هو على الكيل. بل الأكثر: أن الخمسة الأرطال والثلث لا يجيء منها صاع حب ولا تمر كما جربناه مراراً، وهو برطال دوعن: سبعة أرطال، أو سبعة ونصف على جودة الحب والتمر، وعدمها. فمن أخرج من التمر المرزوم .. فلينتبه، فإنهم يقولون: إنه ستة أرطال، وهو لا يجيء منها صاع، وهذا فيما شأنه أن يكال. أمَّا ما لا يكال كالجبن .. فمعياره الوزن، كما في الربا. وإنما يجزئ صاع (سليم من العيب) المنافي صلاحية الادخار والاقتيات، فلا تجزئ القيمة والمعيب. ومنه: مسوس ومبلول إلا إن جف وعاد؛ لصلاحية الادخار والاقتيات .. فلا تجزئ القيمة والمعيب، ولا قديم تغير بنحو طعم.

قال في "التحفة": (وإن كان قوت البلد، لكن قال القاضي: يجوز حينئذٍ، وقيده ابن الرفعة بما إذا كان المخرج يأتي منه صاع، وفيهما نظر؛ لأنه مع ذلك يسمى معيباً، بل يخرج سليم من غالب قوت أقرب محل إليه) اهـ ولا جبن فيه ملح يعيبه. ويجب كونه (من غالب قوت البلد) أي: محل المؤدّى عنه في غالب السنة؛ لأن نفوس المستحقين إنما تتشوف لذلك، ولا نظر لوقت الوجوب. ومن لا قوت لهم يخرجون من قوت أقرب محل إليهم، فإن استوى محلان، واختلفا واجباً .. خُيِّر. ولو كان الغالب مختلطاً كبر بشعير .. اعتبر أكثرهما، وإلا .. تخير. ولا يخرج من المختلط إلا إن كان فيه قدر صاع من الواجب، وجنسه القوت المعشر السليم، وكذا أقط وجبن ولبن إذا لم ينزع زبد كل منهما، ولم يُفسد جوهر الأولين الملحُ؛ لثبوت بعض المعشر، والأقط في الأخبار، وقيس بهما الباقي. ولا لحم ومخيض وسمن وغيرها مما ليس معشراً، ولا لبناً أو أقطاً أو جبناً وإن كان قوت البلد؛ لانتفاء الاقتيات بها عادة. ويجزئ الأعلى عن الأدنى الذي هو غالب قوت البلد. وفارق عدم إجزاء الذهب عن الفضة: بتعلق الزكاة، ثم بالعين، فتعينت المواساة منها. والفطرة طهرة للبدن، فنظر لما به قوامه وغذاؤه، والأقوات متساوية في هذا الغرض، وتعيين بعضها إنما هو رفق، فإذا عدل إلى الأعلى .. كان أولى في غرض هذه الزكاة. ويؤخذ منه: أن المستحق لو أبى الأعلى وطلب الواجب .. أجيب المالك، وفيه نظر، بل يجاب المستحق. كما لو أبى الدائن غير جنس دينه ولو أعلى وإن أمكن الفرق، قاله في "التحفة". ولا يجزئ الأدنى عن الأعلى الذي هو غالب قوت محله، وفي المساوي خلاف الصحيح: إجزاؤه. لكن في "شرحي الإرشاد": أنه لا يجزئ الجنس المساوي، وأن غلبة النوع كغلبة

الجنس، والاعتبار بكونه أعلى بزيادة نفع الاقتيات. وقد رمز بعضهم لما تجب فيه زكاة الفطر مرتباً الأعلى، فالأعلى، بقوله [من البسيط]: (بـ) ـالله (سـ) ـل (شـ) ـيخ (ذ) ي (ر) مز (حـ) ـكي (مـ) ـثلاً (عـ) ـن (فـ) ـور (تـ) ـرك (ز) كاة (ا) لفطر (لـ) ـو (جـ) ـهلا حروف أولها جاءت مُرَتّبة ... أسماء قوت زكاة الفطر ولو عقلا أي: فأعلاها بر، فسلت، فشعير، فذرة والدخن نوع منها على ما مر، فأرز، فحمص، فماش، فعدس، فول، فتمر، فزبيب، فأقط، فلبن، فجبن. وهذا هو المعتمد وإن قدم بعض المتأخر في "التحفة"، وما نصوا على أنه خير لا يختلف باختلاف البلدان. ولا يجزئ منزوع النوى، بخلاف الكبيس بنواه فيخرج منه ما يأتي صاعاً قبل كبسه يقيناً. وعليه: فليس هو كما لا يكال كالجبن، حتى يكون معياره الوزن. قال (سم): (قضية كون الدخن من الذرة: أنها لا تتقدم عليه، كما لا يتقدم بعض أنواع البر مثلاً على بعض. نعم؛ إن ثبت أنها أنفع منه في الاقتيات .. فينبغي تقديمها، والقياس .. التزامه في أنواع نحو البر إذا تفاوتت في الاقتيات، لكن قضية إطلاقهم يخالفه) اهـ وبقي من المعشرات أجناس لم يذكروا رتبها، كالطهف والدقسة، قال أبو رجاء: وهي الكنب عندنا، والظاهر أنها بعد الذرة. ولا يبعض صاع عن واحد من جنسين وإن كان أحدهما أعلى من الواجب، وإن تعدد المؤدي كشريكين في قن وإن اختلف واجب فطرة أنفسهما؛ لأن العبرة بالمؤدى عنه. كما لا يجوز في الكفارة المخيرة أن يكسو خمسة ويطعم خمسة. أمَّا من نوعي جنس .. فيجوز كما في "التحفة"، وغيرها. وهو يؤيد: ما مر أن أنواع الجنس يقوم بعضها مقام بعض وإن غلب بعضها، أو كان أنفع، وله أن يخرج عن نفسه من جنس يجزئ في الفطرة، وعن ممونة أعلى منه، وعكسه، كما له أن يخرج عن جبران شاتين، وعن جبران آخر عشرين درهماً.

والأصل: أن يخرج من ماله زكاة موليه الغني، ويرجع عليه إن نوى الرجوع. أمَّا الوصي والقيم .. فلا يجوز لهما ذلك إلا بإذن قاض، كأصل لا ولاية له، كأن كان ولده رشيداً، فإن لم يوجد قاض .. أخرجا عنه من مالهما، ورجعا إن نويا الرجوع عليه. وإنما جاز أداء الدين بغير إذن المدين؛ لأنه لا يتوقف على نية بخلاف الزكاة. (وإن قدر على بعضه) أي: الصاع (فقط .. أخرجه) أي: البعض وجوباً؛ إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، ومحافظة على الوجوب ما أمكن. وعند الضيق يجب أن يقدم نفسه ثم زوجته فخادمها فولده الصغير فأباه وإن علا ولو من قِبَل أم فأمه، وقدم الأب هنا على الأم؛ لأن الفطرة للشرف، وهو أشرف، وقدمت في النفقة؛ لأنها للحاجة، والأم أحوج. (ويجوز) لغير ولي (إخراجها) أي: الفطرة (في رمضان) ولو أول ليلة منه؛ لأنها تجب بسببين: رمضان، والفطر منه، فجاز تقديمها كزكاة المال على أحدهما -والتقديم بيومين جائز اتفاقاً، فالحق به الباقي- لا عليهما، وسيأتي شرط إجزاء المعجل، وأن تركه أفضل؛ خروجاً من خلاف مالك وإن كان إخراجها في رمضان أعظم نفعاً. أمّا الولي .. فيجوز له تعجيلها من ماله عن موليه لا من مال موليه. (ويسن) إخراج الفطرة نهاراً في يوم العيد و (قبل صلاة العيد) المفعوله له في وقت الفضيلة أولى؛ للأمر به قبل الخروج إليها في الصحيحين. فإن أخرت عنه .. سن المبادرة بأدائها أول النهار؛ توسعة على المستحقين، بل يكره تأخيرها عن صلاة العيد. نعم؛ تأخيرها لنحو قريب وجار، كزكاة المال أفضل ما لم يؤخرها عن يوم العيد، ولو تعارض الإخراج وصلاة العيد جماعة .. قدم الجماعة ما لم تشتد حاجة المستحقين. وألحق الخوارزمي ليلته بيومه، ووجه بأن الفقراء يهيئونها لغدهم، فلا يتأخر أكلهم عن غيرهم. (ويحرم تأخيرها عن يومه) أي: العيد بلا عذر؛ لأن القصد إغناؤهم فيه؛ لأنه يوم سرور.

فصل: في النية في الزكاة وتعجيلها

فعلم أن لها خمسة أوقات: وقت جواز في رمضان، ووجوب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، وفضيلة قبل صلاة العيد، وكراهة وهو تأخيرها عنها إلا لنحو قريب، وحرمة وهو تأخيرها عن يوم العيد لغير عذر، والعذر كغيبة ماله دون مرحلتين، ولا يلزمه الاقتراض. فإن غاب لمرحلتين فأكثر .. لم تجب عليه؛ لأنه حينئذٍ في حكم الفقير. * * * (فصل) في النية في الزكاة وتعجيلها. (وتجب النية) بالقلب، وتسن باللسان (فينوي) المزكي (هذه زكاة مالي) ولو بدون الفرض؛ لأنها لا تكون إلا فرضاً كرمضان. والأفضل: نية الفرضية معها (ونحو ذلك) كهذا صدقة مالي، أو صدقة المال المفروضة أو الواجبة، بخلاف صدقة مالي؛ لأنها قد تكون نافلة، وبخلاف فرض مالي؛ لأنه قد يكون غير زكاة، ككفارة. ولا يجب تعيين المال المخرج عنه الزكاة في النية، فلو كان عنده خمس من الإبل، وأربعون شاة، فأخرج شاة أنثى ناوياً بها الزكاة ولم يعين .. أجزأه وإن ردد فقال: عن الإبل أو الغنم. فلو تلف أحدهما .. جعلها عن الباقي، ولو عين .. لم تقع عن غيره. فإن قال: عن كذا إلا إن كان تالفاً .. فعن غيره، فبان تالفاً .. وقع عن غيره، فإن تعدد الغير .. جعله عما شاء منه. ويأتي ذلك في مئتي درهم حاضرة، ومئتين غائبة عن المجلس أو عن البلد، وجوزنا النقل. ومن شك في زكاة في ذمته، فأخرج عنها إن كانت، وإلا .. فمعجلة عن زكاة تجارته مثلاً .. أجزأه عما في ذمته إن لم يبن الحال، واغتفر تردده في النية؛ للضرورة.

ولو أخرج أكثر مما عليه بنية الفرض والنفل بلا تعيين .. لم يجزئه، أو بنية الفرض فقط .. صح، ووقع الزائد تطوعاً. ولو شك في نية الزكاة بعد دفعها .. لم يضر عند (ح ف)، فارقاً بينها وبين الصلاة بأن الصلاة عبادة بدنية وهذه مالية. وللولي أن يفوضها للسفيه، بل قال (سم): تكفي نيته وإن لم يفوضها الولي إليه، كما وافق عليه (م ر). وتكفي النية عند عزل المال عن الزكاة وبعده، وعند دفعها للإمام أو الوكيل. والأفضل: أن ينويا عند تفريقها أيضاً، بل تجب إن دفعها الوكيل من ماله بإذن المالك. وله أن يوكل فيها أهلاً لها لا صبي مميز وقن. ولو أفرز قدرها بنيتها .. لم يتعين إلا بقبض المستحق لها بإذن المالك عند (حج). قال: (وإنما تعينت المعينة للأضحية؛ إذ لا حق للفقراء ثَمَّ في غيرها، وهنا حق المستحقين شائع في المال؛ لأنهم شركاء بقدرها، فلم ينقطع حقهم إلا بقبض معتبر. وبه يرد جزم بعضهم: أنه لو أفرز قدرها بنيتها .. كفى أخذ المستحقين لها من غير أن يدفع إليهم المالك. ومما يرده قولهم: لو قال لآخر: اقبض ديني من فلان، وهو لك زكاة .. لم يكف حتى ينوي هو بعد قبضه، ثم يأذن له في أخذها. ويوجه بأن للمالك بعد النية، والعزل: أن يعطي ويحرم من يشاء) اهـ وخالفه (م ر)، فقال: (ولو نوى الزكاة مع الإفراز، فأخذها صبي أو كافر ودفعها لمستحقها، أو أخذها المستحق، ثم علم المالك .. أجزأه) اهـ ويؤخذ منه أنه لو أعطاه زكاة ليعطيه لزيد، فأعطاها لمستحق آخر .. أجزأته. لكن اعترضه الرشيدي بقوله: (انظر هذا مع ما مر له أنه لا بد من تعيين المدفوع إليه لهما، أي: الصبي والكافر) اهـ ولو قال: تصدق بهذا، ثم قبل تفرقته نوى به الزكاة .. أجزأ عنها.

وأفتى بعضهم: بأن التوكيل المطلق في إخراجها يستلزم التوكيل في نيتها. واستوجه في "التحفة": أنه لا بد معه من نية المالك، أو تفويضها للوكيل. ولو دفعها للإمام أو الوكيل بلا نية .. لم تجزه وإن نوى الإمام أو الوكيل. ولو امتنع من أدائها .. أخذها الإمام منه قهراً، فإن نوى بها الزكاة .. أجزأه، وإلا .. وجبت النية على الإمام، فإن نوى، وإلا .. ضمن. واعلم: أن للزكاة وقت وجوب، ووقت جواز، فإذا حال الحول على المال الزكوي .. وجبت الزكاة وإن لم يتمكن المالك من أدائها؛ إذ التمكن شرط للضمان، لا للوجوب. فإذا تمكن .. وجب أداؤها فوراً، بأن حضر المال، أو قدر عليه، وحضر المستحق، وخلا المالك من مهم ديني ودنيوي، وزال حجر فلس، وجفف ثمر ونقي حب ومعدن. فإن أخر الأداء بعد التمكن .. أثم، وضمن إن تلف المال قدر الزكاة. نعم؛ إن لم يشترط ضرر المستحقين الحاضرين .. ندب التأخير؛ لانتظار نحو قريب أو جار أو أفضل. فإن اشتد ضررهم .. حرم، ويضمن بالتأخير مطلقاً. والأظهر: أن صرفها للإمام أفضل؛ لأنه أعرف بالمستحقين، وأقدر على التفرقة والاستيعاب، وقبضه مبرئ يقيناً إلا إن كان جائراً في الزكاة، فالأفضل أن يفرقها المالك أو وكيله مطلقاً. لكن في "المجموع": أن دفع زكاة المال الظاهر إليه ولو جائزاً أفضل. ولو طلبها عن مال ظاهر .. وجب دفعها إليه اتفاقاً. (ويجوز) لمالك لا ولي؛ لما مر في تعجيل الفطرة (تعجيلها قبل) تمام (الحول) وبعد انعقاده، بأن توجد شروط التجارة المارة فيها، ويملك النصاب في غيرها؛ لما صح: (أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيه للعباس قبل الحول)، ولأن لوجوبها سببين: الحول والنصاب، وما له سببان .. يجوز تقديمه على أحدهما، كتقديم كفارة اليمين على الحنث.

وخرج بـ (بعد انعقاد حوله): التعجيل لأكثر من عام، فلا يصح فيه؛ لعدم انعقاد حوله، فإن عجل لعامين .. أجزأه عن الأول. وقال (حج): إن ميز واجب كل عام. ويجوز التعجيل في الفطرة أول رمضان كما مر، ولنابت بعد وجوبها فيه ولو قبل جفاف وتنقية؛ لإمكان معرفتها تخميناً، ثم إن بان نقص .. كملها، أو زيادة .. فهي تبرع. (وشرط إجزاء المعجل) في جميع ما مر (أن يبقى المالك أهلاً للوجوب) عليه وبقاء المال (إلى آخر الحول) أو جفاف ثمر وتنقية حب أو دخول شوَّال. فلو مات أو افتقر أو تلف المال أو خرج عن ملكه وليس مال تجارة .. لم يقع المعجل زكاة، ولا يضر تلف المعجل. ويشترط أيضاً: أن لا يتغير الواجب، وإلا كأن عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين، فبلغت بالتوالد ستاً وثلاثين في الحول .. لم تجز وإن صارت بنت لبون، بل يستردها ويعطيها أو غيرها. ولو نوى بها الزكاة وهي باقية بيد المستحق، ومضى بعد النية زمن يمكن فيه القبض .. أجزأت. قال الكردي: إن كانت المعجلة باقية، وإلا .. أجزأت وإن لم تكن بنت لبون. (وأن يكون القابض في آخر الحول) أي: وقت الوجوب (مستحقاً). فلو مات أو استغنى بغير المعجل كزكاة أخرى، وكذا إن غاب المال أو الآخذ عن بلد الوجوب عند (حج) .. لم يجزئ المعجل؛ لعدم أهليته عند الوجوب، واعتمد (م ر): أنه لا يضر غيبتهما. قال الشرقاوي: قرر شيخنا (ح ف): أنه لا يضر غيبة الدافع عن محل الوجوب في زكاة الفطر. ولو مات المدفوع له مثلاً .. لزم المالك الدفع ثانياً. ولو بان القابض غير مستحق يوم القبض .. استرد منه وإن كان آخر الحول مستحقاً، ولا يضر الشك في ذلك.

(وإذا لم يجزئه) المعجل؛ لفوات شرط مما مر ( .. استرد) من القابض (إن علم القابض) عند قبضه أو بعده وقبل خروجه عن ملكه (أنها) أي: العين المعجلة (زكاة معجلة) ولو بقول المالك. أمَّا قبل المانع .. فلا يسترد مطلقاً كمتبرع بتعجيل دين مؤجل وإن شرط أن له ذلك، والقبض مع ذك صحيح إن علم بفساد الشرط؛ لتبرعه بالدفع. أمَّا لو لم يعلم القابض التعجيل .. فلا استرداد. وإذا اختلفا في موجب استرداد، كشرط المزكي له لمانع يعرض، وعدم استحقاقه عند القبض أو الوجوب .. صدق القابض ووريثه بيمينه؛ لأن الأصل عدمه، ولاتفاقهما على ملك القابض له، والأصل بقاؤه. وفيما لو اختلفا في علم القابض التعجيل .. يحلف على نفي علمه به. وإذا ثبت الاسترداد والمعجل باق في ملك القابض .. استرد، وإلا .. فبدله من مثل أو قيمة، ولا يجب هنا المثل صورة مطلقاً. والعبرة بقيمة وقت قبض، لا وقت تلف؛ لأن ما زاد حصل في ملك القابض، فلا يضمنه. ويسترد ذلك بزيادة متصلة كسمن وتعلم صنعة، لا بزيادة منفصلة كثمرة وولد، ولا بأرش نقص صفة، وهو ما لا يفرد بعقد كمرض، وسقوط جزء كيد إن حدثت المنفصلة ونقص الصفة قبل سبب الرد؛ لحدوثهما في ملك القابض، كما لو رجع الواهب في هبته، فوجد الموهوب ناقصاً. والرجوع إنما يرفع العقد من حينه، لا من أصله، ولذا لو تبين القابض غير مستحق عند القبض .. رجع عليه بها وبأرش النقص مطلقاً؛ لتبين عدم ملكه له. أمَّا لو حدثا بعد سبب الرجوع أو معه .. فيستردهما إن علم قابض التعجيل قبل تصرفه في المقبوض. وأمَّا نقص العين، وهو ما يفرد بعقد، كتلف إحدى الشاتين .. فيضمن بدله قطعاً، ولا شيء للقابض إذا أنفق على المقبوض، ثم رجع فيه الدافع؛ لأنه إنما أنفق على نية أن لا يرجع؛ قياساً على مشتر شراء فاسداً أنفق، كذا في (ب ج) عن (ع ش) وهو ظاهر، وإن نقل الكردي عن "الإيعاب": أنه يرجع.

والزكاة تتعلق بالمال الذي تجب في عينه تعلق الشركة بقدرها؛ لأنها تجب بصفة المال جودة ورداءة، وتؤخذ من عينه قهراً عند الامتناع. وإنما جاز الإخراج من غيره؛ رفقاً بالمالك. فإن باع ما الواجب فيه من جنس المال المزكى كأربعين شاة .. بطل في قدرها شائعاً، وهو جزء من كل شاة، فيرد شاة من الأربعين للمستحقين، ويصح، ولـ (سم) إشكال فيه بينته في "الأصل". ولو عزل قدر الزكاة بنيتها ثم باع الباقي .. صح على خلاف فيه، ولمشتر جهل .. الخيار، وأجرى ذلك: (سم) في الثمر. فيصح البيع إذا أفرز قدر الزكاة بنيتها في الجميع، وغير الثمر مثله كنقد؛ إذ لا خصوصية لشيء منها، وإن كان الواجب من غير جنس المال كشاة في خمس من الإبل ملك المستحقون بقدر قيمتها من الإبل، فلو باع الخمس من الإبل قبل إخراج الشاة بطل في الجميع؛ للجهل بقيمة الشاة وحصتها من الإبل. أمَّا ما تعلقت الزكاة بقيمة كمال التجارة .. فيصح بيع جميعه؛ لأن القيمة لا تفوت بالبيع. نعم؛ إن باعه بمحاباة .. بطل فيما قيمته قدر الزكاة من المحاباة. ولو رهن المال الزكوي فتم حوله، وله مال آخر .. أخذت زكاته من الآخر، وإلا .. فمن المرهون، ولا يلزم الراهن بدل الزكاة إذا أيسر، ليكون رهناً مكانه، ولا خيار للمرتهن. ومن له دين حلَّ، وقدر على استيفائه .. لزمه إخراج زكاته حتى للأحوال الماضية إلى أن ينقص عن النصاب، وليس عنده ما يكمله. كما تجب في ضال ومجحود ومغصوب ومرهون وغائب، وما اشتراه وتم حوله قبل قبضه أو حبس عنه بأسر، ونحوه لملك النصاب وتمام الحول. لكن لا يجب الإخراج إلا عند عود الضال والمغصوب، وأن يسهل الوصول إلى الغائب، فيخرجها حينئذٍ عن جميع الأحوال الماضية بشرطه المتقدم. والغائب يجب الإخراج عنه في بلد المال. قال الكردي: فإن كان سائراً .. لم يجب الإخراج حتى يصل لمالكه أو وكيله، فإن كان أحدهما سائراً معه .. صرف إلى فقراء أقرب البلاد إليه. * * *

فصل: في صرف الزكاة إلى مستحقيها

(فصل: ويجب صرف الزكاة) ولو فطرة. لكن اختار جميع جواز صرفها إلى ثلاثة فقراء أو مساكين، وآخرون جوازه للواحد، فالعمل به ليس خارجاً عن المذهب. (إلى الموجودين من الأصناف الثمانية)؛ للآية المشار فيها بلام الملك في بعضها، ولأن الواو للتشريك، فقول المخالف -القصد بيان مجرد الصرف، وأنه يجوز دفعها ولو لواحد- يحتاج لدليل، على أنّ القاعدة الأصولية: من الأخذ بالأحوط عند التعارض يؤيد مذهبنا لو قلنا: بأنَّ الواو محتملة الأمرين. والموجود منهم الآن في هذه البلاد أربعة: الفقراء والمساكين والغارمون وابن السبيل. (وهم: الفقراء) -جمع فقير- وهو من لا نفقة له واجبة ولا مال ولا كسب حلال، يقع جميعها أو مجموعها موقعاً من كفايته مطعماً وملبساً ومسكناً، وغيرها مما لابد منه على ما يليق به وبممونه، كمن يحتاج لعشرة ولم يجد إلا أربعة فما دون. وقضيته: أن الكسوب غير فقير وإن لم يكتسب، وهو كذلك هنا، وفيمن تلزمه نفقة بعضه. لكن الأصل الفقير تجب مؤنته وإن قدر على الكسب؛ لحرمته، وفي بعض صور الحج. لكن الكسب لا يخرج عن الفقر إلا إن لاق به من غير مشقة لا تحتمل عادة. ووجد من يستعمله. وعليه: فالملوك ونحوهم وأتباعهم فقراء؛ إذ لا مال لهم حلال، ولا قدرة لهم على كسب لائق بهم. ومن له مال وعليه دين .. غير فقير حتى يصرفه في دينه، وهذا في فقير الزكاة، لا فقير غيرها كما بينته في "الأصل".

(و) الصنف الثاني: (المساكين) وهو من له ما يسد مسداً من حاجته بملك أو منفق أو كسب حلال على ما مر، ولا يكفيه الكفاية اللائقة بحاله مما مر، كمن يحتاج لعشرة، وعنده سبعة أو ثمانية وإن ملك أكثر من نصاب. والمراد: أن لا يكفيه للعمر الغالب؛ أي: ما بقي منه باعتبار الآخذ، لا ممونه؛ لأن القصد إغناؤه، ولا يحصل إلا بذلك. فإن زاد عمره عليه .. أعطي سنة سنة، والعمر الغالب ستون سنة، ومن له عقار ينقص دخله عن كفايته .. فقير أو مسكين. نعم؛ إن كان نفيساً ولو باعه حصل بثمنه ما يكفيه دخله للعمر الغالب .. لزمه بيعه. ولا يمنع الفقرَ والمسكنة مسكنه الذي يحتاجه لسكناه، أو سكنى مموَّنه ولاق به وإن اعتاد السكنى بأجرة ولم يجد نحو موقوف عليه، ولا ثيابُهُ المحتاج إليها ولو لتجمل في بعض الأيام وإن تعددت إن لاقت به، ولا حلي امرأة لائق بها، وقنه المحتاج لخدمته له، أو لممونه إن شق عليه خدمة نفسه، أو كانت تخل بمنصبه، ولا كتبه المحتاج إليها ولو نادراً، كمرة في سنة ولو لطب أو تاريخ أو وعظ. ولو تعددت عنده كتب من فن .. بقيت كلها لمدرس، والمبسوط لغيره. أو كان عنده نسخ من كتاب .. أبقي له الأصح. وإن كانت إحدى النسختين كبيرة الحجم والأخرى صغيرته .. أبقيتا لمدرس؛ لاحتياجه لحمل الصغيرة إلى درسه، وغيره يبقى له الأصح. وقال الشرقاوي: يبقى له كلها؛ إذ الصحيحة لا تخلو عن سقم، فيحتاج لثانية. ولا آلة المحترف، كخيل جندي إن لم يعطه الإمام بدلها. وثمن ما ذكر ما دام معه يمنع فقره ومسكنته حتى يصرفه فيه. ولا يمنعهما ماله الغائب لمرحلتين، ولا حاضر حيل بينه وبينه، ولا المؤجل؛ لأنه معسر، فيعطى حتى يصله، أو يحل، أو يجد من يقرضه. ولو اشتغل عن الكسب بفرض كفاية، كعلم شرعي، أو آلة له، أو صلاة جنازة .. فهو فقير، فيعطى به إن لم يكتسب معه وأمكن تحصيله له، أو بنوافل من صلاة أو غيرها .. فلا؛ إذ نفعه غير متعد. نعم؛ لو نذر صوم الدهر ومنعه صومه عن الكسب .. أعطي؛ للضرورة.

كما لو احتاج لنكاح ولا شيء معه .. فيعطى ما يصرفه فيه والمكفي بنفقة نحو قريب غير فقير. نعم؛ للمنفق وغيره أن يعطيه بغير الفقر والمسكنة كغرم، ولو لم يكفه -نحو قريبه- الكفاية التامة .. جاز أن يعطى من سهم الفقراء أو المساكين تمامها، ولو ممن تلزمه نفقته وإن أثم بترك تمام كفايته. ولو سقطت نفقة الزوجة بنشوز .. لم تعط؛ لقدرتها على النفقة برجوعها للطاعة. ولو غاب المنفق ولم يترك منفقاً ولا مالاً .. أعطي قريبه وزوجته بالفقر أو المسكنة. والمعتدة التي لها نفقة كالتي في العصمة. ويسن للزوجة أن تعطي زوجها من زكاتها وإن أنفقه عليها. (و) الصنف الثالث: (الغارمون) -أي: المدينون- وهم أنواع: الأول: من استدان لدفع فتنة بين متنازعين وإن كان ثمَّ من يسكنها غيره .. فيعطى ما استدانه إن حل ولم يوفه من ماله وإن كان غنياً ولو بنقد وغيره؛ لعموم نفعه. الثاني: من استدان لقرى ضيف وبناء مسجد أو قنطرة أو فك أسير أو نحوها من المصالح العامة .. فيعطى وإن كان غنياً بغير نقد إن حل الدين ولم يوفه من ماله. بل لو قيل: يعطى ولو غنياً بنقد .. لم يبعد. ولا يجوز دفع الزكاة لبناء نحو مسجد ابتداء. الثالث: من استدان لنفسه، وصرفه في غير معصية أو لها، وتاب وظهرت قرائن صدقة وإن قصرت المدة، أو لمباح وصرفه في معصية إن عرف قصد الإباحة، أولا، لكن لا يصدق فيه، بل لا بد من بينه. وتعتمد البينة القرائن المفيدة له كالإعسار .. فيعطى في جميع ما ذكر قدر دينه إن حل وعجز عن وفائه. ثم إن لم يكن معه شيء .. أعطي الكل، وإلا .. فإن كان بحيث لو قضى دينه مما معه تمسكن .. ترك له مما معه ما يكفيه العمر الغالب. ثم إن فضل شيء .. صرفه في دينه، وتمم باقيه، وإلا .. قضي عنه الكل. ومن الاستدانه لمعصية إتلاف مال غيره عمداً، والإسراف في النفقة من دين.

ومحل إباحة صرف المال في اللذات فيمن يصرفه من ماله، أو من دين يرجو وفاءه من جهة ظاهرة. الرابع: الضامن، فيعطى إن أعسر وحل الدين، وكان ضامناً لمعسر أو موسر لا يرجع هو عليه، كأن ضمن بغير إذنه. ومن قضى دينه بنحو قرض .. أعطي لبقاء دينه ما يوفي به قرضه. بخلاف من مات ولم يخلف وفاءً؛ لأنه ليس من أهل الاستحقاق. ولا يحبس عن مقامه الكريم من استدان لنفع عام. تنبيه: دفع لمدينه زكاة بشرط أن يردها له عن دينه، لم يجز، فإن نويا ذلك بلا شرط .. لم يضر، وكره؛ لقاعدة: كل شرط ضر التصريح به كره إضماره. وكذا إن وعد المدين بذلك وحده، ولا يلزمه الوفاء بوعده. ولو قال لمدينه: أعطني ديني، وأرده لك زكاة، فأعطاه .. برئ المدين، ولا يلزم دائنه إعطاؤه. ولو قال: جعلت الدين الذي لي عليك زكاة .. لم يجز، بل لا بد من قبضه ودفعه له عن الزكاة إن شاء. (و) الرابع: (أبناء السبيل) الشامل للذكر والأنثى، سمُّوا بذلك؛ لملازمتهم الطريق. (وهم المسافرون، أو المريدون السفر المباح) ولو مكروهاً (المحتاجون) بأن لم يكن معهم ما يكفيهم لسفرهم. فمن سافر كذلك ولو لنزهة، أو كان غريباً مجتازاً بمحل الزكاة .. أعطي ولو كسوباً جميع كفاية سفره، ذهاباً وإياباً إن قصد الرجوع، وإن كان له مال بغيره ولو دون مسافة قصر، أو وجد من يقرضه. ويفرق بين هذا وما مر من اشتراط مسافة القصر، وعدم وجود مقرض بأن الضرورة في السفر أشد، والحاجة فيه أغلب. ومن ثم لم يفرقوا فيه بين القادر على الكسب وغيره ولو بلا مشقة؛ إذ حاجته هنا متحققة دون ما مر.

ويعطى أيضاً ما يحمله إن عجز عن المشي أو طال سفره، وما يحمل عليه زاده، ومتاعه إن عجز عن حمله. أمَّا في سفر المعصية .. فلا يعطى؛ لأن القصد إعانته على سفره، ولا إعانة لعاص، فإن تاب .. أعطي لبقية سفره. وجعل من سفر المعصية سفره بلا مال -ويجعل نفسه كَلاّ على غيره- ومعه مال. (و) الصنف الخامس: (العاملون عليها) أي: من نصبه الإمام لأخذ الزكوات، ولم يجعل له أجرة من بيت المال، وإلا .. سقط. كما لو فرقها المالك بنفسه أو وكيله، وهم كساع يجبيها، وبعثه واجب وشرط فيه دون من بعده؛ كونه أهلاً للشهادة؛ إذ هو الأصل والباقون أعوان له، فيكفون ولو كفاراً، وككاتب وقاسم وحاشر يجمع ذوي الأموال أو السُّهْمان. والعريف: الذي يعرف أرباب الاستحقاق. والحاسب والحافظ والجندي والكيال والوزان والعداد الذين يميزون بين أنصباء المستحقين، وليس منهم الإمام والوالي والقاضي، بل رزقهم من خمس خمس المصالح؛ لأن عملهم عام. وقضيته: دخول قبض الزكاة وصرفها في ولاية القاضي، وهو كذلك إن لم يعين لها الإمام غيره، وله الأخذ من سهم الغارم إن استدان لإصلاح، ومن سهم الغازي. ولو منع حقه من بيت المال، أو كان في محل لا بيت مال فيه .. أخذ بنحو الفقر والغرم مطلقاً. (و) السادس: (المؤلفة قلوبهم، وهم) أصناف: الأول: (ضعفاء النية في) أهل الإسلام بأن تكون عنده وحشة منهم، أو في (الإسلام) نفسه؛ بناءً على أن الإيمان يزيد وينقص، بل وعلى مقابله؛ لأنه يزيد عليه بزيادة ثمرته وإشراق نوره، فيعطون؛ ليتقوى إسلامهم. وهذا بناء على اتحاد الإيمان والإسلام، أو أن المراد بالإسلام الأعمال، ولا كلام في زيادتها ونقصها. (و) الثاني: (شريف في قومه) مسلم بحيث (يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه) ولو امرأة.

والثالث: مسلم يقاتل، أو يخوف مانعي الزكاة حتى يحملها إلى الإمام. والرابع: من يقاتل من يليه من الكفار والبغاة، فيعطيان إن كان إعطاؤهما أسهل من بعث جيش. وحذفهما المصنف؛ لأن الأول في معنى العامل، والثاني في معنى الغازي. وفي اشتراط إعطائهم الحاجة إليهم نظر بالنسبة إلى الأولين. وكفى بالضعف والشرف حاجة، وكذا الأخيران، فاشتراط كون إعطائهما أسهل من بعث جيش يغني عن اشتراط الاحتياج. ولا يعطى كافر لا لتألف ولا غيره؛ إذ قد أعز الله الإسلام، وأغنى عن التألف. وقضيته: أنه لو حصل ضعف بالإسلام .. جاز، ولا يختص التألف بالإمام. (و) السابع: (الغزاة المتطوعون) بالجهاد، بأن لم يكن لهم سهم في ديوان المرتزقة من الفيء. وهم المراد بـ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة:154] في الآية، وضع على هؤلاء؛ لأنهم قاتلوا بلا مقابل، فيعطون ولو أغنياء؛ إعانة لهم على الغزو؛ لأنهم لا حظَّ لهم في الفيء، كما لا حظ لأهله في الزكاة. (و) الثامن: (المكاتبون كتابة صحيحة) كما فسر بهم الآية أكثر العلماء، فيعطون إن لم يكن معهم وفاء وإن قدروا على وفاء دينهم بالكسب، بخلاف الفاسدة فلا يعطى لها من الزكاة. وشرط آخذ الزكاة من هذه الأصناف: الحرية الكاملة، فلا يعطى رقيق ولو مبعضاً إلا المكاتب. والإسلام، فلا يعطى منها كافرٌ إجماعاً إلا في العامل كما مر. وأن لا يكون هاشمياً، ولا مطلبياً؛ لخبر مسلم: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد" وألحق بهم: مواليهم؛ لخبر: "مولى القوم منهم". والأظهر: أنهم لا يعطون وإن منعوا حقهم من خمس الخمس؛ لكونها أوساخاً كما في الحديث، لكن ذهب جم غفير إلى جوازها لهم إذا منعوا مما مر، وأنَّ علة المنع مركبة من كونها أوساخاً، ومن استغنائهم بمالهم من خمس الخمس، كما في حديث

الطبراني وغيره، حيث علل فيه بقوله: إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم، وقد منعوا مما لهم من خمس الخمس، فلم يبق للمنع إلا جزء علة، وهو لا يقتضي التحريم. لكن ينبغي للدافع إليهم الزكاة أن يبين لهم أنها زكاة، فلربما يتورع من دفعت إليه منهم منها. ومن شرط الآخذ أيضاً: أن لا يكون مموناً للمزكي أو غيره؛ لأنه غير فقير على ما مر، وأن لا يكون محجوراً عليه. ومن ثم أفتى النووي في بالغ تارك الصلاة: أنه لا يقبضها له إلا وليه. ويجوز دفعها لفاسق إلا إن علم أنه يصرفها في معصية .. فيحرم وتجزئ. * * * فصل: من علم دافعُ الزكاة من إمام أو مالك حالَه .. عمل فيه بعلمه، فيعطي من علم استحقاقه، ويمنع من علم عدم استحقاقه، ومن جهل حاله: فإن ادعى ضعف إسلام .. أعطاه بلا يمين ولا بينة. وإن ادعى فقراً أو مسكنة، أو أنه غير كسوب .. فكذلك، إلا إن ادعى عيالاً أو تلف مال عرف .. فيكلف بينة. ومثله مدعي أنه عامل أو مكاتب أو من المؤلفة .. فيكلفون بينة، أي: رجلين، أو رجل وامرأتين ولو بغير لفظ شهادة أو استشهاد قاض. ويغني عنها استفاضة وإخبار من وقع في القلب صدقه ولو نحو الدائن في المدين. وأمَّا بيان قدر ما يعطاه كلٌّ .. فيعطى فقير ومسكين كفاية ما بقي من عمره الغالب وهو ستون سنة كما مر، فإن زاد عمره على ذلك .. أعطي كفاية سنة فسنة. والمراد أنه يعطى ثمن ما يكفيه دخله لذلك، فيشتري له عقار، أو ماشية أو نحوهما، بحسب حاله يستغله ويكتفي به عن الزكاة، ويملكه، ويورث عنه، لكن ليس له إخراجه عن ملكه. ولو ملك دون كفاية العمر الغالب .. كمل له من الزكاة كفايته، حتى لو كان له تسعون، وكان لا يكفيه إلا ربح مئة .. كمل له المئة إن كانت التسعون لو أنفقها .. لا تكفيه للعمر الغالب، فإن كانت تكفيه للعمر الغالب .. لم تكمل له العشرة؛ لأنه غني، وإن كان ربحها لا يكفيه لذلك.

فالربح والعقار إنما يعتبران إذا كان النقد لا يكفيه للعمر الغالب، وربحه أو غلة عقار يشتري به ما يكفيه لذلك. وأمَّا إذا كان نقد يكفيه لذلك .. فهو غني، ولا حق له في الزكاة، وهذا ظاهر إن شاء الله. ويؤيده أنه إنما يعطى عقاراً مثلاً يبقى بقية عمره فقط إن أمكن، وإلا .. فيعطاه وإن بقي أكثر من ذلك؛ للضرورة. فالمقصود: كفاية بقية العمر الغالب بنقد أو ربح أو استغلال عقار، بل النقد هو الأصل. فإذا كفى .. لم يكن لاعتبار غيره معنى؛ لحصول الغنى به. وإنما أطلت هنا، وفي "الأصل"؛ لأنه أشكل على بعض الأجلاء. ومن يحسن الكسب بحرفة .. يعطى ما يشتري به آلاتها، أو بتجارة .. فيعطى ما يشتري به ما يحسن تجارته لما يفي ربحه بكفايته غالباً. فالبقلي يكفيه خمسة دراهم، والباقلاني عشرة، والفاكهي عشرون، والخباز خمسون، والعطار ألف، والبزاز ألفان، والصيرفي خمسة الآف، والجوهري عشرة آلاف، وكل ذلك تقريب، وإلا .. فيزيد وينقص بحسب الزمان والمكان والحال. ويعطى ابن السبيل ما يوصله مقصده -بكسر الصاد- أوماله إن كان له مال بطريقه. فلا يعطى مؤنة إيابه إن لم يقصده، ولا مؤنة إقامته الزائدة على مدة إقامة المسافر. ويعطى مكاتب وغارم قدر دينهما. ويعطى غاز حاجته في غزوه نفقة وكسوة له ولممونه وقيمة سلاح وفرساً، إن كان فارساً، ذهاباً وغياباً إن لم يقصد عدم الإياب، وإقامة وإن طالت؛ لأن اسمه لا يزول عنه بذلك، بخلاف ابن السبيل، وإذا أعطاه ما ذكر .. ملكه، فلا يسترد منه إلا ما فضل. وللإمام أن يكتري السلاح والفرس له، ويعطى ما يحمل عليه زاده ومتاعه إن لم يعتد حمله بنفسه، ويسترد منه إذا رجع، كما في ابن السبيل، فإنه يهيأ له ذلك. ويعطي المؤلفة الإمام أو المالك ما يراه، والعامل يعطيه الإمام أجرة مثله. فإن زاد سهمه عليها .. رد الفاضل إلى بقية الأصناف، وإن نقص .. كمل من مال الزكاة أو سهم المصالح. ومن فيه صفتا استحقاق للزكاة كفقير غارم .. فلا يأخذ من زكاة واحدة إلا بأحدهما بخيرته.

فصل: في وجوب تعميم الأصناف الثمانية بالزكاة

نعم؛ إن أخذ بالغرم وأعطاه دائنه وبقي فقيراً ... أخذ به. أمَّا من زكاتين، كمِن ذهب بالفقر، ومن فضة بالغرم .. فيجوز ولو من شخص واحد. * * * فصل: ويجب تعميم الأصناف الثمانية بالزكاة حتى العامل إن قسم الإمام، وإلا .. فمن عداه إن وجدوا، وإلا .. فإلى من وجد منهم، حتى لو لم يوجد إلا فقير واحد .. صرفت كلها له. والمعدوم لا سهم له، والموجود غالباً فقير ومسكين وغارم وابن السبيل. فإن لم يوجد أحد منهم .. حفظت إلى أن يوجدوا كلهم أو بعضهم. وعلى الإمام تعميم آحاد الصنف؛ إذ لا يتعذر عليه ذلك، لكن يجوز له إعطاء زكاة شخص واحد بواحد. لأن الزكوات في يده كالزكاة الواحد. نعم؛ إن قل مال الزكاة بحيث لا يسد مسداً لو استوعبهم .. لم يلزمه الاستيعاب. وتجب التسوية بين الأصناف وإن تفاوتت حاجاتهم إلا العامل كما مر. ولو زاد سهم صنف عن كفايتهم .. ردَّ زائدة على سهم من نقص سهمه عن كفايته. ولا تجب بين آحاد الصنف إن قسم المالك أو الإمام، وقلَّ ما عنده منها؛ لعدم انضباط الحاجات التي من شأنها التفاوت، بخلاف الأصناف، فمحصورة، لكن يسن التساوي إن تساوت حاجاتهم. أمَّا إذا قسم الإمام وكثر ما عنده، فإن استوت حاجاتهم .. وجبت، وإلا .. فيراعيها، وإذا لم تجب .. فالقاطنون أولى. (وأقل ذلك) أي: من يعطى إذا فرَّق المالك (ثلاثة)؛ عملاً بأقل الجمع في غير الأخيرين وقياساً فيهما، إلا العامل .. فيجوز كونه واحداً. فإن أخل بصنف .. غرم حصته، أو ببعض الثلاثة .. غرم له أقل متمول. نعم؛ الإمام إنما يغرم مما عنده من الزكاة (إلا إذا انحصروا) -أي: المستحقون- في محل الوجوب، بأن سهل عادة ضبطهم، ومعرفة عددهم. فيجب الاستيعاب إن لم يزيدوا على ثلاثة من كل صنف، أو زادوا (ووفت الزكاة بحاجاتهم) الناجزة، وهي مؤنة يوم وليلة، وكسوة فصل، ويملكونها في الأولى وإن لم

تف بحاجاتهم، وفي الثانية إن وفت بها بقدر حاجاتهم، ولا يضرهم حدوث نحو غنى أو موت، بل تورث عنهم وإن كان ورثتهم أغنياء أو ورثة للمزكي، ولهم التصرف فيها قبل قبضها إلا بالاستبدال، ولا يشاركهم قادم عليهم بعد وقت الوجوب. فأن زادوا على ثلاثة ولم ينحصروا .. لم يملكوا إلا بالقسمة. فإن انحصر بعض الأصناف دون بعض .. فلكل حكمه. نعم؛ العامل يملك بالعمل. والحاصل: أنه يجب تعميم الأصناف، والتسوية بينهم مطلقاً، وتعميم آحاد كل صنف إن وفي المال بهم، والتسوية بينهم إن تساوت حاجاتهم، حيث قسم الإمام مطلقاً أوالمالك، وانحصروا في ثلاثة مطلقاً، أو في أكثر، ووفت بحاجاتهم، فيملوكنها بقدر حاجاتهم. (وإلا العامل .. فإنه) لا يجب الإعطاء فيه لثلاثة، بل (يجوز أن يكون واحداً) إذا حصل به الغرض، بل لو قسم المالك .. سقط سهمه. فرع: لا يجوز نقل الزكاة على الأظهر عن محل المؤدى عنه في الفطرة، وعن محل المال الذي وجبت فيه الزكاة، وهو الذي كان فيه عند وجوبها مع وجود مستحق فيه، إلى محل آخر؛ لتصرف لمستحقه ما لم ينسب إليه، بحيث يعد محلاً واحداً وإن خرج عن سوره وعمرانه، كما في "التحفة" من اضطراب طويل. وإذا منعنا النقل .. حرم، ولم يجز؛ لخبر الصحيحين: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم"، ولامتداد أطماع مستحقي كل محل إلى ما فيه من الزكاة، والنقل يوحشهم. وبه فارقت الكفارة والنذر والوصية والوقف على الفقراء. ويؤخذ من أن العبرة ببلد المال أن العبرة في الدين ببلد المدين. لكن قال بعضهم: له صرف زكاته في أي محل شاء؛ لأن ما في الذمة ليس محل مخصوص وهو المعتمد. وفي (ب ج): (لا يجوز نقل الزكاة لمن هو خارج السور) اهـ والكلام في غير الإمام ونائبه.

أمَّا هما .. فيجوز لهما نقلها كل إلى محل عمله، لا خارجه، ولهما أن يأذنا للمالك فيه. ولو حال الحول على مال بنحو بادية لا مستحق بها .. صرفت لأقرب محل إليها، ولنحو أهل خيام لا قرار لهم صرفها لمن معهم ولو بعض صنف، كمن بسفينة في لجة. فإن فقدوا .. فلأقرب محل إليهم عند تمام الحول، فإن تعذر الوصول إليه .. حفظت إلى أن يتيسر الوصول إليه إن ترجاه عن قرب، وإلا .. صرفت للأقرب إليه، وفي هذا كله عسر شديد، وربما كان سبباً لضياع الزكاة. فالأحسن أن يستأذن القاضي أو الإمام في نقلها، أو يعمل بمقابل الأظهر من جواز النقل مطلقاً، كما هو مذهب أكثر العلماء، بل لا دلالة في الحديث المار لمنع النقل إلا بإضمار في (فقرائهم)، أي: إلى فقراء بلدهم. فإن لم يضمر .. كان دليلاً لجواز النقل؛ لأن الظاهر أن الضمير في (فقرائهم) للمسلمين الصادقين بمن ببلده وغيرها. وعلى كل فعدم النقل أولى وأحوط. وإذا نقل الزكاة فتلفت .. ضمنها إن لم يجب، وذلك، كأن فقدت الأصناف ببلد الوجوب، أو فضل عنهم شيء، فيجب حينئذٍ نقل الكل أو الفاضل؛ لكن ينقله لأقرب محل إليه، فإن جاوزه .. حرم على الأظهر. وإنما امتنع نقل دم النسك مطلقاً؛ لأنه وجب لأهل الحرم بالنص الصريح، بخلاف الزكاة لا نص صريح فيها. وإذا نقل، فإن وجب .. فمؤنته من الزكاة، وإلا .. فعلى الناقل. فرع: إذا امتنع المستحقون من أخذ الزكاة .. قوتلوا؛ لتعطيلهم هذا الشعار العظيم. ولو قال له: فرّق هذا على المساكين .. لم يدخل هو ولا ممونه فيهم، وإن نص على ذلك، قاله في"التحفة". * * *

فصل: في صدقة التطوع

(فصل) في صدقة التطوع. وهي المراد عند الإطلاق غالباً، وهي سنة مؤكدة؛ للأحاديث الشهيرة فيها، منها، الخبر الصحيح: "كل امرء في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس". وقد تحرم، كأن ظن أن آخذها يصرفها في معصية. وقد تجب كأن يجد مضطراً ومعه ما يطعمه فاضلاً عنه، لكن قد ذكروا أنه لا يجب بذله له إلا ببدله. قال في "التحفة": والحاصل: أنه يجب البذل هنا -أي: للمحتاجين- من غير اضطرار بلا بدل، لا مطلقاً، بل مما زاد على كفاية سنة، وثم -أي: في المضطر- يجب البذل بما لم يحتجه حالاً ولو على فقير، لكن بالبدل. (والأفضل الإسرار بصدقة التطوع)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من السبعة الذين يستظلون بظل العرش من أخفى صدقته حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. نعم؛ إن أظهرها مقتدى به؛ ليقتدى به، ولم يقصد نحو رياء، ولا تأذى به الآخذ .. كان أفضل. وجعل بعضهم من الصدقة الخفية أن يبيع مثلاً درهمين بدرهم, (بخلاف الزكاة) فإظهارها للإمام، وكذا للمالك أفضل. وقد ذكرت في "الأصل" من يستظل بالعرش، وهم سبعون. (و) الأفضل (التصدق على القريب)؛ لأنه أولى من الأجنبي، والأفضل تقديم (الأقرب) فالأقرب من المحارم وإن لزمته نفقتهم (والزوج) أو الزوجة، فهما في درجة الأقرب، كما في "الشرح". وفي"التحفة": ثم الزوج أو الزوجة. (ثم) بعد ما ذكر (الأبعد) من الأقارب، يقدم منهم الأقرب فالأقرب رحماً؛ والرحم من جهة الأب والأم سواء (ثم محارم الرضاع، ثم المصاهرة، ثم الولاء) من الجانبين، كأن زوج عتيقه بعتيقته، فولاء ولدهما له من الجانبين، ثم من جانب.

(و) الأفضل (الجار) فرحمه الجار أولى من رحم لا جوار له، ولذا لم يعطف فيه وما بعده بـ (ثم)؛ لأنهم يكونون من الأقارب وغيرهم والجار الأجنبي أولى من قريب بمحل لا يجوز نقل زكاة المتصدق إليه، وإلا .. قدم القريب. (و) الأفضل التصدق (على العدوّ) القريب، ثم الأجنبي، والأشد عداوة أولى؛ لما فيه من التأليف وكسر النفس. (و) على (أهل الخير) و (المحتاجين)؛ إذ هما أولى من غيرهما وإن اختص الغير بقرب ونحوه، وكان عبد الله بن المبارك يخص طلبة العلم بصدقته. (و) الأفضل كون تصدقه (في) سائر (الأزمنة الفاضلة، كالجمعة) ورمضان، لاسيما عشره الآخر؛ لخبر أبي داوود بذلك، وللعجز عن الكسب فيه. ويليه عشر ذي الحجة (والأماكن الفاضلة) كمكة، فالمدينة، فبيت المقدس. والمراد: أنه إذا حصلت تلك الأزمنة والأمكنة .. تأكدت الصدقة فيها، لا أنه يسن التأخير لها إليها. (وعند الأمور المهمة كالغزو والكسوف والمرض والحج) والسفر؛ لأنها أرجى للقبول وقضاء الحوائج، وكشف الكرب، وعقب كل معصية. (وبما يحبه)؛ لآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]. وتكره برديء عرفاً إن وجد غيره، كمسوس حب، لا بنحو فلس وثوب خلق كما في "الإيعاب"، وبما فيه شبهة. وينبغي أن يأنف من التصدق بقليل؛ إذ ما قبله الله كثير، ولآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) [الزلزلة:5]، وخبر: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وغيرها. وأن يتصدق بثويه إذا لبس جديداً غيره، ويقول عند لبسه: الحمد لله الذي كساني ما أواري به سوأتي، وأتجمل به في حياتي. (و) أن يكون تصدقه بالبسملة و (بطيب نفس، وبشر)؛ لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب، وأن لا يطمع في دعاء المعطى، فإن دعا له .. ندب الرد عليه.

ويكره الأخذ بمن بيده حلال وحرام كسلطان جائر، وتشتد الكراهة وتخف بكثرة الشبهة وقلتها، ولا يحرم إلا ما تيقن حرمته ويمكن معرفة صاحبه. وإنما لم يحرم؛ لأن الأصل المعتمد في الأملاك اليد، ولم يثبت أصل آخر فيه يعارضه، فاستصحب ولم يبال بغلبة الظن. (ولا يحل التصدق بما يحتاج إليه لنفقته) إن لم يصبر على الإضاقة (أو نفقة من عليه نفقته)؛ لخبر: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"، ولأن كفايتهم فرض، وهو لا يترك لسنة، وكالنفقة بقية المؤن. وخرج بـ (الصدقة): الضيافة، فتجوز ولو بقوته وقوت عياله؛ لتأكدها، حتى ذهب جمع إلى وجوبها. لكن حمل في "الإيعاب" وغيره الجواز على ما إذا لم يتضرر الممون، أو علم رضاه وكان الضيف محتاجاً. ولا يرد أن كثيراً من السلف تصدقوا بما يحتاجونه لعيالهم؛ لأنه يحتمل رضاهم وصبرهم. وإنما تحرم بما يحتاج إليه هو، أو ممونه (في) مؤن (يومه وليلته) وكسوة الفصل، لا بما زاد على ذلك، كما يأتي. (أو) بما يحتاج إليه (لدين لا يرجو له وفاء) من جهة ظاهرة ولو عند حلول المؤجل. نعم؛ الواجب لا يجوز تركه لسنة. ومع حرمة التصدق بما ذكر، يملكه المتصدق عليه؛ لأن الحرمة لأمر خارج عن الصدقة كما في "التحفة" و"النهاية"، بل ألَّف (حج) في ذلك مؤلفاً بسيطاً سماه: "قرة العين ببيان أن التبرع لا يبطله الدين". وجرى جمع أنه لا يملكه، منهم: (حج) في "الشرح"، و"الفتح"، وعبارتهما: (وحيث حرم التصدق بشيء لا يملكه المتصدق عليه، زاد في "الفتح": كما بينته في "الأصل" مع فروع أخر) اهـ واعتمده جمُّ غفير منهم: ابن زياد، وبالغ في الرد على (حج)، وألف في ذلك أربعة مؤلفات.

أمَّا إذا ظن وفاءه من جهة ظاهرة ولو عند حلول المؤجل .. فلا بأس بالتصدق، بل قد يسن. نعم؛ إن وجب أداؤه فوراً؛ لطلب صاحبه أو لعصيانه به ولم يعلم رضا صاحبه بالتأخير .. حرم قبل وفائه. (ويستحب) التصدق (بما فضل عن حاجته) وحاجة ممونه يومهم وليلتهم وكسوة فصلهم ووفاء دينه مطلقاً. وفي وجه: (إذا لم يشق عليه الصبر على الضيق) ولا عليهم على الأصح؛ لأن الصديق رضي الله عنه تصدق بجميع ماله، وقبله منه صلى الله عليه وسلم. فإن شق الصبر عليه .. كره؛ للخبر الصحيح: "الصدقة من كان عن ظهر غنى"، أي: غنى النفس، وهو صبرها على الفقر. وبهذا التفصيل جمعوا بين الأحاديث المختلفة الظواهر، كهذا الحديث، وخبر أبي بكر السابق. نعم؛ يلزم الموسر -وهو هنا من معه زائد على كفاية سنة- المواساة لأهل الحاجات بما زاد على كفاية سنة بنحو إطعام جائع، وإكساء عار، وتجهيز ميت لا تركة له، وغير ذلك مما به دفع ضرورات المسلمين. (ويكره) للمتصدق (أن يأخذ صدقته) أو نحوها، كزكاته وكفارته ونذره (ممن أخذ) ذلك (منه ببيع أو غيره)؛ لأن (العائد في صدقته كالكلب العائد لقيئه) كما في الحديث. وخرج بـ (يأخذ) المشعر بالاختيار: ما لو ورثها، فلا يكره له التصرف فيها، وما لو أخذها من غيره .. فلا يكره. ولو بعث لفقير صدقة أو زكاة .. لم يملكه إلا بقبضه، فإن لم يأخذ الصدقة .. سن له التصدق بها على غيره؛ لئلا يكون في معنى العائد في صدقته. (ويحرم السؤال على الغني بمال أو حرفة) تليق به ولم تشق عليه مشقة لا تحتمل عادة، ويكفيه وممونه دخلها.

فإن اختل شرط من ذلك .. جاز له السؤال، وله أن يسأل ما يحتاج إليه بعد يوم وليلة إلى وقت يعلم فيه تيسر ما يكفيه بسؤال أو غيره، وهذا في غير سؤال ما اعتيد سؤاله بين الأصدقاء كقلم وسواك، وإلا .. فلا حرمة مطلقاً في سؤاله. ولا يحرم على الدافع الدفع ولو لمظهر فاقة مع علمه بغناه وإن كان الدفع لغيره أفضل. ومن أعطي لوصف ظن اتصافه به كفقر أو صلاح، بأن توفرت له القرائن أنه إنما أعطي لذلك، أو صرح له المعطي بذلك، وهو باطناً بخلافه، أو به وصف باطناً، لو اطلع عليه المعطي لم يعطه .. حرم عليه الأخذ، ولا يملك ما أخذه. وكذا لو علم إنما أعطاه؛ لباعث الإلحاح، أو الحياء منه أو من الحاضرين، ولولاه لما أعطاه .. فهو حرام، يلزمه رده. ويكره السؤال بوجه الله تعالى ما يتعلق بالدنيا، لا ما يتعلق بالآخرة، كتعليم خير. (والمن بالصدقة) حرام (يبطلها)؛ لآية (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) [البقرة:264]، ولخبر مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة". (وتتأكد) الصدقة (بالماء)؛ لخبر: "أي الصدقة أفضل؟ قال: "الماء"، أي: إن كان الاحتياج إليه أكثر من الطعام، وإلا .. فهو أفضل، ولخبر: "من أطعم جائعا .. أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ .. سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كسى مؤمناً عارياً .. كساه الله من خضر الجنة" رواه أبو داوود، والترمذي باسناد جيد. (والمنيحة) وهي: الشاة ونحوها اللبون، بأن يعطيها المحتاج؛ ليأخذ لبنها ما دامت لبوناً، ثم يردها إليه؛ لما في ذلك من مزيد البر والإحسان. ويستحب أن لا يخلي يوماً من الصدقة بشيء وإن قل؛ لما مر، ولخبر البخاري: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وفيه ملكان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". وأخذ الزكاة للفقير أسلم من أخذه الصدقة والهدية؛ إذ الزكاة لكل فقير ولو عاصياً. والصدقة والهدية قلَّ أن يسلم آخذها من أمر لو اطلع عليه المعطي .. لم يؤثره بها، والله سبحانه أعلم. * * *

كتاب الصوم

(كتاب الصوم) هو لغة: الإمساك، ومنه: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) [مريم:26] أي: سكوتاً. وشرعاً: الإمساك عما يأتي على وجه مخصوص. وفرض في شعبان ثاني سني الهجرة، وينقص ويكمل. وثوابهما واحد من حيث الثواب المترتب على رمضان من غير نظر لأيامه وإن زاد الكمال بما يترتب على يوم الثلاثين من الواجب والمندوب. وهو من خصوصياتنا، وقيل: ليس من أمة إلا وفرض عليها رمضان إلا أنهم ضلوا عنه. (يجب صوم رمضان) إجماعاً، وهو معلوم من الدين بالضرورة، يكفر جاحد وجوبه، وأحد أركان الإسلام. من (الرمض) وهو شدة الحر؛ لأن وضع اسمه على مسماه وافق ذلك. وكذا بقية الشهور؛ بناء على أن اللغات اصطلاحية، والراجح أنها توقيفية، أي بتوقيف الله تعالى عليها لآدم عليه السلام. وهو أفضل الشهور حتى من عشر ذي الحجة؛ لخبر: "رمضان سيد الشهور"، كما أن ليلة القدر أفضل الليالي، ويوم عرفة أفضل الأيام مطلقاً، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. نعم؛ يوم ولادته صلى الله عليه وسلم أفضل الأيام مطلقاً في حق أمته، وليلة الإسراء أفضل الليالي في حقه، لكنهما غير دائرين في بقية السنين. وأفهم المتن أنه لا يكره ذكر رمضان بلا ذكر شهر، وهو كذلك. (باستكمال شعبان ثلاثين) يوماً، حتى لو رأى شعبان وحده ولم يثبت .. ثبت في حقه باستكمال شعبان ثلاثين من رؤيته. (أو) بثبوته عند قاض ولو بعلمه إن بين مستنده. أو (برؤية عدل) واحد (الهلال) بعد الغروب وإن كان حديد البصر، لا بواسطة نحو مرآة ليلة الثلاثين من شعبان.

وفي "التحفة": (ولو دل الحساب القطعي باتفاق أهله على عدم رؤيته، وكان المخبر منهم بذلك عدد التواتر .. ردت الشهادة به) اهـ والمراد عدل شهادة لا رواية، فلا يكفي فاسق وصبي وعبد وامرأة، بخلافهما في الرواية. ولا تشترط هنا العدالة الباطنة في الشاهد، وهي التي يرجع فيها إلى قول المزكين، بل تكفي العدالة الظاهرة، وهي التي لا يعرف لصاحبها مفسق وإن لم يعلم له تقوى؛ احتياطاً للعبادة. ولا بد من لفظ الشهادة كأشهد أني رأيت الهلال، أو أنه هلَّ، لا أن غداً من رمضان عند (حج) وإن لم يتقدم دعوى؛ لأنها شهادة حسبة. ومن قول القاضي ثبت عندي، أو حكمت بشهادته. وليس المراد حقيقة الحكم؛ لأنه إنما يكون على معين مقصود، ومن ثَمَّ لو ترتب عليه حق لآدمي ادعاه .. كان حكماً حقيقة، ولا أثر لتردد يبقى بعد الحكم بشهادته. نعم؛ إن علم قادحاً فيه .. عمل به باطناً، كفسق الشاهد، وكذا القاضي إن انعزل بالفسق بأن لم يعلم بفسقه موليه، أو بزيادته، ولا لدلالة الحساب على عدم الرؤية ما لم يكن قطعياً كما مر. ودليل الاكتفاء بواحد خبر ابن عمر: (أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال، فصام، وأمر بصيامه) وغيره. وقوله: أخبرت، أي: شهدت عنده؛ لأنه من باب الشهادة، لا الرواية. ولا يكلف الشاهد ذكر صفة الهلال، لكن لو ذكر محله، ثم بان الليلة الثانية بخلافه مما لم يمكن عادة .. ردت شهادته. ولو تعارضا في محله .. عمل باتفاقهما على أصل الرؤية ولا أثر لرجوع شاهد أو حاكم بعد الحكم بثبوته، أو بعد الشروع في الصوم ولو بلا حكم .. قال الونائي: فإن رجعا .. امتنع العمل بالشهادة والحكم. ومحل ثبوته بواحد بالنسبة للصوم، وكذا توابعه، كتراويح، ونحوها مما يتعلق برمضان، وكذا كل عبادة ثبتت بواحد، لا بالنسبة لنحو أجل وطلاق وعتق علقا به إلا في حق من رآه.

وخرج برؤية العدل: شهادته بثبوته في بلد آخر، فلا بد من اثنين، وما مر في ثبوته على العموم. وأمَّا ثبوته على الخصوص .. فعلى من رآه ولو فاسقاً، وعلى من تواتر عنده -ولو من كفار- رؤيته أو ثبوته في محل متفق مطلعه مع مطلع محله، وعلى من أخبره موثوق به أنه رآه، أو ثبت فيما يوافق مطلعه مطلع محله ما لم يعتقد خطأه، أو غير موثوق به، كصبي أو فاسق وقع في قلبه صدقه، وعلى من عرفه بحسابه أو تنجيمه، ولا يجزئهما عن صوم رمضان عند (حج)، وعلى من أخبراه ممن اعتقد صدقهما، وكله مشكل؛ فإنَّ الحساب والتنجيم غايتهما إن يدلا على وجوده، وقد قالوا: لا عبرة به، بل العبرة برؤيته. وعلى من رأى العلامات التي تدل على ثبوته، كقناديل معلقة بالمنائر وسماع مدافع أو طبول مما يحصل له به اعتقاد جازم على ثبوته، وعلى من ظن دخوله بالاجتهاد في حق نحو محبوس جهل وقته. وهذه المذكورات كما يجوز له بها صوم رمضان يجوز بها الفطر عنه. وإذا صمنا ثلاثين بعدل .. أفطرنا وإن لم نر الهلال بعدها، ولم يكن غيم، كما لو صمنا بعدلين. والشيء قد يثبت ضمناً بطريق لا يثبت فيها مقصوداً، كالنسب والإرث لا يثبتان بالنساء، ويثبتان بهنّ ضمناً؛ تبعاً للولادة الثابتة بهنّ. ولو صام بقول من اعتقد صدقه ثلاثين، ولم ير الهلال ليلة إحدى وثلاثين .. لم يفطر عند (حج)؛ لأنه إنما صومناه؛ احتياطاً، فلا نفطره احتياطاً. وفارق العدل بأنه حجة شرعية. (وإذا رئي الهلال ببلد .. لزم) الصوم (من وافق مطلعهم مطلعه) دون من خالفه، كما في طلوع الفجر والشمس وغروبهما، أي: في إلحاق من لا فجر أو لا نهار أو لا ليل له بمن له ذلك في دخول أوقات ذلك باتحاد المطلع، لا بمسافة القصر. قال في "التحفة": (ولأن الهلال لا تعلق له بمسافة القصر، ولأن المناظر تختلف باختلاف المطالع والعروض، فكان اعتبارها أولى، وتحكيم المنجمين إنما يضر في الأصول دون التوابع كما هنا) اهـ قال (ب ج): (ولأن اعتبار مسافة القصر يؤدي إلى أن يجب الفطر على من بالبلد،

والصوم على من هو خارجها؛ لوقوعهم في مسافة القصر؛ إذ هي تحديد، وإلى أن يكون من خرج من البلد .. لزمه الإمساك، ومن دخلها .. لزمه الفطر، وهذا يجري أيضاً على قول (م ر) في اختلاف المطلع أن يكون بين البلدين أربعة وعشرون فرسخاً) اهـ وقال الشرقاوي: (الذي عليه الفقهاء أنَّ ما بينهما أربعة وعشرون فرسخاً، مطلعهما مختلف، وما دونهما متحد، ذكره (ح ل) على "المنهج"، وقرره شيخنا عطيه) اهـ وفي شرح "المنهج" قال الإمام: (اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين، وقواعد الشرع تأبى ذلك، بخلاف مسافة القصر التي علق بها الشارع كثيراً من الأحكام، والأمر كما قال) اهـ واتحاد المطلع: أن يكون غروب الشمس والكواكب وطلوعها في المحلين في وقت واحد، فإن طلع أو غرب شيء من ذلك في أحد المحلين في وقت قبل الآخر، أو بعده .. فمختلف. والشك في اختلافها كتحققة؛ إذ الأصل عدم الوجوب ما لم يبن اتفاقها. ومعرفته فرض كفاية كالقبلة، وكذا ترائي الأهلة. ولا يمكن اختلاف الهلال في أقل من أربعة وعشرون فرسخاً. ولو أثبت مخالف الهلال مع اختلاف المطالع .. لزمنا العمل بمقتضى إثباته. ولو سافر من محل الرؤية إلى محل يخالفه في المطلع، ولم ير أهله الهلال .. وافقهم في الصوم آخر الشهر، فيمسك معهم وإن كان معيِّداً؛ لأنه صار منهم. وكذا ولو وصل صائم لمحل أهله معيِّدون .. فيفطر معهم، وقضى يوماً إن صام ثمانية وعشرين ما لم يرجع منه قبل تناوله مفطراً. ولا يختص ذلك بالصوم، بل لو صلى المغرب بمحل، فسافر لمحل آخر لم تغرب فيه .. وجبت إعادتها. وخرج بـ (آخر الشهر): ما لو انتقل إليهم من محل رأوه فيه إلى محل لم يروه .. فلا يفطر معهم، كما في "التحفة". قال (سم): والوجه التسوية بين الأول والآخر، ونقله (ب ج) عن (ح ل) عن (م ر). وبه يلغز بأن شخصاً رأى الهلال ليلاً، وأصبح مفطراً بلا عذر.

وفي (ب ج): (أن القمر لا يستتر أكثر من ليلتين، أي: لا يطلع بعد الفجر آخر الشهر أكثر منهما قبل الشمس، فإذا استتر ليلتين .. فالليلة الثالثة أوَّل الشهر بلا ريب) اهـ وفي "النهاية" و"الإمداد": (يلزم من رؤيته بالمشرق كمكة .. رؤيته بالمغرب كمصر، دون العكس، وأنه لو مات متوارثان أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب، كل منهما وقت زوال محله .. ورث الغربي الشرقي؛ لتأخر زوال بلده) اهـ وهو ظاهر في الإرث غير ظاهر في الرؤية؛ إذ ما ذكر يستلزم وجود الشهر، لا رؤيته، والمدار عليها لا عليه. (ولصحة الصوم) لرمضان وغيره (شروط) أي: أمور لابد منها، بعضها أركان، وهي الأربعة الأول: (الأول) منها (النية)؛ لخبر: "إنما الأعمال بالنيات". وإنما وجبت فيه، وهو ترك، وهو لا تجب فيه نية؛ لأنه كف قصد به قمع الشهوة، فالتحق بالفعل. وهي: واجبة بالقلب، سنة باللسان. ويصح تعليقها بأن شاء الله إن قصد التبرك، لا التعليق، ولا أن أطلق. ولا يجزئ عنها التسحر وإن قصد به التقوي على الصوم، ولا الامتناع من تناول مفطر قبل الفجر ما لم يخطر بباله الصوم بصفاته التي يجب التعرض لها في النية -أي: من الإمساك والتعيين- لأن ذلك يستلزم قصده غالباً. أي: (ويجب التبييت) ولو لصبي، اي: إيقاع النية فيما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ولو قبل الفطر من اليوم الماضي (في الفرض) كرمضان، ولو قضاء وكفارة ومنذوراً وما أمر به الإمام؛ للخبر الصحيح: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر .. فلا صيام له". والأصل في النفي حمله على الحقيقة إلا لدليل، ولم يوجد. وتشترط النية (لكل يوم)؛ إذ كل يوم عبادة مستقلة؛ لتخلل اليومين بما يناقض الصوم، كالصلاتين يتخللهما السلام.

ولو تيقن النية وشك بعد الفجر، أوقعت قبل الفجر أو بعده؟ أو شك عند النية أطلع الفجر أم لا؟ لم يصح؛ إذ الأصل عدم تقدمها، وقد يقال: الأصل بقاء الليل فيصح. بخلاف ما لو نوى مع عدم الشك، ثم شك هل طلع الفجر عند نيته أم لا؟ فيصح؛ إذ الأصل بقاء الليل مع جزمه بالنية. ولو شك في النية أو التبييت فذكره قبل الغروب، كما في "التحفة". وقال (م ر): ولو بعد أيام .. لم يضر. ولو شك بعد الغروب، هل نوى أو لا؟ لم يضر. وإنما ضر في الصلاة بعد السلام؛ للتضييق في نيتها، لأن نية الخروج تضر فيها، لا فيه. ولو نوى مع طلوع الفجر .. لم يصح؛ لحديث التبييت السابق، وقيل: يصح كسائر العبادات. ويسن لمن لم يبيتها أو ينوي قبل الزوال، وقبل تعاطي مفطر؛ ليصح له على مذهب أبي حنيفة، لكن لا بد من تقليده. ويسن أيضاً أن ينوي أوَّل ليلة من رمضان صوم جميع رمضان على مذهب مالك؛ لأنه يجزئ لجميع الشهر، ويقلده؛ خشية أن ينسى التبييت في بعض الليالي. ولا يضر بعد النية ليلاً حدوث مناف للصوم كأكل وجماع قبل الفجر، بخلاف منافي النية، كنية تركه. ولا يجب فيه نية الفرضية؛ لأنه من البالغ العاقل لا يكون إلا فرضاً، بخلاف الصلاة، فالمعادة منها نفل؛ لأنها وإن وجبت فيها نية الفرضية .. فالمراد صورة الفرض لا حقيقة (دون النفل) فلا يجب فيه. (فتجزئه نيته قبل الزوال) وإن نذر إتمامه، كأن قال: إن نويت صوم يوم كذا .. فعلي إتمامه، فنواه. وخبر التبييت السابق حملوه على الفرض؛ لما روى الدارقطني عن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "هل عندكم من شيء؟ " قلت: لا، قال: "إني إذاً أصوم"، ويوماًً آخر، فقال: "أعندكم شيء؟ "فقلت: نعم، قال: "إذاً أفطر وإن كنت فرضت الصوم" أي: شرعت فيه وأكدته.

واختص بما قبل الزوال؛ لما في رواية له، وقال: إسنادها صحيح: "هل عندكم من غداء" و (الغداء): اسم لما يؤكل قبل الزوال. (ويجب التعيين أيضاً) للمنوي في النية، كصوم غد من رمضان، أو نذر، أو كفارة وإن لم يعين سببها، فإن عينه وأخطأ .. لم يجز؛ لأن ذلك عبادة مضافة إلى وقت، فوجب التعيين كالمكتوبة. وفي "التحفة": (نعم؛ لو تيقن أن عليه صوماً، وشك أهو قضاء أو نذر أو كفارة؟ أجزأه نية الصوم الواجب وإن كان متردداً؛ للضرورة ولم يلزمه الكل، كمن شك في واحدة من الخمس؛ لأن الأصل بقاء وجوب كل منها، وهنا الأصل براءة الذمة، ومن ثَمَّ لو كانت الثلاثة عليه فأدى اثنين، وشك في الثالث الباقي عليه .. لزمه الكل) اهـ واستوجه (م ر): أنه يكفيه صوم يوم واحد في هذا أيضاً بنية الصوم الواجب. وشمل إطلاق المصنف التعيين الفرضَ والنفلَ بقسميه، وهو المنقول عن "المجموع" واعتمده الإسنوي. لكن اعتمد (حج) في غير "التحفة" و (م ر) والخطيب وغيرهم: أن الصوم في الأيام المتأكد صومها منصرف إليها وإن نوى به غيرها. قال: الشرقاوي: بل وإن نفاه. وفي "الفتح": فرع: أفتى جمع متأخرون بحصول ثواب عرفة وما بعده بوقوع صوم فرض فيها. وقال الإسنوي: إنه إن لم ينو التطوع .. حصل الفرض، وإن نواهما .. لم يحصل واحد منهما اهـ وإنما يتم له إن ثبت أن الصوم فيها مقصود لذاته. والذي يتجه: أن القصد وجود صوم فيها، فهي كالتحية. فإن نوى التطوع أيضاً .. حصلا، وإلا .. سقط الطلب عنه، وبه يجمع بين العبارات المختلفة في ذلك. وعليه: لو نوى ليلاً الفرض، وقبل الزوال النفل .. فهل يثاب على النفل حينئذٍ؛ لأن التقرب بالصوم عن الجهتين، وقد حصل، أو لا؟ لأن صحة نية الصائم صوماً آخر بعيدة، كلٌ محتمل) اهـ ونحوه "الإمداد"، لكنه كالمتردد في "التحفة".

(دون) نية (الفرضية في) صوم (الفرض)؛ لما مر. وكمال النية في رمضان أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى، وبهذه النية يصح الصوم اتفاقاً، ويتميز عن أضدادها. ولإطلاق الأداء على الفعل ذكر معه هذه السنة وإن اتحد محترزهما، وأضيف رمضان لهذه السنة؛ لأن قطعه عن الإضافة يوهم أن هذه السنة ظرف لنويت، ولا معنى له. وذكر الغد لا يجب التعرض له بخصوصه، بل إمًّا أن يأتي به، أو يدخله في نية صوم الشهر، كأن يقول ليلاً: نويت الصوم عن رمضان، أو صوم رمضان، ويحصل به اليوم الذي يعقب الليلة التي نوى فيها، ولو كان عليه قضاء رمضانين، فنوى صوم غد عن قضاء رمضان .. صح وإن لم يعين؛ لأنه كله جنس واحد. ولو أخطا في صفة المعين، فنوى صوم الغد، وهو الأحد بظن الإثنين، أو رمضان سنة، وهي سنة اثنتين بظن أنها سنة ثلاث .. صح صومه، بخلاف ما لو نوى الأحد ليلة الإثنين، أو رمضان سنة اثنتين، وهي سنة ثلاث؛ لأنه لم يعين الوقت. ولو كان عليه يوم من رمضان من سنة معينة، فنوى يوماً من سنة أخرى غلطاً .. لم يجزئه. ولو كان عليه قضاء أول رمضان، فنوى قضاء ثانية .. لم يجزئه. ولو نوى صوم الغد يوم الأحد، وهو غيره .. صحح الأذرعي الإجزاء من الغالط. ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد نفلاً إن كان منه، وإلا فمن رمضان .. صح له نفلاً؛ لأن الأصل بقاء شعبان ما لم يبن أنه من رمضان، فلا يصح؛ إذ رمضان لا يقبل غيره. أو نوى به: أنه من رمضان .. لم يصح عن رمضان؛ لعدم الجزم بالنية ولا أصل يستصحبه، بخلاف ما لو نواه آخر ليلة من رمضان .. فيصح إن لم يبن أنه من شوال؛ لأن الأصل بقاء رمضان، ولا نفلاً؛ لأنه لم ينوه. نعم؛ إن ظن أنه من رمضان بقول من يثق به ولو عبداً أو امرأة .. صح. ومع ذلك لا بد أن لا يأتي بما يشعر بالتردد كـ (من رمضان، فإن لم يكن منه .. فتطوع). لكن قال في "التحفة": (والذي يتجه أنه لا نزاع في المعنى، وأنه متى زال بذكر ذلك ظنه .. لم يصح، وإلا .. صح. ولا ينافي هذا ما يأتي أن بكلام عدد من هؤلاء يتحقق يوم الشك الذي يحرم صومه؛

لأن الكلام هنا في صحة النية؛ اعتماداً على خبرهم، ثم إنْ بان أنه من رمضان ولو بعد الفجر .. لم يحتج لإعادتها، وإلا .. كان يوم الشك، فلا يجوز صومه، وفارق ما مر من وجوب الصوم على معتقد صدق مخبره؛ لأن ذاك في اعتقاد جازم، وهذا في الظن، وشتان ما بينهما) اهـ وسيأتي تتمة له. (الثاني: الإمساك عن الجماع) في فرج، بحيث يجب بالإيلاج فيه الغسل (عمداً) أي: من عامد عالم بالتحريم مختار، ودخل في ذلك الواطئ والموطوء، وفرج الآدمي وغيره، من قبل أو دبر ولو زائداً أو مباناً، أنزل أم لا. وأمَّا ما لا يجب الغسل بالإيلاج فيه كأحد فرجي المشكل .. فلا فطر بالإيلاج به ولا فيه. نعم؛ إن أولج فيه .. أفطر. (وعن الاستمناء) أي: بإخراج المني بغير جماع حراماً كان كإخراجه بيده، أو حلالاً في غير نحو صوم كإخراجه بيد حليلته، فيفطر به واضح ومشكل، خرج من فرجيه ولو بحائل إن علم وتعمد واختار؛ لأنه أولى من مجرد إيلاج. ولو حك ذكره لنحو جرب فأنزل .. لم يفطر إن لم يعلم من عادته الخروج بذلك، أو لم يطق الصبر، وإلا .. أفطر، وكإخراجه بلمسِ ما ينقض لمسه كقبلة ومضاجعة بلا حائل، لا بإخراجه بلمس محرم وصغير وأمرد وإن تكرر ما لم يقصد به الإنزال، وإلا .. أفطر، ولا بلمس فرج بهيمة أو بنظر أو فكر وإن كررهما وإن قلنا بحرمة ذلك عند خوف الإنزال على ما في "الأسني"، و"النهاية". وحرم على صائم فرض لمس بنحو قبلة إن حرك شهوته بحيث يخاف الإنزال أو الجماع، لا مجرد انتصاب ذكر وخروج مذي، لكن يكره. أمَّا الجاهل المعذور والناسي والمكره .. فلا يفطرون بجماع، ولا بإخراج مني؛ لعذرهم. لكن في (ب ج): أنه لو أكره على الزنا .. أفطر؛ لأن الإكراه على الزنا لا يبيحه، بخلافه على الأكل ونحوه. (الثالث: الإمساك عن الاستقاءة) فيفطر من استدعى القيء عامداً عالماً بالصوم والتحريم مختاراً؛ لخبر: "من ذرعه القيء .. فليس عليه قضاء، ومن استقاء ..

فليقض"، أي: وإن لم يعد لجوفه منه شيء؛ لأنها مفطرة بنفسها. (ولا يضر تقيؤه) ناسياً أو جاهلاً إن عذر بنحو قرب إسلام، وفي "الفتح" يعذر مطلقاً. قال في "الإيعاب": ومنه يؤخذ: أن ما يجهله أكثر العامة يعذر فيه. ولا تقيؤه (بغير اختياره)؛ للخبر المتقدم، ولا قلعه نخامة من دماغه أو باطنه ومجها على الأصح؛ لتكرر الحاجة إليه، فرخص فيه. أمَّا لو نزلت بنفسها أو بغلبة نحو سعال فلفظها .. فلا يفطر قطعاً. وكذا لو لم يقدر على مجها حال دخولها من ظاهر لباطن وما لو قلعها من باطن لباطن. ولو أصبح وفي فمه خيط متصل بباطنه، فإن أبقاه .. لم تصح صلاته، وإن بلعه أو نزعه مختاراً .. بطل صومه. فطريقه أن ينزعه غيره وهو غافل، أو يجبره على نزعه حاكم ولا يفطر؛ لأنه غير مختار فيهما، وإلا .. ابتلعه أو نزعه؛ لتصح صلاته، ويفطر؛ لأنها أغلظ من الصوم. ولو أصبح صائم وفي أذنه أو دبره نحو عود .. لم يفطر بإخراجه، لاختصاص الاستقاءة بالخارج من الفم. ومن الاستقاءة ما لو دخلت ذبابة جوفه قهراً .. فأخرجها، فيفطر إن علم وتعمد. (الرابع: الإمساك عن دخول عين) من أعيان الدنيا وإن قلت ولم تؤكل كحجر، فيفطر بإدخاله لها، وبدخولها بنفسها مع تمكنه من دفعها (جوفاً) له وإن لم تكن فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء. (كباطن الأذن) وهو ما وراء المنطبق، وباطن الأنف، وهو ما وراء القصبة جميعها. (و) باطن (الإحليل) وهو مخرج البول من الذكر، ومخرج اللبن من الثدي، وباطنه ما لا يظهر عند تحريكه، وكخريطة الدماغ من مأمومة وإن لم يصل باطنها أو جوف من نحو طعنه من نفسه أو غيره بإذنه وإن لم تصل الأمعاء. قال (سم): ويفطر بمجاوزة ما يظهر من رأس الذكر والدبر، لكنه في الدبر بشرط

أن يصل إلى محل المجوف، بخلاف أول المسربه، فلا يسمى جوفاً. وإنما يفطر (بشرط) إدخاله أو (دخوله) أي: دخول ما ذكر من العين المذكورة إلى الجوف من ظاهر إلى باطن، و (من منفذ مفتوح) مع العلم والعمد والاختيار. فخرج بـ (العين): الأثر، كطعم وريح، فلا يفطر بما وصل الجوف من ذلك من غير عين. قال (م ر): (ومنه يؤخذ أنه لا يفطر بوصول الدخان إلى الجوف وإن تعمد فتح فِيْه لذلك؛ إذ ليس هو عيناً عرفاً وإن كان ملحقاً بها في باب الإحرام) اهـ لكن استثنوا منه دخان التنباك؛ لأنه يتحصل منه العين، بل نازع (سم) في كون الدخان ليس بعين؛ لأنه إذا كان من نجس .. ينجس. وبـ (من أعيان الدنيا) أعيان الجنة، لو حصلت كرامة وأكلها, لا يفطر بها؛ لأنها من جنس الثواب، والكرامة لا تبطل العبادة. وبـ (جوفاً): وصولها لنحو مخ ساقه، وبطن فخده مما لا يسمى جوفاً. وبـ (من ظاهر لباطن): ما لو ابتلع نخامة من رأسه لبطنه؛ لأنه من باطن لباطن، ومثله بلع ريقه الصرف من فمه؛ لأنه عدوه في ذلك من باطن إلى باطن. قال في "الشرح": (مخرج الهاء والهمزة باطن، ومخرج الخاء والحاء ظاهر، ثم داخل الفم إلى منتهى الغلصمة، والأنف إلى منتهى الخيشوم له حكم الظاهر في الإفطار، بإخراج القيء إليه وابتلاع النخامة منه، وفي عدم الإفطار بدخول شيء فيه ووجوب غسله إذا تنجس، وله حكم الباطن في عدم الإفطار ببلع الريق منه، وسقوط غسله عن نحو الجنب، وإنما وجب غسل النجاسة عنه؛ لغلظها) اهـ وبـ (من منفذ مفتوح) وصولها من منفذ غير مفتوح. (و) من ثم (لا يضر تشرب المسام) بتشديد الميم الأخير، جمع سَمٍّ بتثليث أوله، والفتح أفصح، ثقب البدن من محال الشعر، وهي ثقب لطيفة لا تدرك. (بالدهن والكحل والاغتسال) فلا فطر بذلك وإن وصل لجوفه ووجد لونه في نحو نخامة؛ لأنه لما لم يصل من منفتح .. كان في حيز العفو، لكنه خلاف الأولى؛ لخلاف مالك.

وبـ (مع العلم) .. إلخ: الناسي والجاهل والمكره، كما أشار إليه بقوله: (فإن أكل أو شرب) أو أدخل نحو عود في نحو أذنه (ناسياً) للصوم (أوجاهلاً) بأن ذلك مفطر، أو مكرهاً على الأكل مثلاً، سواء أكل (قليلاً أو كثيراً .. لم يفطر)؛ لعموم خبر الصحيحين: "من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب .. فليتم صومه"، وفي رواية: "فإنما أطعمه الله وسقاه"، وصح "ولا قضاء عليه". وخبر: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". نعم؛ من أكل ناسياً مثلاًً، فظن أنه أفطر فأكل .. أفطر، والجاهل كالناسي بجامع العذر. ولو علم تحريم الأكل مثلاً، وجهل الفطر به .. لم يعذر؛ لن حقه مع علم التحريم الامتناع. (ولا يعذر الجاهل) هنا، وفيما مر (إلا إن قرب عهده بالإسلام) ولم يكن مخالطاً أهله بحيث يعرف منهم أن ذلك مفطر. (أو نشأ ببادية) أي: محل، ولو بلداً (بعيدة عن العلماء) بذلك، بحيث لا يستطتع النقلة إليهم، أو كان المفطر من المسائل الخفية كإدخاله عوداً في أذنه؛ لعذره حينئذٍ، بخلاف غير من ذكر؛ لتقصيره بترك تعلمه ما يجب عليه تعلمه. ولا يفطر عود مقعدة مبسور وإن اضطر لدخول إصبعه معها، ولا بدخول نحو ذبابة جوفه بغير اختياره. نعم؛ إن أخرجها منه أفطر إن علم تحريمه وتعمد، ويأثم حيث لا ضرر في إبقائها. (ولا بغبار) نحو (الطريق) ولا بغربلة نحو دقيق (وإن تعمد فتح فمه)؛ لأن التحرز عن ذلك شأنه أن يشق، فهو بدخول ذلك غير مختار. وقضية إطلاقه: عدم الفرق بين القليل والكثير، والطاهر والنجس، واعتمده (م ر). والذي اعتمده في "التحفة": أن النجس يضر مطلقاً، والطاهر إن تعمده. عفي عن قليله، وإلا .. عفى حتى عن كثيره.

(ولا) يفطر أيضاً (ببلع الريق) أي: ريقه (الطاهر الخالص من معدنه) وهو ما تحت لسانه، والمراد به جميه فمه (وإن) جمعه و (أخرجه على لسانه)؛ لتعسر الاحتراز عنه. ومرَّ أنهم جعلوا الفم في الريق الصرف، والوضوء والغسل باطناً، وفي إزالة النجاسة، ودخول غير الريق منه، وخروج شيء من الباطن إليه ظاهراً. وخرج بـ (ريقه): ريق غيره، وما جاء: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يمص لسان عائشة) .. فيحتمل؛ أنه يمجه. وبـ (الطاهر) المتنجس ولو بدم لثته وإن صفى؛ لأنه لما تنجس .. حرم ابتلاعه، وصار تنجسه بمنزلة عين. واستظهر في "التحفة": العفو عما ابتلى به من دم اللثة بحيث لا يمكنه الاحتراز عنه؛ قياساً على مقعدة المبسور، ولنا وجه بالعفو عنه مطلقاً إذا كان صافياً، وفي تنجس الريق به إشكال؛ لأنه نجس عمَّ اختلاطه بمائع، وما كان كذلك لا ينجس ملاقيه، كما في الدم على اللحم إذا وضع في الماء للطبخ، فإن الدم لا ينجس الماء. وبـ (الخالص): المختلط بما تغير به لونه أوطعمه أو ريحه إن نشأت من عين، بخلاف تغيره بمجاور فلا يضرمطلقاً، كما أنه يضر بالمخالط مطلقاً. وبـ (من معدنه): ما ابتلعه من نحو سواك أو خيط أخرجه عن الفم، ثم رده إليه وابتلعه، أو من ظهر شفته، فيفطر العالم بحرمة ذلك لا الجاهل؛ لأنه مما يخفى. ولو حال بينه وبين اللسان حائل .. قال (ب ج): اعتمد الحفني الإفطار. (ويفطر بجري الريق بما بين أسنانه) وبما في حنكه (بقدرته) -أي: مع قدرته- حال جريانه (على مجه) وإلا .. فلا، وإن قدر على مجه قبل جريانه ولو نهاراً. قال (ب ج): وهل يجب عليه الخلال ليلاً إذا علم جري ريقه بما بين أسنانه نهاراً، ولا يمكنه التمييز والمج؟ الأوجه لا، كما هو ظاهر إطلاقهم. ويوجه بأنه يخاطب بالتمييز والمج عند القدرة عليهما حال الصوم، لا قبله، لكن ينبغي أن يتأكد ذلك ليلاً؛ خروجاً من خلاف من قال: إنه لم يتخلل .. أفطر. (و) يفطر أيضاً (بالنخامة كذلك) بأن وصلت حد الظاهر من الفم فأجراها هو وإن

عجز بعد ذلك عن مجها، أو جرت بنفسها وقدر على مجها؛ لتقصيره مع أن نزولها منسوب إليه، بخلاف ما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها .. فلا يفطر؛ لعذره، وكذا لو لم تصل لحد الظاهر؛ لما مر. (و) يفطر أيضاً (بوصول ماء المضمضة) أو الاستنشاق (إلى الجوف) من باطن أو دماغ إن بالغ مع تذكره للصوم وعلمه بعدم مشروعيته، وإلا .. لم يفطر. وضابط المبالغة: أن يكون بحيث يسبق غالباً إلى الجوف، وهذا (إن بالغ في غير نجاسة) في الفم أو الأنف وإلا .. لم يفطر بالمبالغة لها ولو معفواً عنها أو مشكوكة؛ لطلب غسلها حينئذٍ ولو بمبالغة توقف يقين الطهارة عليها، وبه فارقت المضمضة لنحو الوضوء، إذ لا تتوقف فيه عليها. (و) يفطر أيضاً بوصول ما ذكر لجوفه ولو (بغير مبالغة من مضمضة) أو استنشاق؛ (لتبرد أو رابعة) أو من انغماس في الماء حيث تمكن من الغسل بغيره؛ لأن ذلك جميعه غير مأمور به. والقاعدة: أن ما سبق لجوفه من غير مأمور به يفطر به، أومن مأمور به ولو مندوباً لم يفطر به. وأخذ منه أنه لو وصل إلى جوفه من أذنيه في الغسل الواجب أو المندوب ماء .. لم يفطر؛ لتولده من مأمور به، ولا نظر لإمكان إمالة رأسه بحيث لا يدخل الماء جوفه؛ لعسره. وفي (ب ج): (ولو وضع في فمه ماء بلا غرض، فسبقه .. أفطر، أو ابتلعه ناسياً .. لم يضر، أو وضعه فيه كتبرد وعطش فوصل جوفه بغير فعله، أو ابتبعه ناسياً .. لم يفطر، كما قاله شيخنا في "الشرح") اهـ قال: ونحوه في "شرح الغاية") لـ (سم). ويحرم أكل الشاك آخر النهار لا آخر الليل؛ لأن الأصل بقاؤهما، فإن ظن انقضاء النهار باجتهاد .. جاز له الإفطار. والأحوط أن لا يتعاطى مفطراً إلا بعد اليقين بجوازه. (و) إن تعاطاه بغير يقين .. بطل صومه (بتبين الأكل) أو غيره من المفطرات

(نهاراً) بخلاف ما إذا بان الأمر كما ظنه، أو لم يتبين غلط ولا إصابة وقد تعاطاه باجتهاد فيهما أو هجوماً في أوله؛ لأن الأصل بقاء الليل. فإن هجم بإفطاره أو أخذ فيه بظن غير اجتهاد في آخره .. فصومه باطل ما لم يبن إفطاره ليلاً؛ لأنه لم يعتمد في إفطاره على ظن يعتمد، ولا على أصل؛ إذ الأصل بقاء النهار. ويجوز اعتماد خبر عدل أو فاسق اعتقد صدقه بالغروب، وبالأولى في بقاء الليل. وإن أخبره بالفجر .. وجب العمل بقوله (لا بالأكل) أو مفطر غيره (مكرهاً) فلا يفطر به إلا الجماع كما مر. نعم؛ شرط عدم الفطر بالإكراه أن لا يتناوله لشهوة نفسه، بل لداعي الإكراه لا غير. (الخامس والسادس والسابع: الإسلام، والنقاء عن الحيض والنفاس، والعقل في جميع النهار) في الكل، فإن ارتد أو حاضت أو نفست أو جن ولو لحظة .. بطل صومه كالصلاة، وإن كان الجنون بشرب مجنن ليلاً، وكذا لو ولدت وإن لم تر دماً؛ لأن الولادة مفطرة؛ بناءً على الراجح أنها توجب الغسل. لكن نفل في "الإسعاد" عن النووي: (أن الأقوى دليلاً عدم بطلان الصوم بها؛ لأنهم عللوا وجوب الغسل بها بأن الولد مني منعقد، وخروجه يوجب الغسل، ولا يفطر من غير استمناء ولا مباشرة) اهـ ويحرم على حائض ونفساء الإمساك بنية الصوم، لكن لا يجب عليهما تعاطي مفطر، وكذا في نحو العيد؛ اكتفاء بعدم النية. ولا يضر النوم المستغرق جميع النهار؛ لبقاء أهلية الخطاب فيه، وبه فارق الإغماء. (ولا يضر الإغماء والسكر) الذي لم يتعد به (إن أفاق) أي: خلا عنهما (لحظة في النهار)؛ اكتفاء بالنية مع الإفاقة في جزء. وإن لم توجد إفاقة منهما، كأن طلع الفجر ولا إغماء ولا سكر، ثم طرأ أحدهما واستمر إلى الغروب .. فهذا خلا لحظة عنهما لا أفاق، والحكم واحد، فإن لم يخل لحظة عنهما .. لم يصح صومه؛ لأنهما في الإستلاء على العقل فوق النوم ودون الجنون.

فلو قلنا بعدم ضرر المستغرق منهما كالنوم .. لألحقنا الأقوى بالأضعف، ولو قلنا بضرر اللحظة منهما كالجنون .. لألحقنا الأضعف بالأقوى فتوسطنا وقلنا: إفاقة لحظة منهما كافية. وأمَّا إذا تعدى به .. قال الكردي: (فيأثم به، ويبطل صومه ويلزمه القضاء وإن كان في لحظة من النهار، وكذا إن شرب مزيلاً للعقل تعدياً، فإن كان لحاجة .. فهو كالإغماء. وأمَّا الجنون من غير تسبب فيه، فمتى طرأ لحظة من النهار .. بطل صومه، ولا قضاء، ولا إثم) هذا ملخص ما في "التحفة" ثم اضطرب كلامه، اهـ وفي (م ر): لا يضر إغماء أو سكر بعض النهار ولو بتعد، وبه قال (سم) و (حج) في "شرحي الإرشاد"، بل فيهما: لا يبطل صوم غير المتعدي منهما وإن استغرق النهار. ولو مات أثناء النهار .. بطل صومه في أحكام الدنيا، لا الآخرة. ومن شروط الصوم قابلية الوقت له. (ولا) يجوز، ولا (يصح) صوم رمضان عن غيره وإن أبيح له فطره لنحو سفر؛ لأنه لا يقبل غيره بوجه. ولا (صوم يوم العيدين) عيد الفطر والأضحى مطلقاً اتفاقاً. (و) لا صوم يوم من (أيام التشريق) ولو لمتمتع عادم للهدي؛ لعموم النهي عن صيامها. والقديم: جواز صيامها لمتمتع عن الثلاثة الواجبة في الحج أو لنحو كفارة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عند أحمد، وهو الراجح دليلاً في "المجموع"، و"الروضة"؛ لصحة الحديث فيه. (ولا) صوم يوم من (النصف الأخير من شعبان)؛ للنهي عنه. ولا صوم يوم الشك؛ لقول عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك .. فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) رواه الترمذي وغيره، وصححوه. فيحرم صومه؛ لكونه يوم الشك مع حرمة كونه من النصف الثاني. والمعنى فيه القوة على صوم رمضان. وفهم منه أنه لو صام الخامس عشر وتالييه، وأفطر السابع عشر .. حرم الصوم؛ لأنه

صوم بعد النصف بلا سبب، ولم يصله بما قبله. ويوم الشك: يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث برؤيته اثنان فأكثر، بحيث يتولد من ذلك الشك في رؤيته. وإن أطبق الغيم ولم يعلم من رآه، أو شهد برؤيته عدد يردّ كعبيد أو فسقه، وظن صدقهم. قال (ب ج): (وظن الصدق بمعنى احتمل، بخلاف المقطوع بكذبه، ومظنون الصدق، فلا يكون به يوم شك. لكن مرَّ أنه مع ظن الصدق يوم الشك، فتجوز معه النية، فإن تبين كونه من رمضان، وإلا .. حرم صومه. وحاصله: أنه مع اعتقاد صدق المخبر تجب النية والصوم ويصح وإن لم يبن كونه من رمضان، ومع ظن الصدق تصح النية، وكذا الصوم إن تبين كونه من رمضان ليلاً أو نهاراً، وكذا بعد مضي اليوم وإن حرم عليه، وإلا .. لم يصح. ومع الشك تحرم النية والصوم، ولا يصحان وإن بان أنه من رمضان) اهـ ملخصاً قال (م ر): (عمت البلوى بثبوت هلال ذي الحجة يوم الجمعة مثلاً، ثم يتحدث الناس برؤيته ليلة الخميس، ويظن صدقهم ولم يثبت، فهل يندب صوم اليوم المذكور؛ لكونه يوم عرفة ظاهراً، أو يحرم؛ لاحتمال كونه يوم عيد؟ أفتى الوالد بالثاني؛ إذ دفع مفسدة الحرام مقدم على جلب تحصيل مصلحة المندوب) اهـ وعليه: فيحرم صومه ولو قضاء عن فرض وإن وصله بما قبله؛ لأنه بتقدير كونه يوم عيد لا يقبل صوماً ألبته، بخلاف يوم الشك فيقبله عما ذكر. لكن اعترضه البرلسي بأن التحريم لا يثبت بالشك أي والمعنى الذي حرم لأجله صوم يوم الشك غير موجود هنا (إلا لورد)، كأن اعتاد صوم الدهر، أو صوم يوم وفطر يوم، أو يوم الإثنين، أو السود، فصادف ما بعد النصف، أو يوم الشك، فيصح صومه؛ لخبر الصحيحين بذلك. وتثبت العادة بمرة (أو نذر) مستقر في ذمته، كأن نذر صوم كذا فوافق النصف الثاني من شعبان، بخلاف ما لو نذر صوم غد وهو عالم أنه يوم شك مثلاً .. فلا ينعقد، بخلاف ما لو لم يعلم ذلك.

فصل: شروط من يجب عليه رمضان

(أو قضاء) ولو لنفل يشرع قضاؤه (أوكفارة) فيجوز صوم ما بعد النصف عنها ولو يوم الشك، ولا كراهة في صوم ما ذكر؛ لأن له سبباً فجاز كنظيره من الصلاة في الأوقات المكروهة، ومن ثَمَّ يأتي في التحري هنا ما مرَّ ثمَّ، ومسارعة لبراءة ذمته في غير الأول. (أو وصل) صوم (ما بعد النصف بما قبله) ولو بيوم الخامس عشر وإن اقتضى خبر: "إذا انتصف شعبان .. فلا تصوموا" حرمة صومه؛ حفظاً لأصل مطلوبية الصوم. * * * (فصل: شروط من يجب عليه) صوم (رمضان): (العقل، والبلوغ) فلا يجب على مجنون غير متعد بجنونه، ولا على صبي أداءً ولا قضاءً؛ لرفع القلم عنهما، ويجب على من تعدى بجنونه أو سكره أو إغمائه مطلقاً على ما مر وجوب انعقاد سبب؛ ليترتت القضاء عليهم، لا وجوب أداء. (والإسلام) ولو فيما مضى بالنسبة للمرتد حتى يلزمه القضاء إذا أسلم، بخلاف الكافر الأصلي نعم؛ يعاقب على تركه في الآخرة نظير ما مر في الصلاة، ويحرم إطعامه في نهار رمضان؛ لأنه إعانة على معصية وإن لم نمنعه منه، ولم يصح صومه منه؛ لأنه قادر عليه بالإسلام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالإسلام واجب لذاته ولإداء العبادة، فإذا لم يصح صومه .. وجب عليه الإمساك؛ لتعديه. نعم؛ إنما يتجه إن كان الإمساك مجمعاً عليه؛ لأنه إنما يخاطب بما أجمع عليه، فإن لم يجمع عليه .. حرم على من يوجب الإمساك -كالشافعية- إطعامه؛ لأنه معصية في اعتقاده. قال في "التحفة" في فصل: لا تزوج امرأة نفسها: (لا يجوز لشافعي التسبب فيه، أي: العقد الذي لا يرى صحته، إلا إن قلد القائل بحله) اهـ ولو اعتقد الصبي الكفر عند النية .. لم ينعقد صومه، بخلافه بعده.

فصل: فيما يبيح الفطر

(والإطاقة) حساً وشرعاً، والصحة والإقامة ولو حكماً؛ ليدخل العاصي بسفره، والمسافر سفراً قصيراً؛ لأنهما في حكم المقيم، فلا يجب على من لا يطيقه حساً لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أو شرعاً لنحو حيض، ومريض يرجى برؤه ومسافر بقيدهما الآتي. ووجوبه على المريض والمسافر والحائض والسكران والمغمى عليه عند من عبر بوجوبه عليهم، وجوب انعقاد سبب؛ لوجوب القضاء عليهم. ومن ألحق بهم المرتد .. فقد سها؛ لأن وجوبه عليه وجوب أداء؛ لأنه مخاطب بعوده للإسلام، وبالصوم أداء. ولا يرد الكافر الأصلي؛ لأنه وإن خوطب بالإسلام يكتفى منه ببذل الجزية، فلم يستلزم خطابه بالصوم أصالة ولا تبعاً، فمن ثَمَّ لم يلزمه القضاء؛ إذ لم ينعقد السبب في حقه، ولا يسن قضاؤه ولا ينعقد، كما أفتى به الشهاب الرملي إلا اليوم الذي أسلم فيه. (ويؤمر) وجوباً (الصبي به لسبع) من السنين (ويضرب على تركه لعشر) منها (إن أطاقه) كما مر في الصلاة بتفصيله فيها. * * * (فصل) فيما يبيح الفطر. (ويجوز الفطر) في رمضان وغيره من الواجب ولو قضاء مضيقاً (للمرض الذي يبيح التيمم)، كأن يخاف منه محذوراً من محذوراته المارة في بابه وإن تعدى بسبب ذلك عند (حج)، كأن تعاطى ما يمرضه قصداً، لأنه لا ينسب إليه، ثم إن أطبق مرضه .. فظاهر، وإلاَّ .. فإن وجد المرض المعتبر قبل الفجر .. لم تلزمه النية، وإلا لزمته وإن ظن عوده عن قرب، ثم إن عاد .. أفطر، وهذا فيمن لم ينته حاله إلى أن يخاف من الصوم مبيح تيمم لضعفه من المرض وإن لم يعد له، وإلا .. جاز ترك النية مطلقاً. (و) يجوز أيضاً الفطر (للخائف من الهلاك) من الصوم على نفس أو منفعة له أو لغيره، كما يأتي.

(ولغلبة الجوع أو العطش) بحيث يخاف من الصوم مع أحدهما مبيح تيمم. وظاهر المتن: استواء ما ذكر في الجواز، واعتمد (حج) أن مبيح التيمم يوجب الفطر. وعند (م ر): لا يوجبه إلا خوف الهلاك، وهذا وارد على تعبير المتن بالجواز، لكنه جواز بعد امتناع فيصدق بالوجوب، وعلى كلام (م ر) فالجواز فيه مستعمل في حقيقته ومجازه، أو بمعنى غير الممتنع الشامل للواجب والمباح. ويلزم أهل العمل المشق في رمضان كالحصادين ونحوهم تبييت النية، ثم مَنْ لحقه منهم مشقة شديدة .. أفطر، وإلا .. فلا. ولا فرق بين الأجير والغني وغيره، والمتبرع وإن وجد غيره وتأتى لهم العمل ليلاً، كما قاله الشرقاوي: وقال في "لتحفة": إن لم يتأت لهم ليلاً. ولو توقف كسبه لنحو قوته المضطر إليه هو أو ممونه على فطره .. جاز له، بل لزمه عند وجود المشقة الفطر، لكن بقدر الضرورة، ومن لزمه الفطر فصام .. صح صومه؛ لأن الحرمة لأمر خارج، ولا أثر لنحو صداع ومرض خفيف لا يخاف منه ما مر. (و) يجوز الفطر أيضاً (للمسافر سفراً طويلاً مباحاً)؛ للكتاب والسنة والإجماع، لا لذي السفر القصير أو المحرَّم، ويأتي هنا جميع ما مر في القصر، فحيث جاز .. جاز الفطر (إلا) أنه هنا لا يفطر (إن طرأ السفر) بأن فارق العمران أو السور (بعد الفجر)؛ تغليباً للحضر، بخلاف القصر فيقصر بعد مجاوزة ما ذكر في يوم السفر وإن طرأ السفر بعد الفجر، وبخلاف الفطر بالمرض فيباح بحدوث المرض أثناء النهار؛ لوجوده من غير اختياره بخلاف السفر، فإن سافر قبل الفجر .. جاز له الفطر ولو بعد نية الصوم وإن نوى ليلاً، فقد صح: أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد العصر في رمضان في سفر بقدح ماء لمّا قيل: إن الناس يشق عليهم الصوم، ولوجود سبب الترخيص. ولو نوى ليلاً ثم سافر ولم يدر أسافر قبل الفجر أم بعده؟ امتنع الفطر؛ للشك في مبيحه. وتجب نية الترخص عند الفطر على مسافر ومريض يرجى برؤه ومن غلبه نحو جوع

كالحصادين ونحوهم؛ قياساً على محصر تحلل، وليتميز الفطر المباح من غيره. قال الونائي: لا على شيخ وشيخه ومريض لا يرجى برؤه، وحامل ومرضع. (والصوم في السفر أفضل) من الفطر؛ لآية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:184]، ولبراءة الذمة، وحيازة فضيلة الوقت. وفارق أفضلية القصر بأنه يحصل به براءة الذمة وفضيلة الوقت، بخلاف الصوم، وبأن فيه خروجاً من خلاف موجبة كأبي حنيفة. وليس في إيجاب الفطر خلاف يعتد به، هذا (إن لم يتضرر) حالاً ولا مآلاً، وإلا فالفطر أفضل؛ لخبر الصحيحين: إنه صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل ثجرة يرش عليه الماء، فقال: "ليس من البر الصيام في السفر"، بل قد يجب، كما مر. وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم في الخير لما أفطر فبلغه أن أناساً صاموا: "أولئك العصاة"، أي بالصوم مع خوف المحذور، أو عصاة لمخالفتهم أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالفطر، ليتقووا على عدوهم. نعم؛ إن نذر المسافر إتمام صومه .. لم يجز له الفطر، وكذا مديم السفر؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط الوجوب بالكلية، ومسافر غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى أن يقضيه -كذي مرض مخوف- وهو قادر على الصوم قاله (م ر)، ونظر في الأولى في "التحفة"، و"الإيعاب"، و"الإمداد" في كليهما. وفي "التحفة": أنه يمتنع الفطر على من قصد بسفره محض الترخص، كمن سلك الطريق الأبعد للقصر، ثم قال: وصريح كلام الأذرعي والزركشي امتناع الفطر على من نذر صوم الدهر؛ لأنه انسد عليه القضاء. (وإذا بلغ الصبي أو قدم المسافر أو شفي المريض وهم صائمون) بأن نووا ليلاً، ولم يتناولوا مفطراً ( .. حرم الفطر)؛ لزوال مبيحه، ولذا لو جامع أحدهم لزمته الكفارة.

(وإلا) يكونوا صائمين بل مفطرين ولو بترك النية ( .. استحب) لهم (الإمساك) كمن طهرت من حيضها، ومن أفاق أو أسلم أثناء النهار؛ لحرمة الوقت، وإنما لم يجب؛ لأن الفطر مباح لهم ظاهراً وباطناً. وزوال العذر بعد الترخص لا يؤثر، بخلاف المتعدي بفطره وتارك النية ومن أفطر أول يوم من رمضان قبل تبينه؛ لأنهم غير مباح لهم الفطر ظاهراً وباطناً، بل لازم الصوم لهم باطناً وظاهراً إلا في من أفطر يوم من رمضان .. فباطناً فقط، فلما أفطر بظن تبين خطؤه .. وجب عليه الإمساك. والحاصل: أن من جاز الفطر له ظاهراً وباطناً لا يجب عليه الإمساك بل يسن، ومن حرم عليه ظاهراً وباطناً، أو باطناً فقط .. وجب عليه الإمساك. (وكل من أفطر لعذر أو غيره .. وجب عليه القضاء) ولو بيوم قصير عن طويل؛ لما فاته من واجب رمضان أو غيره لسفر أو مرض؛ للآية، أو حيض أو نفاس؛ لما مر في الحيض، أو إغماء أو سكر؛ لأن الإغماء مرض، ولذا جاز على الأنبياء، بخلاف الجنون، ويخالف الصلاة؛ لتكررها. والسكران في معنى المكلف، قال (ب ج): والظاهر أن السكران لا يجب عليه القضاء إلا بتعد، وبه صرح (حج) و (م ر). وقال (سم): يجب على السكران مطلقاً كالمغمى عليه. ثم من أفطر رمضان أو واجباً غيره تعدياً .. لزمه القضاء مطلقاً حتى تلزم الفدية عنه لو مات قبل صومه وإن لم يتمكن منه. ومن أفطره بعذر كمرض وسفر وحيض وناسي النية .. فإنما يجب عليه القضاء (بعد التمكن) منه، وإلا كأن مات عقب موجب القضاء، أو استمر به العذر إلى موته أو سافر أو مرض بعد أول يوم من شوال إلى أن مات .. فلا فدية عليه؛ لعدم تمكنه منه. (إلا الصبي والمجنون) الذي لم يتعد بجنونه .. فلا قضاء عليهما؛ لرفع القلم عنهما. (و) إلا (الكافر الأصلي) .. فلا قضاء عليه؛ ترغيباً له في الإسلام. لكن يسن لصبي قضاء ما فاته زمن تمييزه، ولكافر قضاء يوم إسلامه.

أمَّا المعتدي بجنونه وكذا من ارتد، ثم جن .. فيلزمهما قضاء مدة جنونهما، بخلاف من سكر ثم جن .. فيلزمه قضاء مدة سكره، ويرجع فيه لأهل الخبرة. (ويستحب) فيما فات بعذر (موالاة القضاء) فيه (والمبادرة به)؛ مسارعة لبراءة ذمته. نعم؛ قد يجبان لنحو ضيق وقت، كأن لم يبق من رمضان إلا قدر الأيام التي عليه. (وتجب) المبادرة المستلزمة للموالاة (إن أفطر لغير عذر)؛ ليخرج عن معصية الترك المتعدي به. قال في "الإمداد": وفي هذه الحالة يلزمه القضاء ولو في السفر ونحوه؛ إذ التخفيف بالتأخير لا يليق بالمتعدي. (ويجب الإمساك في رمضان)؛ لحرمة الوقت، وتشبيهاً بالصائمين دون غيره كنذر وقضاء؛ لانتفاء شرف الوقت عنهما. ولذا لم تجب في إفسادهما كفارة (على تارك) الصوم في رمضان، وقد وجب عليه ولو باطناً. ومنه تارك (النية) ليلاً ولو سهواً؛ لأن نسيانه يشعر بتقصيره بترك الاهتمام بالعبادة، ومن أكل ظاناً بقاء الليل فبان نهاراً (والمتعدي بفطره) ولو شرعاً عقوبة له. (و) المفطر (في يوم الشك إن تبين كونه من رمضان)؛ لتوجه الأمر عليه بصومه، لكنه جهله .. فعذر بإفطاره قبل التبين، فلما تبين .. وجب الإمساك. وفارق المسافر بعدم توجه الأمر عليه أصلاً. (ويجب قضاؤه) أي: يوم الشك المذكور كغيره مما تعدى بفطره (على الفور) على المعتمد؛ للتقصير بعدم رؤية الهلال مع رؤية غيرهم له. وإنما لم يجب على ناسي النية الفور في قضائه؛ لأن عذره أعم وأظهر من عذر مفطر يوم الشك المذكور، ولأنه له حيلة في إدراك الهلال، بخلاف ناسي النية لا حيلة له في دفع النسيان، كذا قالوه. * * *

فصل: في سنن الصوم

(فصل) في سنن الصوم. وهي كثيرة، منها: أنه (يستحب) لصائم رمضان وغيره تناول مفطر. أمَّا الفطر بمعنى: الخروج من الصوم .. فيحصل بالغروب. ومنه أيضاَ أنه يستحب (تعجيل الفطر)؛ للخبر الصحيح: "لا تزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور". وهل يحصل الفطر بنحو جماع وإدخال نحو عود في أذنه؟ قال (ب ج): الأولى نعم؛ وقال (ق ل): قوله (وتعجيل فطر) أي: بغير جماع. وإنما يسن ما ذكر (عند تيقن الغروب) أو ظنه بأمارة قوية. (و) يسن (أن يكون) الفطر (بثلاث) رطبات، فثلاث (تمرات، فإن عجز) عن الثلاث ( .. فبتمرة) وأولى منها رطبة. (فإن عجز) عنهما ( .. فالماء) الذي يسن الفطر به؛ للخبر الصحيح: "إذا كان أحدكم صائماً .. فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر .. فعلى الماء، فإنه طهور". وفي الخبر الصحيح: (كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي برطبات، فإن لم تكن .. فعلى تمرات، فإن لم تكن .. حسى حسوات) وهذا الترتيب للأكمل. أمَّا أصل السنة .. فيحصل بأي شيء وجد من الثلاثة، وبعدها حلو كزبيب، فحلواء. وقدَّم الروياني الحلو على الماء، والمحب قدَّم ماء زمزم على التمر، أو الجمع بينهما، والقاضي قدَّم ما يأخده بكفه من نحو نهر؛ لأنه أبعد عن الشبهة. وهذا ظاهر إن خلا ماء النهر عن الشبهة، وقد قويت في نحو التمر. (و) يسن (أن يقول عنده) أي: عند إرادته، والأولى بعده (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) حقيقة على الثاني، وأردت الإفطار على الأول وبك آمنت وعليك توكلت ورحمتك رجوت وإليك أنبت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى.

ويقول ذلك وإن لم يكن به ظمأ وإن أفطر على غير ماء؛ اتباعاً للوارد؛ إذ المراد حينئذٍ: دخل وقت ذلك. وورد: يا واسع الفضل؛ اغفر لي، الحمد لله الذي عافاني فصمت، ورزقني فأفطرت. وأن ينوي الصوم عند إفطاره؛ خوف أن ينسى النية بعد، وأن يعيدها بعد تسحره؛ للخلاف في صحتها أوَّله، وفيما لو تعاطى مفطراً ليلاً بعدها. (و) يسن (تفطير الصائمين) ولو بتمرة أو شربة وبعشاء أفضل؛ لخبر: "من فطر صائماً .. فله مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء". ولو تعاطى الصائم ما يبطل ثوابه .. لم يبطل أجره لمن فطره. وندب للمفطر عند الغير أن يقول: "أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة الأخيار، وأفطر عندكم الصائمون"، كما صح به الخبر. (وأن يأكل معهم)؛ لأنه أليق بالتواضع، وأبلغ في جبر قلوبهم. (و) يسن (السُّحور) بضم السين: الأكل في السحر، وبفتحها: ما يؤكل فيه. والمراد هنا بالضم؛ لأن الأجر في الفعل حقيقة، وفي المأكول مجاز؛ لما مر، ولما صح من الأمر به، وأنه بركة، وتحصل أصل سنته ولو بجرعة ماء، ويدخل وقته بنصف الليل. وحكمته: التقوى ومخالفة أهل الكتاب، فيسن ولو لشعبان خلافاً لـ (م ر)، وكونه برطب فتمر كالفطر. (وتأخيره)؛ لما مر في تعجيل الفطر، وصح: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة) وكان قدر ما بينهما خمسين آية. فما يفعله الناس من التمكين في المغرب وإيقاع الأذان الثاني قبل الفجر مخالف للسنة. قال القسطلاني: فلذا قلَّ فيهم الخير. وهذا (ما لم يقع) به (في شك) في طلوع الفجر، وإلا .. فالأولى تركه؛ لخبر: "دع ما يريبك". وظاهر كلامهم أنه مع ظن بقاء الليل لا يسن تركه.

(و) يسن (الاغتسال إن كان عليه غسل) من جنابة أوغيرها (قبل الصبح)؛ ليؤدي الصوم على طهارة، ومن ثم ندب المبادرة إلى الغسل نهاراً وليلاً؛ ولئلا يصل الماء جوفه من نحو أذنه ودبره، ومن ثم ندب له غسل هذه المواضع قبل الفجر إن لم يتهيأ له الغسل الكامل قبله؛ تخفيفاً للحدث، وخروجاً من خلاف إبي هريرة رضي الله عنه القائل بوجوبه؛ لخبر الصحيحين: "من أصبح جنباً .. فلا صوم له"، لكونه منسوخ أو مؤول. (ويتأكد له) -أي: للصائم- من حيث الصوم وإن وجب لذاته (ترك الكذب والغيبة) وإن أبيحا لنحو إصلاح أو تظلم .. فيسن تركهما، بخلاف الواجبين ككذب؛ لإنقاذ مظلوم وذكر عيب خاطب توقفت النصيحة عليه، وحفظ جوارحه من كل منهي عنه؛ لخبر البخاري: "من لم يضع قول الزور والعمل به .. فليس لله حاجة في أن يضع طعامه وشرابه". وخرج بزيادتي (من حيث الصوم) نحو النميمة والكذب والغيبة لذاتها، فيجب تركها، فهي يجب تركها لذاتها ويسن للصوم. فإذا اغتاب مثلاً .. حصل عليه إثم الغيبة لذاتها، وبطل ثواب الصوم لا الصوم بمخالفة الأمر المندوب بتنزيه الصوم عنها، كما دلت عليه الأحاديث، ونص عليه الشافعي والأصحاب، وبه يُرد بحث الأذرعي حصول الثواب، وعليه إثم المعصية كما في الصلاة في المغصوب. وقال الأوزاعي: يبطل أصل الصوم، وهو قياس مذهب أحمد. وخبر: "خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة" باطل، كما في "المجموع" ولو فرض صحته .. فالمراد بطلان الثواب. ولو اغتاب وتاب .. لم يعد له ثواب الصوم. (ويسن ترك) تعاطي (الشهوات) المباحة لغير من يتعاطى بيعها من مسموع ومبصر ومشموم وملبوس وملموس، كشم ريحان ولمسه والنظر إليه؛ وذلك لما فيها من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم من كسر الهوى. ويسن له ترك اللغو ونحو النميمة والمشاتمة.

(فإن شاتمه) أي: شتمه أو تعرض لمشاتمته (أحد .. تذكر) بقلبه (أنه صائم)؛ زجراً لنفسه عن إدخال الخلل على صومه، ويندب أن يقول ذلك بلسانه أيضاً حيث لم يظن رياءً؛ زجراً لخصمه، ودفعاً بالتي هي أحسن. فإن اقتصر على أحدهما .. فبلسانه أولى؛ إذ يلزم من ذكر اللسان تذكر القلب، ففي الخبر الصحيح: "الصوم جنة، أي: مانع من ارتكاب الآثام -أي: شأنه ذلك- فإذا كان أحدكم صائماً .. فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه .. فليقل: إني صائم مرتين"، أي: أو أكثر. (وترك الحجامة) وتكره منه لغيره وعكسه؛ خروجاً من خلاف من فطر بها، وصح خبر احتجامه صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وأنه رخص في الحجامة بعد أن قال: "أفطر هذان"، أي: الحاجم والمحجوم. وكلام "النهاية"، و"الشرح"، يفيد: أن الفصد فيه خلاف الحجامة. لكن في كلام غيرهما: أنه لا خلاف فيه. (و) ترك (المضغ) لنحو لبان، فيكره؛ لأنه يعطش، بل ويفطر إن وصل الجوف شيء من الريق المخلوط على قول إنْ كثُر. (و) ترك (ذوق الطعام) بل يكره خوف وصوله لجوفه. نعم؛ إن احتاج إلى مضغ نحو خبز لطفل ليس له من يقوم به، أو لتحنيكه .. لم يكره. (و) ترك (القبلة) في فم أو غيره، واللمس ونحو ذلك وإن لم تكره بأن لم يخش الإنزال؛ لأنها قد يظنها غير محركة وهي محركة. (وتحرم) ولو على نحو شيخ (إن خشي منها) أو من اللمس (الإنزال) أو الجماع ولو بلا إنزال؛ لأن في ذلك تعريضاً لإفساد العبادة. وصح الترخيص للشيخ في القبلة، ونهي الشاب عنها، وقال: "الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه". فأفهم: أن الحكم دائر مع خشية ما ذكر وعدمها، ومحل الحرمة في صوم الفرض، أمَّا النفل .. فلا حرمة فيه.

(ويكره) للصائم ولو نفلاً (السواك بعد الزوال) إلى الغروب وإن لم يتغير فمه من الصوم، بل من نحو نوم عند (حج)؛ للخبر الصحيح: "لخلوف فم الصائم يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك"، وهو -بضم الخاء المعجمة- التغير، واختص بما بعد الزوال؛ لأنه غالباً ينشأ من الصوم بعده، وقبله من أثر الطعام. والأطيبية: قال ابن عبد السلام: يوم القيامة؛ للتقيد به في بعض الأحاديث. وابن الصلاح: في الدنيا؛ لقوله في الحديث: "يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك"، وألَّف كل منهما في الرد على الآخر، ولا مانع من كونه فيهما. ولو أزاله عنه غيره بغير إذنه .. حرم؛ لتفويته الفضيلة على غيره، كما في إزالة دم الشهيد. (ويستحب في رمضان التوسعة على العيال والإحسان) بالقول والفعل والمال (إلى الأرحام والجيران، وإكثار الصدقة) ولو بجميع ماله إن كان يصبر على الإضاقة أو له حرفه يستغني بها، وإلا .. فيتصدق بما لا يضره؛ لخبر الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم: (كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل). واختص رمضان بذلك وإن كان مطلوباً في غيره أيضاً؛ لضعف الفقراء فيه عن العمل، ولتفريغ قلوب الصائمين والقائمين بدفع حاجاتهم، ولتحصيل أجر الصائم، ولأن الحسنات تضاعف فيه. (و) إكثار (التلاوة) للقرآن في غير نحو حش (والمدارسة) وهي أن يقرأ عليه غيره ما قرأه هو أو غيره؛ لخبر الصحيحين: (كان جبريل يلقاه صلى الله عليه وسلم كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن). والتلاوة في المصحف أفضل إلا إنْ حصلت فائدة عن ظهر قلب لم تحصل بها من المصحف، كخشوع وتقوية حفظ. ويسن استقبال القبلة للقارئ والجهر به إن أمن نحو رياء ولم يشوش على غيره. (و) إكثار (الاعتكاف) فيه؛ للاتباع، ولأنه أقرب لصون النفس عما لا يليق

(لا سيما العشر الأواخر) منه فهي أولى بإكثار ما ذكر وغيره من كل خير؛ للاتباع. (و) ذلك؛ لأن (فيها ليلة القدر) عندنا، فلعله يصادفها بما ذكر. وقيل: ليلة تسعة عشر، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ليلة النصف، وقيل: جميع رمضان، وقيل: جميع السنة، بل فيها للعلماء أربعون قولاً. وميل الشافعي رحمه الله: أنها ليلة الحادي، أو الثالث والعشرين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أريها في العشر الأخير في ليلة وتر، وأنه يسجد في ماء وطين، فكان ذلك ليلة الحادي والعشرين كما في الصحيحين، أو ليلة الثالث والعشرين كما في مسلم. واختير أنها تنتقل في ليالي العشر الأخيرة، وبه تجتمع الأحاديث المتعارضة، وكلام الشافعي في الجمع بين الأحاديث يقتضيه. وحكمه إبهامها: إحياء جميع الليالي بالعبادة، وهي من خصائصنا، وباقية إلى يوم القيامة، والتي (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:4]. وأغرب مَنْ جعلها ليلة نصف شعبان. وعلامتها: أنها معتدلة، وتطلع شمس يومها بيضاء، وليس لها كثير شعاع؛ لنور الملائكة الصاعدين والنازلين، والعمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة قدر. وصح خبر: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً .. غفر له ما تقدم من ذنبه" وفي رواية: "وما تأخر". وروى البيهقي: "من صلى العشاء في جماعة حتى ينقضي رمضان .. فقد أخذ من رمضان بحظ وافر". وخبر "من شهد العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان .. فقد أدرك ليلة القدر"، اي: أصل ثوابها، وأمَّا كماله .. فلمن رآها. وسميت ليلة القدر؛ لعظم قدرها، أو لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء. ومن خصائصها أنها لا ينعقد فيها نطفة كافر، وينكشف فيها شيء من عجائب الملكوت، والناس متفاوتون في هذا الكشف. وقد نظم العلامة القليوبي قاعدة تعلم بها ليلة القدر بقوله [من الرجز]: يا سِائلي عن لَيْلَةِ القَدْرِ التي ... في عَشْرِ رَمْضان الأخير حلَّت

فصل: في بيان كفارة جماع رمضان

فإنها في مُفْرَداتِ العشر ... تُعْرَفُ من يوم ابتداءِ الشَّهر فبالأحدْ والأربعاء التاسعة ... وجمعةٍ مع الثلاثا السابعةْ وإن بدا الخميسُ .. فالخامسة ... وإن بدا بالسبت .. فالثالثةُ وإن بدا الإثنينُ .. فهي الحادي ... هذا عن الصوفية الزهادِ قال الكردي: ورأيت قاعدة أخرى تخالف هذه. (ويقول) ندباً (فيها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)؛ لما صح من أمر عائشة بذلك إن وافقتها. (ويكتمها) ندباً من رآها؛ لأن رؤيتها كرامة، وهي لا ينبغي إظهارها باتفاق أهل الطريق إلا لغرض شرعي. (ويحييها ويحيي يومها كليلتها) بالعبادة، بإخلاص وبذل وسع. (ويحرم الوصال في الصوم) فرضاً ونفلاً، وهو صوم يومين فأكثر من غير تناول مفطر بينهما؛ للنهي عنه في الصحيحين وإن لم يكن فيه ضعف. ومن ثَمَّ لو أكل ناسياً كثيراً قبل الغروب .. حرم عليه الوصال مع انتفاء الضعف. ولو ترك غير الصائم الأكل أياماً ولم يضره .. لم يحرم، ولا ينتفي إلا بتعاطي ما من شأنه أن يقوي، كسمسة لا نحو جماع. * * * (فصل) في بيان كفارة جماع رمضان. (تجب الكفارة) الآتية مع القضاء، وكذا التعزير في غير من جاء مستفتياً تائباً، وهذا مستثنى من: أنَّ ما فيه حد أو كفارة لا تعزير فيه. (على من) أي: واطئ بشبهة أو نكاح أو زناً (أفسد) حقيقة أو حكماً كأن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام (صوم يوم) تام (من رمضان) يقيناً على نفسه (بالجماع) وحده الذي يأثم به؛ لأجل الصوم وحده، وهو: صوم رمضان، ولا شبهة (ولو) كان

الجماع (في دبر) رجل أو امرأة، ولو ميتاً (أو بهيمة)؛ لما صح من أمر المجامع في نهار رمضان بالإعتاق. فإن لم يجد .. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع .. فإطعام ستين مسكيناً. (لا على المرأة) الموطوءة، ولا الرجل الموطوء وإن فسد صومهما بالجماع، بأن أولج فيه مع نوم الموطوء، ثم استدامه بعد الاستيقاظ، وإلا .. فيفطر بدخول رأس الذكر قبل تمام الحشفة. والجماع إنما يتحقق بدخول جميع الحشفة؛ لأنه لم يؤمر بها في الخبر إلا الرجل المجامع مع الحاجة إلى البيان، ولأنها غرم مالي يتعلق بالجماع، فيختص بالرجل الواطئ كالمهر. ولو علت على رجل .. فلا كفارة عليها؛ إذ لا كفارة على المرأة ولا على الرجل، لعدم الفعل منه. فإن لم ينزل .. لم يفسد صومه، وإلا .. فسد بالإنزال، كالإنزال بمباشرة. (ولا على من) أي: واطئ لم يفسد صومه، كأن (جامع ناسياً) للصوم أو جاهلاً بالحرمة لنحو قرب عهده بالإسلام (أو مكرهاً)؛ إذ صومهم لا يبطل بذلك؛ لعذرهم، بل لا كفارة عليهم وإن قلنا: إن ذلك مفسد؛ لانتفاء الإثم. ولو علم تحريم الجماع وجهل الكفارة به .. وجبت قطعاً. (ولا على من أفسد) بجماعه غير صوم، أو صوم غيره كمسافر مفطر جامع صائمة فأفسد صومها؛ إذ لو أفسدت صومها بالجماع .. لم تلزمها كفارة، فالأولى أن لا يلزم غيرها إذا أفسده. ولا على من أفسد بجماعه (صوم غير رمضان) كقضائه؛ لورود النص في رمضان، وهو مختص بفضائل لا يشاركه فيها غيره، فلا يقاس عليه غيره. ولا على من أفسد صوم يوم منه ظناً، كمنجم صامه بتنجيمه وجامع فيه، إلا إن علم بعد أنه منه. ولا على من أفسد صوم بعض يوم كأن جن فيه بعد الجماع، بخلاف من سافر بعده.

(ولا على من أفطر بغير جماع) كاستمناء وإن جامع بعده؛ لأن الجماع أغلظ، فلا يقاس عليه غيره. ولا على من أفطر بجماع وغيره، كأن وقع جماعه وأكله معاً؛ لوجود المقتضي والمانع، فقدم المانع. لكن كون الأكل مانعاً من الكفارة فيه نظر، فالأولى التعليل بأن إسناد الفساد إلى الجماع ليس أولى من إسناده إلى الأكل. (ولا على) من لم يأثم بجماعه، كـ (المسافر والمريض) إذا جامعا بنية الترخص. ولا على من أثم به لا من حيث الصوم وحده كمريض ومسافر وطئا حليلتهما. (و) كذا (إن زنيا)، قال في الشرح: (فإثمهما ليس لأجل الصوم وحده، بل له مع عدم نية الترخص في الأولى، أي: أنهما علة واحدة مركبة منهما، أو لأجل الزنا في الثانية، أي: إن نوى الترخص، وإلا .. فلهما، ولأن الإفطار لهما مباح، فيصير شبهة في درء الكفارة) اهـ وفيه أن علة الإثم في الأولى عدم نية الترخص لا الصوم، كما قاله (ب ج). أمَّا إذا كان الصوم علة تامة في الحرمة سواء وجدت مع حرمته حرمة أخرى أم لا، كمقيم أفطر بالزنا .. فتجب عليه الكفارة وإن أثم لأجل الصوم والزنا؛ لأن كلاً منهما علة على حدتها في الأثم. (و) مر أن الكفارة (لا) تجب (على) غير آثم، ومنه (من ظن أنه) أي: الزمن الذي جامع فيه (ليل) بأن غلط، فظن بقاء الليل أو شك فيه (فتبين نهاراً) وكذا لو ظن دخول الليل أو شك فيه، فجامع، فبان أنه جامع في النهار، أو أكل ناسياً وظن أنه أفطر به، فوطئ عالماً عامداً، أو كان صبياً؛ لعدم الإثم في غير الشك في دخول الليل، ولسقوط الكفارة بالشبهة. ولو رأى هلال رمضان .. لزمه صومه وإن لم تقبل شهادته، فإن جامع فيه .. لزمته الكفارة. ويلحق به: من أخبره من اعتقد صدقه؛ لما مر أنه يلزمه الصوم بذلك. (وهي) أي: الكفارة هنا، وكذا في الظهار والقتل إلا أنه لا إطعام فيه.

(عتق رقبة) كاملة الرق، خالية عن شائبة عوض، لا تستحق العتق بغير جهة الكفارة. (مؤمنة) ولو تبعاً لأصل أو سابٍ أو دار؛ حملاً للمطلق هنا، والظهار على المقيد في آية القتل. (سليمة من العيوب التي تخل بالعمل) إخلالاً بيَّناً وإِن لم تسلم عما يُثبت الرد في المبيع ويمنع الإجزاء في الغرة؛ إذ المقصود استقلاله بكفاية نفسه. فيجزئ مقطوع أصابع رجلين، ومقطوع خنصر أو بنصر من يد واحدة، أو أناملها العليا من غير الإبهام، وأعرج يتابع المشي، وأعور لم تضغف سليمته ضعفاً بيَّناً، ومقطوع أذنين وأنف، وأجذم وممسوح، وفاقد أسنان وضعيف بطش، ومن لا يحسن صنعة وفاسق، ونحو آبق علمت أو بانت حياته. وخرج بـ (كاملة الرق): مستولدة ومكاتب كتابة صحيحة. أمَّا المبعض .. فإن أعتق بعض عبدين عن كفارة وكان موسراً ولو بأحدهما أو باقي أحدهما له، أو حر .. صح؛ لحصول الاستقلال المقصود ولو في أحدهما، ويصير في السراية كأنه باشر عتق الجميع. ويجزئ المدبر والمعلق عتقه بصفة إذا نجَّزَ عتقه، أو علقه بصفة تسبق الأولى، وإلاَّ .. عتق عنها لا عن الكفارة. وبـ (خالية) ... إلخ: ما لو أعتق بعوض عن كفارته على القن أو أجنبي .. فلم يجزئ عن الكفارة؛ لعدم تجرد العتق لها، ومن ثم استحق العوض على الملتمس. وبـ (لاتستحق العتق ... إلخ): الأصل والفرع، فلا يجزئان عن كفارة؛ لاستحقاق عتقهما بملكه لهما. وبـ (سليمة ... إلخ): نحو مجنون ومريض لا يرجى برؤه، ومقطوع خنصر وبنصر من يد أو إبهام أو سبابة أو الوسطى، أو أنملتين من أحدهما، أو أنملة من الإبهام، والشلل كالقطع. تنبيه: الإعتاق بمال كطلاق به، فيكون معاوضة فيها شوب تعليق من المالك، وشوب جعالة من الملتمس، فيجب فوراً الجواب، وإلاَّ .. عتق على المالك مجاناً.

ولو قال لغيره: أعتق أم ولدك على ألف، ولم يقل: عني، سواء قال: عنك، أم أطلق، فأعتق فوراً .. نفذ عتقه، ولزم الملتمس العوض؛ لأنه افتداء من جهته، كاختلاع أجنبي. فإن قال: عني فأعتقها عنه .. فتعتق، ولا عوض؛ لاستحالته. بخلاف: طلق زوجتك عني؛ فإنه يتخيل انتقال شيء إليه. وكذا لو قال: أعتق عبدك على ألف، ولم يقل: عني، سواء قال: عنك، أم أطلق، فأعتق فوراً .. نفذ العتق، فيستحق المالك الألف في الأصح؛ لأنه افتداء كأم الولد. ولو قال: أعتقه عني على كذا، أو أطعم ستين مسكيناً ستين مداً عني بكذا، ففعل فوراً .. نفذ عن الطالب، وأجزاءه عن كفارته إن نواها به؛ لتضمن ذلك للبيع، فكأنه قال: بعنيه بكذا، وأعتقه عني، فقال: بعتكه وأعتقته عنك، وعليه المسمى إن ملكه، وإلاَّ .. فبدله كالخلع، فإن قال: مجاناً .. لم يلزمه شيء؛ لأنه هبة بخلاف ما لو سكت عن العوض. فالمعتمد: أنه إن قال: عن كفارتي، أو عني، وعليه عتق، ولم يقصد المعتق العتق عن نفسه .. تلزمه قيمته، كما لو قال: اقض ديني، وإلا .. فلا. (فإن لم يجد) رقبة كاملة وقت الأداء بأن يعسر عليه فيه تحصيلها؛ لكونه يحتاجها، أو ثمنها؛ لكفايته أو كفاية لممونه مدة العمر الغالب مطعماً وملبساً ومسكناً وأثاثاً، أو لدينه ولو مؤجلاً، أو لخدمة له أو لممونه لمنصب ونحوه، بحيث تحصل له مشقة لا تحتمل عادة بعتقه لا فوات رفاهية، ويأتي في نحو كتب الفقيه، وحلي المرأة وآلة المحترف، ما مر في قسم الصدقات. ولا يجب بيع أرض لا تفضل غلتها عن كفايته، ولا صرف مال تجارة لا يفضل ربحه عنها فيها، ومثل ذلك الماشية ونحوها، ولا شراء الرقبة بزيادة على ثمن مثلها وإن قلت، لكن يمنع ذلك إجزاء الصوم، فيصبر إلى وجودها بثمن مثلها، كغيبة ماله ولو فوق مسافة قصر ولا نظر لتضررهما بفوات التمتع مدة الصبر في الظهار؛ لأنه المتسبب في ذلك وإن جاز العدول بذلك إلى الصوم في دم التمتع؛ لأن هذا أغلظ. ولا يجب بيع مسكن أو عبد ألفهما وإن وجد بثمن العبد مثلاً عبداً يخدمه وعبداً يعتقه، إن لحقه بذلك مشقة لا تحتمل عادة.

نعم؛ إن كفاه بعض المسكن وحصل بباقيه رقبة .. لزمه. واحتياجه لأمة للوطء كاحتياجه القن للخدمة. ( .. صام شهرين متتابعين) إن لم يتكلف العتق، وهما هلالان. فإن انكسر الأول .. تمم ثلاثين من الثالث، فإن فسد صوم يوم أو لم يصمه ولو بعذر كمرض وإن أوجبه .. استأنفهما. نعم؛ لا يضر الفطر بحيض أو نفاس أو جنون أو إغماء مستغرق؛ لمنافاتها له مع كونها اضطرارية. نعم؛ إن اعتادت انقطاع الحيض شهرين، وشرعت في وقت يتخلله الحيض .. استأنفتهما. ويجب في الصوم التبييت، وكونه بنية الكفارة وإن لم يعينها ولم ينو تتابعاً. فلو صام أربعة أشهر وعليه كفارتا قتل وظهار، ولم يعين .. أجزأته عنهما. (فإن لم يقدر) بأن عسر عليه صومهما، أو تتابعه لنحو هرم أو مرض يدوم شهرين غالباً، أو خاف زيادة مرضه به، أو معه شهوة للوطء، أو غير ذلك مما يحصل به مشقة لا تحتمل عادة ( .. أطعم) - أي: ملك- أي: دفع لهم ولو بلا لفظ تمليك (ستين مسكيناً) أو فقيراً من أهل الزكاة. ولو كفر عن المجامع غيره بإذنه .. جاز له صرف ذلك له ولممونه؛ إذ المكفر غيره، ولعلها واقعة المجامع في الحديث المتقدم. (كل واحد) منهم (مداً) يجزئ فطرة، ويكفي أن يضع الستين بين أيدي ستين، ويقول: ملكتكم ذلك، أو خذوه، ونوى به الكفارة وإن لم يقل بالسوية. ولهم التفاوت في قسمتها في الأولى؛ لأنهم بالقبول ملكوه، بخلافه في الثانية فلم يملكوه إلا بالأخذ، فلا يجزئ إلا لمن أخذ منه مداً لا دونه. ولو صرف الستين إلى مئة وعشرين بالسوية .. حسب له ثلاثون مداً، فيصرف ثلاثين أخرى لستين منهم بالسوية، ويسترد الباقي من الباقين إن علموا أنها كفارة، وإلا .. فلا. ويجوز أن يدفع لمسكين مدين من كفارتين، وأن يعطي رجلاً مداً ويشتريه منه، ثم يصرفه لآخر ويشتريه منه، وهكذا إلى الستين، لكنه مكروه؛ لشبهه بالعائد في صدقته.

فصل: في الفدية الواجبة بدلا عن الصوم

(وتسقط الكفارة) هنا (بطروء الجنون والموت في أثناء النهار) الذي جامع فيه وإن تعدى بهما؛ لأنه بان بطروء ذلك أنه لم يكن في صوم، وبانتقاله لبلد أهله معيدون ومطلعهم مختلف وإن عاد لبلده؛ إذ الساقط لا يعود. ولو جامع في بلده يوم العيد، فانتقل لبلد أهله صيام .. فلا كفارة أيضاً. (لا بالمرض والسفر) والإغماء والردة؛ إذ الأولان لا ينافيان الصوم، فيتحقق هتك حرمته، وطرو الردة لا يبيح الفطر، فلم يؤثر فيما وجب من الكفارة. (ولا بالإعسار) بل إذا عجز عن الخصال الثلاثة .. استقرت في ذمته، فإذا قدر على خصلة .. فعلها، ولا أثر للقدرة على بعض خصلة إلا في الإطعام، ولو بعض مدّ، والباقي إذا أيسر. (ولكل يوم يفسده) بالجماع السابق (كفارة) ولا تتداخل وإن لم يكفر عما قبل الأخير؛ إذ كل يوم عبادة مستقلة بنفسها لا ارتباط لها بما بعدها، بدليل تخلل منافي الصوم من نحو أكل بين الأيام من غير إفساد لما قبله. فعلم: أن على المفسد خمسة أشياء: الإثم، والقضاء، والكفارة، والتعزير إن لم يتب، والإمساك. * * * (فصل) في الفدية الواجية بدلاً عن الصوم. وأنها تارة تجامع الصوم، وتارة تنفرد عنه، وفيمن تجب عليه. (ويجب) [مع القضاء] الفدية، وهي (مد من غالب قوت البلد) في غالب السنة كالفطرة. والمراد بـ (البلد): المحل الذي هو فيه عند أوّل مخاطبته بالقضاء. (ويصرف إلى) واحدٍ لا أكثر من (الفقراء أو المساكين) دون غيرهما من مستحقي الزكاة؛ لأنّ المسكين ذكر في الآية، والفقير أسوأ حالاً منه. وله الصرف أمدادٍ لواحد، لا مدّ لاثنين، ومد وبعض آخر لواحد؛ لأن كل مدًّ فدية

تامة، وبه فارق ما مرَّ في كفارة الجماع، وقد وجب صرف الفدية لواحد، فلا ينقص عنها. وفي "التحفة": (وإنما جاز صرف فديتين لواحد كزكاتين، ويجوز بل يجب صرف صاع الفطرة لاثنين وعشرين ثلاثة من كل صنف، والعامل؛ لأنه زكاة مستقلة، وهي بالنص يجب صرفها لهؤلاء؛ إذ تعلق الأطماع بها أشد. وإنما صرف جزاء الصيد لمتعددين؛ لأنه قد يجب التعدد فيها ابتداء بأن أتلف جمع صيداً، وأيضاً فهو مخير، وهو يتسامح فيه ما لا يتسامح في المرتب، وأيضاً فإنّ فيه جمع المساكين، كآية الزكاة، بخلاف الآية هنا) اهـ ويجب المد (لكل يوم) لما مرَّ: أنَّ كل يوم عبادة مستقلة. وتجب الفدية بثلاث طرق: الأولى: فوات نفس الصوم، فحينئذٍ (يخرج) بعد مؤن تجهيزه لكل يوم مد (من تركه من مات وعليه صوم) واجب (من رمضان أو غيره) كنذر وكفارة (و) قد (تمكن من القضاء) ولم يقض (أو تعدى بفطره) وإن لم يتمكن من القضاء، ويأثم بالتعدي والتأخير بعد التمكن، وكذا كل عبادة وجب قضاؤها، فأخره مع التمكن حتى مات وإن ظنَّ السلامة، فيعصي من آخر زمن التمكن كالحج. بخلاف المؤقت المعلوم الطرفين لا إثم فيه بالتأخير عن زمن إمكانه أدائه. وأفهم قوله: (من تركه): أنه ليس لأجنبي إخراجها؛ لأنها بدل عن بدني، بخلاف الحج، وكذا إطعام الأنواع الآتية. ومرَّ أنه لا يجوز إخراج الفطرة بلا إذن، ومثلها الكفارة. وخرج بـ (الأجنبي): الوارث، فله إمساك التركة وإخراجها من ماله كالدين، بل مثل الوارث قريب غير وارث؛ لأن له الصوم عنه، فالإطعام أولى. والجديد: تحتم الإطعام عن الميت ومنع الصوم؛ لأنه عبادة بدنية، وهي لا تدخلها النيابة، وأولوا الأحاديث بالصيام على بدله، وهو الإطعام. والقديم: إمَّا أن يطعم -كما مر- (أو يصوم عنه قريبه) البالغ وإن لم يكن وارثاً ولا عصبة ولا ولي مال، كسفيه ولو بغير إذن الميت (أو) يصوم عنه (من) أي: أجنبي

بالغ (أذن له) أي: أذن القريب المذكور، سواء (الوارث) وغيره (أو الميت) للأجنبي في الصيام عنه بأجرة أو دونها؛ للأخبار الصحيحة، كخبر: "من مات وعليه صيام .. فليصم عنه وليه وغيره". ولو تعدد الأقارب .. قسم بينهم، وخير من خصه شيء من الأقارب بين الإطعام والصوم بنفسه، أو بالإذن فيه لغيره. ولو صام أحد الأقارب بغير إذن الباقين .. صح، ولو لم تكن تركة سن الإطعام أو الصوم. واعلم: أن التركة مرهونة بما عليه من صوم أو كفارة حتى يفعل عنه، وقلَّ أن يخلو أحد عن كفارة اليمين. أمَّا الأجنبي الذي لم يأذن له الميت ولا القريب .. فلا يصح منه صوم عن الميت، ولا إطعام. وإنما صحت حجة الإسلام عن الميت من الأجنبي وإن لم يستطع ولا أذن فيها له هو ولا قريبه؛ لأن الصوم لا يقبل النيابة في الحياة، بخلاف الحج، ولأن للصوم بدلاً، وهو الإطعام، ولا بدل للحج، فلذا ضيق في الصوم. وخرج بقوله: (تمكن) من لم يتمكن وقد أفطر بعذر، فلا فدية عليه كما مر. ولو مات وعليه صلاة أو إعتكاف .. فلا قضاء عنه ولا فدية. ولا يصح الصوم عن حيَّ ولو هرماً اتفاقاً، وحكى القفال عن بعض أصحابنا: أنه يطعم عن كل صلاة، أي: مداً، كما في "التهذيب". وحكى عن القديم: أنه يجب على الولي أن يصلي عنه ما فاته، واعتمده جمع من محققي المتأخرين، وفعل به السبكي عن بعض أقاربه. وعن البويطي أنَّ الشافعي قال في الاعتكاف: يعتكف عنه وليه. فائدة: قال في "شرح السنة" للمحب الطبري: إنه يصل للميت ثواب عبادة تفعل عنه واجبة أو مندوبة، ونقله في "شرح المنهج" عن جماعات من الأصحاب. قال (ب ج): (كأن صلى أو صام، وقال: اللهم أوصل ثواب ذلك إليه) وهو ضعيف. اهـ والضعف ظاهر إن أريد الثواب نفسه، فإن أريد مثله .. فلا ينبغي أن يختلف فيه.

نعم؛ الصدقة يصل نفس ثوابها للمتصدّق عنه إجماعاً، وكأنه هو المتصدّق، ويثاب المتصدق ثواب البر لا على الصدقة، وكذا يصله ما دعا له به إن قبله الله تعالى. وأمَّا ثواب الدعاء .. فهو للداعي. (ويجب المد) إن لم يتكلف الصوم بلا قضاء لكل يوم (أيضاً على من لا يقدر على الصوم) الواجب من رمضان وغيره بأن عجز عنه؛ لضعف (لهرم) أو زمانة (أو) لأجل (مرض لا يرجى برؤه)؛ بأن لحقه مشقة لا تحتمل عادة بالصوم. قال الكردي: أي: تبيح التيمم؛ لأن ذلك جاء عن جمع من الصحابة ولا مخالف لهم، ولآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) [البقرة:184]؛ إذ المراد لا يطيقونه، أو يطيقونه في الشباب، ويعجزون عنه في الكبر. وقرأ ابن عباس وعائشة: (وعلى الذين يطوقونه)، أي: يكلفونه فلا يطيقونه، والقراءة الشاذة حجة، والأكثرون أنها منسوخة. والفدية -هنا- واجبة ابتداء لا بدلاً عن الصوم. ومن ثم لو نذر صوماً .. لم يصح. ولو قدر على الصوم قبل إخراج الفدية .. لم يلزمه، بخلاف المعضوب لو قدر على الحج بعد الإنابة؛ لأنه مخاطب بالحج، وإنما جازت له الإنابة؛ للضرورة، وقد بان عدمها. وهنا مخاطب بالمد ابتداءً، وإذا عجز عنه .. لم يثبت في ذمته، كالفطرة عند (حج). أمَّا من تكلف الصوم .. فلا فدية عليه؛ لأن محل مخاطبته بالمد ابتداءً إن لم يرد الصوم، وإلا .. خوطب به. وأمَّا من يرجو البرء .. فواجبه الصوم عند برئه. ومثله: من لا يطيقه إلا في الأيام القصيرة أو الباردة، فيصوم فيها. ولو أخر نحو الهرم الفدية عن السنة الأولى .. لم يجب شيء للتأخير؛ لأنّ وجوبها على التراخي، كما في (ب ج) عن "الإيعاب". الطريق الثاني: يجب المد أيضاً بفوات فضيلة الوقت.

(و) من ثم وجب (على) الحرة والأمة بعد عتقها (الحامل والمرضعة) غير المتحيرة ولو مستأجرة أو متطوّعة، أو كانتا مريضتين أو مسافرتين (إذا أفطرتا خوفاً على الولد) فقط أن تجهض أو يقلَّ اللبن، فيتضرر بمبيح تيمم وإن لم تتعين بأن تعددت المراضع؛ لآية السابقة، لقول ابن عباس: إنها منسوخة إلا في حقهما. ولو امتنعت من الفطر .. فللمستأجر الخيار، والفدية على الأخيرة. وفارقت كون دم التمتع على المستأجر بأن فعل تلك من تمام المنفعة الواجبة عليها، وفعل هذا من تمام الحج الواجب على المستأجر، وأيضاً فالعبادة هنا لها، وثَمَّ للمستأجر. وأمَّا المتحيرة .. فلا فدية عليها إن أفطرت ستة عشر فأقل، وإلا .. وجب لما زاد. فلو أفطرت كل رمضان .. لزمها مع القضاء فدية أربعة عشر يوماً. والفطر فيما ذكر جائز، بل يجب إن خيف تضرر الولد بمبيح تيمم. ومحله كما في "الشرح": في المستأجرة والمتطوعة إذا لم توجد مرضعة مفطرة أو صائمة لا يضرها الإرضاع. لكن الإجارة للإرضاع إجارة عين، ولا يجوز فيها إبدال المستوفى منه. وفي "التحفة": جواز الفطر لمن تبرعت أو استؤجرت وإن لم تتعين، وهو منقول المذهب، كما قال الكردي. ولا تعدد الفدية بتعدد الأولاد؛ لأنها بدل الصوم وهو غير متعدد، بخلاف العقيقة فإنها فداء عن كل واحد. ولو أفطرت المريضة أو المسافرة بنية الترخص لأجل السفر لا للولد .. لم يلزمهما فدية، وكذا إن أطلقتا أو أفطرتا للسفر والولد. وأطلق "الأسني": وجوب الفدية عليهما، و"الإيعاب": عدمها. وخرج بقوله: (على الولد): ما لو خافتا على أنفسهما ولو مع الولد .. فلا فدية عليهما، كالزمن المرجو البرء. ولا تلزمها الفدية وحدها، بل (مع القضاء) وفارق لزومها لهما -كغيرهما ممن ارتفق بفطره شخصان- عدمه على عاص بفطره بغير جماع، بأن فطرهما ارتفق به شخصان، فجاز أن يجب به أمران كالجماع لمَّا كان من شأنه أن يحصل به مقصود الواطئ

والموطوء .. أوجب القضاء والكفارة العظمى. وأيضاً فالفدية مما استأثر الله بعلم حكمته، وليست منوطة بالإثم؛ إذ الردة في رمضان لا كفارة فيها مع أنها أفحش من الجماع. (و) كذا يجب القضاء والمد (على من أفطر لإنقاذ حيوان) محترم (مشرف على الهلاك) أو تلف عضو، أو منفعة بغرق أو صائل أو غيرهما، ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر كالحامل والمرضع بجامع أنَّ في كلٍّ إفطاراً لآجل الغير. ويأتي في المتحيرة والمريض والمسافر المنقذين ما مر فيهم في الإرضاع والحمل. وأفهم: تقييده الفدية بإنقاذ الحيوان لزومها فيه وإن كان للمنقذ، وعدم لزومها في غيره، واعتمده (م ر). واعتمد (حج): أنَّ الحيوان المحترم تجب الفدية بالفطر لإنقاذه؛ لأنه إن كان آدمياً حراً أو غير آدمي وهو له .. ارتفق به شخصان، أو رقيقاً أو حيواناً آخر لغيره .. ارتفق به ثلاثة. وإن كان غير حيوان، فإن كان لغيره .. فالفدية لارتفاق المنقذ بالفطر ومالكه بتخليصه له، وإن كان له .. فلا فدية. الطريق الثالث: تأخير القضاء. (و) حينئذٍ تجب الفدية لكل يوم (على من أخر القضاء) أي: قضاء رمضان، أو شيء منه سواء فاته بعذر أو بغيره (إلى رمضان آخر بغير عذر) بأن أمكنه القضاء في تلك السنة بخلوه فيها عن سفر ومرض قدر ما عليه من القضاء؛ لخبر ضعيف فيه. لكن وافقه إفتاء ستة من الصحابة به، ولا مخالف لهم، ولتعدية بالتأخير. وإنما جاز تأخير قضاء الصلاة إلى ما بعد صلاة أخرى؛ لأنَّ تأخير الصوم إلى رمضان آخر تأخير إلى زمن لا يقبله، بخلاف قضاء الصلاة فيصح كل وقت. أمَّا تأخيره بعذر كسفر وإرضاع ونسيان وجهل حرمة التأخير ولو مخالطاً لنا .. فلا فدية فيه؛ لأن تأخير الأداء جائز به، فالقضاء أولى وإن استمر سنين. نعم؛ مرَّ حرمة التأخير لما أفطره بغير عذر ولو في نحو السفر، وإذا حرم .. كان بغير عذر، فتجب الفدية، واعتمده الخطيب.

فصل: في صوم التطوع

وأجيب بأنه لا يلزم من الحرمة الفدية، ومالا إليه في "الإمداد" و"النهاية" ولم يرجح في "التحفة" شيئاً. وقضية كلامهم: أنه لو شفي أو أقام مدة تمكن فيها من القضاء، ثم سافر في شعبان مثلاً، ولم يقض .. لزمته الفدية. نعم؛ القن لا تلزمه الفدية بتأخير القضاء؛ إذ لا مال له، وفي لزومها بعد عتقه خلاف. وتلزم الفدية بتحقق الفوات وإن لم يدخل رمضان، فلو فاته عشر من رمضان، فمات باقي خمس من شعبان .. لزمه خمسة عشر مداً، عشرة لأصل الصوم، وخمسة للتأخير؛ إذ لو عاش .. لم يمكنه إلاَّ قضاء خمسة. * * * (فصل: صوم التطوّع سنة). وللصوم من الفاضائل ما لا يحصى؛ ولذا اضافه تعالى إليه دون غيره من العبادات، فقال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به"، فهو مع كونه من أعظم قواعد الإسلام بل أعظمها عند جمع، لا يطَّلع عليه من غير إخبار به غير الله، حتى قيل: إنَّ التبعات لا تتعلق به، وقيل: التضعيف له ولغيره لا يؤخذ فيها. والراجح: خلافهما. (وهو) أي: المؤكد منه (ثلاثة أقسام): الأول: (ما يتكرر بتكرر السنين، وهو صوم) يوم (عرفة) وهو تاسع ذي الحجة؛ لخبر مسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". وآخر الأولى سلخ الحجة وأوّل الثانية أوّل المحرّم الذي يلي ذلك. وفي "التحفة": (المكفَّر: هو الصغائر الواقعة في السنتين، فإن لم تكن له .. رفعت درجته) اهـ

ومال (م ر) إلى ما قاله ابن المنذر بأنه يكفر الكبائر. قال الكردي: (ما صرحت الأحاديث بأن شرط التكفير اجتناب الكبائر .. لا شبهة في عدم تكفيره الكبائر، وما صرحت فيه أنه يكفر الكبائر .. لا ينبغي التوقف أنه يكفرها، وما أطلقت الأحاديث في التكفير به .. ملت في الأصل: أنَّ الإطلاق يشمل الكبائر، والفضل واسع) اهـ ونقل الشرقاوي عن ابن عباس رضي الله عنه أن في الحديث بشرى بحياة السنة المقبلة لمن صامه. وإنما يسن صومه (لغير الحاج والمسافر) ولو سفراً قصيراً والمريض. أمَّا الحاج .. فيسن له فطره وإن لم يضعفه؛ تأسياً به صلى الله عليه وسلم، ويتقوّى على الدعاء. فصيامه له خلاف السنة، وقيل: مكروه، واستوجهه في التحفة؛ لصحة النهي عنه. نعم؛ يسن صومه لحاج غير مسافر لا يصل عرفة إلا ليلاً. وأمَّا المسافر .. فيسنّ له الفطر إن أتعبه الصوم، ومثله: المريض. وظاهر كلامهم أنَّ باقي ما يطلب صومه لا فرق فيه بين المسافر وغيره؛ لأنهم خصوا التفصيل المذكور بعرفة. وأجاب بعضهم بأنه يجري في غير عرفة بالأولى؛ لأنه دون عرفة في التأكيد. وظاهر إطلاقهم: عدم انتفاء الكراهة بضم يوم إلى عرفة قبله أو بعده، بل فرقوا بينه وبين الجمعة وإن اتحدت العلة فيهما. ويسن صوم الثمانية الأيام قبله، وهي المراد بقوله: (وعشر ذي الحجة). لكن الثامن مطلوب؛ احتياطاً ليوم عرفة، ولدخوله في الثمانية، كما أن يوم عرفة مطلوب؛ لكونه من عشر ذي الحجة. ويوم عرفة (وعاشوراء) بالمد -كما بعده- عاشر المحرم؛ لخبر: "أحتسب على الله -أي: أدّخر عنده، أو أرجو منه- أن يكفر السنة التي قبله". ولعظم فضل هذه الأمة شاركت أهل الكتاب في فضيلة هذا اليوم، واختصت بعرفة الذي فيه الأجر ضعفه وبغيره. وصَرف الأمر بصومه في الإخبار عن الوجوب إلى الندب المؤكد خبر الصحيحين:

"إنّ َهذا اليوم يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء .. فليصم، ومن شاء .. فليفطر". (وتاسوعاء) وهو: تاسع المحرم؛ لخبر: "لئن بقيت إلى القابل .. لأصومنّ التاسع"، فمات قبله. والحكمة في صومه: الاحتياط لعاشوراء؛ لاحتمال الغلط والمخالفة لأهل الكتاب، والاحتراز من إفراده على ما قيل: إنه مكروه. (و) لذا يسنّ صوم (الحادي عشر منه)؛ لحصول الاحتياط به كالتاسع، بل يسنّ صوم عشر المحرم الأول نظير ما في الحجة، ذكره الغزالي. (و) صوم (ست من شوّال)؛ لأنها مع صوم جميع رمضان "كصيام الدهر" رواه مسلم؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، كما جاء: (أنّ َصيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام -أي: من شوال- بشهرين، فذلك صيام السنة) أي: مثل صيامها بلا مضاعفة. نظير ما قالوه في (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]: تعدل ثلث القرآن، والمراد ثواب الفرض، وإلا .. لم يكن لخصوصية ست شوّال معنى. وحاصله: أنَّ من صامها مع رمضان كل سنة .. كان كمن صام الدهر فرضاً بلا مضاعفة. وقضية إطلاق المتن: ندب صومها حتى لمن أفطر رمضان. وقيده (حج) بغير من تعدّى بفطره؛ لأنه يلزمه القضاء فوراً. قال (م ر): أي: يحصل له أصل السنة وإن لم يحصل له الثواب المذكور؛ لترتبه في الخبر على صيام رمضان). ثم قال: (وقضيةُ قول المحاملي: يكره لمن عليه قضاء تطوّع بالصوم كراهةُ صومها لمن أفطره بعذر، فينافي ما مرَّ، إلا أن يجمع بأنه ذو وجهين، أو يحمل ذاك على: من لا قضاء عليه كصبي بلغ، وهذا: على من عليه قضاء) اهـ وإذا لم يصمها في شوّال .. سنَّ له قضاؤها بعده؛ لتوقيتها. (وسنّ تواليها واتصالها بالعيد)؛ مبادرة بالعبادة، ولما في التأخير من التعريض للفوات، ويحصل أصل السنة بصومها منفصلة عن العيد. ويظهر أنَّ اتصالها بالعيد أفضل من صومها أيام البيض والسود وإن تأدى بذلك ثلاث

سنن؛ لما في ذلك من الخلاف القوي، خصوصاً إذا نوى ست شوّال مع البيض والسود؛ لما مر في الكلام على التعين في النية عن الإسنوي من عدم حصول شيء منها. (و) القسم الثاني: صوم (ما يتكرر بتكرر الشهور، وهي أيام) الليالي (البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر)؛ لصحة أمر أبي ذر بصومها. والاحتياط: صوم الثاني عشر معها، وخروجاً من الخلاف أنه أوَّلها، لكنه مخالف للسنة الصحيحة. نعم؛ في الحجة يصوم بدل الثالث عشر السادس عشر أو يوماً بعده. وحكمة كونها ثلاثة: أنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فصومها كصوم الشهر كله، ولذا حصل ذلك أيضاً بصوم ثلاثة من أيّ أيام الشهر، وكان صومها في أيام البيض سنة ثانية. وخصت هذه؛ لتعميم لياليها بالنور المناسب للشكر بالعبادة عليه، ولتعسر تعميم اليوم بعبادة غير الصوم. (و) صوم (الأيام السود، وهي الثامن والعشرون وتالياه) أي: أيام الليالي السود. وإن نقص الشهر .. صام أوّل يوم من الشهر الداخل، ويتأدّى به أيضاً سنة صوم أوّل يوم من الشهر؛ إذ يسن صوم ثلاثة أيام أول كل شهر. وإذا فاتته البيض وأراد صوم السود .. ينويهما؛ ليحوز فضلهما. وسميت سوداً؛ لسواد لياليها. وحكمة صومها: تزويد الشهر بالعبادة، وطلباً لكشف سواد القلب؛ فإنّ الشيء بالشيء يذكر. وينبغي أن يصوم معها السابع والعشرين؛ احتياطاً، وخروجاً من الخلاف. (و) القسم الثالث: (ما يتكرر الأسابيع، وهو الإثنين والخميس)؛ للخبر الحسن: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرّى صومهما ويقول: "إنهما تعرض الأعمال فيهما، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" أي: فتعرض فيهما عرضاً إجمالياً، وكذا في ليلتي النصف من شعبان والقدر.

وتعرض عرضاً تفصيلياً كل يوم وليلة، بالليل مرة وبالنهار مرة؛ إذ تجتمع ملائكة الليل والنهار عند صلاة العصر ثم ترتفع ملائكة النهار، وتبقى ملائكة الليل وتجتمع عند صلاة الصبح، فترتفع ملائكة الليل وتبقى ملائكة النهار، وهو معنى خبر: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار"، وعرض أعمال الأسبوع من ملائكة الليل والنهار، والعرض جميعه على الله تعالى. وفائدته: إظهار شرف الطائعين، وإلا .. فهو تعالى لا يخفى عليه شيء. وفي (ب ج): أنها تعرض أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأيام، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة. والراجح: أنَّ أوّل الأسبوع السبت، وقيل: الأحد. (ويسن صوم الأشهر الحرم) بل هي أفضل الشهور للصوم بعد رمضان (وهي: ذو القَعدة) -بفتح القاف- (وذو الحجة) -بكسر الحاء على الأشهر- (ومحرم ورجب). وعليه: فهن من سنتين، وقيل: من سنة، فيقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. (وكذا) يسنّ (صوم شعبان)؛ لما صح: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم غالبه. (وأفضلها) أي: الأشهر المذكورة وغيرها بعد رمضان (المحرم)؛ لخبر مسلم بذلك (ثم باقي الحرم). وفي "الأسنى": تقديم رجب وفي "الإيعاب" تقديم ذي الحجة، فرجب فذي القعدة. (ثم) بعد الحرم (شعبان)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم غالبه، وظاهره أَنَّ بقية الشهور سواء. (ويكره إفراد الجمعة) بالصوم؛ لصحة النهي عن صومه، إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، وليتقوّى بفطره على الوظائف الدينية. قال في "الشرح"، و"الإمداد": (ومن ثمَّ لو لم يضعف عنها بالصوم .. لم يكره إفراده) اهـ

ورده في "التحفة" كـ"النهاية" بندب فطر عرفة وإن لم يضعف به؛ لأن من شأنه الضعف. (و) إفراد (السبت والأحد) بالصوم؛ للنهي عن الأول، وقيس به الثاني بجامع أن اليهود تعظم الأوّل، والنصارى تعظم الثاني، فقصد بذلك الشارع مخالفتهم. قال في" الإيعاب": (ففي الصوم تشبه بهم في مطلق التعظيم، وإلا .. فتعظيمهم إياه بتحريم الشغل، والتخلي للعبادة والتبسط بالتنعم بالأكل وغيره، وكذلك النصارى تعظم الأحد) اهـ والكراهة من حيث الإفراد، أمَّا الصوم .. فمندوب، ولذا يصح نذره إن لم يقيده بالإفراد، ومحلها حيث لا سبب له. أمًّا صومه لسبب كقضاء ونذر وعادة، كأن يصوم ويفطر يوماً فوافق صومه يوماً منها .. فلا كراهة. وخرج بـ (الإفراد): جمع اثنين منها ولو الجمعة والأحد، وجمع غيرها معها، فلا كراهة؛ إذ المجموع لم يعظمه أحد. وفي "الإيعاب": أنَّ العزم على وصله بما بعده يدفع الكراهة وإن لم يصم غيره ولو لغير عذر. ولا يكره تخصيصه بالاعتكاف، ولا فراد صوم يوم عيد من أعياد أهل الملل؛ لأنه لم يشتهر. ويسن صوم الدهر غير العيدين، وأيام التشريق لمن لم يخف ضرراً، أو فوات حق ولو مندوباً راجحاً على الصوم، أو متعلقاً بحق الغير كالزوجة؛ لخبر: "من صام الدهر .. ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين". فإن خاف ما ذكر .. حرم إن خاف فوات واجب، وإلا .. كره إن كان راجحاً على الصوم، وإلا كأن خاف فوت صلاة الضحى من صوم يوم .. فلا كراهة، بل يسن، ومع ندبه فصوم يوم وفطر يوم أفضل منه كما قال. (وأفضل الصيام: صوم يوم وفطر يوم)؛ لخبر: "أفضل الصيام صيام داوود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً". وفي "التحفة": (وظاهر كلامهم: أنَّ من فعله فوافق فطره يوماً يسن صومه

كالبيض: يكون فطره فيه أفضل، لكن بحث بعضهم: أن صومه أفضل) اهـ وبه أفتى الشهاب الرملي، قال: ولا يخرجه ذلك عن صوم يوم وفطر يوم. ومن تلبس بتطوع من صوم أو غيره .. فله قطعه، لكن يكره لغير عذر؛ لخبر: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر". وقيس بالصوم غيره، ولا يجب قضاؤه خلافاً للأئمة الثلاثة. وأمَّأ قوله تعالى: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:33] .. فمحمول على الفرض أو النهي فيه للتنزيه؛ للحديث المذكور، لكن يندب قضاؤه، وكذا ما اعتاده، وهذا في نفل غير نسك؛ لوجوب إتمامه. وحرم قطع فرض عيني ولو غير فوري، بل هو من الكبائر. أمَّا فرض الكفاية .. فالأصح أنه يجوز قطعه إلا جهاداً ونسكاً، وتجهيز ميت. نعم؛ لا بأس بترك نحو غسله؛ ليدخل غيره محله وإن لم يتعب؛ إذ لا محذور فيه، كما قاله الشوبري. وحرَّم جمعٌ قطعه مطلقاً، إلا طلب علم إن كان غير فرض عين؛ لأن كل مسألة مستقلة برأسها، فلا قطع في الحقيقة فيه. فرع: يحرم على مزوجة صوم نفل مما يتكرر في السنة أو الأشهر أو الأسبوع، وقضاء موسع وزوجها حاضر بالبلد، إلا بعلم رضاه وإن جرت عادته بغيبته جميع النهار؛ إذ قد يأتي على خلاف عادته نهاراً. أمَّا ما يتكرر بتكرر السنين كعرفة .. فلها إن لم يمنعها صومه، وحيث حرم فصامت صح، ولزوجها وطؤها، والحرمة عليها. وكالزوج السيد إن حلت له أو حصل لها ضرر ينقص الخدمة، والعبد كالأمة التي لا تحل له. ولا يلحق صلاة التطوع بالصوم؛ لقصر زمنها. أمَّا الفرض غير الموسع ولو نذراً نذرته بلا إذنه .. فليس له قطعه، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

كتاب الاعتكاف

(كتاب الاعتكاف) وهو لغة: لزوم الشيء ولو شراً. وشرعاً: مكث مخصوص من شخص مخصوص في مكان مخصوص بنية، هو بالمعنى اللغوي من الشرائع القديمة. و (هو) بالمعنى الشرعي (سنة مؤكدة) كل وقت إجماعاً، وهو في عشر رمضان الأخيرة آكد. (وشروطه سبعة: الإسلام والعقل) فلا يصح من كافر ومجنون ومغمى عليه وسكران ونحوهم؛ إذ لا نية لهم. (والنقاء عن الحيض والنفاس، وأن لا يكون جنباً)؛ لحرمته مع كل منها. قال (م ر): وأن لا تكون به نحو قروح تلوث المسجد، ولا يمكن التحرز عنها، ونظر فيه (حج)؛ لأن الحرمة في ذلك لعارض لا لذات اللبث، بخلافها ثمة. ومن ثم صح اعتكاف زوجة وقنّ بلا إذن زوج وسيد مع الإثم. ولو اعتكف فيما وقف على غيره .. صح؛ لأن الحرمة من حيث كونه حق الغير لا للمكث. واعلم: أن في عبارة المتن تسامحاً؛ لأن ما مضى من الشروط شروط للمعتكف الذي هو أحد أركان الاعتكاف لا للاعتكاف، وأطلق الشروط على ما بعضه أركان وهي المقصودة هنا، وهي أربعة: الأول: المعتكف، أشار إليه بذكر شروطه الأربعة المذكورة. (و) بقي من الشروط السبعة التي ذكرها ثلاثة، وهي أركان، وهي اللبث والمسجد والنية. الأول: (أن يلبث فوق قدر طمأنينة الصلاة) ساكناً، أو يتردد قدر ذلك. وفي "حاشية الفتح": (لو دخل المسجد بقصد أنه إذا وصل الباب الآخر رجع ..

كفته النية حين قصده مع ذهابه، بخلاف ما لو عنَّ له الرجوع .. لا تكفيه مع أخذه في العود، ويحرم على الجنب دخوله في الصورة الأولى دون الثانية؛ لأنه فيها لا يشبه التردد) اهـ وقيل: يكفي المرور للاعتكاف بلا مكث، كالوقوف بعرفة. فيسن للمار فيه نية الاعتكاف على هذا القول إن قلده ويصح الاعتكاف ولو من مفطر؛ لخبر: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله -أي: ينذره- على نفسه"، فلا يكفي الاعتكاف قدر الطمأنينة فما دونها. ولو نذر اعتكافاً وأطلق .. كفاه لحظة زائدة على قدر الطمأنينة؛ لحصول اسمه بها. والأفضل فيه يوم كامل؛ خروجاً من خلاف مالك، ويستحب ضم الليلة إليه. (و) الركن الثاني: (أن يكون في المسجد) الخالص الذي أرضه غير محتكرة؛ للاتباع، سواء سطحه وروشنه وإن كان كله في هواء غيره ورحبته المعدودة منه وإن خص بطائفة ليس هو منهم، كما مر. أمَّا ما وقف بعضه شائعاً .. فلا يصح فيه اعتكاف. ويحرم على الجنب المكث فيه؛ احتياطاً فيهما. نعم؛ يسن له التحية كما في "فتاوى حج"، ونقله (سم) عن تقرير (م ر). وأمَّا ما أرضه محتكره، فلا يصح فيه؛ إذ المسجد ما فيها لا هي. نعم؛ إن بنى فيه نحو مسطبة وبلطها أو سمر نحو خشب أو سجادة فيها، ووقف ذلك مسجداً .. صح؛ لقولهم: يصح وقف السفل دون العلو وعكسه، وجرى أحكام المساجد عليه. وإذا أزيل الموقوف المذكور .. زال عنه حكم الوقف. قال (سم): (ولو أعيد في ذلك المكان أو غيره، فهل يعود له حكم المسجد بدون تجديد وقفية لأنه ثبت له حكم المسجد، أم لا؟ فيه نظر) اهـ ونقل الشرقاوي عن (زي) و (ق ل): ثبوت حكام المسجد له وإن أزيل. وعلله (ع ش) بأن أحكام الوقف إذا ثبتت .. لا تزول، ويؤيده أنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. (و) المسجد (الجامع أولى)؛ لكثرة جماعته غالباً، ولاستغنائه عن الخروج منه

للجمعة، وخروجاً من خلاف موجبه، وبه يعلم أنه أولى وإن قلت جماعته، أو لم يحتج للخروج للجمعة منه لنحو قصر مدته. نعم؛ ما عيَّنه أولى وإن لم يتعين إن لم يحتج للخروج. ويجب الجامع إن نذر مدة متتابعة يتخللها جمعة، وهو من أهلها، ولم يشترط الخروج لها؛ لأنه لها شرط يقطع التتابع؛ لتقصيره بعدم شرطه، وإذا شرطه .. تعين أقرب جامع إليه إن لم تسبق صلاة بعضها، وإلا .. جاز الذهاب إليه. ولو عين في نذره مسجد مكة أو المدينة أو الأقصى .. تعين، فلا يقوم غيرها مقامها، ويقوم الأوّل مقام الأخيرين، والثاني مقام الثالث، ولا عكس. والمراد بمسجد مكة جميع المسجد، وبمسجد المدينة ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو مئة ذراع دون ما زيد فيه. أمَّا غير المساجد الثلاثة .. فلا يتعين، ولو مسجد قباء ما لم يشرع في اعتكاف متتابع .. فيتعين فيما هو فيه؛ لئلا ينقطع التتابع. نعم؛ لو عدل حين خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر مثل مسافته فأقل .. جاز؛ لانتفاء المحذور، ولو عين له زمناً .. تعين، فلو قدمه ... لم يصح، أو أخره .. فقضاء. ومثله: الصوم وكذا الصلاة، كما جزم به الشيخان في النذر، وأثم بتعمده. والفرق بينه وبين المكان: أن تعلق العبادة به أقوى؛ لأنه يذهب منه جزء معها، بخلاف المكان. نعم؛ لا تتعين الصدقة بتعين الزمن، بل بتعين المكان. فرع: لا يكره للمعتكف صنعة كخياطة بالمسجد ما لم تكثر، إلا كتابة العلم .. فتسنّ؛ لأنها عبادة، وله تسريح شعره فيه؛ للاتباع والأمر بأصلاح أموره، والتحدث بما لا إثم فيه، والأكل والشرب والوضوء وغسل يديه فيه ما لم يقذره، وإلا .. حرم. وتكره الحرفة فيه لغيره حيث لم يتخذه دكاناً، وإلا .. حرمت. وكره نحو فصد واحتجام فيه، فإن لوّثه .. حرم، كإدخال نجاسة فيه إلا لحاجة إن أمن تقذيره. والأولى للمعتكف الاشتغال بالعبادة، كمطالعة علم وسماعه وصلاة.

(و) الثالث (أن ينوي الاعتكاف) في ابتدائه، لا في دوامه؛ لما يأتي في مسألة الخروج مع العزم؛ لأنه عبادة، فاشترط مقارنتها لأوّله من المكث أو التردّد. وينبغي لداخل المسجد لنحو صلاة أن ينذر الاعتكاف بنحو لله عليَّ، أو نذرت أن أعتكف في هذا المسجد مدة إقامتي هذه فيه؛ ليثاب عليه ثواب الواجب، ثم ينويه. (وتجب نية الفرضية إن نذره) فيقول: نويت فرض الاعتكاف، أو الاعتكاف المنذور، وندب زيادة لله تعالى، والتعرض للأداء والقضاء. واعلم: أنه أطلق الاعتكاف .. كفته نيته وإن طال (و) لكنه (يجدد النية) وجوباً إن عاد (بالخروج) من المسجد ولو لقضاء الحاجة إن أراد الاعتكاف؛ لأنّ الثاني اعتكاف جديد فاحتاج لنية جديدة، هذا (إن لم ينو الرجوع) إليه حال خروجه. فإن نواه وعاد ولو لمسجد آخر .. لم يحتج لتجديدها وإن طال خروجه، وصدر منه ما ينافي الاعتكاف كجماع، لا ما ينافي النية كنية قطع؛ لقيام هذا العزم مقامها؛ لوجود نية الزيادة قبل الخروج، فكانت كنية المدتين معاً. (وإن قدره) أي: الاعتكاف المذكور (بمدّة) مطلقة أو معينة .. لم يشترط تتابعها، واعتكف لذلك (فيجددها) أي: النية وجوباً إذا عاد (إن خرج) بغير عزم على العود، وإلا .. لم يحتج لتجديدها على المعتمد، وهذا إن خرج (لغير قضاء الحاجة). فإن خرج لها، أو لإخراج ريح على ما في "الشرح" .. لم يحتج لتجديدها؛ إذ ذلك لابد منه، فهو كالمستثنى عند النية. (وإن كان) الاعتكاف (متتابعاً .. جددها) إن عاد وجوباً (إن خرج لما يقطع التتابع) كعيادة مريض، بخلاف ما لا يقطعه كقضاء الحاجة، والأكل مما يأتي في الفصل الآتي. وتجب المبادرة بعد زوال عذره، وإلا .. انقطع التتابع كما يأتي. وقيد تجديدها هنا في "الشرح" بما إذا خرج غير عازم على العود. قال الكردي: (ولم يحضرني من قيد به في هذا المحل غيره في هذا "الشرح"، وعليه: فإذا عاد .. يكون عوده ابتداء مدة الاعتكاف من غير تجديد نية) اهـ

فصل: في مبطلات الاعتكاف

والحاصل: أن المراتب ثلاث: الإطلاق، والتقييد بمدة، وبالتتابع، سواء كان منذوراً أم مندوباً. وإذا أطلقه وكان منذوراً .. وقع أقل مجزئ منه فرضاً، والباقي نفلاً كالركوع ونحوه مما يتجزأ. واعتمد (ع ش): وقوع الكل فرضاً هنا، وفرق بـ (أن القاعدة المذكورة فيما له أقل وأكمل كالركوع، وأمَّا الاعتكاف .. فلم يجعلوا له إلا أقل) اهـ فليتأمل، فإنه مر أن الأفضل: كونه يوماً كاملاً، لكنهم لم يجعلوه أكمله. (وإن عين في نذره مسجداً .. فله أن يعتكف في غيره) والأفضل فيما عينه (إلا المساجد الثلاثة) .. فتتعين، ويجزئ فيها الفاضل عن المفضول، ولا عكس، كما مر. ودليل تفاضلها: ما صح من غير طعن فيه: (أن الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، وفي مسجد المدينة بألف صلاة فيما عدا المسجد الحرام، وفي الأقصى أفضل من خمس مئة صلاة فيما سواه إلا المسجدين الأوّلين). وقال (حج) في باب النذر: الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف ألف ألف ثلاثاً في غير المسجدين. (ويحرم) الاعتكاف على الزوجة والقن (بغير إذن الزوج والسيد). نعم؛ إن لم تفت به منفعة، كأن حضرا المسجد بإذنهما فنوياه .. جاز. * * * (فصل: يبطل الاعتكاف) بموجب جناية تفطر الصائم. فيبطل (بالجماع) من واضح عمداً مع العلم والاختيار. (وبالمباشرة بشهوة إن أنزل) والاستمناء كما مر في الصوم مبسوطاً، وإن فعل ذلك خارج المسجد؛ لمنافاته له.

فيحرم في الاعتكاف الواجب مطلقاً، وفي المندوب في المسجد، ولايبطل ما مضى لا إن كان متتابعاً، ويبطل في المتتابع من حيث وجوب الإعادة لا الثواب. وإنما بطل في الصوم والصلاة والوضوء إن أبطله بلا عذر؛ لإنها خصلة واحدة إذا بطل بعض شيء منه .. بطل كله، ولا كذلك الاعتكاف. ويأتي ذلك في كل ما يبطل ثواب الاعتكاف من غيبة وشتم. (و) يبطل (بالجنون والإغماء) إن طرأا بسبب تعدياً به؛ لأنهما حينئذٍ كالسكر، فإن طرأا بلا تعد .. لم يقطعانه إن بقيا في المسجد، أو أخرجا منه؛ لعدم إمكان حفظهما فيه، أو لمشقته، لكن لا يحسب زمن الجنون، بخلاف الإغماء. (و) يبطل أيضاً بالحيض والاحتلام، ونحوه من (الجنابة) التي لا تبطل الصوم، كالإنزال بلا مباشرة، وجماع ناس إن لم يغتسل فوراً؛ لوجوب المبادرة بالغسل، رعاية للتتابع، وإلا .. لم ينقطع. وله الغسل في المسجد إن لم يمكث فيه، والخروج له وإن أمكنه في المسجد؛ لأنه أصون لمروءته ولحرمة المسجد. وإذا خرج له .. جدد النية إن كان اعتكافه غير متتابع، وإلا .. فلا. (والردة، والسكرِ) المحرَّم وإن لم يخرج المتصف بأحدهما من المسجد؛ لعدم أهليته للعبادة، أمَّا غير المحرم .. فلا يبطل به الاعتكاف، ويحسب زمنه من الاعتكاف إن لم يخرج من المسجد. (وإذا نذر اعتكاف مدة متتابعة .. لزمه) اعتكافها مع تتابعها، فلا يجوز تقديمه عليها ولا تأخيره عنها. وإنما يلزمه التتابع إن تلفظ بالتزامه، لا إن نواه، أو كانت المدة معينة كشهر كذا، وإلا .. فلا، ولو التزم التفريق .. كفاه التتابع. (ويقطع التتابع: السكر والكفر وتعمد الجماع) وغيرها مما يبطل الاعتكاف، كما مر. (وتعمد الخروج) من المسجد لغير ضروري، ولا ملحق به (لا لقضاء الحاجة) فلا

يبطل بالخروج لذلك؛ إذ لا بد منه وإن كثر خروجه له لعارض نظراً إلى جنسه، ولكثرة اتفاقه. ولا يكلف المشي فيه على خلاف عادته، فإن تأنى على خلافها .. ضر، ومثلها غسل الجنابة وإزالة النجاسة، ولا الصبر إلى حد الضرورة، ولا غير داره كسقاية المسجد إن لم يلق به. وله الوضوء خارج المسجد ولو مندوباً عند (م ر)؛ تبعاً للاستنجاء، أو لتعذره فيه. (و) لا لأجل (الأكل) وإن أمكن في المسجد؛ لأنه قد يستحيي منه فيه ما لم يكن مهجوراً. وقيده في "الفتح" بمن تخترم مروءته بالأكل في الطريق. وإذا خرج لما ذكر إلى داره، فإن تفاحش بعدها عن المسجد عرفاً بأن يذهب به أكثر الوقت المنذور، وفي طريقه مكان أقرب منه لائق به وإن كان لصديقه .. تعين الأقرب، وإلا .. انقطع تتابعه. ولا يضر وقوفه لشغل من جميع الأغراض بقدر صلاة جنازة معتدلة، كما في "الشرح" و"الإمداد"، وبأقل مجزئ كما في "التحفة" إن لم يجامع ولم يعدل عن طريقه، أو يتباطأ في مشيه، وإلا .. بطل تتابعه. ولا يضر تكرر ذلك كعيادة مريض وقادم وصلاة جنازة؛ لأن كلاً على حدته يسير، فلا نظر لضمه لغيره. (و) لا لأجل (الشرب إن تعذر الماء في المسجد) وإلا بأن أمكن بإحضاره إليه من نحو بيته .. لم يجز الخروج له. (ولا للمرض إن شق لبثه فيه)؛ لاحتياجه إلى نحو فرش وتردد طبيب (أو خشي تلويثه) بمستقذر ولو طاهراً، فخرج منه لذلك، بخلاف حمى خفيفة وصداع. (ومثله) في ذلك (الجنون والإغماء) فلا يقطعان التتابع إن دام في المسجد أو خرج منه؛ لعدم إمكان حفظه فيه أو لمشقة احتياجه؛ لما مر. ولا يحسب زمن جنون من المدة مطلقاً، ولا زمن إغماء إن خرج، وإلا .. حسبت منها.

(ولا إن) أُخرج وقد (أكره بغير حق على الخروج) أو خرج خوفاً من ظالم أو غريم وهو معسر ولا بينة له بإعساره، أو من نحو سبع أو حريق؛ لعذره. بخلاف من أخرج بحق كزوجة اعتكفت بلا إذن زوج، وغريم موسر أخرج لأداء حق مطل به، فينقطع تتابعه. (ولا يقطعه الحيض إن لم تسعه مدة الطهر) بأن كانت مدة الاعتكاف لا تخلو عنه غالباً، فتبني على ما سبق إذا طهرت؛ لأنه بغير اختيارها. ومثَّل لها في "المجموع" بأن تزيد على خمسة عشر يوماً. واستشكله الإسنوي بأن الثلاثة والعشرين تخلو عنه غالباً؛ إذ غالبه ست أو سبع، وبقية الشهر طهر؛ إذ هو غالباً يكون فيه حيض وطهر. ولا يقطعه خروج مؤذن راتب للأذان إلى منارة المسجد المنفصلة عنه، لكنها قريبة منه؛ لإلفه صعودها وإلف الناس لصوته. ولا لإقامة حدّ عليه ثبت بغير إقراره، ولا لعدة ليست بسببها، ولأداء شهادة تعين عليه ولم يمكنه أداؤها في المسجد؛ للعذر في جميع ذلك. ويسلك في خروجه لذلك أقرب الطرق. تتمة: إذا شرط ناذر الاعتكاف متتابعاً الخروجَ منه لعارض مباح مقصود لا ينافي الاعتكاف .. صح الشرط، ثم إن عين شيئاً .. لم يتجاوزه، وإلا .. جاز الخروج لكل عارض مباح ولو دنيوياً، كلقاء أمير. فإن شرطه لا لعارض كـ: إلا أن يبدو لي، أو لمحرم، أولما ينافي الاعتكاف، كجماع أو لغير مقصود كنزهة؛ إذ لا تسمى غرضاً مقصوداً في مثل ذلك .. فهو باطل، ويبطل نذره أيضاً به. ولو نذر نحو صلاة أو صوم أو حج، وشرط الخروج لعارض .. فكما تقرر. بخلاف نحو الوقف لا يجوز فيه شرط احتياج مثلاً؛ لأنه يقتضي الانفكاك عن اختصاص الآدمي به، فلم يقبل ذلك الشرط كالعتق، ثم الزمن المصروف لذلك العارض لا يجب تداركه إن عين المدة، كهذا الشهر، وإن لم يعينها كشهر مطلقاً .. وجب تداركه. * * *

باب الحج

(باب الحج) بفتح الحاء وكسرها مصدر، والأكثر الفتح، والقياس الكسر. لغة: القصد، أو كثرته إلى من يعظم. وشرعاً: قصد الكعبة؛ للأفعال الآتية، كما في "المجموع". واعترض بأنه نفس الأفعال، واستدل له بخبر: "الحج عرفة"، أي: إتيانها، وهو فعل لا قصد، فالأفعال أجزاؤه لا وجود له بدونها، والأول هو الموافق للغالب من أن المعنى الشرعي مشتمل على المعنى اللغوي بزيادة. لكن يؤيد أنه الأفعال قولهم: أركان الحج خمسة أو ستة، فدل على أنه نفس الأركان، وهي أفعال. (والعمرة) بضم أوّليه، أو بفتح فسكون: الزيارة، وقيل: القصد إلى محل عامر. وشرعاً: زيارة الكعبة؛ للأفعال الآتية. وهما من الشرائع القديمة، فالمخصوص بنا ما عدا الطواف، أو كونهما على هذه الكيفية. وفرض في السنة السادسة. وهو -حيث كان مبروراً- يكفر جميع الذنوب حتى الكبائر وتبعات الناس عند (م ر) بشرط أن لا يتمكن من الوفاء بعده. (هما) سنتان من صبي ورقيق، وفرضا كفاية؛ لإحياء الكعبة كل سنة مرة من جمع يظهر بهم الشعار ولو صغاراً، وهما على من لم يؤد نسكه بشرطه. (فرضان) أمّا الحج .. فإجماعاً، بل معلوم من الدين بالضرورة، ومن أركان الإسلام. وأمّا العمرة .. فعلى الأظهر؛ لما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: "نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة". ولا يغني عنها الحج؛ لأن كلاً أصل برأسه؛ لاختلاف ميقاتهما زماناً ومكاناً.

ولا يشكل بإجزاء الغسل عن الوضوء؛ لبناء الطهارة على التداخل، ولأن ما قصد من الوضوء موجود في الغسل. ولا يجبان بأصل الشرع غير مرة على التراخي بشرط العزم على الفعل بعد، وأن لا يتضيقا بنذر أو خوف غصب أو تلف مال بقرينة. وإذا أخر، فمات .. تبين فسقه من وقت خروج قافلة بلده في أخر سني الإمكان إلى موته. ولهما خمس مراتب: صحة مطلقة، وشرطها: الإسلام، فيصح إحرام ولي عن محجوره، أي: ينوي جعله محرماً، ويحضره المواقف، ويفعل عنه بنفسه أو نائبه ما لا يتأتى منه. والوقت القابل لما نواه، وإلا كأن نوى فيما لا يقبله أصلاً كأيام منى .. لم ينعقد، أو في غيرها ونوى حجاً في غير أيامه .. انعقد عمرة. والعلم بالكيفية عند الإحرام، وبالأعمال عند فعلها ولو بوجه فيهما. وصحة مباشرة، وشرطها على ما مر في الصحة المطلقة التمييز، وإذن الولي، ولو كمل بعد الإحرام وقبل غيره من الأركان .. أجزأه عن حجة الإسلام. فلا تصح مباشرة غير مميز ومن لم يأذن له وليه. ووقوع عن نذر، وشرطه مع ما مر في الصحة المطلقة التكليف. ووقوع عن فرض الإسلام، وشرطه مع ما مر فيما قبله الحرية التامة. فلو تكلف الفقير النسك .. أجزأه عن الفرض، كما لو حج القن عن نذره بلا إذن سيده .. فيكفيه عن نذره. (وشرط وجوبهما: الإسلام) فلا يجبان على كافر أصلي إلا للعقاب على تركهما في الآخرة نظير ما مر في الصلاة، ولا أثر لاستطاعته في كفره. أمّا المرتد .. فيجبان عليه كالمسلم، إلا أنهما لا يصحان منه في ردته. وإذا مات مرتداً .. لا يقضيان عنه. (والحرية، والتكليف، والاستطاعة) فلا يجبان على قن وغير مكلف ومستطيع؛ لنقصهم.

واستطاعة الحج استطاعة للعمرة؛ لتمكنه من القران، وهو لا يزيد على عمل إفراد الحج في العمل. ولا يصح نسك غير فرض الإسلام إلا بعده، فيجب فرض الإسلام، فالقضاء، فالنذر. نعم؛ لو أفسده حال كماله .. وقع عن حجة الإسلام وعن القضاء، وكذا عن نذره إن عين سنة وحج فيها. والاستطاعة نوعان: أحدهما: استطاعة مباشرة، فتمتد من خروج أهل بلده للنسك إلى عودهم، فمن لم يستطع في جزء من ذلك .. لم يلزمه، ولا عبرة بما قبل ذلك ولا بما بعده لتلك السنة. (ولها) أي: استطاعة المباشرة (شروط) أحد عشر: (الأول: وجود) مؤن السفر من (الزاد وأوعيته) حتى السفرة (ومؤنة) نفسه وغيرها مما يحتاجه، كأجرة خفير، مدة (ذهابه وإيابه) وإقامته على العادة وإن لم يكن له في بلده أهل ولا عشيرة. نعم؛ لو قصر سفره للنسك بأن كان دون يومين من مكة، وكان يكتسب في أول يوم كفاية أيام الحج، وهي ما بين زوال سابع ذي الحجة وزوال ثالث عشره لمن لم ينفر النفر الأوّل .. لم يشترط في حقه وجود الزاد، وكذا غيره مما أمكن تحصيله، بخلاف ما لو لم يكتسب كذلك أو طال سفره؛ لما فيه من الجمع بين مشقة الكسب ومشقة السفر. ولو قدر على كسب كفاية أيام الحج في الحضر .. فقياس ما مر وجوبه. ورد بأنه إذا قدر على الكسب أوّل السفر .. عدّ مستطيعاً، ولا كذلك في الحضر، فلا يعد بها مستطيعاً، بل محصلاً لسبب الاستطاعة في السفر، وتحصيل السبب لا يجب. ويعتبر في العمرة القدرة على مؤنة ما يسعها، وهو نصف يوم مع مؤنة مدة سفره. (الثاني: وجود الراحلة) ولو لم تلق به، كبقرة عند (حج) بشراء أو استئجار بعوض المثل، لا بأزيد وإن قل كالتيمم، والشراء أفضل. وإنما تجب (لما بينه وبين مكة مرحلتان) بسير الأثقال وإن قدر على المشي بلا مشقة؛ لأنها من شأنه حينئذٍ.

نعم؛ هو الأفضل؛ خروجاً من خلاف موجبه ولو لامرأة لا تخشى منه فتنة بوجه، وللعصبة منعها عند خوفها عليها. ولو قدر على دابة إلى دون مرحلتين، ومشى الباقي أو عكسه .. قال (حج): لم يلزمه؛ لأن تحصيل السبب لا يجب، وردّ كونه من تحصيل السبب. والمعتبر وجود الراحلة لمن لم تلحقه بها مشقة تبيح التيمم عند (م ر) أو لا تحتمل عادة عند (حج). (أو) وجود (شق محمل لمن لا يقدر على الراحلة) بأن تلحقه بها المشقة المذكورة؛ إذ لا استطاعة معها. فإن لحقته بالمحمل .. اشترط كنيسة، أي: محارة. فإن لحقته بها .. فسرير يحمله رجال، ولا نظر لزيادة مؤنتهما؛ إذ الفرض أنها فاضلة، كما يأتي. (وللمرأة) والخنثى وإن لم يتضررا، ولم يعتادا المحمل كنساء الأعراب؛ لأنه أستر لهما، ولا ينافيه ما مر من ندب المشي لهما؛ لأن الوجوب يحتاط له أكثر. ويشترط في وجود المحمل كونه (مع وجود الشريك) عدل لائق به، غير مشهور بخلاعة، وأن يوافقه على الركوب بين المحملين إِذا نزل لنحو قضاء حاجة، ولا نحو برص به، ولا شديد العداوة له. فإن لم يجده بشروطه .. لم يلزمه النسك وإن قدر على تمام المحمل. نعم؛ إن سهلت معادلته بما يريد استصحابه .. تعين هو أو الشريك. (ولا تشترط الراحلة لمن بينه وبين مكة أقل من مرحلتين وهو قوي على المشي) ولو امرأة بأن لا تلحقه به المشقة المتقدمة وإن كان إلى عرفة مرحلتان. ومقتضاه أنه لو قرب من عرفة وبعد من مكة .. لم يعتبر؛ وذلك لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وحيث لم يلزمه المشي فالركوب قبل الإحرام وبعده أفضل ولو لامرأة لم تخش من المشي فتنة، وهو على القتب أفضل. تنبيه: (الشق) بفتح أوله، و (المحمل) بفتح ميمه الأولى وكسر الثانية، -وقيل:

عكسه-: وهو شيء من نحو الخشب يجعل في جانب البعير بلا شيء يستر الراكب فيه. و (الكنيسة) هي: المحمل إلا أن عليه أعواداً عليها ما يظلل من الشمس من الكنس، أي: الستر، ومنه (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) [التكوير:16]. و (المحفة): التخت. (ويشترط كون ذلك كله) أي: ما مر من الراحلة والمؤن (فاضلاً) عما يعتبر في الفطرة بتفصيله. ومن ذلك: كونه فاضلاً (عن دَيْنه) ولو مؤجلاً ولو لله ككفارة، ودينه الحال على مليء وبه حجة كالذي بيده، وإلا .. فكمعدوم. (و) عن (مؤنة من عليه مؤنتهم) من زوجة وقريب ومملوك محتاج لخدمته. والمراد بـ (المؤنة): اللائقة بهم مطعماً وملبساً، وإعفاف أصل وأجرة طبيب وثمن دواء وغيرها. وبـ (من عليه مؤنتهم): ما يشمل أهل الضرورات من المسلمين ولو من غير أقاربه؛ لما ذكروه في "السير" من: أن دفع ضرورات المسلمين بإطعام جائع وكسوة عار ونحوهما فرض على من ملك أكثر من كفاية سنة، وقد أهمل هذا غالب الناس حتى من ينتمي إلى الصلاح. وشرط الفضل المذكور كونه لجميع مدة غيبته (ذهاباً وإياباً) وإقامة؛ لئلا يضيعوا، بل وإن لم يكن له ببلده أهل ولا عشيرة كما مر؛ لما في الغربة من الوحشة، ولنزع النفوس إلى الأوطان. ويحرم عليه السفر حتى يترك لممونه مؤنة مدة ذهابه وإيابه. لكن يخيره الحاكم بين طلاق زوجته وترك مؤنتها عند (حج). (وعن مسكن وخادم يحتاج إليه)؛ لخدمة له أو لممونه؛ تقديماً لحاجته الناجزة، وفيهما التفصيل المار في الفطرة، ومثلهما الثوب. ولو احتاج إلى صرف ما يحج به لتزوجه مع خوف عنت .. فالأفضل له التزوّج به، لكن يستقر عليه الحج؛ لأن النكاح من الملاذ، فلا يمنع استقراره. وأفتى الشهاب الرملي بوجوب الحج على من بيده وظيفة أمكنه النزول عنها بما يكفيه للحج وإن لم يكن له غيرها.

ونقل (سم) عن السيوطي: أنه لا يلزمه ذلك. (الثالث: أمن الطريق) أمنا لائقاً بالسفر ولو بخفير، بأجرة مثله على نفسه، وجميع ما يحتاج لاستصحابه لسفره، لا على مال نحو تجارة أمن عليه ببلده، ولا على مال غيره إن لم يلزمه حفظه والسفر به؛ لأن خوفه على ذلك -ولو من رصدي، ما لم يكن المعطي له الإمام- يمنع الاستطاعة إن خاف في جميع الطرق. وإلا .. وجب سلوك الذي يأمن فيه وإن طال إن وجد مؤنة سلوكه. ويشترط أيضاً: وجود رفقة يخرج معهم وقت العادة إن خاف وحده، ولا أثر لمجرد وحشة؛ لأنه لا بدل له، وبه فارق الوضوء. ولو اختص الخوف به .. لم يستقر في ذمته كما اعتمده (حج) و (م ر). وقال شيخ الإسلام والخطيب: يستقر عليه. والأظهر: وجوب ركوب البحر ولو على امرأة وجدت محلاً تنعزل فيه عن الرجال إن تعين طريقاً، ولو لجدب الأرض وغلبت السلامة فيه وقت سفره. ويجوز للولي ركوبه البحر بنحو الصبي إن غلبت السلامة وله مصلحة فيه، لا بماله ولو لتجارة؛ إذ المال يحتاط له أكثر. (الرابع: وجود الزاد والماء في المواضع المعتاد حمله منها بثمن مثله، وهو القدر اللائق به في ذلك المكان والزمان) وإن غلت الأسعار، ولا نظر لما مضى. نعم؛ لا يعتبر حالة الضرورة التي يقصد فيها القوت والماء لسد الرمق. فلو خلا بعض المنازل عن ذلك .. فلا وجوب؛ لأنه إن لم يحمل ذلك معه .. خاف على نفسه، وإن حمله .. عظمت المؤنة. وكذا لا يجب عليه الحج إذا لم يجد أحدهما إلا بأكثر من ثمن مثله وإن قلت الزيادة. ونقل (م ر) والخطيب عن الدميري: أنه يغتفر الزيادة اليسيرة؛ لأنه لا بدل له، بخلاف ماء الطهارة. (و) وجود (علف الدابة في كل مرحلة)؛ لعظم المؤنة في حمله؛ لكثرته، بخلاف الماء والزاد.

لكن في "المجموع" وغيره: اعتبار العادة فيه أيضاً، واعتمدوه، وإلا .. لم يجب الحج على آفاقي. والخامس: ما أشار إليه بقوله: (ولا يجب) ولا يستقر النسك (على المرأة) ولو عجوزاً لا تشتهى أو مكية. (إلا إن) وجد فيها ما مر، و (خرج معها) ولو بأجرة مثل قدرت عليها (زوج أو محرم) ولو فاسقاً؛ لأنه يغار عليها من مواقع الريب. نعم؛ لو علم أنه لا يغار عليها .. لم يكف. أو مراهقاً أو أعمى له حذاقة تأمن معه. وتشترط: مصاحبته لها بحيث تمنع الريبة وإن بعد عنها في بعض الأوقات، أو لم يكن معها، لكنه قريب. ويكفي عبدها، أو أجنبي ممسوح إن كانت هي وهو ثقتين (أو نسوة ثقات) -أي: ثلاث فأكثر- ذوات عدالة ولو إماء. ويتجه الاكتفاء بالمراهقات بقيده السابق، وبمحارم فسقهن بغير زنا أو قيادة وإن لم يكن معهن نحو محرم لإحداهن؛ لانقطاع الأطماع باجتماعهن. ومن ثَمّ جازت خلوة رجل بامرأتين دون عكسه. واعتمد في شرحي "المنهج"، و"التحرير" و (م ر)، والخطيب: الاكتفاء باثنتين. قال الكردي: ومحله: إن كانت واحدة منهما لا تفارقها. أمّا الجواز .. فلها أن تخرج لفرض الإسلام ككل واجب ولو وحدها إذا أمنت. ومن الواجب: خروج المرأة إلى محل حراثتها؛ لأن طلب الحلال واجب ولو شابة، لكنهن قد فرطن في عدم ستر جميع البدن وغيره. (الخامس) وهو في الحقيقة السادس: (أن يثبت على الراحلة بلا مشقة شديدة) وإلا .. لم يجب عليه بنفسه، بل هو معضوب، وسيأتي. السابع: وجود ما مر من الزاد وغيره وقت خروج الناس من بلده.

الثامن: أن يبقى بعد الاستطاعة ما يمكنه الوصول فيه إلى مكة بالسير المعتاد، بحيث لا يحتاج في بعض الأيام أو الليالي لقطع أكثر من مرحلة شرعية وإن اعتيد، وإلا .. لم يجب. وإنما وجبت الصلاة بأوّل وقتها قبل مضي ما يسعها؛ لإمكان تتميمها بعده، بخلاف الحج، على أن ابن الصلاح قال: يجب ثم يسقط. وفائدته عنده: وصفه بالإيجاب، وأنه لو مات يقضي من تركته قطعاً، ويلزمه الشروع في المقدمات. أمّا العمرة .. فيعتبر لها ما يسع أعمالها، وقدر بثلثي يوم. التاسع: أن يجد رفقة حيث لم يأمن وحده، يخرج معهم في الوقت المعتاد لا قبله؛ لزيادة المؤنة عليه، ولا بعده؛ لأنه يحتاج إلى قطع أكثر من مرحلة شرعية في بعض الأيام، وكل منهما يمنع الوجوب، وإن كان الأفضل خروجه معهم. العاشر: أن يجد ما مرَّ من الزاد ونحوه بمال حاصل عنده، أو بدين حال على مليء، فلا تلزمه الاستدانة لذلك وإن تعينت لوفائه جهة ظاهرة، ولا اتهاب، ولا قبول نحو هبة؛ للمنة، ولا شراؤه بأكثر من ثمنه. والحادي عشر: ما أشار إليه بقوله: (ولا يجب على الأعمى الحج) ولا العمرة (إلا إذا وجد قائداً) يقوده ويهديه عند ركوبه ونزوله، ولو بأجرة مثل قدر عليها، ويشترط فيه ما في الشريك المتقدم، ولا على أقطع إلا إن وجد معيناً، ولا على سفيه إلا إن وجد حافظ نفقة له. تنبيه: لو استطاع ثم افتقر .. لزمه الكسب والمشي إن قدر عليه ولو فوق مرحلتين، وكذا السؤال على ما في "الإحياء". لكنه لا يجب لدين آدمي عصى به، فالحج أولى. النوع الثاني: استطاعة تحصيله بإنابة غيره عنه، وإنما تكون في ميت ومعضوب كما أشار إليه بقوله: (ومن عجز عن) نسك (الحج) أو العمرة وقد أيس عن مباشرته (بنفسه)؛ لزمانة أو مرض لا يرجى برؤه أو هرم، ويسمى معضوباً -بمعجمة- من العضب، أي: القطع، كأنه قطع عن الحركة، أو بمهملة، كأنه قطع عصبه.

( .. وجب عليه الاستنابة) فيه عن نفسه فوراً إن عضب بعد الوجوب والتمكن. وعلى التراخي إن عضب قبل الوجوب أو معه أو بعده ولم يمكنه الأداء؛ لأنه مستطيع؛ إذ الاستطاعة بالمال كهي بالنفس، ولخبر الصحيحين: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم") وهذا في حجة الوداع، وهذا فيمن بينه وبين مكة مسافة قصر، وإلا .. وجب أن يتكلفه بنفسه كما يأتي. وإنما تجب عليه الاستنابة (إن قدر عليها) بعد عضبه (بماله) بأن وجد أجرة من يحج عنه بأجرة مثل، فاضلة عما يحتاجه من نحو مسكن وخادم، ونحو كتب فقه وإن كانت تبقى سنين عديدة، وكذا مؤنة ممونه وجميع ما يحتاجه يوم الاستئجار لا ما بعده؛ لأنه لم يفارقهم، فيمكنه تحصيل مؤنة ممونه لما بعده. ويكلف استئجار من رضي بأقل من أجرة مثل، كالإذن للمطيع الآتي بالأولى، وليست المنة هنا كهي بالمال. ولو لم يجد إلا أجرة ماش .. لزمه استئجاره. (أو) قدر عليها (بمن يطيعه) بأن وجد متبرعاً يحج عنه غير معضوب، وهو عدل تصح منه حجة الإسلام، ولا حج عليه. أمّا الفاسق .. فلا تصح إنابته عن غيره مطلقاً ولو مع المشاهدة؛ لأن النية لا اطلاع عليها. نعم؛ المعضوب نفسه يصح استئجاره فاسقاً ليحج عنه. ويقبل قول الأجير: حججت ولو فاسقاً؛ لأن ذلك لا يعرف إلا منه. وإذا اجتمعت الشروط في المطيع ولو أنثى معها محرم .. لزمه القبول فوراً وإن لزمه الحج على التراخي. نعم؛ إن كان المطيع بعضاً وهو ماش .. لم تجب إجابته؛ لأن مشيه يشق عليه، وكذا إن لم يجد كفايته لسفره وإن كان راكباً كسوباً، ما لم يكن قريباً من مكة، ويكسب في يوم كفاية أيام الحج. والفقير المعوّل على الكسب أو السؤال كالبعض عند (حج). فيما ذكر. وللولي منع أنثى من المشي فيما لا يلزمها، وللوالد منع ولده من حج تطوّع.

ولو توسم الطاعة من قريب أو أجنبي .. لزمه سؤاله، بخلاف ما لو بذل له مالاً ليستأجر به من يحج عنه ولو بعضه؛ للمنة. نعم؛ لو استأجر بعضه من يحج عنه، أو قال له: استأجر، وأنا أدفع للأجير الأجرة .. لزمه الإذن في الأولى، والاستئجار في الثانية كما في "التحفة". لكن اعترض بأن فيهما لزوم قبول المال من البعض، وهو لا يجب. قال الونائي: وليس لمطاع أذن رجوع مطلقاً، ولا لمطيع أحرم. ولا يُلزم وارث إجابة متطوع عن ميته، ولا يحج عن معضوب إلا بإذنه؛ لافتقاره إلى نية، والمعضوب من أهلها، ولا يصح عنه حج تطوّع. وفي "الفتح": وتجوز نيابة رقيق وصبي مميز عنه وعن ميت في نفل لا فرض. وفي "التحفة": (ولو مات أجير عين قبل الإحرام .. لم يستحق شيئاً، أو بعده .. استحق القسط بأن توزع أجرة المثل على السير والأعمال، ويعطى ما يخص عمله من أجرة المثل وإن لم يجز عن المستأجر له، ولا تصح على زيارته صلى الله عليه وسلم؛ لعدم انضباطها. نعم؛ إن انضبطت، كأن كتب ما يدعو له بورقة، أو جاعله على الدعاء .. صحت) اهـ قال الكردي: (وتجوز استنابة معضوب أجيراً بأكثر من أجرة مثل، أو مطيعاً معضوباً أو معوّلا على الكسب أو السؤال أو بعضاً ماشياً أو امرأة ماشية، أو لم يجد ما يكفيه أيام الحج، أو بذل له مالاً؛ ليستأجر به من يحج عنه، أو استأجر المطيع الأجنبي عنه، أو قال: ائذن لي في الاستئجار، ويجب فيما عدا ذلك) اهـ وعلى كلٍّ فتصح استنابته (إلا إذا كان بينه وبين مكة دون مسافة القصر) وإلا ( .. فيلزمه) أن يحج (بنفسه)؛ لأنه لا يتعذر عليه الركوب فيما مر من محمل فمحفة فسرير، ولا نظر للمشقة عليه؛ لاحتمالها في حد القرب وإن كانت تبيح التيمم كما في "التحفة". وفي "المغني"، كـ"النهاية": عدم اللزوم عند كثرتها. وفي "حاشية متن العباب" لـ (حج): عدم الصحة للمكي مطلقاً، والصحة لمن دون مسافة القصر، وتعذر عليه بنفسه ولو على سرير.

ولو امتنع المعضوب من الإذن في النسك .. لم يأذن الحاكم عنه، ولا يجبره عليه مطلقاً، ولا يلزم الفرع امتثال أمر أصله المعضوب في الحج عنه. تنبيه: الإحجاج عن المعضوب قلَّ في دائرة الإسلام، بل لا يكاد يوجد، فينبغي التنبيه عليه. وأمّا من مات بعد استقرار النسك عليه ولم يؤده .. فعلى وصيه، فوارثه، فالحاكم إنابة من يؤديه عنه من تركته فوراً؛ لخبر البخاري: (إن أمي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: "حجي عنها، أفرأيت أن لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ " قالت: نعم، قال: "فالله أحق بالوفاء"). فإن لم تكن تركة .. سن للوارث والأجنبي وإن لم يأذن له الوارث أن يؤدي نسكه وإن لم يستطع؛ لأنه بالدين أشبه. بخلاف الصوم فلا بد من إذنه؛ لأنه عباده بدنية محضة. ولا يجوز التنفل عنه به إلا إن أوصى به. فرع: الإجارة: إجارة عين، كاستأجرتك لتحج عني، أو عن ميتي بكذا. فيشترط: أن يحج بنفسه، وأن يكون قادراً على الشروع في العمل. فلا يصح استئجار من لا يمكنه الشروع لنحو مرض أو خوف، أو قبل خروج القافلة، لكن لا يضر انتظار خروجها بعد الاستئجار. فالمكي ونحوه يستأجر في أشهر الحج؛ لتمكنه من الإحرام، وغيره يستأجر عند خروجه بحيث يصل الميقات في أشهر الحج. وإجارة ذمة، كألزمت ذمتك الحج عني، أو عن ميتي، فتصح ولو لمستقبل بشرط حلول الأجرة، وتسليمها في مجلس العقد. وله أن يحج بنفسه، وأن يحج غيره، ويجوز أن يحج عن غيره بالنفقة. واغتفرت الجهالة فيه؛ لأنه ليس إجارة ولا جعالة، بل إرزاق. * * *

فصل: في المواقيت

(فصل) في المواقيت. جمع ميقات، وهو لغة: الحد. وشرعاً -هنا-: زمن العبادة ومكانها. وبدأ بالزمان، لتوقف صحة الحج عليه، فقال: (يحرم بالعمرة كل وقت)؛ إذ ميقاتها الأبد، وقيل: السنة. فعلى الأول: له أن يستمر على إحرامه بالعمرة أبداً، ويكملها متى شاء. وعلى الثاني: يحرم تأخيرها للعام الذي بعده، ومال إليه الأذرعي. وإنما لم تختص بوقت؛ لأنها صحت عنه صلى الله عليه وسلم، وعن غيره في أوقات مختلفة. نعم؛ قد تمتنع لعارض، كمحرم بها، وحاج لم ينفر من منى نفراً صحيحاً. وإن لم يكن بها، أو سقط عنه الرمي والمبيت، ومن عليه رمي أيام التشريق ولو كله، وقد خرج وقته .. حل إحرامه ونكاحه وغيرهما، ولا يتوقف ذلك على بدل الرمي، بخلاف رمي يوم النحر يتوقف عليه التحلل أو على بدله إذا خرج وقت الرمي، فهو إذا لم يفعله باق على إحرامه. ومنه يعلم: امتناع حجتين في عام خلافاً لمن زعمه. ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد؛ إذ هي أفضل من الطواف حيث استوى زمنهما؛ لأنها لا تقع من الحر المكلف إلا فرضاً. لكن أطال السيوطي في رسالة له في تفضيله. (و) يحرم (بالحج في أشهره، وهي: شوّال، وذو القعدة، وعشر) ليال (من ذي الحجة) أي: فيصح الإحرام به من ابتداء شوّال إلى فجر يوم النحر وإن ضاق الوقت، كأن أحرم به بمصر قبيل فجر نحر. ودعوى: أن الليالي إذا أطلقت تبعتها الأيام، فيدخل يوم النحر، وبه قال الحنفية: شرطها: إرادة المتكلم ذلك، ومن أين لنا ذلك؟!.

ويدل لمذهبنا الخبر الصحيح: "من شهد معنا صلاتنا هذه -أي: صبح يوم النحر، أي: بمزدلفة- فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً .. فقد تم حجه، وقضى تفثه"، فتأمله، فإنه نص صريح لمذهبنا. ويصح عند أبي حنيفة ومالك جميع السنة، لكنه مكروه قبل شوّال. (فلو أحرم به في غير وقته) كرمضان وبقية ذي الحجة ( .. انعقد عمرة) مجزئة عن عمرة الإسلام إن كانت عليه، علم به أو جهل، ولا يبطل؛ لأنه شديد التعلق، إذ لا يخرج منه كغيره بالفساد، بل ينصرف لما يقبله. ولو شك هل أحرم في وقته أو قبله؟ انعقد حجاً؛ لأن أصل تقدير كل حادث بأقرب زمن أخص من مطلق العدم، فقدم عليه. نعم؛ ينبغي الاحتياط، فينوي الحج إن لم يشرع في الأعمال؛ لصحة إدخال الحج على العمرة، وإلا .. فيفعل ما يفعل من أحرم بأحد النسكين ونسيه. (و) أمّا الميقات المكاني .. فهو (إن كان بمكة .. فيحرم) ولو قارناً أو متمتعاً أو آفاقياً (بالحج منها) لا خارجها ولو محاذياً لها عند (حج)؛ لخبر: "حتى أهل مكة من مكة". فلو أحرم خارجها في محل تقصر فيه الصلاة لمسافر منها، ولم يعد إليها قبل الوقوف .. أثم، ولزمه دم، وكذا إن عاد إليها قبله وقد وصل إلى مسافة القصر. قال في "التحفة": كذا قالوه، ومحله إن كان ميقات الجهة التي خرج إليها أبعد من مرحلتين .. فيتعين الوصول للميقات أو محاذاته؛ لإساءته بترك الإحرام من مكة. بخلاف ما لو كان ميقاتها على مرحلتين، أو لا ميقات لها، فيكفي الوصول إليهما. وإنما سقط دم التمتع بالمرحلتين مطلقاً؛ لأن هذا فيه إساءة ترك الإحرام من مكة، فشدد فيه أكثر، ولأنه ببعده منها مرحلتين انقطعت نسبته إليها، فصار كالآفاقي، فتعين ميقات جهته أو محاذاته. ويستثنى من ذلك: من يريد قضاء نسك أفسده، فيعتبر في حقه الأبعد من ميقات طريق القضاء والأداء، أو مثل مسافته. والأجير المكي إذا استؤجر عن آفاقي .. فيلزمه الإحرام من ميقات المحجوج عنه كما اعتمدوه.

لكن في مواضع من "الإيعاب"، و"المنح"، وفي "شرح الغاية" لـ (سم): الاكتفاء بميقات آفاقي يمر عليه الأجير وإن كان أقرب من ميقات المحجوج عنه، ونقله (سم) عن "المجموع"، وعن نص الشافعي، ولا إثم ولا دم عليه ولا حط، وهو -وإن كان غير معتمد عند أكثر المتأخرين- فيه فسحة كبيرة، ويجوز تقليده والعمل به للأجير؛ لأن هذا من عمل النفس. قال (سم): وعلى جواز العدول للأقرب، فيجوز للمكي الأجير عن آفاقي الإحرام من مكة، ولا حطّ ولا دم عليه، وهو ما اعتمده الجمال الطبري. والذي اعتمده المحب الطبري: (لزوم الخروج إلى الميقات ولو أقرب من ميقات المحجوج عنه على ما تقدم من جواز العدول للأقرب، فإن خالف .. لزمه الدم والحط. وفرق بين مكة وغيرها من المواقيت بأن المستأجر لو أتى غيرها من المواقيت .. كان ميقاته، ولو أتى إليها بلا إحرام مع إرادة النسك ثم أحرم منها .. لزمه الدم، فأجيره كذلك فيهما. وعلى هذا: لو شرط المستأجر الإحرام من مكة .. فسدت الإجارة، فإن حج الأجير منها .. استحق أجرة المثل، والدم على المستأجر، أي: للإذن في الإحرام من مكة) اهـ ولو تبرع مكي بنسك عن آفاقي وأحرم به من مكة .. استوجه في "المنح": وجوب الدم على المتبرع؛ لأنه الذي ورط نفسه. (و) أمَّا الإحرام (بالعمرة) .. فهو لمن بالحرم من مكة وغيرها (من أدنى الحل) من أي جانب شاء ولو ظناً بالاجتهاد، فإن لم يظهر له شيء .. تعين الاحتياط. ولو أخرج إحدى رجليه عن الحرم واعتمد عليها وأحرم .. كفاه؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أرسل عائشة مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت منه، ولو لم يجب ذلك لما أرسلها مع ضيق الوقت. ولو أحرم في الحرم ولم يخرج إلى الحل .. لزمه الإثم والدم، وكذا الحط إن كانت لغيره، وإن خرج إليه .. فلا إثم ولا حط. وكذا لا إثم إن كان عند الإحرام عازماً على الخروج. وأفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة الجعرانة -بالتخفيف والتشديد- موضع بين الطائف

ومكة على اثني عشر ميلاً منها، وعلى ثلاثة أميال من الحرم. ثم التنعيم المعروف الآن بمساجد عائشة، على فرسخ من مكة. ثم الحديبية -مخففة، وقيل: مشددة: اسم بئر بين طريق حدة- بكسر الحاء المهملة -وقيل: بجيم مضمومة- وكل صحيح؛ إذ حدة بالحاء في طريق جدة والمدينة، يقال: أنها المعروفة ببئر شمس، وفيها مسجده صلى الله عليه وسلم الذي بويع فيه تحت الشجرة وذلك؛ للاتباع في الأول، ولأمر عائشة به في الثاني، ولهمه بالاعتمار منه في الثالث. لكن في "المجموع": أنه أحرم من ذي الحليفة. وجمع بأنه أولاً همَّ بالاعتمار منها، ثم أحرم. واستشكل تقديم الجعرانة؛ لأنه عليه السلام أحرم منها في رجوعه من غزوة حنين، ولم يكن في الحرم، والكلام في الأفضل لمن هو فيه، وهو ظاهر. (وغير المكي) -أي: من ليس بمكة من آفاقي أو مكي- قصد مكة للنسك حجاً أو عمرة (يحرم بالحج والعمرة من الميقات) التي أقته صلى الله عليه وسلم لطريقه التي سلكها. (وهو لتهامة اليمن: يلملم) ويقال له: ألَمْلَمُ، ويرمرم. قال الكردي: (جبل من جبال تهامة جنوبي مكة مشهور بالسعدية، بينه وبين مكة مرحلتان) اهـ وقوله مرحلتان: أي: تقريباً، وإلا .. فبينهما مرحلتان ونصف. (ولنجده) أي: اليمن ونجد الحجاز (قَرْن) -بسكون الراء- جبل عند الطائف على مرحلتين من مكة. (ولأهل العراق) وخرسان (ذات عرق) بكسر فسكون و (عرق): الجبل الصغير المشرف على العقيق، وهو واد، والإحرام منه أفضل؛ لأنه أبعد من مكة، ولأنه ورد أنه ميقات أهل المشرق. (ولأهل الشام) الذين لا يمرون بذي الحليفة (و) أهل (مصر والمغرب: الجحفة) قرية خربة، أقرب من رابغ إلى مكة على أربع مراحل ونصف منها، والإحرام من رابغ أفضل إن جهلت الجحفة، أو تعذر بها فعل السنن.

(ولأهل المدينة) والشام، كما هي عادتهم الآن (ذو الحليفة) المسماة بأبيار علي، وبينها وبين المدينة ثلاثة أميال، وبين مكة عشر ديار، أي: منازل، والدار أكثر من مرحلة، بل تقارب مرحلتين. فإن سلكوا طريق الجحفة أو ذات عرق .. فما سلكوا طريقه فهو ميقاتهم وإن حاذوا ميقاتاً قبله؛ لأن عين الميقات أقوى من محاذاته، فكل من مرَّ بميقات فهو من أهله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقت جميع ما ذكر لمن ذكر، وقال: "هن -أي: المواقيت- لهن -أي: النواحي المذكورة- ولمن أتى عليهن من غير أهلهن". وأمَّا توقيت عمر ذات عرق .. فاجتهاد منه وافق النص. والأفضل: أن يحرم من الميقات لا من قبله إلا فيما مر، وأجير شرط عليه الإحرام من فوقه ومن أوله ليقطعه كله محرماً. نعم؛ الميقات الذي به مسجد .. يحرم منه ثم يعود إلى أول الميقات. وفي "المنح": الأفضل: أن يصلي به سنة الإحرام ثم يعود إلى أول الميقات، ويحرم منه عند ابتداء سيره منه، ويجوز الإحرام من آخر الميقات. ومن سلك طريقاً لاينتهي به لميقات، فإن حاذى ميقاتاً يمنة أو يسرة .. أحرم من محاذاته، فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة .. اجتهد، فإن تحير .. قلد، فإن لم يظهر له شيء .. احتاط ما لم يضق الوقت، أو يخاف الفوات. والأصل: براءة الذمة وعدم العصيان؛ لعدم تيقن المجاوزة. أو حاذى ميقاتين بأن كان إذا مر على كلٍّ تكون المسافة منه إليه واحدة .. فالأصح أنه يحرم من محاذاة أبعدهما من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أولاً، فأن استوت مسافتهما في القرب إلى طريقه وإلى مكة .. أحرم من محاذاتهما ما لم يحاذي أحدهما قبل الآخر، وإلا .. فمنه، أمَّا إذا لم تستو مسافتهما إليه بأن كان بين طريقه إذا مر عليه ميلان، والآخر إذا مر عليه ميل .. فهذا ميقاته وإن كان أقرب إلى مكة. ومن لم يحاذ ميقاتاً قبل مرحلتين، كالجائي من سواكن إلى جدة؛ فإنه يصلها قبل أن يحاذي ميقاتاً، وجدة مرحلتان إلى مكة .. أحرم على مرحلتين من مكة؛ إذ لا ميقات دونهما. وبما تقرر يعلم: أن المحاذاة بعد المرحلتين لا تعتبر.

وأن المراد من قولهم: (ومن لم يحاذ ميقاتاً): من لم يحاذه قبل مرحلتين، وإلا .. فعدم المحاذاة محال؛ لاكتناف المواقيت لمكة، على أن (سم) قال: هلاَّ اعتبرت المحاذاة ولو بعد المرحلتين، وربما أيده إطلاقهم المحاذاة. ومن مسكنه بين مكة والميقات .. فميقاته مسكنه؛ لقوله في الخبر: "ومن كان دون ذلك .. فمن حيث أنشأ"، حتى أهل مكة من مكة. نعم؛ مريد العمرة يخرج لأدنى الحل، كما مر. فإن أحرم بعد مجاوزة مسكنه ولم يعد إليه .. لزمه الدم وإن كان من حاضري المسجد الحرام. وأمَّا من مسكنه بين ميقاتين، كأهل الصفراء وبدر .. فميقاته الثاني، خلافاً "للمنح" من أن مسكنه: ميقاته على تفصيل ذكرته في "الأصل". ومن قصد الحرم لا لنسك بل لنحو تجارة .. سن أن يحرم بنسك من ميقاته لو أراده، وكره تركه. ومن جاوز الميقات غير مريد نسك ثم أراده .. أحرم من موضع إرادته، ويسمى الميقات المعنوي؛ لما في الحديث السابق. ومن بلغه مريد العمرة مطلقاً أو الحج في عامه، وكذا في غير عامه عند (حج) .. وجب عليه الإحرام بالنسك الذي أراده وإن أراد إقامة طويلة كشهر بموضع قبل مكة، خلافاً للشهاب الرملي. ولو كان قاصداً الإحرام بالحج عند المجاوزة، فأحرم بعمرة ثم أدخله عليها .. لزمه الدم، وإن لم يطرأ له قصده إلا بعد مجاوزته .. فلا. ويقاس بذلك ما لو قصد الإحرام بالعمرة وحدها عند المجاوزة، فأحرم بالحج، وهذا إن أمكن ما نواه، وإلا كأن نوى الحج في القابل .. تعينت العمرة. (فإن جاوز الميقات) إلى جهة الحرم ولو جاهلاً (مريد للنسك) ولو في القابل غير محرم ولم ينو العود إليه أو إلى مثله (ثم أحرم) بعمرة مطلقاً، أو بحج في السنة التي أراد النسك فيها ولو غير الأولى عند (حج) .. عصى إجماعاً إن لم يتوقف إحرامه على إذن كرقيق وإن عاد؛ لأنه إنما يرفع دوام الإثم، ومع العصيان ( .. فعليه دم إن لم يعد) بعد إحرامه (إلى) ذلك (الميقات) أو مثل مسافته (قبل التلبس بنسك) ولو مسنوناً على

صورة الركن، كطواف القدوم، ويلزمه العود إليه محرماً، أو ليحرم منه إن لم يحرم، أو إلى مثله؛ تداركاً لإثمه، أو لتقصيره في الجهل والنسيان وإن كان لا إثم فيهما؛ إذ لا فرق في المأمورات بين العالم العامد وغيره إلا في الإثم. فإن عاد بعد التلبس بنسك .. لم يسقط عنه الدم، أو قبله .. سقط. أمَّا لو جاوزه لا إلى جهة الحرم بل يمنة أو يسره .. فله أن يؤخر إحرامه إلى محل مثل مسافة ميقاته إلى مكة أو أبعد. وبه يعلم أنه ليس للجائين من اليمن تأخير إحرامهم إلى جدة وإن قال في "التحفة"، وتبعه جماعة: إن مسافتها كمسافة يلملم إلى مكة؛ لتحقق التفاوت بنحو الربع كما هو مشاهد، فلا معنى للخلاف. نعم؛ أفتى بما في "التحفة" الشيخ محمد صالح الرئيس؛ تبعاً للشيخ إدريس الصعيدي، وعلله بأن مبنى المواقيت على التقريب؛ لتصريحهم أن يلملم وذات عرق وجدة على مرحلتين، مع أن بعضها يزيد على ذلك. وسمعت: أن (يلملم): جبل طويل، وأن آخره إلى مكة كجدة إليها أو أقل، فإن صح ذلك .. اتجه بل اتضح ما في "التحفة"؛ لأن العبرة من حيث الوجوب في المواقيت بآخرها. وخرج بقولنا: (إلى جهة الحرم أيضاً): من مر على الميقات بعد نسكه قاصداً بلده، كأهل اليمن يزورون بعد الحج، ويمرون في رجوعهم بذي الحليفة قاصدين النسك في عامهم بعد إقامتهم ببلدهم، فلا يجب عليهم الإحرام؛ لأن مجاوزتهم الميقات في غير جهة الحرم، بخلاف المكي إذا رجع بعد الزيارة إلى مكة. وبـ (مريد النسك): من لا يريده عند المجاوزة وإن أراده بعد كما مر. وبـ (غير ناو العود): من نواه وعاد، أو لم يعد؛ لعذر كمرض .. فلا إثم وإن وجب على الأخير الدم. وبـ (ثم أحرم): ما لو لم يحرم، أو أحرم بحج في غير السنة التي أراد النسك فيها .. فلا دم عليه؛ لأنه لنقص النسك، ومع عدم الإحرام لا نسك، وكذا لو أحرم في غير التي أرادها .. فلا نقص. وفارقت العمرة الحج في: كون الإحرام بها يلزمه الدم ولو في غير تلك السنة؛ لأن إحرامه في سنة لا يصلح لغيرها، بخلافها؛ إذ إحرامها لا يتأقت. * * *

فصل: في أركان الحج

(فصل) في أركان الحج. أي: أجزاء الحج والعمرة، وهي التي يتوقف صحتهما عليها، ولا تجبر بدم ولا غيره. (أركان الحج خمسة) بل ستة: (الإحرام) أي: نية الدخول في النسك (والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي، والحلق)، وترتيب معظمها؛ إذ لا بد من تقديم الإحرام على الكل، والوقوف على ما بعده إن لم يقدم السعي بعد طواف القدوم، وتأخير الطواف والسعي والحلق عن الوقوف والإحرام، ولا ترتيب بينها إلا بين الطواف والسعي. (وأركان العمرة أربعة) بل خمسة، وهي ما عدا الوقوف من أركان الحج. (وهي: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق)، والترتيب في جميعها على ما ذكره، وكلها تصح مع الحدثين إلا الطواف وهو أفضلها عند (م ر)، وعند (حج): الوقوف؛ لأنه الركن الأعظم، لفوات الحج بفواته، ثم بعدهما السعي ثم الحلق. * * * (فصل: الإحرام) الذي هو ركن من أركان النسك (نية) الدخول في (الحج أو العمرة أو هما)؛ لخبر: "من أراد أن يهل بحج أو عمرة .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة .. فليفعل". وهو بهذا الاعتبار ركن. ويطلق أيضاً على نفس الدخول فيه بالنية؛ لاقتضائه دخول الحرم، كأنجد إذا دخل نجداً، أو تحريم الأنواع الآتية.

وهذا هو المراد بقولهم: يفسده الجماع، وتحرم به المحرمات الآتية. وبقولهم: ينعقد الإحرام، أي: يحصل الدخول فيه بالنية. (وينعقد) الإحرام أيضاً في أشهر الحج (مطلقاً) -بفتح اللام وكسرها- لما روى الشافعي: (أنه صلى اللله عليه وسلم خرج هو وأصحابه ينتظرون القضاء -أي: نزول الوحي- فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً). (ثم يصرفه) أي: الإحرام المطلق بالنية (لما شاء) من حج أو عمرة، أو كليهما، وإن ضاق الوقت أو فات عند (حج). والأفضل: صرفه للعمرة؛ خروجاً من الخلاف، ولا يجزئه العمل قبل الصرف. نعم؛ إن طاف ثم صرفه حجاً .. وقع عن طواف القدوم، ولا يجزئه السعي بعده قبل الصرف؛ لأنه يحتاط للركن ما لا يحتاط للسنة. وفي "الإيعاب": أنه يجزيه السعي بعده. ولو أفسده قبل الصرف .. فأيهما عينه كان مفسداً له. أمَّا في غير أشهر الحج .. فينعقد عمرة، وله أن يحرم كإحرام زيد، ثم إن كان زيد مطلقاً أو غير محرم أو أحرم فاسداً .. انعقد له مطلقاً، وإن علم إحرام زيد وكان زيد مفصلاً ابتداء .. تبعه في تفصيله. بخلاف ما لو أحرم مطلقاً وصرفه حجاً أو عمرة، وأدخل عليها الحج، ثم أحرم كإحرامه .. فلا يلزمه في الأولى أن يصرفه لما صرفه له، ولا في الثانية إدخال الحج على العمرة إلا أن يقصد التشبيه به في الصورتين. وإذا تعذر معرفة إحرام زيد .. جعل نفسه قارناً، وعمل عمله، ولا يبرأ من العمرة؛ لاحتمال أنه كان محرماً بحج، وهو يمتنع إدخال العمرة عليه. ويغني عن نية القران نية الحج؛ إذ لا يحصل له وإن نوى القران سواء، ولا يلزمه دم إن نوى القران. ولو اقتصر على عمل عمرة .. لم يحصل له التحلل، أو على عمل الحج بلا نيته .. حصل له التحلل، ولا يبرأ من شيء منهما. (ويستحب التلفظ بالنية) التي يريدها مما مر؛ لتأكد ما في القلب، كسائر العبادات.

(فيقول) بقلبه وجوباً، وبلسانه ندباً: (نويت الحج أو العمرة) أو هما، أو النسك (وأحرمت به لله تعالى) عطف مرادف أتى به؛ للتأكيد. ولا تجب نية الفرضية جزماً؛ لأنه لو نوى به النفل .. وقع عن الفرض، ولو تخالف القلب واللسان .. فالعبرة بما في القلب. (وإن حج أو اعتمر عن غيره .. قال: نويت الحج أو العمرة عن فلان، وأحرمت به لله تعالى) ولو أخر لفظ فلان عن: (وأحرمت به لله تعالى) .. لا يضر على المعتمد إن كان عازماً عند نويت الحج مثلاً أن يأتي به، وإلا وقع للحاج نفسه. (ويستحب) استقبال القبلة و (التلبية مع النية) فيقول عقب تلفظه بالنية المارة: لبيك اللهم ... إلخ، ولا يجهر بهذه التلبية، ويذكر فيها دون غيرها ما أحرم به. قال في "الشرح": لخبر مسلم: "إذا توجهتم إلى منى .. فأهلوا بالحج". و (الإهلال): رفع الصوت بالتلبية، أي: هنا، وإلا فهو رفع الصوت مطلقاً. قال الكردي: (ولفظ التلبية ثابت في البخاري، فلو استدل به هنا، وأخر هذا إلى رفع الصوت بالتلبية .. كان أنسب) اهـ فإن لبى بلا نية .. لم ينعقد؛ لخبر: "إنما الأعمال بالنيات"، أو نوى ولم يلب .. انعقد على الصحيح، ولو لبى بغير ما نوى .. فالعبرة بما نواه. (و) يستحب (الإكثار منها) للمحرم، ولو نحو حائض في كل محل لا نجاسة به كحش، وإلا .. كرهت، ولا في طواف وسعي. ويستمر على ذلك إلى شروعه في أسباب التحلل، كرمي جمرة العقبة. ويتأكد عند تغاير الأحوال كركوب وصعود واجتماع وأضدادها، ومنه عند فراغ الصلاة، ويقدمها على أذكار الصلاة. (ورفع الصوت بها لذكر) ولو بمسجد، بحيث لا يجهد نفسه ولا يشوش على غيره؛ للخبر السابق وغيره. أمَّا غير الذكر .. فيكره جهره بها بحضرة أجانب، وإلا .. جهر دون الذكر، ولم

يحرم بحضرة أجانب كالأذان؛ لأن كلاً هنا مشغول بتلبية نفسه عن تلبية غيره. (إلاَّ في أول مرة) التي مع الإحرام ( .. فيسر بها) وإن لم يذكر فيها ما أحرم به، وتحرم إجابة كافر بها. (وصيغتها) المحبوبة تلبيته صلى الله عليه وسلم وهي: (لبيك) مصدر مثنى، قصد به التكثير من لب: أقام أو أجاب، أي: إقامة على طاعتك بعد إقامة، أو إجابة -لأمرك لنا على لسان خليلك عليه السلام- بعد إجابة. (اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن) الأولى كسرها؛ لما في "الفتح" من إيهام: أن التلبية مختصة بحالة شهود النعمة وما معها. والأكمل: إخلاصها بغير شهود شيء آخر لذاته تعالى، ومن الاحتياج إلى تقدير. (الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وندب وقفة لطيفة على (والملك)؛ دفعاً لتوهم عود النفي بـ (لا) لما قبلها وإن بعد جداً وعلى لبيك الثاني والثالث؛ ليكون في الثالث أبعد من إيهام التعليل له بما بعده. (ويكررها) أي: جميع التلبية المذكورة، لا لبيك فقط كما هو وجه ضعيف (ثلاثاً) ويواليها. (ثم) بعد فراغه من التلبية ثلاثاً، أو دونها (يصلي) ويسلم (على النبي) وآله وصحبه (صلى الله عليه وسلم). والأفضل: بعد كل ثلاث منها، وكونها بصوت أخفض من التلبية، وتكريرها ثلاثاً، وأن لا يرد على من سلم عليه إلا بعد فراغها كالمؤذن. (ثم) بعد ما ذكر (سأل الله الرضى والجنة، واستعاذ) به (من النار) كما جاء بسند ضعيف (ثم دعا بما أحب) ديناً ودنيا. وندب أن لا يتكلم أثناء تلبيته إلا برد سلام .. فيسن، وتأخيره إن بقي المسلم عنده أفضل، وإلا بإنذار مشرف على تلف .. فيجب.

فصل: في سنن تتعلق بالإحرام

(وإذا رأى المحرم أو غيره) أي: أدرك بأي حاسة كان (شيئاً يعجبه أو يكرهه .. قال) ندباً: (لبيك إن العيش) أي: الكامل، وهو الهنيء الذي لا يعقبه كدر، ولا يشوبه تنغص هو (عيش الآخرة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أسر أحواله حين رأى جمع المسلمين بعرفة، وفي أشدها في حفر الخندق، ويظهر تقييد لبيك بالمحرم. وغيره يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة، كما ورد أيضاً في حفر الخندق. * * * (فصل) في سنن تتعلق بالإحرام. (ويسن الغسل للإحرام) بسائر كيفياته؛ للاتباع ولو لنحو حائض وإن أراده قبل الميقات، ويكره تركه ولو لحائض، وتأخيره لطهرها أولى. وإحرام الجنب مكروه، وغير المميز يغسله وليه، وينوي عنه ولو بنائبه. ويكفي تقدمه على الإحرام إن نسب إليه عرفاً، كأن يغتسل بمكة، ويحرم من التنعيم، ومن عجز عن الماء .. تيمم، ويكفيه تيمم واحد له وللوضوء على المعتمد، كما مر. وندب لمريد إحرام قص شارب، وأخذ شعر نحو إبط وظفر قبل الغسل، إلا في عشر ذي الحجة لمريد تضحية .. فيكره، فغسل رأسه بنحو سدر، فمسح بحناء لوجه امرأة غير محدة ولو عجوزاً يستر بشرته؛ لأنها مأمورة بكشفه، وخضب كفيها به. ويكره بعد إحرام (ولدخول مكة) ولو حلالاً. والأفضل: كونه بـ (ذي طوى): بئر في الزاهر لمار بها، وإلا .. فمن مثلها مسافة، فإن لم يغتسل قبل دخولها .. اغتسل فيها. ويستثنى من قرب غسله بحيث لم يتغير ريحه، كأن اغتسل لإحرامه من التنعيم ودخل مكة، فلا يسن له الغسل، وكذا يقال في بقية الأغسال، بخلاف من اغتسل بمحل غير

قريب كالحديبية، فيغتسل لدخول مكة وإن لم يتغير ريحه، وهذا إنما هو عند عدم التغير، وإلا .. فيسن مطلقاً. ويسن أيضاً لدخول حرم مكة وحرم المدينة، ولدخول الكعبة والمدينة ما لم يتقدمها غسل قريب مطلوب. (ولوقوف عرفة) ويدخل كغسل الجمعة، ورمي أيام التشريق بالفجر، والأفضل: كونه بعد الزوال، وبنمرة. (و) للوقوف بـ (مزدلفة) والأفضل: كونه بالمشعر الحرام بعد الفجر، ويجوز من نصف الليل. (ولرمي) الجمار كل يوم من أيام التشريق؛ لآثار وردت في ذلك، ولاجتماع الناس عند ذلك، والأفضل كونه بعد الزوال. فإن لم يغتسل بعرفة .. ندب لدخول مزدلفة، أو لم يغتسل لوقوف مزدلفة .. ندب لرمي جمرة العقبة، أو لم يغتسل لدخول مكة .. سن لطواف القدوم. وبالجملة: فيسن عند كل ازدحام واجتماع في طواف وغيره وإن قلنا لا يسن للطواف. (و) يستحب بعد الغسل (تطييب بدنه للإحرام)؛ للاتباع إلا لصائم وبائن .. فيكره لهما ما لم تكن لهما رائحة يتأذى بها وتوقفت إزالتها على الطيب، وإلا لمحدة .. فيحرم. وإنما لم يسن لغير ذكر التطيب لنحو الجمعة؛ لضيق وقته ومكانه، فلا يمكنه تجنب الرجال. وأفضله: المسك وأن يخلط بماء ورد؛ ليذهب جرمه، ويكره الزباد؛ لقول أحمد بنجاسته. (دون ثوبه) فلا يسن تطييبه، بل يباح كما في "شرح المنهج"، و"المغني"، و"الفتح"، و"م ر". أو يكره كما في "التحفة"؛ للخلاف القوي في حرمته، ولا تحرم استدامته وإن كان له جرم في بدن أو ثوب بعد الإحرام؛ لخبر عائشة: (كأني أنظر إلى وبيص المسك -أي: بريقه- في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وخرج بـ (استدامته): ما لو أخذه من بدنه أو ثوبه ثم رده إليه أو مسه بيده مثلاً عمداً .. فتلزمه مع الحرمة الفدية. ولو نزع ثوبه المطيب ولو بحيث لو رش بماء ظهر ريحه ثم لبسه .. لزمته الفدية في الأصح، ومقابله لا فدية؛ إذ العادة لبسه ثم خلعه، فجعل عفواً، ولا يسع الناس إلا هذا، أو ترك تطييب الثوب رأساً. بل قال مالك: يمتنع التطيب في الثوب والبدن؛ لخبر فيه، لكن قالوا: إنه منسوخ. ويندب الجماع قبل الإحرام خصوصاً لمن يشق عليه تركه. (و) يندب لذكر (لبس إزار ورداء) قبيل الإحرام؛ للاتباع، وكونهما (أبيضين)؛ لخبر: "البسوا من ثيلبكم البياض"، و (جديدين ثم مغسولين) ويندب غسل جديد احتملت نجاسته. ويسن للمرأة لبس البياض، ويكره لها لبس المصبوغ. تنبيه: قضية كلام كثيرين كـ"الإيضاح"، و"الروضة": أن التجرد عن المخيط سنة قبل الإحرام، وفي "المجموع" وغيره: أنه واجب، وأطال كل لترجيح ما قاله، وبينت ذلك في "الأصل"، والوجوب غير بعيد. (و) يسن لبس (نعلين) وكونهما جديدين؛ لخبر: "يحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" (و) صلاة (ركعتين) فأكثر بعد ما ذكر في غير وقت الكراهة إلا في حرم مكة كما مر؛ لخبر الشيخين: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم). ولا بد أن ينوي بهما سنة الإحرام، ويغني عنهما غيرهما كفريضة وإن لم ينوهما معها فيسقط طلبهما، بل ويثاب عليهما عند (م ر) على ما مر. ويقرأ فيهما سورتي (الإخلاص) وأن يصليهما في المسجد إن كان هناك على ما مر في فصل المواقيت. ثم بعد أن يصليهما (يحرم بعدهما) بحيث ينسبان إليه حال كونه (مستقبلاً) للقبلة عند الإحرام.

والأفضل: أن يحرم (عند ابتداء سيره) في الماشي، أو سير دابته في الراكب متوجهاً لطريق مقصده؛ للاتباع. (ويسن) لحاج ولو قارناً (دخول مكة قبل الوقوف)؛ للاتباع، ولكثرة ما يفوته لو لم يدخلها قبله من طواف القدوم، وتعجيل سعي وزيارة البيت وكثرة الصلوات في المسجد الحرام، وغير ذلك. (و) كونه ولو لحلال (من أعلاها) وإن لم يكن بطريقه، ويسمى: ثنية كداء -بفتح الكاف والمد- و (نهاراً) والأفضل: أوله، وبعد صلاة الصبح. وكون الذكر (ماشياً) و (حافياً) إن لم تلحقه بذلك مشقة، ولم يخف تنجس رجليه، ولم يضعفه ذلك عن الوظائف؛ لأنه أشبه بالأدب، ومن ثم ندب له الأخيران من أول الحرم إن لم يخف شيئاً مما مر. أما المرأة .. فدخولها في نحو هودجها أفضل. ويسن أن يخرج من ثنية كُدى -بضم الكاف والقصر- وإن لو تكن بطريقه كإلى عرفة، لكن استثناها (سم)، وعبد الرؤوف. وحكمته: الاشعار بعلو ما يدخله على غيره، وفي الخروج بالعكس. وينبغي أن يستحضر عند دخوله الحرم ومكة من الخشوع والخضوع والتواضع ما أمكنه، ولا يزال كذلك. فإذا وصل المدعى .. وقف ودعا، ثم ينطلق نحو المسجد، ويدخل من باب السلام وإن لم يكن بطريقه، فإذا وقع بصره على البيت أو بحيث يراه لو لم يكن مانع من الرؤية .. رفع يديه؛ لخبر فيه: أنه حينئذٍ يستجاب الدعاء، ووقف ودعا، فيقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، ثم يدعو بما أحب. (وأن يطوف للقدوم) عند دخوله المسجد مقدماً له على تغيير ثياب لم يشك في طهرها أو لا تليق به، واكتراء منزل وغيرهما؛ للاتباع. ولأنه تحية البيت فقدم على تحية المسجد وغيرها إلا لعارض، كفائتة فرض لم تكثر،

فصل: في واجبات الطواف وبعض سننه

وخشية فوات راتبة أو سنة مؤكدة أو مكتوبة أو جماعة، فإن أقيمت فيه جماعة مكتوبة كما في "التحفة"، أو غيرها كما في غيرها .. قطعه ما لم يرج جماعة أخرى مساوية لها. وتؤخر المرأة طوافها إلى الليل. ولو منع من الطواف .. صلى التحية، كما لو دخل ولم يرده، ولا يفوت إلا بالوقوف بعرفة. وإنما يندب لداخل مكة (إن كان) حلالاً، أو (حاجاً أو قارناً ودخل مكة قبل الوقوف) بخلاف معتمر وحاج دخلها بعد الوقوف فمخاطب بطواف الركن، فلم يصح تطوعهما بطواف القدوم ولا غيره قبله، حتى لو قصدا به غير الفرض .. وقع عن الفرض، واندرج فيه طواف القدوم. نعم؛ لو دخل مكة بعد الوقوف قبل نصف ليلة النحر .. سن له طواف القدوم؛ إذ لا يدخل طواف الركن إلا بنصف الليل. * * * (فصل: واجبات الطواف) بأنواعه من قدوم وركن وتحلل ووداع واجبٍ، أو مندوب، أو نذر وتطوّع. والمراد بالواجبات هنا: ما يشمل الشرط والركن، فالركن النية، والطوافات وغيرهما شروط (ثمانية) بل أحد عشر، فالثلاثة الأول: (ستر العورة، وطهارة الحدث) الأصغر والأكبر (و) طهارة (النجس) بتفصيلهما السابق في الصلاة؛ لأنه صلاة كما صح به الخبر، وصح أيضاً: "لا يطوف بالبيت عريان". فلو أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه أو عري شيء من عورته مع القدرة على ستره أثناء الطواف .. تطهر وتستر وبنى وإن تعمد ذلك وطال الفصل كالوضوء، وقيل: يستأنف كالصلاة. ويعفى عما يشق الاحتراز عنه في المطاف من ذرق الطيور وغيرها، حيث لا رطوبة، ولم يتعمده.

لكن في "المنح"، و"الإيعاب"، و"مختصر الإيضاح": أنه حيث لا مندوحة له عنه لا يضر تعمده. وفي "الإمداد": قضيةُ تشبيه المجموع ذلك بدم نحو القمل وطين الشارع عدمُ الفرق بين الرطبة وغيرها، وجرى عليه في "مختصر الإيضاح". والعاري يطوف ولا إعادة عليه. قال في "الشرح": (والأوجه: أن للمتيمم وإن لزمته الإعادة، وللمتنجس العاجزين عن الماء -ولو شرعاً كذي جبيرة تيمم- طواف الركن؛ ليستفيدا به التحلل، ثم إذا عادا إلى مكة .. لزمهما إعادته) اهـ وأفهم كلامه: أنه لا يلزمه العود لذلك، وهو مفاد كلام غيره. ونقل (سم) عن (م ر): أنه لا يجب عليه المجيء فوراً. قال عبد الرؤوف: وعليه: فمحله مالم يتضيق بنحو عضب، فإن عضب .. أناب فيه غيره؛ لعذره، وإنَّ الكلام في الآفاقي، فالمكي ليس له فعل طواف الركن بالتيمم إن رجا حصول البرء عن قرب. وفي "الأصل" زيادات، فليطلبها من أرادها. (و) الرابع: (جعل البيت عن يساره) يقيناً؛ للاتباع، إلا في أعمى .. فظناً؛ لشدة عسره عليه ماراً لجهة الحجر -بكسر الحاء- ولو محمولاً وإِن حعل رأسه لأسفل، أو وجهه للسماء وظهره للأرض أو عكسه، كما لو طاف منحنياً أو حبواً أو زحفاً مع قدرته على المشي. فإن جعله على يمينه ومشى أمامه أو القهقرى أو أمامه أو خلفه أو على يساره ومشى القهقرى .. لم يصح؛ لمنافاته لما ورد الشرع به. (و) الخامس: (الابتداء بالحجر الأسود)؛ للاتباع، فلا يعتد بما بدأ به قبله ولو سهواً، فإذا انتهى إليه .. ابتدأ منه. (و) السادس: (محاذاته) أي: الحجر كله أو بعضه في أول طوافه عند النية إن وجبت، وآخره (بجميع بدنه) أي: بجميع أعلى شقه الأيسر المحاذي لصدره، وهو المنكب. فيجب في الابتداء: أن لا يتقدم جزء منه على جزء من الحجر مما يلي الباب، واكتفي

بمحاذاة بعضه، كما يكتفي في الصلاة بتوجهه بكل بدنه لبعض الكعبة. وفي الانتهاء: أن يكون الذي حاذاه آخراً هو الذي حاذاه أوّلاً، أو مقدماً إلى جهة الباب؛ ليحصل استيعاب البيت بالطواف، وزيادة ذلك الجزء؛ احتياطاً، كما يجب غسل جزء من الرأس مع الوجه، فليتنبه له. فلو لم يحاذه أو بعضه بجميع أعلى شقه، كأن جاوزه ببعض أعلى شقه إلى جهة الباب، أو تقدمت النية على المحاذاة المذكورة، أو تأخرت عنها .. لم تصح طوفته، وكذا ما بعدها إن كان طوافه يحتاج لنية، ولم يستحضرها بعد. (و) السابع: (كونه سَبْعاً) يقيناً ولو راكباً، فلو ترك خطوة .. لم يجزئه، ولا تقوم عنها كفارة، ولو شك في العدد .. أخذ بالأقل كالصلاة. نعم؛ الشك بعد الفراغ لا يضر. ولو أخبره غيره على خلاف ما يعتقده، فإن كان بالنقص .. سن الأخذ به إن لم يؤثر معه تردداً، وإلا .. وجب، وفارق الصلاة بأنها تبطل بالزيادة، أو بالتمام .. لم يجز الأخذ به إلا إِن بلغوا حَدَّ التواتر كما في الصلاة. ولو شك في شرط كالطهارة بعد فراغه .. لم يضر، وإلا .. ضر إن شك في أصلها كما في الصلاة. ولا يكره في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لما مر ثَمَّ. (و) الثامن: (كونه داخل المسجد) وإن خرج إلى الحل على ما في "شرحي الإرشاد" ولو على سطحه، وإن كان أعلى من الكعبة؛ إذ لهوائها حكمها وإن حال بينه وبين البيت حائل. لكن يكره خلف المطاف؛ للخلاف فيه، فلا يصح خارج المسجد إِجماعاً. وأول من وسَّعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ثم عثمان ثم ابن الزبير، ثم الوليد بن عبد الملك ثم المنصور ثم المهدي، وزاد بعضهم المأمون، وعليه استقر، والمراد: ما استقر عليه الآن، لا ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فقط. (و) التاسع: كونه (خارج البيت والشاذروان والحجر) بجميع بدنه؛ لآية: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:29]. وإنما يكون طائفاً به حيث لا جزء منه فيه، وإلا .. فهو طائف فيه لا به، وكبدنه:

ثوبه المتحرك بحركته عند (حج) لا عود في يده وحامله ودابته. و (الشاذروان): جدار قصير نقصه ابن الزبير من عرض الأساس لمّا وصل أرض المطاف؛ لمصلحة البناء، ثم سنم بالرخام؛ لأن أكثر العامة تجهله، وهو من الجهة الغربية واليمانية فقط، كما في "الشرح"، وموضع من "النهاية" وغيرهما. لكن المعتمد كما في "التحفة": ثبوته في جهة الباب أيضاً، كما حرره في "الحاشية"، ونقلت عبارتها في "الأصل"، واعتمده الكردي. والحاصل: أنه مختلف فيه من جميع الجوانب. فالإمام والرافعي: لا يقولان به إلا في جهة الباب، وشيخ الإسلام ومن وافقه لا يقولون به في جهة الباب، وأبو حنيفة لا يقول به في جميع الجوانب، وفيه رخصة عظيمة. بل لنا وجه: أن مس جدار الكعبة .. لا يضر؛ لخروج معظم بدنه عن البيت. و (الحجر) -بكسر الحاء-: ما بين الركنين الشاميين، عليه جدار قصير، بينه وبين كل من الركنين الشاميين فتحة، ويسمى أيضاً: حطيماً. لكن الأشهر: أنه ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وهو أفضل محل بعد الكعبة والحجر. فلو مشى الطائف بين فتحتيه أو وضع بعض بدنه وهو سائر على جداره القصير .. لم يصح حينئذٍ، فليعد إلى محل الدخول أو الوضع، ثم يبني؛ لأنه وإن لم يكن فيه من البيت إلا ستة أو سبعة أذرع .. فالغالب في الحج التعبد، ولم يثبت الطواف إلى خارجه، فوجب الاتباع. وليتفطن لدقيقة وهي من قَبَّل الحجر الأسود، أو استلم اليماني، فإنه يدخل في جزء من البيت، فليقر قدميه حتى يفرغ منهما، ويعتدل قائماً، ثم يجعل البيت عن يساره ويسير. العاشر: عدم صرفه لغيره، كطلب غريم فقط، وكإسراعه خوفاً من أن تلمسه امرأة، فإن شرَّك كأن قصد بمشيه الطواف وطلب الغريم .. لم يضر، ولو دفعه شخص فمشى بدفعه خطوات .. لم يضر؛ لأنه لم يصرفه. والحادي عشر: النية عندما تشترط محاذاته من الحجر في طواف نذر ونفل غير

قدوم، أمَّا طواف الركن والقدوم وكذا الوداع عند (حج) .. فلا يحتاج لنية؛ لانسحاب نية النسك عليه، لكن تسن. وفي "المنح": إن كان المراد بالنية: قصد الفعل .. فهو شرط في كل طواف، أو تعيين الطواف .. فليس بشرط في كل طواف، فما المختلف في وجوب النية فيه؟ وقد يجاب بأن المختلف فيه: قصد الفعل، لا مطلق الفعل، كقولهم: يشترط قصد فعل الصلاة، ولا يكفي مطلق قصدها مع الغفلة عن ربطه بالفعل، فطواف النسك يكفي فيه مطلق القصد، وطواف غيره لا بد فيه من قصد الفعل دون التعيين، كنية نفل الصلاة المطلق. (ومن) أي: وبعض (سننه)؛ إذ هي كثيرة، لأنه يشبه الصلاة، فكل ما يمكن جريانه فيه من سننها لا يبعد ندبه فيه من الإضافة لله وعدد الأسابيع وفراغ القلب والخشوع والتدبر، بل قد يزيد بأشياء. ومنها: (المشي) فيه ولو لغير ذكر؛ للاتباع، ويكره الزحف والحبو فيه، والركوب فيه لغير استفتاء خلاف الأولى عند (حج)، وحرام عند (م ر). ويسن كونه حافياً ولو امرأة إلا لعذر كشدة حر .. فيحرم، فإن لم يشتد .. جاز لبس نعلين والحفاء، وندب تقصير الخطا؛ لتكثر خطاه فيكثر الأجر. وعليه: فأسبوع بسكينة وتؤدة بحيث يطوف غيره أسابيع مع تساوي أوصافهما أفضل. (واستلام الحجر) ويمينه أفضل (تقبيله) ويخففها بحيث لا يظهر لها صوت، فإن ظهر .. كره. (ووضع جبهته عليه)؛ للاتباع في الثلاثة، ويسن تكرير كل منها ثلاثاً في كل طوفة، والأوتار آكد، ولا يقبل ما استلم به كيده إلا عند العجز عن تقبيل الحجر. لكن في "التحفة": أن الذي دلت عليه الأخبار، وصرح به ابن الصلاح، وتبعه جمع: أنه يقبلها، فإن عجز عن الأخيرين أو عن الأخير فقط بأن لحقه أو لحق غيره بذلك مشقة تذهب خشوعه .. اقتصر على الاستلام في الأولى، أو عليه وعلى الوضع في الثانية، ثم قبل ما استلم به، فإن عجز عن استلامه بيده وغيرها .. أشار إليه بيده اليمنى فاليسرى، فبما في اليمنى فبما في اليسرى؛ للاتباع، رواه البخاري، ثم يقبل ما أشار به.

تنبيه: من علم أنه بنحو استلام الحجر يعلق به شيء من طيبه .. امتنع عليه، فليتنبه لذلك. (واستلام الركن اليماني) بيده؛ لما صح: (أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يدع استلامة الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة). ثم بما فيها كما مر، ثم يقبل ما استلم به، فإن عجز .. أشار إليه كما مر بما مر في الحجر بترتيبه، ثم قبل ما أشار به خلافاً "للشرح". ويباح تقبيل الركنين الشاميين وغيرهما من أجزاء البيت حتى الركن اليماني. وخص ركن الحجر بالاستلام والتقبيل؛ لأنه فيه الحجر، وعلى قواعد إبراهيم. واليماني بالاستلام؛ لكونه على قواعد إبراهيم، والشاميين ليس فيهما شيء مما ذكر. (والأذكار) المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة، الشاملة للدعاء، فإن ذلك ولو ضعيفاً أفضل من القراءة، وهي أفضل من غير المأثور. ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم إلا: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير" بين اليمانيين. والمشهور: تشديد الياء من عليَّ، لكن قال ملا علي قاري: إنه تحريف، بل بالتخفيف. فيقول أول طوافه: (باسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم). وقبالة باب البيت: (اللهم البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، ويشير إلى مقام إبراهيم بقلبه). وعند الانتهاء إلى العراقي تقريباً: (اللهم إني أعوذ بك من الشرك والشك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد). وعند محاذاته الميزاب: (اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً مريئاً لا أظمأ بعده أبداً، اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب).

وبين الشامي واليماني: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً متقبلاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور). والمعتمر يقول: (عمرة مبرورة). فإن لم يكن في ضمن نسك .. نوى بالحج معناه اللغوي، وهو: القصد. وعند اليماني: (باسم الله، والله أكبر، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم ربنا آتنا ... إلخ، اللهم قنعني ... إلخ). وندب الإسرار في ذلك إلا لتعليم الغير كالمطوفين .. فيجهر به المطوف، وفي "الأصل" هنا ما ينبغي مراجعته. ويسن ما مر من الأذكار وغيرها (في كل مرة) وثلاثاً. (ولا يسن للمرأة) والخنثى (الاستلام والتقبيل) ووضع الجبهة (إلا في خلوة) المطاف عن غير النساء بأن تأمن مجيء ونظر الرجال ولو نهاراً. (ويسن للرجل) أي: الذكر، ويكره لغيره ولو ليلاً كالاضطباع (الرمل) -بفتحتين- وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا، وهز الكتفين دون الوثوب، والعدو، ويقال له: الخبب. والصبي الذي لم يقدر عليه يفعله عنه وليه، ويرمل الحامل بمحموله، ويحرك الراكب دابته. وإنما يسن بثلاثة شروط: الأول: كونه لذكر كما مر. الثاني: كونه (في الثلاثة) الأطواف (الأول) مستوعباً به البيت، ويمشي في الأربعة الأخيرة على هينته؛ للاتباع فيهما. وسببه: قول المشركين لما دخل صلى الله عليه وسلم بأصحابه معتمراً سنة سبع قبل فتح مكة بسنة: وهنتهم حمَّى يثرب، أي: لم تبق فيهم طاقة بقتالنا، فأمرهم به؛ ليروا قوّتهم وجلدهم، وشرع مع زوال سببه؛ ليتذكروا ما كانوا فيه من الضعف بمكة، ثم نعمة ظهور الإسلام وعزه وتطهير مكة من الشرك على ممر السنين.

ويكره تركه، وقضاء الرمل في الأربعة الأخيرة؛ لما فيها من تفويت سنتها من الهينة. والثالث: (في طواف بعده سعي) مطلوب أراده، كطواف معتمر -ولو مكياً أحرم من الحرم- وحاج مفرد، أو قارن قدم مكة قبل الوقوف أو بعده بعد نصف ليلة النحر. ولو رمل في طواف قدوم على نية أن يسعى بعده ولم يسع .. رمل أيضاً في طواف الإفاضة؛ لأنه بعده سعي. (و) يسن لِذَكر (الاضطباع فيه) أي: في جميع الطواف الذي يعقبه سعي مطلوب وإن لم يرمل؛ للاتباع، ويكره تركه. ولو تركه في بعضه .. أتى به في باقيه، والصبي يفعله به وليه، ويسن أيضاً في السعي، ويكره تركه وفعله في الصلاة كسنة الطواف. وهو: جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر مكشوفاً، كدأب أهل الشطارة المناسب للرمل، وسن فعله ولو فوق المحيط من الثياب. وفي "المختار": (الشاطر): الذي أعيا أهله خبثاً، والمراد هنا من عنده نشاط. (والقرب من البيت) للطائف الذكر؛ تبركاً به، ولأنه مقصود، وأيسر لنحو الاستلام، لكن يبعد قليلاً بحيث يأمن دخول شيء من بدنه أو ثيابه في هواء الشاذروان. نعم؛ يتوقى التأذي والإيذاء لنحو الزحام مطلقاً، ويتوقى الزحام الخالي عنهما إلا أوله وآخره. وغير الذكر يطوف في حاشية المطاف إذا لم يأمن مخالطة الذكور، فلو فات الرمل مع القرب لنحو زحمة، ولم يرج لو صبر فرجه يمكنه الرمل فيها عن قرب عرفاً .. تباعد عنه، ورمل إن أمن لمس النساء. لكن يبعد بحيث لا يخرج عن المطاف كما نقله (سم) عن (م ر)، واعتمده (حج) في غير "الإيعاب"، وقال فيه: وإن خرج عن المطاف. ولا يراعى فيه خلاف المالكية، فإن لم يأمن لمسهن مع البعد .. قرب. وإنما كان الرمل أولى من القرب؛ لأنه متعلق بذات العبادة، والقرب متعلق بمكانها، والمتعلق بذاتها أفضل. (والموالاة) بين الطوفات لذكر وغيره؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف موجبها، ومن فرق كثيراً بلا عذر .. ندب له الاستئناف مطلقاً، ثم إن كان لعذر .. فلا كراهة، بل في

"الإيعاب": ولا خلاف الأولى، وإلا .. كره. قال الكردي: هذا الراجح. ومن قطعه .. فالأولى كونه عن وتر، وعند ركن الحجر. (وركعتان) فأكثر (بعده) والأفضل؛ للاتباع، رواه الشيخان، فعلهُما خلف المقام وإن بعد ثلاث مئة ذراع، والأفضل: ان لا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع، والمراد: خلفه بحسب ما كان. أمَّا الآن .. فقدامه ثم في الكعبة فتحة الميزاب فبقية الحجر فالحطيم فوجه الكعبة فبين اليمانيين فبقية المسجد فدار خديجة فمكة فالحرم، ولا يفوتان إلا بموته، لكن يسقط طلبهما بأي صلاة بعد الطواف، كما مر عند غير القائل بوجوبهما. والأفضل لمن طاف أسابيع: فعلهما بعد كل، ويليه إذا أخرهما أن يصلي لكل منها ركعتين، ويجزئ للكل ركعتان، ويجهر بهما بلطف من غروب إلى طلوع شمس، وينوي بهما سنة الطواف، ولا تتأدى بركعة، ويدعو بعدهما وبالمأثور أفضل، ومنها ما ذكرته في "الأصل". فرع: من سنن الطواف: السكينة والوقار وعدم الكلام إلا في خير، كتعليم جاهل إن قل وسجدة تلاوة لا شكر؛ لأنه صلاة، وهي تحرم فيها، ورفع اليدين إن دعا، وإلا .. جعلهما تحت صدره كالصلاة، والطواف بعد الصبح لا يفوت به فضيلة الجلوس بعدها كما في حديث: "من صلى الصبح ثم قعد يذكر الله إلى أن تطلع الشمسن ثم صلى ركعتين .. كان له أجر حج وعمرة تامتين". قال كثير منهم الشهاب الرملي وملا علي قاري: المراد بـ (من قعد) في الحديث: استمر على ذكر الله، والطواف فيه الذكر والطواف، فقد جمع بين الفضيلتين. واعترض ذلك في "التحفة" بما لا يلاقيه. ومن المحبوب فيه السلام على أخيه، وسؤاله عن حاله، ويحترز عما لا يليق به في هذا المحل من نحو ضحك وأكل. ولا يبصق إلا بثوبه ولا يشبك ولا يفرقع أصابعه، وغير ذلك مما لا يطلب في الصلاة. * * *

فصل: في واجبات السعي وبعض سننه

(فصل) في واجبات السعي وبعض سننه. وهو: ركن كما تقدم؛ لخبر: "إن الله كتب عليكم السعي". ويسن أن يستلم الحجر بعد صلاته وطوافه ودعائه؛ لخبر مسلم بذلك، وكذا يقبله ويسجد عليه كما في "الأسنى" ثم يخرج -للاتباع- للسعي من باب الصفا فوراً. (واجبات السعي أربعة:) الأول والثاني: (أن يبدأ في الأولى) وما بعدها من الأوتار (بالصفا) وهو طرف جبل أبي قبيس، وهو أفضل من المروة عند (حج). (و) أن يبدأ (في الثانية) وما بعدها من الأشفاع (بالمروة) وعليها الآن عقد واسع علامة على أولها، فلو ترك خامسة، كأن ترك في مروة المسعى ومر في المسجد .. جعل السابعة خامسة، وبنى. (و) الثالث: (كونه سبعاً) يقيناً؛ للاتباع، وذهابه مرة وعوده أخرى، ولا بد من استيعاب ما بينهما في كل مرة بأن يلصق عقبه أو حافر دابته بأصل ما يذهب منه ورأس أصابعه، أو رجل أو حافر دابته بما يذهب إليه، وبعض درج الصفا محدثة، فليحتط بالرقي حتى يتيقن وصوله للدرج القديم. قال الكردي: (وهذا معتمد (حج)، كذلك شيخ الإسلام، و"المغني"، و"النهاية". وجرى (م ر) في "شرح الإيضاح"، وابن علان على: أن الدرج المشاهد الآن ليس شيء منه بمحدث، وأنه يكفي إلصاق الرجل أو حافر الدابة بالدرجة السفلى، بل الوصول لما سامت آخر الدرج المدفونة كاف وإن بعد عن آخر الدرج الموجودة اليوم بأذرع، وفيه فسحة عظيمة للعوام) اهـ وقوله: (معتمد حج) لعله في غالب كتبه، وإلا .. فقد عقبه في "التحفة" بقوله: (كذا قاله المصنف وغيره، ويحمل على: أن هذا باعتبار زمنهم، وأمَّا الآن .. فليس شيء محدث؛ لعلو الأرض حتى غطت درجات كثيرة) اهـ

وقد ذكرت في "الأصل" عبارة الحاشية بفوائدها العظيمة. (و) الرابع: (أن يكون بعد طواف ركن) لحج أو عمرة، وهو الأفضل؛ للتجانس كما في "النهاية" (أو) بعد طواف (قدوم) وهو الأفضل عند (حج)؛ لأنه الوارد، لا بعد غيرهما من نفل ووداع، بل لا يتصور بعده. ولو أحرم مكي بحج من مكة ثم خرج إلى مرحلتين ثم عاد إليها قبل الوقوف .. فيسن له طواف القدوم، ويجزئ السعي بعده. ولو دخل مكة فطاف للقدوم ثم أحرم بالحج .. فالظاهر عدم صحة السعي بعده كما في "النهاية". لكن في "منسك" الونائي: إجزاؤه. ويكره إعادة السعي بعد طواف الإفاضة لمن قدمه بعد طواف القدوم إلا لناقص كمل، كعبد عتق قبل عرفة أو فيها .. فيجب، وإلا لقارن .. فيسن له طوافان وسعيان عند (م ر)؛ خروجاً من خلاف أبي حنيفة، فيطوف ثم يسعى ثم يطوف ثم يسعى. ومر أنه لا بد من قطع المسافة كلها، ومن قطعها بين الصفا والمروة من بطن الوادي، فلو عرج عنه يسيراً .. لم يضر، وإلا .. ضر. ولا بد أيضاً من عدم الصارف لا كما يفعله الجهلة من المسابقة، فإنهم إذا لم يقصدوا معها السعي .. تكون صارفة عنه، وكذا أن لا يكون منكوساً ولا معترضاً كالطواف. لكن فرق في "الحاشية" بـ (أن الطواف أحتيط له بوجوب أشياء لم تجب هنا كالطهر والستر، فكان دون الطواف وإن قدمنا أنه مثله في عدم الصارف؛ لأن ذلك لمعنى اشتركا فيه فاستويا ثَمَّ، ولا كذلك هنا) اهـ لكن اعتمد شيخ الإسلام، والخطيب: أن الصارف لا يضر هنا. ولو حمله شخص .. أتى فيه ما في الطواف، من أنه لو حمل حلال أو محرم -طاف عن نفسه، أو لم يطف- محرماً .. لم يطف عن نفسه، ودخل وقت طوافه وطاف به ولم ينوه لنفسه، أو لهما .. وقع للمحمول. (وسننه) كثيرة، منها: (الارتقاء على الصفا والمروة) قدر (قامة)؛ للاتباع ولو لغير ذكر، كما في "الأسنى"، و"المغني" و"النهاية".

ورده في "شروح الإرشاد" و"العباب" و"الحاشية" وغيرها بأن المطلوب إخفاء شخصه ولو في الخلوة؛ لأنه يحتاط له. نعم؛ يرقى عند الشك في استيعاب ما يجب قطعه حتى يتيقن قطعه. (والذكر والدعاء) والمأثور من ذلك أفضل من القرآن. ومنه على كل من الصفا والمروة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وكان عمر يطيل الدعاء هنا. واستحبوا من دعائه: اللهم أنك قلت: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، و (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:194] وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه عني حتى تتوفاني وأنا بك مسلم. ومن دعاء ابنه: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، وجنبنا حدودك، اللهم اجعلنا نحبك ونحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك ونحب عبادك الصالحين، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا في الآخرة والأولى، واجعلنا من أئمة المتقين. ثم يدعو بما أحب، ويكرر الذكر والدعاء (ثلاثاً بعد كل مرة). ولو دعا واحد وأمَّن الباقون .. فلا بأس، فإن كان الداعي من أهل الصلاح أو يحفظ المأثور دون غيره .. فحسن. فإذا قال ذلك .. نزل وسار إلى المروة إن كان في الصفا وعكسه. (والمشي) على هينته في جميع سعيه (أوله وآخره) فلا يركب إلا لعذر (والعدو) لذكر (في الوسط) عدواً شديداً بحسب طاقته بحيث لا تأذي ولا إيذاء؛ للاتباع، فإن عجز عنه؛ لنحو زحمة .. تشبه في حركته بالساعي، والراكب يحرك دابته ويقصد السنة لا نحو مسابقة كما مر. (ومكانه) أي: العدو (معروف) وهو قبل الميل الأخضر بركن المسجد، وحدث مقابله آخر بستة أذرع إلى أن يتوسط الميلين الأخضرين أحدهما بجدار المسجد والآخر بجدار العباس، وما عدا ذلك محل المشي.

فصل: في الوقوف بعرفة وما يذكر معه

ويقول في مشيه وعدوه: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ولا نعلم وأنت الأعز الأكرم، اللهم ربنا ... إلى آخر الآية. ولو مشى على هينته أو عدا في الجميع .. صح وفاتته السنة. ومنها: كونه متطهراً ساتر العورة، وأن يتحرى لسعيه كالطواف الخلوة بحيث لا يشق عليه، ويجتنب إيذاء غيره. ومنها: الموالاة بين مرات السعي وبينه وبين الطواف، وركعتيه والاستلام، فإن فرقه .. فاته الأكمل وصح، ويكره الوقوف؛ لنحو حديث بلا عذر. ولو أقيمت جماعة أو عرض مانع وهو فيه .. قطعه ثم بنى بعد فراغه، ولا يقطعه لجنازة أو فوات راتبة. ومنها: السكينة والوقار وعدم الاشتغال بما يشغل قلبه، كنظر الساعين، وكره جمع الجلوس على الصفا والمروة بلا عذر. * * * (فصل) في الوقوف بعرفة وما يذكر معه. يسن أن يحضر الإمام يوم السابع بعد الظهر من ذي الحجة، فيخطب بركب الحج عند الكعبة خطبة فردة، يفتتحها إن كان محرماً بالتلبية، وغيره بالتكبير، ويعلمهم فيها ما أمامهم من المناسك كلها، وقيل: إلى الخطبة الثانية. ويأمر المكيين والمتمتعين بطواف الوداع دون المفردين والقارنين، وكلام (سم) يفيد عمومه إلى كل خارج إلى عرفات، وكذا لمن أراد الخروج إلى للعمرة، كما في "الإمداد"، ويأمر الجميع بالغدو بعد صبح الثامن إلى منى، ويصلون الظهر لأول وقتها فيها وسائر الخمس ويبيتوا بها، ويسير بهم يوم التاسع حين تشرق الشمس، أي: تضيء على (ثبير): جبل كبير بمزدلفة إلى عرفة. فإذا وصلوا نمرة .. أقاموا بها إلى الزوال، ثم يسير بهم إلى مسجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأحد أمراء بني أمية، وصدره من عُرنة وآخره من عرفة، فيخطب بهم خطبتين خفيفتين يعلمهم في الأولى المناسك ويحرضهم على إكثار الذكر والدعاء بعرفة، ويجلس بعد فراغها قدر (سورة الإخلاص).

وحين يقوم للثانية يؤذن للظهر ويخففها بحيث يفرغ عنها مع فراغ الأذان، ثم يقيم للصلاة، ويصلي جمعاً العصرين تقديماً، ويقصر بمن يجوز له القصر والجمع، ويقول لمن ليس له ذلك: أتموا ولا تجمعوا، ثم يذهب بهم لعرفة بإسراع، وكلها موقف، وليس منها عرنة ولا نمرة. ودخول عرفة قبل الزوال بدعة، وإن وقع شك في تقدم الهلال؛ لأن الوقوف يوم العاشر مجزئ إجماعاً. (وواجب الوقوف: حضوره) أي: المحرم (بأرض) أي: بأي جزء من أرض (عرفة)؛ لخبر مسلم: "وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف"، ويكفي ولو على ظهر دابة أو شجرة فيها لا على غصن منها، وهو خارج عن هوائها وإن كان أصلها فيها. قال (سم): ويكفي عكسه، و (ع ش): يكفي الطيران في هوائها. وإنما يجزئ الوقوف (بعد زوال يوم عرفة) وهو تاسع ذي الحجة (ولو) كان الواقف حينئذٍ (ماراً) ولو في نحو طلب نحو آبق وإن لم يعلم أن المكان مكانها، ولا أن اليوم يومها وإن صرفه عنه. وألحق الرمي والسعي بالطواف؛ لأنه عهد التطوع بنظيرهما كالسعي للمساجد، ورمي العدو بالأحجار بخلاف الوقوف. (ونائماً) فيصح وقوفه كصومه. (بشرط كونه عاقلاً) فلا يكفي مع جنون أو إغماء أو سكر كصومهم؛ لانتفاء أهليته للعبادة. لكن يقع حج المجنون نفلاً كالصبي الذي لا يميز، فيبني وليه بقية الأعمال على ما مضى، وكذا المغمى عليه والسكران إن أيس من إفاقتهما، أو وجد لهما حالة يولي عليهما فيها، وإلا .. لم يقع لهما فرضاً ولا نفلاً؛ لعدم الولي لهما، فلا يمكن البناء على أعمالهما. وفي "الإمداد" كـ"الإيعاب": يقع لهما نفلاً، ويصح بناء وليهما وإن لم يصح إحرامه عنهما في الابتداء، ولا فرق بين المتعدي وغيره. ثم مال في "الإيعاب" إلى أنه لا يقع للمتعدي فرضاً ولا نفلاً؛ إذ الأصل منع المتعدي من العبادات.

وقال بعضهم: يقع للسكران المتعدي فرضاً، كما يصح إسلامه، ولا يرد اشتراط الإفاقة في سائر الأركان؛ لأن ذلك في حجة الإسلام لا النفل. ولو أحرم عنه وليه وأفاق فيما عدا الإحرام .. أجزأه عن حجة الإسلام. (ويبقى) وقت الوقوف (إلى الفجر) من يوم النحر؛ لخبر: "من أدرك عرفة قبل الفجر .. فقد أدرك الحج" وغيره. (وسننه) كثيرة منها (الجمع بين الليل والنهار) بعرفة؛ للاتباع، فلا دم على من دفع منها قبل الغروب؛ لخبر: "من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً .. فقد تم حجه" ولو وجب الدم لنقص واحتاج للجبر. نعم؛ يسن؛ خروجاً من الخلاف؛ وهو دم ترتيب وتقدير. (والتهليل) ويتأكد الإكثار منه. والوارد أولى، وأفضله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)؛ لما روى الترمذي، وحسنه: "أفضل الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله ... " إلى "قدير". قال الرشيدي: (قوله: "وأفضل ما قلت ... إلخ" أي: عشية عرفة، كما في روايات). (والتكبير والتلبية) ويرفع بها صوته. (والتسبيح) والأولى فيه: كونه بالتسبيحات العشر التي ذكرتها في "الأصل". (والتلاوة) وأولاها: (سورة الحشر)، وأولى منها (الإخلاص)، وكونها مئة أو ألف مرة؛ لخبر "من قرأها ألف مرة .. أعطي ما سأل". (والصلاة) والسلام (على النبي صلى الله عليه وسلم) وأولاها: صلاة التشهد. (وإكثار) جميع ما مر وغيره من ذكر ودعاء واستغفار له ولغيره، وصح: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج"، ولأنه لائق بالحال. ويكون الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أول دعائه ووسطه وآخره،

ويثلث كلاً من دعائه، ويلح فيه، ويرفع يديه ولا يجاوز بهما رأسه، ويكره الإفراط في الجهر، وتكلف السجع. ومن أفضل الدعاء: (اللهم أعذني من الشر كله، واجمع لي الخير كله، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر). وإكثار (البكاء معها) -أي: مع جميع ما ذكر- بتضرع وخشوع وذلة، ويستفرغ جهده في جميع ذلك، وفي تفريغ ظاهره وباطنه من كل مذموم، وفي الاجتهاد في أن لا تمضي له لحظة إلا في طاعة، وفي حل مأكوله ومشروبه ونحوهما؛ لخبر: "إذا حج الرجل بالمال الحرام .. فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله تعالى: لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك" وفي رواية: "وحجك مردود عليك". وأن يكون على أكمل الأحوال، فإنه أعظم مواقف الإسلام، وأكثر جمع الخاصة والعوام، ففيه تسكب العبرات، وتقال العثرات؛ لأنه أفضل يوم طلعت فيه الشمس، ويباهي الله بالواقفين الملائكة. وفي حدتث: " إذا كان يوم عرفة يوم جمعة .. غفر الله لجميع أهل الموقف"، أي: بلا واسطة، وفي غيره: "يهب قوماً لقوم"، وفي أخر: "أفضل الأيام يوم عرفة، فإن وافق يوم جمعة .. فهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة". (والاستقبال) للواقف حال الذكر وغيره. (والطهارة والستارة)؛ لأنه أكمل. (والبروز للشمس) لذكر؛ للاتباع إلا لعذر، كأن يتضرر به أو تنقص به عبادته. أمَّا غيره .. فإن كان له هودج أو نحوه .. وقف، وإلا .. ستر بشيء. ويكثر من أعمال الخير خصوصاً الصدقة، وأفضلها: العتق، ويتلطف في مخاطبته كلها. ويتحرى لوقوفه موقفه صلى الله عليه وسلم (و) هو (عند الصخرات) أي: الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة بوسط عرفة. وإنما يندب ذلك (للرجل) أي: الذكر. (و) يندب تحري (حاشية الموقف للمرأة) والخنثى كما يقفان في آخر المسجد.

نعم؛ إن كان لها نحو هودج تستر به .. فكالذكر، وكذا لو شق عليها فراق رفقتها، فإن لم يتيسر له موقفه صلى الله عليه وسلم .. قرب منه ما أمكنه. وليحذر صعود جبل الرحمة فإنه بدعة خلافاً لمن زعم أنه سنة، وأنه موقف الأنبياء. وليحسن ظنه بربه أنه يرحمه، ولذا قال الفضيل: لو ذهبوا لرجل وسألوه دانقاً .. قطع أنه يجيبهم إليه، فكيف بأكرم الأكرمين؟! وجميع ما سألوه عنده أهون من الدانق عندنا. (و) يسن (الجمع) تقديماً (بين العصرين): الظهر والعصر بمسجد سيدنا إبراهيم عليه السلام (للمسافر) سفر قصر بشروطه؛ لأنه عندنا للسفر، كما مر جميع ذلك وعند الحنفية للنسك؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم جمع ومعه المسافرون وغيرهم). وردَّ بأنه لم يثبت جمع غير المسافرين معه. وندب تأخرهم بعرفة إلى زوال الصفرة قليلاً بعد الغروب، ثم يدفعون إلى مزدلفة، فإذا دخل وقت العشاء .. أناخ كل راحلته وعقلها، ثم يصلون العشاء، ثم يحطون عن رواحلهم ويصلون الرواتب والوتر، وهذا في غير مسافر. (و) يسن (تأخير المغرب إلى العشاء للمسافر) سفر قصير؛ (ليجمعهما) تأخيراً (بمزدلفة)؛ للاتباع. ويسن بعد صلاة المغرب إناخة كلٍّ منهم جمله ثم يعقله ثم يصلون العشاء ثم يحلون؛ للاتباع، ثم يصلون الرواتب والوتر، هذا إن ظنوا وصولها قبل مضي وقت اختيار العشاء، وإلا .. صلوا في الطريق. وليجتنب التزاحم في الطريق، والغفلة عن ذكر الله فإنه في مواسم الخير. تتمة: لو وقفوا غلطاً بعرفة في العاشر .. أجزأهم إذا لم يقلوا على خلاف العادة إجماعاً، سواء بان بعد الوقوف أو أثناءه أو بعده، بل وإن أحرموا بعد التبين؛ لمشقة القضاء؛ ولأنهم لم يأمنوا مثله في القضاء. وليلة الحادي عشر كيوم العاشر على المعتمد، وإذا وقفوا في ذلك .. كان أداء، ويحسب أيام التشريق وغيرها على وقوفهم فيما يتعلق بالحج. وألحق به في "الحاشية": التضحية دون صلاة العيد والآجال ونحوهما مما لا يتعلق بالحج. * * *

فصل: في الحلق

(فصل) في الحلق. ومر أنه ركن للحج والعمرة فلا تحلل منهما إلا به إلا لمن لا شعر برأسه. (وأقل الحلق) الذي هو ركن (إزالة ثلاث شعرات) من شعر الرأس، أو جزء من كل منها حلقاً أو نتفاً أو قصاً أو إحراقاً وإن خرج بالمد عن حد الرأس؛ لآية (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح:27]. قال في "التحفة": أي: شعراً فيها؛ إذ هي لا تحلق. و (الشعر) اسم جنسي جمعي، أقله ثلاث. ولو قص واحدة ونتف أخرى وأحرق ثالثة .. كفى، بخلاف ما لو قص مثلاً واحدة ثلاث مرات؛ لعدم الجمع. (ويندب تأخيره) أي: الحلق (بعد رمي جمرة العقبة) والذبح في يوم النحر، وتقديمه على طواف الإفاضة في ذلك اليوم؛ للاتباع، وأن يعود يوم النحر إلى منى من مكة بعد طواف الإفاضة والسعي إن لم يكن سعى وإن دخل وقت الظهر. والأفضل: أن يكون بحيث يدرك أوّل وقت الظهر بمنى حتى يصليها بها؛ للاتباع، كذا قالوه. واعترضه (حج) في الحاشية بأن ما في مسلم عن ابن عمر: (أنه رجع وصلى الظهر بمنى) يعارضه ما فيه عن جابر: (أنه صلاها بمكة) فقولهم: يعود إلى منى يصلي بها الظهر، مشكل؛ إذ كان القياس أن يقولوا: يصلي الظهر بمكة ثم بمنى، أو في مكة فقط. (والابتداء باليمين) كله من رأس المحلوق وبمقدمه ثم الأيسر (واستقبال) المحلوق لجهة (القبلة) وأن يكبر بعد فراغه، ويدفن شعره في غير محل مطروق. (واستيعاب) حلق (الرأس للرجل) وأن لا يشارط الحالق عليه بأن يدفع الأجرة التي تطيب بها نفسه إليه معجلة، وأن يأخذ شيئاً من ظفره وشاربه، ويمسك ناصيته بيده عند الحلق ويكبر ثلاثاً نسقاً. ثم يقول: (اللهم هذه ناصيتي بيدك، فاجعل لي بكل شعرة نوراً إلى يوم القيامة، واغفر لي ذنوبي).

وبعد فراغه: (اللهم آتني بعدد كل شعرة حسنة، وامح عني بها سيئة، وارفع لي بها درجة، واغفر لي وللمحلقين والمقصرين ولجميع المسلمين). وأن يتطيب ويلبس والتقصير كالحلق في ما مر، ويسن ذلك لكل محلوق ولو في غير نسك. والحلق للرجل غالباً أفضل من التقصير؛ لما في الخبر من الدعاء للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة. (والتقصير) هو الأخذ من الشعر بنحو قص، وسن تعميم الشعر كله به (للمرأة) والخنثى ولو صغيرة أفضل؛ لخبر أبي داوود: "ليس على النساء حلق، وإنما عليهن التقصير". ويكره الحلق وأخذه بنحو نورة، بل يحرم إن لم يأذن فيه حليل وسيد، أو قصدت التشبه بالرجال. ولا يشرع إلا لسابع ولادتها ولتداوٍ واستخفاء من فاسق، وندب تعميم رأسها بالتقصير، وأن يكون بقدر أنملة. وخرج بـ (غالباً): المتمتع، فيندب له التقصير في العمرة والحلق في الحج، وكذا لو قدم الحج .. قصر في الحج وحلق في العمرة؛ إذ لو عكس .. فاته حلق العمرة، لأنه يجيء ولا شعر برأسه. وبه يعلم أن هذا فيمن لا يسود رأسه عند الحلق الثاني، وإلا .. ندب له الحلق مطلقاً. وإنما لم يحلق بعض رأسه في الأول منهما وبعضه الآخر في الثاني؛ لأنه من القزع المكروه، وكثير يظنونه من التقصير، وإنما التقصير الأخذ من كل شعرة بعضها. ولو نذر الرجل الحلق .. وجب للنذر، أمَّا النسك .. فيكفي له التقصير أو الحلق، ومن لا شعر برأسه وقت تحلله .. سقط عنه الحلق، وإن نبت بعد عن قرب، ويندب له إمرار الموسى في الذكر، وفي غيره إمرار آلة القص، تشبيهاً بالحالقين والمقصرين، وأن يأخذ من نحو لحيته وظفره. * * *

فصل: في واجبات الحج

(فصل: واجبات الحج) وهي ما يصح بدونها مع الدم، وكذا الإثم إن لم يعذر. (ستة) متفق على الميقات والرمي منها، ومختلف في البقية، بل قيل: إنها سنة، ولا دم فيها. واثنان منها -وهما الميقات وطواف الوداع- واجبان للعمرة أيضاً. وجعلها بعضهم خمسة بجعل الرمي لجمرة العقبة يوم العيد، وغيره واحداً، وترك سابعاً وهو التحرز عن محرمات الإحرام. ومما يجبر بالدم أيضاً: ترك الركوب، والحلق لأكثر من ثلاث شعرات المنذورين. الأول: (المبيت) أي: الحضور (بمزدلفة وهو: أن يكون ساعة) أي: لحظة (من النصف الثاني) من ليلة النحر (فيها) أي: مزدلفة بعد الوقوف بعرفة؛ للاتباع، ولو ماراً كما في عرفة، وإن لم يكن أهلاً للعبادة، كما قال عبد الرؤوف مخالفاً فيه للشهاب الرملي. وفارق مبيت منى بأنه ورد فيه لفظ المبيت، وإنما ينصرف للمعظم ولم يرد هنا؛ ولأن الضعفة رخص لهم في الانصراف بعد نصف الليل مع أنهم لا يأتونها إلا نحو ربع الليل الأول، وهو صريح في عدم وجوب المعظم. وقيل: هو ركن، وقيل: إنه سنة، كما قيل ذلك في مبيت منى. ولا يسن إحياء ليلتها؛ للاتباع، وليستعين بالإراحة فيها على أعمال ما بعدها كما في "التحفة". لكن قال غيره: يسن إحياؤها بغير صلاة. (ولا يجب) مبيتها كمبيت منى (على من له عذر) -مما يأتي في مبيت منى- ولا على من اشتغل عنه بالوقوف بعرفة أو بطواف الإفاضة، لكن ظاهر "النهاية": عدم رضا الأخير. (و) الثاني: (رمي جمرة العقبة سبعاً) يوم النحر، ويجوز فيما بعده إلى آخر أيام التشريق.

(و) الثالث: (رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق، كل واحدة) يرميها لكل يوم منها (سبعاً) إن لم ينفر النفر الأوَّل، وإلا .. فلليومين الأوَّلين. (و) الرابع: (مبيت لياليها الثلاث) إن لم ينفر النفر الأوَّل (أو الليلتين إذا أراد النفر الأوَّل في اليوم الثاني) من أيام التشريق، ويعذر في ترك مبيتها ومبيت مزدلفة بكل ما يعذر به في الجمعة والجماعة مما مر هناك؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم رخص للعباس رضي الله عنه أن يبيت ليالي منى بمكة، ولرعاة الإبل أن يتركوا المبيت). وقيس بهما ما في معناهما من أهل السقاية ولو بغير مكة ولو محدثة، وجميع الرعاة ولو متبرعين إن خرجوا من منى ومزدلفة قبل الغروب وتعسر إتيانهم بالدواب إليهما، وخافوا من تركها ولو باتوا بهما ضياعاً وغيرهم ممن يعذر بما مر. وهذه الأعذار لا تسقط الرمي، وإنما يسقط: إذا عجز عنه بنفسه، وبنائبه لنحو فتنة. ويسن أن يخطب الإمام أو نائبه بهم بعد ظهر يوم النحر بمنى خطبة فردة، يعلمهم فيها أحكام الرمي والطواف والمبيت والنحر. قال في "الأسنى": (وهو مشكل؛ لأن المعتمد فيها الأحاديث، وهي مصرحة بأنها كانت ضحوة). ثم يخطب بهم بعد الظهر بمنى ثاني أيام التشريق خطبة يعلمهم جواز النفر الأوَّل فيه ويودّعهم ويحثهم على ملازمة التقوى، فإن ذلك علامة الحج المبرور. ولكن هاتان قد تركتا من أزمان طويلة. فعلم: أَنَّ خطب الحج أربع، وكلها فرادى وبعد صلاة الظهر إلا التي بعرفة .. فثنتان، وقبل صلاة الظهر أيضاً. فروع: مزدلفة من الازدلاف، وهو القرب؛ لقرب الحجاج منها إلى منى، أو من الاجتماع؛ للاجتماع بها، وطولها: سبعة آلاف ذراع وثمانون ذراعاً وأربعة أسباع ذراع، وذلك من مَأْزِمَي عرفة إلى وادي (مُحَسِّر) -بضم ففتح فكسر السين المشددة-: وادٍ بين منى ومزدلفة، طوله خمس مئة ذراع، وخمسة وأربعون ذراعاً، وهذه عرضه.

وندب الإسراع فيه لذكر قدر رمية حجر حتى يقطع الوادي الصغير الذي ببطنه. وسميت منى بمنى؛ لما يمنى -أي: يراق- فيها من الدماء، واختصت بخمس فضائل: رفع ما يقبل من حصى الرمي، وكف الحدأة عن اللحم بها، والذباب عن الحلو، وقلة البعوض، واتساعها. واختصت جمرة العقبة عن أختيها برمي يوم العيد، وكونه قبل الزوال، وبالتكبير مع رميها يوم النحر، وفي غيرها عقبه، وسَنِّ استقبالها يوم النحر، وكونها ليست من منى، وبعدم سنّ الوقوف عندها للدعاء بخلاف أختيها، فيسنّ بعد الرمي بقدر (سورة البقرة) عندهما، وأنها ترمى من جهة وهي أسفلها، وأختيها ترميان من جميع الجوانب، وبأنها يؤخذ حصاها ليلاً من مزذلفة. (و) الخامس (الإحرام من الميقات) كما مر بما فيه. (و) السادس (طواف الوداع) على كل من أراد مفارقة مكة من حاج ومعتمر وغيرهما، ومكي وغيره، أو من منى عقب نفره منها وإن طاف للوداع عقب طوافه للإفاضة عند عوده إلى منى من مكة؛ إذ لا يكون طواف وداع إلا بعد الفراغ من جميع نسكه. وإنما يجب على من أراد مفارقة ما ذكر إلى سفر قصر مطلقاً أو إلى وطنه أو محل يريد الإقامة فيه توطناً وقد فرغ من جميع نسكه إن كان في نسك ولا عذر له. بخلاف من له عذر كحائض ولو حكماً، كمتحيرة ونفساء ومن به قرح سائل، وخائف من ظالم أو غريم وهو معسر، أو فوت رفقة، ومن فقد الطهورين، وفارق عمران مكة قبل زوال عذره وإن زال عقب ذلك. لكن بحث الأذرعي لزوم الدم على غير نحو حائض؛ لكون منعها عزيمة، ومنعهم رخصة، واستوجهه في "الإمداد". قال الكردي: وترك طواف الوداع بلا عذر ثلاثة أقسام: أحدها: لا دم فيه ولا إثم، وذلك في المسنون منه، وفيمن بقي عليه شيء من أركان النسك، أي: أو شيء من واجباته كما قاله: (سم)، وفيمن خرج من عمران مكة لحاجة ثم طرأ له السفر، أي: لأنه لم يخاطب به عند خروجه.

ثانيها: عليه الإثم ولا دم، وذلك فيمن تركه عامداً عالماً، وقد تركه بغير عزم على عودٍ ثم عاد قبل وصوله لما يستقر به الدم، فالعود يسقط الدم لا الإثم. ثالثها: مايلزم بتركه الإثم والدم، وذلك في غير ما ذكر، ولو لزمه الصوم بدل الرمي مثلاً فصام الثلاثة، وأراد السفر لبلده .. لزمه طواف الوداع وإن بقيت السبعة إلى وطنه، بل وإن لم يصم شيئاً، بخلاف من سافر يوم النحر فلا يطوفه؛ لأنه لم ينتقل إليه إلا بالترك، ولم يتحقق إلا بفوات الوقت ولم يفت، ويلزم الأجير فعله، ويحط؛ لتركه ما يقابله. وترك بعضه ولو خطوة وسهواً كترك كله، ففيه الدم ما لم يعد قبل وصوله ما مر. ويطوفه بشرطه، وهو أن لا يمكث فيما تشترط مجاوزته في القصر بعده وبعد ركعتيه، ودعائه بعدهما وعند الملتزم، وإتيانه زمزم وشربه منها، وبعد شد رحله وشراء زاد ولو مع تعريج الطريق لنحو رخصة، وصلاة أو جماعة أقيمت، وكذا كل شغل بقدر صلاة الجنازة بأخف ممكن وإن كثر ذلك. فإن مكث زيادة على ذلك ولو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً .. أعاده. وسن لمن أتى به وبركعتيه أن يدعو بعدهما، ويأتي (الملتزم)، وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيلصق به بطنه وصدره ويبسط يديه عليه اليمنى على ما يلي الباب، واليسرى على ما يلي الحجر، ويضع خده الأيمن أو جبهته عليه، ويدعو بما أحب مبتدئاً بالثناء عليه تعالى والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والمأثور أفضل. ومنه: (اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني نعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني .. فازدد عني رضاً، وإلا .. فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري ويبعد عنه مزاري، هذا آوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم فاصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني العمل بطاعتك ما أبقيتني واجمع لي خير الدنيا والآخرة. اللهم لا تجعله آخر العهد عن بيتك، فإن جعلته آخر العهد فعوضني الجنة). ويختم دعاءه بما افتتحه به من الثناء والصلاة والسلام، ثم يذهب إلى زمزم مع صدق

فصل: في سنن تتعلق بالميت والرمي وبعض شروطه

نية، ويقصد بشربه نيل مطلوباته؛ فإنَهُ لِمَا شُرِب له ويتضلع منهما ما أمكنه. ثم يعود لاستلام الحجر وتقبيله والسجود عليه ثلاثاً، ثم ينصرف تلقاء وجهه كالمتحزن مستدبر البيت، ويخرج من باب بني سهم. تنبه: أفهم ما مر أن طواف الوداع ليس من المناسك، وإلا لما وجب على غير حاج ومعتمر. وقضية عدهم له من واجبات الحج: أنه منها، وبه قال الغزالي وإمامه حتى قالا: لا يجب على غيرهما، لكن صحح الشيخان: أنه ليس منها. وعليه: فلا يندرج في نية النسك، بل يحتاج لنية مستقلة، وبه قال (م ر) وغيره. لكن قال (حج): إن نية النسك تشمله؛ لأنه وإن لم يكن منه فهو من توابعه، والله أعلم. * * * (فصل) في سنن تتعلق بالمبيت والرمي، وفي بعض شروطه. (ويسن) أن يغتسل أو يتيمم بمزدلفة، وأن يتقدم بعد نصف الليل إلى منى الضعفةُ والنساء إن أرادوا تقديم الرمي؛ للاتباع، وليرموا قبل الزحمة، ويبقى غيرهم بمزدلفة حتى يصلوا الصبح بغلس، أي: أول وقتها. وتتأكد صلاة الصبح للذكر مع الإمام بمزدلفة؛ للخلاف في وجوبها معه. ثم بعد صلاة الصبح يسن (الوقوف) بأي جزء من مزدلفة مستقبل القبلة، والأفضل: كونه (بالمشعر الحرام) إن أمكن بلا مزاحمة، وإلا .. فيقرب منه ما أمكن، وهو المبني عليه البناء الموجود الآن. وهو جبل قزح بآخر مزدلفة، وتحصل السنة بالمرور فيه، ويذكرون إلى الإسفار، ومنه: (الله أكبر ثلاثاً، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)، ويكثرون من: (رَبَّنَا آتِنَا) [البقرة:200] الآية، والتلبية والدعاء؛ لآية (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) [البقرة:198]. (وأخذ حصى) رمي (جمرة العقبة) يوم النحر، وهي سبع (منها) ويزيد قليلاً؛ إذ قد يسقط منها شيء؛ لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال للفضل بن عباس: "التقط لي حصى" فلقط حصيات مثل حصى الخذف.

واستشكل بالأمر بأخذ الحصى من وادي محسر، وأجيب بأنه محمول على حصى غير جمرة العقبة؛ إذ الأولى أخذها منه أو من منى غير الجمرات؛ إذ لم يبق فيها من الحصى إلا ما لم يقبل، فيكره أخذه منها ومن الحل ومن محل متنجس ما لم يغسل، فيسن غسل ما احتمل نجاسته. ويسن كون أخذ الحصى من المشعر الحرام بعد صلاة الصبح، إلا لمن يريد الخروج منها ليلاً .. فيأخذها ليلاً من مزدلفة. ثم عقب الإسفار يسيرون إلى منى بسكينة ذاكرين ملبين، ومن وجد فرجة .. أسرع، كمن بلغ بطن محسر قدر رمية حجر وإن لم يجدها. ويدخلون منى بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، فيرمي كل جمرة العقبة إذا وصلها راكباً أو ماشياً بسبع رميات وجوباً ولو بحصاة واحدة كررها وإن كره، وهذا هو الأفضل، وإلا .. فيجوز رميها من نصف ليلة النحر إلى آخر أيام التشريق. وندب في رميها يوم النحر فقط الاستقبال للجمرة، وهذا الرمي تحية منى، فالأولى أن يبدأ به فيها قبل كل شيء حتى عن نزول الراكب وجلوس الماشي إلا لضرورة، أو عذر كزحمة أو انتظار وقت فضيلة لمن تقدم دخوله إليها قبل ارتفاع الشمس. (و) يسن (قطع التلبية عند ابتداء الرمي) لجمرة العقبة إن بدأ به، وإلا .. فعندما ابتدأ به من حلق أو طواف. والمعتمر يقطعها عند ابتداء الطواف؛ لأنها شعار الإحرام وقد أخذ بنحو الرمي في أسباب التحلل منه. (والتكبير مع كل حصاة) فيقول: (الله أكبر -ثلاثاً- لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد). لكن في "التحفة": أنه يقتصر على تكبيرة واحدة. ثم بعد الرمي ينزل في أي محل من منى، والأفضل: النزول في منزله صلى الله عليه وسلم فما قاربه، وهو يسار مصلى الإمام بين قبلة مسجد الخيف والمنحر الذي بين الجمرة الأولى والوسطى وإلى المنحر أقرب. ثم يذبح هديه، وهو ما يهدى به لمكة وحرمها؛ تقرباً، ودم الجبران والمحظور والأضحية إن كانت، ثم يحلق أو يقص، ثم يذهب لمكة لطواف الركن، وهذا كله سنة.

(ويدخل وقت) جواز (الحلق ورمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة بنصف ليلة) يوم (النحر) لمن وقف بعرفة قبله، ويندب تأخيرها بعد طلوع شمس ذلك اليوم؛ للاتباع. (ويبقى) جواز (الرمي) حتى رمي يوم النحر (إلى آخر) أيام (التشريق). ووقت الذبح الواجب (والحلق) والتقصير (والطواف) والسعي إن لم يقدمه يبقى (أبداً) ما دام حياً. نعم؛ يكره تأخيرها عن يوم العيد وعن أيام التشريق أشد كراهة، وعن خروجه من مكة أشد. أمَّا الهدي المندوب .. فوقته وقت الأضحية، فيفوت بفوات أيام التشريق. (و) بما تقرر علم أنه (تسن المبادرة بطواف الإفاضة) يوم النحر (بعد رمي جمرة العقبة) والذبح والحلق. (فيدخل مكة) بعد ذلك (ويطوف ويسعى) بعد الطواف (إن لم يكن قد سعى) بعد طواف القدوم (ثم يعود إلى منى)؛ ليصلي بها الظهر لأوّل وقتها؛ للاتباع في كل ذلك كما مر بما فيه في فصل الحلق. (ويبيت بها) معظم كل ليلة من (ليالي التشريق) إن لم ينفر النفر الأول بشرطه، وإلا .. فمعظم كل من الليلتين الأوّلتين منها، كما يأتي. (ويرمي) وجوباً اتفاقاً، ويدخل وقته لكل يوم بزوال شمسه، ويبقى إلى آخر أيام التشريق أداء، حتى لو أخره كله حتى رمي يوم العيد إلى آخر أيام التشريق ورمى فيه مرتباً، كما يأتي .. جاز. والأفضل: أن يرمي (كل يوم من أيام التشريق) الثلاث إلى كل من (الجمرات الثلاث) لكل يوم (بعد الزوال) لشمسه (كل واحدة) يرميها في كل يوم بـ (سبع حصيات) يقيناً بعد الزوال، وقبل صلاة الظهر إن لم يضق الوقت ولم يجمع تأخيراً،

وهذا وقت الفضيلة فيه، ويبقى وقت الاختيار لكل يوم إلى غروب شمسه، ثم الجواز بكراهة إلى آخر أيام التشريق. (ويشترط) للرمي شروط: الأول: وهو مختص بجمرة العقبة كون الرمي من أسفلها من بطن الوادي. فلو رمى من أعلاها أو جنبها أو وسطها إلى المرمى .. جاز، بخلاف ما لو رمى إلى خلفها .. فلا يصح كما في "الشرح". والثاني: (رمي السبع الحصيات) في كل من الجمرات (واحدة) بعد (واحدة) إلى فراغ السبع ولو بتكرير حصاة واحدة. فلو رمى بسبع مثلاً مرة واحدة، أو حصاتين كذلك، إحداهما بيمينه والأخرى بشماله .. فواحدة، أو رماهما مرتين فوقعتا معاً .. فثنتان. (و) الثالث (ترتيب الجمرات في أيام التشريق). فيرمي أولاً الجمرة التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، فلا يعتد برمي مؤخرة قبل تمام ما قبلها، وكذا في الزمان، فيرمي الثلاث عن أمسه ثم عن يومه، ولا بد من أن يرميها أولاً عن نفسه ثم غيره، فإن خالف .. وقع عن أمسه وعن نفسه. ولو رمى أربع عشرة حصاة إلى جمرة عن أمسه ويومه، أو عن نفسه وغيره .. وقعت سبع عن أمسه في الأولى، ونفسه في الثانية، وألغيت السبع الثانية. ولو شك في العدد .. بنى على الأقل. ولو ترك حصاة وشك في محلها .. جعلها من الأولى، فيرميها ثم يعيد رمي الجمرتين الأخيرتين، ولو احتمل كونها من جمرة العقبة يوم العيد .. رماها إليها، وأعاد ما مضى إن بقيت أيام التشريق، وإلا .. فعليه دم. والرابع: عدم الصارف للرمي إلى غير نسك. فلو قصد نحو جودة رمية .. لم يصح، أمَّا لو صرفه إلى نسك، كأن صرفه من نفسه لغيره .. فيصح له، ولا ينصرف للغير وإن عذر وأنابه. الخامس: قصد الرمي. فلو قصد غيره .. لم يكف وإن وقع فيه، كرميه نحو حية في الجمرة ورميه العلم

المنصوب في الجمرة عند (حج)، قال: نعم إن رمى إليه بقصد الوقوع في الجمرة فوقع فيها .. أجزأ. قال عبد الرؤوف: الأوجه أنه لم يكف؛ لصرفه عن الجمرة إلى العلم. وفي "الإيعاب": أنه يغتفر للعامي ذلك. و (المرمى): هو المحل المبني فيه العلم ثلاثة أذرع من جميع جوانبه، إلا جمرة العقبة .. فليس لها إلا جهة واحدة. واعتمد (م ر): إجزاء رمي العلم إذا وقع في المرمى، قال: لأن العامة لا يقصدون بذلك إلا فعل الواجب. والسادس: إصابة المرمى يقيناً بفعله وإن لم يبق فيه. (و) السابع: (أن يكون) الرمي (بين الزوال والغروب فيها) أي: أيام التشريق، وهو ضعيف، إلا أن يريد أنه لا يصح رمي كل يوم إلا بعد زواله لا قبله، ويؤيده ما يأتي. (و) الثامن: (كون المرمي) به (حجراً) ولو ياقوتاً وإن رمى به في نحو خاتم ونقصت به قيمته؛ لأن حرمة ذلك لأمر خارج، وحجر حديد وبلور وعقيق وحجر ذهب وفضة لا نفسهما، ولا لؤلؤ وإثمد وحجر نورة وجص وزرنيخ ونحوها. (و) التاسع: (أن يسمى رمياً) فلا يكفي الوضع في المرمى. (و) العشر: (كونه باليد)؛ للاتباع، لا بنحو رجله أو قوسه مع القدرة عليه باليد، وبه يجمع بين من قال: يجوز، ومن قال: لا يجوز. وإذا عجز عنه باليد .. قدم القوس فالرجل فالفم. (وسننه) كثيرة فمنها: الموالاة. و (أن يكون) باليد اليمنى، ويرفعها الذكر حتى يرى بياض إبطه، ويستقبل القبلة حال الرمي في أيام التشريق. وكونه بحصى طاهر، و (بقدر حصى الخذف) -بخاء وذال معجمتين- وهو: قدر الباقلا؛ لخبر مسلم: "عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة"، ويكره دونه وفوقه، وأخذه من الحل ومن المرمى وموضع نجس وإن غسله؛ لبقاء استقذاره، وبهيئة الخذف.

ويصح بحجر ملء الكف وأكبر منه وإن لم ينقله إلا بيديه معاً. ويجب على من عجز عنه لعذر يُسقِط القيام في فرض الصلاة إنابةُ من يرمي عنه ولو بأجرة فضلت عما يعتبر في الفطرة إن أيس ولو ظناً من القدرة عليه في أيام التشريق، وإلا .. أخره، ولو شفي بعد رمي النائب عنه .. لم تجب إعادته. وشرط النائب كونه مكلفاً أو مميزاً بإِذن وليه قد رمى عن نفسه، فلا يرمي عنه في يوم إلا بعد رميه عن نفسه. (ومن ترك رمي جمرة العقبة) يوم النحر كله أو بعضه (أو) رمي (بعض أيام التشريق) ولو بغير عذر .. جاز. و (تداركه في باقيها) ولو في آخر يوم منها، يكون حينئذٍ أداءً في الأظهر؛ لأنه جوَّزه عليه الصلاة والسلام للرعاة، ولو وقع قضاءً لما دخله التدارك، كالوقوف بعرفة ومبيت مزدلفة. وأفهم قوله: (في باقيها) -أي: أيام التشريق- أنه ليس له تداركه ليلاً، والمعتمد: جوازه ليلاً وقبل الزوال. بل جزم الرافعي وتبعه الإسنوي، وقال: إنه المعروف بجواز رمي كل يوم قبل زواله، وعليه فيدخل بالفجر. (ومن أراد النفر) الأول (من منى في ثاني أيام التشريق .. جاز) ولا دم عليه؛ لآية (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة:203]. والأفضل: التأخير للنفر الثاني سيما الإمام إلا لعذر كخوف وغلاء؛ للاتباع. قال الكردي: (وللنفر الأول ثمانية شروط ثلاثة منها تدخل في غيرها، فتعود لخمسة: الأول: أن ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق. الثاني: أن يكون بعد الزوال. الثالث: أن يكون بعد جميع الرمي. وعليه: فلا بد لمن رمى جمرة العقبة ثاني أيام التشريق من أن يعود إلى منى؛ ليكون نفره منها بعد جميع الرمي؛ لأنها خارج منى، وإلا .. لم يصح نفره الأوّل.

الرابع: أن يكون قد بات الليلتين قبله بمنى أو تركهما لعذر. الخامس: أن ينوي النفر. السادس: كون نية النفر مقارنة له، لكن يغني عن هذا نية النفر. السابع: أن ينفر قبل الغروب، أي: تغرب بعد ارتحاله وإن لم ينفصل من منى، وكذا لو غربت وهو في شغل الارتحال عند (حج)، وإلا .. لزمه مبيت الثالثة ورمي يومها، ويغني عن هذا ذكر اليوم السابق أول الشروط. ثامنها: أن لا يكون في عزمه العود إلى المبيت، وهذا يغني عنه ذكر النفر؛ لأنه مع العزم على العود لا يسمى نفراً) اهـ فإن اختل شرط مما ذكر .. لم يجز له النفر الأول، ولزمه مبيت الثالثة ورمي يومها. واعلم: أن في ترك مبيت الليالي الثلاث دماً، كترك ثلاث فأكثر من حصى الرمي، وفي واحدة منها مد طعام، وفي ثنتين مدان. فإن عجز عن الإطعام .. ففي الواحدة صوم يومين يجب كونهما بعد أيام التشريق فوراً إن تعدى بالترك، وثلاثة إذا وصل وطنه، وفي الثنتين ثلاثة قبل رجوعه لوطنه، وخمسة إذا رجع. ووجهه: أن في الثلاث عشرة أيام بدل الدم؛ لأنه دم ترتيب وتقدير، ففي الواحدة ثلث العشرة، وهو بتكميل المنكسر أربعة أيام، فيصوم ثلاثة أعشارها معجلاً، وهو بتكميل المنكسر يومان، وسبعة أعشارها إذا رجع، وهو ثلاثة بتكميل المنكسر، وقيل: بدل الحصاة ثلاثة أيام، وثلث ثلاثة أعشارها يوم، ولا كسر، وسبعة أعشارها ثلاثة بتكميل المنكسر، فالأوّل يكمل المنكسر قبل القسمة، والثاني بعدها. وأمَّا وجوب المد هنا مع أن الدم دم ترتيب وتقدير، وهو لا إطعام فيه .. فلأنه لما ألحق بدم التمتع الذي لا يتصور وجوب بعضه، ولم يكن فيه إلا دم أو صوم، وتبعيض الدم عسر، وكذا الصوم؛ لما يلزمه من تكميل المنكسر، انتقل لجنس آخر أخف منهما؛ للسهولة، فنزل المد منزلة ما ناب عنه، وهو ثلث الدم في كونه مرتباً، فلا يعدل القادر عليه لثلث الصوم، ويجوز الدم عنه كما في "الحاشية". ولو أخرج ثلث الدم في حصاة أو ثلثيه في حصاتين .. أجزأه. * * *

فصل: للحج تحللان

(فصل: للحج تحللان)؛ لطول زمنه وكثرة أفعاله كالحيض، لما طال زمنه .. جعل له تحللان انقطاع الدم والغسل، بخلاف العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، وهو الفراغ من جميع أركانها؛ لقصر زمنها غالباً كالجنابة. (الأوّل: يحصل باثنين من) ثلاثة، وهي (رمي جمرة العقبة، والحلق) أي: إزالة ثلاث شعرات فأكثر. (وطواف الإفاضة) المتبوع بالسعي لمن لن يسع بعد طواف القدوم يقدم ما شاء منها؛ بناءً على أن الحلق نسك، وإلا .. فالتحلل الأول يحصل بواحد من رمي وطواف، ويمتنع الحلق إلا بعد واحد منهما. (وبالثالث) من الثلاثة المذكورة (يحصل التحلل الثاني، ويحل بالأوّل جميع المحرمات) على المحرم (إلا النكاح) أي: الوطء (وعقده والمباشرة بشهوة و) يحل (بالتحلل الثاني باقيها) إجماعاً، وهي الثلاثة المذكورة. ويجب عليه الإتيان بما بقي من النسك من رمي ومبيت، وهو غير محرم، كما يأتي المصلي بالتسليمة الثانية بعد خروجه من الصلاة. وندب بين التحللين تطيب ودهن ولبس، وندب أيضاً تأخير وطء عن أيام منى. ومن فاته الرمي .. توقف التحلل على بدله ولو صوماً؛ تنزيلاً للبدل منزلة المبدل. وإنما لم يتوقف تحلل المحصر عليه؛ لأنه ليس له إلا تحلل واحد، فيشق بقاؤه محرماً من سائر الوجوه، بخلافه هنا. وهل يجوز أزالة شعر البدن والظفر بالحلق أو سقوطه عمن لا شعر برأسه كما اعتمده البلقيني؟ وعليه: فللحج ثلاثة تحللات: أوّل: وهو الحلق أو سقوطه، فيحل به أزالة جميع شعور البدن وظفره.

فصل: في أوجه أداء النسكين

وثان: يحل به ما عدا ما يتعلق بالنساء من عقد ووطء ومباشرة. وثالث: فيحل به ما بقي. وجرى الزركشي وتبعه عبد الرؤوف وابن جمال على جواز إزالة شعور البدن بدخول وقت التحلل وإن لم يفعل شيئاً من الثلاثة. وجرى في "التحفة" و"الإيعاب" على: عدم حل ذلك إلا باثنين من الثلاثة. * * * (فصل) في أوجه أداء النسكين. (ويؤدي النسكان) أي: الحج والعمرة (على أوجه)؛ لأنه إمَّا يحرم بهما معاً، أو يبدأ بحج أو بعمرة. (أفضلها: الإفراد)؛ لأن رواته أكثر، ولأن جابراً منهم، وهو أقدم صحبة وأشد عناية بضبط المناسك، ولأنه صلى الله عليه وسلم اختاره أوّلاً، وللإجماع على أنه لا كراهة فيه ولا دم، بخلاف التمتع والقران، والجبر دليل النقص. قال في "التحفة": ولأن بقية الروايات يمكن ردّها إليه. ومحل أفضليته: (إن اعتمر في سنة الحج) بأن لا يؤخرها عن ذي الحجة، وإلا .. كان كل منهما افضل منه؛ لكراهة تأخيرها عن سنته وإن أطال السبكي في أنه أفضل وإن اعتمر في سنة أخرى؛ لأنه لم ينقل عن فعله صلى الله عليه وسلم اعتمار بعد حجه. قال الكردي: ومن صور الإفراد الفاضل بالنسبة للتمتع الموجب للدم ما لو اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من عامه، لكنها مفضولة بالنسبة للإتيان بالعمرة بعد الحج فيما بقي من ذي الحجة، ويسمى ذلك تمتعاً أيضاً. (وهو) أي: الإفراد الأفضل (أن يحج) أولاً (ثم) بعد الفراغ من الحج (يعتمر) من سنته. وقد يطلق الإفراد على الإتيان بالحج وحده، وعلى ما إذا اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج، فهو من صور الإفراد الفاضل، كما مر.

(ثم) يليه في الفضلية (التمتع، وهو أن يعتمر) أوّلاً في أشهر الحج أو قبلها (ثم) بعد فراغها (يحج). سمي تمتعاً؛ لتمتعه بسقوط عوده للإحرام بالحج من ميقات طريقه، وقيل لتمتعه بين النسكين بما كان ممنوعاً منه. (ثم) بعدهما (القران بأن يحرم بهما) أي: الحج والعمرة معاً (أو بالعمرة) وحدها، ولو قبل اشهر الحج (ثم يحرم بالحج قبل) شروعه في (الطواف) ثم الحج وحده ثم العمرة وحدها. أمَّا بعد شروعه فيه ولو بخطوة .. فلا يصح إدخاله عليها؛ لأخذه في اسباب التحلل، ولا يؤثر استلامه الحجر بينة الطواف. وشمل ما لو أفسد العمرة ثم أدخل عليها الحج، فينعقد إحرامه به فاسداً، ويلزمه المضي وقضاء النسكين، والإثم؛ لتلبسه بعبادة فاسدة، ولا يجوز عكسه؛ إذ لا يستفيد به شيئاً آخر. (ويجب على المتمتع دم) إجماعاً؛ لربحه الميقات؛ إذ لو أحرم أوّلاً بالحج من ميقات طريقه .. لاحتاج بعده أن يحرم بالعمرة من أدنى الحل، وبالتمتع لا يخرج من مكة، بل يحرم بالحج منها. وبهذا علم: أن من كرر العمرة في أشهر الحج أنه لا يتكرر عليه وإن أخرج الدم قبل التكرر؛ لأن ربحه الميقات بالمعنى المذكور لم يتكرر. والدم هنا وحيث طلق شاة أضحية، أو ما يقوم مقامها. وإنما تجب الدم (بأربعة شروط: الأوّل: أن لا يكون من أهل الحرم، ولا بينه) أي: بين مسكنه (وبين الحرم دون مسافة القصر)؛ لآية (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:196]. وأهله: من استوطنوا محلاً دون مرحلتين من مكة، والأصح من الحرم؛ لأن المسجد الحرام في كل موضع في القرآن المراد به جميع الحرم، إلا في آية، (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:144] وأية (سُبْحَانَ) [الإسراء:1] فالمراد به: الكعبة في الأول وحقيقته

في الثاني، ولأن من على دون مسافة القصر من محل كالحاضر فيه، بل حاضر له، قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر) [الأعراف:163]، أي: أيلة، وهي ليست عند البحر، بل قريبة منه. ومن لمسكنه طريقان إلى الحرم أحدهما دون مرحلتين .. فهو حاضر؛ إذ الأصل براءة الذمة من الدم. فمن جاوز الميقات غير مريد نسك ثم اعتمر حين عنّ له بمكة أو قربها .. لزمه دم على المعتمد؛ لآنه ليس من الحاضرين، لعدم الاستيطان. (الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج) من ميقات طريقه، ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من مكة ولو أجيراً فيهما لشخصين، ثم إن أذنا له في التمتع .. فالدم عليهما، أو أحدهما .. فعليه نصفه وعلى الأجير نصفه، كما لو كان أحد النسكين له والآخر لغيره وإذن في القران. فإن أحرم بها في غير أشهره ثم أتمها ولو في أشهره ثم حج في سنته .. لم يلزمه دم؛ لأنه لم يجمع بينهما في وقت الحج، فأشبه المفرد، ولأن دم العمرة منوط بربح الميقات، وبوقوع العمرة بتمامها في أشهر الحج؛ لأن الجاهلية كانوا لا يزاحمون بها الحج في وقت إمكانه، فرخص في التمتع للآفاقي مع الدم؛ لمشقة استدامة الإحرام من الميقات، وتعذر مجاوزته بلا إحرام. ولو أحرم آفاقي بعمرة في أشهر الحج وأتمها، ثم قرن من عامه .. لزمه دمان كما قاله البغوي. لكن صوّب السبكي: لزوم دم واحد للتمتع؛ لأن من وصل مكة فقرن أو تمتع .. فهو حاضر، أي: على الضعيف، القائل بعدم اشتراط الاستيطان في الحاضر ثم قال: نعم؛ إن قيل: الحاضر هو المستوطن .. استقام وجوب دمين مع احتمال فيه من جهة التداخل. قال (حج) في "الحاشية": والتداخل احتمال له، لكن وجهه قوي، ويؤيده ما مر فيمن أفسد عمرته ثم أدخل عليها الحج. (الثالث: أن يكونا) اي: الإحرام بالعمرة ثم بالحج (في سنة واحدة). فلو اعتمر في سنة وحج في أخرى .. فلا دم.

(الرابع: أن لا يرجع إلى الميقات) الذي أحرم منه إحراماً جائزاً وإن لم يكن ميقاتاً، كأن لم يخطر له إلا قبيل دخول الحرم، فأحرم منه، فيكفيه العود إليه أو إلى مثل مسافته؛ لأنه ميقاته، أو إلى ميقات آخر ولو أقرب منه، أو إلى مسافة قصر، فإن لم يعد لشيء من ذلك .. لزمه الدم، وإن عاد له محرماً أو ليحرم منه .. فلا دم، بشرط عوده قبل تلبسه بنسك واجب كالوقوف، أو مندوب كطواف قدوم بأن يخرج المتمتع بعد فراغ عمرته من مكة لدون مسافة قصر منها، ثم يدخلها ولو حلالاً، ثم يطوف ولو بعد طواف القدوم. قال في "الحاشية": أو طاف للوداع أي: بعد إحرامه بالحج عند خروجه لعرفة، فلا ينفعه العود إلى الميقات حينئذٍ؛ لأنه أتى بما يشبه التحلل. وهذه الشروط تعتبر لوجوب الدم لا لتسميته تمتعاً. (وعلى القارن دم، بشرطين: الأول: أن لا يكون من أهل الحرم) أي: من حاضري المسجد الحرام كما تقدم في المتمتع؛ لأنه وجب بالقياس عليه، ودم التمتع لا يجب على الحاضر، ففرعه أولى، والجامع بينهما: الترفه فيهما. فالمتمتع ترفه بربح ميقات الحج؛ لأنه يحرم به من مكة، ولو قدم الحج .. احتاج أن يحرم بالعمرة من أدنى الحل، كما مر. والقارن ترفه بترك أحد الميقاتين أيضاً (ولأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر، وكن قارنات). (الثاني: أن لا يعود إلى الميقات بعد دخول مكة) وقبل الوقوف بعرفة، فإن عاد قبل دخولها أو بعد الوقوف .. لم يسقط عنه الدم، أو بعد دخولها وقبل الوقوف .. سقط. ومحله: إن لم يشرع في طواف القدوم، وإلا .. لم يسقط، كما في المتمتع، وإن لم يسع بعده كما اعتمداه في "الفتح" و"الشرح" و"الأسني". لكن مال في "الحاشية" و"الإمداد" إلى أنه ينفعه العود ما لم يقف بعرفة. وفرق في "الحاشية" بين المتمتع والقارن، كما بينته في "الأصل"، والله أعلم. * * *

فصل: في دم الترتيب والتقدير

(فصل) في دم الترتيب والتقدير. (ودم التمتع والقران وترك الإحرام من الميقات والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى) وترك طواف الوداع ولو سهواً، ودم فوات عرفة، وناذر نحو المشي إذا أخلفه، وناذر نحو الحلق، والأجير المخالف لما استؤجر له وغيره مما في "الأصل". (شاة أضحية) صفةً وسِنّاً -كما يأتي في الأضحية- ويجزئ سُبُع بدنه أو بقرة مما يجزئ ثمَّ، وهذا يجري في كل شاة واجبة، إلاَّ جزاء الصيد .. فلا تجزىء البدنة فيه عن شاة؛ لاعتبار المثل فيه. ويكتفي في غيره ببدنة عن سبع شياه لزمت بأسباب مختلفة أو متحدة. ويجب الدم في التمتع بفراغ عمرته وإحرامه بالحج، وإن كان الموجب له حقيقة إنما هو الإحرام بالحج؛ لأن ربح الميقات الذي هو سبب الدم إنما هو في الحج، لكن للإحرام بالعمرة دخل في الوجوب أيضاً، بدليل أنه لو وقع آخر جزء من رمضان .. لا يجب الدم وإن أوقع أعمال العمرة، وتحللها في أشهر الحج، وأحرم بالحج من عامه وربح فيه الميقات. ويجوز تقديم دم التمتع لا صومه على الإحرام بالحج؛ لأن ما له سببان يجوز تقديمه على أحدهما، لا عليهما. أمَّا الصوم .. فلا يجزئه إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه عبادة بدنية، وهي لا يجوز تقديمها على وقتها. وأمَّا ما ليس له إلا سبب واحد كالقران .. فيجب به، وإذا وجب .. فلا يسقط عن موسر بموته، كسائر الديون المستقرة، وكإفساده، ويخرج من تركته، وكذا صوم تمكن المعسر منه قبل موته، فيصام عنه أو يطعم عن كل يوم مد، فإن تمكن من بعض العشرة .. فقسطه. ويحصل التمكن من صوم الثلاثة بأن يحرم بالحج ليلة السابع سليماً من مرض ونحوه، لا من سفر.

ولا يتعين في الإطعام صرفه إلى مساكين الحرم؛ لأنه بدل عن الصوم، وهو لا يختص بالحرم، بل يسن فيه. والأفضل: ذبح الدم يوم النحر بمنى؛ للاتباع، ولا يتوقف دم الواجب على وقت، كما مر. (فإن عجز) عن الدم، كأن لم يجده بموضعه وهو الحرم فقط، أو ما حواليه إلى حد الغوث مع الشك، أو إلى حد القرب مع اليقين، أو إلى دون مرحلتين على الخلاف في ذلك، أو وجده بأكثر من ثمنه كما في التيمم، أو غاب ماله إلى مسافة قصر، أو احتاج إلى صرفه في نحو مؤن سفره، أو ملبس أو مسكن. ومن أمكنه الاقتراض .. أتى فيه ما مر قسم الصدقات. ( .. صام) وجوباً، وفيه ما مر في رمضان. نعم؛ السفر هنا لا يمنع التمكن. (عشرة ايام ثلاثة) منها (في الحج) قبل يوم النحر ولو مسافراً؛ للآية، هذا إن أحرم في زمن يسعها قبل يوم النحر، فإن لم يسع إلا بعضها .. وجب، وليس السفر هنا عذراً في أداء الثلاثة، بل يجب صومها ولو فيه، حيث لا ضرر. أمَّا قضاؤها .. فهو عذر فيه، ولا يلزمه تقديم الإحرام؛ ليصومها. وخرج بقولي: (قبل يوم النحر): ما لو أخرها عنه مع تمكنه من صومها قبله، فيأثم، وتكون قضاء. وإن أخر التحلل عن أيام التشريق ثم صامها ثم تحلل .. صدق عليه أنه صامها في الحج؛ لندرته، فلا يراد من الآية، ويلزمه قضاء ما أمكنه صومه فوراً. وندب له الإحرام بالحج قبل سادس ذي الحجة؛ ليتم صومها قبل يوم عرفة، إذ يسن له فطره. ولو علم أنه يجد الدم قبل فراغ صومه .. لم يجب انتظاره، لكن يسن، وإذا لم يجده .. لم يجز انتظاره إن ضاق الوقت عن أداء الثلاث، وإلا .. ندب إن رجاه، ولو وجده قبل الشروع في الصوم .. وجب ذبحه، أو بعد الشروع فيه .. لم يجب، لكنه يسن. ومحل صوم الثلاثة فيما ذكر إن تصور صومها فيه، كما في دم تمتع وقران وترك إحرام

من الميقات ودم الفوات؛ إذ صومه إنما يفعل في سنة القضاء، وناذر المشي أو الركوب إذا أخلفه، وإلا .. كالبقية، فيصوم الثلاثة بعد أيام التشريق، فإن فعلها عقبها .. فأداء، وإلا .. فقضاء، إلا طواف الوداع؛ فوجوب صوم الثلاثة فيه بوصوله وطنه أو مسافة القصر، فهذا وقت أدائه. أمًّا العمرة إذا ترك إحرامها من الميقات أو أخلف نحو المشي المنذور فيها، فإن أحرم بها وقد بقي بينه وبين مكة ما يسع الثلاثة .. وجب صومها حينئذٍ، وإلا .. جاز تأخير صومها بعد التحلل منها. (وسبعة إذا رجع إلى وطنه) أو ما يريد توطنه ولو مكة؛ للآية، ولِمَا صح من أمر المتمتعين الفاقدين الهدي بذلك، وندب توالي صومها وصوم الثلاثة إلا لعارض؛ كأن أحرم ليلة السابع، فيجب تواليها لضيق الوقت. قال الشرقاوي: (فلو شرع في السبعة في مكة مثلاً؛ لقصده توطنها، ثم أعرض عن توطنها قبل تمامها وسافر .. فالظاهر جواز إتمامها في السفر، نقله الرحماني عن "سم") اهـ وهو ظاهر، وإن استظهر (ب ج) خلافه؛ لأن صومها مشروط بالرجوع إلى وطنه، وقد رجع إليه. ومنه يؤخذ أيضاً: أن من رجع لوطنه ثم سافر جاز له صومها في السفر، ومتى صام هذه السبعة .. فأداء؛ إذ لا يتصور فيها القضاء إلا بالموت، فإذا صامها عن ميته .. فقضاء، وندب تتابعها كالأداء، ولو فاتته الثلاثة .. لزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة بقدر تفريق الأداء، وإن كان الفوات بعذر وهو فيمن يتصور منه صوم الثلاثة في الحج كالمتمتع أربعة أيام. ومدة إمكان السير إلى وطنه على العادة الغالبة، ومن ذلك إقامة الحجاج بنحو مكة، فيفرق بها مع مدة إمكان السير. أمَّا من لا يتصور منه صومها في الحج، كمن ترك رمي الجمار، فإن كان مكَّياً .. لزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة بأقل ممكن، وهو يوم فقط؛ إذ لا سير حتى تعتبر مدته، وصومه لم يجب قبل يوم النحر أصالة حتى تعتبر الأربعة. وإن كات آفاقياً .. فرَّق بقدر مدة السير فقط.

فصل: في محرمات الإحرام

وعبارة "الفتح": وصوم الثلاثة في ترك نحو الرمي لا يمكن قبل الحج، فيجب بعد أيام التشريق موسعاً على الأوجه، كمن ترك صومها في الحج لعذر. قال الشرقاوي: (وإذا لم يتمكن من صومها قبل عرفة .. فهي أداء) اهـ قال الونائي: ولو صام العشرة ولاءً .. حصلت الثلاثة فقط، أو قدم السبعة على الثلاثة .. لم يقع منها ثلاثة عن الثلاثة؛ للصارف. وإذا أخَّر الصوم لوطنه .. وجب صوم الثلاثة فوراً، فإن صام الثلاثة بمكة، فإن مكث أربعة أيام بعد الصوم ثم سافر .. فله صوم السبعة عقب وصوله وطنه، أو صامها في الطريق .. صبر بعد وصوله وطنه أربعة أيام، وقدر ما ساره من أيام الطريق. * * * (فصل) في محرمات الإحرام. وحكمة تحريمها: الخروج عن العادة؛ ليذكر ما هو فيه من العبادة، والذهاب إلى الموقف في حالة أَرثَّ من هذه، فيحمله على الإخلاص والالتجاء إليه تعالى في الإقالة من الذنوب والتوفيق. (يحرم بالإحرام) الذي هو نية الدخول في النسك، أو نفس الدخول فيه بالنية كما مر. (ستة أنواع) وجعلها في "التوضيح" سبعة بزيادة عقد النكاح. (أحدها): اللبس على الرجل والمرأة. فأمَّا الرجل فإنه (يحرم على الرجل) المحرم المميز العامد العالم بالتحريم والإحرام المختار الذي لم يتحلل شيئان: الأول: (ستر رأسه) كله (أو بعضه) وإن قل، ومنه البياض المحاذي لأعلى الأذن، لا المحاذي لشحمة الأذن، وكابتداء اللبس استدامتُه. وإنما يحرم بما يعد ساتراً عرفاً وإن حكى لون البشرة ولو لغير محيط، كعصابة عريضة بحيث لا تقارب الخيط، وحناء ثخين؛ للنهي الصحيح عن تغطية رأس الميت المحرم، بخلاف ما لا يعدّ ساتراً، فلا يضر، كخيط دقيق وتوسد نحو عمامة، ووضع يده أو يد غيره على رأسه إن لم يقصد الستر بها، وكذا إن قصده كما في "الفتح"، وانغماس في

ماء ولو كدراً، وحمل نحو زنبيل لم يقصد به الستر ولم يسترخ على رأسه كالقلنسوة، وإلا .. حرم، ولزمت به الفدية إن لم يكن فيه شيء، وإلا .. لم يضر. والاستظلال بنحو محمل وإن مس رأسه وقصد به الستر، ولو كان به قرح فشده بخرقة بلا عقد .. فلا فدية إن لم تكن برأسه، وإلا .. لزمت، فإن احتاج لعقدها .. جاز مع الفدية ولو في غير الرأس، أمَّا عقد خيط عليها .. فلا فدية به. (و) الثاني: (لبس المحيط) -بالمهملة- سواء أحاط (ببدنه) كله (أو بعضو منه) كخريطة للحيته، سواء كان شفافاً كزجاج أم مخيطاً كقميص، أم معقوداً، أم ملزوقاً كثوب من اللبد، أم منسوجاً، أم مشكوكاً، أم مزرراً. وإنما يحرم لبسه على الوجه المعتاد كوضع نحو فرجيه على منكبيه وإن لم يدخل يديه في كميه وقصر الزمن؛ لأنه يستمسك بذلك لو قام، فيعد لابساً له، بخلاف ما لو اتزر أو ارتدى بقميص أو قباء، أو التحف بهما أو وضع عليه وهو مضطجع. ومنه يؤخذ: أنه لا يحرم دخوله في كيس النوم إن لم يستر رأسه؛ إذ لا يستمسك عند قيامه، ولا في إدخاله رجله في ساق الخف دون قراره، ولا يضر لف عمامة بوسطه بلا عقد، ولبس خاتم، واحتباءٌ بحبوة وإن عرضت جداً، وإدخال يديه في كم نحو قباء وإن رفعهما لصدره؛ لعدم الاستمساك عند إرسالهما، ولبس السراويل في أحد رجليه، وشد نحو سيف ومنطقة بوسطه، وعقد إزار بتكة في حجزته؛ لحاجة إحكامه. والحاصل: أن له عقد طرفي إزاره، وربط خيط عليه ويعقده، وعقد التكة، ولف عمامة على إزاره بلا عقد، وغرز طرفي ردائه في إزاره، ولا يجوز عقد طرف ردائه بطرفه الآخر أو خلهما بخلال. (و) يحرم (على المرأة) -ولو أمة بشروط الرجل السابقة- شيئان: الأوّل: (ستر وجهها) بما مرَّ في ستر رأس الرجل؛ لنهيها عن النقاب، وحكمته: أنها تستره غالباً، فأمرت بكشفه؛ لمخالفة عادتها. نعم؛ يعفى عما تستره من الوجه؛ احتياطاً للرأس ولو أمة عند (حج)؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به .. واجب، ولها أن ترخي على وجهها ثوباً متجافياً عنه بنحو أعواد ولو لغير حاجة. فلو سقط الثوب على وجهها بلا اختيارها، فإن رفعته فوراً .. فلا شيء عليها، وإلا .. أثمت، وفدت إن أدامته أو قصَّرت في إحكامه.

(و) الثاني: (لبس القفازين) بالكفين أو أحدهما بأحدهما على الأظهر. قال في "التحفة": (للنهي الصحيح عنهما، لكن أعل بأنه من قول الراوي، ومن ثم انتصر للمقابل بأن عليه أكثر أهل العلم. و (القفاز): شيء يحشى بقطن، ويزر بأزرار على الساعد؛ ليقيها من البرد، والمراد هنا: المحشو والمزرور وغيرهما) اهـ ولها أن تلف خرقة على كل من يديها وتشدها وتعقدها، وللرجل شدها بلا عقد. وأمَّا رجل الرجل .. فقال الكردي: (اعتمد (حج) في "تحفته" و"إيعابه": أن ما ظهر منه العقب ورؤوس الأصابع يحل مطلقاً، وما ستر أحدهما فقط لا يحل إلا مع فقد النعلين، وكلامه في غيرهما ككلام غيره أنه عند فقد النعلين إنما يشترط: ظهور الكعبين فما فوقهما دون ما تحتهما من الأصابع والعقب وغيرهما) اهـ وظاهر كلامهم: أنه يجوز لبس ذلك وإن لم يحتج إليه إلا لمجرد اللبس. لكن في "شرحي الإرشاد" كـ"النهاية": أنه لا بد من أدنى حاجة كبرد وخوف تنجس رجله. نعم؛ يجوز لبس السراويل إن فقد غيره مما يستر عورته، ولا فدية؛ للضرورة. فإن احتاج لمرض ونحوه للبس غيره .. جاز مع الفدية؛ إذ الحاجة تدفع الإثم لا الفدية، والضرورة تدفعهما. وخرج بـ (المميز وما بعده): غير المميز، والناسي، والجاهل بما يخفى عليه عادة، والمكره، فلا فدية ولا إثم عليهم إلا السكران. (الثاني: الطيب) أي: التطيب به للرجل وغيره ولو أخشم (في) ظاهر (بدنه) أو باطنه، كأن أكله أو استعط به. (أو ثوبه) أي: ملبوسه مما لا يصح السجود عليه أو ما ينسب إليه في الصلاة بالنسبة للطهارة وإن جاز السجود عليه كمنديل، فيشمل حتى النعل؛ للنهي الصحيح عنه في الثوب، وقيس به البدن. والمراد بـ (الطيب): ما يقصد ريحه غالباً، كمسك وعود وورس وكافور وعنبر وصندل وبنفسج ونرجس وبان وريحان وسوسن ونمام وفاغية ولو يابسة بقيت فيه رائحة تظهر ولو بالرش.

بخلاف ما يقصد منه التداوي أو الإصلاح أو الأكل وإن كان له رائحة طيبة، كالفواكه طيبة الرائحة كسفرجل وتفاح وأترج ونارنج أو قرفة وقرنفل وسنبل ومحلب ومصطكى وغيرها من الأدوية. قال في "الحاشية": ويتردد النظر في اللبان الجاوي، وأكثر الناس يعدونه طيباً، وكذا الشيح والقيصوم والشقائق وسائر أزهار البراري التي لا تستنبت قصداً للتطيب. وأمَّا الأدهان، فدهن هو طيب كدهن الورد والبنفسج .. فيحرم استعماله في بدن وثوب، وكذا دهن البان المخلوط بالطيب فهو طيب، ودهن غير طيب كزيت وشيرج وسمن وزبد وشحم وشمع وغيرها مما ليس مخلوطاً بطيب. والمراد باستعماله أن يستعمله على الوجه المعتاد في ذلك الطيب لا بالنسبة لمحله، فلا يرد أن نحو الاحتقان به غير معتاد. قال العلامة الكردي: (الطيب على أربعة أقسام: أحدها: ما اعتيد التطيب به بالتبخر كالعود، فيحرم وصول عين من الدخان إلى بدن المحرم أو ثوبه وإن لم يحتو عليه، ولا يحرم بغير ذلك كأكله وحمله. ثانيها: ما اعتيد التطيب به باستهلاك عينه، إمَّا بصبه على البدن أو الثوب وبغمسهما فيه، فالتعبير بالصب جري على الغالب، وذلك كماء الورد، فهذا لا يحرم حمله ولا شمه حيث لم يصب بدنه أو ثوبه منه شيء. ثالثها: ما اعتيد التطيب به بوضع أنفه عليه أو عكسه كالورد وسائر الرياحين، فهذا لا يحرم حمله في بدنه أو ثوبه وإن كان يجد ريحه. رابعها: ما اعتيد التطيب به بحمله، وذلك كالمسك ونحوه، فيحرم حمله في ثوبه أو بدنه، فإن وضعه في نحو خرقة أو قارورة وحمله في ثوبه أو بدنه .. فلا يحرم إن كان مشدوداً عليه وإن ظهر ريحه، أو مفتوحاً ولو يسيراً .. حرم، ما لم يقصد مجرد نقله ولم يشده بثوبه، وإلا .. فلا حرمة) اهـ ولا يضر مجرد مس الطيب من غير أن يعلق ببدنه أو ثوبه شيء من عين الطيب، وكذا علوق نحو الرياحين من غير وضعه على أنفه. ولا يضر ظهور لون ما علق به من الطيب وحده، بخلاف الريح؛ لأنه المقصود الأعظم من الطيب.

ولا يضر جلوس في حانوت عطار أو موضع يبخر إن عبقت به الرائحة دون العين. نعم؛ إن قصد اشتمام الرائحة .. كره. (الثالث: دَهن) بفتح الدال (شعر الرأس واللحية) أي: فقط، فلا يحرم غيرهما من بقية شعور الوجه. قال الكردي: (وهو الأقرب إلى المنقول من خمسة آراء: ثانيها: إلحاق جميع شعور الوجه بهما، واعتمده في "شروح المنهج" و"الروض" و"البهجة"، و (م ر) في "شروح المنهاج" و"البهجة" و"الدلجية". ثالثها: جميع شعور الوجه إلا شعر جبهة وخد، واعتمده في "التحفة"، و"شرحي الإرشاد". رابعها: إخراج ما لم يتصل باللحية، كحاجب وهدب وما على الجبهة، وعليه الولي العراقي والخطيب. خامسها: إخراج شعر خدٍّ وجبهة وأنف كما في "الحاشية" و"شرح المختصر" لعبد الرؤوف، وهو الأقرب للمَدْرك) اهـ فيحرم الدَّهن؛ لما ذكر على الخلاف -ولو من امرأة- وإن كان محلوقاً أو أمرداً في أول ظهور نبات لحيته، بخلاف رأس نحو أصلع وأقرع وبقية شعور البدن، وشجةٍ برأسه جعل الدهن بباطنها؛ لانتفاء التنمية والتزيين في ذلك بالدهن. و (الدهن): هو ما مر من زيت وشيرج وغيرهما، ومما يغفل عنه تلويث نحو الشارب عند أكل الدسم، فإنه حرام مع العلم والعمد والاختيار. لكن إنما يحرم على غير القول الأول؛ إذ لا حرمة عليه في غير شعر رأس ولحية، كما لو جهل حرمته حتى على غيره من بقية الأقوال. وإنما حرم الدهن؛ لخبر المحرم: "أشعث أغبر"، أي: شأنه ذلك كما في "الشرح". لكن قال الكردي: لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولفظ ما وقفت عليه: "الحاج الشعث التفل". و (الشعث): تلبد الشعر المغبر، و (التفل) كريه الرائحة. أمَّا ما ليس بطيب ولا دهن، كخضب لحيته أو رأسه بنحو حناء رقيق .. فلا يحرم،

ولا يكره غسل رأسه وبدنه بنحو سدر؛ لأنه لإزالة الوسخ لا للتنمية. نعم؛ الأولى تركه حتى في ملبوسه ما لم يفحش وسخه. وليحذر عند غسل رأسه من إزالة شيء من شعره. وكره اكتحال بنحو إثمد؛ لما فيه من الزينة، لا بنحو توتياء، ولا يحرم أخذ قمل نحو لحيته ولا نحو حجامة لم يزل به شعر أو زال به مع احتياج إليه مع الفدية. ولو دهنه أو طيبه غيره، فإن كان قادراً على الدفع أو أذن فيه .. فعليه الفدية، وإلا .. فعلى الفاعل، ومثله: الحلق والقلم. تنبيه: ظاهر قوله: (شعر راسه): أنه ثلاث، وليس مراداً، بل ولو شعرة أو بعضها، وفيه دم كامل. (الرابع: إزالة) شيء من (الشعر) -بسكون العين، وجمعه: شعور، كفلس وفلوس- وبفتحها، وجمعه أشعار، كسبب وأسباب، وهو مذكر، واحده: شعرة، وإنما جمع؛ تشبيهاً لاسم الجنس بالمفرد. (و) من (الظفر) الواو بمعنى: أو، أي: من أحدهما وإن قل ولو من شعر غير رأس ولحية، أو الظفر من أصبع زائدة بقص أو نتف أو إحراق أو غيرها ولو بدواء علم كونه مزيلاً؛ لآية (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) [البقرة:196]، أي: شيئاً من شعرها. وألحق بشعر الرؤوس: شعر بقية البدن والظفر بجامع الترفه في إزالة كل المنافي كون المحرم أشعث أغبر. نعم؛ محل ذلك حيث لم يكن المزال من الشعر والظفر تابعاً لمحله، وإلا .. فلا حرمة ولا فدية لكن تسن، وحيث لا ضرورة، وإلا .. فلا حرمة ولا فدية في قلع شعر نبت داخل العين أو غطاها، وظفر انكسر وتأذى به، فلا فدية وإن خرج بإخراجه غيره؛ للضرورة وما هو بسببها لا فدية فيه، كما مر. ولا يلزمه شراء نعل أو إزار نسيئة، ويلزمه قبول عاريتهما. ومن المحرم أيضاً: مقدمات الجماع على مكلف عامد عالم مختار، كمفاخذة وقبلة ومعانقة بشهوة ولو بحائل وإن لم ينزل ولو بين التحللين، وفيها بلا حائل وإن لم ينزل الفدية، مع الحرمة ولو من صغير، ويحرم تمكينه من ذلك ولو على حلال، وتجب الفدية مع الحرمة بالاستمناء بيده أو غيرها إن أنزل.

وقضية إطلاقهم المباشرة: شمولها لما لم ينقض كمحرم وأمرد. قال (ب ج): وبه صرح النووي، وهو مخالف لما مر في بطلان الصوم بها. وفي حاشية الشرقاوي: لا بد من كونها بما ينقض الوضوء. ونقله في "المنح" عن "الماوردي"، ثم قال: وليس كذلك كما يصرح به كلام المصنف، وهذا في الفدية. أمَّا الحرمة مع لشهوة .. فمطلقاً ولو تعددت المقدمات من نوع أو أنواع، فإن اتحد الزمان والمكان .. ففدية واحدة، وإلا .. تعددت، لكن يندرج دم المقدمات في بدنة الجماع أو شاته وإن تخلل بينه وبين المقدمات زمن طويل، سواء تقدم الجماع عليها أم تأخر كما يندرج الأصغر في الأكبر، سواء تقدم موجبه، أم تأخر، لكن قيده بعضهم بما قبل الجماع. ودم الأربعة المذكورة في المتن ودم المباشرة والجماع غير المفسد دم تخيير وتقدير. وحينئذٍ (فإن لبس) أي: المحرم بقيوده السابقة (أو تطيب أو دهن) ولو بعض (شعرة) من رأسه أو لحيته، أو جامع بعد الإفساد أو بين التحللين (أو باشر بشهوة) ولو لما لا ينقض وإن لم ينزل (أو استمنى) أي: استدعى خروجه بأي وجه (فأنزل) .. لزمه الدم إن كان (عامداً عالماً) بالإحرام والتحريم، أو قصّر في التعلم (مختاراً)، وإلا .. فلا فدية ولا حرمة، وبكون الممسوس دهناً أو طيباً. فإن علم التحريم وجهل وجوب الفدية .. (لزمته)؛ إذ حقه الامتناع، وإن علمه بعد نحو اللبس وأخر إزالته فوراً .. عصى، ولزمته الفدية أيضاً، وكذا تلزمه إن لبس أو تستر لحاجة نحو برد، ولا إثم. ولو ادعى الجهل بتحريم الطيب أو الدهن .. قبل منه؛ لأنه مما شأنه أن يخفى على العوام كما في "الإيعاب"، وإن كان ظاهر "الإمداد" كـ"النهاية": أن المخالط لا يعذر، وهذا في الظاهر، أمَّا الباطن .. فالعبرة بما في نفس الأمر، فالجاهل لا تلزمه الفدية، وإلا .. لزمته. قال الكردي: المحرمات أربعة أقسام: الأول: ما يباح للحاجة ولا حرمة فيه ولا فدية، وهو لبس السراويل؛ لفقد الإزار،

والخف المقطوع لفقد النعل، وعقد خرقة على ذكر سلس لم يستمسك بغير ذلك واستدامة ما لبّد به شعر رأسه أو تطيب به قبل الإحرام. وحمل نحو مسك بقصد النقل إن قصر زمنه، وإزالة شعر بجلده والنابت في العين ومغطيها، والظفر بعضوه والمؤذي بنحو كسر وقتل صيد صائل، ووطء جراد عمَّ المسالك، والتعرض لنحو بيض صيد وضعه في فراشه ولم يمكن دفعه إلا به، أو لم يعلم به فتلف، وتخليص صيد من فم سبع فمات، وما فعله من الترفه كلبس وتطيب ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً. الثاني: ما فيه الإثم ولا فدية، كعقد نكاح ومباشرة بشهوة بحائل على ما مر، والنظر بشهوة، والإعانة على قتل صيد ولو لحلال، والأكل من صيد صاده غيره له أو تسبب فيه، وقبضه صيداً بنحو شراء أو اصطياد ولم يتلف، ومجرد تنفير الصيد، وفعل محرم من محرمات الإحرام بميت محرم. الثالث: وهو ما فيه الفدية ولا إثم، وذلك فيما إذا احتاج الرجل إلى اللبس أو المرأة لستر وجهها أو إلى إزالة شعر أو ظفر؛ لنحو مرض، أو أتلف نحو شعر جهلاً وهو مميز، أو نفر صيداً بغير قصد، وتلف به أو اضطر إلى ذبح صيد؛ لجوع، أو تلف صيد برفس دابة معه أو عضه بلا تقصير. والحاصل: أنَّ ما أبيح للحاجة المبيحة لفعله غير ما مر في القسمين السابقين فيه الفدية ولا إثم، والحاجة هنا ما فيه مشقة شديدة لا يحتمل مثلها وإن لم تبح التيمم. الرابع: ما فيه الإثم والفدية، وهو باقي المحرمات. (أو أزال) أي: المحرم المميز (ثلاثة أظفار أو أكثر) من ثلاثة ولو جميع الأظفار، أو بعض كل من ثلاثة أو أكثر (متواليات، أو ثلاث شعرات أو أكثر) أو جزءاً من كل ثلاث أو أكثر (متواليات) بأن اتحد محل إزالتها وزمانها. (ولو) كان مزيلها (ناسياً) للإحرام أو التحريم أو جاهلاً بحرمته ( .. وجب) عليه الدم الآتي؛ للآية، وأقل الشعر: ثلاث، والاستيعاب هنا غير معتبر إجماعاً. وإذا لزمت الفدية مع العذر .. فمع غيره أولى، ومن ثم لزمت الفدية هنا كما في الصيد وغيره من الإتلافات نحو ناس وجاهل وولي صبي مميز، لا نحو مجنون ونائم

وغير مميز؛ إذ لا تقصير منهم بوجه، وإن كان قاعدة ضمان الإتلاف .. لا فرق فيها؛ لكونه من خطاب الوضع الذي لا فرق فيه بين عالم وغيره، لكن خفف عن غير المميز كمجنون ونائم؛ لأن القاعدة: أن ما كان إتلافاً محضاً، كقتل الصيد أو المغلب فيه جانب الإتلاف كالحلق والقلم .. تجب فيه الفدية مطلقاً إلا في نحو مجنون، وما كان تمتعاً محضاً، كاللبس، أو المغلب فيه جانب التمتع كالجماع .. لا فدية فيه إلا على عالم عامد مختار. وله تسريح شعره برفق ما لم يظن الانتتاف به، ولذي الحكة كجرب أن يحك نحو رأسه إن لم يقدر على الصبر عنه، ولا فدية؛ لأنه ضرورة. واعلم: أن دماء محظورات الإحرام لا تتداخل مطلقاً فيما يقابل بمثل، كالصيد ونحوه كالأشجار؛ إذ النظر للمماثلة أو نحوها ينافي التداخل، وكذا الجماع. ففي الأوّل منه قبل التحلل الأوّل بدنة، وفيه فيما بعد الجماع الأول، أو بين التحلين في كل جماع شاة وإن تواليا؛ لمزيد التغليظ فيه. نعم؛ يندرج واجب مقدماته فيه كما مر. ومحل التعدد به إن قضى بكل وطراً، فإن كان ينزع ويعود على التوالي عرفاً .. فالكل جماع واحد وإن كان غير الثلاثة المذكورة، فإن تخلل فيه بين الأول والثاني تكفير .. فلا تداخل وإن نوى بالكفارة عن الماضي والمستقبل، وإن لم يتخلل .. فلا تداخل في نوعين وإن اتحد زمانهما ومكانهما ما لم يتحد الفعل، كأن لبس ثوباً مطيباً دهيناً، فتندرج فدية الطيب والدهن في فدية اللبس. وكذا لا تداخل في نوع واحد، كأن لبس قميصاً وعمامة وسراويل، أو حلق رأسه وذقنه وبدنه إلا إن اتحد زمان ذلك ومكانه. فتحصَّل: أن لا تداخل في القيم الثلاثة الأُوّل مطلقاً، ولا في غيرها في نوعين فأكثر إلا إن اتحد الفعل، ولا في نوع إلا إن اتحد زمان ومكان بشرط أن لا يتخلل تكفير بينهما في الصورتين. ولا يقدح في التوالي طول الزمن في مضاعفة اللباس بعضه فوق بعض، وتكوير العمامة والكلام حيث ستر اللاحق ما لم يستره ما قبله، وإلا .. فلا تعدد مطلقاً. قال الكردي: (وللشافعي قول قديم بعدم تعدد الفدية بتعدد الأفعال إن لم يتخلل تكفير.

قال في "الروضة": فإن قلنا بالجديد .. فجمعهما سبب واحد، كأن تطيب أو لبس مراراً لمرض واحد، فوجهان أصحهما تعدد الفدية، والقديم صححه الشيخ في منسك له صغير، والجيلي، وقطع به البندنيجي، قال: سواء اتحد سببهما أم اختلف ما لم يكفر عن الأول. قال المحب: وهذا أصلح للناس سيما في ساتر الرأس، فإنه يشق ملازمته، ويحتاج لإزالته في الطهارة) اهـ والمالكية أوسع دائرة من غيرهم إلى أخر ما أطال به عنهم مما حاصله: (أنه إذا فعل موجبات الفدية بأن لبس وحلق وقلم وتطيب .. فتتحد الفدية إذا كان نيته فعل جميع ما يحتاج إليه من موجبات الفدية ونوى التكرار، وإن لبس ثوبه ثم نزعه للنوم ليلبسه إذا استيقظ، أو ليلبس غيره .. فعل واحد) اهـ ولو لبس عمامة لحاجة وخلعها لغسل جنابة أو كشف بعض رأسه لنحو مسحه في الوضوء .. لم تتعدد الفدية بذلك وإن تعدد مراراً كما في "الحاشية". قال الكردي: (ونظر فيه عبد الرؤوف، وأجاب عنه ابن الجمال، وهذا بالنسبة إلى الغسل، أمَّا الوضوء .. فالأوجه ما قاله عبد الرؤوف) اهـ وقال (سم) في "شرح الغاية": رأيت جمعاً يوجهون عدم التعدد بالنسبة لأقل مجزئ، وأنه لو كرر نزعها ثلاثاً لتثليث مسح الرأس .. لزمته فدية واحدة، أمَّا إذا اختلف محل الإزالة أو زمانها .. ففي كل شعرة أو ظفر أو بعض كل مد وإن بلغت ألوفاً، ولو أزال شعرة أو ظفراً ثلاث مرات واتحد زمان ومكان .. فمد، وإلا .. فثلاثة. والدم الواجب هنا كباقي دماء النسك إلا جزاء الصيد. (ما يجزئ في الأضحية) صفة وسناً، ومنه: سبع بدنة أو بقرة، ويملكه لثلاثة مساكين بالحرم ولو غرباء بعد ذبحه. (أو إعطاء ستة مساكين) أو فقراء ثلاثة آصع (كل مسكين) أو فقير (نصف صاع) وهو مدان، وإعطاء المسكين مدين مما انفردت به هذه الكفارة. (أو صوم ثلاثة أيام) فهو دم تخيير وتقدير؛ لآية (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) [البقرة:184] مع الحديث الصحيح المبين لإجمالها، وقيس بالمعذور غيره في التخيير؛ إذ ما فيه تخيير

من الكفارة .. لا ينظر فيه لسببه حلاً وحرمة، ككفارة اليمين والصيد. (وفي) كل (شعرة أو ظفر) أو بعض كل (مُد)؛ لتعسر تبعيض الدم، والشارع قد عدَّل الحيوان بالطعام في جزاء الصيد وغيره، والشعرة الواحدة أو بعضها هي النهاية في القلة، والمد أقل ما وجب في الكفارة، فقوبلت الشعرة به، وألحق بها الظفر؛ لما مر. وقيل: في الشعرة درهم، والشعرتين درهمان، وقيل في الشعرة ثلث المد، والشعرتان ثلثاه. وعلى الأول: فوجوب المد إن اختار الدم، فإن اختار الإطعام .. فواجب كل صاع (أو) اختار الصوم .. فواجب كل (صوم يوم، وفي شعرتين أو ظفرين مدان) أو صاعان (أو يومان) وفي ثلاث أو ثلاثة ثلاثة أمداد أو آصع أو أيام إن اختلف زمان ومكان، وفي الأربع أو الأربعة: أربعة، وهكذا قال في "التحفة"، كذا قاله جمع. وقال الإسنوي: (إنه متعين، وخالفهم آخرون منهم البلقيني وابن العماد، فاعتمدوا إطلاق الشيخين كالأصحاب: أنه لا يجزئ إلا المد في الأولى، والمدان في الثانية، وما ألزم به الأولون من التخيير بين الشيء وهو الصاع، وبعضه وهو المد .. مردود بأن له نظائر، كالمسافر يخير بين القصر والإتمام) اهـ واعتمد الأول في "المنهج" و"الغرر" و"الأسنى و"الخطيب"، والثاني في "الإيعاب" و (م ر) ووالده. (الخامس: الجماع) في قبل أو دبر ولو لبهيمة وبحائل وإن كثف إجماعاً، ويحرم على حليلة تمكين حليل محرم، وعلى حليل مباشرة حليلة محرمة يمتنع عليه تحليلها. (فإذا جامع عامداً عالماً مختاراً قبل التحلل الأوّل في الحج وقبل الفراغ من) جميع أعمال العمرة في (العمرة) المفردة بأن بقي شيء من أعمالها ولو شعرة من الثلاث التي يتحلل بها ( .. فسد نسكه) ولو صبياً ورقيقاً؛ لآية (فَلا رَفَثَ) [البقرة:197]، أي: فلا ترفثوا، أي: تجامعوا؛ إذ هو خبر بمعنى: النهي، والأصل فيه: اقتضاء الفساد، والعمرة كالحج، ويجزئ قضاء صبي ورقيق في حال الصبا والرق. وخرج بـ (عامداً، وما بعده): الناسي والجاهل المعذور والمكره، فلا حرمة عليهم

ولادم، كغيره من سائر التمتعات، والجماع بين التحللين، فلا يفسد به ولو قارناً وإن لم يأت بشيء من أعمال العمرة؛ لأنها تقع تبعاً وإن حرم لضعف الإحرام حينئذ؛ لإتيانه بمعظم أفعال الحج في صحته قبل إفساده، ويجب به شاة كما لو وطء بعد وطء الإفساد قبل التحللين. والأوجه: تكررها بتكرر هذين، بخلاف ما لو ارتد بينهما .. فيبطل، كما نقله الكردي عن (ق ل). (و) إذا فسد النسك بالجماع .. (وجب) على المفسد (إتمامه) كما صح عن جمع من الصحابة، ولا يعرف مخالق لهم، فيأتي بما كان يأتي به لو لم يفسد، ويجتنب ما كان يجتنبه، حتى لو فعل محرماً من محرمات الإحرام .. لزمه الدم؛ لإطلاق آية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة:196] إذ لم يفصل بين الصحيح والفاسد. أمَّا لو فسد بالردة .. فلا يجب إتمامه وإن أسلم فوراً؛ لإحباط الردة له، ولذا لا يجب فيها كفارة. (وقضاؤه) اتفاقاً (على الفور) ولو في سنة الإفساد بأن تحلل بعد الجماع للإحصار. ثم يزول الحصر في عامه، أو لنحو مرض شرطه به ثم شفي. ولو أفسد القضاء .. لم يجب إلا قضاء الأول فقط؛ إذ المقضى واحد. لكن تجب كفارة متعددة بتعدد الإفساد، ووصفه بالقضاء إنما هو بمعناه اللغوي؛ إذ لا آخر لوقته، ولا فرق في وجوب قضائه بين الفرض وغيره، ككونه من صبي أو رقيق؛ لأنه لو منهما يلزم بالشروع فيه. ومن عبر بأنه يصير بالشروع فيه فرضاً .. أراد أنه يتعين إتمامه كالفرض، ويتأدى به ما كان يتأدى بالأداء لولا الإفساد من فرض أو غيره. نعم؛ ينقلب نسك الأجير له، وعليه إتمامه، والكفارة والقضاء ثم يحج عن مستأجره إن كانت إجارة ذمة، وإلا .. انفسخت. ويلزم قي القضاء أن يحرم مما أحرم منه في الأداء من ميقات أو قبله، وكذا من ميقات جاوزه ولو غير مريد نسك، ثم أحرم بعد مجاوزته. ولو أقام بمكة .. عاد للميقات الذي جاوزه غير مريد له، كما في "التحفة" و"النهاية" وغيرهما.

واكتفى في "الإمداد" و"المختصر"، وعبد الرؤوف بموضع الأداء. ولو تمتع وأفسد الحج .. كفاه في القضاء الإحرام من مكة. ولو أحرم بالأداء من ذات عرق فمر في القضاء بذي الحليفة .. وجب إحرامه منها. وللمفرد المفسد لأحد النسكين قضاؤه مع الآخر تمتعاً أو قراناً، وللمتمتع والقارن القضاء إفراداً، ولا يسقط عنه الدم في القضاء بذلك، فعلى القارن المفسد: بدنة، ودم للقران وآخر للقضاء وإن أفرده. ولو فات القارن الحج .. فاتته العمرة، وعليه دم للفوات ودم للقران الفائت ودم للقران المأتي به في القضاء. (و) يجب عليه مع إتمامه والقضاء والإثم الكفارة، وهي (بدنة) تجزئ في الأضحية وإن كان نسكه نفلاً؛ لقضاء جمع من الصحابة بذلك، ولا يعرف لهم مخالف. وهي: بعير ذكر أو أنثى له خمس سنين؛ وكذا في كل محل أطلقت فيه. (فإن عجز) عنها ( .. فبقرة) تجزئ أضحية. (فإن عجز) عنها ( .. فسبع شياه) أو سبع من كلًّ من سبع بدنات أو بقرات تجزئ كل منها أضحية. (فإن عجز) عن ذلك ( .. فطعام) يجزئ في الفطرة (بقيمة البدنة) بالنقد الغالب بسعر مكة حال الأداء، كما في "التحفة"، يتصدق بكل مما ذكر مساكين الحرم الكائنين فيه ولو غرباء، والمتوطنون أولى إن لم يكن غيرهم أحوج. وواجب الإطعام غير مقدر في غير دم التخيير والتقدير، فلا يتعين لكل مسكين مد. نعم؛ الأفضل أن لا يزاد على مدين ولا ينقص عن مد. ولو كان الواجب ثلاثة أمداد فقط .. لم تدفع لدون ثلاثة، بل لهم أو لأكثر، أو مدين دفع لاثنين فأكثر لا لواحد، أو واحد .. فلواحد، كذا نقله الكردي عن ابن علان. لكنه في "الحاشية" عقبه بكذا قيل. وفي "الإيعاب": ولا يتعين لكل مد، بل تجوز الزيادة عليه والنقص عنه. (فإن عجز) عن جميع ما ذكر .. قوّم البدنة، وعرف ما يحصل من قيمتها من الطعام و (صام بعدد الأمداد) ويكمل المنكسر.

فعلم: أن دم الجماع دم ترتيب وتعديل. قال الكردي: الجماع أقسام: الأول: لا يجب فيه شيء، وذلك في نحو الناسي. الثاني: تجب له الفدية على واطئ عالم عامد مختار عاقل قبل تحلل أول، والموطوءة حليلة ولو محرمة. الثالث: تجب على المرأة فقط فيما إذا كانت هي المحرمة فقط، ومستجمعة للشروط السابقة، أو كان الزوج غير مستجمع لها وإن كان محرماً. الرابع: تجب على غير الواطئ والموطوءة، وذلك في الصبي المميز، فتجب على وليه. الخامس: تجب على كل منهما فيما إذا زنى محرم بمحرمة أو وطئها بشبهة، وفيهما الشروط السابقة. السادس: تجب فدية مخيرة، وهي شاة، فيما إذا وطئ ثانياً أو بين التحللين، هذا ما اعتمده (حج)، واعتمد (م ر): أن لا فدية على المرأة مطلقاً. (السادس:) من المحرمات على الرجل وغيره (اصطياد المأكول البري) المتوحش جنسه وإن تأهل هو، كدجاج حبشي وإن ألف البيوت؛ لأن أصله وحشي، لا البلدي، ولا الإوز عند (م ر)؛ إذ المصيد هو المتوحش طبعاً، لا يمكن أخذه إلا بحيلة طيراً كان أو دابة، مباحاً أو مملوكاً، قال تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة:96]، أي: يحرم التعرض لجميع أجزائه. ومنها: لبنه وريشه ومسكه وفأرته المتصلات به وبيضه غير المذر ولو بالإعانة أو الدلالة لحلال كتنفيره إلا لضرورة، كأن يأكل طعامه أو ينجس متاعه؛ لأنه صيال، والصائل غير مضمون إذا لم يندفع بأقل مما فعل به. ولا فرق في ضمان الإتلاف كالصيد بين نحو عالم وغيره، أمَّا الإثم .. فلا يأثم إلا مع علم وتعمد واختيار. وإذا تعرض لريشه مثلا .. ضمنه بما بين كونه سليماً ومنتوفاً، وإن عاد الريش أحسن مما كان، وعليه أن يمسكه ويطعمه ويسقيه؛ لينظر ما يؤول إليه حاله، وكذا لو جرحه بالأولى، ولو نقص لبنه في تعرضه له .. ضمنه، ثم إن كان مثلياً فنقص عشر قيمته

مثلاً .. لزمه عشر مثله، فيلزمه عشر شاة مثلاً، أو التصدق بقيمته طعاماً، أو يصوم عن كل مد يوماً. أو غير مثلي .. فالواجب أرشه، يتخير بين التصدق بقيمته طعاماً، والصوم، ولو اندمل جرحه، لكنه صار زمناً .. ضمنه بجزاء كامل، وإن قتله هو أو محرم أخر أو من بالحرم .. لزمه جزاؤه زمناً، أو قتله قبل الاندمال .. فلا شيء عليه. ويحرم على المحرم التعرض لبيض المتولد بين وحشي وإنسي. وخرج بـ (المأكول): غيره؛ إذ منه مؤذ يندب قتله كنمر ونسر وكالقمل. نعم؛ يكره التعرض لقمل شعر رأس، ولحية محرم؛ خشية الانتتاف، وندب فداء الواحدة ولو بلقمة وكالنمل الصغير المسمى بالذر بخلاف كبير ونحل، فيحرم قتلهما كالخطاف والهدهد والصرد. وكالفواسق الخمس الغراب الذي لا يؤكل والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، فيندب قتلها ولو في الحرم. وأُلحق بها: أسد ونمر وذئب ونسر وعقاب وبرغوث ونحوه كل مؤذ، بل يجب قتل عقور كخنزير يعدو وحية تعدو، ويحرم اقتناء شيء منها. ومنه ما فيه نفع وضر كقرد وصقر وفهد، فلا يسن قتله؛ لنفعه، ولا يكره؛ لضره. وما لا يظهر فيه نفع ولا ضر كسرطان ورخمة .. يكره قتله، ويشكل بحرمة قتل كلب لا نفع فيه ولا ضرر. وبـ (البري): البحري، والمراد به ما في الماء ولو نحو بئر ولو في الحرم، فإن عاش في البر والبحر .. فبري؛ تغليباً للحرمة. وبـ (الوحشي): الإنسي وإن توحش، إذ لا يسمى صيداً. (أو المتولد منه) أي: المأكول المتقدم (ومن غيره) فيحرم التعرض له كالمأكول المتقدم بأن يكون أحد أصليه مأكولاً بقيوده السابقة وإن علا، والآخر ليس كذلك كمتولد بين شاة وظبي، أو بين حمار وحشي وحمار أهلي، أو بين ضبع وذئب؛ تغليباً للتحريم، بخلاف المتولد بين ذئب وشاة، أو بين حمار أهلي وزرافة؛ بناءً على أنها غير مأكولة، كما هو ظاهر "النهاية". لكن في "شرحي الإرشاد" وغيرهما؛ أنها مأكولة.

(ويحرم ذلك) أي: التعرض للصيد المذكور بأي وجه كان (في الحرم على الحلال) ولو كافراً ملتزماً لأحكامنا؛ للنهي الآتي عن تنفيره؛ تعظيماً للحرم، سواء أرسل السهم أو الكلب من الحل على صيد كله أو قائمة من قوائمه في الحرم واعتمد عليها وإن اعتمد على الأخرى في الحل أو عكسه؛ تغليباً للحرمة. وإنما لم يضمن صيداً سعى من الحرم إلى الحل، أو من الحل إلى الحل، لكنه مرَّ أثناء سعيه في الحرم، ثم قتله؛ لأن ابتداء الاصطياد من حين الرمي أونحوه، لا من حين السعي، ولذا سنت التسمية عند الأول دون الثاني. ولو أخرج يده من الحرم ونصب شبكة في الحل فتعقل فيها صيد .. لم يضمنه، ولا عبرة بكون قوائمه في الحرم كرأسه، والعبرة في القائم بمستقَره. نعم؛ إن أصاب الجزء الذي في الحرم .. ضمنه ولو كان مستقراً على غيره كما في "الشرح". قال الشرقاوي: (ويحرم دلالة المحرم على صيد، ثم إن قتله المدلول وهو محرم .. فميتة، وعليه الجزاء دون الدال إن لم يضع يده عليه، أو وهو حلال في الحرم فكذلك، أو في غيره فحلال، ولغير الدال الأكل منه، أمَّا هو .. فيحرم عليه. ويحرم على الحلال أن يدل المحرم أيضاً على صيد وإن اختص بالجزاء، ولو أمسكه محرم، فقتله حلال .. ضمن المحرم الممسك، والقاتل ليس طريقاً في الضمان، فلا رجوع للممسك عليه بشيء، أو قتله محرم آخر .. ضمن وإن كان الممسك طريقاً في الضمان. ثم قال: ويحرم على المحرم أكل ما صاده له الحلال وإن لم يعلم به ولم يدل عليه؛ تنزيلاً لصيده له منزلة دلالته عليه، ولا يحرم على الحلال الأكل منه في هذه الحالة، كما قرره الشيخ خضر. وقرر شيخنا عطية حرمة الأكل على الحلال أيضاً، كالمحرم، وهو ظاهر؛ إذ قصد المحرم بالاصطياد يؤثر في التحريم أكثر من تأثير الدلالة. واعلم: أنه لا يلزم الجزاء بدلالة ولا إعانة ولا أكل ما صيد للمحرم، خلافاً للأئمة الثلاثة، وقال أيضاً -عند قول التحرير: ويجوز أكله لضرورة الجوع- ومع جوازه هو ميتة وإن ذبحه خلافاً لـ (حج)؛ لأن مذبوح المحرم ميتة، كما قاله الرحماني.

وقرر شيخنا الحفني أنه ميتة في الاضطرار دون الصيال؛ لأنه أسقط حرمته. ومحل جواز قتله: حيث لم يجد ميتة أخرى، وإلا .. قدمها إن لم يتضرر بنحو قرف نفس بأكلها، ويقدم الصيد على طعام الغير الذي لم يأذن له في أكله) اهـ ولو أحرم حلال وفي ملكه صيد .. زال ملكه عنه، فيلزمه إرساله حالاً وإن تحلل، ومن أخذه .. ملكه إن لم يكن محرماً. (ويحرم) ولو على حلال (قطع نبات الحرم) اي: نابته (الرطب) شجراً كان أو حشيشاً وإن كان بعض مغرسه في الحل أو نقل إلى الحل، أو كان ما بالحل من بزر ما بالحرم مملوكاً كان أو مباحاً، وسواء كان الشجر مستنبتاً أو نابتاً بنفسه. وأمَّا غيره .. فشرطه: أن لا يكون من شأنه أن لا يستنبته إلا الآدميون، سواء نبت بنفسه أم استنبت؛ للخبر الصحيح: "إن هذا البلد حرام بحرمة الله، لا يعضد شجره، ولا ينفر صيده ولا يختلى خلاه". و (الخلى): الحشيش الرطب، (وقلعه) أي: النابت بالأولى. وخرج بـ (الرطب): اليابس، فقطعه وقلعه جائز. قال الكردي: هو على عمومه في الشجر، أمَّا الحشيش .. فيجوز قطعه لا قلعه إلا أن فسد منبته على المعتمد. ولو غرست حرمية في الحل .. بقيت حرمتها، ويجب ردها إلى بقعة حرمية ولو غير منبتها، فإن يبست بالنقل .. ضمنها، وكذا لو بقيت فيه، ولو غرس حلية في الحرم .. لم يكن لها حرمة. ولا يضمن غصن في هواء الحرم وأصله في الحل، ويضمن صيد فوقه؛ نظراً لمكانه، ويضمن غصن في الحل وأصله في الحرم، ولم يضمن صيد فوقه؛ لذلك. ولو غرس في الحل نواة شجرة حرمية .. ثبت لها حكم الأصل، أو عكسه .. لم يثبت لها حكم الحرم. ولو أدخل تراباً من الحل إلى الحرم، أو عكسه وغرس فيه .. فهل العبرة بالتراب أو محله؟ محل نظر، الأوجه: الثاني؛ إذ المغرس في الحقيقة إنما هو محل التراب. نعم؛ إن كان التراب كثيراً بحيث تثبت العروق فيه ولا تتجاوزه .. اعتبر هو لا محله.

(إلا الإذخر) -بكسر فسكون فكسر، وبالذال المعجمة- نبت طيب الرائحة، الواحدة: أذخرة، فيحل قطعاً وقلعاً ولو للبيع؛ لاستثناء الشارع له، والإطلاق يقتضي التعميم، لكن أفتى الشهاب الرملي وتبعه ولده بامتناع بيعه. (و) إلا (الشوك) قطعاً وقلعاً وإن لم يكن بالطريق، والأعصان المؤذية كالصيد المؤذي، وقيل: يحرم التعرض له، وصححه في شرح مسلم، وانتصر له بصحة النهي عن قطع الشوك بخصوصه. (و) إلا قطع وقلع (علف) بسكون اللام المصدر، وبفتحها ما يعلف به، وهو المراد هنا. (البهائم) التي عنده ولو للمستقبل إلا إن كان يتيسر أخذه كل ما أراده، كما يجوز رعي حشيش الحرم وشجره؛ لأن البهائم كانت تسير فيه في عصره صلى الله عليه وسلم ولا تسد أفواهها، بل روى الشيخان عن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فدخلت الصف وأرسلت الأتان)، ترعى ومنى من الحرم. (و) إلا (الدواء) لمريض ولو بالمستقبل لا قبل المرض، ولو بنية الاستعداد له إن تيسر أخذه كل وقت كما في "الإيعاب"، لكن جوّز (م ر) أخذه؛ ليستعمله عند المرض، وفي جواز أخذه للبيع خلاف. (و) إلا (الزرع) كحنطة وذرة وشعير والقطاني والخضراوات ولو مما ينبت بنفسه من كل ما يتغذى به كالبقل والرجلة ونحوهما .. فيجوز قطعه وقلعه والتصرف فيه، بنحو بيع، ولا فدية ولا ضمان. (ويحرم قلع الحشيش اليابس) ويضمن إذا لم يمت؛ لأنه لو لم يقلعه لنبت، فإن مات .. جاز ولا ضمان. (دون قطعه) فلا يحرم، ولا فدية فيه، ولو أخلف ما قطع من الأخضر .. فلا ضمان، بخلاف يابس الشجر، فيجوز قطعه وقلعه؛ لأنه لا يرجى نباته. تنبيه: ظاهر كلام المتن شمول الحشيش للرطب، وبه قال أبو عبيدة. لكن المشهور أنه حقيقة في اليابس، مجاز في الرطب.

ويجوز أخذ ورق من غير خبط يضر بالشجر بأن لا يكسر أغصانها ولا يمنع نموها، وقطع غصن يخلف قبل سنة كاملة مثله تقريباً ولو في محل قريب من محله، وإلا .. ضمنه. والحاصل: أن الرتب أربع: أحدها: ما لا يضمن مطلقاً، وهو: ما استثنى من الإذخر وما بعده، وكذا عود السواك على ما هو قضية "المجموع". ووجهه في "التحفة" بأنه مما يحتاج لأخذه على العموم، فسومح فيه ما لم يتسامح في غيره من الأغصان. ثانيها: ما يضمن إن لم يخلف في سنته، وهو غصن الشجر ولو عود السواك عند (م ر). ثالثها: ما لا يضمن إذا أخلف مطلقاً، وهو الحشيش الأخضر المقطوع لغير حاجة، وقلع اليابس، كما مر. رابعها: ما يضمن مطلقاً وإن أخلف من حينه، وهو الشجر الأخضر غير الإذخر، والمؤذي. ويحرم إخراج شيء من تراب الحرم المكي والمدني وما عمل منه، كالفخار وأحجاره إلى حل أو إلى حرم آخر ولو بنية رده إليه، ويجب رده إليه، وبالرد ينقطع دوام الحرمة لا عكسه لكن يكره. (ثم إن أتلف صيداً له مثل النعم) بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه، أو بحكم عدلين حيث لا نقل فيه ( .. ففيه مثله) تقريباً، لا باعتبار القيمة، بل الصورة والخلقة. (وإن لم يكن له مثل) بنقل ولا حكم ( .. ففيه قيمته) في محل الإتلاف أو التلف ووقته، بخلاف المثلي فيعتبر بقيمة الحرم. (ففي النعامة) ذكراً أو أنثى (بدنة) كذلك، ولا يجزئ عنها بقرة، ولا سبع شياه، ولا أكثر، بل لا تجزئ البقرة هنا عن شاة مما يأتي؛ لاعتبار المماثلة هنا. (وفي بقر الوحش وحماره: بقرة) في الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، ويجوز عكسه.

(وفي الظبية) وهي كبار الغزال إذا طلع قرناه، وقبل ذلك هي غزال (شاة) أي: (عنز) وهي أنثى المعز التي تم لها سنة؛ لأنها هي التي تماثل الظبية. وفي الظبي تيس ويجوز عنه عنز؛ لجواز الذكر عن الأنثى وعكسه هنا كما بعده. وفي الغزال، وهو ولد الظبي إلى طلوع قرنه، ثم هو ظبي أو ظبية عناق في أنثاه، وجدي في ذكره، أو جفر. وفي الأرنب -أي: أنثاه- عناق، وفي ذكره ذكر في سن العناق، وجاز عكسه. وفي أنثى اليربوع والوبر جفرة، وفي ذكرهما جفر، وجاز عكسه، و (العناق): أنثى المعز إذا قويت ما لم تبلغ سنة، و (الجفرة): أنثى معز بلغت أربع أشهر وفصلت عن أمها. وفي الضب وأم حُبَين جدي، وهو ولد المعز إذا رعى وقوي، فالذكر جدي، والأنثى عناق، و (أم حُبَين) -بضم الحاء وفتح الباء- يتلون بحرِّ الشمس، ويكون في الظل أخضر. (وفي الحمامة) من يمام وقمري ودُبسي -بضم الدال- وفاختة وقطا، ونحوها من كل ما عب، أي: شرب الماء جرعاً بلا مص وهدر، أي: غرد (شاة) بقضاء الصحابة، وسندهم توقيفٌ بلغهم، وإلا .. فالقياس القيمة؛ إذ لا مثل له صورة تقريباً من النعم. والراجح: أن في الصغير من الحمام: صغيراً، قَدْرُ بَدَنِة كقدر الفرخ من أمه، هذا فيما فيه نص ولو من مجتهد مع سكوت الباقين. وأمَّا ما لا نص فيه .. فيحكم بالمثل عدلان فقيهان بباب الشبه. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بقيمة .. فمثلي، أو بمثل آخر .. تخير. ويفدي الصحيح والصغير والهزيل وأضدادها بمثله ولو أعور يمين بأعور يسار، وعكسه، ويجزئ ذكر عن أنثى وعكسه. ولو أفدى الرديء نوعاً بأجود، أو المعيب بالجيد .. كان أفضل. نعم؛ لا يجزئ كبير عن صغير وعكسه؛ لفقد المماثلة. ويجب في الحامل حامل، ولا تذبح بل تقوم حاملاً بسعر مكة وقت العدول، ويتصدق بقيمتها طعاماً، أو يصوم عن كل مد يوماً، ولا يضمن جنين خرج ميتاً، ويضمن نقص أمه.

واعلم: أن قتل الصيد والجماع كبيرة، وفعل غيرهما من المحرمات صغيرة، وأنَّ دم الصيد والأشجار دم تخيير وتعديل كما قال: (ويتخير في المثلي بين ذبح مثله في الحرم) ولا يجزئ في غيره وإن تصدق به فيه (والتصدق به فيه) على مساكينه ثلاثة فأكثر، أو يملكهم جملته مذبوحاً. فإن أعطى اثنين .. غرم للثالث أقل ما يقع عليه الإسم، والقاطنون أولى ما لم يكن الغرباء أحوج. فإن لم يجد مسكيناً فيه .. أخر حتى يوجدوا، ويجوز إعطاء مساكين الحرم خارجه حيث كانوا من أهله، ومرَّ: أن الحامل لا تذبح. (وبين التصدق) على ما ذكر (بطعام) يجزئ في الفطرة (بقيمة المثل) من غالب النقد يوم الإخراج في جميع الحرم. فإن اختلفت القيمة باختلاف بقاعه .. جاز اعتبار أقلها. ولا يتعين لكل مسكين مُدٌّ، بل يجوز وفوقه ودونه وغير دم تخيير وتقدير. (وبين الصيام) في أي: محل شاء؛ إذ لا غرض لأهل الحرم في صومه فيه، لكنه فيه أفضل (بعدد الأمداد) ويكمل المنكسر؛ إذ الصوم لا يتبعض. (وفي لا مثل له، كالجراد) والطيور غير الحمام، وما ألحق بها صغاراً وكباراً (يتخير بين إخراج طعام) يجزئ فطرة على من مر (بقيمته) يوم الإتلاف أو التلف (والصيام بعدد الأمداد) ويكمل المنكسر، ويرجع في القيمة لعدلين. (ويجب في الشجرة) الحرمية (الكبيرة) عرفاً بالنسبة لنوعها (بقرة لها سنة) بل سنتان تامتان؛ إذ لا بد على المعتمد من إجزائها أضحية كغيرها من الدماء. (وفي الصغيرة) عرفاً، وهي (التي كسُبع الكبيرة) تقريباً؛ إذ الشاة كسُبع البقرة (شاة) تجزئ أضحية؛ ذلك لما روى الشافعي عن ابن الزبير، ومثله لا يقال إلا بتوقيف.

وتجب الشاة أيضاً فيما جاوز سبع الكبيرة ولم ينتهي إلى حد الكبيرة، لكن تكون فيها فوق الشاة الواجبة في سبع الكبيرة، كما اعتمده شيخ الإسلام، و (م ر) وغيرهما. وكذا (حج) في غير "التحفة"، ونظر فيه فيها، وقال: الأوجه ما اقتضاه إطلاقهم من إجزاء الشاة فيما لا تسمى كبيرة وإن ساوت ستة أسباع كبيرة؛ إذ المماثلة معتبرة في الصيد لا هنا. (ويتخير بين ذبح ذلك)، أي: البقرة والشاة المذكورتين (والتصدق بقيمته) يوم الإتلاف، كالصيد (طعاماً) نظير ما مر (والصيام بعدد الأمداد) ويكمل المنكسر. (وفي الشجرة) الحرمية المتلفة (الصغيرة جداً) بحيث لا تساوي سبع كبيرة عرفاً من نوعها (قيمتها، يتصدق بقدرها) أي: بقدر قيمتها (طعاماً، أو يصوم بعدد الأمداد) ويكمل المنكسر. فعلم مما مر: أن دماء الحج أربعة؛ وقد نظمها ابن المقري رضي الله عنه بقوله [من الرجز]: أربعةٌ دِماءُ حَجٍّ تُحْصَرُ ... أوّلُها المُرتَّبُ المُقَدَّر تَمَتُعٌ فَوْتٌ وَحَجٌّ قُرِنا ... وتركُ رَمْيٍ والمبيتُ بمنى وتركه الميقاتَ والمزدلفة ... أو لم يودِّع أو كمشي أخلفه ناذره يصوم إنْ دماً فقد ... ثلاثةً فيه وسبعاً في البلد والثان: ترتيب وتعديل ورد ... في مُحصَرٍ ووطءِ حج إن فسد إن لم يجد .. قوَّمَه ثم اشترى ... به طعاماً طُعْمَة للفقرا ثم لعَجْزٍ عدلُ ذاك صوماً ... أعني به عن كُلِّ مُدٍّ يوما والثالث: التخيير والتعديل في ... صيد، وأشجار بلا تكلُّف إن شئت فاذبح، أو فعدِّل مثل ما ... عدَّلت في قيمة ما تقدما وخيِّرَنْ وقَدِّرَنْ في الرابع ... إن شيت فاذبح أو فجد بآصع للشخص نصفٌ أو فَصُمْ ثلاثا ... تجتَثُ ما اجتَثَثْتَه اجتثاثا في الحلق والقَلْم ولبس دهن ... طيبٍ وتقبيلٍ ووطءٍ ثنِّي أو بين تحلِيلَيْ ذوي إحرام ... هذي دماء الحجِّ بالتمام

خاتمة: في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

خاتمة تسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى للنساء اتفاقاً، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ) [النساء:66] الآية، وهذا لاينقطع بموته، وفي الحديث: "من حج ولم يزرني .. فقد جفاني". والتقييد بالحج؛ لبيان الأولى أو الأغلب بدليل سقوطه من روايات. وصح خبر "من زار قبري .. وجبت له شفاعتي"، وفيه بشرى بموته مسلماً. ويستحب أن يزور المساجد النبوية في طريق المدينة، كمسجد بدر ومسجد خليص عند العقبة، ومسجد عند التنعيم عنده قبر أم المؤمنين ميمونة، ويزور الشهداء ببدر وغيرهم. وأن يكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ويزيد إذا رأى حرم المدينة؛ لما في الصلاة عليه من عظيم الثواب، سيما في هذه الأحوال، ويتطهر لدخولها وبالغسل أولى، ويتطيب. وأن يدخلها الذكر المطيق المشي ماشياً حافياً، ومن باب جبريل عليه السلام، ويقصد الروضة الشريفة، ويصلي تحية المسجد، ويشكر الله على هذه النعمة العظيمة، ثم يقصد المواجهة للزيارة مستقبلاً رأس القبر الشريف ويبعد عنه نحو أربعة أذرع، ويسلم، ثم يتأخر نحو ذراع، فيسلم على أبي بكر، ثم يتأخر قدر ذراع، فيسلم على عمر رضي الله عنهما، ثم يرجع إلى عند مواجهة رأسه صلى الله عليه وسلم، ويقرأ، ويدعو ما استطاع، ويستقبل القبلة في دعائه، لكن يميل إلى أن يكون بحيث لا يستدبر القبر الشريف. ثم يأتي الروضة فيكثر فيها من الذكر والدعاء خصوصاً الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج إلى مسجد قباء وغيره من المآثر الشريفة، ويزور البقيع وأُحُداً وغيرهما، ويبذل غاية جهده في الطاعة والأدب ما أمكنه. وإذا أراد السفر .. أتى المسجد وصلى به ركعتين سنة الخروج منه، ويدعو بما أحب، ثم يأتي القبر الشريف فيقرأ ويدعو. ومنه: اللهم لا تجعله آخر العهد برسولك صلى الله عليه وسلم، ويسر لي العود إلى الحرمين.

فصل: في الإحصار والفوات وما يذكر معهما

وساكن نحو مكة يقول: إلى نبيك، وأرزقني العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وردنا سالمين غانمين. ثم ينصرف تلقاء وجهه، وليكن خروجه من المدينة من طريق الشجرة؛ للاتباع. وفي زيارته صلى الله عليه وسلم آداب كثيرة لم نأت منها إلا بقطرة من بحر، فمن أراد ذلك .. فعليه بالمؤلفات فيها، والله أعلم. * * * (فصل) في الإحصار والفوات وما يذكر معهما. والإحصار لغة: المنع. واصطلاحاً: المنع عن إتمام أركان النسك من حج أو عمرة. فلو منع عن الرمي أو المبيت .. لم يتحلل؛ لأنه متمكن من الطواف والحلق، ويجبر الرمي والمبيت بالدم. (ويجوز للأبوين) أي: لكل منهما وإن علا ولو رقيقاً، ومن جهة الأم ومع وجود أقرب منه (منع الولد) وإن سفل (غير المكي من الإحرام بتطوع حج أو عمرة) ابتداءً ودواماً، بأن يأمره بالتحلل فيلزمه؛ إذ التطوع أولى باعتبار إذنهما فيه من فرض الكفاية؛ لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه في الجهاد: "ألك أبوان؟ " قال: نعم، قال: "استأذنتهما؟ "، قال: لا، قال: "ففيهما فجاهد". ومحله: ما لم يسافر المانع في ذلك، وما لم يقصد معه طلب علم أو نحو تجارة أو إجارة، وزاد ربحه في السفر فيهما على مؤنة سفره، وإلا .. لم يشترط إذن أحدهما إن أمن الطريق، ولم يكن أمرد يخاف عليه. أمَّا المكي .. فلا يمنعانه. قال في "الشرح" على ما بحثه الأذرعي: وإنما يمنع الأصل الفرع من نسك النفل (دون الفرض) أي: حجة الإسلام وعمرته أداءً وقضاءً، ومثلهما النذر، فليس له منعه منه ولو فقيراً؛ لأنه إذا تكلفه .. أجزأه عن فرضه. وندب استئذان أصل فيه، فإن أذن، وإلا .. أخَّر ما لم يتضيق كالقضاء.

نعم؛ للأصل منع فرعه من الفرض لنحو خوف طريق، ولغرض شرعي كسفره مع غير مأمونين أو ماشياً وهو لا يطيقه، وله منعه من السفر حتى يترك له نفقة أو منفقاً، حيث وجبت مؤنته عليه، وكذا الزوجة يلزمه لها ذلك، أو طلاقها عند (حج). وقال (م ر) في "شرح الإيضاح": هذا فيما بينه وبين الله، أمَّا الحاكم .. فلا يجبره عليه. (و) الثاني من الموانع: الزوجية فـ (للزوج منع الزوجة) ولو أمة وإن أذن لها سيدها (من) النسك (الفرض والمسنون). أمَّا المسنون .. فظاهر، إذ به يفوت تمتعه الواجب عليها ومن ثم أثمت بذلك. وأمَّا الفرض .. فلأن حقه فوري، والنسك على التراخي باعتبار أصلهما. فلا نظر لتضيقه عليها بنحو خوف عضب. قال في "التحفة": على ما اقتضاه إطلاقهم. واعتمد (م ر) وغيره: أنه لا يملك حينئذٍ تحليلها. ولا لامتناع تمتعه بنحو إحرامه أو صغرها، وشمل الفرض هنا النذر ما لم يكن قبل النكاح أو بعده بإذنه، والقضاء الذي لزمها لا بسبب من جهته. ومحل منعه النفل والفرض إن لم يأذن، فإن أحرمت بإذنه .. امتنع تحليلها، ولو سافرت معه بإذنه وأحرمت بعد إحرامه وكان إحرامها يفرغ مع إحرامه .. لم يكن له منعها؛ إذ لم يفت به تمتع عليه، ولو حبست نفسها لقبض المهر .. لم يكن له منعها، وتحليله لها بأن يأمرها به كما في السيد، فإن أبت .. وطئها، وعليها الإثم، لكن ليس لها أن تتحلل بغير إذنه، كما أنه ليس له وطؤها إلا بعد امتناعها من التحلل. قال في "التحفة": ولو قيل بجوازه حيث حرم الإحرام، كأن كان بغير إذنه .. لم يبعد، ومرَّ أن لا كفارة عليها عند (م ر) مطلقاً، وعند (حج) فيه تفصيل مرَّ أيضاً. ويسن للزوج أن يحج بزوجته؛ للأمر به في الصحيحين، وللزوجة أن لا تحرم بفرض إلا بإذنه. أمَّا النفل .. فيحرم بغير إذنه، وإنما حرم الإحرام على القن بغير إذن سيده مطلقاً؛ لأنه لا يجب عليه، ولا يقع منه إلاَّ نفلاً، بخلاف الحرة يقع عنها فرضاً، فبإحرامها ..

انتقلت من فرض طاعة الزوج إلى فرض الحج. (و) الثالث: الملك، فـ (للسيد) أي: مستحق المنفعة كموصى له بها (منع رقيقه) ولو مكاتباً وأم ولد ومبعضاً، حيث لا مهايأة، أو أحرم في نوبة السيد أو في نوبة نفسه والمدة لا تسع نسكاً. (من ذلك) أي: النسك (فرضاً) كان كقضاء ونذر (أو سنة) كغيره إن لم يأذن له مالك المنفعة في الإحرام ولا في المضي، أو بعد الإذن وقبل دخول الوقت الذي عينه، وإلا .. فيمتنع تحليله وإن أفسده، لكن لا يلزمه أن يأذن له في القضاء؛ لأنه لم يأذن له في الإفساد. (فإن أحرموا) أي: الفرع والزوجة والقن (بغير إذنهم) أي: الأصل والزوج والسيد .. جاز لهم تحليلهم بأن يأمروهم به، فيلزمهم حينئذٍ التحلل. فإن امتنعت الزوجة والأمة مع تمكنهما منه .. فللزوج والسيد وطؤهما وسائر التمتعات، والإثم والكفارة عليهما على ما مرَّ، بل يحرم على القن الإحرام بغير إذن سيده، وتلزمه المبادرة بعد الأمر بالتحلل. والأولى لسيده أن يأذن له في إتمام نسكه، ولو لم يمتثل أمره بالتحلل .. فله أن يفعل به محرمات الإحرام، والإثم على القن فقط، وله أن يأمره بالذبح، ومذبوحه حلال بالنسبة لغيره؛ لأنهم نزَّلوا امتناعه منزلة تحلله حتى أبيح للسيد إجباره على فعل المحرمات كما في "التحفة"، لكن اعتمد (م ر): حرمة ذبيحته. وليس لفرع وزوجة تحلل بغير إذن أصل وزوج. ويفرق بأن العبد منافعه مستغرقة للسيد مع عدم مخاطبته بالنسك بخلافهما، فكان إقدامه على الإحرام أشد، وكان القياس وجوب تحلله؛ ليخرج من المعصية، لكن لشبهة التلبس بالنسك مع احتمال أن يؤذن له فيه أبيح له البقاء إلى أن يأمره به سيده. وإذا أمروهم بالتحلل .. (تحللوا) وجوباً بما يأتي. الرابع: الدين، فلدائن منع مدينه من السفر ولو ميلاً، ويحرم عليه السفر بلا إذنه ولو لفرض تضيق عليه ما لم يعسر أو يتأجل الدين وإن لم يبق من الأجل إلا لحظة إن بقي الأجل إلى مفارقته محل الإقامة؛ إذ لا يسمى مسافراً إلا حينئذٍ. الخامس: الحصر العام بأن يمنع المحرم من إتمام أركان نسكه من جميع الطرق دون

الرجوع أو مع الرجوع، سواء كان العدو مسلماً أم كافراً وإن أمكن المضي بقتال أو بذل مال؛ إذ لا يجب احتمال الظلم، فحينئذٍ يجوز له التحلل بما يأتي؛ لآية (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) [البقرة:196]، أي: وأردتم التحلل؛ إذ مجرد الإحصار لا يوجب هدياً. نعم؛ الأولى الصبر لمن رجا زوال حصره قبل فوات الوقت، بل لو ظن زواله قبل فوات الحج وقبل مضي ثلاثة أيام في العمرة .. امتنع تحلله. أمَّا إذا أحصر من بعض الطرق فقط .. فيجب سلوك التي لم يحصر منها ولو بحراً غلبت سلامته ووجدت شروط الاستطاعة فيه وإن علم الفوات؛ لأن سبب التحلل الحصر ولم يوجد. فإذا وصل وقد فات .. تحلَّلَ بما يأتي في الفوات. وأمَّا إذا خشي فوات الحج لو صبر .. فالأولى التحلل؛ لئلا يدخل في ورطة لزوم القضاء. وبما قررناه علم: أن التحلل يكون تارةً ممتنعاً، وتارة تركه أولى، وتارة تركه مباحاً، وهو الأصل فيه. أمَّا المحصر عن الواجبات كمبيت ورمي .. فلا يتحلل لها، ويجبرها بدم كم قاله (حج) و (م ر). وقال الزيادي وغيره: يسقط دم المبيت بالحصر. السادس: الحصر الخاص بنحو حبس ظلماً، أو بدين وهو معسر، فله التحلل به، أمَّا حبسه بحق .. فلا يتحلل به. وإذا أراد الفرع والزوجة والمدين التحلل .. فليتحللوا (هم والمحصر) بقسميه (عن الحج، و) كذا عن (العمرة بذبح ما يجزئ في الأضحية) من شاة أو سبع بدنة أو بقرة وإن شرط التحلل بلا دم؛ للآية السابقة. وفارق ما يأتي في نحو المرض بأنَّ هذا لا يتوقف على شرط، فلم يؤثر فيه الشرط، بخلاف نحو المرض فإنه لا يبيح التحلل، وإنما يبيحه شرطه به، فلذا توقف التحلل به عليه، وكان على حسب ما شرطه من الدم وعدمه، ويتعين ذبح ذلك ككل ما لزمه من الدماء والإطعام وما معه من هدي تطوّع، حيث أحصر ولو في الحل، وإن تمكن من طرف الحرم.

نعم؛ يسن بعثه إلى ما يقدر عليه من مكة أو الحرم، وواضح أنه لا يحل حتى يغلب على ظنه ذبحه ثمَّ بخبر من يقع في قلبه صدقه، لا مجرد طول الزمن؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح هو وأصحابه بالحديبية. ويفرقه على مساكين ذلك المحل ثم مساكين أقرب محل إليه؛ لأنه صار في حقه كالحرم، ومن ثم حَرُم نقله من حل إلى حل لا حَرَم. قال الكردي: (المراد بمحل الإحصار: المحل الذي يمتنع القصر فيه لو كان مقيماً، ولو ذبحه بمحل لا فقراء به .. جاز النقل، ومتى أمكن الذبح فيه ونقل لحمه إليهم بلا تغير .. تعين، وإلا .. نقله إليهم حياً، ولو أحضره في طرف الحرم .. لم يجز له ذلك في الحل، فإن ذبح ظاناً وجود الفقراء فتبين فقدهم، أو عدموا بعد الذبح .. لم ينقل، وتحلل وتصرف في اللحم عند خوف فساده، ويبقى في ذمته إلى وجود المستحقين، فيفرق لحماً بلا ذبح، ولا يكفيه تفرقته قديداً، ولو ذبح عالماً بالفقد .. لم يجزه الذبح) اهـ (ثم) بعد الذبح (الحلق) أي: إزالة ثلاث شعرات فأكثر على ما مر (مع اقتران نية التحلل بهما)؛ لأنهما يكونان لغير تحلل، فاحتاجا لنية مقارنة لهما تخصصهما به. وإنما اشترط الترتيب هنا بخلافه في تحلل الحج؛ لأن زمن الحج يطول، فوسع فيه بأن جعل له تحللان، وبعدم الترتيب بخلافه هنا، فليس له إلا تحلل واحد، فاشترط الترتيب؛ لعدم المشقة فيه كالعمرة. (ومن عجز عن الذبح) بالطريق السابق في دم التمتع ( .. أطعم) مع الحلق والنية حيث عذر؛ لأنه أقرب إلى الحيوان من الصوم؛ لكونهما مالاً (بقيمة الشاة) طعاماً. (فإن عجز) عن الإطعام ( .. صام بعدد الأمداد) والمنكسر، ولا يتعين للصوم محل، ولا يتوقف عليه التحلل، بخلاف الذبح والإطعام كما مر. (والرقيق) إنما (يتحلل بالنية مع الحلق فقط). قال في "الإيضاح": (وكل دم لزمه -أي: القن- لمحذور أو تمتع أو قران أو فوات أو إحصار لا يجب على سيده منه شيء، سواء أحرم بإذنه أم لا، وواجبه الصوم، وللسيد

منعه منه، أي: لغرض كضعف به -إلا صوم تمتع أو قران أذن لهما فيهما) اهـ قال في "حاشيته": (ومثلهما دم إحصار لإذنه في سببه، وله الذبح عنه بعد موته؛ لحصول اليأس من تكفيره، وتمليكه بعد موته ليس بشرط، ولذا لو تصدق عن ميت .. جاز لا في حياته؛ لتضمنه تمليكه وهو ممتنع) اهـ زاد في "النهاية": (فإن عتق الرقيق وقدر على الدم .. لزمه؛ اعتباراً بحالة الأداء، والمكاتب يكفر بإذن سيده؛ لأنه يملك. والمبعض إن ارتكب محظوراً في نوبته .. فعليه دم، وإلا .. فالصوم. والحر الذي لم يجد دماً يتحلل بالحلق مع النية إن كان برأسه شعر، وإلا .. فبالنية فقط، وتثبت الشاة في ذمته يخرجها متى قدر عليها أو على بدلها) اهـ وسيأتي في الضحية أنَّ له أن يشرك غيره في ثواب ضحيته، وهو ينافي ما مر إلا أن يفرق. (ولا قضاء عليهم) أي: الستة المذكورين من حيث الإحصار إذا تحللوا وإن اقترن به فوات؛ إذ لم يرد الأمر به، وقد أحصر عام الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر منهم في العام القابل إلا نحو نصفهم، ولم يؤمر البقية بالقضاء. ولا يرد: أنَّ المحصر يلزمه القضاء إذا أخر التحلل عن الحج مع إمكانه من غير رجاء أمن حتى فاته، أو فاته ثم أحصر، أو زال الحصر والوقت باق ولم يتحلل، ومضى في نسكه ففاته، أو سلك طريقاً مساوياً للذي أحصر منه ففاته الوقوف؛ لأن القضاء في جميع ذلك للفوات لا للحصر. وخرج بـ (من حيث الإحصار): لزوم القضاء لغيره، كأن يكون ما حصر فيه فرضاً مستقراً عليه، كحجة إسلام بعد أولى سني الإمكان، وكنذر قدر عليه قبل عام الحصر، أو معين فيه وقضاء. فهذه فروض مستقرة قبل الحصر، فتبقى بعده على ما كانت قبله. ولو أحصر بعد الوقوف وتحلل ثم زال حصره .. لم يجز أن يحرم ويبني، كما في الصلاة والصوم. (ومن شرط التحلل) من إحرامه بأن قارن نية شرطه -الذي تلفظ به عقب نية الإحرام- نية الإحرام بأن وجدت قبل تمام نية الإحرام.

(لفراغ زاد أو مرض) يبيح ترك الجمعة، كما في "التحفة"، أو تلحقه به مشقة لا تحتمل عادة كما في "النهاية"، أو تبيح التيمم كما في "الفتح" (أو غير ذلك) كضلال طريق وخطأ في العدد وفوات. ( .. جاز)؛ للخبر الصحيح: "حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني". ومن العذر: وجود من يستأجره، والحيض وغيره من كل غرض مباح مقصود، فإن عين شيئاً .. لم يتحلل لغيره، وإن قال: إن عرض عذر .. جاز تحلله لكل غرض مباح مقصود، ثم إن شرط التحلل بهدي .. لزمه، وإلا .. كان تحلله بالنية مع الحلق، ولا يلزمه الدم. ولو قال: إن مرضت فأنا حلال .. صار حلالاً بوجود المرض من غير حلق ولا نية ولو بعد الوقوف، فإن أراد المضي في النسك .. فبإحرام جديد. وله شرط انقلاب حجه عمرة عند نحو المرض، وتجزئه حينئذٍ عن عمرة الإسلام. فإن قال: فلي أن أقلبه عمرة .. توقف قلبه على أن ينوي قلبه عمرة، فإن وجد العذر من غير شرط التحلل به .. لم يتحلل به، بل يصبر حتى يزول عذره، ثم إن كان نسكه عمرة .. أتمها، أو حجاً وبقي وقته .. أتمه، وإلا .. تحلل بعمل عمرة، وكان فواتاً؛ لأن المرض لا يزول بالتحلل، ولا يمنع الإتمام. (ويتحلل من فاته الوقوف) بعرفة بعذر أو غيره، وفواته بطلوع فجر يوم النحر، فلا يجوز التحلل قبله، وإن علم عدم إدراكه، وبعده يحرم عليه استدامة إحرامه؛ لئلا يصير محرماً بالحج في غير وقته، ولو استمر محرماً إلى العام القابل مع تحمله الإثم .. لم يجزئ له؛ لأن إحرام سنة لايصلح لسنة أخرى. قال في "التحفة": ولم نعلم أحداً جوزه إلا رواية عن مالك. ثم إن لم يمكنه أن يتحلل بعمل عمرة .. تحلل بما مر في المحصر. وإن أمكنه .. وجب وله تحللان، ويحصلان (بطواف وسعي) إن لم يقدمه بعد طواف القدوم (وحلق) بنية التحلل وإن لم ينو العمرة، ولا تجزئه عن عمرة الإسلام. ويحصل الأول بواحد منهما، والثاني بفعل الثاني منهما، وسقط الرمي كالمبيت. وإنما لم يجزه عن عمرة الإسلام؛ لأن إحرامه انعقد بالحج، فلا ينصرف لغيره،

وقيل: يجزئه عنها؛ وذلك لما في الموطأ: (أن هبار بن الأسود فاته الوقوف، فأمره عمر رضي الله عنه بالطواف والسعي، وبنحر ما معه من الهدي وبالحلق، والحج والهدي في القابل) ولم ينكره أحد. (ويقضي) -إن لم ينشأ الفوات من الحصر- حجه فوراً، سواء كان فرضاً أو تطوعاً عند (م ر)؛ لأن الفوات لا يخلو عن تقصير، ولذا لم يفرق فيه بين المعذور وغيره، بخلاف الإحصار. واعتمد (حج): القضاء فوراً في التطوع؛ لأنه أوجبه على نفسه بالشروع فيه، فتضيق عليه. وأمَّا الفرض .. فلم يغير الشرع حكمه، بل يبقى على ما كان قبل الإحرام. ويراعي في إحرام القضاء ما كان عليه إحرامه في الأداء، فلو أحرم به من الحليفة، ففاته ثم أتى على طريق قرن في القضاء .. لزمه أن يحرم من مثل مسافة الحليفة. أمَّا لو نشأ الفوات من الحصر، كأن أحصر فسلك طريقاً آخر ففاته؛ لصعوبته أو طوله .. لم يقض، بل له حكم المحصر. (وعليه) أي: من فاته الوقوف ولو بعذر (دم كدم التمتع) فيكون دم ترتيب وتقدير (ويذبحه) وجوباً (في حجة القضاء) بعد الإحرام بها، ويجوز بعد دخول وقت الإحرام بالقضاء. كما أن دم التمتع وقت جوازه الفراغ من العمرة، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحج، ولا يجوز صوم الثلاث إلا بعد الإحرم بالحج في التمتع، وبالقضاء في الفوات. قال الكردي: (ومحل الذبح -أي: وجوبه في حجة القضاء- في حجة التطوّع عند (حج)، أمَّا الفرض .. فلا قضاء عنده فيه، وقد نبه على ذلك في "الإيعاب"، وعلى هذا: فانظر متى يكون الذبح؟) اهـ واعلم: أن كل دم أو بدله وجب في نسك يجب في عامه إلا دم الفوات .. فيجب في نسك القضاء كما مر. (وكل دم واجب) في نسك (يجب ذبحه) وتفرقته أو تفرقة بدله من الطعام (في الحرم) على مساكينه.

وتجب النية عند الصرف، كما يأتي (إلا دم الإحصار) وسائر ما معه من الدماء، كما مر .. فحيث أحصر. (والأفضل) لذبح ما وجب أو ندب (في الحج) ولو لقارن ومتمتع (منى، وفي العمرة) المنفردة عن حج (المروة)؛ لأنهما محل تحللهما، وكل دم وجب في النسك أو ندب لترك سنة متأكدة كركعتي الطواف. والجمع بين الليل والنهار بعرفة، لا يختص ذبحه بوقت، فيذبحه (في أي وقت شاء)؛ إذ الأصل عدم التأقيت، ولم يرد ما يخالفه، لكن يسن ذبحه في وقت الأضحية. نعم؛ إن عصى بسببه .. لزمته المبادرة إليه؛ للخروج عن المعصية، كما في الكفارة. (ويصرفه) أي: الدم أو بدله المالي جميعه (إلى) ثلاثة أو أكثر من (مساكينه) -أي: الحرم- الشاملين للفقراء؛ لأن القصد من الذبح بالحرم: إعظامه بتفرقة اللحم فيه، لا مجرد الذبح؛ لأنه تلويث له، وهو مكروه كما في "الكفاية". والمستوطنون أولى إلا إن كان الغرباء أحوج، ولا يجب استيعابهم وإن انحصروا، ويجوز أن يدفع لكل منهم مُدّاً أو أقل أو أكثر إلا في دم التخيير والتقدير كما مر. فإن عدموا من الحرم .. أخَّرَ الواجب المالي حتى يجدهم، ولا ينقل كالزكاة؛ إذ لا نص فيها صريح بتخصيص البلد، وأنما فيها أحاديث ظاهرها ذلك. بخلاف ما هنا ففيه الآية، وهي (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95] والحديث وهو "منى كلها منحر"، وخبر أبي داوود: "كل فجاج مكة منحر" وذلك صريح في التخصيص. أمَّا الواجب البدني، وهو الصوم .. فيصومه حيث شاء، وكذا الإطعام الذي هو بدل الصوم إذا كفر عنه بالإطعام. ولو سرق المذبوح في الحرم أو غصب ولو بغير تقصير وإن كان السارق له أو الغاصب من مساكين الحرم سواء نوى الدفع اليهم أم لا .. ذبح بدله، وهو أولى، أو اشترى بقيمته لحماً وتصدق به عليهم؛ لأن الذبح قد وجد، وينبغي أن يشتري غير اللحم أيضاً ككبد،

وإذا ذبح بدله .. أجزأ ما يجزئ أضحية وإن كان أقل من المسروق كما في "الإيعاب"، وتجب النية عند التفرقة أو العزل أو الذبح. قال في "التحفة": (وظاهر كلامهم هنا: أن الذبح لا تجب النية عنده، وهو مشكل بالأضحية ونحوها إلا أن يفرق بأن القصد هنا إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه كما مر، فوجب اقترانها بالمقصود دون وسيلته، وثَمَّ إراقة الدم؛ لكونها فداء عن النفس، ولا يكون كذلك إلا إن قارنت نية القربة ذبحها فتأمله) اهـ ودم غير الواجب لأجل النسك من هدي تطوّع أو نذر، كدم الجبران في المكان والأفضلية، فيختص بالحرم، والأفضل في منى لحاج، وفي المروة لمعتمر. وأمَّا وقته .. فوقت الأضحية حيث لم يعين في نذره وقتاً، فلو أخره عن أيام التشريق .. فات إن كان تطوعاً، ووجب ذبحه قضاءً، وصرفه لمساكين الحرم إن كان واجباً، وإن عين في نذره غير وقت الأضحية .. تعين كما في "التحفة". وقال (م ر): لم يتعين؛ إذ ليس في تعيين اليوم قربة. وأمَّا ما ساقه الحلال .. فلا يختص بزمن كدم الجبرانات، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

باب الأضحية

(باب الأضحية) (هي) -بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء وتخفيفها- ما يذبح في الزمن الآتي؛ تقرباً إلى الله تعالى. والأصل فيها قبل الإجماع: الكتاب والسنة، ومن ذلك (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2]، أي: صلِّ العيد وانحر النسك، وخبر مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين)، وخبر "ما عمل ابن آدم يوم النحر من عمل أحب إلى الله من إراقة الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم يقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً"، وخبر "عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم". ومذهبنا أنها (سنة) في حقنا (مؤكدة) ولو لمن بمنى وإن أهدى؛ لخبر الترمذي: "أمرت بالنحر، وهو سنة لكم" وغيره. ويكره لمن تسن له تركها؛ للخلاف في وجوبها، ومن ثم كانت أفضل من صدقة التطوّع. وإنما تسن لحر أو مبعض مسلم رشيد، نعم؛ لأصل قادر بأن ملك زائداً عما يحتاجه يوم العيد وليلته وأيام التشريق ما يحصل به الأضحية كما في (بج)، تضحية عن فرعه من مال نفسه. ثم هي إن تعدد أهل البيت سنة كفاية. وتجزئ من رشيد منهم ولو غير من تلزمه النفقة كما في "التحفة" وغيرها، وإلا .. فسنة عين. وفي "التحفة": يحتمل أن المراد بأهل البيت: أقاربه الرجال والنساء، كما قالوه في الوقف على أهل بيته، ويوافقه ما مر أن أهل البيت إن تعددوا .. كانت سنة كفاية، وإلا .. فسنة عين. فمعنى كونها سنة كفاية مع كونها تسن لكل منهم: سقوط الطلب بفعل الغير لها، لا حصول الثواب لمن لم يفعل.

وفي تصريحهم بندبها لكل واحد من أهل البيت ما يمنع أن المراد بهم المحاجير؛ لعدم توجه الطلب إليهم. ويحتمل أن المراد بهم ما يجمعهم نفقة منفق واحد ولو تبرعاً وفرق بين ما هنا والوقف. وفي (م ر) أهل البيت: من يلزم نفقتهم وإن تعددت البيوت، وأنه لو أشرك غيره في ثوابها .. جاز. قال (ع ش): ولو بعد نيته التضحية لنفسه. وفي "التحفة": وهو ظاهر في الميت؛ قياساً على التصدق عنه. و (لا تجب) الأضحية (إلا بالنذر) كسائر القرب، كـ (لله عليَّ)، أو (عليَّ أن أضحي بهذه أو بشاة)، أو (إن ملكت شاة .. فعليَّ أن أضحي بها)، بخلاف: (إن ملكت هذه .. فعلي أن أضحي بها)؛ لأن المعين لا يثبت في الذمة. (وبقوله: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية")؛ لزوال ملكه عنها بمجرد التعيين، كما لو نذر التصدق بمال عينه، ولزمه ذبحها في وقتها أداء. وإنما لم يزل ملكه عن قِنًّ نَذَرَ أن يعتقه إلا بإعتاقه وإن لزمه؛ لأن الملك هنا ينتقل للمساكين، وثَمَّ لا ينتقل، بل ينفك عنه اختصاص الآدميين. وإنما لم يجب الفور في أصل النذور والكفارات؛ لأنها مرسلة في الذمة وما هنا في عين، وهي لا تقبل التأخير كما لا تقبل التأجيل. وألحق به ما في الذمة، كعليَّ أن أضحي بشاة؛ لأن الغالب هنا التعيين. وخرج بقوله: (هذه أضحية) نية ذلك بلا لفظ فلغو، ولا يحتاج مع قوله: هذه أضحية لنية، بل لا عبرة بنية خلافه؛ لأنه صريح. فما يقع في العامة من قولهم: (هذه أضحية) جاهلين ما يترتب على ذلك، بل وإن قصدوا الإخبار .. تصير به منذورة كما في (حج) و (م ر). لكن قال السيد عمر البصري: محله ما لم يقصد الإخبار، وإلا .. لم تتعين وفي "الأصل" زيادة بسط هنا، ولو زال وقت المنذورة .. لزمه ذبحها قضاء، وتصرف

مصرفها، فإن تلفت أو تعيبت .. فلا شيء عليه إن لم يفرط ولم يؤخرها عن وقتها بلا عذر، أو أتلفها أو قصر .. ضمنها بالأكثر من قيمتها يوم تلفها، ومن مثلها يوم النحر، ولزمه إذا لزمته القيمة أن يشتري بها مثلها جنساً ونوعاً وسِنّاً. ولو نذر التضحية بمعيبة .. لزمه ذبحها وصرفها مصرف الأضحية، ولا تجزئه أضحية، بخلاف ما لو نذر سليمة ثم تعيبت .. فتصح بها، وتثبت لها أحكام التضحية. (ولا يجزئ) في الأضحية (إلا الإِبل والبقر) الأهلية (والغنم)؛ لأن التضحية بغيرها لم تنقل. لكن قال -حافظ عصره- ابن حجر: يعكر عليه ما ذكره السهيلي عن أسماء، قالت: (ضحيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل)، وعن أبي هريرة: (أنه ضحى بخيل). وقال في "التحفة": للاتباع، وكالزكاة، فلا يجزئ غيرها ولا متولد بينها وبين غيرها، بخلاف متولد بين نوعين منها على الأوجه، فيعتبر سنه بأعلاهما كسنتين في متولد بين ضأن ومعز أو بقر، ولا يجزئ إلا عن واحدٍ وإن كان بصورة البقر. وكالأضحية الهدي، والعقيقة، وجزاء الصيد. (وأفضلها:) للواحد عند الانفراد، فلا ينافي أنَّ سبع شياه أفضل من البدنة. (بدنة، ثم بقرة، ثم ضائنة، ثم عنز)؛ لأن كلاً أكثر لحماً مما بعده، ثم شرك من بدنة، ثم من بقرة، ولا تجزئ شاتان لاثنين أضحية عنهما. (وسبع شياه) من الضأن أفضل من سبع من المعز. وسبع من المعز (أفضل من البدنة) والبقرة، وإن كان كل منهما أكثر لحماً؛ لطيب لحم الشياه مع تعدد إراقة الدم، بخلاف دون السبع. فالبدنة أفضل منه، وكثرة الثمن أفضل من كثرة العدد، فسمينة أفضل من هزيلتين وإن كانتا ذكرين، وبلون أفضل، وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم. (وأفضلها:) من حيث اللون (البيضاء، ثم الصفراء، ثم العفراء) وهي ما لا يصفو بياضها.

(ثم البلقاء) وهي ما بعضها أبيض وبعضها أسود (ثم السوداء، ثم احمراء). والمعتمد: تقديم الحمراء على البلقاء. والفضل في ذلك، قيل: للتعبد، وقيل: لحسن المنظر، وقيل: لطيب اللحم، وورد: "لدم عفراء أحب إلى الله من سوداوين". والذكر ولو بلون مفضول أفضل من الأنثى ولو بلون فاضل إن لم يكثر نزوانه، إلا .. فأنثى لم تلد أفضل؛ لأنها أطيب وأرطب لحماً منه، فإن ولدت .. فالذكر أفضل منها مطلقاً. وما جمع ذكورة وسمناً وبياضاً أفضل مطلقاً، ثم ما جمع ثنتين، ويظهر عند تعارضهما تقديم السمن، فالذكورة، قاله (حج). وظاهره: أنَّ ما فيه بياض وذكورة أفضل من سمينة خلت عنهما. وقد ينافيه ما مرَّ من أن سمينه أفضل من هزيلتين، وخصي أفضل من ذكر ينزو. (وشرطها من الإبل: أن يكون لها خمس سنين تامة، ومن البقر والمعز) أن تبلغ (سنتين تامتين، ومن الضأن) أن تبلغ (سنة تامة) أو تجذع، أي: يسقط سنها ولو قبل السنة كالزكاة في جميع ذلك. لكن في "مسلم": "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم .. فاذبحوا جذعة من الضأن"، وتأوَّله الجمهور بحمله على الندب، ونظر فيه في "التحفة"، فالتي لها سنة مقدمة ولو ندباً على الجذعة. ومحل تقديم الضأن على المعز: إن استويا. (و) شرطها أيضاً: حيث لم يلتزمها ناقصة فقد عيب ينقص لحماً حالاً، كقطع فلقة كبيرة مطلقاً، أو صغيرة من نحو أذن، كما يأتي. أو مآلاً كـ (أن لا تكون جرباء وإن قل) الجرب أو رجي زواله؛ لأنه يفسد اللحم والودك وينقص القيمة. وحذف في "التحفة" نقص القيمة؛ إذ العيب هنا ما ينقص اللحم لا القيمة، وألحق به الشلل والقروح والبثور.

(ولا شديدة العرج) بأن تسبقها الماشية للمرعى الطيب، ومثله بالأَوْلى كسر بعض الأعضاء. (والعجفاء) وهي التي ذهب مخها من الهزال، بحيث لا يرغب في مثلها غالباً؛ لما صح: "أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسيرة". وفي رواية: "والعجفاء التي لا تنقى" من: (النقي) -بكسر النون وسكون القاف- وهو المخ. (ولا مجنونة) أي: ثولاء -بفتح المثلثة- إذ حقيقة الجنون: ذهاب العقل ولا عقل لها؛ للنهي عنها، ولأنها تترك الإكثار من الرعي فتهزل. وفي "القاموس" (الثول): استرخاء أعضاء الشاة خاصة، وكالجنون يصيبها فلا تتبع الغنم. (ولا عمياء ولا عوراء) وإن بقيت الحدقة، وتجزئ عمشاء وعشواء، وهي: التي لا تبصر ليلاً، ومكوية. (ولا مريضة مرضاً يفسد لحمها) أي: يوجد هزالة، أمَّا اليسير من غير الجرب .. فلا يضر، وما ذكر هو ما ينقص لحمها مآلاً؛ لأنها ينقص لحمها به. (و) أمَّا ما ينقصه حالاً .. فهو (أن لا يبين شيء من أذنها وإن قل) ذلك المبان على الأصح في "الروضة"، وعبارتها: ولا تجزئ مقطوعة الأذن، فإن قطع بعضها ولم يبن بل بقي متدلياً .. لم يمنع على الأصح. وقال القفال: يمنع وإن أبين، فإن كان كثيراً بالإضافة إلى الأذن .. منع قطعاً، وإن كان يسيراً .. منع أيضاً على الأصح؛ لفوات جزء مأكول، وضبط الإمام الكثير بما يلوح من بعد، وإلا .. فيسير) اهـ ولا يضر قطع بعضها من غير إبانة وشقها وثقبها من غير أن يذهب منها شيء، ولا فقد قرن وكسره.

(أو) من (لسانها أو ضرعها أو أليتها) وإن قل، بأن لم يلح من بعد؛ لنقص جزء مأكول، وللأمر في خبر الترمذي باستشراف العين والأذن، وتجزئ مخلوقة بلا ألية ولا ضرع؛ إذ الذكر بلا ضرع والمعز بلا ألية، بخلاف فاقدة الأذن؛ لأنها عضو لازم غالباً. وألحق الذنب بالألية، لكن اعترض بأنه كالأذن، بل فقده أندر. ورجح في "التحفة": أنه لا يضر قطع شيء قليل من الألية؛ لتكبر. ووجهه (ع ش): بأن الألية وإن صغرت هي كبيرة بالنسبة للأذن، وقطع اليسير من عضو كبير لا يضر، ولو شك فيما قطع أهو كثير أم يسير؟ لم يضر. (و) شرطها أيضاً: أن (لا) يبين (شيء ظاهر من) عضو كبير، نحو (فخذها) بخلاف غير الظاهر، وهو: ما لا يلوح من بعد؛ لأنه بالنسبة إليه غير بَيِّن. (وأن لا تذهب جميع أسنانها) وإن لم تؤثر فيها نقصاً، بخلاف ذاهبة أكثرها إن لم يؤثر نقصاً في الاعتلاف. قال (سم): لا يضر فاقدة اسنان خلقة، وكأن الفرق أن فقدها بعد الوجود مؤثر، بخلاف فقده خلقة. ولا يجوز التضحية بحامل على المعتمد؛ لأن الحمل ينقص لحمها، وزيادة اللحم بالجنين لا يجبر عيباً كعرجاء سمينة، وتجزئ قريبة عهد بالولادة كما في "التحفة". (وأن ينوي التضحية بها)؛ لأنها عبادة، وكونها (عند الذبح)؛ لأن الأصل اقترانها بأوّل الفعل (أو قبله) وإن لم يستحضرها عنده. نعم؛ المعينة ابتداء بنذر لا تجب لها نية أصلاً؛ اكتفاء بالنذر عن النية، لخروجها عن ملكه. والمعينة عن نذر في ذمته أو بالجعل تحتاج لنية عند الذبح، وتجوز مقارنتها للجعل أو الإفراز، أو لتعيين ما يضحى من واجبة أو مندوبة. وفرق بين المنذورة والمجعولة؛ بأن الجعل فيه خلاف في لزومه، فاحتاج لنية، ويجوز أن يُوكِّل مسلماً مميزاً في النية والذبح، أو كافراً في الذبح فقط. وكالأضحية سائر الدماء.

ولا يضحي أحد عن غيره بلا إذنه في الحي، وبلا إيصائه في الميت، فإن فعل ولو جاهلاً .. لم يقع عنه، ولا عن المباشر. وفي "التحفة": (ومرَّ أن للأصل التضحية عن موليه، وعليه فلا يقدر انتقال الملك للمولى، أي: كالعقيقة عنه؛ إذ لو انتقلت إليه .. لامتنع التصدق بها كسائر أمواله. ثم قال: وللولي إطعام المولي منها) اهـ وإنما جاز وفاء دين الغير حياً أو ميتاً بغير إذنه لا التضحية عنه؛ لأنها عبادة، والأصل منعها عن الغير إلا لدليل، بخلاف وفاء الدين. ويفرق بينها وبين الصدقة بأنها تشبه الفداء عن النفس، فتوقفت على الإذن، بخلاف الصدقة، ومن ثم لم يفعلها عنه وارث ولا غيره وإن وجبت. بخلاف نحو حج وزكاة وكفارة فلا فداء فيها، فأشبهت الديون. ولا تضحية لرقيق بسائر أنواعه؛ لعدم صحة تبرعه في المكاتب، ولعدم إمكان ملك غيره، وصحتها من المبعض، إنما هي بما فيه من الحرية. نعم؛ إن أذن السيد فيها للمكاتب .. صحت منه، ووقعت عنه؛ لأنه يملك، وفيما لو أذن السيد لقنه أن يضحي عن نفسه كلام في "الأصل". ولو قال لأجنبي: ضحِّ عني، فضحى عنه .. صح، وكان ثمنها قرضاً. وقوله: ضحِّ عني متضمن لاشترائها له وذبحها عنه بالنية، كما لو قال: اشتر لي كذا، ولم يعطه شيئاً .. فاشتراه. (ووقت التضحية) يدخل (بعد طلوع الشمس يوم النحر، و) بعد (مضي ركعتين وخطبتين خفيفات) بأن يمضي من الطلوع أقل ما يجزئ من ذلك وإن لم يخرج وقت الكراهة ولم يذبح الإمام. فلو ذبح قبل ذلك .. لم يجز، وكان شاة لحم لخبر الصحيحين: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل ذلك .. فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك .. فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء". نعم؛ مرَّ: أنهم لو وقفوا في العاشر .. حسبت الأيام للذبح على الوقوف. والأفضل: تأخير ذبحها إلى إرتفاع الشمس قدر رمح، ومضي ما مر.

بل صوب الأذرعي: أنه لا يدخل إلا بذلك؛ بناء على أن صلاة العيد لا يدخل وقتها إلا بالارتفاع المذكور. ويمتد وقت التضحية ليلاً، لكنه مكروه لغير عذر ولا مصلحة، ونهاراً (إلى أخر أيام التشريق) فلو ذبح بعد غروب شمس آخرها .. لم تقع أضحية ما لم تكن منذورة فتقع قضاءً كما مر. (ويجب) في أضحية التطوّع (التصدق بشيء من لحمها) يقع عليه الاسم. قال (ع ش): (ولا بد من كون له وقع كرطل) فيحرم أكل جميعه؛ إذ المقصود إرفاق المساكين، ولا يحصل بمجرد الذبح، ولا يبعد هنا كما في "التحفة" جواز إخراج الواجب من غيرها ولا يجب له لفظ مملك، بل يعطيه ذلك، بخلاف الكفارة؛ إذ المقصود هنا مجرد الثواب، وهو حاصل بمجرد الإعطاء، وفي الكفارة تدارك الجناية بالإطعام، فأشبه البدل، والبدلية تستدعي التمليك. ويجب أن يعطيه (نيئاً) طرياً لا مطبوخاً ولا قديداً لمسلم حر أو مبعض في نوبته، أو مكاتب -والمعطي غير سيده- فقير أو مسكين ولو واحداً، ولا يكفي جعله طعاماً ودعاء المسكين أو إرساله إليه؛ لأن حقه في تملكه لا في أكله، ولا مما لا يسمى لحماً كجلد وكبد، وكذا ولد ولو قلنا بجواز التضحية بالحامل؛ لأنه يشبه اللبن، ولأنه يجب مما يقع عليه اسم التضحية أصالة، والولد ليس كذلك، وإنما لزم ذبحه معها؛ تبعاً. وتردد البلقيني في الشحم، وقياس ذلك: أنه لا يجزئ كما في "التحفة". ولفقير التصرف فيه ببيع وغيره، أي: لمسلم، بخلاف الغني إذا أرسل إليه شيء أو أعطيه، فإنما يتصرف فيه بنحو أكل وتصدق وضيافة؛ لأن غايته أنه كالمضحي. والقول بأنهم -أي: الأغنياء- يتصرفون فيه بما شاؤوا ضعيف وإن أطالوا في الاستدلال له، وإنما جازت لهم؛ لآية (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج:36]. قال (ع ش): لأنه أطلق القانع والمعتر، فشمل الغني وغيره، وجوز (م ر) كون الغني هنا من تحرم عليه الزكاة، والمسكين من تحل له. ولا يجزئ ما يهديه عن الواجب، وفي وجه لا يجب التصدق بشيء منها. ويكفيه في الثواب إراقة الدم، والأفضل في أضحية التطوّع أن يقتصر على أكل لقم منها، والأفضل كونها من الكبد.

ولا يزيد على الثلاث ويتصدق بالباقي جميعه، ثم أكل الثلث ويتصدق بالباقي، ودونه أكل ثلث والتصدق بثلث وإهداء ثلث. ويثاب في الأولى على التضحية والتصدق بالكل، وفي الأخيرتين على التضحية بالكل وعلى التصدق بالبعض. نعم؛ إن ضحى عن غيره كميت أوصى بها .. تصدق وجوباً بجميعها. (ولا يجوز بيع شيء منها) أي: أضحية التطوّع، ولا إتلافه بغيره، ولا إعطاء الجزار أجرته منها ولو جلدها، بل مؤنته على الذابح، ويحرم نقلها كالزكاة، ويكره ادخار شيء من لحمها. (ويتصدق) حتماً (بجميع المنذورة) والمعينة عن نذر في ذمته والمجعولة حتى نحو جلدها. وإنما لم تتعين الزكاة بإفراز قدرها بنيتها؛ لأن حق الفقراء شائع في جميع المال، بخلافه هنا، فإنه لا حق للفقير في غير المعينة. ويكره شرب لبن أضحية واجبة أو مندوبة فاضل عن ولدها، وهو ما لا يضره فقده ضرراً لا يحتمل كمنعه نموه كأمثاله، كما أن له ركوبها، لكن لحاجة؛ كأن عجز عن المشي ولم يجد غيرها ولو بأجرة، ولا أثر لوجود استعارة غيرها للمنة والضمان، وإركابها لمحتاج بلا أجرة، لكن يضمن نقصها بذلك. ويسن له التصدق بلبنها، وله جزُّ صوفها إن أضرها والانتفاع به كجلد مندوبة. (ويكره) لمريد التضحية عن نفسه، أو إهداء شيء من النعم (أن يزيل شيئاً من شعره أو غيره) كظفره وسائر أجزائه الظاهرة إلا الدم على خلاف فيه (في عشر ذي الحجة) وما بعدها من أيام التشريق إن لم يضح يوم العيد. (حتى يضحي)؛ للأمر بالإمساك عن ذلك في خبر مسلم. وحكمته: شمول المغفرة والعتق من النار لجميعه، لا التشبه بالمحرمين، وإلا .. لكره نحو الطيب. وقيل: يحرم ما لم يحتج إليه، وعليه أحمد.

فإن احتاج .. فقد يجب، كقطع يد سارق وختان بالغ، وقد يسن كختان صبي، وقد يباح كقلع سن وجعه. ولو تعددت ضحيته .. انتفت الكراهة بالأولى؛ بناء على لأصح عند الأصوليين: أن الحكم المتعلق على معنى كلي يكفي فيه أدنى المراتب لتحقق المسمى فيه، فيشمل المنذورة المتعددة، فتنتفي الكراهة بأولهن. وإلا .. لم يتحقق المسمى فيها؛ لأن القصد: وجوب المغفرة وقد وجد. قال (بج): (أيُّ فائدة لشمول العتق لها مع أنها لا تعود إلا منفصلة تطالب بحقها كعدم غسلها من الجنابة؟ فقياسه هنا عودها لتوبيخه على عدم شمول المغفرة لها) اهـ أمَّا من لم يرد التضحية .. فلا يكره له إزالة نحو شعره وإن سقط عنه الطلب بفعل غيره من أهل بيته. ويسن أن يذبح ضحيته يوم النحر وإن تعددت، وأن يذبحها بنفسه إن كان يحسنه؛ للاتباع. نعم؛ الأفضل لغير ذكر أن يوكلَّ فيه، فإن لم يرد الذبح بنفسه .. ندب له أن يشهدها؛ لما صح من أمر فاطمة رضي الله عنها بذلك، وأن تقول: (إن صلاتي ونسكي ... ) إلى (وأنا من المسلمين)، ووعدها بأنه يغفر بأوَّل قطرة كل ذنب عملته، وأَنَّ هذا لعموم المسلمين. وتكره استنابة كافر كتابي وصبي لا حائض، لكن إنابتها خلاف الأولى؛ لما مر من ندب التوكيل لغير ذكر فيه. ويسن لغير إمام أن يضحي في بيته وبمشهد أهله، وله إذا ضحى عن المسلمين أن يذبح بنفسه في المصلى عقب الصلاة ويخليها للناس. ويسن تحديد الشفرة والذبح بقوة، والاستقبال للذابح وبمذبحها؛ لأن القبلة أشرف الجهات، وذلك في الضحية والهدي آكد منه في غيرهما، ولأن الاستقبال في العبادات مستحب، بل واجب في بعضها، والتسمية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، وإرسال السهم والجارحة؛ لقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام:118]، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) [المائدة:4] وللاتباع، ولأن كل محل سن فيه ذكر الله فيه ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتركهما مكروه؛ لتأكدهما.

ولا تحل ذبيحة كتابي للمسيح مثلاً، ولا ذبيحة مسلم لمحمد عليه الصلاة والسلام، أو للكعبة أو غيرهما مما سوى الله؛ لأنه مما أهل به لغير الله، بل لو ذبح تعظيماً لمن ذكر .. كفر، فإن ذبح للكعبة؛ لكونها بيت الله أو لرسول أو ولي لكونه رسول الله، أو وليه .. جاز. قال في "الروضة": وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو للكعبة. ويحرم الذبح تقرباً إلى سلطان أو غيره عند لقائه؛ لما مر، فإن قصد الاستبشار بقدومه .. فلا بأس، أو ليرضي غضباناً .. جاز؛ لأنه لا يتقرب به إلى الغضبان، بخلاف الذبح لنحو الصنم. ولو ذبح للجن .. حرم إلا إن قصد التقرب إلى الله؛ ليكفيه شرهم .. فيسن، بل لو ذبح لا بقصد التقرب إلى الله ولا إلى الجن، بل لدفع شرهم .. فهو كالذبح لإرضاء غضبان، أفاده في "الروض" و"شرحه" ونقل في الأخيرة عن أبي مخرمة وغيره الحرمة، ولكن ما مر عن "شرح الروض" من عدمها هو القياس، كما مر. ويندب في الإبل وسائر ما طال عنقه كالنعام والوز النحر في (اللَّبة) -بفتح اللام- أي: الثغرة أسفل العنق بقطع الحلقوم والمريء؛ للاتباع، ولأنه أسهل لخروج روحها. وينحر البعير قائماً معقولاً ركبته اليسرى، وإلا .. فباركاً، وأن ينحر البقر والغنم والخيل ونحوها مضطجعة مشدودة القوائم إلا الرجل اليمنى .. فتترك؛ لتستريح بتحريكها، ولو عكس .. حلَّ، لكنه خلاف الأفضل. ويندب أن يزيد على قطع الحلقوم والمريء والودجين، وقطع الأوّلين واجب، والأخيرين مندوب، وأن يتركها حتى تموت، وأن تسقى قبل الذبح ثم تضجع برفق، وأن لا يحد الشفرة ولا يذبح غيرها قبالتها، وأن يكبر قبل التسمية وبعدها عند الذبح ثلاثاً، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه في أيام التكبير، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم هذه منك وإليك، فتقبل مني. * * *

فصل: في العقيقة

(فصل) في العقيقة. وهي لغة: شعر رأس المولود حين ولادته. وشرعاً: ما يذبح عن المولود. ويسن كون ذبحه عند حلق شعره، وقال أحمد: العقيقة نفس الذبح؛ لأن (عقَّ) لغةً: قطع. والأصل فيها: أخبار، كخبر "الغلام -أي: الولد ولو أنثى- مرتهن بعقيقته"، أي: لا ينمو مع تركها نمو أمثاله، قال أحمد: أو لا يشفع لأبويه. وشرعت؛ إظهاراً للبشر ونشراً للنسب. وكره الشافعي تسميتها عقيقة؛ للفأل القبيح، بل تسمى نسيكه أو ذبيحة، ونقل (ب ج) عن سلطان: عدم كراهة تسميتها عقيقة. وإنما لم تجب؛ لخبر أبي داوود: "من أحب أن يعق عن ولده .. فليفعل". ولو نوى بها العقيقة والضحية .. حصلا عند (م ر) ولم تحصل واحدة منهما عند (حج)، قال: لأن كلاً منهما مقصودة، والقصد بالضحية الضيافة العامة، وبالعقيقة الخاصة، ولاختلافهما في أمور كما يأتي. وإنما صح الغسل بنية الجنابة وسنة نحو الجمعة؛ لبناء الطهارة على التداخل. (العقيقة: سنة) مؤكدة؛ لما مر، ويحصل بها أصل السنة ولو قبل انفصال الولد بعد إمكان نفخ الروح، فتسن عن سقط بلغ ذلك. والمخاطب بها من عليه نفقة الولد لو كان فقيراً، وإنما يعق الأصل من مال نفسه؛ لأنها تبرع، وهو لا يجوز من مال الولد، ويبقى طلبها من الموسر إلى بلوغ الولد، وهذا إن كان الأصل موسراً بما مر في الفطرة في أيام أكثر النفاس، فإن أيسر بعد ذلك .. لم تصح منه كما في"الإيعاب". لكن في (ع ش) على (م ر): أنه يسقط بها الطلب عن الولد. نعم؛ تسن للولد بعد بلوغه إن لم يعق عنه، وتطلب من الأمهات في ولد الزنا، لكن لا يظهرنها.

والولد القن لا يعق عنه عند (م ر) وعند (حج): يعق عنه أصله الحر. وهي (كالأضحية) سِنّاً وجنساً وسلامة من العيوب ونية ووجوباً بالنذر ونحوه، وامتناع الأكل من الواجبة، والتصدق بجميعها وغير ذلك. نعم؛ تخالفها في أمور قليلة، منها: أن ما يهدي منها للغني يملكه، وأنها يسن طبخها بحلو تفاؤلاً، وإعطاء رجلها إلى أصل الفخذ والأفضل اليمنى للقابلة وإن تعددت. ولو تعددت العقيقة .. كفى لهن رجل واحدة في أصل السنة، ولا يجب التمليك من لحمها نيئاً، بل يطبخه، ولا يكسر عظامها كما يأتي. (وقتها: من الولادة) في حق الأصل الموسر كما مر (إلى البلوغ) فإنِ أعسر بها الأصل في مدة أكثر النفاس .. لم يؤمر بها على ما مر (ثم) بعد البلوغ يسقط الطلب عمن خوطب به، ويسن له أن (يعق عن نفسه)؛ تداركاً لما فات كما مر. (والأفضل) ذبحها (في اليوم السابع) من الولادة، فيدخل يومها في حساب السبع ولو قبيل الغروب، فإن حصلت الولادة ليلاً .. لم تحسب تلك الليلة، بل اليوم الذي يلي الولادة، بخلاف الختان فلا يحسب يوم الولادة من السبع؛ لأنه كلما أخر .. كان أخف ألماً. ومحل ندب ختانه يوم السابع إن أطاقه، وإلا .. أخر حتماً، فإن ختنه الولي في وقت لا يحتمل لنحو ضعف أو شدة برد .. لزمه القصاص ما لم يكن أصلاً، وإلا .. فالدية المغلظة، فإن ظن احتماله .. فلا قود بل دية، فإن احتمله .. فلا ضمان ولو كان الولي غير أصل، ما لم يكن الخاتن له أجنبياً فيقتل به وإن قصد إقامة الشعار؛ لتعديه. (فإن لم يذبح فيه .. ففي الرابع عشر، وإلا .. ففي الحادي والعشرين) وهكذا في الأسابيع. وقيل: إن تكررت السبعة ثلاث مرات .. فات وقت الاختيار، وكلام المصنف يومئ إليه. وأقل الكمال في العقيقة لغير ذكر: شاة عند (حج)، وعند (م ر) الخنثى كالذكر.

و (الأكمل) أي: أقل الكمال (شاتان) ويسن تساويهما (للذكر)؛ لخبر عائشة (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين متكافئتين، وعن الجارية بشاة) ولكونها فداء النفس أشبهت الدية في كون الأنثى على النصف من الذكر كما في "التحفة". ويجزئ في أصل السنة شاة أو سبع بدنة أو بقرة عن الذكر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عقَّ عن كل من الحسن والحسين بشاة، وآثر الشاة؛ تبركاً باللفظ الوارد، وإلا .. فالأفضل هنا سبع شياه ثم الإبل فالبقر فالضأن فالمعز، فسبع بدنة فسبع بقرة كالأضحية. بل قضية (كونه صلى الله عليه وسلم ضحى بمائة بدنة نحر منها بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً أن ينحر باقيها): أن لا حد لهما. ولو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة .. جاز، وكذا لو أراد بعضهم بسبعه اللحم، وبعضهم بسبعه العق. (و) من السنة هنا بخلاف الأضحية (أن لا يكسر عظمها) سواء العاق والآكل؛ تفاؤلاً بسلامة أعضاء الولد. وقضية هذا: أنه لا بأس بكسرها فيما لو عقّ عنه بعد موته، فإن كسره .. فخلاف الأولى لا مكروه؛ لعدم النهي. ولو ضحى بسبع بدنة وأمكن قسمها بلا كسر .. كان الكسر خلاف الأولى. (وأن يتصدق به مطبوخاً وبحلو)، ويكره كما في "النهاية" طبخه بحامض. (والإرسال) به مع مرقة على وجه التصدق للفقراء (أكمل) من دعائهم إليه. والأفضل: ذبحها بعد طلوع الشمس، وأن يقول عند ذبحها: بسم الله والله أكبر، اللهم لك وإليك، اللهم هذه عقيقة فلان؛ لخبر البيهقي به. (و) يسن (حلق شعره) أي: شعر رأسه (بعد الذبح) كما في الحاج ولو أنثى، وأن يكون يوم السابع كالتسمية، ولو سقطاً بلغ أوان النفخ .. فيعق عنه، ويُسمَّى؛ احتياطاً، والتسمية لمن له الولاية وإن لم تجب عليه النفقة، كالأب فالجد، ولا عبرة بتسمية غيرهما، وينبغي كونها قبل الذبح. (والتصدق بزنته) أي: شعر رأسه (ذهباً، ثم) إن لم يفعل .. تصدق بزنته

(فضة)؛ لما صح من أمره فاطمة رضي الله عنها أن تزن شعر الحسنين، وتتصدق بزنته فضة، وألحق بها الذهب بالأولى، وبالذكر الأنثى. (وتحنيكه بتمر) ذكراً أو أنثى بأن يمضغه ويدلك به حنكه حتى يصل بعضه لجوفه، ويقدم الرطب على التمر كما في الصيام (ثم حلو) لم تمسه نار. وينبغي كون المحنك من أهل الصلاح؛ لتحصل للمولود بركة ريقه. (ويكره تلطيخ رأسه) أي: المولود (بالدم)؛ لأنه فعل الجاهلية، وإنما لم يحرم؛ لأنه قيل: بندبه: لخبر فيه ضعيف. (ولا بأس) بتلطيخه (بالزعفران) بل يسن كما في "المجموع"، ولخبر الحاكم عن بريدة: (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام .. كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بالزعفران). وتسن تهنئة الوالد، ونحوه ببارك الله لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره. ويسن الرد عليه بجزاك الله خيراً، وتمتد ثلاثاً بعد العلم كالتعزية. (والعتيرة) -بفتح المهملة وكسر الفوقية- وهي ما تذبح في العشر الأول من رجب. (والفرع) -بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة- وهي أوّل نتاج البهيمة، تذبح رجاء بركتها وكثرة نسلها مندوبتان؛ لأن القصد بهما ليس إلا التقرب إلى الله تعالى بالتصدق بلحمهما على المحتاجين، ولا يثبت لهما أحكام الأضحية أفاده في "التحفة". ويسن أن يؤذن من حضر ولو امرأة في أذن المولود اليمنى ولو غير ذكر، ويقيم في أذنه اليسرى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أذَّن في أذن الحسين حين ولد، وليكون أوَّل ما يطرق سمعه ذكر الله تعالى، ولأن الشيطان ينخسه حينئذٍ، فإذا سمع الأذان .. أدبر، ولما ورد: (أنه إذا فعلا له .. لم تضره أم الصبيان). وأن يقرأ في أذنه اليمنى على إرادة النسمة (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران:36]. ويقرأ عندها حال طلقها (آية الكرسي)، و (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي) [الأعراف:54] ... إلخ، و (المعوذتين). ويكثر من دعاء الكرب، وهو: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم. * * *

فصل: في محرمات تتعلق بالشعر ونحوه

(فصل) في محرمات تتعلق بالشعر ونحوه. (ويحرم تسويد الشيب) ولو لامرأة كما في "الشرح" وغيره. لكن قال الشهاب الرملي في "شرح الزبد"، وتبعه ابنه في شرحها: (يجوز لها بإذن حليلها؛ لأن فيه تزييناً لها، وقد أذن لها فيه، قال: ويحرم على الولي خضب شعر الصغير ولو أنثى إذا كان أصهب بالسواد؛ لما فيه من تغيير الخلقة). قال الكردي: (وهو مفهوم كلام حج السابق، أي: في "الشرح") اهـ نعم؛ يجوز بالسواد في الجهاد؛ لإرهاب العدوّ. (ووصل الشعر) بشعر آدمي أو نجس مطلقاً، وكذا بطاهر لم يأذن فيه حليل، كما مر. (وتفليج الأسنان) بنحو المبرد؛ للتحسين (والوشم)؛ لما ورد من لعن فاعل ذلك والمفعول به (والحناء للرجل) والخنثى المكلفين (بلا حاجة) إليه؛ لما فيه من التشبيه بالنساء، كما مر. وثقب أذن الصبي لا الصبية كما في "التحفة"، ونقلت عبارتها في "الأصل"، واعتمد ابن زياد جوازه ولو للصبي. خاتمة أحسن الله خاتمتنا بمنه وكرمه وإفضاله. ويسن تحسين الأسماء، وأفضلها عبد الله ثم عبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة، ولا يكره اسم نبي ولا ملك، بل جاء في التسمية بمحمد فضائل علية. وفي "التحفة": وهو أفضل الأسماء بعد عبد الله وعبد الرحمن، ولا تغتر بمن اعتمد أنه أفضل منهما. ويكره قبيح كشهاب ومُرَّة وحرب وعاصي، وما يتطير بنفيه كيسارٍ ونافع ومبارك وسعيد وأفلح ونحوها؛ لخبر: "لا تسمين غلامك أفلح، ولا نجيحاً ولا يساراً

ولا رباحاً، فإنك إذا قلت: أَثّمَّ هو، قالوا: لا"، ونحو ست الناس أو العرب أو العلماء أشد كراهة؛ لأنه من أقبح الكذب، ولا تعرف الست إلا في العدد، ومرادهم سيدة. ويحرم ملك الملوك؛ لأنه ليس لغيره تعالى، وشاهنشاه وحاكم الحكام وعبد الكعبة أو الحسين. وكذا عبد النبي عند (حج)؛ لإيهام التشريك، ومنه أخذ حرمة التسمية بجار الله ورفيق الله ونحوهما. وحرمة قول بعض العامة: (الحملة على الله)، و (حامل الجور الله) وإن لم يقصد المعنى المستحيل عليه تعالى. قال بعضهم: ويحرم قاضي القضاة، وأفظع منه حاكم الحكام. وفي "المنح": ويفرق بين قاضي القضاه وأقضى القضاة، وبين حاكم الحكام بأن فيه من الشمول ما ليس فيهما. ويتردد النظر في حاكم الحكام، ولحوقه بملك الملوك في الحرمة أقرب، ثم رأيت ما يصرح بجواز الأولين وهو أوّل من سمي قاضي القضاة: أبو يوسف، ولم ينكره أحد مع توفر الأئمة. وأول من سمي أقضى القضاة الماوردي، واعترضه بعض أهل عصره، وأجاب هو والمحققون بأنه إنما ينصرف عرفاً إلى أفضل أهل زمانه. ومثلهما وزير الوزراء، وأمير الأمراء، ونحو ذلك مما كان قديماً، ولم ينكر اعتماداً على تخصيص العرف لذلك. لكن قد يؤيد المنع ما فيه من الإيهام، كما منع جار الله مع أنه مخصوص في العرف بذلك الشخض المسمى به. وقد يجاب: بأن (أل) في القضاة للعهد؛ أي: أقضى القضاة المعهودين، فلا عموم فيه عرفاً؛ لأن أل حيث أمكن فيها العهد وجب الحمل عليه، والمعهود هم من دونه من القضاة، ولا استعمالاً لأنه إنما يقصد به ذلك، لكن يقال بمثله في ملك الملوك إلا أن يقال: إنه يخرج بالنهي الصريح عنه. وبالجملة: فهذه أسماء لو اجتنبوها .. لكان أولى، سيما وهم هم. اهـ باختصار، وفي الأصل هنا زيادة بسط.

ويندب تغيير الاسم القبيح، وما يتطير بنفيه؛ لأن زينب بنت جحش كان اسمها برة، فقيل: تزكي نفسها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وغير اسم عاصية إلى جميلة. ويسن أن يكنى أهل الفضل من الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد، وأن يكنى الشخص بأكبر أولاده، ولا يكنى الشخص نفسه إذا عرف بغيره، وإلاّ .. فلا بأس، وعليه حمل تكنية أبي هريرة، وأبي ذر، وأم هانئ أنفسهم. ولا يكنى نحو فاسق ومبتدع إلاّ لخوف فتنة، أو لم يعرف إلا به. ويحرم التكني بأبي القاسم. قال الكردي: (أي وضع هذه الكنية على شخص. أما إذا اشتهر بها .. فلا حرمة، ولذلك يكنى النووي الرافعيَ بها، مع اعتماده حرمة ذلك) اهـ ولا بأس باللقب الحسن، وإن لم يكن كذلك تفاؤلاً به كمحب الدين، وزين العابدين، إلا ما توسع فيه السفلة حتى سموا بعلاء الدين ونحوه. وينبغي أن لا يخلي الشخص أولاده من اسم محمد، ويلاحظ في ذلك عود بركة اسمه صلى الله عليه وسلم عليه. قال الشافعي رضي الله عنه لما ولد له ولد وسماه بمحمد: سميته بأحب الأسماء إليّ، وكثير يسمون محمداً. ويقول: سميته باسم أبي أو جدي، فكان الأولى أن يلاحظ فيه اسمه صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم اسم أبيه. وينبغي لمن سمى محمداً أن يحترمه؛ لكونه سميه صلى الله عليه وسلم، فقد ورد: "إذا سميتم محمداً فلا تضربوه ولا تحرموه". وبالجملة: فما زالت الأفاضل يعتنون باسم محمد حتى إن بعضهم يبلغ الثلاث الدرج وأكثر على اسم محمد، كما وقع للغزالي نفع الله به؛ فإنه محمد بن محمد بن محمد، فعادت بركته صلى الله عليه وسلم عليهم كما هو معلوم. ولا نعلم أحداً اعتنى باسمه، وتكرر فيهم وإلا وأفلح، وعادت بركته صلى الله عليه وسلم عليهم. وقد لاحظت ما لاحظه هؤلاء الأخيار، فختمت كتابي هذا بذكره، صلى الله عليه

وسلم، وبذكر اسمه الشريف؛ رجاء أن تعود بركته عليّ وعلى أولادي ووالديّ وأحبابي والمسلمين، وعلى كتابي هذا وغيره؛ فإنه باب الله، ولا خير من خيرات الدنيا والآخرة إلا وهو بواستطه، وببركته صلى الله عليه وسلم. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، عدد خلقك، ورضاء نفسك، وزنة عرشك، ومنتهى علمك وآياتك يا رب العالمين، آمين. * * *

§1/1